شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان معرفة شعب الإيمان وفقهها (الحلقة الأولى)
إن معرفة شُعَب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شُعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك قمت بشرحها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. معنى «شُعَبُ» لغة: شعب جمع شعبة، والشُّعْبَةُ بالضَّمِّ: الفِرْقَةُ والطَّائِفَةُ من الشَّيْءِ. وفي يَدِه شُعْبَةُ خَيْرٍ مَثَلٌ بِذلِكَ. ويقال: اشْعَبْ لِي شُعْبَةً مِنَ الْمَالِ، أَي أَعْطِنِي قِطْعَةً مِنْ مَالِك. وفي الحديث: «الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الإِيمان» أَي: طَائِفَةٌ مِنْه وقِطْعَة. معنى «الإيمان»: الإيمانُ: مصدر آمَنَ يُؤْمِنُ إيمانًا فهو مُؤْمِنٌ، واتَّفق أَهلُ العلم من اللُّغَويّين وغيرهم: أَن الإيمانَ معناه التصديق، قال الله -تعالى-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 14). ومعنى شعب الإيمان: أي أجزاء وطوائف وفرق الإيمان؛ ولهذا نجد الإمام البيهقي جمع هذه الأجزاء والشعب وهي متنوعة ما بين التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والإذعان والانقياد بعمل الجوارح، من هنا نعرف أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة له شعب متعددة، وليس كُلًّا لا يتجزأ، ومعلوم أيضًا أنَّ الناس ليسوا في درجة إيمانهم سواء، فإيمان أبي بكر الصديق ليس كإيمان آحاد الناس، وليس كإيمان الأعراب. حديث شعب الإيمان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»، والرواية الأتم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». المعنى الإجمالي للحديث في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعبٍ وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلّها والحقيقة تقتضي جميع شعبه وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء شعبة من الإيمان»، وفيه إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته. ويدل الحديث على أن التزام الطاعات وضم هذه الشعب، هو من جملة التصديق والدلائل على الإيمان، وأنها خُلق أهل التصديق، فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي، ولا عن معناه اللغوي، وقد نبه النبيُّ -[- على أن أفضلها: التوحيد المتعين على كل أحد، الذي لا يصح شيء من الشُّعب إلا بعد صحته، وأدناها: ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، يبقى بين هذين الطرفين أعداد لو تكلَّف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن، وشدة التتبع لأمكنه، وقد فعل ذلك بعض من تقدم، ويصعب الحكم بأن ذلك مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان؛ إذ أصول الإيمان وفروعه معلومةٌ محققةٌ، والإيمان بأنها بهذا العدد واجب في الجملة، هذا كلام القاضي عياض. حرص العلماء على تتبع شعب الإيمان أمثلة على حرص العلماء على تتبع شعب الإيمان في مصنفاتهم:
ذكر من أحصى خصال الإيمان «وقد انتدب لعدِّ شعب الإيمان طائفة من العلماء كالحليمي، والبيهقي، وابن شاهين وغيرهم، فذكروا أن كل ما ورد تسميته إيمانًا في الكتاب والسنة من الأقوال، والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعًا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين، وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح -وهو كما قال-»، وقد تكلم الراغب في كتاب: «الذريعة» له على حصرها في هذا العدد، ذكره ابن عبدالبر. مسألة مهمة مسألة: إذا كانت خصال الإيمان تزيد على البضع والسبعين، فلماذا جاء الحَصْر بهذا العدد؟ ويمكن أن يُجاب عن هذا بأجوبة:
تعريف الإيمان قبل الشروع في شرح شعب الإيمان شعبةً شعبةً أحببت أن أقدم بمقدمة عن تعريف الإيمان عند أهل السُنَّة والجماعة والفرق المخالفة مع تنبيهات لطيفة أضفتها.
(2) مذهب المعتزلة: ذهبت المعتزلة إلى أن الإيمان يتركب من ثلاثة: إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، وهو كل عمل خير فرضًا كان أو نافلة، مع ترك المقبحات، فهم يعدون الطاعات بجميع أنواعها إيمانًا، فالمعتزلة يوافقون السلف في تعريف الإيمان من هذه الجهة، وإنما الخلاف بينهم وبين السلف، هو أنهم يجعلون الإيمان كلًّا لا يتجزأ، فإذا ذهب البعض ذهب الكل، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص أبدًا، وهم متفقون في ذلك مع الخوارج؛ ولذا، فقد حكموا بخلود مرتكب الكبيرة في النار، وإن لم يكفروه، وإنما أخرجوه من الإيمان وجعلوه بمنزلةٍ بين المنزلتين، فهو عندهم في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وبهذا فإنهم يوافقون الخوارج في الحكم الأخروي دون الدنيوي؛ إذ الخوارج ينبني على تكفيرهم لمرتكب الكبيرة في الدنيا استحلال دمه وماله وعرضه كما الكافر الأصلي. (3) مذهب المرجئة: ذهب المرجئة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والقول باللسان، وأنَّه لا يزيد ولا ينقص؛ فمن صدق بالقلب ونطق بالشهادتين فقد استكمل الإيمان، وإن لم يعمل بجوارحه؛ إذ العمل خرج عن مسمى الإيمان عندهم. (4) مذهب الجهمية: ذهب الجهمية إلى أن الإيمان هو مجرد معرفة الله لا غير، والإيمان عندهم واحد لا يتجزأ، وأهله فيه سواء، فهو لا يزيد، ولا ينقص، وعلى هذا الأساس يكون الشيطان مؤمنًا؛ لأن عنده معرفة بالله، وهذا ضلال كبير لا يقوله عاقل. (5) مذهب الكَرَّامية: وأما الكَرَّامية فإن الإيمان عندهم هو مجرد الإقرار باللسان، ولو من غير تصديق، فإن أقر بأمور الإيمان ظاهرًا فهو مؤمن بإقراره، ولا يلزمه غير ذلك، وهذا قول مردود؛ لأن المنافقين على هذا القول مؤمنون كاملو الإيمان. (6) مذهب الأشاعرة: اختلفت أقوال الأشاعرة في حقيقة الإيمان: فجمهورهم على أن الإيمان شيء واحد لا يتركب، وهو التصديق بالقلب دون غيره. وإليه ذهب أبو الحسن الأشعري في قوله القديم، وابن الراوندي، والحسين بن الفضل البجلي، قال الباقلاني: «واعلم أن حقيقة الإيمان هو: التصديق». (7) مذهب الفلاسفة: واشتَهر منهم عند المسلمين إخوان الصفا، وكذا ابن عربي، وابن رشد، وابن سينا، وهم طائفة نظرت في كتب فلاسفة اليونان؛ كأرسطو، وأفلاطون الإسكندري، فآمنوا بما فيها من خزعبلات، ظنا منهم أن الفلاسفة لا يخطئون؛ لأنهم يجرون في بحثهم على مقتضى البرهان، ثم حاولوا -عبثًا وتملقًا إلى المسلمين، وسترًا لزندقتهم- أن يوفقوا بين الفلسفة وعقائد الدين، فأخذوا يتلاعبون بالنصوص بما يوافق فلسفتهم، فضلوا وأضلوا، وقد انبرى كثير من العلماء للرد عليهم والكشف عن تلبساتهم، ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد خالفوا الجميع في حقيقة الإيمان وفي أصول الإيمان: فإيمانهم بالله: يقولون هو موجود لا حقيقة له، ولا ماهية، ولا هو يعلم الجزئيات بأعيانها، ولا يفعل بقدرته ومشيئته، والعالم لازم له أزلًا وأبدًا، وليس مفعولًا، ولا مخلوقًا، ولا مقدورًا عليه. وأما إيمانهم بالكتاب: فالقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال، على قلب بشر زاكي النفس، طاهر متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: (قوة الإدراك وسرعته، وقوة النفس، وقوة التخييل)، وهم بذلك ينفون الرسالات، ويبطلون النبوات، ويزعمون أن الإنسان يمكن أن يصل إلى مرتبة الرسالة بهذه الثلاث صفات. وإيمانهم بالملائكة: قالوا: إن الرسول تخيل القوى الفعلية في أشكال محسوسة، فهي أمور ذهنية لا وجود لها في الخارج. وإيمانهم باليوم الآخر: فهم أشد الناس تكذيبًا له في الأعيان، وعندهم أن كل ما ذكر عن يوم القيامة أمثال مضروبة لتفهم العوام، لا حقيقة لها في الخارج، كما يفهم منها أتباع الرسل. اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. أسباب زيادة الإيمان وضعفه
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي، لذلك قمت بشرحها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. مسألة: هل يتفاوت الإيمان؟ قال الطحاوي: «والإيمان هو: (الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرع والبيان كله حقٌّ، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية، والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى)»، وهذا التعريف استدرك عليه أهل العلم؛ حيث قال الشيخ محمد بن مانع في تعليقه على متن الطحاوية: «والحق الذي لا إشكال فيه، أن الإيمان متفاوت في أصله، فإيمان آحاد الناس ليس كإيمان جبريل، ولا إيمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والقول بأن الناس في أصل الإيمان سواء، ليس من عقائد أهل السُنَّة». وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في تعليقه على متن الطحاوية: «هذا غلط؛ لأن الإيمان ليس واحدًا، وليس أهله سواء، بل الإيمان يتفاضل، ويزيد وينقص، إلا عند المرجئة، والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواء، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين؛ لأن الفاسق من المسلمين إيمانه ضعيف جدا، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان الأمة كلها؛ فليس الناس في أصله سواء، هذا من ناحية أصله، كذلك من ناحية العمل، الناس يتفاضلون في العمل». الفرق بين الإيمان والتصديق لاحظ العلماء الفرق بين مدلول الإيمان الشرعي، ومدلوله اللغوي، وهذا ملحظ دقيق لهم، يقول العلامة ابن عثيمين: «وأما قولهم: الإيمان في اللغة التصديق ففيه نظر؛ لأنه يقال: آمنت بكذا، وصدقت فلانًا، ولا يقال: آمنت فلانًا، بل يقال: صدَّقه، فصدَّق فعل متعدٍّ، وآمن فعل لازم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -تعالى-- باستفاضة في كتابه: كتاب الإيمان. وقولنا: الإيمان المستلزم للقبول والإذعان، احترازًا مما لو أقر لكن لم يقبل، كأبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أقر بالنبي -صلى الله عليه وسلم - وأنه صادق، لكن لم يقبل ما جاء به -نسأل الله العافية- ولم يُذعن ولم يتابع، فلم ينفعه الإقرار، فلابد من القبول والإذعان. ولذلك يخطئ خطأ كبيرًا من يقول: إن أهل الكتاب مؤمنون بالله، وكيف يكون ذلك وهم لم يقبلوا شرع الله، ولم يذعنوا له؟ فاليهود والنصارى حين بعث رسول الله كفروا به، وليسوا بمسلمين، ودينهم دين باطل، ومن اعتقد أن دينهم صحيح مساوٍ لدين الإسلام، فهو كافر خارج عن الإسلام، فالإيمان قبولٌ وإذعانٌ». قلت: هذا الفرق بين المفهوم اللغوي للإيمان، والمفهوم الشرعي، الذي ينبني عليه آثار كثيرة، جدير بطالب العلم الاهتمام بها. الأدلة على زيادة الإيمان قرر علماء السلف أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وكان من هديهم تعاهد الإيمان بين فترة وأخرى، حتى إن أحدهم ليقول لصاحبه: «تعال بنا نؤمن ساعة»، وهذا دليل على فقههم وحرصهم على ما ينفعهم، فعن الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: «اِجْلِسْ بِنَا نُؤْمِن سَاعَة» وفي رواية: «كَانَ مُعَاذ بْن جَبَل يَقُول لِلرَّجُلِ مِنْ إِخْوَانه: اِجْلِسْ بِنَا نُؤْمِن سَاعَة، فَيَجْلِسَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّه -تعالى- وَيَحْمَدَانِه»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يَخْلَق الثوب، فاسألوا الله أن يُجَدِّدَهُ». ومن المعلوم أن الفتن تزداد في آخر الزمان، وهذا يستلزم تعاهد المرء لإيمانه، وتفقده له، هل هو في زيادةٍ وثَبَاتٍ، أم هو في نقص وتضعضع؟ وهذه بعض أسباب زيادة الإيمان: أولًا: العلم بالله -تعالى- العلم بالله -تعالى-، وتأمل أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملاحظة أثر معانيها العظيمة على سلوك الفرد وتصرفاته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا كُلَّهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وقال -سبحانه-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:180)، فإذا نظر العبد مثلًا إلى صفة العلم لله -تعالى-، وأن علمه وسع كل شيء، ثم ملأ بها قلبه، ثم أدام استحضارها طوال اليوم، أورثه ذلك الترقي في مدارج الكمال، ويكون حقق معنى قوله -صلى الله عليه وسلم -: «من أحصاها دخل الجنة». وهكذا، فإذا أخذ العبد من أسماء الله -تعالى- وصفاته، أخذ منها معانيها وآثارها، وانعكست على سلوكه وقلبه وروحه، فيكون بحق قد أتى بمعاني العبودية لله -تعالى-. ثانيًا: تعلم العلم الشرعي وتدبر القرآن قال -تعالى-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة: 124) وفي هذه الآية دليل على أن زيادة العلم الشرعي تستلزم زيادة الإيمان بالله -تعالى-، وجاء في السنة المطهرة من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ، كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». ومعنى القوة هنا قوة الإيمان، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، فالفقه في الدين علامة خير، ودليل على اصطفاء الله -تعالى- لعبده بهذا العلم. ثالثًا: دراسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - بدراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقف المسلم على هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم -، في عبادته، وسلوكه، ودعوته، وصبره، وجهاده، وكيف واجه الفتن المختلفة؟ وكيف ثبت أمامها؟ حتى كان بحق كما قال ربنا -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)؛ فواجب على كل من أراد -النجاة والسلامة-، التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم - وتعلم سيرته وهديه. رابعًا: دراسة سيرة الخلفاء الراشدين بدراسة سير الصحابة -ولا سيما الخلفاء الراشدون وكبار المهاجرين والأنصار- يعرف المسلم مقدار ما بذلوه من جهد في وقت الشدائد والفتن المدلهمة، وكيف صبروا على ما كُذِّبوا وأُوذوا حتى جاءهم نصر الله، وبذلك يقوى إيمان العبد، وتعلو همته للمطالب العالية، وترك السفاسف والدنايا. خامسًا: العمل الصالح وهذا يشمل عمل القلب، وهو إيمانه، وتصديقه، وخشيته، وتوكله، وإنابته لله -تعالى-، كما يشمل عمل اللسان، وهو نطقه وإقراره، كما يشمل عمل الجوارح، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبهذا يكمل إيمان العبد. سادسًا: التأمل في آيات الله الكونية لقوله -تعالى-: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105)، وقال -سبحانه-: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21)، وكلما أكثر الْمَرْءُ من التأمل في الآيات الكونية والإنسانية، وكان لديه العلم الشرعي والبصيرة في الدين، أورثه هذا زيادة في الإيمان قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 28)، وهناك أسباب أخرى لزيادة الإيمان ولكننا نكتفي بهذه اختصارًا. أسباب ضعف الإيمان الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الإيمان وربما إلى زواله بالكلية كثيرة جدا، وهي مبسوطة في مواضعها، وأذكرها هنا اختصارًا وأشير لأهمها، وإن كانت هي في الجملة تعود إلى التهاون في أداء الواجبات، والإفراط في المحرمات، ويمكن إرجاعها إلى أسباب ظاهرة، وأسباب خفية. أولًا: الأسباب الظاهرة لضعف الإيمان 1 - الشيطان: وهو أصل مادة الشر، وهو عدو للخليقة، كما أخبر -سبحانه-، قال -تعالى-: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 6)، كما أمرنا -سبحانه- أن نعاديه، ونخالفه، ونحاربه، ونستعيذ بالله منه؛ فالشيطان يحرص على كل المداخل التي ينفذ من خلالها لابن آدم، ليدعوه إلى عذاب السعير، فيغتنمها ليختلس منه شيئًا، قال -تعالى- حكاية عن الشيطان: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17). والطريق للنجاة من كيده، الاستعاذة بالله، واللجوء إلى الله، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201).2 - الجليس السوء: الجليس السوء من أسباب ضعف الإيمان؛ لأن المرءَ على دين صاحبه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «المَرءُ على دين خَليله فلينظرْ أحدُكم من يُخاللْ»، وكم من امرئ سَوْءٍ أثَّر في جلسائه حتى أوردهم المهالك! والعكس صحيح، فكم من إنسان صالح أثَّر في جُلسائه حتى أدركوا المعالي، وسبقوا إلى المكارم! وللنجاة من الجليس السوء أسباب من أهمها: اختيار الجليس الصالح، والبعد عن جليس السوء، وتعلم العلم النافع. 3 - فتنة الدنيا: وهذه تنقسم إلى شهوات وشبهات، أما في الشهوات فقال -سبحانه-: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59)، وهذه الآية تدل على التلازم بين تضييع الواجبات، واتباع الشهوات، ذلك أن النفس البشرية لا يمكن أن تعيش بفراغ، فإذا تركت الواجب انشغلت بالمحرم، أما في الشبهات فقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7)، وهؤلاء أهل الزيغ يتركون المُحْكم الواضح، ويعمدون للمتشابه لمرض في قلوبهم، ولأنهم أرادوا الفتنة والتحريف، وما أرادوا الخير والالتزام، ولا يسلم في الغالب أحدٌ من فِتنة الشَّهوة، أو الشُّبْهَة إلا من رحم الله؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ قبل السلام ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»، فجمع في دعائه - صلى الله عليه وسلم - بين الاستعاذة من فتنة الشبهة والشهوة. اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
https://al-forqan.net/wp-content/upl.../08/كتاب-0.jpg شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الأسباب الخفية لضعف الإيمان
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تفاوت الإيمان وأسباب زيادته والأسباب المؤدية لضعفه واليوم نكمل هذا الموضوع بالحديث عن الأسباب الخفية لضعف الإيمان. ثانيًا: الأسباب الخفية لضعف الإيمان 1 - الجهل وهذا يشمل الجهل بالله، والجهل بدينه، والجهل بشؤم المعاصي، وآثارها النفسية، والسلوكية، والمادية وغيرها، قال -تعالى-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 17)، فكل من عصى الله فهو جاهل بالله. 2 - المعاصي والذنوب المعاصي والذنوب من أسباب ضعف الإيمان ونقصه، والمعاصي منها الكبائر، ومنها أكبر الكبائر، ومنها الصغائر، ومنها اللمم، أما الكبائر فهي: الزنى، وشرب الخمر، والسحر، والتولي يوم الزحف، وأما أكبر الكبائر؛ فعنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ»، «أما اللمم: وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجًا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء»، قال -تعالى-: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم: 32)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ما رأيتُ شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله -تعالى- كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لامحالة، فَزِنَى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه». 3 - النفس البشرية من طبيعة النفس البشرية سلوك دروب الشر، والميل إلى مسالك الشيطان، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، قال -تعالى-: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53)، يقول العلامة السعدي في تفسير هذه الآية -رحمه الله تعالى- أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مَرْكَب الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من شرور النفس: «أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه». 4 - الغفلة والإعراض الغفلة من طبيعة النفس البشرية، ولا يكاد يسلم منها إنسان، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليغان على قلبي؛ فأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلات عَن الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا، فإذا كان هذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فكيف بحال من دونه من الناس؟! قال -تعالى- عن الغفلة: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (يونس: 92)، أما الإعراض فقال -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة: 22)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي: لا أظلم ممن ذَكَّرَه الله بآياته، وبيّنها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها، كأنه لا يعرفها». 5 - النسيان النسيان إذا كان المقصود به إهمال الأوامر الشرعية فهو فتنة لصاحبه، قال -تعالى-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 19)، قال الإمام الطبري في تفسيره: «فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات»، ومعنى هذا؛ أن الإنسان لا يعتني بما ينفعه في الدار الآخرة ويكون همّه الدنيا فقط فلا يعمل لآخرته. 6 - طول الأمل طول الأمل والأماني مع تحقق الإلف والعادة، يورث قسوة القلب ويعد من غرور الشيطان، ولاسيما مع الغفلة، وإلف العادة، وهي من أسباب ضعف الإيمان، وقسوة القلب، قال -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16)، قال الإمام الطبري في تفسيره: ويعني بقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ}: ما بينهم وبين موسى -عليه السلام-، وذلك الأمد الزمان، وهذا مشاهد؛ أنه كلما بعُد الناس عن مشكاة النبوة والرسالة، قلّ العلم، وضعف الدين، وظهرت الأقاويل والشبهات، وكلما اقترب الناس من عصر النبوة والرسالة، ظهر العلم، وظهر الدين، وهذا ملموس في الإسلام؛ حيث يلحظ الفرق بين الصدر الأول للإسلام، وبين حال المسلمين في آخر الزمان، قال العلامة السعدي في تفسير قوله -تعالى-: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ} أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولم يثبتوا، بل طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، وهذا المعنى موافق لما جاء في الحديث الذي يرويه الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -». علامة قوة الإيمان علامة قوة الإيمان سرعة الامتثال لأمر الله ورسوله وتصديق الوحي: إن للإيمان علامة يُعرف بها إن كان قويًا أو ضعيفًا، وهي ترجع إجمالًا إلى سرعة الامتثال لكلام الله -تعالى-، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36)، كما أن الرغبة في الصالحات، وإيثار الآخرة على الدنيا، والإيمان بالغيب؛ كلها علامات يُعرف بها قوة إيمان العبد. أمثلة من السنة المطهرة وهذه بعض الأمثلة من السنة المطهرة التي تبيّن سرعة الاستجابة، وعدم التردد في الامتثال لأوامر الله -تعالى-. 1 - تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصديق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثة الإسراء: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما أسْرِيَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه ، فقالوا: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوَتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق». 2 - ترك متاع الدنيا والإقبال على الآخرة كما حدث في غزوة أحد لما أخذ الصحابي عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ تمرات ثم سمع رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا. فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ». 3 - امتثال النساء لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن بالصدقة في خطبته - صلى الله عليه وسلم - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْداللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّه، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال:َ لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ»، وحينما أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها مَسَكَتان غليظتان من ذهب فقال لها: «أتعطين زكاة هذا»؟ قالت لا: قال: «أيسرك أن يسوّركِ الله بهما يوم القيامة سوارين من نار»؟ فقالت: هما لله ولرسوله. 4 - المسارعة في الصدقات إيثارًا للآخرة على الدنيا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فَمُرْهُ أن يعطيني أقيم حائطي بها. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعطها إياه بنخلة في الجنة» فأبى. وأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي، قال: ففعل، قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي فجعلها له. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة» مرارًا، فأتى امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فإني بعته بنخلة في الجنة، فقالت: قد ربحت البيع أو كلمة نحوها. علامة ضعف الإيمان ومرضه
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الأول (مِنْ شُعَبِ الإيمَانِ): الإيمَانُ باللَّهِ -تعالى-
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك قمت بشرحها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ لِقَوْلِهِ -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285)، ولقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} (النساء: 136)، ثُمَّ ساقَ فِيهِ حَديث أَبِي هُرَيْرَةَ -]- المُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحيْن: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسِ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلاَّ الله، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ، وَمَالَهُ، إلا بِحَقِّه وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ -تعالى-»، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - في صَحِيحِ مُسْلِم: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ الله، دَخَلَ الْجَنَّة». الشرح
الدخول في شرائع الإيمان قال ابن كثير: «يأمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه»، يقول العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-: «اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرًا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} (النساء: 47)، وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء، فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه، ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان؛ فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات، والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضًا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده، فإن ذلك من الإيمان المأمور به، وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة». عصمة الدماء بكلمة التوحيد ثم ساق فيه حديث أبي هريرة ت المتفق عليه في الصحيحين: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله -تعالى-». معاني المفردات
لا يجوز القتل إلا بشروط والمقاتَلَة غير القتل، والقتل: أن يقتل شخصًا بعينه، ولهذا نقول: ليس كلما جازت المقاتلة جاز القتل؛ فالقتل أضيق، ولا يجوز إلا بشروط معروفة، والمقاتلة أوسع، ومثاله قوله -تعالى-: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9)، والمقاتلة هنا المدافعة، وليس المقصود القتل المجرد؛ إذ المقصود حملهم على الصلح، ومثاله في السنة في حديث المار بين يَدَيْ المصلي؛ حيث جاء فيه «فإن أبى فقاتله»، وليس المقصود القتل، بل المدافعة والمنع.
معنى قوله: (لا إله إلا الله) أي لا معبود بحقٍّ إلا الله.
من أتى بالتوحيد فقد دخل الإسلام ويقول سماحة الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- في شرح الحديث: من أتى بالتوحيد والإيمان بالرسالة، فقد دخل في الإسلام، ثم يُطالَب بحق الإسلام، فيُطالَب بالصلاة، والزكاة، والصيام والحج، وغير ذلك، فإن أدَّى ما أوجب الله عليه، فهو مسلم حقًا، وإن امتنع عن شيء أخذ بحق الله فيه، وأُجْبِرَ وأُلْزِمَ بحقوق الله التي أوجبها على عباده، وهذا هو الواجب على جميع من دخل في دين الإسلام أن يلتزم بحق الإسلام، فإن لم يلتزم أخذ بحق الإسلام، ثم ساق حديث عثمان بن عفان -]- في صحيح مسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة». المعنى الإجمالي هذا الحديث فيه بيان سعة رحمة الله -تعالى- وفضل كلمة التوحيد، فكل من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة، ومعنى هذا العموم دخول طوائف كثيرة من الناس الجنة لانطباق الحديث عليها. معاني المفردات
فوائد الإيمان بالله
أثر الإيمان بالله -تعالى- على سلوك المسلم
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الشعبة الثانية: الإيمَانُ بِرُسُلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الشعبة الثانيةمن شعب الإيمان هي: الإيمَانُ بِرُسُلِ اللهِ -عزوجل-، و-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسلم- أَجْمَعِيْنَ؛ لِقَوْلِهِ -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285)، وَلِحَدِيثِ عُمَر بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - في الصَّحِيحَيْنِ في سُؤَالِ جِبْرِيلَ -عليه السلام- عَن الإيمَانِ فَأَجَابَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تْؤْمِنَ باللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبَهَ، وَرُسُلِهِ... الْحَدِيْثُ». وقوله: «الإيمان برسل الله -عزوجل-، و-صلى الله عليهم وسلم- أجمعين »، أي: تصديقهم بما جاؤوا به عن الله -تعالى- ، وهو ركن من أركان أعمال القلب يزول الإيمان بزواله. الشرح قوله: «لقوله -تعالى- {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285)، ومعنى الآية الكريمة: يعنى يقولون: آمنا بجميع الرسل، ولا نكفر بأحد منهم، ولا نفرق بينهم، كما فرقت اليهود والنصارى، ويقول العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-: «الإيمان بجميع الرسل والكتب، أي: بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله، بل يؤمنون بجميعهم؛ لأنهم وسائط بين الله وبين عباده، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله». قوله: «ولحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الصحيحين في سؤال جبريل -عليه السلام- عن الإيمان فأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. الحديث»، ونص الحديث: «عن عمر - رضي الله عنه - قال: «بينما نحن عند رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ، لا نرَى عليه أثرَ السفرِ ولا نعرفُه، حتَّى جلس إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتَه إلى ركبتِه ووضع كفَّيهِ على فخذِه ثمَّ قال: يا محمدُ أخبرْني عن الإسلامِ، ما الإسلامُ؟ قال: أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهَ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ وتقيمَ الصلاةِ وتؤتيَ الزكاةَ وتصومَ رمضانَ وتحجَّ البيتَ إنِ استطعتَ إليه سبيلًا، قال: صدقتَ: قال عمرُ: فعجِبنا له يسألهُ ويصدقُه، فقال: يا محمدُ أخبرني عن الإيمانِ ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أنْ تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ والقدرِ كلِّه خيرِه وشرِّه، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسانِ ما الإحسانُ؟ قال: أنْ تعبدَ اللهَ كأنك تراهُ فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراكَ، فقال: أخبرني عن الساعةِ متى الساعةُ؟ قال: ما المسئولُ عنها بأعلمَ من السائلِ، فقال: أخبرني عن أماراتِها، قال: أنْ تلدَ الأمةُ ربَّتها وأنْ ترَى الحفاةَ العراةَ العالةَ رعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البناءِ، قال: ثمَّ انطلقَ الرجلُ، قال عمرُ: لبثتُ ثلاثًا ثمَّ قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا عمرُ أتدري من السائلُ؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: فإنه جبريلُ -عليه السلام- أتاكم يعلِّمَكم دينَكم». ومحل الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ورسله» أي: أن تؤمن برسل الله، والمراد بالرسل من البشر، وأول الرسل نوح -عليه السلام- وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. هم أعلى طبقات البشر والرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم أعلى طبقات البشر الذين أنعم الله عليهم، قال الله -تعالى-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69). فهذه أربعة أصناف، والرسل أفضلهم خمسة، هم أولو العزم، ذُكروا في قول الله -تعالى-: {إِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7)، وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم». من فوائد شعبة الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- (1) أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل، فلو آمن أحد برسوله وأنكر من سواه، فإنه لم يؤمن برسوله، بل هو كافر، واقرأ قول الله -تعالى-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (الشعراء: 105)، مع أنهم إنما كذبوا نوحًا ولم يكن قبله رسول، ولكن تكذيب واحد من الرسل تكذيب للجميع، وكذلك تكذيب واحد من الكتب في أنه نزل من عند الله، تكذيب للجميع. (2) الإيمان بجميع الرسل -عليهم السلام- واحترامهم وتوقيرهم عقيدة كل مسلم ومسلمة، بخلاف عقيدة اليهود القائمة على السخرية من الرسل، وعقيدة النصارى القائمة على الكفر بالرسل، وعلى رأسهم سيدهم وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن الغريب أن يرمي الكفار المسلمين بالتطرف والغلو وعدم الاعتراف بالآخر، وهذه من المفارقات العجيبة في آخر الزمان التي يروجها الإعلام. (3) هناك من شرائع الرسل ما يعد شريعة لنا ولم ينسخ، ومنها: الصلاة والصيام، إلا أن الصلاة عند الأمم السابقة لا تكون إلا في الصوامع والكنائس، وأما في شريعتنا فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة». وأما الصيام فيقول الرَسُولَ - صلى الله عليه وسلم -: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»، وهناك من شرائع الرسل ما نسخ في شريعتنا مثل: عقوبة السارق؛ فعند النصارى يُسترق، وعندنا تقطع يده، إلا أن عقيدة جميع الرسل عقيدة واحدة لم تتغير، قال -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285). (4) بيان حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يجلس مع أصحابه ويجلسون إليه، وهذا من تواضعه - صلى الله عليه وسلم -. (5) بيان جلوس الأصحاب إلى شيخهم ومن يفوقهم، لكن هذا بشرط: إذا لم يكن فيه إضاعة وقت الشيخ ومن يفوقه علمًا؛ لأن بعض الناس يأتي إلى من يحرص على وقته ويستغله في العلم، فيجلس عنده ويطيل الحديث، فالحريص على وقته، يتململ ويوري مثلًا بقِصَر الليل أو ما أشبه ذلك، بينما الآخر -لشدة محبته له والتحدث إليه- يبقى. الشعبة الثَّالِثة: الإيمَانُ بالْمَلاَئِكَةِ وذلك لقوله -تعالى- {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285))، ولِحَدِيثِ عُمَر بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - في الصَّحِيحَيْنِ في سُؤَالِ جِبْرِيلَ -عليه السلام- عَن الإيمَانِ فَأَجَابَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تْؤْمِنَ باللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبَهَ، وَرُسُلِهِ... الْحَدِيْثُ». الشرح (الإيمان بالملائكة) هو ركن من أركان أعمال القلب، يزول الإيمان بزواله.
فوائد الإيمان بالملائكة وأثره على المسلم (1) التخلق بأخلاقهم الكريمة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة». (2) البعد عما يؤذيهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل من هذه البقلة (الثوم)، وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم». (3) الاستحياء منهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة». (4) ملاحظة حفظ الله -تعالى- ورعايته للناس؛ حيث لم يتركهم هملًا، بل أوكل من يحفظهم لقوله -تعالى-: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 11). (5) استشعار علم الله -عزوجل- وإحاطته بجميع خلقه، ومن ذلك قرب الملائكة من بني آدم وإحاطتهم بهم في بداية حياتهم ومماتهم، ففي بداية الحياة، وهذا ما بيَّنه حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، وفي ختام الحياة يبينه قول الله -تعالى-: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة: 11). اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الشعبة الرَّابِعة مِنْ شُعَبِ الإيمَانِ: الإيمَانُ بِالْقُرْآنِ وَجَمِيع الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلِهِ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الشعبة الرابعة من شعب الإيمان هي الإيمان بالقرآن وجميع الكتب المنزلة قبله، ودليله قَوْلِ الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} (النساء:136) وَلِلْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُوْرَيْنِ أَيْضًا، يعني من حيث أصول الإيمان، فالإيمان بجميع الكتب أصل من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة، والقرآن هو آخرها، وبه نُسخت جميع الشرائع، فالواجب الإيمان بالقرآن، وجميع الكتب المنزلة قبله، وهو ركن من أركان أعمال القلب، يزول الإيمان بزواله. قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْل} (النساء: 136)، ومعنى الآية الكريمة: توجيه الخطاب لجميع المكلفين بالدخول في الإيمان أو بتكميل ما نقص منه، وهنا قد يقول قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم «مؤمنين»؟ توجيه بالنقل عن ثلة من أئمة التفسير
الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور
فوائد الإيمان بالكتب (1) القيام بشكر الله -تعالى- على إنزاله الكتب، وبيان الشرائع؛ لتعريف البشر طريق الوصول إلى جنته ورضوانه، قال -تعالى-: {إِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24). (2) بيان فضل القرآن الكريم وهيمنته على الكتب السابقة: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87). (3) معرفة سماحة الدين الإسلامي، فلا رهبانية فيه، ولا آصار، ولا أغلال، كالتي كانت في الشرائع السابقة. (4) ولله كتب غير ما سَمَّى لنا في القرآن، نؤمن بها إجمالًا؛ لقوله -تعالى-: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء: 164) وهؤلاء الرسل الذين جاء ذكرهم؛ جاؤوا بكتب من عند الله -تعالى-. (5) الكتب التي سماها الله هي: التوراة، وأنزلت على موسى، والإنجيل، وأنزل على عيسى -عليه السلام-، والزبور، وأنزل على داود -عليه السلام-، وصحف إبراهيم وموسى ، والقرآن، وأنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم-، وهذه الكتب هي كلام الله حقيقة، ونور وهدى، وما تضمنته حق وصدق، ويجب الإيمان بها، قال -تعالى-: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} (الشورى: 15). اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان … الشعبة الخامسة: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِنْ اللَّهِ عزّ وجل
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
العبد ذو ضَجَرٍ والرب ذو قَدَرٍ والدهر ذو دُوَلٍ والرزق مقسومُ والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللّوم والشُّومُ الشرح: قوله: «الإيمان بأن القدر خيره وشره من الله -عزوجل-»: وهو ركن من أركان أعمال القلب يزول الإيمان بزواله، فالإيمان بالقدر: أن يعتقد المؤمن أن كل شيء في هذا الكون مخلوق بقدر -يعني بصفة وزمن-، فلا يقع شيء في هذا الكون -سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا-؛ إلا وهو بقضاء الله وقدره، والإيمان بالقدر: (هو التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا مَحيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، وأنه خالق أفعال العباد والطاعات والمعاصي، ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم، غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. الإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالقدر خيره وشره من الله -تبارك وتعالى-؛ أحد الأركان الستة التي يدور عليها فلك الإيمان، كما دل عليه حديث جبريل وغيره، وكما دلت عليه الآيات الصريحة من كتاب الله -تعالى-، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلًا: فقد كَتَبَ في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه، بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. ونحو ذلك... فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكره اليوم قليل. قوله: لقوله -تعالى-: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)، قال أبو جعفر: القول في تأويل قوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}. يعني -جل ثناؤه- بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، قل يا محمد، لهؤلاء القائلين: إذا أصابتهم حسنة: {هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ}، وإذا أصابتهم سيئة: {هَذِهِ مِنْ عِندِكَ}: كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، قال الحافظ ابن كثير: فقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، أي: الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي: الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. فحج آدم موسى قوله: ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟، قال: فحج آدم موسى».
صفات الله -تعالى- الخبرية ولا يقال عن هذه الصفات -أي صفات الله تعالى الخبرية- إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب ألا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا، لئلا يُثبَتَ معنى فاسد أو يُنفَى معنى صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمُحق والمُبطل، (وكان مكحول، والزهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، يقولون فيها وفي أمثالها: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -تعالى- ورسوله). قوله: (على أمر قدره الله)، ويروى قدر الله بدون الضمير، وهي رواية السرخسي والمستملي، والمراد بالتقدير هنا الكتابة في اللوح المحفوظ، أو في صحف التوراة، وإلا فتقدير الله أزلي. المراد بقوله: أربعين سنة
معنى الخير فيما اختار الله
الإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور يقول الشيخ العلامة ابن عثيمين: «والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
فوائد الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على المسلم (1) تحقيق هدوء النفس واطمئنان القلب. (2) المؤمن لا يجزع عند المصيبة، ولا تبطره النعمة، ففي حال البلاء يصبر، وحال الرخاء يشكر. (3) القدر سر من الأسرار لا يجوز الخوض فيه، كل هذا فيما لا علم للمرء فيه مخافة أن تزل به القدم. (4) العمل، والكسب، والسعي، واتخاذ الأسباب الموصلة للغايات؛ كل هذا لا ينافي القضاء والقدر، وإنما هو داخل فيه لقول عمر - رضي الله عنه - جوابًا لأبي عبيدة بن الجراح: (نَعَمْ, نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ). (5) التوكل الذي أمر الله -تعالى- به يكون بعد اتخاذ الأسباب، وهذا يؤيده حديث خروج أهل اليمن للحج، وهم على غير زاد، فلما سئلوا قالوا: نحن متوكلون، فنزلت الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة: 197). اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان: السَّادِسُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ الْإِيْمَانُ بِالْيَوْمِ الآخِرِ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
الشرح (الإيمان باليوم الآخر) وهو ركن من أركان أعمال القلب، يزول الإيمان بزواله، ويظهر أثره على عمل الإنسان، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه آخر يوم من أيام الدنيا؛ حيث ينقل الله -تعالى- الخلائق إلى عرصات يوم القيامة، وفي هذا اليوم يأذن الله -تعالى- بدمار الحياة الدنيا، فالسماء تتشقق، والشمس تتكور، والنجوم تُطمس، والجبال تُنسف، والأرض تُبدّل، كما ورد في سور: الواقعة، والقيامة، والنازعات، والتكوير، والانفطار، والمطففين، وغيرها في ذكر أهوال يوم القيامة.
التصديق بأن لأَيَّامِ الدُّنْيا آخِرَ
مسألة مهمة: ضابط كون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى وهنا تأتي مسألة وهي: ما ضابط كون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى؟
باب الأسماء أضيق من باب الصفات وهذا ينبني على فهم قاعدة أخرى من القواعد في منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وهي: أنَّ باب الأسماء الحسنى، أو باب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أضيق من باب الأفعال، وباب الأفعال أضيق من باب الإخبار، وعكس ذلك. فتقول: باب الإخبار عن الله -عز وجل- أوسع، وباب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء الحسنى، وهذه القاعدة نفهم منها أنَّ الإخبار عن الله -عز وجل- بأنه «قَديمٌ بلا ابتدَاء»، لا بأس به؛ لأنه مشتمل على معنى صحيح، فلما قال: «قَديمٌ بلا ابتدَاء» انتفى المحذور، فصار المعنى حقًا، ولكن من جهة الإخبار، أما من جهة الوصف، وصف الله بالقدم فهذا أضيق؛ لأنه لا بد فيه من دليل. اجتماع الشروط الثلاثة وكذلك باب الأسماء، وهو تسمية الله بالقديم، هذا أضيق، فلابد فيه من اجتماع الشروط الثلاثة التي ذَكَرْتُ لك، والشروط الثلاثة غير منطبقة على اسم القديم، وعلى نظائره كالصانع، والمتكلم، والمريد، وأشباههم لأمور:
الكمال مطلقًا بلا تقييد وبلا تخصيص والصفة التي في الأسماء الحسنى والمعنى الذي فيها لابد أنْ يكون دالًا على الكمال مطلقًا بلا تقييد وبلا تخصيص، فمثل اسم القديم، هذا لا يدلّ على مدحٍ كامل مطلق، ولذلك لما أراد المصنف أنْ يجعل اسم القديم، أو صفة القِدم مدحًا قال: «قَديمٌ بلا ابتدَاء»، وحتى الدائم هنا قال: «دَائمٌ بلا انْتهاء»، لكن لفظ القديم قيّده بكونه (بلا ابتدَاء)، وهذا يدل على أن اسم القديم بحاجة إلى إضافة كلام حتى يُجعل حقًا وحسنًا ووصفًا مشتملًا على مدح حق. ا.هـ.
المعنى العام للحديث بيان سرعة قيام الساعة، وأنها تقوم بغتةً تفجأ الناس وهم في حياتهم اليومية، في البيع والشراء والأكل والشرب والزراعة وهكذا.
فوائد الإيمان باليوم الآخر وأثره على المؤمن
فوائد الحديث
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. السَّابِعُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ .. الْإِيْمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الشُعَبة السابعة من شعب الْإِيْمَانِ هي: الْإِيْمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} (التغابن:7)، وَلِقَوْلِهِ -تعالى-: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (الجاثية:26)، وَلِحَدِيْثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عه - فِي الصَّحِيْحِ فِي حَدِيْثِ الإْيْمَانِ: الْإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، وَبِالْقَدَرِ كُلِّه. الشرح
أدلة البعث في القرآن ساق الحليمي أدلة محسوسة على البعث والنشور ومنها: (1) الإحـالـة على القـدرة: فقـوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف: 33). (2) الأرض تكون حية تنبت وتثمر وتموت، فتصير إلى ألا تنبت وتبقى خاشعة هامدة. فأما حياتها؛ فإنها تكون عند سخونة الهواء التي جاورتها وإسخانه إياها، وانسياق الماء إليها وترطيبه لها. وأما موتها فإنما يكون عند إسخان الشمس إياها من غير ما تصل إليها؛ لأنها تصير كالفخار. (3) احتج على عباده بقوله -تعالى-: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (البقرة: 28). يعني نطفًا في الأصلاب والأرحام، فجعلكم منها بشرًا تنتشرون. وقال: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات). (4) قوله-تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الأنعام: 95) وذلك أن الحب إذا جف ويبس بعد انتهاء تمامه ووقوع الناس من ازدياده. وكذلك النوى إذا تناهى عظمه، وجف ويبس؛ كانا مسببين، ثم إنهما إذا أودعا الأرض الحية فلقهما الله -تعالى-، وأخرج منهما ما يشاهد من النخيل والزرع حبا ينشأ ويثمر. (5) ما أراه إبراهيم -صلوات الله عليه- لما قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} (البقرة: 260)، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور، فيقطعهن، ويجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم يدعوهن. فرجع كل جزء إلى مثله، حتى يلتئم جملة ذلك الطير، ويرد الله الحياة إليها، ويأذن له في إحيائه، فيأتينه سعيًا. (6) الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها! وكان معه حمار، وركوة عصير، وسلة تين، على ما جاءت به الأخبار؛ {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام}. (7) عصا موسى -عليه السلام- فإن الله -تعالى- قال لموسى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} (طه)، ثم إن فرعون جمع له السحرة، فألقوا حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله-تعالى-: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} (طه: 69)، فلما ألقاها تلقفت حبالهم وعصيهم، ثم عادت كما كانت. فليس لأحد أن يستبعد مع هذا إحياء الله -تعالى- للأموات وبعثهم. (8) أصحاب الكهف فإنهم كانوا بين ظهرانَي قوم يكذبون بالبعث، فضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم أقامهم، وأعثر قومهم عليهم؛ ليعلموا بحفظ الله -تعالى- أجسادهم مع فقدهم الغذاء تلك المدة الطويلة، وصيانة شعرهم وبشرهم مع ذلك عن أن تأكلها الأرض، وكل ذلك خارج عن العادة، دل ذلك على أن الله -تعالى- قادر على إحياء الموتى وإعادة الأجسام الهامدة كما كانت، وإن كان ذلك مفارقًا للعادة. ا.هـ فوائد الإيمان بالبعث
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الثَّامِنُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِحَشْرِ النَّاسِ بَعْدَمَا يُبْعَثُوْنَ مِنْ قُبُوْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
الشرح
فوائد الإيمان بالحشر بعد البعث (1) المؤمن لا يتجرأ على المعاصي؛ لإيمانه بالحشر بعد البعث، في حين أن الكافر يتجرأ على المعاصي؛ حيث إنه غير مؤمن بالبعث والنشور بين يدي الله -تعالى-. (2) شدة يوم القيامة، وشدة الحر، مع شدة الأهوال، حتى إن بعض الناس يغيب في عرقه إلى أنصاف أذنيه. (3) وصف الله -تعالى- يوم القيامة بأنه يوم عظيم، ويوم مشهود؛ لأن الخلائق كلها تشهد هذا اليوم. مسائل وفوائد ذكرها الحليمي ومن المسائل والفوائد التي ذكرها الحليمي والمتعلقة بالحشر ما يلي: حشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى المواقف التي بيَّن لهم من الأرض؛ فيقومون ما شاء الله -تبارك وتعالى-، فإذا جاء الوقت الذي يريد الله به محاسبتهم، أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون، تذكر فيها أعمال الناس، فمنهم من يُؤتى كتابه بيمينه، أولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله، أو وراء ظهره، وهؤلاء هم الأشقياء. وقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن المحاسبة تكون بمشهد النبيين والشهداء، فقال -جل وعلا-: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الزمر: 69). أنواع الناس في الحساب: الحساب -وإن كان الله -تعالى- ذكره جملة، وكذلك جاء ذكره في كثير من الأخبار-، فإن في بعضها دلالة على أن كثيرًا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون، فصار الناس إذًا ثلاث فرق:
هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وأورد هنا مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وزن الأعمال وطبقات الناس كما أَورد مسألة أخرى وهي مسألة وزن الأعمال وطبقات الناس، فقال: فإن سأل سائل عن وزن الأعمال كيف يكون؟، فإنما الأعمال حركات الناس، وهي أعمال لا بقاء لها، وقال: كيف تبقى الأعمال إلى يوم القيامة وكيف يمكن وزنها؟ والعلماء بها على قولين:
مسألة حكم أصحاب الكبائر ومن المسائل التي أوردها الحليمي: مسألة حكم أصحاب الكبائر: فيقول: «إن سأل سائل عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة إذا وافوا القيامة بلا توبة قدموا، ماذا يكون من أمرهم؟ قيل -وبالله التوفيق- أَمْرُهم إلى الله -تعالى-، فإن عفا عنهم مبتدئًا، وإن شاء شفَّع فيهم نبيهم، وإن شاء أمر بإدخالهم النار وكانوا معذبين بها مدة، ثم أمر بإخراجهم منها إلى الجنة، ولا يخلد في النار إلا الكفار. فإن سأل عن الدلائل على ما قلنا؟ أما الدليل على أن غير الكفار لا يخلدون في النار؛ فهو قول الله ﻷ: { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81)، فأخبر أن التخليد في النار إنما هو لمن أحاطت به خطيَّاته، والمؤمن صاحب الكبيرة والكبائر لم تحط به خطياته، لأن رأس الخطايا هو الكفر، وهو غير موجود منهم، فصح أنه لا يخلد في النار. الملائكة يحاسبون في الآخرة؟ وأورد الحليمي مسألة: هل الملائكة يحاسبون في الآخرة وهل يثابون؟ والظاهر أن مثل هذه المسائل التي لا ينبني عليها عمل، ولم يأمرنا الشرع بها، فليست من مسائل الأصول، ولا من جملة التكاليف الشرعية المأمور بها كل مكلف، اللهم إلا أن يقال: إن إيراد هذه المسائل من باب تدريب طالب العلم، وتعويده على المسائل الجديدة، وكيفية تأصيلها والرد عليها، فقال الحليمي: «فإن سأل سائل عن الملائكة، هل تكتب أعمالهم ويحاسبون ويثابون؟ قيل له: أما كتابة أعمالهم فما يشبه أن تكون؛ لأن الملائكة هم الذين يكتبون أعمال الناس، ولو كُتِبَتْ أعمال الملائكة لاحتاج كل ملك إلى كاتب أو اثنين، وكذلك الكاتب إلى مثل ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول بذلك فاسد، والمحاسبة أيضًا لا معنى لها؛ لأنهم لا يخلطون الحسنات بالسيئات، وما أكثر من لا يحاسب من بني آدم، فلا تكون الملائكة أولًا ولا أدنى منزلة منهم. وأما الإثابة، فقد قيل: يرفع التكليف عنهم؛ فيتنعمون بالراحة، ويتلذذون بالخفض والدعة، وليسوا من أهل المطاعم والمشارب، فيوردون موارد بني آدم من الجنة، ويحتمل أن يكون قد أوضع التكليف غيرهم نعمة أعدها الله لهم، ولا تبلغها أفهامنا وعقولنا، فإنه -تعالى- يقول على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، وإذا جاز أن يُعد للناس مثل هذا الثواب المغيب، فأولى أن يكون ذلك للملائكة والله أعلم» ا.هـ كلام الحليمي. اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الثَّامِنُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِحَشْرِ النَّاسِ بَعْدَمَا يُبْعَثُوْنَ مِنْ قُبُوْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن الشعبة الثامنة من شعب الإيمان وهي الْإِيْمَانُ بِحَشْرِ النَّاسِ بَعْدَمَا يُبْعَثُوْنَ مِنْ قُبُوْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين)، وَلِحَدِيْثِ عبداللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ: «يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ: حَتَّى يَغِيْبُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»، وذكرنا كلام الحليمي على مسائل عدة فيها واليوم نستكمل الحديث عن تلك المسائل. باب طلوع الشمس من مغربها يقول القرطبي في باب طلوع الشمس من مغربها، وإغلاق باب التوبة: (روى مسلم) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». وقال: «وإنما لا ينفع نفسًا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال؛ لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت». علامات الساعة الكبرى والصغرى وأورد الحليمي شرحًا وافيًا لعلامات الساعة الكبرى والصغرى، ونذكرها اختصارًا؛ حيث قال: أما انتهاء الحياة الأولى، فإن له مقدمات تسمى أشراط الساعة، وهي أعلامها: منها خروج الدجال، ونزول عيسى -صلوات الله عليه- وقتله الدجال، ومنها خروج يأجوج ومأجوج، ومنها خروج دابة الأرض، ومنها طلوع الشمس من مغربها، فهذه هي الآيات العظام. وأما ما تقدم هذه، من قبض العلم، وغلبة الجهل، واستعلاء أهله، وتتبع الحُكْم، وظهور المعازف، واستفاضة شرب الخمور، واكتفاء النساء بالنساء، والرجال بالرجال، وإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمارة الصبيان، ولعن آخر الأمة أولها، وكثرة الهرج، فإنها أسباب حادثة، ورواية للأخبار المنكِرة بها بعدما صار الخبر عيانًا، إلا أنها في الجملة إعلام للساعة. أول الآيات الخسوفات ورجَّح القرطبي أن أول الآيات الخسوفات، فإذا نزل عيسى -عليه السلام-، وقتل الدجال، خرج حاجا إلى مكة، فإذا قضى حجه انصرف إلى زيارة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا وصل إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله عند ذلك ريحًا عنبرية؛ فتقبض روح عيسى -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين، فيموت عيسى -عليه السلام- ويدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في روضته، ثم تبقى الناس حيارى سكارى، فيرجع أكثر أهل الإسلام إلى الكفر والضلالة، ويستولي أهل الكفر على من بقي من أهل الإسلام، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، وعند ذلك يرفع القرآن من صدور الناس ومن المصاحف، ثم تأتي الحبشة إلى بيت الله فينقضونه حجرًا حجرًا، ويرمون بالحجارة في البحر ثم تخرج حينئذ دابة الأرض تكلمهم، ثم يأتي دخان يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويُضَيِّق أنفاسهم». النفخ في الصور يقول الحليمي: «وإذا انقضت الأشراط، وجاء الوقت الذي يريد الله -تعالى- إماتة الأحياء من سكان السماوات والبحار والأرضين، أمر إسرافيل -وهو أحد حملة العرش وصاحب اللوح المحفوظ- ينفخ في الصور، يروى أن -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف أنعم؟ أو قال كيف أضحك؟، وصاحب القرن قد التقمه، وحَنَى ظهره ينتظر متى يؤمر ينفخ، فإذا نُفِخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله». وقد سَمَّى الله -تعالى- الصور باسمين: أحدهما الصور، والآخر الناقور، وذلك قوله -تعالى-: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (المدثر)، وقول المفسرين: إنه الصور، والظاهر أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفخات جميعًا؛ فإن الإصعاق يخالف صيحة الإحياء. فإذا مات الأحياء كلهم تُركوا أربعين سنة، ثم نفخ في الصور نفخة الإحياء، واتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين، وقال العلماء: هي أربعون سنة، وذلك -والله أعلم- بعد أن يجمع الله -تعالى- ما تَفَرَّقَ من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء، وبطن الأرض، وما أصابت النيران منها بالحرق، والمياه، وما أبْلَتْه الشمس، وذرته الرياح، فإذا جمعها وأكمل كل بدن منها ولم يبق إلا الأرواح، جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل -صلوات الله عليه- بنفخة من نفث الصور، فأرجع كل روح إلى جسده بإذن الله -تعالى-. فإذا أكمل الله -تعالى جَدُّه- للأجساد على ما هو أعلم به من صفة إكمالها، إلا أنها بعد تراب، ففيه بعض الأخبار: أن الله -تعالى- يمطر عليهم من تحت العرش فتنموا به أجسادهم، وإذا أحيا الله -تبارك وتعالى- الناس كلهم، قاموا بمجلس ينظرون ما يُراد بهم، لقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر: 68). وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ، رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتُهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا»، فيحتمل أن يكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر الناس على ثلاث طرائق»، إشارة إلى: الأبرار، والمخلصين، والكفار. سماع الصيحة وهم أموات يقول الحليمي: «إن سأل سائل عن قول الله -تعالى-: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق: 42)، فقال: إنما تكون الصيحة للخروج وهم أموات، فكيف يسمعونها؟ قيل: إن نفخة الإحياء تميد وتطول، فكانت أوائلها للإحياء، وما بعدها للإزعاج من القبور، فما كان للإحياء فإنهم لا يسمعونه، وما كان للإزعاج فهم يسمعونه، ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة كما ذكرت، والناس يحسبون منها أولًا فأول، وكلما حيي واحد سمع ما يحيى به لمن بعده إلى أن يتكامل إحياء الجميع والله أعلم». أول من يُكسى يوم القيامة يقول الحليمي: روى عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر قال: إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، فيؤذن المؤذن، ويلبي الملبي، وأول من يكتسي من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليهما، ثم النبيون والرسل -صلوات الله عليهم-، ثم يكسى المؤذنون، وتتلقاهم الملائكة على نجائب من ياقوت أحمر، أزمتها من زبرجد أخضر رجالها من اللهب، ويشيعهم من قبورهم تسعون ألف ملك إلى المحشر، وفي رواية أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم تحشرون حفاة عراة غُرلًا، فأول من يكسى إبراهيم، ثم أوتى بحلة لا يقوم بها البشر». تبدل الأرض يوم القيامة يقول الحليمي: «إنها تُبدَّل، بمعنى أن أعراضها وصفاتها تُغَير، فإنها ذات جبال وتلال، وروابي وأكام، وأودية ووهاد، وغدران وأشجار وبنيان، فتُزَال هذه كلها، ويُسَوَّى بعضها ببعض، ثم تُمَدُّ مَدَّ الأديم، فتزيد بذلك سعتها فتتمكن الخلائق -من الأولين والآخرين- من الوقوف عليها، وعلى هذا معنى قوله ﻷ: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (الانشقاق)، قال ابن كثير: «{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي: بُسطت وفرشت وَوُسِّعَت، و{ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي: ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت منهم». البحار يوم القيامة يقول الحليمي: «ووصف الله -تعالى- هذا اليوم بأن البحار تُسجَّر وتُفجَّر منه، فقال في سورة: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} (الانفطار: 3)، فقيل: إن معنى سجرت وفجرت واحد.» انشقاق السماء وقد وصف الله -تعالى- هذا اليوم بأن السماء تنشق منه، وتُكَوَّر الشمس فقال -سبحانه-: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} (الفرقان:25)، يقول السعدي: «يخبر -تعالى- عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب، ومزعجات القلوب، فقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه، ينزل من فوق السماوات، فتنفطر له السماوات وتَشقَّق، وتنزل ملائكة كل سماء، فيقفون صفًا صفًا، إما صفًا واحدًا محيطًا بالخلائق، وإما كل سماء يكونون صفًا، ثم السماء التي تليها صفًا وهكذا»، وقيل إن السماء إنما تنشق لما يخلص إليها من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه، وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن، وتنشق لما يريده الله -تعالى- من نقص هذا العلم ورفعه. طي السماوات يقول الحليمي: وقد أخبر الله -تعالى- أن السماوات يوم القيامة مطويات بيمينه: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} (الأنبياء: 104). طول يوم القيامة قال الحليمي: ووردت الأخبار بأن الناس يطول عليهم القيام في ذلك اليوم، فإنه يوم القيامة وقد وصفه الله -تعالى- بذلك، فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 6)، فإذا ضجروا وجهدوا، سألوا أباهم آدم -صلوات الله عليه- أن يشفع إلى الله -جل ثناؤه- فيقضي فيهم قضاءه، فيحيلهم على نوح، ونوح يدلهم على إبراهيم، وإبراهيم يدلهم على موسى، وموسى -عليه السلام- يدلهم على عيسى، وعيسى -عليه السلام- يحيلهم على محمد -صلى الله عليهم وسلم- أجمعين؛ فيسجد نبينا المصطفى تحت العرش، ويحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ولا يزال ساجدًا إلى أن يقال له: ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع، فيسأل الله -تعالى- أن يحاسب عباده، ويقضي فيهم قضاءه، فيأمر الله -جل ثناؤه- عند ذلك أن يحضر النبيون، وكُتَّاب الأعمال، وهم الكرام الكاتبون والمعنيون بالشهداء، في قوله -تعالى-: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} (الزمر: 69) فحوسب الناس. اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
( شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان ) التَّاسِعُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإيْمَانُ بِأَنَّ دَارَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَمَأْوَاهُمْ الْجَنَّة وَدَارُ الْكَافِرِيْنَ وَمَأْوَاهُم النَّار
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. التَّاسِعُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ هو الْإيْمَانُ بِأَنَّ دَارَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَمَأْوَاهُمْ الْجَنَّة وَدَارُ الْكَافِرِيْنَ وَمَأْوَاهُم النَّار، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة)، وَلِحَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ -تعالى- إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». الشرح:
معنى الحديث يقول العلامة ابن عثيمين في الجنة والنار: «الجنة لغة: البستان الكثير الأشجار، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للمتقين، والنار لغة: معروفة، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للكافرين، وهما مخلوفتان الآن لقوله -تعالى- في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 133)، وفي النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24)، وقد تمَّ الانتهاء منهما؛ لأن الإعداد: التهيئة، ولقوله صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الكسوف: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منها» متفق عليه. قوله: (عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ) قال المباركفوري: «أَيْ: أُظْهِرَ لَهُ مَكَانُهُ الْخَاصُّ مِن الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «ثم قيل هذا العرض إنما هو على الرُّوحِ وحده، ويجوز أن يكون مع جزء من البدن، ويجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد، فيرد إليه الروح كما ترد عند المسألة حين يقعده الملكان، ويقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، وكيفما كان فإن العذاب محسوس، والألم موجود، والأمر شديد، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلًا في النائم، فإن روحه تعذب أو تنعم في أجواف طير سود بشيء من ذلك». وقال أيضًا: «وهذه حالة مختصة بغير الشهداء، وفي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترجع أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». قوله: (إِنْ كَانَ): أَيْ الْمَيِّتُ.
حكمة رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- للجنة والنار وقد ذكر القرطبي فوائد وحكم مترتبة على رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- للجنة والنار وهي:
فوائد الإيمان بالجنة والنار
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان: الْعَاشِرُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ مَحَبَّةِ اللَّهِ -تعالى-
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الْعَاشِرُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ مَحَبَّةِ اللَّهِ -عز وجل- لِقَوْلِهِ -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165)، وَلِحَدِيْثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ -رضي الله عنه - فِي الصَّحِيْحَيْنِ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الْإِيْمَانِ، أَنْ يَكُوْنَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سُوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُوْدَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُوْقَدَ لَهُ نَارٌ فَيُقْذَفَ فِيْهَا، وَبِهِ أَنْبَأَنَا الْبَيْهَقِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عبدالرَّحْمَنِ السُّلْمِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أبا نَصْر الطُّوسِيّ يقول: سمعت جَعْفَرًا الْخُلدِيَّ يقول: سمعت الْجُنيد يقول: قال رجلٌ لِسَريٍّ السَّقَطِيَّ: كَيْفَ أَنْتَ؟ فَأَنْشْأَ يَقُوْلُ: مَنْ لَمْ يَبِتْ والْحُب حَشْوُ فُؤَادِهِ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ تُفَتَّتُ الأَكْبَادُ وَبِهِ أَنْبَأ أبو عبدالرَّحْمَنِ السُّلِمَيّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيْل قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الشِّيرَازِيّ الْوَاعِظ قَالَ: سَمِعْتُ أَبا دُجَانَةَ يَقُوْلُ: كَانت رَابِعَةُ إذَا غَلَبَ عَلَيْهَا حَالُ الْحُبِّ تَقُوْلُ: تَعْصِي الإله وأَنْت تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا مُحَالٌ في الفِعَال بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأطَعْتَهُ إن المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ الشرح:
حقيقة محبة الله -عزوجل- ومما ذكره الحليمي في محبة الله -عزوجل-:
المفردات الحُلْو نقيض المُرّ، والحَلاوَة ضدُّ المَرارة. ولابن رجب كلام نفيس في توضيح معنى حلاوة الإيمان ومتى تكون؟، ومتى لا تكون؟
مَنْ لَمْ يَبِتْ والْحب حَشْوُ فُؤَادِهِ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ تُفَتَّتُ الأَكْبَادُ أهمية محبة الله قلت: في هذا البيت من الشعر بيان أهمية محبة الله، وأن من أحب الله على الحقيقة لم يذق مرارة الهوى وانفطار الكبد، وهذا البيت من الشعر والذي يليه ذكرهما الإمام البيهقي بإسناده عن كبار الصوفية، ومعلوم أن بعض الصوفية لهم شطحات كثيرة في العقيدة والعبادة والسلوك، إلا أن النقل عنهم في غير هذه الشطحات لا بأس به، وهذا ما درج عليه علماؤنا. فهذا الشيخ العلامة الألباني-رحمه الله- كثيرًا ما يردد حكمة جاءت من الصوفية -وهي قاعدة أصولية- وهي: من تعجّل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، وهذه الحكمة وإن كان الصوفية يريدون بها حث المريد على أن يصبر مع شيخه ولا يعترض ولا يسأله حتى يحصل على منشور الولاية -وهذا على زعمهم الباطل- إلا إن الألباني -رحمه الله تعالى- يتمثل هذه الحكمة في نصيحة طلاب العلم الشرعي، السائرين على منهاج الكتاب والسنة، ألاّ يتعجلوا بتصدّر المجالس للفتوى؛ بل يصبروا، ويتقوا، ويجتهدوا في التحصيل حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. رد على من يزعم محبة الله -تعالى- في هذا البيت رد على من يزعم محبة الله -تعالى- وهو قائم على معصية الله -تعالى-، فهذا محال في الفعل الواقع، وفي القياس، أما واقعًا؛ فالمؤمن كامل الإيمان لا يبقى في قلبه ميل لمعصية الله -تعالى-، ومقتضى القياس يقضي بعدم صحة هذه الدعوى، بدليل البيت الثاني، وهو لو كان حبك صادقًا لأطعت الله -تعالى- فيما يأمر ولا نتهيت عما نهاك عنه، إذ إن العرف والعادة تقضي بأن المحب لمن أحب مطيع. كيف تحصل على محبة الله -عزوجل-؟ هذه طائفة من الخصال والصفات التي يتحصّل بها العبد على محبّة الله -تعالى-، إذا أخلص في هذا وأحسن في العمل، فإن الله -تعالى- لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ومن هذه الصفات: أولًا: الإحسان جاء في القرآن العظيم ذكر صفات يحبها الله، ومنها الإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195)، والإحسان: هو التحقق بالعبودية على مشاهدة حضرة الربوبية بنور البصيرة، أي رؤية الحق موصوفًا بصفاته بعين صفته، فهو يراه يقينًا ولا يراه حقيقة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «كأنك تراه»، فمن اتصف بهذا الوصف الكريم لا تراه إلا محسنًا في جميع أقواله وأفعاله، وفي الشريعة: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك والإحسان وصف عام يشمل جميع وجوه الإحسان، سواء في عبادة العبد لربه ومولاه، أو معاملته مع الخلق، وإذا اتصف العبد بالإحسان، ولازمَ هذا واستمر عليه في حياته حتى أصبح سجية له وطبعًا وأخلص فيه لله -تعالى-، حاز منشور الولاية لله، وهذا خلق لا يقوى عليه إلا الخواص والأصفياء. يقول العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-: «وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال...، ويدخل فيه الإحسان بالجاه، بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم، وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملًا، والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضًا، الإحسان في عبادة الله -تعالى-، وهو كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك». ثانيًا: التوبة، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} (البقرة: 222) التوبة وتكرارها مما يحبه الله -تعالى- من عباده جميعًا؛ لأنه -سبحانه- دعاهم إليها جميعًا، ورغبهم بها، وحثهم عليها، وهي من أسباب محبة الله -تعالى-، وجاء في معنى التوبة أنها: الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب. والتوبة النصوح: هي توثيق بالعزم على ألَّا يعود لمثله، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على ألَّا يعود. وقيل: التوبة في اللغة: الرجوع عن الذنب، وكذلك التوب، قال الله -تعالى-: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}. وقيل التوب، جمع توبة. والتوبة في الشرع: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة، وهي واجبة على الفور عند عامة العلماء، قال ابن كثير: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي: من الذنب، وإن تكرر غشْيانه، فمن أراد محبة الله -تعالى-؛ فليجدد توبته، وليحقق أوبته إلى ربه قبل فوات وقتها، ووقتها العام: هو خروج الشمس من مغربها، ووقتها الخاص؛ إذا بلغت الروح الحلقوم. اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الحَادِي عَشَر مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ -عز وجل-
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعوم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الحَادِي عَشَر مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ هو: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ -عزوجل-، لِقَوْلِ الله -تعالى-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40). وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد: 21)، وقوله -تعالى-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 14)، وَلِحَدِيْثِ عَدِي بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيْحَيْنِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَقِّ تَمْرَةٍ»، وَلِحَدِيْثِ أَنَسٍ وَفِيْهِ: «لَوْ تَعْلَمُوْنَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيْلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيْرا»، وَعَاتَبَ رَجُلًا بَعْضُ إِخْوَانِهِ عَلَى طُوْلِ بُكَائِهِ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: بَكَيْتُ عَلَى الذُّنُوْبِ لِعِظْمِ جُرْمِي وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ يَعْصِي الْبُكَاءُ فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ هَمِّي لَأُسْعِدَتِ الدُّمُوْع مَعًا دِمَاء وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيْزِ لاَ يَجِفُّ فُوْهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ: وَلاَ خَيْرَ فِي عَيْشِ امْرِئٍ لَمْ يكن لَهُ مِنَ اللهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ نَصِيْبُ وَسَمَعَ أَبُو الْفَتْحِ الْبَغْدَادِيَّ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِالشّونِيزِيَّة: وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيْرَةٌ وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَحَلَّيْنِ تَنْزِلُ فَذَهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ. الشرح:
الخوف أقسام الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، ولكنه في العموم على أقسام:
الخوف يستلزم شيئين وهذا الخوف يستلزم شيئين:
بكيت على الذنوب لِعظْمِ جُرمي وحُقَّ لكل من يعصي البكاءُ فلو كان البكاء يرد هَمِّي لأَسْعَدَتِ الدموعَ معًا دماءُ فسبب بكائه، شعوره بما ارتكب من المعاصي، وخوفه من عقاب الله -تعالى- له، ولو أن البكاء يكشف عنه ما أهمّه من كثرة الذنوب لأسعدت الدماءُ الدموع أي نزلتا مختلطتين معا ولم تتأخر الأولى عن أختها، وهذه الحال هو غاية الحزن والهم والغم والوجد جراء الذنوب والمعاصي!
ولا خير في عيش امرىء لم يكن له من الله في دار القرار نصيب وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الوَرِعُ شديدَ الخوف، كثيرَ البكاء، وكان يردد هذا البيت الذي يشير إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يهنأ إذا لم يكن له في الجنة نصيب، فحياته في الدنيا لا خير فيها مهما ازدانت له الدنيا، ويلي هذا البيت: فإن تعجب الدنيا أناسًا فإنها قليل متاع والزوال قريب
وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل فذهب عنه النوم». هاتفًا يهتف: أي سمع صوتًا ينادي. الشونيزية: وهي مقبرة ببغداد بالجانب الغربي دفن فيها جماعة من الصالحين. ومعنى البيت كيف ينام الإنسان وهو مطمئن، مغمض الجفنين، وهو لا يدري إن كان مصيره إلى الجنة أم إلى النار، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: «لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدًا، لظننت أني ذلك الواحد». اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان: الثاني عشر من شعب الإيمان: الإيمان بوجوب الرجاء من الله -تعالى-
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا. الثاني عشر من شعب الإيمان: الإيمان بوجوب الرجاء من الله -تعالى-، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 57)، وقول الله -تعالى-: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56)، وَقَوْلِ اللهِ -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53)، وَقَوْلِ اللهِ -تعالى-: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48 و 116)، وَلِحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فِي الصَّحِيْحَيْنِ»لوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوْبَةِ؛ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَد، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَد»، وَلِحَدِيْثِ جَابِرٍ - رضي الله عنه - فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ: «لاَ يَمُوْتُنَّ أَحَدَكُمْ إلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَ بِاللهِ -عزوجل-»، وَحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فِي الصَّحِيْحَيْنِ «يَقُولُ اللهُ -عز وجل-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِيْنَ يَذْكُرُنِي» وَذَكَرَ الْحَدِيْثَ. وأنشد أبو عثمان سعيد بن إسماعيل: ما بال دينك ترضى أن تُدَنِّسَهُ هوان ثوبك مغسول من الدَّنَسِ ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَسِ الشرح: -قوله: الإيمان بوجوب الرجاء من الله -عزوجل-، الرجاء: لُغَةً: الأَمَلُ وعُرْفًا: تَعَلُّقُ القَلْب بحُصولِ مَحْبوبٍ مُستَقْبَلًا، وقال الراغِب: والرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، والرجاء والخوف سبيل المؤمن وطريقه في عبادة ربه وفي سَيْرِه في حياته، بل ويشمل الرجاء العصاة الذين أسرفوا على أنفسهم؛ فقد دعاهم الله -تعالى- إلى رجاء رحمته وعدم اليأس مهما بلغت ذنوبهم ولو كانت شركًا، والرجاء يكون مع بذل أسباب النجاة، وليس العكس. وقد اختلف العلماء في أيهما يُغَلَّب: الخوف أم الرجاء؟ هل يُغَلِّبُ العبد جانب الرجاء، أو يُغَلِّب جانب الخوف؟ والتحقيق أن ذلك على حالين:
مما قيل في الرجاء
لا تيأسوا منها لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك، والقتل، والزنى، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، والمغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تَسِحُّ يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد، والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغَلَبَتْه، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها -بل لا سبب لها غيره- الإنابة إلى الله -تعالى- بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع، والتأله والتعبد، فَهَلُمَّ إلى هذا السبب الأجلّ، والطريق الأعظم، فهذه معانٍ عظيمة، من تأملها من العصاة وجد فيها الأمن والملاذ، والسلامة والعافية، في الدين والدنيا. أسباب مغفرة الذنوب فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة، كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين، ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد، وهذا بخلاف الشرك، فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئًا، وما لهم يوم القيامة {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}»(الشعراء) قال -تعالى-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (الفرقان: 23). قلت: يظهر من كلام العلماء أن الشرك يحتاج إلى توبة خاصة منه حتى يُتاب عليه. أثر الرجاء على المؤمن
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
رد: شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان
شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان.. الثالث عشر من شعب الإيمان: الإيمان بوجوب التوكل على الله-عزوجل-
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
الحثّ على التوكل والاستغناء عن الناس ففي الصحيحين أيضًا من حديث الزبير - رضي الله عنه -: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»، وفي صحيح البخاري من حديث المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه -: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يديه، قال: وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه»، وبه أنبأنا البيهقي قال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني جعفر بن محمد بن نصير قال: حدثني الجنيد قال: سمعت السري يذم الجلوس في المسجد الجامع ويقول: جعلوا المسجد الجامع حوانيت ليس لها أبواب، وبه أنبأنا البيهقي بإسناده عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في امرئ بلا درهم، وبه أنبأنا البيهقي قال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني جعفر بن محمد الخواص قال: أنبأنا إبراهيم ابن نصر المنصوري قال: سمعت إبراهيم بن بشار -خادم إبراهيم بن أدهم- قال: سمعت أبا علي الفضيل بن عياض يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام كيف ذا وأنت بخلاف ذا؟! فقال ابن المبارك: يا أبا علي: أنا أفعل ذا لأصون بها وجهي، وأكرم بها عرضي، وأستعين بها على طاعة ربي، لا أرى لله حقًا إلا سارعت إليه حتى أقوم به. فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا. الشرح
حقيقة التوكل على الله
قوله: لقوله -تعالى-: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يقول العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-: «أي: فليعتمدوا عليه في كل أمر نابهم، وفيما يريدون القيام به، فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلا بالله، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتماد على الله، ولا يتم الاعتماد على الله، حتى يحسن العبدُ ظَنَّهُ بربِّه، ويثق به في كفايته الأمر الذي اعتمد عليه به، وبحسب إيمان العبد يكون توكله، فكلما قوي الإيمان قوي التوكل». قوله: وقوله -تعالى-: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، قال القرطبي: «أي: كافينا الله، وحسب مأخوذ من الإحساب، وهو الكفاية، قال الشاعر: فتملَأُ بيتنا أَقِطا وسَمْنا وحسبك من غنى شبع وري روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في قوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران: 173) إلى قوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) قالها إبراهيم الخليل -عليه السلام- حين أُلْقِيَ في النار. وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم».
سؤال الصحابة عن السبعين ألفًا
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران |
| الساعة الآن : 04:05 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour