ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النقد اللغوي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=120)
-   -   بشار بن برد يمدح عمر بن هبيرة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=294577)

ابوالوليد المسلم 07-07-2023 04:31 PM

بشار بن برد يمدح عمر بن هبيرة
 
بشار بن برد يمدح عمر بن هبيرة
د. إبراهيم عوض




وجيشٍ كجُنحِ الليلِ يَزحَفُ بالحَصَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبالشَّوكِ والخَطِّيِّ حُمْرٌ ثَعالبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
غَدَوْنَا لهُ والشمسُ في خِدْرِ أُمِّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تُطالعُنا والطَّلُّ لَمْ يَجْرِ ذائبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بضَرْبٍ يَذوقُ الموتَ مَن ذاقَ طعْمَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وتُدرِكُ مَن نجَّى الفرارُ مثالبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فوق رؤوسِنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأَسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بعَثْنا لهمْ مَوْتَ الفُجاءةِ إنَّنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بنو الموتِ خَفَّاقٌ علينا سَبائبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فراحوا فريقٌ في الإسارِ ومِثْلُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قتيلٌ ومِثْلٌ لاذَ بالبحْرِ هاربُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا الْمَلِكُ الجبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَشَيْنا إليه بالسيوفِ نُعاتبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا كنتَ في كلِّ الأمور مُعاتبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صَديقَك لَم تَلْقَ الذي لا تُعاتبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاكَ فإنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُقارفُ ذنبٍ مَرَّةً ومُجانبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا أنتَ لم تَشربْ مِرارًا على القَذَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ظَمِئْتَ وأيُّ الناسِ تَصْفو مَشارِبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


هذه الأبياتُ الجميلةُ القويةُ مقتطعة من قصيدة طويلة مدَح فيها الشاعرُ عمرَ بنَ هبيرة والي العراق، وسنتناول هذه الأبيات منفصلةً عن بقية القصيدة، فما الذي نُلاحظه عليها؟

أول ما يُلاحَظ هو أنها تنقسم من حيث الموضوع إلى قسمين واضحين: فالأبيات السبعة الأولى في وصف حربٍ، المفترض أنها دارت بين قوم الشاعر وأعدائهم، أما الأبيات الثلاثة الأخيرة فهي في الحكمة، وتدور حول ضرورة المصانعة أحيانًا في العلاقات الإنسانية؛ حتى تستقيم الأمور، وتستمر عجلة الحياة الاجتماعية في الدوران، وأبيات كلِّ قسم وإن ترابطَت فيما بينها ترابطًا قويًّا، فإنها لا تتصل بأبيات القسم الآخر لا مِن قريبٍ ولا مِن بعيد؛ إذ النقلة من جوِّ الحرب والتقتيل إلى ما ينبغي على الصديق تُجاه صديقه من الإغضاء عن زَلَّاته بين الحين والحين؛ حتى يستبقي صداقته ويستطيع الاستمتاع بها، فإن الحياة لا تصفو تمامًا لأحد - نقلةٌ غير مسوَّغة ولا مستساغة، وأحبُّ أن أُكرر القول: إن الانتقاد هنا منصبٌّ على الانتقال، لا على شعر كل قسم في حد ذاته، فإن الشعر قوي جميل، كما سلف القول وكما سيأتي تفصيله فيما يلي:
في الأبيات السبعة الأولى يفتخرُ الشاعر بانتصارات قومه على أعدائهم، برغم كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم، حتى إنهم ليَسُدُّون الأُفق بجَحافلهم، فيبدو الكون وكأن الظلام قد أقبَل وسربَل الأشياء بردائه الأسود، والشاعر يُشدد على فكرة الحتمية في هذه الانتصارات، أليس هو وقومه كما يقول "بنو الموت"؟! وهؤلاء الأعداء ينتهي أمرهم دائمًا معهم إما إلى القتل وإما إلى الأَسْر، وإما إلى الفرار الذي يلاحق الناجين خِزيُه إلى الأبد، ويَخلُص الشاعر مِن ذلك كلِّه إلى تهديد كلِّ مَن تُسوِّل له نفسُه الشموخَ عليه وعلى قومه، وتَوعُّدِه بأن مصيرَه سيكون مصير هؤلاء الأعداء.

فهذه الأبيات كما ترى مترابطة من جهة الفكرة، ومن جهة الجو النفسي الذي يَسودها، بل من ناحية الصور الفنية كذلك، فقد صوَّر الشاعر جيش الأعداء في زَحفه بجحافله التي تُماثل الحصى والشوك عددًا، وقد سد الأفق فحجَب ضوء الشمس كأنه قطعة من الليل نفسه:
وجيشٍ كجُنحِ الليلِ يَزحَفُ بالحَصَى *** وبالشَّوكِ والخَطِّيِّ حُمْرٌ ثَعالبُه
وحين يتناول الشاعرُ وصفَ المعركة نفسها، وقد الْتحمت الأبطال، وثار النقعُ وارتفع إلى عَنان السماء، وامْتُشِقت السيوف لتَهوي وهي تَبرُق على رؤوس الأعداء تُطيح برقابهم، نراه يقول: إن مَن يشاهد هذه المعركة الطاحنة يُخيَّل إليه أنْ لا نهارَ ولا شمس ولا ضياء، بل ليل دامس الظلمة، تخرُج كواكبُه عن مداراتها، وتتهاوى في الفضاء، وهي صورة قوية التأثير، وعظيمة البراعة، ومن التَّجنِّي أن نقارن بينها وبين قول امرئ القيس في وصف عُقاب مفترسة:
كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطبًا ويابسًا *** لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالِي
فضلًا عن أن نُفضِّل بيت امرئ القيس عليه، كما فعَل بعضُ النُّقاد، فصورة امرئ القيس صورة شكلية؛ إذ وجه الشبه بين قلوب الطير التي افترستْها هذه العُقاب وبين العُناب إذا كانت لا تزال طازجةً، وبينها وبين الحشفِ البالي إذا كان قد مرَّ عليها وهي مُلقاة عند وكر الطائر الجارح وقتٌ طويل، هو مجرد تَماثُل في الشكل واللون، ثم لا شيء وراء ذلك، أما بيت بشار فإن الصورة فيه مركبة؛ إذ على عكس العُناب والحشف البالي في بيت امرئ القيس اللذَين لا رابط بينهما، نرى الليل والكواكب المتهاوية لا يمكن تصوُّرُهما منفصلين، بل يكونان معًا لوحة واحدة راعبة، وكأن القيامة قد قامت، فذهب الضياء، وأخذت أجرام السماء تنخلع من مَداراتها، وتَهوي في الفضاء؛ أي: إنه إذا كان جيش الأعداء يُشبه قطعةً من الليل بكثرة عَدده وعُدده، فإن قوم بشار هم الهول نفسه، ومَن يُجربهم ويحاربهم فكأن قيامته قد قامت، وكأنه يشاهد بأُمِّ عينيه الكون وقد اضطرب نظامُه، وانفرطتْ أجرامُه، ويبدو لي أن بشارًا لا بد من أن يكون قد استوحى هذه الصورة عن وعي أو غير وعي من الآيات القرآنية التي تتعرض لوصف يوم القيامة؛ من مثل قوله تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [التكوير: 1، 2]، وقوله سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1، 2].

هذا، وما أجمل الصورة التي رسمها الشاعر للشمس وقد برزَت لتَوِّها من خلف الأُفق، كأنها غادة حسناء ما زالت تعيش في كَنَفِ أُمِّها، فهي فتاة مُنعمة لا تقوم على شؤونها بنفسها، ولكن أمها ترعاها، وهي تطلُّ على قوم الشاعر مِن خِدرِ أُمها، وقد استيقظت لتوِّها مِن رُقادها:
غَدَوْنَا لهُ والشمسُ في خِدرِ أُمِّها *** تُطالعُنا............ إلخ
ولا يظن ظانٌّ أن هناك تناقضًا بين جو الليل الذي رسَمه الشاعر في البيت الأول الذي يصف فيه زحفَ جيوش الأعداء، وفي البيت الرابع الذي يصوِّر فيه هول اللقاء على هؤلاء الأعداء، وبين جو الصبح الذي يتنفس في بُكْرته، والشمس تطالعهم مِن خدرها، أو كما قال الشاعر: "مِن خِدر أُمها"، فإن الجو المشرق يتلاءم مع ما لعل الشاعر يريد أن يقرِّره في نفوسنا مِن ثقة جنود قومه بأنفسهم؛ إذ إن زحفهم لملاقاة أعدائهم لا يَعدو أن يكون نزهة للاستمتاع، وها هي الشمس غادة حسناء تُطلُّ عليهم مِن شرفتها، وكأنها تُحييهم وتتمنَّى لهم ظفرًا مبينًا، ولا تَفتك هذه التفصيلة الواقعية التي توحي هي أيضًا بالبُكور: "والطَّلُّ لم يَجْرِ ذائبُه"، كما أحب ألا تفوتك أيضًا طرافةُ التعبير في هذه الجملة؛ إذ المعتاد أن يقال: "والطَّل لم يَذُبْ بعدُ"، أو ما أشبه، أما قوله: "لم يَجرِ ذائبه"، فهو تجديد ألحَقه الشاعر بتعبير من التعبيرات العادية.

وفي هذا الوقت المبكر والجو المشرق نرى قوم الشاعر يَغدون على أعدائهم فيفاجئونهم:
بضربٍ يَذوقُ الموتَ مَن ذاقَ طعمَه *** وتُدركُ مَن نجَّى الفرارُ مثالبُه
فتأمل كيف عدَل الشاعر عن أن يقول مثلًا: "بضرب مُميت"، بما فيه من مباشرة وافتقار إلى الفن، إلى قوله: "بضربٍ يذوق الموتَ مَن ذاقَ طعمَه"؛ إذ إن هذا الضرب له طعمُ الموت، بل إن طعمه هو الموت نفسه.

ويعود الشاعر بعد ذلك ببيت، فيُلح على معنى المفاجأة:
بعَثنا لهم موتَ الفُجاءة إنَّنا *** بنو الموتِ خفَّاقٌ علينا سبائبُه
ويا لها مِن صورة غريبة! إذ كيف يبعث الموت والبعث حياة؟!
تُرى هل قصد الشاعر إلى القول: إن هؤلاء الأعداء كانوا في غفلةٍ عما هم مُلاقوه من مصير محتوم، فكأن الموت بالنسبة إليهم كان أمرًا منسيًّا، أو كأن الموت قد مات، فجاء قوم الشاعر فبعَثوه لهم؟!

ثم يَمضي الشاعر فيَصِف نفسه وقومه بأنهم "بنو الموت"، فمن ذا الذي يستطيع الانتصار على قومٍ الموت أبوهم؟! وهل يطيع الموت أحدًا في أبنائه؟ ليس ذلك فقط، بل إن رايات الموت تَخفُق فوق رؤوسهم، ترى أيَستطيع أحدٌ أن يتصدى لجيش يُحارب تحت رايات الموت؟!

وعلى هذا فالنتيجة معروفة، فمَن تُسوِّل له نفسُه الوقوفَ في طريقهم، فمصيرُه المحتومُ هو القتل، وإلَّا فالأسرُ أو اللواذُ بالفرار، وما أحلى تنويعَ الشاعر في الإشارة إلى هذه المصائر الثلاثة:
فراحُوا فريقٌ في الإسارِ ومِثلُه *** قتيلٌ ومِثْلٌ لاذَ بالبحرِ هاربُه
إذ بدلًا من أن يقول: "فريق من الإسار، وفريق قتيل، وفريق لاذ بالبحر هاربه"، نجده قد تجنَّب التكرير فقال أولًا: "فريق"، ثم في المرة الثانية قال: "مثله"، ثم حين كرَّر هذه في المرة الثالثة نراه قد حذف الهاء، فأصبحتْ منكرةً، وأصبحتْ كأنها كلمة أخرى.

وانظر التهكُّم الواثق في قول الشاعر:
إذا الملِكُ الجبَّار صَعَّر خدَّه *** مَشَيْنا إليهْ بالسيوفِ نُعاتبُه
إذ العتابُ لا يكون بالسيوف، ولكنه التهكُّم الذي يبلغ به الشاعر غايته حين يصف الثورة على استبداد مثل هذا الملك بأنها "مَشْيٌ إليه".

إن الشاعر هنا لا يهدف - كما ربما تَبَادر إلى الذِّهن - إلى التهوين من شأن وقوفهم في وجه السلطان، وثورتهم عليه والإحاطة برقبته، ولكنه يريد أن يقول: إن التخلص من مثل هذا السلطان، سهلٌ لا يُحوجنا إلى أكثر مِن أن "نمشي إليه لنُعاتبه"، ولكن أيُّ عتاب؟!

أما الأبيات الحِكَميَّة الثلاثة، فهي من أجمل ما قيل في الإغضاء عن هفوات الأصدقاء، فالكمال كما توحي هذه الأبيات ليس من طبيعة البشر، وما أجمل قول الشاعر عن صديقه: "إنه مقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانبُه!"، فهو لا يقول: "إنه مقارف ذنب مرة، وفاعل خير مرة أخرى"، بل "ومجانبه"، بما توحي به من أن النقص هو الأصل في طبيعة البشر، لدرجة أنه يكفي أن يتجنَّب الناس فعلَ الشر! وما أجمل كذلك إيجاز الحذف حين لم يكرر كلمة "مرة" بعد "ومجانبه"، ومع ذلك فإنه لا الأذن ولا العقل يُحِسان بنقص في الجملة، وبخاصة أن هذا الحذف قد وقع في آخر البيت؛ حيث تأتي موسيقا القافية فتَشغَلُ عنه، ثم إن العلاقات الاجتماعية لا تتحمل التشدد في المحاسبة بين الأصدقاء، وإلا ما كانت صداقة ولا أصدقاء، وهل نستطيع أن نعيش منعزلين عمن حولنا؟!

إن الإنسان مدني بطبعه كما يقولون، ومَن نشَد الكمال فيمن يعاشرهم، فهو كالعطشان الذي يريد الماء صافيًا على الدوام تمام الصفاء، فأي الناس تصفو موارده؟! إن مثل هذا المتشدد سوف يظلُّ طول عمره ظامئًا لا تَنطفي له غُلَّةٌ.



الساعة الآن : 12:25 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 15.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 15.21 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.61%)]