ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=214718)

ابوالوليد المسلم 18-10-2019 09:48 PM

شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين
 
شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين (1)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين


قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:

قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب؛ فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي؛ فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يُقلع عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فعلها.

والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا.



فإن فَقَد أحد الثلاثة لم تصح توبته.



وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه، ردَّه إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه، مكَّنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غِيبة، استحله منها.



ويجب أن يتوب من جميع الذنوب؛ فإن تاب من بعضها، صحَّت توبته - عند أهل الحق - من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي.



وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة:

قال الله تعالى: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 31].

وقال تعالى: ï´؟ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ï´¾ [هود: 3].

وقال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ï´¾ [التحريم: 8].



قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:

قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: «باب التوبة»: التوبة لغة: مِن تاب يتوب، إذا رجع.

وشرعًا: الرجوع من معصية الله تعالى إلى طاعته.



وأعظمها وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان؛ قال الله تعالى: ï´؟ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ï´¾ [لأنفال: 38].



ثم يليها التوبة من الكبائر؛ كبائر الذنوب.

ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب.

والواجب على المرء أن يتوب إلى الله - سبحانه وتعالى - من كل ذنب.



وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف - رحمه الله - ولكنها بالتتبع تبلغ إلى خمسة:

الشرط الأول: الإخلاص لله؛ بأن يكون قصد الإنسان بتوبته وجه الله - عز وجل - وأن يتوب الله عليه، ويتجاوز عما فعل من المعصية؛ لا يقصد بذلك مراءاةَ الناس، والتقربَ إليهم، ولا يقصد بذلك دفعَ الأذية من السُّلُطات وولي الأمر.



وإنما يقصد بذلك وجهَ الله والدارَ الآخرة، وأن يعفو الله عن ذنوبه.



الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية؛ لأن شعور الإنسان بالندم هو الذي يدل على أنه صادق في التوبة؛ بمعنى أن يتحسر على ما سبق منه، وينكسر من أجله، ولا يرى أنه في حِلٍّ منه حتى يتوب منه إلى الله.



الشرط الثالث: أن يُقلع عن الذنب الذي هو فيه؛ وهذا من أهم شروطه.



والإقلاع عن الذنب: إن كان الذنب ترك واجب؛ فالإقلاع عنه بفعله؛ مثل أن يكون شخص لا يزكي، فأراد أن يتوب إلى الله، فلابد من أن يخرج الزكاة التي مضت ولم يؤدها، وإذا كان الإنسان مقصِّرًا في بر الوالدين؛ فإنه يجب عليه أن يقوم ببرهما، وإذا كان مقصرًا في صلة الرحم؛ فإنه يجب عليه أن يصل الرحم.



وإن كانت المعصية بفعل محرَّم، فالواجب أن يُقلع عنه فورًا، ولا يبقى فيه ولا لحظة.



فإذا كانت من أكل الربا مثلًا، فالواجب أن يتخلص من الربا فورًا، بتركه والبُعْد عنه، وإخراج ما اكتسبه عن طريق الربا؛ إذا كانت المعصية بالغش، والكذب على الناس، وخيانة الأمانة؛ فالواجب عليه أن يقلع عن ذلك، وإذا كان قد اكتسب مالًا من هذا الطريق المحرَّم؛ فالواجب عليه أن يرده إلى صاحبه، أو يستحله منه، وإذا كانت غِيبة، فالواجب أن يُقلع عن غِيبة الناس، والتكلم في أعراضهم؛ أمَّا أن يقول: إنه تائب إلى الله، وهو مُصِرٌّ على ترك الواجب، أو مُصِرٌّ على فعل المحرَّم، فإنَّ هذه التوبة غير مقبولة؛ بل إن هذه التوبة كالاستهزاء بالله عز وجل؛ كيف تتوب إلى الله - عز وجل - وأنت مُصِرٌّ على معصيته؟!



لو أنك تعامل بشرًا من الناس، تقول: أنا تبت إليك وأنا نادم، لا أعود، ثم في نيتك وفي قلبك أنك ستعود، وعدتَ؛ فإن هذه سخرية بالرجل، فكيف بالله رب العالمين؟!



فالإنسان التائب حقيقة هو الذي يُقلع عن الذنب.



ومن الغريب أن بعض الناس تجلس إليه، وتجده يتأوه من وجود الربا، وهو في نفسه يرابي والعياذ بالله، أو يتأوه من الغِيبة وأكل لحوم الناس؛ وهو من أكثر الناس غيبة - نسأل الله العافية - أو يتأوه من الكذب وضياع الأمانة في الناس، وهو من أكذب الناس وأضيعهم للأمانة!!



على كل حال، الإنسان لابد أن يقلع عن الذنب الذي تاب منه، فإن لم يقلع فتوبته مردودة لا تنفعه عند الله عز وجل.



والإقلاع عن الذنب إما أن يكون إقلاعًا عن ذنب يتعلق في حق الله - عز وجل - فهذا يكفي أن تتوب بينك وبين ربك، ولا ينبغي - بل قد نقول: لا يجوز - أن تُحدِّث الناس بما صَنَعْتَ من المحرَّم، أو ترك الواجب؛ لأن هذا بينك وبين الله، فإذا كان الله قد مَنَّ عليك بالستر، وسترك عن العباد، فلا تُحدِّث أحدًا بما صنعت، إذا تبت إلى الله.



وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى، إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ».

ومن المجاهرة؛ كما جاء في الحديث: «أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا»، إلى آخره.



إلا أن بعض العلماء قال: إذا فعل الإنسان ذنبًا فيه حَدٌّ، فإنه لا باس أن يذهب إلى الإمام الذي يقيم الحدود - مثل الأمير - ويقول: إنه فعل الذنب الفلاني ويريد أن يُطهِّره منه، ومع ذلك فالأفضل أن يستر على نفسه، هذا هو الأفضل.



يعني: يباح له أن يذهب إلى ولي الأمر إذا فعل معصية فيها حَدٌّ؛ كالزنا مثلًا، فيقول: إنه فعل كذا وكذا؛ يطلب إقامة الحد عليه؛ لأن الحد كفارة للذنب.



أما المعاصي الأخرى فاسترها على نفسك كما سترها الله، وكذلك الزنا وشِبْهه، استره على نفسك - بالنسبة لغير ولي الأمر - لا تفضح نفسك؛ ما دمت أنك قد تبت فيما بينك وبين الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.



أما إذا كان الذنب بينك وبين الخلق، فإن كان مالًا فلابد أن تؤديه إلى صاحبه، ولا تُقبل التوبة إلا بأدائه؛ مثل أن تكون قد سرقت مالًا من شخص، وتبت من هذا، فلابد أن توصل المسروق إلى المسروق منه.



أو جحدت حقًّا لشخص؛ كأن يكون في ذمتك دين لإنسان، وأنكرته، ثم تبت، فلابد أن تذهب إلى صاحب الدين الذي أنكرته، وتقر عنده وتعترف حتى يأخذ حقه. فإن كان قد مات، فإنك تعطيه ورثته، فإن لم تعرفهم، أو غاب عنك هذا الرجل ولم تعرف له مكانًا، فتصدق به عنه تخلُّصًا منه، والله - سبحانه وتعالى - يعلمه ويعطيه إياه.



أما إذا كانت المعصية التي فعلتها مع البشر ضربًا وما أشبهه، فاذهب إليه، ومكِّنه من أن يضربك مثل ما ضربته؛ إن كان على الظهر، فعلى الظهر، وإن كان على الرأس فعلى الرأس، أو في أي مكان ضربته فليقتص منك؛ لقول الله تعالى سبحانه: ï´؟ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ï´¾ [الشورى:40]، ولقوله: ï´؟ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ï´¾ [البقرة: 194].



وإذا كان بقول؛ أي: أذية بالقول؛ مثل أن تكون قد سَبَبْته أمام الناس، ووبَّخْتَه وعيَّرْته، فلا بد أن تذهب إليه وتستحل منه بما تتفقان عليه، حتى لو قال: لا أسمح لك إلا بكذا وكذا من الدراهم، فأعطه.



الرابع: أن يكون الحق غِيبة؛ يعني: أنك تكلمت به في غيبته، وقدحت فيه عند الناس وهو غائب.



فهذه اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من قال: لا بد أن تذهب إليه، وتقول له: يا فلان إني تكلمت فيك عند الناس، فأرجوك أن تسمح عني وتحللني.



وقال بعض العلماء: لا تذهب إليه، بل فيه التفصيل! فإن كان قد علم بهذه الغيبة، فلابد أن تذهب إليه وتستحله، وإن لم يكن علم، فلا تذهب إليه، واستغفر له، وتحدث بمحاسنه في المجالس التي كنت تغتابه فيها؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات.



وهذا القول أصح؛ وهو أن الغيبة إذا كان صاحبها لم يعلم بأنك اغتبته، فإنه يكفي أن تذكره بمحاسنه في المجالس التي اغتبته فيها، وأن تستغفر له، تقول: اللهم اغفر له، كما جاء في الحديث: «كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ»[1]؛ فلابد في التوبة من أن تصل الحقوق إلى أهلها.



يتبع

ابوالوليد المسلم 18-10-2019 09:49 PM

رد: شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين
 
شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين (1)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين





أما الشرط الرابع: فهو العزم على أن لا تعود في المستقبل؛ بأنك لن تعود إلى هذا العمل في المستقبل، فإن كنت تنوي أن تعود إليه عندما تسمح لك الفرصة؛ فإن التوبة لا تصح؛ مثل: رجل كان - والعياذ بالله - يستعين بالمال على معصية الله، يشتري به المسكرات، يذهب إلى البلاد يزني - والعياذ بالله - ويسكر، فأصيب بفقر، وقال: اللهم إني تبت إليك، وهو كاذب، يقول: تبت إليك، وهو في نيته أنه إذا عادت الأمور إلى مجاريها الأولي فعل فعله الأول.



فهذه توبة عاجز، تبت أم لم تتب لست بقادر على فعل المعصية؛ لأنه يوجد بعض الناس يصاب بفقر، فيقول: تركت الذنوب، لكن يحدِّث قلبه أنه لو عاد إليه ما افتقده لعاد إلى المعصية مرة ثانية، فهذه توبة غير مقبولة؛ لأنها توبة عاجز، وتوبة العاجز لا تنفعه.



الشرط الخامس: أن تكون في زمن تُقبل فيه التوبة، فإن تاب في زمن لا تُقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة؛ وذلك على نوعين:

النوع الأول: باعتبار كل إنسان بحسبه.

النوع الثاني: باعتبار العموم.



أما الأول: فلابد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل- يعني: الموت - فإن كانت بعد حلول الأجل، فإنها لا تنفع التائب؛ لقول الله تعالى: ï´؟ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ï´¾ [النساء: 18]؛ هؤلاء ليس لهم توبة.



وقال تعالى: ï´؟ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ï´¾ [غافر: 84،85]؛ فالإنسان إذا عاين الموت وحضره الأجل؛ فهذا يعني أنه أيس من الحياة، فتكون توبته في غير محلها، بعد أن أيس من الحياة، وعرف أنه لا بقاء له يذهب فيتوب! هذه توبة اضطرار، فلا تنفعه، ولا تُقبل منه، لابد أن تكون التوبة سابقة.



أما النوع الثاني: وهو العموم، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أخبر بأن الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.



فإذا طلعت الشمس من مغربها، لم ينفع أحدًا توبة؛ قال الله سبحانه: ï´؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ï´¾ [الأنعام: 158]؛ وهذا البعض هو طلوع الشمس من مغربها؛ كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.



إذا فلا بد أن تكون التوبة في وقت تُقبل فيه التوبة، فإن لم تكن كذلك فلا توبة للإنسان.



ثم أختلف العلماء - رحمهم الله - هل تُقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، أو لا، في هذا ثلاثة أقوال لأهل العلم:

1- منهم من قال: إنها تصح التوبة من الذنب وإن كان مُصِرًّا على ذنب آخر، فتُقبل توبته من هذا الذنب، ويبقى الإثم عليه في الذنب الآخر بكل حال.



2- ومنهم من قال: لا تُقبل التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر.



3- ومنهم من فَصَّل فقال: إن كان الذنب الذي أصر عليه من جنس الذنب الذي تاب منه؛ فإنها لا تُقبل، وإلا قُبِلت.



مثال ذلك: رجل تاب من الربا ولكنه - والعياذ بالله - يشرب الخمر ومُصِرٌّ على شرب الخمر.



فهنا من العلماء من قال: إن توبته من الربا لا تُقبل، كيف يكون تائبًا إلى الله وهو مُصِرٌّ على معصيته؟

وقال بعض العلماء: بل تقبل؛ لأن الربا شيء وشرب الخمر شيء آخر؛ وهذا هو الذي مشى عليه المؤلف - رحمه الله - وقال: إنها تُقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند أهل الحق.



فهذا فيه الخلاف: بعضهم يقول: تُقبل: وبعضهم يقول: لا تُقبل.



أما إذا كان من الجنس؛ مثل أن يكون الإنسان - والعياذ بالله - مبتلى بالزنا، ومبتلى أيضًا بالاطلاع على النساء، والنظر إليهن بشهوة، وما أشبه ذلك، فهل تُقبل توبته من الزنا وهو مُصِرٌّ على النظر إلى النساء لشهوة، أو بالعكس؟

هذا فيه أيضًا خلاف؛ فمنهم من يقول: تصح.

ومنهم من يقول: لا تصح التوبة.



ولكن الصحيح في هذه المسألة أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن لا يعطى الإنسان اسم التائب على سبيل الإطلاق، ولا يستحق المدح الذي يُمدح به التائبون؛ لأن هذا لم يتب توبة تامة بل توبة ناقصة، تاب من هذا الذنب فيرتفع عنه إثم هذا الذنب، لكنه لا يستحق أن يوصف بالتوبة على سبيل الإطلاق؛ بل يقال: هذا توبته ناقصة وقاصرة؛ فهذا هو القول الذي تطمئن إليه النفس؛ أنه لا يعطى الوصف على سبيل الإطلاق، ولا يحرم من التوبة التي تابها من هذا الذنب.



قال المؤلف - رحمه الله -: «إن النصوص من الكتاب والسنه تظاهرت وتضافرت على وجوب التوبة من جميع المعاصي»: وصدق - رحمه الله - فإن الآيات كثيرة في الحث على التوبة وبيان فضلها وأجرها، وكذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.



وقد بيَّن الله تعالى في كتابه أنه - سبحانه - يحب التوابين ويحب المتطهرين.

التوابون: الذين يكثرون التوبة إلى الله - عز وجل - كلما أذنبوا ذنبًا تابوا إلى الله.



ثم ذكر المؤلف من الآيات قول الله تعالى: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ï´¾ [النور: 31]، هذه الجملة ختم الله بها آيتي وجوب غض البصر، وهي قوله: ï´؟ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ï´¾ إلى قوله: ï´؟ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 30، 31].



ففي هذه الآية دليل على وجوب التوبة من عدم غض البصر، وحفظ الفرج؛ لأن غض البصر؛ يعني: قصره وعدم إطلاقه، ولأن ترك غض البصر وحفظ الفرج، كل ذلك من أسباب الهلاك وأسباب الشقاء، وأسباب البلاء، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»، و«إِنَّ أَوْلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ».



ولهذا كان أعداؤنا - أعداء الإسلام - بل أعداء الله ورسوله؛ من اليهود، والنصارى، والمشركين، والشيوعيين، وأشباههم، وأذنابهم، وأتباعهم؛ كل هؤلاء - يحرصون غاية الحرص على أن يفتنوا المسلمين بالنساء؛ يدعون إلى التبرج، يدعون إلى اختلاط المرأة بالرجل، يدعون إلى التفسخ في الأخلاق، يدعون إلى ذلك بألسنتهم، وأقلامهم، وأعمالهم - والعياذ بالله - لأنهم يعلمون أن الفتنة العظيمة التي ينسى بها الإنسان ربه ودينه، إنما تكون في النساء؛ النساء اللاتي يَفْتِنَّ أصحاب العقول؛ كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ».



هل تريد شيئًا أبين من هذا.



أذهب لِلُبِّ الرجل: - لعقله - الحازم، فما بالك بالرجل المهين، الذي ليس عنده حزم، ولا عزم، ولا دين، ولا رجولة؛ يكون أشد والعياذ بالله.



لكن الرجل الحازم تُذْهِب النساءُ عقلَه، نسأل الله العافية.



وهذا هو الواقع؛ لذلك قال الله تعالى عقب الأمر بغض البصر، قال: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 31]، وقوله عز وجل: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا ï´¾ يدل على أنه ينبغي لنا - بل يجب علينا - أن نتواصى بالتوبة، وأن يتفقد بعضنا بعضًا؛ هل الإنسان تاب من ذنبه، أو بقي مُصِرًّا عليه؛ لأنه وجَّه الخطاب للجميع: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ï´¾، وفي قوله تعالى: ï´؟ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾؛ دليل على أن التوبة من أسباب الفلاح، والفلاح - كما قال أهل العلم بالتفسير وباللغة - الفلاح: كلمة جامعة يحصل بها المطلوب ويزول بها المرهوب، فهي كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة.



وكل إنسان يطلب خير الدنيا والآخرة؛ ما تجد إنسانًا - حتى الكافر يريد الخير، لكن من الناس من يُوفَّق ومنهم من لا يُوفَّق.



الكافر يريد الخير؛ لكنه يريد خير الدنيا؛ لأنه رجل بهيمي؛ هو شر الدواب عند الله؛ ï´؟ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ï´¾ [الأنفال: 55]؛ شَرٌّ من كل دابة تدب على الأرض؛ ومع ذلك هو يريد الخير، ويريد الرفاهية، ويريد التنعم بهذا الدنيا، لكنها -أي: الدنيا- جنته، والآخرة - والعياذ بالله - عذابه وناره.



المهم أن كل إنسان يريد الفلاح، لكن على حسب الهِمَّة، المؤمن يريد الفلاح في الدنيا والآخرة، والكافر لا يؤمن بالآخرة؛ فهو يريد الفلاح في الدنيا.



من أسباب الفلاح: التوبة إلى الله - عز وجل - كما في الآية: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 31]؛ أي: لتنالوا الفلاح؛ وذلك بحصول المطلوب وزوال المرهوب. والله الموفق.




المصدر: « شرح رياض الصالحين »





[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في «الصمت» (291)، وضعَّفه الألباني في «الضعيفة» (1519).



ابوالوليد المسلم 18-10-2019 09:50 PM

رد: شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين
 
شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين (2)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين



عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً». رواه البخاري.

وَعَنِ الْأَغَرِّ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ». رواه مسلم.

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
تقدم الكلام على ما ذكره المؤلف - رحمه الله - من وجوب التوبة وشروطها، وما ساقه من الآيات الدالة على وجوبها.

وهذان الحديثان ذكرهما المؤلف - رحمه الله - ليستدل على ذلك بالسنة.

لأنه كلما تضافرت الأدلة على الشيء، قَوِي، وصار أوكد، وصار أوجب، فذَكَر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أقسم بأنه يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة.

وهذا هو الرسول - عليه الصلاة والسلام - الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.

وفي حديث الأغر بن يسار المزني، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».

ففي هذين الحديثين دليل على وجوب التوبة؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أمر بها فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ»؛ فإذا تاب الإنسان إلى ربه حصل بذلك فائدتين:
الفائدة الأولي: امتثال أمر الله ورسوله؛ وفي امتثال أمر الله ورسوله كل الخير؛ فعلى امتثال أمر الله ورسوله تدور السعادة في الدنيا والآخرة.

والفائدة الثانية: الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان -صلى الله عليه وسلم- يتوب إلى الله في اليوم مئة مرة؛ يعني: يقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله ...

والتوبة لابد فيها من صدق؛ بحيث إذا تاب الإنسان إلى الله أقلع عن الذنب، أما الإنسان الذي يتوب بلسانه وقلبه منطو على فعل المعصية، أو على ترك الواجب، أو يتوب إلى الله بلسانه، وجوارحه مُصِرَّة على فعل المعصية؛ فإن توبته لا تنفعه، بل إنها أشبه ما تكون بالاستهزاء بالله عز وجل.

كيف تقول: أتوب إلى الله من معصية، وأنت مُصِرٌّ عليها، أو تقول: أتوب إلى الله من معصية، وأنت عازم على فعلها؟

الإنسان لو عامل بشرًا مثله بهذه المعاملة لقال هذا يسخر بي، ويستهزئ بي، كيف يتنصَّل من أمر عندي وهو متلبِّس به؟ ما هذا إلا هُزؤ ولعب، فكيف برب العالمين؟!

إن من الناس من يقول: إنه تائب من الربا، ولكنه - والعياذ بالله - مُصِرٌّ عليه!! يمارس الربا صريحًا، ويمارس الربا مخادعة، وقد مَرَّ بنا كثيرًا أن الذي يمارس الربا مخادعة أعظم إثمًا وجُرمًا من الذي يمارس الربا بالصراحة؛ لأن الذي يمارس الربا بالمخادعة جنى علة نفسه مرتين:
أولًا: الوقوع في الربا.
وثانيًا: مخادعة الله - عز وجل - وكأن الله - سبحانه وتعالى - لا يعلم.

وهذا يوجد كثيرًا في الناس اليوم الذين يتعاملون في الربا صريحًا، أمرهم واضح، لكن من الناس من يتعامل في الربا خيانة ومخادعة؛ تجد عنده أموالًا لها سنوات عديدة في الدكان، فيأتي الغني بشخص فقير يقوده للمذبحة والعياذ بالله!! فيأتي إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه البضاعة، ويبيعها على الفقير بالدين بيعًا صوريًّا، وكل يعلم أنه ليس بيعًا حقيقيًّا؛ لأن هذا المشتري - المدين- لا يقلب المال، ولا ينظر إليه، ولا يهمه، بل لو كان أكياسًا من الرمل ويبعث عليه على أنها رزٌّ أو سكر أخذها؛ لأنه لا يهمه؛ الذي يهمه أن يقضي حاجة فيبيعها عليه - مثلًا - بعشرة آلاف لمدة سنة، وينصرف بدون أن ينقلها من مكانها، ثم يبيعها هذا المدين على صاحب الدكان بتسعة آلاف - مثلًا - فيؤكل هذا الفقير من وجهين: من جهة هذا الذي ديَّنه، ومن جهة صاحب الدكان، ويقولون: إن هذا صحيح، بل يسمونه التصحيح، يقول قائلهم: تعال أصحح عليك، أو أصحح لك كذا وكذا. سبحان الله، هل هذا تصحيح؟!! هذا تلطيخ بالذنوب والعياذ بالله.

ولهذا يجب علينا - إذا كنا صادقين مع الله سبحانه وتعالى - في التوبة أن نقلع عن الذنوب والمعاصي إقلاعًا حقيقيًّا، ونَكْرَهَها، ونندم على فعلها؛ حتى تكون التوبة توبة نصوحًا.

وفي هذين الحديثين: دليل على أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس عبادة لله، وهو كذلك، فإنه أخشانا لله، وأتقانا لله، وأعلمنا بالله صلوات الله وسلامه عليه.

وفيه دليل على أنه - عليه الصلاة والسلام - مُعلِّم الخير بمقاله وفعاله.
فكان يستغفر الله، ويأمر الناس بالاستغفار؛ حتى يتأسوا به، امتثالًا للأمر، واتِّباعًا للفعل.


وهذا من كمال نصحه - صلوات الله وسلامه عليه - لأُمَّته. فينبغي لنا نحن أيضًا أن نتأسى به، إذا أمرنا الناس بأمر أن نكون أول من يمتثل هذا الأمر، وإذا نهيناهم عن شيء أن نكون أول من ينتهي عنه؛ لأن هذا هو حقيقة الداعي إلى الله، بل هذا حقيقة الدعوة إلى الله - عز وجل - أن تفعل ما تُؤمر به، وتترك ما تُنهى عنه، كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-يأمرنا التوبة وهو - عليه الصلاة والسلام - يتوب أكثر مِنَّا.

نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم صراطًا مستقيمًا. والله الموفق.

المصدر: « شرح رياض الصالحين »


ابوالوليد المسلم 18-10-2019 09:57 PM

رد: شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين
 
شرح أحاديث باب التوبة من كتاب رياض الصالحين (3)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين






عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، خَادِمِ رَسُولِ اللهِ - صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ»؛ متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: «للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ، فأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتى شَجَرَةً، فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا، وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ».

قوله - رحمه الله -: «خادم النبي صلى الله عليه وسلم»؛ وذلك أن أنسًا - رضي الله عنه - حين قدم النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينة أتت به أمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت له: هذا أنس بن مالك يخدمك، فَقَبِل النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك، وصار أنس من خدام النبي عليه الصلاة والسلام.

ذكر أنس - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: لله أشد فرحًا بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل الذي سقط على راحلته بعد أن أضلها، وذَكَرَ القصة: رجل كان في أرض فلاة، ليس حوله أحد، لا ماء ولا طعام ولا أناس، ضلَّ بعيره؛ أي: ضاع، فجعل يطلبه، فلم يجده، فذهب إلى شجرة ونام تحتها ينتظر الموت، قد أيس من بعيره، وأيس من حياته؛ لأن طعامه وشرابه على بعيره، والبعير قد ضاع، فبينما هو كذلك إذا بناقته عنده قد تعلق خطامها بالشجرة التي هو نائم تحتها، فبأي شيء يُقدَّر هذا الفرح؟ هذا الفرح لا يمكن أن يتصوره أحد إلا من وقع في مثل هذه الحال!! لأنه فرح عظيم، فرح بالحياة بعد الموت، ولهذا أخذ بالخطام فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، أراد أن يثني على الله فيقول: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك»، لكن من شدة فرحه أخطأ، فقلب القضية، وقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك».

في هذا الحديث من الفوائد:
دليل على فرح الله - عز وجل - بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك - سبحانه وتعالى - محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا؛ فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب - سبحانه وتعالى - يفرح، ويغضب، ويكره ويحب، لكن هذه الصفات ليست كصفاتنا؛ لأن الله يقول: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]؛ بل هو فرح يليق بعظمته وجلاله، ولا يشبه فرح المخلوقين.

وفيه دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال، ولو كان كفرًا سبق لسانه إليه؛ فإنه لا يؤاخذ؛ فهذا الرجل قال كلمة كفر؛ لأن قول الإنسان لربه: «أنت عبدي وأنا ربك»؛ هذا كفر لا شك، لكن لما صدر عن خطأ من شدة الفرح؛ أخطأ ولم يعرف أن يتكلم، صار غير مؤاخذ به، فإذا أخطأ الإنسان في كلمة؛ كلمة كفر؛ فإنه لا يؤاخذ بها، وكذلك غيرها من الكلمات؛ لو سب أحدًا على وجه الخطأ بدون قصد، أو طلَّق زوجته على وجه الخطأ بدون قصد، أو أعتق عبده على وجه الخطأ بدون قصد، فكل هذا لا يترتب عليه شيء؛ لأن الإنسان لم يقصده، فهو كاللغو في اليمين، وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225]؛ بخلاف المستهزئ فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئًا؛ لقول الله سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]، فالمستهزئ قصد الكلام، وقصد معناه؛ لكن على سبيل السخرية والهزء؛ فلذلك كان كافرًا، بخلاف الإنسان الذي لم يقصده؛ فإنه لا يُعتبر قوله شيئًا.



وهذا من رحمة الله - عز وجل - والله الموفق.

المصدر: « شرح رياض الصالحين ».






الساعة الآن : 02:46 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 38.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.67 كيلو بايت... تم توفير 0.22 كيلو بايت...بمعدل (0.56%)]