ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   من بوح قلمي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=72)
-   -   أرواح المدائن (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216820)

ابوالوليد المسلم 16-11-2019 03:28 AM

أرواح المدائن
 
أرواح المدائن


عبدالرحمن صبري





أؤمنُ أن للأماكِن أرواحًا تُشبِهُ تمامًا أرواحَ البشر، وأن للمُدِن روائِحَ تفُوحُ بعِطْرِ المعاني، أنا موقِنٌ أن للبناياتِ ألسنةً، وللبواباتِ حكايات، وللأزقَّةِ خبايا وتاريخًا، لها لغة، نعم؛ لكنها لا تُقال، لها حديثٌ، بلى؛ لكنه حديثُ عيونٍ لا ألسِنة.
أدري أن النسيان رحلةٌ؛ لكن الأرض تجعلُ النسيانَ مستحيلًا، فالأماكنُ - يا دامَ عِزُّكَ - لها ذاكرةٌ فولاذية لكنها - سبحان اللهِ - على نقيضِ ذاكرةِ البَشَر؛ تَقْوى وتشتَدُّ بمرور السنين؛ ولذلك لا أعجبُ حينما أُطالع مقطوعةً من الشعر الكلاسيكي القديم، فأجد معظم الشعراء يبكونَ على الأطلال، وما الأطلالُ إلا ترابٌ وطينٌ امتزج بالمحبوب، وكان بينهما عِشْرةٌ حينًا من الدهر!
تدري أن للتراب رائحةً بوَّاحةً فاضحةً، تقُصُّ علينا وتتلو من نبأ سابقين وحاضرين، وأزعُم - صادقًا - أنني كلما زرتُ مكانًا أحسسْتُ بالأزِقَّةِ والشوارع تُهامِسُني، تلاطِفُني، تبوحُ بأسرارِ الأجداد، لا أُكاتِمُكُم، أشعُرُ أحيانًا أنها خبيثةٌ نوعًا ما! فَكم وارَتْ من مصائب، وسترَتْ عن خفايا؛ لكنَّهُ خُبْثٌ حميدٌ على كُلِّ حال!
يقولون: إن القلب غِمْدُ الذكريات، والألفاظُ قوالبُ المعاني، وأُضيفُ: إن المدائنَ والأماكنَ كُتُبُ تاريخٍ تُقرأُ للعابرين، المتعلمين منهم وكذا الأُميِّين!
إن الذكرياتِ كلَّها مُتعلِّقاتُ أشخاصٍ عالقةٌ في أماكنَ، وتجمعُ كليهما مواقفُ؛ ولذلك ربما تنسى أحدَهم أو تتناساه، ثم يُذكِّرُك المكانُ به رغمًا عنكَ، وقولي هذا مخاضُ تجرِبةٍ، فأنا يا سادة - على سبيل المثال- قد عزمْتُ يومًا أن أطوي صفحةَ أحدِهم من حياتي، وظننْتُ أنني قد فعلتُ، وبعدها بشهرين ذهبت إلى "رمسيس" (محطة القطار) وهي -كما تعلمونَ - مُكتَظَّةٌ بالأصواتِ والبشر، والكُلُّ يهرولُ عساهُ يُدرِك القطار الذي يُوصِّله إلى وِجْهتِه، قطعتُ التذكرة ومضيتُ بخُطًى ثابتة إلى الرصيف، في الطريق تثاقلَتْ خُطاي بطريقةٍ غيرِ مُبرَّرة، وتسارعَتْ نبضاتُ القلب، صار يدقُّ بعزمٍ ويخفقُ بحيوية، لقد انتابتني السكينة فجأةً، وارتسمت البسْمةُ على ثغري لوهلة، ثم توقَّف كلُّ شيء! وتسلَّلَتْ دمعةٌ واحدةٌ ساخنةٌ، وسالت على خدِّي الأيمن، لقد عرَفت أخيرًا لمَ كل هذا، هو مفعولُ الرصيف رقم ثمانية يا رِفاق، لقد مررت بذات الرصيف وذاتِ المقعد الذي جمعتني بالْمَنسيِّ ذكرياتٌ هُناك، لقد قال لي الرصيف كل شيء، وحدثني بكل ما كابدت نسيانه سنين مرةً أُخرى !
علَّكم تضحكون من زعمي أن للأماكن مشاعرَ وأحاسيسَ !
لكنها - لعمر الله - كذلك، فالأماكن أيضًا تعرف الحب وتبذلُهُ وتُعطيه، ها هو سيدنا النبي يقول: ((أُحُدٌ جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه))، وهذا ينفي تعجُّبي القديم من ارتباطي ببعض الأماكن وكراهية أُناسٍ آخرين للأماكن ذاتها، فللأماكن أرواح، والأرواح جنودٌ مُجنَّدة؛ فما تعارَف منها ائتلَفَ، وما تناكَرَ منها اختلف..
كنْتُ وأنا صغيرٌ أُحِبُّ زيارة جدي وجدتي لأُمِّي، وكانا في قرية ريفية رملية، لقد ارتبطت سعادتي بهذا المكان وتعلَّقَت هناك، أذكر اسم المكانِ فقط دون زيارته، كان يجلب لي شيئًا كبيرًا من السرورِ والفرح، تدرون، تالله لقد أحببتُ الرمل لأجل ذلك!
أذكر أيضًا أنني كنتُ أكره بيت أحد الأقارب، وربما رؤيته إلى الآن تُشعِرُني بعدم الارتياح، في الأماكن تتعلَّق الأمنياتُ والأحلام.
فلا أنسى وقوفي أوَّلَ مرةٍ أمام "كُلية اللغات والترجمة"، وقد خاطبها قلبي وداعبَها عقلي، لقد هامسْتُ ذلك المبنى بأنني أُحِبُّه، لقد حدَّثْتُه طويلًا جدًّا عن آمالٍ عظيمةٍ، وطموحاتٍ كبيرة، إن عينيَّ قد حَيَّتْهُ وسكبَتْ بعض دمعِها كواجبِ ضيافة، لقد رفرفَتْ أعلامُهُ على شغاف القلبِ، واستوت على العرش!
نكبر تكبر الأماكن، ونشيخُ وإيَّاها؛ لكن رُوحها أبدًا لا تشيب.
فكُتابي الصغير الذي كان في بيت الأستاذ رفعت لا يزال هناك، لقد تشرَّخ وجُرح، عليه ضماداتٌ على الحوائط؛ لكن لا زال يُذكِّرني بحلم ذلك الصبي الذي لم يُناهز الحلم مرتديًا جلابيتهُ وعمامته، وقد تعرَّق في يدهِ ورَقُ المصحف، فقد كان يقرأ فيه يوميًّا من العصر للمغرب آي الذكر مع الشيخ علاء، كلما مررت من بعيدٍ لَوَّح لي فلوَّحْتُ، هامَسَني فاستمعْتُ، فإذا بدَويِّ صوتٍ أعرفه، أجل لقد تذكَّرتُ؛ هو صوتنا العالي ونحن نقرأ متن العقيدة الطحاوية "نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء يشبه، ولا إله غيره، لا يفنى، ولا يبيد، ولا يكون إلَّا ما يريد".
وأما عن غرفتي أنا وأخي عبدالله، فحدِّث ولا حرج !تلك الغرفة التي حوتني والحبيبَ مدةً تُناهز ثمانية أعوام، إلى الآن كلما دخلتُها ولامستُ جدرانها، كفٌّ على قلبي، وكفٌ على الحائطِ أجتلي أسرارَها، هيَّجَتْ عليَّ الذكريات، وأخذتني في حديثٍ عَذْبٍ ذي شُجُون عن منافساتنا في حفظ سورة الرحمن، عن قصص السيرة التي حدَّثتنا بها أُمِّي يوميًّا قبل النوم من كتاب الرحيق المختوم، عن ترديداتنا خلف أبي يوميًّا في تمام التاسعة مساءً ذكَر ما قبل النومِ، للهِ درُّها أيامًا!
بيتُ العائلة وغرفة جدي، وتحديدًا ذلك الكرسي الخشبي، هو كُرسيٌّ يُذكِّرني بجدي حينما نادى على اسمي، وأنا تائهٌ في فكري، فداعبني باسِمَ الثَّغْر: يا وَلَد، أواقعٌ بالحب، آسفٌ يا جدي، آسفٌ من كل قلبي أنني لم أنتبه لندائك، ولو أنك عدت لثانيةٍ أو بعضِها، لقلت: لبيك ألفًا من المراتِ.
يا صاحِ، الوطنُ أرضٌ، الاغترابُ يكون بمفارقةِ الأرض، الهجرة من الأرض؛ لتُدرك أن ارتباطنا بالتربةِ هو ارتباطٌ وُجوديٌّ، فعليك بمصاحبة الأماكن والارتباط بها، فهي أكثر وفاءً من البشر، هي يا غالِ لا ترحل، كلما احتجتها وجدتها، هي لطيفةٌ لذاتها، فبمجرد نظرك إليها تجلب لك شريطًا طويلًا من الذكريات، لا تُنسى ولا تَرحل؛ ولذا فهي رائعةٌ جدًّا !






الساعة الآن : 06:32 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 9.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 9.59 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.97%)]