ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   بين سيبويه وبشار برد (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=283716)

ابوالوليد المسلم 06-10-2022 06:29 PM

بين سيبويه وبشار برد
 
بين سيبويه وبشار برد
د. عمرو سعد عواد قطب







انتشرت في كتب المتأخِّرين وبعض المتقدِّمين روايةٌ تدَّعي أن سيبوَيْهِ خطَّأ في كتابه بشَّارَ بنَ بُرْدٍ في موضعين؛ أولهما: استعمال لفظ (نينان) جمعًا لنون (الحوت)، والآخر: استعماله للفظ (الغزلى) بالألف المقصورة.


استعمل لفظ (نينان) في قوله:
تُلاعِبُ نِينانَ البحور وَرُبَّما ♦♦♦ رأيتَ نُفوسَ القومِ مِن جَريها تَجري


و(الغَزَلَى) في قوله:
على الغَزَلَى مني السلامُ فرُبَّما ♦♦♦ لَهَوْتُ بها في ظِلِّ مَرْؤُومَةٍ زُهْرِ
أتى بالغزلى اسم مصدر بمعنى الغزل قياسًا على نحو الوجلى والجمزى (العَدْو السريع)، وهذه مسموعات لا تنقاس في العربية.


ولما بلغ بشارًا تَخطئة سيبويه له هجاه قائلًا:
أسبويهِ يا بنَ الفارِسِيةِ ما الذي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَحَدَّثْتَ عَنْ شَتْمِي وما كنتَ تَنْبِذُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَظَلْتَ تُغَنِّي سَادِرًا فِي مُسَاءَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأُمُّكَ بِالمصرَيْن تُعطي وتأخُذُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فتوقَّاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سُئل عن شيء فأجاب عنه، ووجد له شاهدًا من شعر بشار، احتجَّ به استكفافًا لشرِّه، هكذا روى الواقعة الأصفهانيُّ في المجلد الثالث من الأغاني.


وهي رواية عجيبة لا تثبت بحال، ودلائل اختلاقها بادية من وجوه؛ فإن بشارًا لم يَرِد اسمه في كتاب سيبويهِ مطلقًا، وكل ما ورَد في كتاب سيبويه مما له صلة ببشار، هو بيت منسوب لبشار وهو قوله:
ومَا كلُّ ذي لُبٍّ بُمْؤتِيك نُصْحَه ♦♦♦ وما كلُّ مُؤتٍ نُصحه بلبيبِ


وهذا البيت غير مقطوع بنسبته إليه، ويُنسَب له ولغيره، بل لم يَعزه سيبويه نفسه لبشار، والأشهر أنه لأبي الأسود كما في ديوانه.
وأيضًا في كتاب سيبويه ما ينقض مضمون هذه الرواية، فالرواية تذكر إنكار سيبويه استعمال (نينان) جمعًا للنون وهو الحوت، وواضع هذا الاختلاق قد ذهب عليه أن هذا الجمع (نينان) جمع صحيح في العربية نصَّ عليه ابن سيده وغيره، وأصل الكلمة (نونان)، وقُلبت الواو ياءً لانكسار النون قبلها؛ كما قال في (النهاية)، وقولهم: نون نينان كقولهم: حوت حيتان؛ كما قال: نشوان، بل إن سيبويه نفسه ممن نصوا على صحة هذا الجمع، قال: "ونينان: جماعة النون"، وما في الكتاب - وهو موثوق النسبة بالاتفاق - أَولى مما في هذه الروايات المهلهلة التي عند الأصفهانيِّ وأمثاله من حاطبي الليل!


فكيف لبشار مع ما كان فيه مِن العمى أن يعرف ما تضمَّنه كتاب سيبويه من الشواهد، وكتاب سيبويه لم يكن محتواه مشهورًا في حياة سيبويه، ولا عُرِف محتوى الكتاب إلا بعد وفاته، بعد أن أشاعه تلميذاه الأخفش والمازني، ومِن شدة جهالة الناس في هذا الوقت بمحتوى الكتاب، ثَمَّةَ مَن زعم أن الجرميَّ كاد يدَّعي الكتاب لنفسه بعد وفاة سيبويه!


والناظر في محتوى البيتين اللذين زعموا أن بشارًا سبَّ بهما سيبويه، لا يجد فيهما ما يدعو إلى الشك فحسب، بل سيجد ما يؤكد الكذب والاختلاق؛ فمن المثير للدهشة والعجب أن يُعير بشارٌ سيبويه بأنه ابن فارسية، وهل كان بشار نفسه ابن يونانية؟! فلا يَنضبط هذا مع كون بشار نفسه من سلالة فارسية، فبشار هو الآخر ابن فارسية، ولم ينقل عن سيبويه التفاخر بأصله الفارسيِّ، في حين كان بشار يتعصَّب لأصله الفارسيِّ، ويَفخَر أن نسبَه في الفرس إلى قبيلة شأنها في العجم شأن قريش عند العرب، قال:
نَمَتْ في الكِرام بني عامرٍ ♦♦♦ فروعِي وأصْلِي قُرَيشُ العَجَم!


فبشار نفسه هو الأحرى أن يقال له: (يا بن الفارسية)!
وهذا ما دفع المرزباني إلى ادِّعاء أنه إنما عنَى بالفارسية امرأة من البصرة مشهورة بالزنا، قال: "وكان أشد عصبية للفرس من أن يقول هذا"، وجواب المرزباني هذا يخرجنا من عجب إلى عجب، فكيف يكون متعصبًا للفرس وفيهم أصله ونسَبه، ويَلمِز النسبة إليهم بامرأة زانية؟! أيَليق به مع عصبيَّته هذه أن يكون نسب قومه موصومًا بهذه المرأة المدَّعاة؟!


وأنَّى لسيبويهِ أن يجعل ما ليس شاهدًا في مذهبه شاهدًا؛ تطييبًا لخاطر مخبول كبشار أو غيره، ولو فعل لانكبَّ عليه الشعراء سبًّا؛ ليَحظوا بما حظِي به هذا السبَّابُ، وكان أساتذتنا قديمًا يحاولون أن يُسوِّغوا هذا الخبر، فيَزعموا أن سيبويه كان يأتي بشعر بشار للتمثيل لا الاستشهاد، لكن يقال لهم: لا هذا ولا ذاك، وهذا كتاب سيبويه بين أيديكم، فأخْرِجوا منه ما تَزعمون، إلا إن كان سيبويه قد ألَّف في النحو كتبًا أخرى ضلَّت الطريق إلينا!


وممن استغرب هذا الخبر وردَّه وطعَن فيه أبو العلاء المعريُّ في رسالة الغفران؛ قال بعد أن ذكر هذه الرواية: "وهذه أخبارٌ لا تَثبت".
فهذه كلها من أكاذيب بيئة انتشر الكذب فيها انتشار النار في الهشيم، حتى الأحاديث النبوية عندهم لم تَسلم من التزيُّد والوضع، بل هي أول بيئة نشأ فيها الوضع، وكان الحديث النبويُّ يذهب إليهم شبرًا، فيرجع من عندهم ذراعًا؛ كما صرَّح ابن شهاب الزهريُّ، وكان «مالك» يسمي تلك الأرض (دار الضرب)؛ أي: تُضرَب فيها الأحاديث وتخرج إلى الناس، كما تُضرَب الدراهم وتخرج للتداولِ!


فالحاصل أن سيبويه أجلُّ مَن أن يخون العلم اتقاءً للمَسبَّة، وكُتب التاريخ مملوءة بالأكاذيب التي تَزكُم الأنوف.
ومع أن بشارًا يَبعد جدًّا أن يقع الخطأ في اللغة في كلامه، فإن شعره لا يصلح البتةَ لأن يكون من شواهد اللغة، ولا يَلتفت سيبويه إلى مثله ولا كرامة!
أما السبب الذي يجعلنا نقطع بأن سيبويه لا يمكن أن يستشهد بشيءٍ من شعر بشار، ولا أحدٍ من طبقته، فقد يتَّسع له مقال آخر إن شاء الله.




الساعة الآن : 02:12 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 11.98 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 11.88 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.78%)]