ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النقد اللغوي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=120)
-   -   من ملامح الصدق النفسي في النقد العربي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=282480)

ابوالوليد المسلم 16-09-2022 02:42 AM

من ملامح الصدق النفسي في النقد العربي
 
من ملامح الصدق النفسي في النقد العربي


د. وليد قصاب




تعدُّ ثنائية التقابُل "الصدق والكذب" في الأدب من قضايا النقد الأدبي الكبرى، وقد تعددَت مفاهيم هذين المصطلحين المتقابلين، وتنوَّعَت صورُهما وأشكالهما، وتفاوتَت آراء النقَّاد حولهما.



وكان مصطلحا "الصدق والكذب" في تراثنا الأدبيِّ من جملة المعايير النقديَّة التي استخدمَت في الحكم على الشعر والشعراء، وفي التقديم والتأخير، والمدح والذمِّ.



ومعيار "الصدق والكذب" معيارٌ نقدي قديم، بدأ منذ العصر الجاهلي:

عابت العربُ المهلهل بن ربيعة؛ لكذبه وتزيُّده في القول، وقالوا عنه: "كان يدَّعي في شعره، ويتكثَّر في قوله أكثر من فعله"[1].



وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه الشاعرُ المخضرم يقول:

وإنَّ أَشْعر بيتٍ أنت قائلُه ♦♦♦ بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه: صَدَقَا[2]



وهذه القضية هي - بطبيعة الحال - من مشكاة الدِّين والأخلاق؛ فالصدق والكذب قيمتان إسلاميَّتان، وردتا في القرآن الكريم، وفي حديث النبيِّ عليه الصلاة والسلام.



مُدِح بالصدق المؤمنون الصالحون، وذُمَّ بالكذب الكفار والفسَقة والطالحون، ويلاحظ أنَّ قضية الصدق والكذِب قد ارتبطت بالشعر دون النثر؛ لأنَّ الشعر مجاله التخييل أصلاً، الذي كان هو المعنِيَّ عند إطلاق مصطلح "الكذب".



وتتَّصل قضيَّة الصدق والكذب بمجموعة من القضايا؛ منها: قضية الشكل والمضمون، ومنها: قضيَّة صِلَة الشعر بالواقع والحياة والحقيقة، ومدى قدرته على التعبير عنها، وتتَّصل بقضية حُرِّية الإبداع، وما شاكَل ذلك.



وقد تحدَّث النقَّاد العرب عن ألوان متعدِّدة من الصِّدق، وسأتحدَّث في هذا المقال عن نوعٍ واحد من هذه الأنواع، وهو الصِّدق النَّفسي.



الصِّدق النفسي: هو لونٌ من ألوان الصِّدق الأدبي، هو صدق الدَّوافع إلى القول، أو صدق العاطفة إنْ شئتَ؛ وذلك بأن يصف القائلُ الأشياء - مادحًا أو ذامًّا - عن إحساس حقيقيٍّ، فهو إذًا من الصِّدق في التعبير عن النفس، وصدق الدَّوافع إلى القول، وقد يسمِّيه بعضهم: "الصِّدق الفنِّي".



وعدَّ بعضُهم من هذا القبيل "أصالَة الكاتب في تعبيره، ورجوعه إلى ذات نفسِه، لا إلى العبارات التقليدية المحفوظة، وهذا الصِّدق الفنِّي أو الأصالة هو أساس تقدُّم الفنون جميعًا"[3].



وقد عُرف هذا اللَّون من الصِّدق في النقد الأدبي عند العرب؛ عرفه الشُّعراء والنُّقَّاد معًا، واتخذ عندهم صورًا متعدِّدة.



وإليك طائفة من هذه الصُّور:

قد عبَّر عن هذا اللَّون من الصِّدق الشاعر سلامة بن جندل عندما قال له قومه: "مجِّدْنا بشِعرك"، فقال لهم: "افعلوا حتى أقول"[4].



فالشاعر هنا صادِق مع نفسِه، ومع عواطفِه، ولن يمدح قومَه إلاَّ إذا أتَوْا من الأفعال بما يستوجب المدحَ.



ومن قبيل هذا الصِّدق النفسي ما عبَّر عنه عمرو بن معدي كرب بقوله:

فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهم ♦♦♦ نطقتُ، ولكنَّ الرِّماحَ أجرَّتِ



أي: شَقَّتْ لساني، كما يُجرُّ لسان الفصيل؛ أي: أسكتَتْني رماحُهم عن القول؛ لأنَّه لم يكن منها أعمال أو انتصارات تُطلِق اللِّسان بالمدح والثناء.



قال المرزوقيُّ في شرح قول عمرو: "لو أنَّ قومي أبلَوْا في الحرب واجتهدوا، لافتخرتُ بهم، وذكرتُ بلاءهم، ولكنَّ رماحهم أجرَّت لساني كما يُجَرُّ لسان الفصيل..."[5].



ومن هذا القبيل كذلك قول الشميذر الحارثي:

بني عمنا، لا تذكروا الشِّعر بعدما ♦♦♦ دَفنتُم بصحراءِ الغُمَير القوافيا



قال المرزوقيُّ في شرحه: "دعوا التَّفاخر بالشعر؛ فإنكم قصَّرتم بصحراء الغُمير، ولم تُبلوا فيها، فتنطلق ألسنتكم لدى المساجلة، وتستجيب قوافي الشِّعر لكم إذا أردتُم نظمَها وإنشادها عند المنافرة والمحاكمة؛ لأنَّكم أمتُّم قوافي الشِّعر ودفنتموها، فكما أنَّ الميِّت لا يجيب إذا دُعيَ، كذلك لا يجيبكم الشِّعر إذا أردتموه مع سوءِ بلائكم، وقُبْحِ آثاركم..."[6].



ومثل ذلك من الصِّدق مع النفس في القول بيتُ عبديغوث بن وقَّاص الحميري:

أقول وقد شدُّوا لساني بنِسْعَةٍ: ♦♦♦ أمعشرَ تيمٍ أطلِقوا من لِسانيا



أراد: "افعلوا خيرًا، ينطلِقْ لساني بشكركم، فإن لم تفعلوا، فلِساني مشدود لا يقدر على مدحكم..."[7].



ومن هذا الصِّدق النفسي كذلك: كلامُ نصيب عندما مدح إبراهيم بن هشام، فلم يُعجبْه المديح، رآه بعيدًا عن المبالغة والتزيُّد، فقال لنصيب: ما هذا بشيء؛ أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق:

إنْ تغدُ من منقلَيْ نخلانَ مرتحلاً ♦♦♦ يرحَلْ عن اليمَنِ المعروفُ والجودُ



فغضب نُصيب، ونزع عمامتَه، وبرك عليها، وقال: "لئنْ تأتونا برجال مثل ابن الأزرق، نأتِكم بمثلِ مديح أبي دهبل، إنَّ المديح واللهِ يكون على قدر الرِّجال..."[8].



إنَّ جميع هؤلاء الشُّعراء الذين استشهدتُ بأقوالهم، عبَّرَت عن لون من الصِّدق مع الذات، وانطلقَت من منطلقٍ دينيٍّ أو خلقِ ي، فأبتْ أن تتزيَّد في القول، أو تُفْرط فيه، ورأت أنَّ الشعر لا يجود إلاَّ في الحقِّ، وأنَّه وحده الذي يُطلق اللِّسان، ويفكُّ عقال القول، فمن لم يقم - صدقًا وواقعًا - بما يستوجب الحمدَ أو الفخر، سكتَ الشِّعرُ عنه، وأَبى أن يُطاوع صاحبه فيه، ولم يكرهه الشاعر على زورٍ أو بهتان.



وقد عبَّر عن هذا الصِّدق النفسي، واستحسنه: ابنُ طباطبا، الذي كان من أنصار الصِّدق بجميع أشكاله، فقال: إنَّ المعاني "يتضاعف حُسن موقعها عند مستمعها، ولا سيما إذا أُيِّدَت بما يجلب القلوبَ من الصِّدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلِجة فيها، والتَّصريح بما كان يُكتم منها، وبالاعتراف بالحقِّ في جميعِها..."[9].



كما أشار إليه الآمديُّ عندما أورد أبيات البحتري:



أيذهبُ هذا الدَّهرُ لم يرَ موضعي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولم يدرِ ما مقدارُ حَلِّي ولا عقدي؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويكسُدُ مثلي وَهْو تاجرُ سؤددٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يبيعُ ثميناتِ المكارمِ والحمدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






فقال: "وهذا صدق أبي عبادة عن نفسه، وما كان له بدٌّ من أن ينفث، وما قال قولاً هو أصدقُ من هذا..."[10].





[1] الموشح 105.




[2] العمدة: 1 /114، وينسب كذلك لزهير، كما في ديوانه "شرح ثعلب" ص 79.




[3] النقد الأدبي الحديث؛ لمحمد غنيمي هلال: 223.




[4] الموشَّح: 105.




[5] شرح حماسة أبي تمام: 1/ 162.




[6] السابق: 1/ 124.





[7] ذيل الأمالي: 132.




[8] الأغاني: 1/ 363، والمنقل: الطريق في الجبل، ونخلات من نواحي اليمن.




[9] عيار الشِّعر: 24.




[10] الموازنة: 2/ 261.



الساعة الآن : 11:25 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 13.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 13.04 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.71%)]