ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=244183)

ابوالوليد المسلم 29-10-2020 05:27 AM

من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء
 
من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (1)












د. نبيل محمد رشاد








الوصية الأولى


يا مالك، المنيَّة ولا الدنيَّة


والمنيَّة هي الموتُ، والدنيَّة هي الخسَّة والضَّعة، وأوس بن حارثة يُوصِي ولده ها هنا بالترفُّع والاستعلاء، والإباء والشَّمَم، ويقول له: إن ألجأتك تصاريفُ الزمان إلى أن تختار بين أن تموت كريمًا عزيزًا، أو أن تعيش خسيسًا وضيعًا، فاختَرْ أن تموتَ كريمًا عزيزًا.





والسرُّ الكامن وراء هذه الوصية وما بعدها من وصايا، هو ما يبتغيه أوس لولده من بعدِه من مكانة، إن أوسًا يريد أن يرِثَ مالكٌ السيادةَ من بعدِه، وهو يعلم أن الناس تُجمِع على اختيار الحر العزيز، والشريف الأَبِي سيدًا وزعيمًا، وتأنف أن يلي أمرَها خسيس أو وضيع أو حقير، ومن ثَمَّ كانت العزَّة أول خَلَّةٍ أوصى بها أوسٌ ولدَه في هذه الوصية الجامعة.





الوصية الثانية


والعتاب قبل العقاب


ونلاحظ أن هذه الوصيَّة الثانية تختلفُ بعض الشيء عن الوصية الأولى؛ ففي الوصية الأولى أمرٌ ونهي:


أمرٌ بالإقبال على الموت، والاحتفاء به، والسعي إليه، وذلك حين تتعذَّر على الإنسان (مالك) سُبُل الحياة الكريمة التي تليق به وبأمثاله من أبناء الرجال الكبار.





وفيها نهيٌ عن الوقوع في مخالب الدناءة والخسة، وبَرَاثِن السُّفول والضَّعةِ.





أما هذه الوصية، ففيها أمران؛ أمر بالعتاب، وأمر آخر بالعقاب، غير أن أوس بن حارثة يلفِتُ نظر ولده مالكٍ إلى ضرورة تقديم العتاب على العقاب، وذلك لما يعلم من طبائع الناس، ولما يرغب فيه من السُّؤدد لولدِه، إن أوسًا يعلم أن من الناس مَن يُجدِي معه العتاب، ويؤثِّر فيه القولُ اللَّيِّن، فيؤوبُ إلى الرشد، ويثوبُ إلى الحق، ويرجِعُ عن التمادي في الباطل، والتخبط في متاهات الضلال، ومن ثَمَّ فهو يُوجِّه ولده إلى أن هذا وأمثاله من الأوَّابينَ تجبُ معاتبتهم، ولا تجبُ مبادرتهم بالعقوبة؛ لأن التعاملَ معهم بالرِّفقِ واللِّين قد يُؤدِّي إلى استجلابِ مودَّتِهم، ودَرْء عداوتهم، أما أولئك الذين لا يردعُهم إلا الزَّجْر والضربُ، فليس هناك من سبيلٍ أمام مالكٍ بعد معاتبتِهم سوى أن يعاملهم بما تجدُرُ معاملتهم به من الشدة والحزم.





وهنا نسأل أنفسنا: ولِمَ وجَّه أوس ولدَه مالكًا إلى معاتبة هذا الصنف الثاني من الناس قبل مفاجأتهم بالعقوبة؟


والجواب: لأن أوسَ بن حارثة يُدرِك أن ولده مالكًا لا يزالُ في سن الشباب، وهي سن تدفع صاحبها دائمًا إلى الطيش والنَّزَق، وتُزيِّن له التشفِّي والانتقام، ومن ثَمَّ أراد أن يُنبِّهَه إلى قيمةِ الحِلم؛ وذلك لما يعلم من رغبة القبيلة في أن يكونَ سيِّدُها حليمًا رفيقًا، ومن أَنَفتِها من أن يليَ أمرَها طائشٌ نَزِقٌ؛ لأن الحليم الرفيق هو الذي يعملُ على رَأْب الصدع، ويسعى في إصلاح ذات البَيْن، أما الطائش النَّزِقُ، فإنه غالبًا ما يُورِد قومَه مواردَ الهلاك والتلف، ومن ثَمَّ كانت هذه الدعوةُ إلى الترفُّق والحِلم في هذه الوصية الثانية من الأهميةِ بمكانٍ بعد الدعوة إلى التعزُّز والترفُّع في الوصية الأولى.





الوصية الثالثة


والتجلُّد لا التبلُّد


وفي هذه الوصية أمرٌ ونهي؛ أمرٌ بالتجلد، ونهي عن التبلد، والتجلد هو أن يتكلَّف الإنسان الجَلَد؛ أي: القوة والشدة عندما تحلُّ به النكبات والرزايا، حتى لا يشمَتَ به شامتٌ، وحتى لا يتنقَّصَه عائب.





وتكمُنُ قيمةُ هذه الوصية فيما تَشِي به من إدراكِ أوس بن حارثة لطبائع الرجال، إنها تدُل على أنه يُدرِك أن الإنسان (مالكًا) الذي ينتمي إلى أصل كريمٍ، ومَحْتِدٍ طيِّب قد تخُونه عواطفه أحيانًا فيهتزُّ ويرتعش، ويفزَعُ ويجزَعُ إذا ما أصابه مكروهٌ في نفسِه أو في ذريته أو في ماله، أو في أحد أقربائه أو بني قومه، ومن ثَمَّ فهو يلفِتُ نظر ذلك الإنسان (مالك) إلى ضرورة التحلي بخلق التجلُّد حتى يكون قدوةً وأسوةً لغيرِه ممَّن حوله، وحتى يستطيعَ إحسانَ التصرُّف والتعامل مع ما تدهَمُه به الأيام من المصائب والشدائد بما يجدُرُ بمثلِه من الثبات في المواقف، والحزم في القرارات، والعمل على دفع الملمَّات.





ويأتي النهي عن التبلُّد في هذا السياق ليدلَّ على تمام وَعْي هذا الوالد الجليل، وعميق خبرته بالفوارق الدَّقيقة، والخيوط الرفيعة الفاصلة بين غُرَر الخصائص الواضحة، وعُرَر النقائص الفاضحة.





إن أوسًا يدعو ولدَه ها هنا إلى عدم الإفراط في التجلُّد؛ لأن الإفراط في التجلُّد يُؤدِّي إلى شعور الآخرين ببلادةِ الإنسان، وتحجُّر عواطفه، وانعدام إحساسه بما هم فيه من ضيق وكرب.





وإنه لحريٌّ بمالك - وبمَن في مثل مكانته ممن بوَّأه قومُه مقاعدَ السؤدد - أن يلتَفِتَ كما التفت أوسٌ من قبلُ إلى هذا الخيط الفاصل الدقيق بين إظهار التماسك والقدرة على التحمل، وإظهار اللامبالاة وانعدام التهيُّؤ عند استقبال النوائب، وتلقِّي حادثات الزمان.





الوصية الرابعة


واعلم أن القبر خير من الفقر


وأوسُ بن حارثةَ يُوصِي ولدَه ها هنا بالحرص على الاحترافِ والعمل؛ لأن الاحترافَ والعمل هما السبيلُ التي تُمكِّن الإنسان من الحصولِ على المال الذي يكفي به نفسَه، ويَعُولُ به غيره ممَّن تلزمُهم نفقته، ويدفعُ به المغارم والدِّيَات عندما تنوبُ النوائب، وتحُلُّ الشدائد والخطوب.





والملاحظ أنه بدأ هذه الوصية وما بعدها من وصايا بقوله: "واعلم"، ثم ساق الكلام بعدها في أسلوب فيه تفضيلُ شيءٍ على شيء، وهو في هذه الوصية يُفضِّل الموت على المعيشة الضنكى، فيقول لولدِه: إن من الخير للإنسان أن يموتَ ويُقبَر على أن يحيا فقيرًا مُعْدِمًا يسأل هذا، ويسأل هذا، ويُرِيق ماء وجهِه من أجل الحصول من الآخرين على أكلة أو شربة.





وهنا نسأل أنفسَنا:


ولِمَ بدأ أوسٌ هذه الوصيةَ وما بعدها من وصايا بقوله: "واعلم"، ولم يبدأ ما سبق من وصايا بمثل هذا الخطاب الآمر بالعلم؟


والجواب: لأنه ها هنا يفاضلُ بين أمرينِ لا يتَّفقُ معه في المفاضلة بينَهما معظمُ الناس، فهناك من البشر مَن يحرِصُ على الحياة بأي شكل وبأية صورة كانت، فالمهم عنده أن يحيا، وليس يعنيه كيف يحيا، كاليهود الذين قال الله -تعالى- فيهم: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [البقرة: 96].





أمَّا ما سبق من وصايا، فإن غالبية الناس يتَّفقون مع أوسٍ في منطقيَّتها وصوابها، فكل أحدٍ من الناس يُدرِك بشاعة الدنايا، ويوَدُّ في دخيلة نفسه ألا يكون من أربابها، وكل أحد من الناس يعرف أهمية العتاب ويُفضِّله على المؤاخذة والعقاب، وكل بني البشر يقدرون قيمةَ التجلُّد قدرها، ولا يرضَوْنَ لأنفسهم أن يكونوا متبلِّدي الإحساس، منعدمي الشعور.





الوصية الخامسة


وشرُّ شاربٍ المُشتَف، وأقبح طاعم المُقْتَف


والمُشْتَفُّ هو الذي يشرب البقية المتبقية في الإناء، والمقتفُّ هو الذي يلتَهِمُ الطعام بسرعة، وأنت ترى أن أوسَ بن حارثة يُعلِّم ولده آداب السُّفرة، وإنه ليقولُ له: إن شر الشاربين هو ذلك الذي يشرب البقية المتبقية في الإناء، وإنما كان هذا شرَّ شاربٍ؛ لأن صنيعَه هذا يدل على ما يتصف به من الشراهة والدناءة والبخل، وسيد القوم لا ينبغي له أن يكون شَرِهًا أو دنيئًا أو بخيلاً؛ لأن الشراهة والدناءة تجعلانِه صغيرًا في أعين الناس، وتجعلانه قَمِينًا بانتقاصهم من قدره، ومخالفتهم لأمره ونهيه؛ ولأن البخل والحرص يجعلانه يغُلُّ يدَه فلا يبسُطُها بتحمل المغارم، ودفع الملمَّات عن أهله وعشيرته، ومن ثَمَّ يسوء رأيُهم فيه، ولا يفزعون إليه إن أَعْوَزَتْهم الحاجة إلى الاستغاثة به واللُّجوء إلى فِناء داره.





ويقول أوس أيضًا: إن أقبح الطاعمين هو ذلك الذي يلتهمُ الطعام بسرعة دون أن يعطي نفسه فرصةَ مضغِه جيدًا قبل بلعه، وإنما كان هذا أقبَحَ طاعم لسببين:


الأول: أن صنيعَه هذا يُنذِرُ بضياع صحته، ووَهَن قوَّته، وتصالح الأمراض على جسده، وما على هذا ينبغي أن يكون سيد القوم، وإنما ينبغي أن يكون سيد القوم صحيحًا سليمًا معافًى من العلل والأمراض، حتى يستطيع القيام بما يجب عليه القيام به من شؤون الزعامة والملك، هذا عن السب الأول.





أما السبب الآخر الذي يجعل الآكلَ بسرعةٍ أقبحَ طاعمٍ، فهو يرجع في تصوري إلى بشاعة منظر الآكل بهذه الطريقة في أعين مَن يشاركونه الطعام، ولأن سيد القوم كثيرًا ما تلجئه الضرورة إلى أن يجلس مع كبار رجالات قومه على موائدهم، فإن أوسًا يَلْفِتُ نظر ولدِه إلى ضرورة الأكل بتُؤَدةٍ وتمهُّل حتى يكتسب حُسْنَ السيرة عند الناس بعد انفضاض المجلس؛ لأن الناس بعد انتهاء الطعام وخروجهم للرواح إلى منازلهم يأخذ بعضهم في الحديثِ إلى بعض، ويسترجعون ما كان من أمر المائدة، وما كان عليها من أطايب الطعام، وما كان عليه المدعوون إليها من التوقُّر والتصوُّن والتعفُّف، أو الشراهة والنَّزَق والطيش في الآنية والصِّحاف، وهم في استرجاعِهم كلَّ هذا تثني ألسنتهم على أخلاق المتعفِّفين المتوقرين، وتلوك أعراض الطائشين غير المتعفِّفين.




ابوالوليد المسلم 29-10-2020 05:27 AM

رد: من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء
 
من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (2)












د. نبيل محمد رشاد




من أدب الوصايا







لأوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء





روى أبو علي القالي في أماليه قال: حدثنا أبو بكر بن دُريد قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن هشام بن محمد الكلبي، عن عبدالرحمن بن أبي عبس الأنصاري قال: عاش الأوس بن حارثة دهرًا[1] وليس له ولدٌ إلا مالكٌ، وكان لأخيه الخزرج خمسةٌ: عمرو، وعوف، وجُشَم، والحارث، وكعب، فلما حضره الموتُ قال له قومُه: قد كنا نأمُرُك بالتزوُّج في شبابك فلم تزوَّجْ حتى حضرك الموت، فقال الأوس: لم يهلِكْ هالك ترَك مثل مالِك، وإن كان الخزرج ذا عددٍ، وليس لمالك ولد، فلعلَّ الذي استخرج العَذْق[2] من الجريمة[3]، والنار من الوَثِيمة[4]، أن يجعل لمالكٍ نسلاً، ورجالاً بُسْلاً، يا مالك، المنيَّة ولا الدَّنِية، والعتاب قبل العِقاب، والتجلُّد لا التبلُّد. واعلم أن القبر خيرٌ من الفقر، وشرَّ شارب المُشْتَف[5]، وأقبح طاعمٍ المُقْتَف[6]، وذهاب البصر خير من كثير من النظر، ومن كرمِ الكريم الدفاع عن الحريم، ومَن قلَّ ذل، ومَن أمِر[7] فَل[8]، وخير الغنى القناعة، وشر الفقر الضراعة، والدهر يومان؛ فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تَبْطَر[9]، وإذا كان عليك فاصبِر، فكلاهما سينحسر[10]، فإنما تُعِزُّ من ترى، ويُعِزُّك مَن لا ترى، ولو كان الموت يُشتَرى لسلِم منه أهل الدنيا، ولكن الناس فيه مستوون؛ الشريف الأَبْلَج[11]، واللئيم المُعَلْهَج[12]، والموت المُفِيت[13] خيرٌ من أن يقال لك: هَبِيت[14]، وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة، وشر من المصيبة سوء الخلف، وكل مجموع إلى تَلَف، حيَّاك إلهك!






قال: فنشر[15] الله من مالك بعددِ بني الخزرج أو نحوهم[16].









القراءة:


هذا نص من جملة نصوص كثيرة أملاها أبو علي القالي على تلامذته بالمسجد الجامع في قرطبة حاضرةِ الخلافة الأموية بالأندلس في القرن الرابع الهجري.






ونلاحظ بادئَ ذي بَدْءٍ أن أبا علي القالي كان حريصًا في أثناء إملائه على إثبات سلسلة السند، ونلاحظ أن سلسلة السند تنتهي برجلٍ أنصاري هو عبدالرحمن بن أبي عبس، والأنصار لفظٌ يطلق على أهل المدينة المنوَّرة، الذين ناصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مهاجرِه إليها من مكة، ومعروفٌ أن أهل يثرب - التي هي المدينة بعد الهجرة- كانوا يتألَّفون من قبليتينِ كبريتينِ؛ هما: قبيلة الأوس، وقبيلة الخَزْرج، وقبيلة الأَوْس تُنسَب إلى جَدِّها الأكبر الأَوْس بن حارثة، وقبيلة الخزرج تُنسَب أيضًا إلى جدها الأعلى الخزرج بن حارثة، ومعنى هذا أن قبيلتَي الأوس والخزرج في أصلِهما المشترك البعيد أبناءُ عمومةٍ فرَّقَتِ الأطماع بينهم فانقسموا إلى قبيلتين متحاربتين متعاندتين.






وموضوع النص يتعلَّق بشيءٍ من التاريخ البعيد الذي يتصل بأصل هاتين القبليتينِ وبدايته، ومن ثَمَّ كنَّتِ الروايةُ عن هذا الأنصاري الذي قد يكون من الأوس - على ما يغلب على ظني - لتحيُّزه الواضح لهم، أو قد يكون من الخزرج الذين محا الإسلام من صدورهم إرثَ الجاهلية الذميم.






ومعنى هذا أن مضمونَ النصِّ محكيٌّ عن ثقة خبير به متيقِّن منه، ويزيدنا وثوقًا فيه أن هذا المضمون النصي حدَّث به هذا الأنصاريُّ هشامَ بنَ محمد الكلبيَّ النسَّابة المشهور، وهذا النسابة المشهور حدَّث به طلاَّبه ومُرِيدِيه، ولو كان هذا الأنصاري متجانفًا عن الحقيقة التاريخية في كلامه لَما قبِله هشام بن محمد الكلبي منه ولَمَا رواه عنه.






وننتقل إلى أبي بكر بن دُرَيد لنتساءل عن سرِّ اعتنائه بهذا النصِّ وروايته له، إن أبا بكر بن دُرَيد كان إمامًا في اللغة والأدب والأنساب[17]، وهذا النص الذي بين أيدينا موضوعُه يتعلق بالأنساب؛ لأنه يتحدَّث عن أصل الأوس والخزرج وما بينهما من العمومة كما سبق أن أشرنا، ثم هو من ناحيةٍ ثانية لونٌ من ألوان الأدب الرفيع، وحريٌّ بنا - إن نظرنا إليه هذه النظرة - أن يُصحِّح لنا كثيرًا من المفاهيم الخاطئة الراسخةِ في عقول المتأدِّبين عن النثر الجاهلي وتفاهته وركاكته، ثم هو من ناحية ثالثة يغصُّ بالغريب الذي هو محل اهتمام ابن دُرَيد الأول.






ثم لنا أيضًا أن نتساءل عن سرِّ رواية أبي علي القالي لهذا النصِّ في مجالس إملائه في المسجد الجامع بمدينة قرطبة عاصمة الثقافة العربية في الغرب الإسلامي وقتئذٍ.






هل كان أبو علي يهدِفُ إلى تعريفِ أهل الغرب بأصل الأنصار الذين ناصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآوَوْه هو وأصحابه، وأبلَوْا بلاءً حسنًا في الدفاع عنه، ونشر مبادئ الدين الجديد؟






هل كان أبو علي يهدِفُ إلى أن يُدِلَّ على علماء قرطبة بمعرفتِه بغريب اللغة، وأوابدِها وشوارد ألفاظها، ليمتاز عنهم، ويتفرَّد بينهم، وينال الحظوة لدى عبدالرحمن الناصر وولدِه الحكم فيستأنس ويستعلي؟






هل كان أبو علي يهدِفُ إلى أن ينقُلَ إلى أجيال المتأدِّبين من المغاربة والأندلسيين نماذجَ مختارة من روائع الشعر والنثر العربيينِ، ليستعينوا بها على تمثُّل العربية، ولينسجوا على منوالها إذا نظموا أو كتبوا؟






كل ذلك جائزٌ، بل كل ذلك كان يرجوه ويبتغيه أبو علي، لكنَّا نرى أنه كان يتغيَّا شيئًا آخر إلى جوارِ هذا كله، هو أن يُعرِّف الغربَ بالشرق، أن يجلوَ للغربِ صورة الشرق الفنان، ومن ثَمَّ كانت أماليه في أغلبها قصصًا وحكايات وأخبارًا وأشعارًا تُلقِي ظلالاً على الشرق: سحره وأساطيره، قيمه وأخلاقه، عاداته وتقاليده، ومجتمعاته ونُظُم شعوبه، ساسَته وكبار رجالاته.






وتحكي لنا كتبُ التاريخ والأنساب والمعارف العامَّة أن الأوس والخزرج هما ولدا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن امرئِ القيسِ بن ثعلبة مازن بن عبدالله بن الأَزْد بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ[18].






ومعنى هذا أنهما من العرب العاربةِ التي كانت تقطُنُ جنوبي شبه الجزيرة العربية؛ حيث بلادُ اليمن السعيد.






وتذكرُ كتب التاريخ أنهما قد هاجرا مع أبيهما بعد تهدُّم سد مَأْرِب إلى يثرب[19]، وأنهما قد حالفا اليهود الذين كانوا يعيشون فيها، وأتاح هذا الحِلْف لحارثة بن ثعلبة وولدَيْه أن يعيشوا آمنينَ في يثرب فترةً من الزمن قوِيَتْ خلالها شوكتُهم، وكثُر فيها عددُهم.






وتُظاهِر كتبُ التاريخ والأنساب ما جاء في رواية أبي علي القالي من أن الخزرج بن حارثة كان له خمسةٌ من الولد؛ وهم: عمرو، وعوف، وجُشَم، والحارث، وكعب[20]، وأن الأوس بن حارثة لم يكن له إلا ولدٌ واحد اسمه مالك، ومِن مالك هذا تفرَّقت قبائل الأوس وبطونها كلها[21].






وفي هذا دلالةٌ لها قيمتها على صدق مضمون الخبر الذي رواه أبو علي القالي في أماليه، ولقد كنا بحاجة إلى أن نتلمَّسَ في كتب التاريخ والأنساب مثلَ هذا التأييد؛ لأن فريقًا من الدارسين[22] ينظرُ بكثيرٍ من الارتياب والشك إلى الأخبار والقصص والحكايات التي أوردها أبو علي في أماليه، عادِّينَ إيَّاها من الأكاذيب، لا سيما تلك التي يدخل في سلسلة إسنادِها هشام بن محمد الكلبي، الذي يتَّهِمُه غيرُ واحد من علمائنا القدماء بالتدليس والكذب.






وعلى هذا فليس أمامنا إذًا من سبيلٍ إلى التشكيك في صدق الجانب التاريخي الذي رواه أبو علي القالي عن شيخه ابن دُرَيد في هذا النص، وهذا بدورِه يؤدِّي بنا إلى أن ننظُرَ إلى النص بوصفِه وثيقةً تاريخيةً أدبيَّةً تحكي جانبًا من تاريخ العرب الاجتماعي عصر الجاهلية، وتدل على منظومة القِيَم التي كان عليها أهل الجزيرة العربية قبل الإسلام.






ومن المُثِير للدهشة أن جميعَ ما اطَّلعتُ عليه من مصادر تاريخية لم يُشِر إلى ما أشار إليه هذا النص الذي بين أيدينا من معايرةِ بني الأوس لأبيهم بقلَّة ذريَّتِه، وذلك حين حضرته الوفاة.






والأسئلة التي تتداعى إلى الذهن وتحتاج إلى إجاباتٍ شافية كثيرة ومتنوعة، فقارئ النصِّ يجب أن يسأل نفسَه: وممَّن كانت هذه المعايرة أو المعاتبة؟ ولِم كانت؟ وما جَدْواها في هذا التوقيتِ والرجل على فراشِه يعاني من سكرات الموتِ وأهواله وشدائده؟






وما دامتِ المصادرُ التاريخية قد سكَتَت عن الإشارةِ إلى هذا المعايرة أو المعاتبة، فمن البديهي أننا لن نجدَ فيها شيئًا ذا بالٍ يمكن أن نعتمدَ عليه في الإجابة عن هذه الأسئلة التي أَثَرْناها، ومن ثَمَّ فإننا سنلجأ إلى استنطاق النص - ما أمكن - ليُفضِيَ إلينا بأسرارِه التي من الممكنِ أن تُشكِّلَ - مع ما استطعنا أن نلملمَه من المصادر التاريخية على قلته - محاولةً متواضعةً للبحث عن إجابات ما طرحناه من أسئلة.






يذكر النصُّ أن الذين قاموا بمعايرة أوس ومعاتبته على عدم التزوج في شبابه هم قومُه، ولفظ القوم يطلق في اللغة على أهل الرجل وعشيرته من الرجال خاصة، ويدخل فيه النساء على التَّبعية[23].






وما دام أوسُ بن حارثة لم ينجبْ سوى ولدٍ واحد هو مالك، فمعنى هذا أن الذين قاموا بمعايرةِ أوس هم أبناء أخيه الخزرج وأبناؤهم وأحفادهم الذين كانوا إلى جواره وقت احتضاره؛ إذ ليس من المعقول أن يتركوا عمهم في هذا الموقف العصيب وحدَه يعاني آلام النزع دون أن يكونوا إلى جواره، قائمين على رعاية شأنِه وتفقُّد أحواله، ومعنى هذا أنهم قد شُغِلوا بعمِّهم المحتضَر عن شؤون حياتهم وتجارتهم في يثرب شغلاً ملأ صدورهم ضيقًا، ونفوسهم حسرة، فخرجت هذه الكلمات المعاتبة في غير وقتِها لتُعلِنَ: "قد كنا نأمرك بالتزوج في شبابك فلم تزوَّجْ حتى حضرك الموت".






وهنا نسأل أنفسَنا: هل تزوَّج الأوس بن حارثة بآخرةٍ من عمره وأنجَب بعد أن بلَغ من الكِبَر عتيًّا ولدَه مالكًا؟






قد يكون الأمر كذلك، وهو ما يدُل عليه ظاهرُ هذا النص، وإن كنت أستبعده من رجل محافظٍ لا يستطيع أن يأتي أمرًا يرى فيه قومُه شيئًا يُنكرونه، كما أستبعده من رجل كالأوس بن حارثة يعيش في صحراء شبه الجزيرة العربية في مجتمع قبلي يعرف تعدُّد الزوجات، ويعتزُّ بكثرة النسل، ولا يرى بأسًا في التسري بالإماء.






والأقرب إلى التصور - فيما أرى - أن الأوس بن حارثة قد تزوَّج في السن التي يتزوَّج فيها أترابه في شبه الجزيرة العربية، إلا أنه كان لا يُنجِب، وقضى شطرًا كبيرًا من حياته مع زوجِه بغير ولد، ثم أنجب منها ولدَه مالكًا، ثم ماتت هذه الزَّوجُ بعد وضعِها مباشرة، أو بعد وضعها بمدة قليلة دون أن تُنجِبَ له ابنًا آخر.






وأتصوَّر أن الأوسَ بن حارثة قد عاش بعدَها بغيرِ زوج، حبًّا لها، ووفاءً لسيرتِها، وإعزازًا لسنوات إقامتِها معه وخدمتها له.






ولا يستغرِبنَّ أحدٌ هذا التصوُّر، فإن العرب كانوا شعبًا متحضرًا يؤسِّس العِشْرة بعد الزواج على دعائم من الحب والتعاطف والإعزاز[24]، وكانوا يفتخرون بحسنِ معاملة المرأة، ويعدُّون ذلك من دلائل المروءة، وكان بعض رجالات العرب يشترطون على أزواج بناتهن ألاَّ يتزوجوا عليهن[25]، وقد جاء في أقوالهم المأثورة: "خير الرجال الذي يُكرِم الحرَّة، ولا يجمَعُ الضَّرَّة"[26]، ولعل زوج أوس بن حارثة كانت من أسرة من تلك الأسر التي تشترط هذا الشرط، وربما كان رفض أوس النزول على رغبة عشيرته في التزوج بغيرها في حال حياتها، ربما كان راجعًا في شيء منه إلى ضرورة الوفاء بما اشترط قومها عليه عند إتمام عُقدة النكاح.






وعلى أية حال، فإن هذا الجزء التاريخي من النص يدُل على مجموعتين متناقضتين من قيم عصر الجاهلية الأولى، وهي سلبية بطبيعة الحال، وربما كانت تعبيرًا عن السائدِ المشهور من أخلاق القوم وعاداتهم وتقاليدهم، وتتمثل في التعبير بقلة النَّسل من الذكور خاصة، والشماتة والتبكيت في غير وقتِهما المناسب، والحرص على تعدُّد الزوجات بداعٍ وبدون داعٍ في أغلب الأحيان.






والمجموعة الأخرى من القِيَم، هي تلك القيم الإيجابية التي يمكن استنباطها من سلوكِ أوس بن حارثة حين شدَّ أزرَه، ولم يفتَّ في عَضُدِه تسافُهُ أبناءِ أخيه، وتطاولهم عليه حين حضرته الوفاة، لقد كان في مُكْنَة أوس بن حارثة أن يبسُطَ لسانَه بالسوءِ في هؤلاء السفهاء، كما كان في مقدورِه أن يأمر ولده مالكًا بطردهم، ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا، وإنما التفت إلى أن له خالقًا قديرًا، بيده مقاليد كل شيء، ولا يُعجِزه في كونِه شيءٌ، يُخرِجُ أشجار النخيل الباسقات من النَّوى الصغير، ويُخرِج النار العظيمة التي يستخدمها الإنسان في التدفئة، وفي طهي الطعام، وفي صناعة أدوات القتال والحرب، ويعتمد عليها في سائر شؤونه؛ يُخرِجها هذا الخالقُ القديرُ من الحجارة.






أقول: التفَتَ أوسٌ في هذه اللحظة الحرجة من لحظات حياته إلى هذا الخالق العظيم، وعلَّق أمنياته به[27]، ورجا أن يهَبَ لولدِه مالكٍ نسلاً كثيرًا قويًّا، غير ضعيف ولا هزيل ولا متحامق، وذلك عندما قال لمعاتبيه: "لم يهلِكْ هالك ترك مثل مالك، وإن كان الخزرج ذا عدد، وليس لمالكٍ ولد، فلعل الذي استخرج العَذْق من الجريمة، والنَّارَ من الوَثِيمة؛ أن يجعل لمالكٍ نسلاً، ورجالاً بُسْلاً".






رجا أوسٌ لولدِه مالك النسل الكثير القويَّ الذي يستطيع تحمُّل أعباء الحياة القاسية التي يَحْيَونها في صحراء شبه الجزيرة العربية، المترامية الأطراف، الشديدة الجدب، التي تُحدِق بساكنيها الأخطارُ من كل جانب؛ لأن "البُسْل" جمع باسل، والباسل هو القوي الشديد الذي حرَّم على قرنائه وأنداده الدنوَّ منه، وهو أيضًا المرُّ الذي يذيق أعداءه مرارة بأسه[28].






ولعل القارئ يُشارِكُني الرأيَ في أن حديث أوس إلى معارضيه بهذه العبارات فيه ما فيه من التعريضِ بأبناء أخيه الخزرج الخمسةِ الضعافِ المهازيل, وفي تصوُّري أن أوسًا قد خشي في هذه اللحظة العصيبة أيضًا على ما سيؤولُ إليه أمرُ ولدِه في المستقبل القريب، فإذا بنا نراه يستجمعُ قوَّته، ويُقبِل على ولده، ويُلقِّنه هذه الكلمات الحكيمة الشاملة التي أوصاه فيها بالعزَّة والرِّفْق، والصبر والعمل، والعفَّة والمروءة والقناعة، والتي علَّمه فيها آداب المأكل والمشرب، وآداب السياسة، وبيَّن له فيها حقيقة الدنيا.






[1] دهرًا: زمنًا طويلاً.




[2] العَذْق: النخلة.




[3] الجريمة: النواة.




[4] الوثيمة: الحجارة.




[5] المُشتَفُّ: المستقصي.




[6] المُقتَفُّ: المتعجل.




[7] أمِر: كثر.




[8] فلَّ: غلب.




[9] فلا تَبطَر: فلا تغلُ في المرح والزهو.




[10] سينحسر: سينجلي.




[11] الأبلج: الواضح.




[12] المعلهج: المتناهي في الدناءة واللؤم.




[13] المفيت: الذي يفوِّت على الإنسان بعض متع الحياة.




[14] هبيت: خرفت أو جننت.




[15] نشر: بسط.




[16] الأمالي: 1/102، وقد لفتني إلى هذا النص الأستاذ الدكتور إبراهيم محمود عوض إذ أورده في كتابه: من ذخائر المكتبة العربية في غضون الحديث عن كتاب الأمالي لأبي علي القالي.




[17] راجع ترجمته في الوافي بالوفيات للصفدي 2/339 وما بعدها.




[18] ابن قتيبة: المعارف ص109، ويُضِيف السهيليُّ حارثةَ بين عامر وامرئ القيس، ليكونَ ابنَ عامر بن حارثة بن امرئ القيس...إلخ، ويُضِيف لفظةَ ابن بينَ ثعلبة ومازنٍ، ليكون ابن ثعلبة بن مازن... إلخ؛ راجع الروض الأنف 1/14.




[19] ابن خلدون: تاريخه المسمى بكتاب العبر 2/83.




[20] ابن قتيبة: المعارف ص 109.




[21] السابق نفسه ص110، وتاريخ ابن خلدون 2/84.




[22] راجع: المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ للدكتور جواد علي؛ حيث أزرى فيه المؤلف على ابن الكلبي في مواضع كثيرة، خذ مثلاً: 8/ 744، 8/777، وانظر: د. إبراهيم عوض: من ذخائر المكتبة العربية ص102.




[23] الفيروزآبادي: القاموس المحيط 4/165.




[24] المرأة في الشعر الجاهلي، د. أحمد محمد الحوفي ص200.




[25] المرأة في الشعر الجاهلي للدكتور الحوفي ص235.




[26] السابق نفسه ص235.




[27] لا يستغربن أحد هذا الكلام، فإن المولى - عز وجل - أثبت أن العرب كانت عندهم بقية من ملة إبراهيم - عليه السلام - وأنهم كانوا يعرِفونَ الله - تعالى - حق المعرفة، ولكنهم كانوا عاجزين عن تصوُّر ما يتصف به - جل شأنه - من صفات الكمال والجلال والجمال تصورًا حقيقيًّا، فاتخذوا بجهلهم وضعف عقولهم أصنامًا آلهةً لتقرِّبهم من الإله الحق، اقرأ إن شئتَ قولَه - عز من قائل -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61].

وقولَه - جل وعلا -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63].

وقوله - تعالى -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9].

وقوله - تعالى -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 38].

وقوله - جل ثناؤه -: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3].




[28] الأمالي لأبي علي القالي، مصدر سابق، 1/103.









ابوالوليد المسلم 29-10-2020 05:28 AM

رد: من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء
 
من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (3)
د. نبيل محمد رشاد







الوصية السادسة: "وذهاب البصر خيرٌ من كثيرٍ من النظر، ومن كرمِ الكريم الدفاعُ عن الحريم".

وأوس يُبيِّن لولده ها هنا آدابَ التعامل مع المرأة، ويجملها في أمرين: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، أما السلبي، فيتمثل في غض البصر، وعدم إفحاش النظر إلى المرأة، وأما الإيجابي فيتمثَّل في الدفاع عنها، والذود عن حياضها، وفي هذه الوصية ما يدل على وَعْي أوسٍ بما يجب أن يكون عليه سيِّد القوم من العفة والمروءة.



إن المرأة تُمثِّل في المجتمع - أي مجتمع - شطرَه، وقد تدفعها ظروف الحياة إلى اللجوء إلى سيد قومها تستصرخه وتستغيث به، فإذا ما كان سيد القوم طاهرَ الذيل، فإن المرأة تذهبُ إليه وتقص عليه مظلمتها وهي آمنة مطمئنة على عِرْضها وشرفها وسُمْعتِها، أما إذا كان سيِّد القوم غيرَ طاهر الذيل، معروفًا بالانحراف والانفلات، فإن المرأة حينئذٍ تؤثِر أن تقيم على الخسف، ترضى بالضَّيم من زوجها أو أخيها، ولا تقبل أن تذهب إلى زعيم قومِها شاكية مستصرخة، ومن ثَمَّ يشيع الظلم، وينتفي العدل، ويفقدُ المجتمع أمنَه وسلامه، وذلك كله يؤدي إلى تفسُّخه وانحلاله، وانفراط العِقْد الذي ينتظم أبناءه فيتسلَّط بعضه على بعض، ثم يتسلَّطون بعد ذلك على حاكمهم فتسقط مهابته، وتهوي مكانته.



الوصية السابعة: "ومَن قلَّ ذل، ومَن أمِر فل".


وأوس بن حارثة في هذه الوصية يُعلِّم ولدَه آداب السياسة؛ ذلك أن زعامة الناس وسياستهم تقوم على مبدأ مهمٍّ، ألا وهو كثرة الأتباع والأشياع، فإن كان الطامحُ إلى الزعامة كثيرَ الأتباع والأشياع غلَب وقهَر، وإن كان قليلَ الأتباع والأشياع ذلَّ وانكسر، بتسلط الناس عليه، ومخالفتهم لأمره ونهيه.



الوصية الثامنة: والدهر يومان؛ فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطَر، وإذا كان عليك فاصبِرْ، فكلاهما سينحسِر، فإنما تُعِزُّ من ترى، ويُعِزُّك مَن لا ترى".





إن أوس بن حارثة يُبيِّن لولده ها هنا حقيقةَ الدنيا وطبيعة الأيام، ويقول له: إن الأيام لا تجري على وتيرة واحدة من العسر أو اليسر، وإنما تأتي المرءَ بما يسرُّه أحيانًا، وبما يسوؤه أحيانًا أخرى، وليست العبرة بما تأتي به الأيام من الضيق والشدة والرخاء والسَّعة، وإنما العبرة في كيفيةِ تصرُّف الإنسان إذا أقبَلت عليه الحياة، وإذا أدبرت عنه، والإنسان الحكيم الذي يستحقُّ السيادة والسُّؤدد هو الذي يستقبلُ إقبال الزمان عليه بعدم البطر، وقلة الإسراف في المرح واللهو، والكف عن المغالاة في التمتُّع بطيبات الحياة من المأكل والمشرب، والإكثار من التسرِّي بالإماء، والتلهِّي عن هذا كله بما يجب أن يُعمِل فيه فكرَه من تدبير أمور المعاش، وسياسة شأن الرعية.



والإنسان الحكيم الذي يستحقُّ السيادة والسؤدد هو أيضًا ذلك الإنسان الذي يصبر على لَأْوَاء الحياة ونوائب الدهر، ويستقبلها غير جازع منها، ولا متبرِّم بها، ولا ضَجِرٍ لما استقر في يقينه من أن دوام الحال من المحال.



ويَلفِتُ أوسُ بن حارثة في هذه الوصية نظرَ ولده إلى أمر مهم، وهو أن الإنسان قد يكتسب احترام الآخرين لوجوده بين ظهرانَيْهم خوفًا منه أو طمعًا فيه، ولكنه إذا مات ووُسِّد الثرى ذهب طمع الناس فيه، وراح خوفهم منه، ومن ثَمَّ يُصبِح مِلكًا للتاريخ الإنساني يقول فيه كلمته، وتروي الأجيال سيرته وهي بمأمن من غضبه، وبمنجاة من بطشه، ومن ثَمَّ يجبُ أن يعمل في حياته عملاً يجعله أهلاً لحسن الأحدوثة بين الناس بعد رحيله، ويجعله جديرًا بإعزاز مَن لم يرَوْه من أبناء الأزمان التالية.



الوصية التاسعة: "والموت المُفِيت خير من أن يقال لك: هَبِيت، وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة؟".





وأوس بن حارثة يوصي ولدَه ها هنا بعدم الحرص على الدنيا بأكثر من اللازم؛ لأنها ليست دار الإقامة، والإنسان فيها هدفٌ لسهام المنيَّة التي لا بد أن تُصِيبه يومًا ما، ويزهدُه في أن يرغب في طول العمر؛ لأن طول العمر يؤدِّي بالمرء إلى الانقطاع عن الأنداد والأتراب، ويجعله غير قادر على التواصل مع الأجيال الجديدة، وحينئذٍ يصبح هدفًا لانتقاد حَفَدتِه، وضيقهم به، وتبرُّمهم منه، وقد تؤذي نفسَه ألفاظٌ تخرجُ من أفواهِهم ترميه بالخَرَفِ والعَجْز، ومن ثَمَّ يصبح الموت الذي يُفوِّتُ على الإنسان بعضَ متاع الحياة خيرًا، كما قال أوس بن حارثة؛ حتى لا يشعر المرء بأنه قد صار عالةً على غيره، أو بأنه قد أصبح من سَقَط المتاع.



وشرٌّ من المصيبة سوءُ الخلف، وهكذا في ختام هذه الوصية الجامعة يَلفِتُ أوسٌ الأذهانَ إلى أهمية الاعتداد بالتنشئة الاجتماعية للأبناء والأحفاد حتى يشِبُّوا أخيارًا صالحين، ويقول لمالك: إن الإنسان بمقدوره أن يحتمل المصيبة التي تحُلُّ به، لكنه لا يستطيع أن يتحمل ولدًا عاقًّا، سيِّئ الأخلاق، مرذول الخلال، مذموم السجايا.



كانت تلك هي الوصايا التي قدَّمها أوس بن حارثة لولده مالك، ولعل القارئ يشاركني الرأيَ في أنها تُمثِّلُ أصدقَ تمثيلٍ منظومةَ القِيَمِ الإيجابية التي كان كبارُ رجالات المجتمع العربي في عصر الجاهلية يُنشِّئون عليها أبناءَهم، ولعل القارئَ يتَّفق معي أيضًا فيما أذهب إليه من أن هذا النص النثريَّ الجاهلي يصحُّ أن يقف شاهدًا ودليلاً على أن الأمة العربية في جاهليتها قد كانت خير أمم الأرض طرًّا[1]، وهو الأمر الذي من أجله كان ابتعاثُ النبيِّ الخاتم محمد بن عبدالله منهم وفيهم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه.





[1] ليس هذا النصُّ وحدَه هو الذي يدل على ما أُوقِنُ؛ فهناك نصوص نثرية جاهلية أخرى تظاهرُه فيما يدل عليه، تمتلئ بها مصادر الأدب وسجلات التاريخ، وأسأل المولى - جل شأنه - أن يتفضَّل ويعينني على قراءتها، وتحليلها، وإخراجها للناس.








الساعة الآن : 10:30 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 66.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.21 كيلو بايت... تم توفير 0.18 كيلو بايت...بمعدل (0.27%)]