العز في القناعة والرضا بالكفاف


محمود علي التلواني








الحمد لله نحمده حمد مَن لا ربَّ له سواه، وأشكره على جزيل فضله وعطاياه، وأشهد أن الحلال ما أحله، وأن الحرام ما حرمه، وأن الدين ما شرعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.













وبعدُ:



العز في القناعة والرِّضا بالكفاف:



اعلم - يرحمك الله - أنَّ العز في القناعة بالقليل، والرضا باليسير، والغنى عن الناس، وأن الذل والتنغيص والكدر في اللهث وراء الدنيا، والانغماس فيها، والتنافس والجري وراء إشباع الشهوات واللذَّات، والبُعد عن رَبِّ العرش والسموات.







روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ((جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، عش ما شئت، فإنك ميت، واعمل ما شئت، فإنك مجزي به، وأحبب من شئت، فإنك مفارقه، واعلم أنَّ شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس))[1].





فَمَا الْعِزُّ إلاَّ فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ [2]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وقال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس في عزها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل".







واعلم أنَّ الرجل العاقل المراقب لَم يقصد بالأكل والشرب التلذُّذ، بل دفع الجوع مما يوافق بدنه ويقويه على الطاعة، فإن قصد الالتذاذ بشيء من المتناولات أحيانًا لم يعب عليه ذلك، وإنَّما يعاب عليه الانهماك في ذلك.







وعن مسروق قال: سئل بشر بن الحارث عن القناعة، فقال: لو لم يكن فيها إلاَّ التمتع بعز الغنى، لكان ذلك يجزي، ثم أنشأ يقول:





أَفَادَتْنَا الْقَنَاعَةُ أَيَّ عِزٍّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ عِزَّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَخُذْ مِنْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




تَحُزْ حَالَيْنِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَتَسْعَدْ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












ثم قال: مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء[3].







ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله ثراه ورضي عنه -:





وَجَدْتُ الْقَنَاعَةَ ثَوْبَ الْغِنَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَصِرْتُ بِأَذْيَالِهَا أَمْتَسِكْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَأَلْبَسَنِي جَاهُهَا حُلَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَمُرُّ الزَّمَانُ وَلَمْ تُنْتَهَكْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَصِرْتُ غَنِيًّا بِلاَ دِرْهَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمُرُّ عَزِيزًا كَأَنِّي مَلِكْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












ومن كلامه أيضًا - رحمه الله -:





أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالاَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهْيَ ظَالِمَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَاتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لاَ أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعَ المَضَرَّاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزِمٌ أَبَدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ كُلِّهِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وذكر الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه "عيون الحكايات" قال العمري السقطي: رأيت البهلولَ وقد دلى رجله في قبر وهو يلعب بالتراب، قلت: أنت ها هنا؟ قال: نعم، عند قوم لا يؤذوني، وإن غبت لا يغتابونني، قلت له: إن السعر قد غلا، قال: لو بلغت كل حبة بمثقال لا أبالي، نعبده كما أمرنا، ويرزقنا كما وعدنا، ثم أنشد يقول - رحمه الله تعالى -:





أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِيمَا لَسْتَ تُدْرِكُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ تَنَامُ عَنِ اللَّذَّاتِ عَيْنَاهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَا مَنْ تَمَتَّعَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَقُولُ لِلَّهِ مَاذَا حِينَ يَلْقَاهُ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وفي "الصحيحين": "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم اجعلْ رزقَ آل محمد قوتًا))، وفي رواية ((كفافًا))، ومتى كثر تشتت الهمم، فالعاقل من علم أنَّ الدنيا لم تخلق للتنعيم، فقنع بدفع الوقت في كل حال"؛ انتهى.







وقال بعضهم:





هِيَ الْقَنَاعَةُ فَالْزَمْهَا تَعِشْ مَلِكًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِلاَّ رَاحَةُ الْبَدَنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَلْ رَاحَ مِنْهَا سِوَى بِالْقُطْنِ وَالْكَفَنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وما أحسن قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه -:





خَبَرْتُ بَنِي الدُّنْيَا فَلَمْ أَرَ مِنْهُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سِوَى خَادِعٍ وَالْخُبْثُ حَشْوُ إِهَابِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَجَرَّدْتُ عَنْ غِمْدِ الْقَنَاعَةِ صَارِمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَطَعْتُ رَجَائِي مِنْهُمُ بِذُبَابِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَلاَ ذَا يَرَانِي وَاقِفًا بِطَرِيقِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ ذَا يَرَانِي قَاعِدًا عِنْدَ بَابِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




غَنِيٌّ بِلاَ مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَيْسَ الْغِنَى إلاَّ عَنِ الشَّيْءِ لاَ بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وقال غيره وأحسن:





إِذَا أَعْطَشَتْكَ أَكُفُّ اللِّئَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبعًا وَرِيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ فِي الثَّرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وقال آخر وأحسن:





وَمَنْ يَطْلُبِ الْأَعْلَى مِنَ الْعَيْشِ لَمْ يَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَزِينًا عَلَى الدُّنْيَا رَهِينَ غُبُونِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَلاَ تَكُنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلَى حَالَةٍ إلاَّ رَضِيتَ بِدُونِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












مِن لازم القناعة الزهدُ:



لا بد من الكلام عن الزهد بعد القناعة، فهو من لازمها، وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في الحثِّ على الزهد، منها:



[أورد البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي خلاد، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الرجل المؤمن قد أُعْطِيَ زهدًا في الدنيا، وقلة منطق، فاقتربوا منه، فإنه يُلْقي الحكمة)).







وعن أبي ذر قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما زهد عبد في الدُّنيا إلا أثبت الله الحكمةَ في قلبه، وأنطق لها لسانه، وبصره عيب الدنيا وداءها ودواءها، وأخرجه منها سالِمًا إلى دار السلام))؛ مرسل"[4].







قال علي بن أبي طالب: "من زهد في الدنيا، هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت، سارع في الخيرات"، زاد فيه غيره: "من اشتاق إلى الجنة، سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار، رجع عن الحرمات".







وقال إبراهيم بن أدهم: "الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض الزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات"].







وعن حماد بن زيد قال: كان أيوب يقول: ليتقِ الله - عزَّ وجلَّ - رجلٌ وإن زهد، فلا يجعلن زهده عذابًا على الناس، فلأن يُخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه، وكان أيوب ممن يُخفي زهده، دخلنا عليه مرة فإذا على فراشه محبس أحمر، فرفعته أو رفعه بعض أصحابنا، فإذا خصفة محشوة بليف[5].







وقال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - يعني من السعادة - لجالدونا عليها بالسيوف".







فلا حياة - والله - أفضل من حياة القناعة والرضا بالكفاف، ففيها السعادة كل السعادة، وهي جادة[6]النبي – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين -، جعلنا الله من عباده الزاهدين القانعين، آمين.







[1] "المعجم الأوسط" للطبراني، و"المستدرك" للحاكم.




[2] من منظومة العلامة المرداوي الحنبلي.




[3] "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب"، للسفاريني الحنبلي.




[4] والحديث المرسل يستدل به في الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال، على قول بعض المحدثين.




[5] "حلية الأولياء"، للأصبهاني.




[6] طريقة.