ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=41)
-   -   المسيح ابن مريم عليه السلام (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=315666)

ابوالوليد المسلم 02-07-2025 12:31 PM

المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

نتحدَّثُ إليكم عن عبدِ اللهِ ونبيِّه ورسوله، وأحد أولي العزم من المرسلين، المسيح عيسى ابن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، العبد المنعم عليه، المجعول مثلًا لبني إسرائيل، المخلوق من غير أب، الآية ابن الآية عليه الصلاة والسلام، ولما كانت اليهود والنصارى قد ضَلُّوا في المسيح ضلالًا كبيرًا، فادَّعت اليهود أنه ولد زنا، وأن أمَّه زانية، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، كما أن النصارى أفرطوا فيه فجعلوه ابنًا لله، واتخذوه وأمَّه إلهين من دون الله، وجاؤوا بقولٍ ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 90 - 93]؛ لذلك بسط الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم قصَّةَ ولادة أمه مريم العذراء البتول، الطيبة الطاهرة، سيدة نساء العالمين، فذكر ما كان من أمها عندما حملت بها، وأنها نذرت لله ما في بطنها محرَّرًا، أي: خالصًا مفرغًا للعبادة وخدمة بيت المقدس، وقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فلما ولدت، ورأت أن مولودَها أنثى توجَّعتْ لفواتِ مقصودها؛ حيث إن الأنثى لم تجرِ العادة عندهم أن تتفرَّغ لخدمة بيت المقدس، فأظهرت ضراعتها لله، وقالت: رب إني وضعتها أنثى، والأنثى ليست كالذكر في خدمة بيت المقدس، مع يقينها أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم ما وضعت، وقد سمَّتْها مريم، وطلبت من الله أن يعصمها ويحرسها ويحفظها ويصونها هي وذريتها من الشيطان الرجيم، وقد تقبل الله تبارك وتعالى من أم مريم بقبول حسن كريم وأنبت مريم نباتًا حسنًا كريمًا.

وقد كان عمرانُ والد مريم الذي سمِّيتْ سورة من القرآن العظيم باسم آله، وهي سورة آل عمران، وليس له من آلٍ سوى مريم وابنها المسيح عليه السلام - قد كان عمران هذا موصوفًا بالتقوى في بني إسرائيل، ومحبوبًا لدى كبرائهم، كما كانت زوجته أم مريم كذلك، وقد أشاد الله تعالى بذكرهم في الصالحين حيث قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]، ونظرًا لموت عمران هذا وحاجة مريم إلى من يقوم بكفالتها بعد أبيها، وقد ألقى الله محبَّتها في قلب كلِّ من رآها، فرغب كلُّ واحد من كبراء بني إسرائيل في القيام بكفالتها، وتنازعوا في ذلك حتى اقترعوا أيُّهم يكفل مريم، وكفلها الله تبارك وتعالى نبي بني إسرائيل وقتئذٍ وهو زكريا عليه السلام، وكان زوجًا لأختها أو خالتها؛ فخرج السهم في الاقتراع له، فأمسكها في قصره، وجعلها تحت عنايته ورعايته، وقد لاحظ زكريا عليه السلام أنه كلما دخل عليها القصر وجد عندها ألوانًا من الرزق لم يجلبها لها، ولا علم له بمصدرها، فاستغرب ذلك وخاطبها قائلًا: ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؟ أي: من أين جاءك هذا الرزق؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما اكتملت أنوثة مريم في طهارة وعفاف، وعبادة واستقامة، خاطبتها الملائكة لتثبيتها على أعلى درجات السلوك، وقالت لها: ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ [آل عمران: 42، 43]؛ أي: أديمي الخشوعَ له، واثبتي على طاعته، واسجدي واركعي له لتندرجي في سلك عبادِه الصالحين القانتين الراكعين الساجدين.

وقد ذكرتُ في الفصل الرابع والأربعين من هذا الكتاب أنه لا يلزم من مجيء الملك لعبدٍ من عباد الله الصالحين أن يكون نبيًّا أو رسولًا، عند الكلام على معنى الوحي في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، وضربْتُ لذلك مثلًا بما ورد في الحديث المتفق عليه عند الشيخين البخاري ومسلم في قصة الأعمى والأقرع والأبرص ومجيء الملك إلى كلِّ واحدٍ منهم، كما سُقت الحديثَ الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي زار أخًا له في الله، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا... إلخ الحديث.

وبيَّنْتُ أن من هذا النوع مخاطبة الملائكة لمريم أم المسيح عليه السلام، وفي قصة ميلاد مريم ونشأتها يقول الله تبارك وتعالى:
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 35 - 37].

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 42 - 44].

وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها))، ثم يقول أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]"، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا نَخَسَه الشيطان فيستهلُّ صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾"، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ بني آدم يمسُّه الشيطان يومَ ولدته أمه إلا مريم وابنها)).

وقد وَصَفَ الله تبارك وتعالى مريمَ بنت عمران بأنها صِدِّيقَة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]، وفي قوله تعالى: ﴿ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ إشارة إلى بشريتهما وأنهما ليسا إلهين؛ فالذي يأكل الطعام من شأنه أن يبول ويتغوط، ومن كانت هذه حاله لا يليق بعاقل أن يجعله إلهًا، وقد جمع الله تبارك وتعالى في هذه الجملة الكريمة أشرف ما لعيسى وأمه من نعوتِ الكمال البشري؛ إذ أثبت لعيسى الرسالة ولأمِّه الصِّدِّيقيَّة، ثم ذكر الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفراد البشر من أنهما يأكلان الطعام.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 02-07-2025 12:33 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

أكَّد الله تبارك وتعالى اصطفاءَ مريمَ حيث قال: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42] ومعنى قوله: ﴿ اصْطَفَاكِ ﴾؛ أي: اختاركِ واجتباك وفضلك، وهذا يحتمل أن تكون أفضل نساء زمانها، كقوله تعالى في بني إسرائيل: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47]، وكما قال عز وجل في بني إسرائيل: ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الدخان: 32]، ويُحتمل أن تكون أفضل نساء العالمين قاطبة، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد))، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلُ عائشةَ على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائر الطعام، كمل من الرجال كثيرٌ ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون)).

كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نساء قريش خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبلَ، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده))، يقول أبو هريرة على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قطُّ، وهذا يشعر أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة وبين ما يقتضي تفضيلَ مريم على عموم نساء العالمين؛ فحديث أبي هريرة يفيد تفضيل نساء قريش على من ركب الإبل من النساء، ومريم لم تركب الإبل قطُّ، فلا تكون نساء قريش أفضل منها، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشعر بتفضيل مريم على خديجة رضي الله عنه بقرينة تقديم مريم عليها في الذكر، وإن كانت الواو العاطفة لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا كما هو مقرر في أصول الفقه، وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يَحْصُر كاملات النساء في مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، ويشعر بتقديم مريم على آسية رضي الله عنها، والعلم عند الله عز وجل.

وكما بَسَطَ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم قصة ولادة مريم وتنشئتها كما ذكرت في الفصل السابق فقد بسط الله تبارك وتعالى قصة حمل مريم بالمسيح عليه السلام في غير موضع من كتابه الكريم؛ فذَكَرَ بشارة الملائكة لمريم بالمسيح عليه السلام، وأنه كلمة من الله؛ أي: تَحْبَلُ به من غير أب، بل بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون؛ ليكون آية على أن الله لا يعجزه شيء، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، وقد يقترن أمر الله الكوني بسبب من الأسباب كحمل جميع النساء المعتاد، وقد لا يقترن بالسبب كخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وكخلق حواء من ضلع آدم بلا أم؛ ولذلك قال في عيسى عليه السلام: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].

وذكرت الملائكة لمريم في بشارتها بالولد أن اسمَه المسيح عيسى ابن مريم، فيُنسب إلى أمه؛ لأنه لا أب له، وأنه روح من الله، أي: من الأرواح التي ابتدأ الله تعالى خلقها كما يشاء، وأنه يكون وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين، ويكلم الناس في المهد وكهلًا ومن الصالحين، أي: يكون المسيح عليه السلام له مكانة ووجاهة عند الله، وعند الناس في الدنيا والآخرة، ويكون من الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته وحده لا شريك له، وقربه وأعلى منزلته، ويتكلم وهو في المهد؛ أي: في فراش ولادته، فيقرُّ بطهارة أمه وعفافها وأنه عبدُ اللهِ، وأن الله قدر إيتاءه الإنجيل، وقدر نبوَّته وجعله مباركًا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام في دار التكليف، وأنه يكون بارًّا بوالدته ولن يكون جبارًا شقيًّا، وأن السلام عليه يوم ولادته ويوم موته ويوم يبعث حيًّا، كما أنه يدعو بني إسرائيل إلى وجوبِ إخلاص العبادة لله وحده في وقت كهولته، وريعان شبابه، واكتمال قوته.

كما وصف الله تبارك وتعالى مجيء جبريل إلى مريم بالبشارة بهذا الولد، وأنها كانت وقتها قد انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا؛ أي: انفردت وحدَها شرقي المسجد الأقصى أو شرقي منزل أهلها لقضاء حاجة من حوائجها الخاصة بها التي لا تحب أن يراها عليها أحد من خلق الله، فجاءها الروح الأمين جبريل عليه السلام في صورة رجل صبيح جميل مكتمل، فلما رأته مقبلًا عليها وهي على هذه الحالة قالت له: إني أعوذ بالله وأستجير به وألتجئ إليه من أن ينالَني منك أذى، إذا كان عندك خوف من الله فاطر السماوات والأرض المنعم المتفضل على عباده فلا تقترب مني، ولا يحفظني ويعصمني منك إلا أرحم الراحمين، فأخبرها جبريل أنه رسول ربِّكِ وسيِّدِكِ ومالكِكِ مصلح ما في السماوات وما في الأرض فلا تخافي مني، ولست بشرًا، وإنما أنا ملَك بعثني الله إليك لأنفخ فيك لتلِدِي غلامًا زكيًّا، قالت: كيف يكون لي غلامٌ أو يوجد لي ولد وأنا لست متزوجة ولا منحرفة؟ فأجابها جبريل عليه السلام عن تعجبها من وجود ولد منها وهي على هذه الحالة فقال لها: كذلك قال ربك؛ أي: قدر أنه سيكون منك غلام، ولست بذات بعلٍ ولا منحرفة، وأن هذا هَيِّنٌ على الله وسهل عليه ويسير لديه؛ فهو على كل شيء قدير، وليكون ولدك آية للناس ودليلًا جليًّا وبرهانًا قاطعًا على كمال قدرة الله على كلِّ شيء، وأنه آية من آيات الله على إقامة الخلائق وبعثهم يوم القيامة، وهو علم للساعة، كما أنه رحمة من الله يرحم بها العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره وطفوليَّته وكهوليَّته، ويدلهم على مراسيم سعادتهم في الدنيا والآخرة والعاجلة والآجلة، حتى ينزِّهوه عن اتخاذِ الصاحبة والولد والشريك والندِّ والضدِّ والنظير، وكان أمرُ الله مقضيًّا، وحتمًا كائنًا لا محالة.

فنفخ جبريل نفخةً دخلت في فرجها، فحملت بالمسيح عليه السلام، غير أنَّها لما حملت بدأت تضيق ذرعًا؛ لعلمها أن الناس سيتَّهمونها بالانحراف، ويقعون في عِرضها، ولا يصدقونها فيما تخبرهم به من واقع الحال، ولما جاء وقت ولادتها أجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة؛ أي: ألجأها واضطرها الطَّلْق ووجع الولادة إلى أن تجيء إلى جذع النخلة؛ لتستترَ به ولتحتضنه لتقوى على الوضع، وقالت وهي في كربها: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، وليس هذا جزعًا من قضاء الله، ولكنها كربة النفاس مع كربة ما تعرفه من سفاهة المكذبين بآيات الله، وماذا سيقولون عنها، والوقوع في الأعراض الكريمة أشدُّ عليها من الموت، وقد قرئ: (نِسْيًا منسيًّا)، وقرئ نَسْيًا منسيًّا، وهما بمعنى واحد كالوِتر والوَتر، والنِّسْيُ المنسي هو ما يُرمى به من خرق الحيض وقطع الحبل ونحوهما مما يُترك ولا يلتفت إليه لحقارته، وعندما وضعت مريم المسيح عليه السلام ناداها مِن تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتكِ سريًّا.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 16-07-2025 08:33 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد






ذكرتُ في ختامِ الفصل السابق أن مريم عندما وضعت المسيح عليه السلام ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًّا، وقد قرئ في السبعة بفتح الميم (مَنْ) وكسرها، أي قرئ: (فناداها مَن تَحتَهَا)، وقرئ: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 24 - 26]، والذي نادى مريم هو جبريلُ عليه السلام، وكان في مكانٍ أسفل منها، وقيل: هو عيسى عليه السلام، والأول أظهر، والسَّرِي هو النهر، قال في المصباح: السري: الجدول؛ وهو النهر الصغير، وقال في الصحاح في السَّري: نهر صغير كالجدول، وقال في القاموس المحيط: وكغني، نهر صغير يجري إلى النخل، قيل: وسمي النهر سريًّا؛ لأن الماء يسري فيه، وقيل: المراد بالسري هنا هو السيد الشريف، والمراد به عيسى عليه السلام، قال ابن كثير رحمه الله: والصحيح الأول؛ لقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، فذكر الطعام والشراب؛ ولهذا قال: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾؛ اهـ.

وفي قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان الصالح أن يأخذ بالأسباب مع توكُّلِه على الله ولا يتواكل، وقد أُمِرت مريم بهزِّ جذع النخلة مع ما هي فيه من حالة النفاس والولادة؛ لما يجلبه لها ذلك من نسيان أحزانها وآلامها التي تتوقعها من ملاقاة قومها؛ علمًا بأن الله كان يسوق لها الرزق في أوَّلِ حياتها من غير سبب، كما أن قدرتها على هزِّ الجذع محدودة، فعليها أن تهزَّ الجذع وعلى الله إسقاط الرطب.

ومعنى قوله: ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: طيبي نفسًا، فلا تجعلي للحزن إلى نفسك سبيلًا، وأمرها كذلك أنها إذا رأت بشرًا تمتنع عن الكلام وتفهمه بالإشارة أو نحوها أنها نذرت للرحمن صومًا؛ أي: إمساكًا عن الكلام، فلن تكلم اليوم إنسيًّا، فاطمأنَّ خاطرُها، وأكلت مِن الرطب الجني، وشربت من السري، وقرَّت عينها بمولودها، فجاءت به إلى قومها وهي تحمله، فلما رأوها تحمله وعليها آثار وضعه قالوا: يا مريم، لقد ارتكبت أمرًا منكرًا فظيعًا، وفعلتِ فاحشة بشعة، كيف ترتكبين جريمة الزنا يا أخت هارون، وأنت ابنة عمران الصالح، وأمك كانت من الصالحات؟! وقولهم لها: يا أخت هارون، يحتمل أنه كان رجلًا صالحًا في زمانها من أهلها، وكانت تُشبَّه به في الصلاح والعبادة قبل مجيئها بعيسى، أو أنه كان رجلًا فاسدًا معروفًا لديهم بالانحراف فشبهوها به، والظاهر الأول؛ لما رواه مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون؟ يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فَرُحْتُ فَذَكَرْتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟))، وهذه الشبهة الداحضة التي أثارها بعضُ نصارى نجران ونسب إلى محمد بن كعب القرظي الإسرائيلي أنه زعم أنَّ مريم أم المسيح هي أخت موسى وهارون عليه السلام، وهذا مِن أفحش الخطأ الذي نسب إلى محمد بن كعب القرظي، ولا يزال يشبه بها بعض أعداء الإسلام على بعض الأغرار في بعض البلدان المحاربة للإسلام إلى اليوم.

ولما أشارت مريم إلى طفلها المسيحِ عليه السلام ازدادوا استغرابًا واستنكارًا، وقالوا لمريم: كيف نكلِّمُ مَن كان في المهدِ صبيًّا؟ فنطق عيسى عليه السلام وتكلَّم بما يقطع ألسنة أعداء الله وأعداء المرسلين، وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: 30]؛ أي: قضى وحكم بأن ينزل عليَّ الإنجيل ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33].

فَأَقَرَّ بالعبوديَّة لله وحدَه ونزَّه جنابَ الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته البتول الطيبة الطاهرة، وبرَّأ أمه مما نسبها إليه الحاقدون والجاهلون وقذفوها به؛ إذ كان نطقُه وجوابُه تبرئة لها من كلِّ بهتان.

وفي قصة حمل مريم بالمسيح عليه السلام وولادته يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [آل عمران: 45 - 49].

وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 16 - 33].

ويقول تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].

ويقول تعالى في سورة التحريم: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 16-07-2025 08:41 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





أشارَ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى أن الملائكةَ عندما بشَّرت مريم بولدٍ ذَكَرتْ لها أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وبهذا الاسم يتميز مسيح الهدى عن مسيح الضَّلالة الدجال، ولفظ المسيح قيل: هو عبراني ومعناه: المبارك، وقيل: إنما سُمي مَسيحًا؛ لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ بإذن الله، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين؛ أي: لا أخمص لهما، وقيل: لأن الله مسحه، أي: خلقه خلقًا مباركًا حسنًا، وقيل: هو مأخوذ من السياحة وهي الذهاب في الأرض والتنقل فيها للدعوة، قال في القاموس المحيط في مادة ساح: والسياحة بالكسر والسُّيُوح والسيحان والسيحُ: الذهاب في الأرض للعبادة، ومنه المسيح ابن مريم، وقد ذكرت في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي لصحيح البخاري وغيره؛ اهـ.

وقال في مادة مسح: والمسيح عيسى صلى الله عليه وسلم لبركته، وذكرت في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي لمشارق الأنوار وغيره؛ اهـ.

وقال ابن منظور في لسان العرب: قال ابن سِيده: والمسيح عيسى ابن مريم صلى الله على نبيِّنا وعليهما، قيل: سُمِّي بذلك لصدقِه، وقيل: سُمي به؛ لأنه كان سائحًا في الأرض لا يستقر؛ اهـ.

وقيل: سمي المسيح مسيحًا؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، كما سمي الدجال مسيحًا؛ لأنه كان ممسوح العين.

وسيقتل مسيحُ الهدى عيسى ابن مريم مسيحَ الضَّلالةِ الدَّجَّالَ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ينزل في آخر الزمان، أما عيسى عليه السلام فقيل: هو اسم غير مشتق، وهو اسم عبراني أو سرياني، وقد حرَّفه المحرفون وقلبوه وقالوا: يسوع، وقيل: هو مشتق من العيس؛ وهو بياض تعلوه حمرة، وتسمى الإبل البيض التي يخالط بياضها شقرة عيسًا.

وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنه هيَّأ لعيسى عليه السلام وأمه ربوة ذات قرار ومَعين، فنزلاها وسكنا فيها، والربوة المكان المرتفع، ومعنى كونها ذات قرار، أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمَعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون، ولم يرد في خبر صحيح تحديدُ مكان هذه الربوة، وبعض الناس يقول: إنَّها بيت المقدس، وبعضهم يقول: إنها غوطة دمشق وما حولها، وبعضهم يقول: إنها فلسطين، وبعضهم يقول: إنها أرض الفيوم في مصر، والعلم في ذلك عند الله عز وجل، والمقصود أن الله تبارك وتعالى يسَّر لهما الإقامة الآمنة والمَنْزِل الصالح، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50].

وقد أشارَ الله تبارك وتعالى إلى أن عيسى عليه السلام تعلَّم الكتابة ومنحه الله عز وجل الحكمةَ والفقه في التوراة، وعندما بلغ أشدَّه بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل، فيه هدًى ونورٌ وموعظة للمتقين، وبشارة بسيد المرسلين، وقد أمره الله عز وجل أن يطلب من بني إسرائيل أن يحكموا بالإنجيل، وقد أيَّد الله تبارك وتعالى عيسى بالمعجزات الحسيَّة الباهرة، والآيات الظاهرة القاهرة، الشاهدة بأنه رسول مِن رب العالمين، فجاء عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأخبرهم أنه رسول الله وأنه عبده، وقد آتاه الإنجيل، وأنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه، وأعلمهم أنه قد جاءهم بآياتٍ من ربهم تتمثَّل في خمس آيات حسيَّة، وهي:
أنه يَخلق من الطِّين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله؛ أي: يصوِّرُ من الطين شكلَ طيرٍ، ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله، وهم ينظرون إليه ويشاهدونه بأعينهم، وقد أَذِنَ عز وجل لعيسى عليه السلام في تصوير صورة الطير من الطين والنفخ فيه ليطير بإذن الله؛ لتكون هذه المعجزة آية ظاهرة على أنه رسول من رب العالمين.

أما الآية الثانية: فهي أنه يُبرئ الأكمه بإذن الله؛ والأكمه هو من ولد ممسوح العينين لا حدقة لعينه، وإبراؤه ليبصر لا طاقةَ لأحد من الأطباء قديمًا وحديثًا عليه، فهي من أظهر المعجزات الحسيَّة التي لا قدرة للبشر عليها.

والآية الثالثة: هي إبراءُ الأبرص وشفاؤه بإذن الله، والبرص داء معروف؛ وهو بياض يعتري جلد الإنسان يعجز نُطسُ الأطباء عن علاجه قديمًا وحديثًا.

والآية الرابعة: هي إحياء الموتى بإذن الله.

وهذه الآيات الأربع لا قدرةَ لأحدٍ من البشر عليها في قديم الزمان وحديثه، وقد أشرت في الفصل الحادي والخمسين من هذا الكتاب عند الحديث عن معجزات موسى عليه السلام بأنه قد جَرَتِ السُّنة الإلهية في أن يبعث الله كلَّ نبيٍّ بمعجزة تفوق أعلى درجات العلم الذي برع فيه قومه؛ ليكون أظهر للحق، وليعرفوا أنه من عند الله، وأنه لا يقدر على مثله البشر؛ ولذلك أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن وجعله معجزته الكبرى؛ لأن قوم محمد صلى الله عليه وسلم قد برعوا في الفصاحة والبيان والبلاغة حتى أقاموا للخطباء والشعراء منابر في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز، وكما أرسل عيسى عليه السلام بإبراءِ الأَكْمَهِ والأَبْرَصِ وإحياء الموتى بإذن الله؛ لأن قومه قد بلغوا في الطبِّ شأوًا لم يسبقوا إليه.

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 48 - 51]، قال رحمه الله: قال كثير من العلماء: بعث الله كلَّ نبيٍّ من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالبُ على زمان موسى عليه السلام السحرَ وتعظيمَ السحرةِ، فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار وحيَّرت كلَّ سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار.

وأما عيسى عليه السلام فبُعثَ في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيَّدًا من الذي شرع الشريعة، فمِن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث مَن هو في قبره رهين إلى يوم التناد... إلخ.

أما الآية الخامسة من الآيات الحِسيَّة التي أيَّدَ الله تعالى بها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، فهي أنه يخبرهم بما يأكلون وبما يدَّخرون في بيوتهم، أي: يقول لأحدهم: أنت أكلتَ اليوم كذا، وتدَّخِر في بيتك لغدك كذا، مما يقطعون بأنه لا علم لغيرهم به، وقد أخبرهم عيسى عليه السلام بأن هذه آية من الله ينتفع بها مَن يشرح الله صدره للإيمان، وأن عيسى عليه السلام يؤمن بما سبقه من الكتب السماوية، ويصدق ما في التوراة، وأن شرعه يُحلُّ لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم في شريعة موسى عليه السلام، وأنه يشرح لهم الوجهَ الصحيحَ فيما يختلفون فيه من المسائلِ ويبيِّن لهم الحقَّ والصوابَ فيما اختلفوا فيه، وأنه مؤيَّد من الله، ثم جَرَّد لهم ما يدعوهم إليه وهو إخلاص العبادة لله وحده وامتثال ما يشرعه الله لهم على لسانه عليه السلام، وطالبهم بتقوى الله فقال لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 50، 51].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 17-07-2025 07:37 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (5)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



أشرتُ في الفصل السابق إلى أن الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وآتاه الإنجيلَ، وأيَّده بخمسِ معجزات حسيَّة ظاهرة قاهرة، وأن عيسى عليه السلام طلبَ من بني إسرائيل أن يعبدوا الله وحدَه لا شريك له ويتَّقُوه ويطيعوا عيسى صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنه مصدِّقٌ لما بين يديه من التوراة، وأنه يُحِلُّ لبني إسرائيل بعضَ ما حرِّم عليهم، وأنه يبين وجهَ الصواب فيما يختلفون فيه، وقد أرشدهم إلى أن هذا هو الصراط المستقيم، فمن سلكه فاز في الدنيا والآخرة، ومن كذب به خسر الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة آل عمران عن عيسى عليه السلام، بعدما ذَكَرَ أنه يعلِّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، قال:
﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 49 - 51].

ويقول عز وجل في سورة المائدة: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110].

وفي قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾ صريحٌ في أن الله تعالى أَذِنَ لعيسى عليه السلام في تصوير صورة الطيور من الطين، كما أنَّ نفخه فيها لتحلها الحياة وتطير إنما كان بإذن الله كذلك، تأييدًا لعيسى وتصديقًا له صلى الله عليه وسلم، والله يفعل ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وفي ذلك كله إشارة إلى أن عيسى عبدٌ من عبيدِ الله، يأتمرُ بأمر الله وينتهي بنهيه، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل، وقد أنذر عيسى عليه السلام قومه من الشرك بالله وخوَّفَهم من عقوبته، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].

ويقول تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الزخرف: 63، 64].

كما أشار الله تبارك وتعالى إلى أن عيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل في غير موضع من كتابه الكريم؛ حيث ذكر أنه قفَّى بعيسى عليه السلام على آثار الأنبياء؛ أي: أتبعهم بعيسى عليه السلام، وجعله تابعًا لهم؛ أي: متأخرًا عنهم في الزمان؛ حيث يقول عز وجل في سورة الحديد: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 25 - 27].

وقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 46، 47].

وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَوْلَى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه ليس بينه وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيٌّ؛ فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا أَوْلَى الناسِ بابن مريمَ، والأنبياءُ أولادُ عَلَّات، ليسَ بيني وبينه نبيٌّ))، كما روى البخاري في صحيحه من طريق عبدالرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))، كما روى مسلم في صحيحه من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة)) قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد؛ فليس بيننا نبي))، وفي لفظ لمسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علَّات، وليس بيني وبين عيسى نبي))، ومعنى قوله في الحديث: ((أولاد علَّات)) أو ((إخوة من علَّات)) هم الإخوة لأب من أمهاتٍ شتَّى، أما الإخوة الأشقاء، أي: من الأبوين، فيقال لهم: أولاد الأعيان أو الإخوة الأعيان، ومعنى أن الأنبياء أولاد علات أو إخوة من علات وأمهاتهم شتى أن دين جميع الأنبياء أصوله واحدة في التوحيد والرسالة والبعث بعد الموت، وسائر الوصايا العشر الواردة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153].

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: ((وأمهاتهم شتى)) إلى أن الله تبارك وتعالى شَرَعَ لكلِّ أمة من أمم الأنبياءِ منهاجًا في الفروع يلائم زمانها ومكانها؛ على حد قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].

ولذلك كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة إلا سيد المرسلين وإمام المتقين محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد بعثه الله إلى الناس كافة، بل عمَّ برسالته الإنس والجن، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال في سورة سبأ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقال في أول سورة الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

كما روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُعطيت خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي، وذكر فيهم: وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامة)).

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 17-07-2025 07:54 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (6)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




بعث الله عز وجل عبدَه ونبيَّه ورسولَه عليه السلام بالإنجيل، وقد وصف الله تبارك وتعالى الإنجيل بأنه فيه هدًى ونورٌ، وأنه مصدِّقٌ لما بين يديه من التوراة، وأنه هدى وموعظة للمتقين، والإنجيل كلمة يونانية معناها البشارة، وقد أطلقه الله تبارك وتعالى على كتابه المنزل على عيسى عليه السلام، بيد أن هذا الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام لا وجود له عند النصارى، ولم يذكر أحد من علماء النصارى أو غيرهم أنه رأى نسخة كاملة منه، ويبدو أن عيسى عليه السلام لم يكتبْه وإنما كان يبشِّرُ به في بني إسرائيل، وقد ورد ذكره في الكتب التي أُلِّفت بعد رفع المسيح عليه السلام والتي سمَّاها أصحابها الأناجيل؛ فقد ذكره متَّى في إنجيله في الإصحاح الرابع منه، إذ يقول: "وكان يسوع يطوف كلَّ الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضعيفٍ في الشعب"، فكلمة بشارة الملكوت التي وردت في هذه الفقرة هي الإنجيل؛ إذ إن معنى الإنجيل هو البشارة، كما ذكره مرقص في إنجيله في الإصحاح الأوَّل منه إذ يقول: "وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرزُ ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".

وقد زعم بعضُ الناس أن الإنجيل كان مقتصرًا على البشارة خاليًا من الأحكام؛ مدَّعِيًا أن عيسى عليه السلام كان يقتصر على ما في التوراة من الأحكام؛ وهذا قول فاسد كاسد عاطل باطل، فقد نصَّ الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم بما يقضي أن الإنجيلَ كتاب أحكام، وإن كان يشتمل على البشارة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، بيدَ أنه لقربه من زمان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تجلَّت البشارة فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان كلُّ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى بشَّر أمته بمحمد صلوات الله وسلامه عليه للميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء بتأييد محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

وقد وصف الله تبارك وتعالى مقامًا من مقامات عيسى عليه السلام بما يُفيد أنه قام خطيبًا في بني إسرائيل يخبرهم أنه رسول من الله يبشِّرهم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].

ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم له أسماء، منها: محمد وأحمد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد، وقد سمَّاه الله رؤوفا رحيمًا))، وفي لفظ لمسلم من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يُمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عَقبي، وأنا العاقب؛ والعاقب الذي ليس بعده نبي...))، ولفظ محمد أو أحمد هو معنى المنحمنا أو الفارقليط الوارد في الكتب التي بيد النصارى في بشارة عيسى عليه السلام التي يُخبر فيها بأنه سيُقِيم حتى يأتي المنحمنا وفي بعض التراجم: "حتى يأتي الفارقليط"، والمنحمنا أو الفارقليط هو المحمود الحمد الكثير، وهو معنى أحمد أو محمد وهو إشارة إلى أن شريعة عيسى عليه السلام تستمر حتى تنسخها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا شكَّ في أن علماء أهل الكتاب عمومًا كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم بسبب بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم له لأممهم حتى يؤمنوا به إذا جاء، ومن صفاته عندهم أنه يُبعث بالحنيفيَّة دين إبراهيم عليه السلام، وأنه يخرج بأرض العرب، وأنه يهاجر إلى أرض سبخة ذات نخيل بين لابتين، وأنه يأكل الهديَّة ولا يأكل الصدقة، وأن في كتفه خاتم النبوَّة كزر الحجلة.

وفي التوراة: "سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلَك يا موسى، أنزل عليه توراة وأجعل كلامي على فيه".

ولم يأتِ أحدٌ من الرسل يذكر أن معجزته كلام الله غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعلَ الله معجزته الكبرى وآيته العظمى القرآن العظيم والذكر الحكيم، الباقي محفوظًا بحفظ الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والتوراة معناها الشريعة، كما جاء أيضًا في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: "تجلى الله أو جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى أو استعلن من جبال فاران"، وهو إشارة إلى دين موسى الذي أوحى الله إليه به في طور سيناء، وبشارة بعيسى عليه السلام الذي أنزل الله عليه الوحي في جبال ساعير من أرض الجليل بقرية تدعى الناصرة، ويقال لها أيضًا: نصرانة التي سُمي من ينتمي إلى المسيح عليه السلام بها، فيقال لهم: النصارى، وقوله: "واستعلى أو استعلن من جبال فاران أو من بريَّة فاران"، بشارة واضحة جليَّة بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل تعالى عليه الوحي ببرية أو جبال فاران وهي أرض مكة بلا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب.

وهذه البشارة الواردة في التوراة تطابق ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 - 3]، فالتين والزيتون جبلان بالأرض المقدسة من الشام، بعث الله تعالى عندهما عيسى عليه السلام، وطور سينين: هو الجبل الذي كلَّم الله موسى عنده وآتاه فيه التوراة، والبلد الأمين: هو مكة المكرمة قدسها الله، وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وجدت في التوراة في صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه: "يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأُمِّيِّينَ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكِّلَ، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقِيمَ به الملَّة العوجاء، ويفتح عيونًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غُلفًا بأن يقولوا: لا إله إلا الله".

والمراد بالتوراة في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في هذا المقام هو بعض كتب العهد القديم؛ إذ يُطلِق بعض المسلمين اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم التي تشمل التوراة بأسفارها الخمسة، وتشمل كذلك نبوات بعض الأنبياء، كما أن النصارى يطلقون اسم التوراة على مجموع كتب العهد القديم وعلى الأناجيل أيضًا، وإن كان الأصل في كلمة التوراة أنها خاصة بكتاب الله تعالى المنزَّل على موسى عليه السلام الذي ألقاه الله إليه مكتوبًا في الألواح.

وفي تواتر صفات محمد صلى الله عليه وسلم عند علماء أهل الكتاب، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].

ويقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 19-07-2025 07:10 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (7)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد







عَرَض المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام دعوتَه المُشْرِقة على بني إسرائيل، وأظهرَ لهم من الآيات والمعجزات ما مثله آمن عليه البشر، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة))، وقد لَقِيَ المسيحُ عليه السلام من بني إسرائيل عنتًا وأذًى، بالرغم من علمهم بأن في وصايا أنبياء بني إسرائيل السابقين أنْ سيجيء لبني إسرائيل مسيح، غير أنهم كفروا بهذا المسيح الحق، وزعموا أنه ليس مسيحَهم المنتظر، فكفروا بعيسى عليه السلام، ولا شكَّ في أن المسيح الذي سيسارع اليهود إلى اتباعه هو مسيح الضلالة الدجال؛ ولذلك قضى الله عز وجل أن مسيح الهدى عيسى ابن مريم ينزل آخر الزمان عند ظهور مسيح الضلالة الدجَّال؛ فيقتله ويقتل أتباعَه من اليهود عليهم لعائن الله.

وقد آمن بعيسى عليه السلام طائفةٌ من بني إسرائيل وصار منهم حواريُّون للمسيح عليه السلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكلِّ نبيٍّ حَوَارِيَّ، وإن حواريَّ الزبيرُ بن العوام))، والحواري في الأصل: هو الوزير، أو مَن يصلح للخلافة، أو الناصر، أو الخالص، أو هو ناصر الأنبياء، أو القصَّار؛ لأنه يحوِّر الثياب، أي: يبيضها.

وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وسُمِّي الحواريون لبياض ثيابهم، وقيل: حواري الرجل خاصته، والمتبادر من القرآن العظيم يشعر أن الحواريين هم السابقون الأولون من أمة عيسى عليه السلام وكبار أصحابه رضي الله عنهم وخواصهم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الحواريين في محكم كتابه الكريم في مواضع، فذكر ما ألقى الله عز وجل في نفوسهم من المسارعة إلى الإيمان بعيسى عليه السلام ونصرته وتصديقه، فيما جاء به عن ربه عز وجل حيث يقول: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 111]، ومعنى ﴿ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ﴾ [المائدة: 111] في هذه الآية المباركة هو ما ألهمهم به وقذف في قلوبهم من تصديق عيسى عليه السلام ونصرته، ولا شكَّ في أن الحواريين ليسوا بأنبياء، وليسوا بمعصومين من الخطأ؛ ولذلك ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا لعيسى عليه السلام: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112]، فخوَّفهم عيسى عليه السلام من مغبَّةِ هذا السؤال، وأمرهم بتقوى الله، وأنه لا ينبغي لمسلمٍ أن يقترح على الله الإتيان بالآيات؛ لأن سنَّته جَرَتْ أن من اقترح على اللهِ آية ولم يؤمن بها إذا جاءت أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ونبَّه عيسى عليه السلام الحواريين إلى أن مقتضى إيمانهم ألا يتقدَّموا على الله باقتراح مثل هذه الآية، وأن يعلموا أن الله لا يُعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، غير أن الحواريين ذكروا لعيسى عليه السلام أنهم إنما طلبوا إنزال مائدة من السماء لأنهم يريدون أن يأكلوا منها وأن تطمئنَّ قلوبهم بزيادة الإيمان واليقين إذا رأوا هذه الآية الحسيَّة، ويزدادوا علمًا بأن عيسى عليه السلام قد صدقهم، ويكونوا عليها من الشاهدين، ولا شكَّ في أن سؤال الحواريين هذا أخفُّ من سؤال أصحاب موسى عليه السلام؛ إذ قال بعضهم لموسى عندما رأوا قومًا يعكفون على أصنام لهم: ﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، وأخف من قول أصحاب موسى لموسى: ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ [النساء: 153].

وقد رأى عيسى عليه السلام أن المصلحة تقتضي أن يتضرَّع إلى الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون عيدًا وفرحًا ومسرَّة للمؤمنين في عاجلتهم، وينتفع بالإيمان بها من بعدهم من المؤمنين، وتكون آية من الآيات الشاهدات على أن الله رب كل شيء وسيده ومليكه، وأن أمرَه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، فأخبر الله عيسى عليه السلام بأنه منزل عليهم هذه المائدة المطلوبة، وأنه مَن يكفر بالله بعد رؤيته لهذه الآية الباهرة والمعجزة القاهرة فإن الله سيعذِّبه عذابًا لم يعذِّب مثله في شدته أحدًا من العالَمين، والمائدة: هي الخُوَان عليه طعام، فإذا لم يكن على الخُوان طعام فإنه لا يسمى مائدة، والأصل في الخُوان أن يتخذ من الخشب وينصب على قوائم، فإذا كان الطعام على جلد أو فراش أو شيء بلا قوائم فإنه يقال له: سفرة، وقد أُثِرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكلْ على خوان قطُّ؛ وهي الشيء المرتفع عن الأرض بقوائمه، وإنما كان يأكل على السفرة صلى الله عليه وسلم؛ لأنها عادة العرب، كما أن الخوان من عادة العجم، وقد تسمى السفرةُ مائدةً.

وفي قصة المائدة يقول الله عز وجل: ﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 112 - 115]، وقد سمِّيَت السورة كلها باسم المائدة، وقد زعم بعض الناس أن المائدة لم تنزل؛ لأن الحواريين لما سمعوا الوعيدَ الشديد على من كفر بها بعد نزولها خافوا وأبوا أن تنزل عليهم، وصريح القرآن شاهد على نزولها لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ﴾ وهذا إخبار بنزولها، وتأكيد بأنه برهانٌ قاطعٌ على نزولها، والعيد يوم السرور الذي يتكرَّر وكلُّ يوم فيه جمع، قال ابن منظور في لسان العرب: قال ابن الأعرابي: سُمي العيد عيدًا لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد؛ اهـ.

هذا، وما نُقِلَ عن كثيرٍ من المفسرين في صفة المائدة المنزلة على عيسى عليه السلام والحواريين، وفيما احتوته هذه المائدة من ألوان الطعام وأسمائه لم يَثْبُتْ شيء منه بخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 19-07-2025 07:11 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (8)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرْتُ في الفصل السابق أن طائفة من بني إسرائيل آمنت بعيسى عليه السلام، وعلى رأس هؤلاء الحواريون رضي الله عنهم كما تقدَّمَ، وقد كفرت طائفة من بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، ووصفوه بأنه ساحر، وتعاونوا مع الرومان الوثنيين الذين كانوا يحكمون فلسطين وقتئذٍ ضد عيسى عليه السلام، فَلَقِيَ من عنتهم وأذاهم ومكرهم هو والذين آمنوا معه ما لا يعلمه إلا الله؛ مثل ما لقي إخوانُه من أولي العزم من المرسلين، وقد عدَّه الله تبارك وتعالى في شيوخ المرسلين الخمسة الكبار؛ وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ حيث يقول عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].

وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].

وقد اندهش بعض الناس من الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام؛ من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وجعل الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيطير، فحسبوا أن ذلك يُشعر أن عيسى فوق البشر وليس منهم، مع أنه كان ينبِّه عند هذه الآيات إلى أنها بإذن الله، وأنها معجزات من الله تعالى لتأييده، وقد أشار إلى ذلك برنابا في إنجيله الذي ألَّفه للرد على مَن حرَّف دين المسيح عليه السلام بعد رفع المسيح ابن مريم؛ إذ يقول برنابا في الإصحاح الثالث والتسعين من إنجيله: "أجاب الكاهن: إن اليهوديَّة قد اضطربت لآياتك وتعليمك، حتى إنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودس فنرجوك من كلِّ قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك؛ لأن فريقًا يقول: إنك الله، وآخر يقول: إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، أجاب يسوع: وأنت يا رئيس الكهنة، لماذا لم تُخمد الفتن؟ وهل جُننت أنت أيضًا؟ وهل أمست النبوَّات وشريعة الله نسيًا منسيًّا، أيتها اليهوديَّة الشقيَّة التي ضللها الشيطان؟ ولما قال يسوع هذا عاد فقال: إني أشهد أمام السماء وأُشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر؛ لأني بشر مولود من امرأة، وعُرضة لحكم الله أعيش كسائر البشر".

وبرنابا مؤلف هذا الإنجيل وصف في الإصحاح الرابع عشر منه بأنه أحد الحواريين الاثني عشر، كما وصف في رسالة منسوبة إلى لوقا أحد مؤلفي الأناجيل المسماة بأعمال الرسل بأنه من الرسل؛ أي: من المبعوثين الذين كان يبعثهم عيسى عليه السلام للدعوة في نواحي الجليل وغيرها، فـ"لوقا" يقول في هذه الرسالة: "يوسف الذي دُعي من الرسل برنابا الذي يترجم بابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنس؛ إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل".

وقد كان عيسى عليه السلام صبورًا على الأذى، حريصًا على هداية قومه، بشوشًا، شديد التعظيم لأمر الله عز وجل؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأى عيسى ابن مريم رجلًا يسرق فقال له: أسرقتَ؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله وكذبتُ عيني))، وقد ضاق به اليهود والرومان الوثنيون ذرعًا، وتمالؤوا عليه، فلما أحسَّ عيسى منهم الكفرَ واستشعر منهم التصميم على العناد والاستمرار على الضلال ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 52، 53]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

وقد همَّ اليهود والرومان بالفَتْكِ بالمسيح ابن مريم عليه السلام وعزموا على قتله، فلما أحاطوا بمنزلِه، وظنوا أنهم قد ظفروا به، نجَّاه الله تبارك وتعالى من شرِّهم وكيدِهم، فألقى شبهه على شخص من مُبْغضِيه، فحسبوه عيسى عليه السلام، فأخذُوه وقتلوه وصلبوه، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه وخيَّب مكرَ الماكرين، وردَّ كيد الكافرين، وفي ذلك يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 54 - 57].

وهكذا قضى الله عز وجل أن ينصرَ رسله والمؤمنين، وأن يُخزي أعداءَه الكافرين، وقد نصَّ الله عز وجل على أن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب، وإنما شُبِّه لليهود، وفي ذلك يقول: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 156 - 158].

وإن تعجب فعجبٌ أن يصدق النصارى اليهودَ في أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وبخاصة من انحرف عن الحقِّ، وزعم أن عيسى إله أو ابن إله، كيف يخطر على بال مَن به أدنى مسكة من عقل أن يعتقد أن الإله يصلبُ أو يقتلُ.

وقد جاء في إنجيلِ متَّى وإنجيل مرقص النصُّ على أن الذين أرادوا قتلَ المسيح وصلبه لم يكونوا يعرفونه؛ ففي الإصحاح السادس والعشرين من سفر متَّى في الفقرة السابعة والأربعين من هذا الإصحاح: "وفيما هو يتكلم إذ يهوذا واحدٌ من الاثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثيرٌ بسيوفٍ وعصيٍّ من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب"، وفي الفقرة الثامنة والأربعين: "والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو"، وفي إنجيل مرقص في الإصحاح الرابع عشر في الفقرة الثالثة والأربعين منه: "وللوقت فيما يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ"، وفي الفقرة الرابعة والأربعين: وكان مُسلِّمه قد أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو أمسكوه وامضوا به بحرصٍ".

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 19-07-2025 07:12 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (9)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في ختام الفصل السابق أن الذين أرادوا قتلَ المسيح وصلبه ما كانوا يعرفونه، وسُقْتُ من إنجيل متَّى وإنجيل مرقص النصَّ على ذلك، وقد جاء كذلك في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن الله أوقع الشكَّ حتى في قلوب أصحاب عيسى عليه السلام في ذات المسيح، فصاروا يتردَّدون: هل هذا هو يسوع الذي أُخِذَ ليقتل ويصلب أو غيره؟! وقد كان بين المسيح عليه السلام وبين يهوذا الإسخريوطي الذي دخل على المسيح ليسلمه لليهود والرومان شَبَهٌ كبيرٌ؛ فصاروا لا يدرون عن الذي أُخِذَ؛ أهو المسيح أم يهوذا الإسخريوطي؟! وقد نَقلت الأناجيل الأربعة قولَ المسيح عليه السلام لأصحابه ليلةَ عَزْمِ أعدائِهِ على تبييتِه: "كلكم تشكون فـيَّ في هذه الليلة"، كما جاء في الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى في الفقرة الواحدة والثلاثين، وكما جاء في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل مرقص في الفقرة السابعة والعشرين، وقد جاء في إنجيل برنابا التصريح بأن الجنود أخذوا يهوذا الإسخريوطي نفسه ظنًّا أنه المسيح؛ لأنه أُلقي عليه شبهه، وقد ذكر (جورج سايل) الإنجليزي في ترجمته للقرآن في سورة آل عمران في الصفحة الثامنة والثلاثين أن يهوذا الإسخريوطي كان يُشبه المسيح في خلقه، وذكر عن فرقة من أقدم فرق النصارى وهم (السينثيون والكوبوكراتيون) أنهم أنكروا صلب المسيح، وصرحوا بأن الذي صُلب هو يهوذا الإسخريوطي الذي كان يشبهه شبهًا تامًّا؛ اهـ.

والنصارى مطبقون على أن يهوذا الإسخريوطي فُقِدَ بعد حادِثَةِ الصلب ولم يظهر في الوجود، وإن كان النصارى اختلفوا في قصة نهايته؛ ففي إنجيل متى في الإصحاح السابع والعشرين في الفقرة الرابعة منه عن يهوذا الإسخريوطي أنه مضى وخنق نفسه، وقد تناقضت رسالة أعمال الرسل مع إنجيل متَّى في نهاية يهوذا الإسخريوطي؛ فقد جاء في الإصحاح الأول في الفقرة الثامنة عشرة من رسالة أعمال الرسل التي ألَّفَها لوقا صاحب الإنجيل عن يهوذا: "فإن هذا اقْتنى حقلًا من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشقَّ من الوسط انسبكت أحشاؤه كلها".

وهذا التناقض بين إنجيل متَّى ورسالة أعمال الرسل (والنصارى يقدسون هذين الكتابين)، أقول: هذا التناقض دليل عدم معرفة مآل يهوذا الإسخريوطي، وهو برهان ساطع على أن المصلوبَ بيد اليهود والرومان لم تكن شخصيَّتُه معلومة علم اليقين عند هؤلاء، وقد أكَّدَ الله تبارك وتعالى هذا المعنى بقوله عز وجل: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158].

وقد التبس الأمرُ على اليهود والنصارى والرومان، ووقعوا في الشكِّ والحيرة والتردد: أكان المصلوب عيسى أم غيره؟! فبعضهم كان يقول: هو هو يسوع، وبعضهم يقول: إنه غيره؛ وذلك بسبب شبه يهوذا الإسخريوطي بعيسى عليه السلام، أضف إلى ذلك أنه كان معه شخص آخر هو باراباس، وقد جاء في إنجيل متَّى في الفقرة السابعة عشرة من الإصحاح السابع والعشرين: ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يُدْعَى المسيح؛ اهـ.

وقد رفع اللهُ تبارك وتعالى المسيحَ ابن مريم إليه وخلَّصَه من بني إسرائيل الكافرين الحاقدين الحاسدين، وفي ذلك يقول عز وجل في سورة آل عمران: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]، ويقول في سورة النساء: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 158].

وجمهورُ أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى رفع المسيح إليه بجسده وروحه، ويفسِّرون التَّوَفِّي في قوله تعالى: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ بأنه إلقاء النوم عليه إلى أن رفعه الله إلى السماء؛ على حد قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: 42]، وكقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60]؛ أي: ينيمكم بالليل، ويعلم ما اكتسبتم من أعمال بالنهار.

وخصَّ النومَ بالليل والاكتساب بالنهار؛ لأن ذلك هو الأصل الملائم لطبيعة الإنسان، وقد لا ينام الإنسان بالليل ولا يكتسب بالنهار، إلا أن ذلك مضرٌّ بفطرته وقوام نفسه، وقد ذهب عامةُ أهل السنة والجماعة إلى أن عيسى عليه السلام حيٌّ في السماء، وأنه ينزل في آخر الزمان عند ظهور المسيح الدجال فيقتله باللُّد من أرض فلسطين، ويقتل مَن معه من اليهود، ويريق الخمرَ ويكسر الصليبَ، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، وفي زمن نزوله يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، وأن عيسى عليه السلام يضرع إلى الله ويدعوه أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله له، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أن نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان من أمارات الساعة حيث يقول: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾ [الزخرف: 61] على قولٍ لأهل العلم من أهل التفسير والتأويل؛ أي: إن نزول المسيح عليه السلام علامة من علامات قرب الساعة، أو إن إيجاد عيسى عليه السلام من غير أب دليل على أن الله قادر على كلِّ شيء، وأنه برهان على قدرة الله على إحياء الموتى وبعث الناس يوم القيامة، كما ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن معنى قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: 159]، يعني: أن جميع الكفار من اليهود والنصارى عندما يأتيهم الموت وينقطعون عن الدنيا يعلمون أن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لم يُقتل ولم يُصلب، ويصدقون أن الله رفعه إليه وصانه من مكر اليهود وكيدِهم، وأنه ليس إلهًا ولا ابن إله كما يزعم النصارى عليهم وعلى اليهود لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

وهذا الإيمان عند معاينة الموت لا ينفعهم، وأكثر المفسِّرين أرجع الضميرَ في "موته" إلى عيسى عليه السلام، وأنه عند نزوله يؤمن به البر والفاجر، ويسارعون إلى تصديقه، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: 159] قد سيق في تقرير بطلان ما ادَّعتْه اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجاهلين أن عيسى قُتل وصُلب، فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس كذلك وإنما شُبِّه لهم فقَتَلوا الشبهَ وهم لا يتبيَّنُون ذلك، بل رفعه الله إليه وهو حي وأنه سينزل قبل القيامة.

ونزول المسيح عليه السلام آخر الزمان من عقائد أهل السنة والجماعة التي لا يزيغ عنها إلا ضال هالك؛ فقد روى البخاري ومسلم من عدة طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيرًا له من الدنيا وما فيها))، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليهلَّنَّ ابنُ مريمَ بفجِّ الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما))؛ أي: أو ليقرنَنَّ بينهما، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف بكُم إذا نزَل فيكم المسيحُ ابن مريم وإمامكم منكم))، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيشٌ من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نُخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقتل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يُفْتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمُون الغنائمَ قد علَّقوا سيوفَهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأَمَّهُم، فإذا رآه عدوُّ الله ذابَ كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانْذاب حتى يَهلك، ولكن يقتلُه اللهُ بيدِه، فيريهم دمه في حربته)).

وقوله: ((إن المسيح قد خلفكم))، يعني به: الدجَّال، وقوله: "فأَمَّهُم"، يعني: قصد المسلمين للاقتداء بإمامهم في الصلاة، أو قصد الدجال وعصابته لقتلهم وإهلاكهم، والأول أظهر؛ لقوله في رواية البخاري ومسلم المتقدمة: ((وإمامكم منكم))، كما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزالُ طائفة من أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة))، قال: ((فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضَكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة))؛ اهـ.

وهذا دليلٌ على أن الله يحفظ لهذه الأمة دينها من التبديل والتغيير إلى آخر الزمان، حتى ينزل المسيح ابن مريم فيَحْكُم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:25 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (10)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





إليكم جملةٌ أخرى من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزول المسيح ابن مريم عند ظهور المسيح الدجَّال؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجَّالَ ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رُحْنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ((ما شأنكم؟))، قلنا: يا رسول الله، ذكرْتَ الدجَّال غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: ((غَيْرُ الدجَّال أَخْوَفُنِي عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولستُ فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كلِّ مسلم، إنه شابٌّ قَطَطٌ، عينه طافية، كأني أُشَبِّهُه بعبدالعُزى بن قطن، فمن أدركه منكم فلْيقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجٌ خَلَّةً بين الشام والعراق، فعاث يمينًا وعاث شمالًا، يا عباد الله، فاثبتوا))، قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: ((أربعون يومًا؛ يوم كسَنَة، ويوم كشَهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم))، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كَسَنَةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره))، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الرِّيح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كان ذرًا وأسبغه ضروعًا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله: فينصرف عنهم، فيصبحون مُمْحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرُّ بالخربة فيقول لها: أَخْرِجي كنوزَك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رَمْيَةَ الغرض، ثم يدعوه فيُقبل ويتهلَّل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث اللهُ المسيحَ ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرودتين، واضعًا كفَّيه على أجنحة ملَكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جُمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يَجِدُ ريحَ نَفَسِهِ إلا مات، ونفسه حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لُدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قومٌ قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجتُ عبادًا لي، لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلِّ حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا مَن في الأرض، هلمَّ فلنقتل مَن في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهُم وَنَتَنُهُم، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يكنُّ منه بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيغسل الأرضَ حتى يتركها كالزَّلَفَةِ، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرِّسْلِ، حتى إن اللِّقْحَة من الإبل لتكفي الفِئَامَ من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روحَ كلِّ مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرارُ الناس يتهارجون فيها تهارُجَ الحُمُرِ، فعليهم تقوم الساعة)).

وقوله في الحديث: ((فخفض فيه ورفع))؛ أي: حقر فيه وفخم، أو خفض من صوته بعد طول الكلام ليستريح، ثم عاد فرفع صوته ليُبلغ كلَّ المستمعين له، وقوله: ((حتى ظنناه في طائفة النخل))؛ أي: في غاية القرب منا، وأنه قريب الظهور، وقوله: فلما رُحنا إليه؛ أي: رجعنا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشي إذ كان حديثه صلى الله عليه وسلم عن الدجال في الصباح، وقوله: ((إنه شاب قطط))؛ أي: شديد جعودة الشعر، وقوله: ((إنه خارج خلة بين الشام والعراق))؛ أي: في طريق بينهما، وقوله: ((فتروح عليهم سارحتهم))؛ أي: فترجع عليهم ماشيتهم التي تسرح، أي: تذهب أول النهار إلى المرعى، وقوله: ((أطول ما كانت ذرًا))، الذُّرا: جمع ذروة، وهي الأعالي والأسنمة، والمراد أنه يزيد ارتفاعها بسبب سرعة نموها، وقوله: ((وأسبغه ضروعًا))؛ أي: أطوله ضروعًا لكثرة اللبن، وقوله: ((وأمده خواصر))، يعني: لكثرة امتلائها من الشبع، وقوله: ((كيعاسيب النحل))، اليعاسيب: جمعُ يعسوب؛ وهو ذَكَر النحل وأميرها، وأراد باليعاسيب هنا جماعة النحل في اتباعها ليعسوبها؛ لأنه متى طار تبعته، مراده أن الدجال تتبعه كنوز الأرض كما تتبع جماعة النحل يعسوبها لا تتخلف عنه بحال، وقوله: ((فيقطعه جزلتين رمية الغرض))؛ أي: فيقطعه قطعتين ويجعل بين القطعتين مقدار رمية السهم نحو الهدف، وقوله: ((بين مهرودتين))؛ أي: حُلتين مصبوغتين بالهُرد، وهو عُروق يصبغ بها، وقد قيل: إن الثوب المهرود هو المصبوغ بالورس ثم بالزعفران، وقوله: ((لا يدان لأحد بقتالهم))، يعني: لا قدرة لأحد على حربهم، وقوله: ((فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم))؛ أي: فيسلط الله عليهم النغف، وهو دود يصيب أنوف الإبل والغنم، وقوله: ((فيصبحون فرسى))؛ أي: هلكى، وقوله: ((حتى يتركها كالزلفة))؛ أي: كالمرآة والأرض المكنوسة، وقوله: ((ويستظلون بقحفها))؛ أي: بقشرها، والفئام: الجماعة، وقوله: ((يتهارجون فيها تهارُج الحمر))؛ أي: يذهب الحياء من الناس، ويقارف الرجال النساء، ويتسافدون في الطرقات بلا خجل ولا اكتراث.

هذا، وقد وُصفتْ أحاديثُ نزولِ عيسى عليه السلام عند ظهور المسيح الدجال بأنها متواترة؛ فقد قال ابن كثير في تفسير قول تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]: "ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له".

وبعد أن ساق عددًا كثيرًا من هذه الأحاديث الواردة في البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وسائر أهل السنن، ثم قال: فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبدالله بن عمرو بن العاص ومُجمع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهما، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح؛ اهـ.

هذا، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عيسى ابن مريم بأنه ربعة أحمر، مَنْ يراه يحسبه خرجَ من ديماس؛ أي: حمَّام، بعد أن اغتسل؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَتَ عيسى عليه السلام بعد أن رآه ليلةَ الإسراء والمعراج فقال: ((ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس))؛ يعني: الحمَّام، وفي رواية للبخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في وصف عيسى عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فأما عيسى فأحمر جعدٌ عريض الصدر))، وفي رواية لمسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وأراني الله عند الكعبة في المنام وإذا رجلٌ آدم، كأحسن ما ترى من أُدْمِ الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رَجِلُ الشعر يقطر رأسه ماء، واضعًا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟! قالوا: هو المسيح ابن مريم))، وفي لفظٍ للبخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سبط الشعر يتهادى بين رجلين، ينطف رأسه ماء - أو يهراق رأسه ماء - فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: ابن مريم))، ومعنى قوله: ((ربعة))؛ أي: مربوع بين الطول والقصر، ومعنى قوله: ((جعد))؛ أي: ليس شعره سبطًا، أي: ناعمًا، ويقال: رجل جعد، أي: كريم، ومعنى قوله: ((آدم)) أسمر، وقد يوصف الأحمر به أيضًا إذا لم يكن أمهق شديد البياض، وقوله: ((تضرب لمته بين منكبيه))، اللمة هي الشعر المجاوز شحمة الأذن، ومعنى قوله: ((رجل الشعر)) يقال: رَجْلُ الشعر ورَجَل الشعر ورَجِلُ الشعر: إذا كان شعره بين السبوطة والجعودة، وهذا يفيد ما ورد في وصف شعر عيسى عليه السلام من مطلق قوله: سبط الشعر أو جعد، ومعنى قوله: ((ينطف رأسه ماء))؛ أي: يقطر ويسيل.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:50 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (11)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





ذكر الله تبارك وتعالى في تَعْدادِ جرائم اليهود أنهم قالوا لموسى: أَرِنَا اللهَ جهرةً، وأنهم اتخذوا العجلَ من بعد ما جاءتهم البيِّنات، وأنهم عَدَوْا في السبت، وأنهم نقضوا الميثاق، وأنهم كفروا بآيات الله، وأنهم قتلوا الأنبياءَ بغير حقٍّ، وأنهم قالوا: قلوبنا غلف، ثم قال تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 156، 157] وقوله تعالى هنا: ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ بنصب رسول يحتمل أن يكون مِن تمام مقالة اليهود؛ وقالوا ذلك تهكُّمًا؛ على حد قول مشركي مكة في حق محمد صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله ذلك عنهم: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6] وقول فرعون في موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، ويجوز أن يكون قوله: ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ليس من مقالة اليهود، وإنما ذكره عز وجل ونصبه على الاختصاص والمدح؛ للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم وسوء حقدهم وبُغضهم للأنبياء والمرسلين، ولا شكَّ في أن الحواريين قاموا بعد رفع المسيح عليه السلام بنشر دعوة توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله إلا الله، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وقد تعرضوا لصنوف من التعذيب على أيدي اليهود والرومان، ولم يدَّعِ واحدٌ منهم أن عيسى إله أو ابن إله، أو أن الله ثالث ثلاثة، وقد استمرت دعوة التوحيد التي جاء بها عيسى عليه السلام صافية وقتًا من الزمان ليس بطويل؛ فقد وقع على أتباعه اضطهادٌ عظيمٌ، فَشُرِّدوا وعُذِّبوا وقتلوا وصلبوا حتى كادت تختفي معالم المسيحيَّة من الأرض بسبب تلك الاضطهادات التي كان يتولَّاها أباطرةُ الرومان وعمَّالهم وكذلك اليهود.

وأشدُّ ما نزل بهم من الأذى كان في عهد الإمبراطور نيرون (64م)، ثم في عهد الإمبراطور تراجان (106م)، ثم الإمبراطور ديسيوس (251م)، ثم في عهد الإمبراطور دقلديانوس (284م)؛ فأما نيرون فقد اتَّهمهم بأنهم هم الذين أحرقوا مدينة روما، وتفنَّن في تعذيبهم؛ إذ كان يأمر أتباعه بوضع أتباع عيسى في جلود الحيوانات ثم يطرحونهم للكلاب فتنهشهم، كما كانوا يُلْبِسُون بعض هؤلاء المسيحيين ثيابًا مطلية بالقار، ثم يجعلونهم مشاعلَ يستضيئون بنارها، كما كتب بطريرك الإسكندرية يصف بعضَ ما عاين من ديسيوس إذ يقول: عَمَّ الخوفُ الجميعَ، وفرَّ بعضُهم بدينهم، وقد أبعد كل مسيحي من خدمة الدولة مهما يكن ذكاؤه، وكل مسيحي يُرشد عنه يؤتى به على عجل ويقدم إلى هيكل الأوثان، ويطلب منه تقديم ذبيحة للصنم، وعقاب من يرفض تقديم الذبيحة أن يكون هو الذبيحة، بعد أن يجتهدوا في حمله بالترهيب، ثم يقول البطريرك: ومن ضعاف الإيمان من أنكر مسيحيته واقتدى به البعض، ومنهم من تمسَّك بأذيال الفرار أو من زُجَّ به في غياهب السجون؛ اهـ.

أما دقلديانوس فقد جاء إلى مصر وأنزل بها البلاء، وأمر بهدم الكنائس وإحراق الكتب، وأصدر أمرًا بالقبض على الأساقفة وزجهم في غياهب السجون، وقهر المسيحيين على إنكار دينهم، وقتل منهم حوالي ثلاثمائة ألف.

وقد أُطلق على أتباع المسيح عليه السلام اسم النصارى، نسبة إلى نصرانة قرية المسيح عليه السلام من أرض الجليل بفلسطين، وهذه القرية تسمَّى أيضًا الناصرة والنصورية، ولا أعرف على التحديد متى صارت النصرانيَّة علَمًا على دين أهل الإنجيل، وقد وجدت هذه اللفظة بهذا المعنى في أوائل القرن الثاني الميلادي؛ إذ كتب (بلين) وكان واليًا في آسيا إلى الإمبراطور تراجان الموجود عام (106م) كتابًا يشرح فيه طريقة تعذيبه للمسيحيين، فقال: "جربت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية: وهي أني أسألهم إذا كانوا مسيحيين، فإذا أقروا أُعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة، مهددًا بالقتل، فإذا أصرُّوا أنفذ عقوبة الإعدام فيهم"، ثم يقول بلين: "وقد وجَّهت التهمة إلى كثيرين بكتب لم تُذيل بأسماء أصحابها فأنكروا أنهم نصارى"؛ اهـ.

وقد يُفهم من القرآن الكريم أنهم أحدثوا هذا الاسم؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82]، ولا يقتضي لفظ النصرانية في الأصل مدحًا ولا ذمًّا؛ لأنها نسبة إلى وطن، والنسبة إلى الأوطان لا تقتضي مدحًا ولا ذمًّا، فإن الوطن الواحد يشتمل على صالحين وطالحين، أما المسيحيَّة فإنها إنما يصحُّ إطلاقها على المتَّبعين بحق دين المسيح عليه السلام، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَسَخَ الله بشريعته كلَّ شريعة سوى شريعته، فإنه لا ينبغي إطلاق المسيحيَّة على النصارى؛ لأن هؤلاء في الواقع لا يتبعون المسيح عليه السلام؛ إذ لو اتَّبعوه لسارعوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميتهم مسيحيين، وقد أطلق عليهم القرآن والسنة أنهم نصارى وأهل الكتاب، كما سمَّاهم القرآن أهل الإنجيل.

هذا، وقد كان اليهودُ أشدَّ الناس عداوة لدين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وبذلوا كلَّ سبيل للقضاء عليه وعلى أتباعه، وقد رأوا بتفكيرهم الشيطاني أن يتظاهر بعضهم بالدخول في هذا الدين ليحرِّفَه ويبعد الناس عن دين المسيح عليه السلام، وقد قام بهذه الحيلة شاؤول اليهودي، وقد كان من المغرمين المولعين بتعذيب النصارى وفتنتهم عن دينهم، ويجمع علماء النصرانيَّة على أنه كان راضيًا بقتل المسيحيين، وكان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت ويجرُّ الرجال والنساء ويسلمهم إلى السجن، وقد وصف في رسالة (أعمال الرسل) بأنه الممتلئ كلَّ غش وكلَّ خبث، وأنه ابن إبليس، وأنه عدوُّ كلِّ بر، وأنه يفسد سُبل الله المستقيمة كما جاء في الإصحاح الثالث عشر من هذه الرسالة في الفقرة العاشرة من هذا الإصحاح.

وقد زعم شاؤول أنه تقدَّم إلى رئيس الكهنة اليهودي وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات، حتى إذا وَجَدَ أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء يسوقهم موثَّقين إلى أورشليم، وقد كان ذلك في السنة الثامنة والثلاثين من الميلاد، أي: بعد وقت قصير من رفع المسيح عليه السلام، ويقول شاؤول عن نفسه: سمعتم بسيرتي قبلًا في الديانة اليهودية أني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها، وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين مِن أترابي في جنسي؛ إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي... ثم يزعم شاؤول أنه وهو في طريقه إلى دمشق رأى يسوع، وأنه آمن به، وأنه تسمَّى بولس، ويذكر لوقا صاحب الإنجيل المسمَّى باسمه في رسالته التي سماها أعمال الرسل قصة شاؤول هذه على ما زعمه شاؤول، فيقول في الإصحاح التاسع من هذه الرسالة عن شاؤول: فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات، حتى إذا وجد أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم، وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتًا قائلًا له: شاؤول شاؤول لماذا تضطهدني؟! فقال: من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، ثم يقول: فقال وهو مرتعد ومتحيِّر: يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟ ثم يقول: وللوقت جعل يركِّز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله، ولم تكن فكرة ألوهية عيسى أو بنوَّته لله معروفة من قبلُ للمسيحيين؛ فهم لا يعلمون إلا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ولما جاء شاؤول الذي تسمَّى بولس بهذه الدعوى أنكرها الحواريُّون وتشكَّكُوا في هذه القصة التي اخترعها شاؤول، ولم ينسوا أنه أكبر أعدائهم في اليهود، غير أن برنابا نَصَحَ الحواريين ألا يعجلوا على شاؤول، وأحسن تقديمه إلى هؤلاء، بيد أن برنابا كذلك لم يستقم على موالاة شاؤول، فلم يمضِ قليلُ وقتٍ حتى انفصلت عُرى المودة بينهما، بلْ نَفَرَ من شاؤول عامةُ التلاميذ، ولم يبقَ على صحبته له سوى لوقا الذي اعتبر نفسه أخص تلاميذ بولس، وكان طبيبًا ولم يكن من الحواريين، وكان شاؤول (بولس) يلقبه بعد ذلك بالطبيب الحبيب.

وصار بولس يبشِّر بمسيحيَّة لم يعرفْها الحواريون؛ إذ لم يتلقَّ أيَّ نوع من التعليم من عيسى عليه السلام أو من الحواريين، ثم صار يزعُم أن يسوعَ يعلِّمه من السماء مباشرة وبلا واسطة، ويقول: لا يجوز لأحد أن يقبل تعليمًا آخر من غيري، وحرَّم على تلاميذه أن يستمعوا أو يأخذوا شيئًا عن الحواريين.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:53 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (12)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد






ذكرْتُ في ختام الفصل السابق أن شاؤولَ الذي سمَّى نفسه بولس أراد القضاء على جميع التعاليم التي تلقَّاها الحواريون عن المسيح عليه السلام، وكان يقول: لا يجوز لأحد أن يقبل تعليمًا آخر من غيري، وحرَّم على تلاميذه أن يستمعوا أو يأخذوا شيئًا عن الحواريين، وفي ذلك يقول في كتاب بعث به إلى تلميذه تيموثاوس: طلبت إليك أن تمكث في إفسس إذ كنتُ أنا ذاهبًا إلى مكدونية لكي توصي قومًا ألا يعلموا تعليمًا آخر، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حدَّ لها تُسبب مباحثات دون بنيان الله الذي في الإيمان، وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء، الأمور التي إذا زاغ قوم عنها انحرفوا إلى كلام باطل يريدون أن يكونوا معلمي الناموس وهم لا يفهمون ما يقولون ولا ما يقررون، ويقول: إن كان أحدٌ يُعلِّم تعليمًا آخر فقد تصلَّفَ وهو لا يفهم شيئًا.

وهكذا بدأ شاؤول اليهودي هذا الذي زعم أنه تنصَّر وتسمَّى بولس، بدأ يُجَهِّل كلَّ الحواريين ويصفهم بعدم الفهم، وراح يدَّعِي أنه معلم المسيحيَّة الوحيد، وصار ينشر تعاليم يستمدُّها من مذاهب الهندوس والبوذيين وفلاسفة الإغريق وبعض تعاليم اليهود؛ فقد جاء لأول مرة بفكرة التثليث، وبفكرة أن المسيح ابن الله، وأنه نزل ليضحِّيَ بنفسه تكفيرًا عن خطيئة البشر، وأنه صعد ليجلسَ عن يمين أبيه ليحكم ويدين البشر، تعالى الله عمَّا يقول علوًّا كبيرًا.

ولا شكَّ في أن اليهود من آبائه قالوا: العُزير ابن الله، فهو لم يبعد في دعوته "أن عيسى ابن الله" عن دعوى آبائه الضالين المحرفين، وقد ضم إلى ذلك ما أخذه عما دُوِّن عند الهندوس عن كرشنا، وما دُوِّن عند بعض البوذيين عن بوذا؛ فكرشنا يلقَّب عند معتقديه من الهندوس بالمُخَلِّصِ والفَادِي والمُعَزِّي والرَّاعِي الصَّالِحِ والوسِيط وابن الله والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس؛ وهو الأب والابن والروح القدس، كما لقب بوذا عند بعض أتباعه بنفس هذه الألقاب، وهي بعينها التي أطلقها بولس على المسيح عليه السلام، كما قال أصحاب كرشنا: إنه وُلد من العذراء (ديفاكي) التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها، وقال بعض أصحاب بوذا عن بوذا: إنه وُلد من العذراء (مايا) التي اختارها الله والدة لابنه بسبب طهارتها وعفتها، وهذه العبارة بعينها أطلقها شاؤول (بولس) على والدة المسيح وولدها عليه السلام، ويقول أصحاب كرشنا عن كرشنا: إن النَّاس عرفوا ولادته من نجمه الذي ظهر في السماء، وكذلك قال بعضُ أصحاب بوذا عن بوذا، وكذلك قالت تعاليم شاؤول (بولس): لما ولد المسيح ظهر نجمه في المشرق، وبواسطة ظهور نجمه عَرَفَ الناسُ محلَّ ولادته، كما زعم أصحاب كرشنا أن أمه (ديفاكي) كانت مخطوبة لناندا، وأنها لما ولدت كرشنا سمع ناندا نداءً من السماء يقول له: قم خذِ الصبيَّ وأمَّه وفرَّ بهما إلى كاكول واقطع نهر جمنة؛ لأن الملك طالبٌ إهلاكَه، وفي تعاليم شاؤول التي نشرها: أنه لما ولد يسوع كان يوسف النَّجار خطيبُ أمِّه غائبًا؛ وأنذرَ يوسف النجار خطيب مريم والدة يسوع بحلم كي يأخذ الصبيَّ وأمَّه ويفرَّ بهما إلى مصر؛ لأن الملكَ طلبَ إهلاكَه، كما أن اسم المدينة التي ولد فيها كرشنا وعمل فيها الآيات العجيبة هي مطر، وكذلك نشر شاؤول أن اسم المدينة التي هاجر إليها يسوع المسيح وأمه وخطيبها يوسف النجَّار هي المطريَّة من أرض مصر، وقد عمل فيها الآيات العجيبة لما ترك أرض اليهوديَّة.

علمًا بأن كرشنا كان موجودًا حوالي سنة 950 ق م، وبوذا كان موجودًا حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وقد انتشرت تعاليم وأفكار بولس في الغرب بين الوثنيين واليونان في الوقت الذي حوربت فيه بالمشرق، وفي ذلك يقول بولس في رسالة إلى تلميذه تيموثاوس: أنت تعلم أن جميع الذين في آسيا ارتدُّوا عني، ومع ذلك فقد أخذ بولس في التَّطْوافِ في الأقاليم ينشئ الكنائسَ، ويُلقِي الخطبَ ويبعث بالرسائل التي صارت عماد المسيحيَّة المحرَّفة، حتى قتل في اضطهادات نيرون سنة 66 أو 67م، غير أنَّ بعضَ الحواريين ومنهم برنابا الذي كان يُحْسِنُ الظنَّ في (بولس) قاوموا هذه التعاليم التي جاء بها بولس، وألَّف برنابا إنجيلًا أشار في مقدمته إلى السبب الذي دعاه إلى تأليفه؛ وأنه إنما ألَّفه ليردَّ على أولئك الذين يدَّعون ألوهية المسيح؛ أو أنه ابن الله، وفي ذلك يقول برنابا في مطلع إنجيله: أيها الأعزاء، إن الله العجيب العظيم قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيِّهِ يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعةً لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشِّرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر الله به دائمًا، مجوِّزين كلَّ لحم نجس الذي ضلَّ في عدادهم أيضًا بولس (شاؤول اليهودي) الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطِّرُ هذا الحق الذي رأيت؛ اهـ.

وقد أجمع مؤرِّخو النصرانيَّة على أنه كانت في العصور الغابرة أناجيلُ شتى قد أخذت بها فرق مسيحيَّة قديمة، وأن كلَّ فرقة من هذه الفرق لم تكن تتمسَّك إلا بإنجيلها، وأن الكنيسة قامت في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على أربعة أناجيل فقط؛ وهي إنجيل متَّى وإنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وحرَّمت الكنسية ما عداها من الأناجيل، على أنه قد ذكر بعضُ المؤرخين أن هذه الأناجيل الأربعة لا ذِكر لها قبل آخر القرن الثاني الميلادي، وأول مَن ذكر هذه الأناجيل الأربعة هو أرينيوس سنة 209م، ثم جاء من بعده كليمنس إسكندريانوس في سنة 216م، وأظهر أن هذه الأناجيل الأربعة واجبة التسليم، علمًا بأن جميع هذه الأناجيل أشبه بكتب السيرة النبويَّة التي تسوق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرتَه، وتشتمل على الصحيح والحسن والضعيف والموضوع من الأخبار، ولم يدَّعِ أحدٌ من النصارى أنها تشتمل على الإنجيل المنزَّل على عيسى عليه السلام، وإن كانت تسوق أحيانًا بعضَ فقرات لا شكَّ في أنها توافق ما عُرف عن المسيح عليه السلام من توحيد الله تعالى، وأن عيسى رسول الله ونبي من الأنبياء؛ ففي إنجيل متَّى في الإصحاح العاشر في الفقرة الأربعين في خطاب عيسى مع الحواريين يقول: "من يَقْبَلْكم، يقبلْني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني"، وفي الإصحاح التاسع عشر من متَّى في الفقرة الثامنة عشرة: "لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهدْ بالزور، أكرم أباك وأمَّك، وأحب قريبك كنفسك"، وفي الفقرة الواحدة والثلاثين والثانية والثلاثين من الإصحاح الثاني والعشرين من متَّى: "أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب"، وفي الفقرة السابعة والثلاثين والثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من الإصحاح الثالث والعشرين من متَّى يقول: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يُترك لكم خرابًا؛ لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب"، وفي إنجيل مرقص في الإصحاح العاشر في الفقرة التاسعة عشرة: "أنت تعرف الوصايا، لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم أباك وأمك"، وفي الإصحاح الثاني عشر منه في الفقرة السادسة والعشرين: "أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العُليقة كيف كان الله قائلًا: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب"، وفي الفقرة الثامنة والعشرين إلى الثانية والثلاثين منه: "فجاء واحد من الكَتَبَةِ وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع أن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك ومن كلِّ قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي تُحب قريبك كنفسك، ليس وصيَّة أخرى أعظم من هاتين، فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم، بالحقِّ قلت؛ لأنه الله واحد وليس آخر سواه"، وفي إنجيل يوحنا التقرير بأن الله واحد، وأن عيسى رسول الله حيث جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر منه: "وهذه هي الحياة الأبديَّة أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته".

ولا شكَّ في أن هذه هي وصايا الأنبياء، لم يتمكَّن شاؤول ولا المحرفون من اليهود والنصارى من طمسها، وهي المطابقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعليها وعلى نحوها يحمل قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 43]، وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ﴾ [المائدة: 47].

وفي نحوها يقول الله عز وجل في الوصايا العشر: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153].

وقد أُثِرَ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:54 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (13)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرْتُ في الفصل السابق أنه كانت هناك أناجيلُ كثيرة، وكان لكل فرقة من فرق النصارى إنجيلها الخاص بها، حتَّى قامت الكنيسة في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على أربعة أناجيل فقط، وهي: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا؛ وإليكم نبذة تبيِّن أن هذه الأناجيل مختلَفٌ في تاريخ تدوينها وفي اللغة التي كتبت بها، وفي البلد الذي أُلِّفَتْ فيه، وفي الذي قام بترجمتها، كما اشتملت على جملة من التناقضات فيما بينها؛ فإنجيل متَّى منسوب لمتَّى الحواريِّ أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، ويعرف بمتَّى العشَّار؛ إذ كان قبل اتصاله بالمسيح عليه السلام من جباة الضرائب للرومان، وكان جباة الضرائب يعرفون آنذاك بالعشَّارين، وقد كان عمله في كفر ناحوم من أرض الجليل بفلسطين، وقد ذكر متَّى في إنجيله كيفية دخوله في دين المسيح؛ إذ يقول في الإصحاح التاسع من إنجيله: وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: اتَّبعني فقام وتبعه، وبينما هو متكئ في البيت إذا عشَّارون وخطاة كثيرون قد جاؤوا واتَّكؤوا مع يسوع وتلاميذه، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى، اذهبوا وتعلَّموا ما هو؟ إني أُريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.

وقد اختلف النصارى في تاريخ تدوين هذا الإنجيل؛ فبعضُهم يدَّعي أنه أُلِّف عام 39م، وبعضهم يدَّعي أنه أُلِّف عام 41م، وبعضهم يقول: إنه أُلف في عهد الإمبراطور قلوديوس ولم يحدد السنة التي أُلف فيها، علمًا بأن قلوديوس حكم أربع عشرة سنة، ويقول هورن: إنه أُلِّف عام 37 و38 أو 41 أو 43 أو 48 أو 61 أو 62 أو 63 أو 64م.

وقد تَنَازع النصارَى كذلك في اللغةِ التي كُتِبَ بها هذا الإنجيل، وفي البلد الذي أُلِّف فيه؛ فمنهم من يقول: إنه كُتِب بالعبرية، ومنهم من يقول: إنه كُتِب بالسريانيَّة، ومنهم من يقول: إنه كتب في أورشليم، ومنهم من يقول: إنه كتب باليونانية، وأجمعوا على أنه لم يعرف إلا باليونانية، واختلفوا في مُتَرْجِمِه إلى اليونانيَّة، والمعروف أن متَّى لم يبقَ طويلًا في فلسطين بعد رفع المسيح عليه السلام، بل جالَ في بلاد كثيرة يبشِّر بالمسيحيَّة، واستقرَّ بأرض الحبشة حتى مات عام 70م ببلاد الحبشة، على إثر ضربٍ مبرح أنزله به أحد أعوان ملك الحبشة، وبعضهم يقول: إنه طُعِن برمحٍ بأرض الحبشة بعد أن قضى بها نحو ثلاثٍ وعشرين سنة.

أما إنجيلُ مرقص فمؤلفه أصلُه من اليهود أيضًا، وكانت أسرتُه تقيمُ بأورشليم في وقت ظهور المسيح عليه السلام، لكنَّه ليس من الحواريين، بل هو تلميذٌ لبطرس كبيرِ الحواريين، كما أنه تتلمذ على خالِه برنابا أحد الحواريين كذلك، وقد كتب هذا الإنجيل باللغة اليونانيَّة بطلبٍ من أهالي روميَّة، في عهد الإمبراطور نيرون، وقد ذكر سعيد بن البطريق النصراني في تاريخه أن هذا الإنجيل كتبه بطرس رئيس الحواريين عن مرقص في مدينة رومية ونَسَبه إلى مرقص، وهذا أمر عجيب غريب؛ إذ كيف يروي رئيس الحواريين عن تلميذه هذا الإنجيل، ثم ينسبه إلى التلميذ؟!

على أن بعضَ الرواة يقررون أن مرقص ما كتب إنجيله إلا بعد وفاة بطرس، وقد ذكر كتاب "مروج الأخبار في تراجم الأبرار": أن مرقص كان يُنكر ألوهية المسيح، هو وأستاذه بطرس الحواري، وقد جاء في هذا الكتاب عن مرقص أنه صنَّف إنجيلَه بطلب من أهالي رومية وكان ينكر ألوهية المسيح، وقد انتقل مرقص من بلدٍ إلى بلدٍ يبشِّر بالمَسِيحيَّة حتى دخلَ مصر في منتصف القرن الأول من الميلاد، فأقام بها، وأخذ يدعو إلى المَسِيحيَّة، فدخل فيها عدد كبير من المصريين، وقد كان يسافر من مصر أحيانًا إلى رومية، وأحيانًا إلى شمال إفريقيَّة، غير أنه آثر الاستقرار في مصر إلى أن ائتمر به الوثنيون فسجنوه وعذَّبوه، ثم قتلوه في عام 62م.

أما إنجيلُ لوقا فمؤلفه ليس من الحواريين كذلك ولا من تلاميذ الحواريين، وإنما تتلمذ لبولس (شاؤول اليهودي) وأخلَصَ له، وصار أخصَّ أصدقائه، وقد اختلف فيه فقيل: إنه أنطاكي ولد بأنطاكية، وقيل: بل روماني نشأ في إيطاليا، وبعضهم يقول: إنه كان طبيبًا، وبعضهم يقول: إنه كان مصورًا.

وقد أشار لوقا إلى سبب تأليفِه إنجيلَه، فبدأ هذا الإنجيل بقوله: إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصَّة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا - إذ قد تتبعت كلَّ شيء من الأول بتدقيق - أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحةَ الكلام الذي علمت به، وقد تنازع مؤرخو النصرانيَّة في تاريخ تدوين هذا الإنجيل فقيل: إنه أُلِّف عام 53 أو 63 أو 84م، وقيل غير ذلك.

أما إنجيل يوحنا فمؤلفه محلُّ نزاعٍ شديدٍ عميقٍ بين علماء النصارى؛ فالكثير منهم يدَّعي أنه أحد الحواريين وهو يوحنا بن زيدي الصياد، وبعضهم يدَّعِي أنه يوحنا آخر لا يَمُتُّ إلى الأوَّلِ بِصِلة، وقد أنكر بعض علماء النصارى آخر القرن الثاني الميلادي نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري في الوقت الذي كان يعيش فيه أرينيوس تلميذ بوليكارب تلميذ يوحنا الحواري، ولم ينقلْ أحدٌ أن أرينيوس سمع من أستاذه صحة تلك النسبة، وقد قال علماء النصارى: إن كافة إنجيل يوحنا من تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية، كما جاء في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى النصُّ التالي: أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شكَّ كتابٌ مزوَّر أراد صاحبُه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادَّعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه هو الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصًّا، مع أن صاحبه غير يوحنا يقينًا، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثلَ بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين مَن نُسبتْ إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بِأَوْهَى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي أَلَّفَ هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل، فإن أعمالهم تضيع عليهم سُدًى، لِخَبْطِهم على غير هدًى؛ اهـ.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:56 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (14)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في الفصل السابق إنكارَ دائرة المعارف البريطانيَّة أن يكون إنجيلُ يوحنا من تأليف يوحنا الحواري، وتقريرها أنه من تأليف كاتب مزوِّر من الجيل الثاني، وقد اختُلِفَ في تاريخ كتابة هذا الإنجيل؛ فبعضهم يرى أنه كتب سنة 95م أو 96م أو 98م، وقيل غير ذلك.

وعامةُ مؤرِّخي النصرانية يقررون أن إنجيل يوحنا هو وحده الذي نصَّ على ألوهية المسيح، مما يدلُّ على أنه أُلِّف لتقرير هذه الألوهية، وهذا يؤكد مذهب من يقول: إن مؤلفه أحد طلبة مدرسة الإسكندرية التي كانت تتزعَّم القولَ بألوهيَّة المسيح، مقررة لما آثرته عن بولس "شاؤول اليهودي".

وهذه الأناجيلُ الأربعة: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا، متناقضة في شكلها وموضوعها، فمن صور اختلافها في مظهرها العام أن إصحاحات (فصول) إنجيل متى: 28 إصحاحًا، ومرقص: 16 إصحاحًا، ولوقا: 24 إصحاحًا، ويوحنا: 21 إصحاحًا.

أما تناقضُ هذه الأناجيل في حقيقة المسألة الواحدة فيظهر فيما يأتي:
إنجيل متَّى يقرِّر أن عيسى من أولاد سليمان بن داود، وإنجيل لوقا يقرر أن عيسى من أولاد ناثان بن داود، وإنجيل متَّى يقرِّر أن سلتائيل بن يكينا، وإنجيل لوقا يقرر أن سلتائيل بن نيري، وإنجيل متى يقرِّر أن من داود إلى يسوع ستة وعشرين جيلًا، وإنجيل لوقا يقرر أن من داود إلى يسوع واحدًا وأربعين جيلًا، كما أن إنجيل متى يقرر أن المرأة التي لحقت يسوع عند انصرافه إلى نواحي صور وصيدا كانت كنعانيَّة كما جاء في الإصحاح الخامس عشر منه، وإنجيل مرقص يقرر أن هذه المرأة كانت أممية، وفي جنسها فينيقيَّة سوريَّة كما جاء في الإصحاح السابع منه، والعجيب أن يدَ التلموديين اليهود ظاهرة في صياغة هذه الأناجيل؛ إذ إن التلمود اليهودي يقرر أن الناس قسمان يهود وأمميُّون، وأن اليهود يَفْضُلون الأمميين، كما يَفْضُل الإنسانُ البهيمةَ، وأن الأمميين جميعًا كلاب وخنازير، وهذه التعاليم الخبيثة التي يأباها مَن له أدنى مسكة من عقل تنسب الأناجيل التي بيد النصارى إلى عيسى عليه السلام أنه كان يعتقدها - برَّأَهُ اللهُ مما قالوا.

ففي قصة المرأة التي لحقت عيسى عليه السلام عند انصرافه إلى صور وصيدا تفوح هذه الرائحة الخبيثة التلموديَّة منه؛ ففي الإصحاح الخامس عشر من إنجيل متى في الفقرة الحادية والعشرين إلى 28: ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانيَّة خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًّا، فلم يجبْها بكلمة، فتقدم تلاميذُه وطلبوا إليه قائلين: اصرفْها؛ لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أُرْسَلْ إلا إلى خِرَافِ بني إسرائيل الضالة، فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أَعِنِّي، فأجاب وقال: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؛ فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة، ثم انتقل يسوع من هناك وجاء إلى جانب بحر الجليل، وصعد إلى الجبل وجلس هناك، فجاء إليه جموع كثيرة معهم عُرْجٌ وعُمْيٌ وخُرْسٌ وشلٌّ وآخرون كثيرون، وطرحوهم عند قدمَيْ يسوع فشفاهم، حتى تعجب الجموع إذ رأوا الخُرس يتكلمون، والشل يصيحون، والعرج يمشون، والعُمي يبصرون، ومجَّدُوا إله إسرائيل.

ففي هذا النص يزعمون أن عيسى وصف غير بني إسرائيل بأنهم كلاب، ونفس هذا الوصف موجود في الإصحاح السابع من إنجيل مرقص، وإن تعجب فعجب أن يصدِّقَ عاقلٌ يؤمن بالأنبياء والمرسلين أن عيسى يصف مَنْ سوى الإسرائيليين بأنهم كلاب، نزَّهه الله وبرَّأه مما قالوا.

وبالرغم من أنه بعد أن قامت الكنيسة في أوائل القرن الثالث الميلادي بالإبقاء على هذه الأناجيل الأربعة فقط، فإن النزاع لم ينقطع بين أصحاب هذه الأناجيل الأربعة وبين أصحاب الأناجيل الأخرى حتى دخلَ الإمبراطور قسطنطين في النصرانية، وقد رأى النصارى في غاية التنازع؛ فمنهم من يعتقد أن المسيحَ عبدُ الله ورسوله، ومنهم مَن يدَّعي أنه ابن الله له صفة الأزلية، ومنهم من يدَّعي أن الله ثالث ثلاثة؛ فقرر عقد مؤتمر في نيقية، وقد كان في مصر رجلٌ ليبي الأصل يقال له: آريوس، وكان داعية قويًّا يدعو إلى توحيد الله عز وجل، ويقرر أن عيسى عبدُ الله ورسوله، وقد أخذ يقاوم كنيسة الإسكندرية التي كانت تنشُر بين الناس القولَ بألوهية المسيح، فأخذ آريوس يحارب هذه الكنيسة.

قالت الكاتبة الإنجليزية "ا - ل - بتشر" في كتابها (تاريخ الأمة القبطية) الذي ترجمه إلى العربية رجلٌ من الأقباط اسمه إسكندر تادرس، وتولَّى طبعه وأشرف عليه تادرس شنودة المنقبادي صاحب جريدة مصر، وطبع في مطبعة مصر بالفجالة سنة 1901م، تقول هذه الكاتبة الإنجليزية في ص 191 - 192 جـ1: "وقد ظهر في الإسكندرية بعد ذلك صديق وظهير لميليتيوس هو آريوس الهرطوقي المشهور وأصله من ليبيا، وقد سَامَه بطرس شماسًا في الكنيسة"، وتقول في ص 201: "أما الحوادث التي أوجبت انعقاد مجمع نيقية وما تمَّ في هذا المجمع فمعروفة عند الكثيرين؛ إذ أتى على ذكرها جماعة من علماء اللاهوت وشرحوها بالإسهاب، فلا حاجة لسردها الآن، ولم تأتِ سنة 319م حتى زاد تذمُّر الإسكندرانيين وكثُر لغطُهم ضد البدعة التي كان آريوس يسعى في نشرها وتعليمها للآخرين، مما دعا البطريك إسكندر أن يهتمَّ لأخذ الاحتياط اللازم لصدِّها".

ثم تقول في ص 202: "وأخيرًا كتب البطريك رسالة رعوية إلى آريوس وأتباعه ينذرهم بترك طريق الضلالة التي ساروا فيها والرجوع إلى الطريق السوي، ولكنه عبثًا حاول إقناعهم، ولا بد أن بعض الباحثين يعرفون أن نقطة الخلاف هذه كانت فيما يختص بألوهية المسيح".

ثم تقول: "إذًا فالذنب ليس على آريوس بل على فئات أخرى سبقته في إيجاد هذه البدع، فأخذ هو عنها، ولكن تأثير تلك الفئات لم يكن شديدًا، كما كان تأثير آريوس الذي جعل الكثيرين ينكرون سر الألوهية حتى انتشر هذا التعليم وعمَّ".

ثم تقول في ص 203: وكانت نتيجة هذا كله أن البطريرك إسكندر شكَّل مجمعًا في سنة 320م حكم فيه على آريوس بالحرمان من عضوية الكنيسة، وهو ثالث حكم صدرَ ضده في حياته، أما آريوس فلم يخضع لهذا الحكم ولم يَعْبَأْ به، بل غادر الإسكندرية قاصدًا فلسطين حيثما جمع إليه أصدقاء أَثَّرَ فيهم تأثيرًا شديدًا؛ إذ استمالهم إليه بكليتهم، حتى إن يوساب أسقف نيكومديا الذي كان رفيقًا لآريوس في المدرسة اعتنق مذهب زميله كما هو، ومن ثم سعى بعد ذلك في استمالة الإمبراطور قسطنطين إلى هذا المذهب، وقد كان الإمبراطور المذكور صديقًا ليوساب يميل إليه كثيرًا".

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 23-07-2025 09:57 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (15)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى ما ذكرته المؤلفة الإنجليزية "بتشر" في كتابها تاريخ الأمة القبطيَّة من أن آريوس كان داعية قويًّا إلى أن عيسى عبدُ الله ورسوله، ليس إلهًا ولا ابن إله، وتستمر قائلة في بيان أسباب انعقاد مؤتمر نيقية: "ولما غرس آريوس غرسه هذا في يوساب أسقف نيكومديا آبَ إلى فلسطين؛ حيث سمح له يوسيبوس أسقف قيصرية وأساقفة آخرون بأن يَعْقِدَ جمعيَّات دينيَّة في أبروشيات مختلفة ليعظ فيها"، ثم تشير المؤلِّفة في ص 204 و205 إلى انتشار دعوة آريوس، وأن الإمبراطور أرسلَ مكتوبًا إلى البطريرك إسكندر وآريوس معًا لمحاولة إيقاف النزاع، وأنه لم يفلحْ في إيقاف هذا الشقاق عند حدِّه، فأصدر قسطنطين أوامره باجتماع جميع الأساقفة في نيقية ليفحصوا هذا المشكل ويبتُّوا فيه حكمًا قاطعًا بكلِّ صراحة وإمعانٍ، وبناء على ذلك الْتَأَمَ هذا المجمع الشهير سنة 325م، وفيه كُتب أولُ نسخة من قانون الإيمان النيقاوي.

ثم تقول في ص 207: "وقد يظنُّ البعضُ أن شقاق آريوس قد انتهى عند هذا الحدِّ، والحقيقة أنه بدأ يستفحل"، ثم تقول في ص 215: "أما ميليتيوس وآريوس فلم يكونا يرضخان لحكم المجمع النيقاوي؛ ولذلك بدأت اضطرابات جديدة تقع في الكنيسة المصرية. اهـ"، ويقول المعلِّقُ على هذا الكتاب وهو تادرس شنودة في هامش قرارات مؤتمر نيقية: "جاء في القانون الذي وضعه المجمع النيقاوي أنه قرَّر أن يصلِّي النصارى قائمين بدل ما كانوا يصلون راكعين. اهـ".

هذا، وقد كانت كنيسة الإسكندرية قائمة على قدمٍ وساق للقضاء على آريوس ومذهبه، وزعم البطريرك بطرس أن المسيح لَعَنَ آريوس، وأنه يحذرهم منه، وقال بطرس: "إني رأيت المسيح في النوم مشقوقَ الثوب، فقلت له: يا سيدي، من شَقَّ ثوبَك؟ فقال لي: آريوس، فاحذروا أن تدخلوه معكم".

هذا، وقد ساق سعيد بن البطريق الطبيب النصراني المؤرخ الشهير وكان من أهل فسطاط مصر ومولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 263هـ، وعُيِّن بطريرك للإسكندرية في 8 من صفر سنة 321هـ، وتوفي في رجب سنة 328هـ - ساق ابن البطريق هذا في تاريخه في وصف المجتمعين في مؤتمر نيقية وعددهم ومذاهبهم، يقول ابن البطريق: بَعَثَ الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مرَّ في بطنها كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منَّا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفي ليكون مخلصًا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلَّت فيه بالمحبة والمشيئة؛ ولذلك سُمِّي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح وطالح وعدل بينهما، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول، يعني: شاؤول اليهودي.

وهكذا أورد ابن البطريق صورة واضحة لعدد ومذاهب المجتمعين في مؤتمر نيقية عام 325م لتقرير الديانة النصرانية، وقد نَصَرَ المذهبَ الأخيرَ - وهو القول بألوهية المسيح الذي كان ابتدعه شاؤول (بولس) - ثمانية عشر وثلاثمائة أسقف، وخالفهم ثلاثون وسبعمائة وألف أسقف، والعجيب الغريب أن الإمبراطور قسطنطين لم يلتفت إلا لقول القائلين بألوهية المسيح، وعقد مجلسًا خاصًّا لأصحاب هذا الرأي يصفُه ابن البطريق إذ يقول: وضع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفًا مجلسًا خاصًّا عظيمًا، وجلس في وسطهم وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعه إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على مملكتي لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين، فباركوا الملك، وقلَّدوه سيفَه وقالوا له: أظهر دينَ النصرانية وذبَّ عنه، ووضعوا له أربعين كتابًا فيها السنن والشرائع منها ما يصلح للملك أن يعلمه ويعمل به، ومنها ما يصلح للأساقفة أن يعملوا به. اهـ".

ومن هذا التاريخ حُرمت مخالفة هذا المذهب وحورب مخالفوه وحُرِّم العمل بأي إنجيل عدا الأناجيل الأربعة: متَّى ومرقص ولوقا ويوحنا.

وقد أشار الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه المذاهب النصرانية المنحرفة عن دين المسيح عليه السلام حيث يقول عز وجل في سورة مريم: ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [مريم: 34 - 38].

ويقول عز وجل في سورة الزخرف: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [الزخرف: 63 - 65].

على أنَّ اليهود والنصارى مع إقرارهم في كتبهم بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الإله الواحد الحق، فإن اليهودَ عبدوا العُزيرَ واتَّخذوا أحبارَهم أربابًا من دون الله، وعبدَ النصارى المسيحَ واعتقدوه إلهًا وابن إله، كما اتخذوا رهبانَهم أربابًا من دون الله.

وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في سورة التوبة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 29 - 33].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 26-07-2025 06:57 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (16)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرْتُ في ختامِ المقال السابق ما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم عن اتِّخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وأنهم ما أُمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عمَّا يُشركون.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهودَ والنصارى كانوا إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه صورًا، مشيرًا إلى أن ذلك أوصلهم إلى عبادة غير الله؛ ولذلك حذَّر المسلمين من مثل عملِ هؤلاء اليهود والنصارى، وحرَّم اتِّخاذ المساجد على القبور، ولم تشغله سكرات الموت صلى الله عليه وسلم عن التحذير من هذا العمل غير الصالح؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن أمَّ حبيبة وأمَّ سلمة ذكرتا كنيسةً رأيْنَها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))، وفي رواية للبخاري ومسلم واللفظ للبخاري من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ يحذِّر ما صنعوا، وفي رواية للبخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأَتْها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شِرار الخلق عند الله))، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتلَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، كما روى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: ولولا ذلك لأبرزُوا قبرَه، غير أني أخشى أن يُتَّخَذَ مسجدًا، وفي لفظ مسلم: "فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجدًا"، كما روى مسلم في صحيحه، من حديث جندب رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتَّخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كُنْتُ متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، فلا تتخذوا القبورَ مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).

وقد شنع الله تبارك وتعالى على من اعتقد أن لله ولدًا، وبشَّع مقالتهم، وسَفَّهَ عقيدتهم، وأقامَ الأدلَّة القاطعة على بطلان مذهبهم، وفساد مقولتهم في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وأنه تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4]، وأن جميع من زُعم أنه ابن الله هو عبدٌ من عبيده، والعبدُ لا يكون ولدًا لسيده وخالقه ورازقه وإلهه، وأن ادِّعاء أن لله ولدًا قول فظيع ومنكر شنيع، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدًّا.

وأشار تبارك وتعالى إلى سخافة عقول بعض مشركي العرب؛ إذ كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولما سئلوا: من أمهات الملائكة؟ فقالوا: سروات الجن؛ أي: شريفات الجن، مع أن الواحد من هؤلاء كان إذا أنجب بنتًا اسودَّ وجهه وصار كظيمًا يتوَارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيُمسِكُه على هُونٍ أم يدسُّه في التراب، فكيف ينسبون البنتَ إلى الله وهم لا يفرحون بها إذا ولدوها، وهذا من أقبح أخلاقهم وأسوأ معتقداتهم، وقد جعلوا بهذا المعتقد الفاسد بين الجِنَّة وبين الله نَسَبًا، ولقد علمت الجنة إنهم لَمُحضرون؛ أي: لو كانوا أنسباء الله ما عذبهم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وفي ذلك كلِّه يقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116].

ويقول في سورة يونس: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [يونس: 68، 69].

ويقول عز وجل في ختام سورة الإسراء: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111].

ويقول في مطلع سورة الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 1 - 5].

ويقول تعالى في سورة مريم: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95].

ويقول في سورة الأنبياء: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 29].

ويقول في مطلع سورة الفرقان: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 1 - 3].

ويقول تعالى في سورة الزمر: ﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر: 4].

ويقول تعالى في سورة الجن: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].

ويقول في سورة الإخلاص: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4].


ويقول في سورة الصافات: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 149 - 159].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






ابوالوليد المسلم 26-07-2025 06:58 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (17)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



قد أشرْتُ في الفصل السَّابق إلى ما قصَّ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مما يثبت سخافةَ عقولِ من يتَّخِذ لله ولدًا، وقد سُقْتُ جملةً كبيرةً من هذه الآيات المندِّدَة بفساد تصوُّر هؤلاء، وأنهم قد انحدروا إلى الدرك الأسفل في التصوُّر، وقد أشار الله تبارك وتعالى كذلك إلى أن من زعم أن لله ولدًا فقد اتخذ لله شريكًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتنزَّه عن الشريك والنِّدِّ والنظير والولد والصاحبة.

وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ (أي اختلقوا له أولادًا وبنات بغير بيِّنة ولا برهان) ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 100 - 103].

ويقول تعالى في سورة النحل: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ﴾ [النحل: 51 - 62].

ويقول تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 15 - 19].

ويقول تعالى في سورة الطور: ﴿ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴾ [الطور: 39].

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه في الحديث القدسي أن من ادَّعى أن لله ولدًا فقد سبَّ الله وشتمه، ويا ويل من سبَّ الله وشتمه، وأنه لولا حِلم الله لعاجلهم بالعقوبة؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، وكذَّبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولدًا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني))، كما روى البخاري في صحيحه من حديث حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا!))، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحدَ أصبر على أذًى يسمعه من الله عز وجل، إنه يُشرَك به ويُجعَل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم))، وفي لفظ لمسلم من حديث أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًّا ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم)).

ومع هذه الأدلَّة الكثيرة الصريحة المحكمة في كتاب الله تعالى مكيَّةً ومدنيًّةً، وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة بأن الله تعالى منزَّهٌ عن الولد والصاحبة، فإن نصارى نجران عندما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاولوا الاستدلالَ على أن عيسى ابن الله ببعض ألفاظ في كتاب الله، حاملين لها على غير ما أُريد بها، بسبب زيغ في قلوبهم ابتغاء الفتنة والصدِّ عن سبيل الله، فزعموا أنَّ في القرآن دليلًا على أن عيسى ابن الله في قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]؛ إذ حملوا لفظ (مِن) في هذه الآية على التبعيض، فيكون عيسى بعضًا من الله وجزءًا منه، وتجاهلوا أن (من) في هذا المقام لا يُراد بها التبعيض، وإنما يُراد بها ابتداءُ الغاية؛ أي: إن عيسى روح من الأرواح التي ابتدأ الله خلقها، وتعاموا عن الآيات الكثيرة الصريحة في أن عيسى عبدُ الله وخَلقٌ من خلقه، والعبد لا يكون ولدًا، وأن الله ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4].

ولا شكَّ في أن العرب يستعملون كلمة "مِن" في معانٍ كثيرة: منها ابتداء الغاية كهذه، ومنها بيانُ الجنس كقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]؛ أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، ومن معانيها التبعيض كقولك: أكلت مِن هذا الرغيف؛ أي: أكلت بعضَه... إلى معانٍ كثيرة، فنصارى نجران تركوا المعنى الظاهر المتبادر المحكم ولجؤوا إلى المعنى غير المُراد مستغلِّين تشابه اللفظ، وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأنهم من أول سورة آل عمران إلى الآية الرابعة والثمانين منها، ردَّ فيها باطلَهم وأَدْحَضَ شُبهتَهم، وبيَّن أنهم بسببِ زيغ قلوبهم يتَّبعون ما تشابه من القرآن ويتعامون عن المُحكم الصريح الجَلِيِّ المثبت أن الله لم يتَّخذ ولدًا؛ إذ إن الله تبارك وتعالى جعل من القرآن محكمًا وجعل منه متشابهًا، والمحكم الواضح الجلي الذي لا يَخفى علم المراد منه على العامة والخاصة، وأما المتشابه فهو اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى كلفظ (مِنْ) في قوله تعالى: ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾، فأما أهل الإيمان فيردُّون متشابهه إلى محكمه، ويحملون معنى (مِن) هنا على ما أُريد منها، وهو ابتداء الغاية، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيحملونه على المعنى غير المراد، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، فكلامه لا يتناقض ولا يتضارب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وقد ذَكَرَ اللهُ تبارك في هذا المقام من سورة آل عمران أدلةً جليَّةً بأنه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2]، وأنه أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم القرآنَ بالحقِّ، كما أنزل التوراةَ على موسى والإنجيل على عيسى ﴿ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 4 - 6].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.







ابوالوليد المسلم 26-07-2025 06:59 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (18)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



بعد أن قَرَّرَ الله تبارك وتعالى في صدر سورة آل عمران أنه ربُّ كلِّ شيء وأنه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقَرَّرَ رسالة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو يقتضي أن عيسى عبدٌ من عبيد الله ورسول من رسله ليس إلهًا ولا ابن إله؛ حيث يقول عز وجل:
﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 1 - 6].

شرعَ في إبطالِ شبهة نصارى نجران ومَن على شاكلتهم مِن الذين يتركون المحكَم الجليَّ الواضح القطعيَّ الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، ويستدلون بالألفاظ المتشابهة المحتملة لمعانٍ كثيرة، ويتعلَّقون ببعض المعاني غير المرادة منها، مع أن هذه المعاني المتشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض في الأصل لو كانت هذه الألفاظ مفردة غير واردة في سياق الكلام؛ لأنها إذا كانت واردة في سياق كلام فإن هذا السياق يحدِّد المراد منها؛ وهذا أمر معروف في معاني الحروف، لكن الذي في قلبه زيغ ومَيل عن الحق إلى الباطل يتتبع المتشابهات ويترك الواضحات الجليَّات، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛ (أي: هنَّ الأصول والقواعد التي يُرجع إليها عند الاختلافِ والاشتباهِ لقطعية دلالتها، وعدم احتمالها إلا لمعنى واحد)، ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾؛ (أي: تحتمل أكثر من معنى ابتلاء واختبارًا، وإن كان سياق الكلام يحدد المراد منها) ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ (أي فأمَّا الذين في قلوبهم ميلٌ عن الحق والاستقامة إلى الأهواء الباطلة، المنحرفون عن سنن الرشاد، المُصِرُّون على الشرِّ والفساد والعناد، فإنهم لا يتعلقون بالمحكمات الجليَّات، وإنما يتعمدون الألفاظ المشتبهات لا تحريًا للحق بل لطلب فتنة الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس والتأويل الباطل حسبما يشتهون من التأويلات الفاسدة، والآراء الزائغة، وهم ليسوا أهلًا لتأويل كتاب الله، فتأويله يعلمه الله عز وجل ومن وَفَّقَهُ من عباده الراسخين في العلم الذين ثبتوا على الحقِّ وتمكَّنوا فيه ولم يتزلزلوا عن الهدى؛ ولذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: والثابتون على الحق المستقرُّون على العلم والهدى، يسارعون إلى الإيمان بمحكم الكتاب ومتشابهه، ويردُّون متشابهه إلى محكمه ويقولون: المحكم والمتشابه من القرآن كله من عند الله منزَّل بالحق لا يتناقض ولا يتعارض ولا يتضارب ولا يتضاد ولا يختلف)، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

وعندما لم يسارعْ نصارى نجران إلى الإيمان بالحقِّ والتصديق بأن عيسى عبدُ الله ورسوله، ليس إلهًا ولا ابن إله، طلب الله تعالى من رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم، بعد أن بيَّن لهم أن ﴿ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [آل عمران: 59]، فكما أن الله خلق آدم من غير أب ولا أم، بل من تراب، فقد خلق عيسى من غير أب للدلالة على أن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 59 - 64].

وعندما طلب اللهُ تعالى من رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم بادر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقرأ عليهم آيةَ المباهلة، فخافوا أن يباهلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا أن ما جاء به هو الحق؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فَلَاعَنَنَا لا نفلحُ نحن ولا عقبُنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال: ((لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ))، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((قُمْ يا أبا عبيدة بن الجراح))، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أمين هذه الأمة))، وفي لفظ للبخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلًا أمينًا، فقال: ((لأبعثنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمين))، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلًا أمينًا فقال: ((لأبعثنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ، حقَّ أمينٍ))، قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وفي رواية لمسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلًا يعلمنا السُّنَّةَ والإسلامَ، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: ((هذا أمين هذه الأمة)).

هذا، وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55] يفيدُ أن الله تبارك وتعالى قضى أنَّ مَنْ آمنَ بعيسى عليه السلام وصدَّقه وأقرَّ أنه عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، يُعِزُّه اللهُ تعالى ويرفعُ منزلتَه فوق كلِّ كافر في الحياة الدنيا، فما بالك بما أعدَّه الله للمؤمنين في الآخرة؟! وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]، وكقوله تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وكقوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].

ولا شكَّ في أنه بعد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم فقد نَسَخَ الله بشريعته الشرائعَ السابقة، ولا يقبل من أحدٍ إلا أن يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما أثر في الحديث القدسي: ((وعزَّتِي وجلالي، لو جاؤوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب ما فتحت لهم إلا أن يجيئوا من طريقك))؛ كما ذكره ابن القيم.

ولا شكَّ في أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بعيسى وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، على حد قوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136].

وكقوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 84، 85].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 26-07-2025 07:00 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (19)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





أشرْتُ في ختام الفصل السابق إلى قوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55]، وسُقْتُ نظائرها من كتاب الله تعالى، ولا يتنافى ذلك مع ما قد يحدث للمؤمنين من أن يُهْزَمُوا في حرب، أو أن يمسَّهم قرحٌ، فإن الله تبارك وتعالى قد يبتلي عبادَه المؤمنين ليُمَحِّصَ ﴿ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141]، فإن المؤمن عزيز بالله في حالة النصر وفي حالة الهزيمة؛ ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفرحون إذا نالوا من عدوِّهم، ولا يجزعون إن نال منهم عدوُّهم، وفي ذلك يقول كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد" وهو يصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليسوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رماحُهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قومًا، وليسوا مجازيعًا إذا نِيلُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وكقول حسان رضي الله عنه:
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نالتْنَا مخلابها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا الزعانفُ من أظفارِها خَشَعُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا يفخَرُون إذا نالُوا عدوَّهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإن أصيبُوا فلا خورٌ ولا هلعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأنهمْ في الوغَى، والموتُ مكتنعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أُسْدٌ بِحلبة في أرْسَاغِها فدَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقوله: والموت مكتنعٌ، أي: قريب مشاهد، فإنهم لا يهابون أسباب المنايا، ولم يعرف أن واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتِلَ وهو مدبِر؛ ولذلك يقول كعب بن زهير:
لا يقعُ الطعنَ إلا في نحورِهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وما لهم عنْ حِيَاضِ الموتِ تهليلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقوله: وما لهم عن حياضِ الموت تهليل، أي: لا يفرون من مَوَاردِ الهلاك وساحات القتال ولا يتأخرون عنها، ونصر الله لعباده المؤمنين وإعزازه لهم حاصل على كل حال.

ولنضرب لذلك مثلًا من قصة أصحاب الرجيع رضي الله عنهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً عينًا، وأمَّر عليهم عاصمَ بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان؛ فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلًا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد (أي: رابية مشرفة)، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخبر عنَّا نبيَّك، فرموهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خُبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيِّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخُبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خُبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خُبيب هو قتل الحارث يوم بدر؛ فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسًى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها؛ "أي ليستطيب بها، ويزيل شعر عانته"، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبيٍّ لي، فدَرَجَ إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذِه، فلما رأيتُه فزعتُ فزعةً عرف ذلك منِّي، وفي يدِه الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟! ما كنتُ لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قطُّ خيرًا من خبيب، لقد رأيتُه يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرةٌ، وإنه لموثق في الحديدِ، وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدتُ، فكان أولَ مَن سنَّ الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهمَّ أحصهم عددًا ثم قال:
ولستُ أبالي حين أُقتل مسلمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
على أيِّ شقٍّ كان لله مَصرعي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشأ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يبارِك على أوصالِ شلو ممزَّعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفوه، وكان عاصم قَتَل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدَّبر؛ "أي: مثل السحابة من الزنابير أو ذكور النحل لحمايته من أن يمثِّلوا بشيء من جسده"، فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء.

وقد زعم بعض الناس أن المراد من قوله تعالى: ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55] أن المراد من الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود؛ وهذا قول غير سديد، فإن من زعم أن عيسى إله أو ابن إله أو أن الله ثالث ثلاثة لا يكون من أتباع عيسى عليه السلام، بل يكون من أعدائه، فمن أفرط في عيسى من النصارى كمن فرَّط فيه من اليهود، فكلهم أعداء الله، وأعداء المرسلين؛ ولذلك حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يغلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم؛ فقد روى البخاري في صحيحه من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبدٌ فقولوا: عبدُ الله ورسوله)).

وبيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن الجنة لا يدخلها أحد ممَّن جاء بعد عيسى عليه السلام إلا إذا أقرَّ بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق - أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).

وقد حكم الله تعالى وقضى أن من ادَّعى أن عيسى إله أو ابن إله أو أن الله ثالث ثلاثة فهو كافر مشرك يُحرم الله عليه الجنة؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17].

وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 72، 73].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 26-07-2025 07:01 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (20)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن الله تعالى حكمَ بكفر من ادَّعى أن المسيح ابن الله، أو أنه الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، وسقت صريحَ القرآن الكريم في ذلك، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مشهدًا من مشاهد الحقِّ يَسأل فيه عيسى ابن مريم للتنديد بمن عبده وأمه مع الله عز وجل، حيث يقول: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109].

ثم يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 116 - 118].

وليس في قوله تعالى هنا: ﴿ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] ما يفهم أنه مَن مات على الشرك قد يغفر له؛ لأن الكلام منصب على جملة من جاءهم عيسى عليه السلام، وفيهم من آمن به على أنه عبد الله ورسوله، ومنهم من كفر به في حياته بينهم، ومنهم من كفر به بعد رفعه؛ إذ زعم أنه إله أو ابن إله، والمقصود من السياق يفيد أن عيسى عليه السلام ما قال لهم إلا ما أمره الله عز وجل به أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأنه يشهد لمن أجابه مدة حياته بينهم، ويشهد على من عصاه مدة حياته كذلك، فلما رفعه الله إليه ارتفع علمه عن أحوالهم، وكان اللهُ وحدَه هو الرقيب عليهم، لا يعلم عيسى من أمرهم شيئًا سواء في ذلك من اتبعه على الهدى أو ضل عن سواء السبيل، فمردُّ الجميع إلى الله يعذب من يشاء من العصاة عدلًا، ويثيب ويغفر لمن يشاء فضلًا؛ لأن الجميع عباده وهو العزيز الحكيم، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: ((اللهم أمَّتي أمَّتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربُّك أعلم - فَسَلْهُ: ما يبكيك؟))، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: ((يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ فقل: إنا سنرضيك في أمَّتك ولا نسوؤك)).

ولا شكَّ في أنه بقي إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان يعرف من النصارى أن عيسى عبد الله ورسوله بسبب امتداد دعوة آريوس ومن تبعه؛ ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي ملك الحبشة بعضَ سورةِ مريم مما اشتمل على قصة ولادة المسيح وكلامه في المهد بأنه عبد الله آتاه الكتابَ وجعله نبيًّا - بكى النجاشي حتى اخضلَّتْ لحيته، وصرَّح بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في توحيد الله يخرج هو والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة.

فقد قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنِّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نَسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كلِّ بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكلِّ بطريق منهم إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله! إذًا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على مَن سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرَنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدِّين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنامَ، ونأكل الميتةَ، ونأتي الفاحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصِدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرَّحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللهَ وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قالت: فعدَّدَ عليه أمورَ الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتَّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا اللهَ وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلَّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من سورة مريم، قالت: فبكى واللهِ النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج مِن مشكاة واحدة، انطلِقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون..."؛ إلخ الحديث.






ابوالوليد المسلم 26-07-2025 07:02 PM

رد: المسيح ابن مريم عليه السلام
 
المسيح ابن مريم عليه السلام (21)



الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرْتُ في الفصل السابق أنه قد بقي إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان مِن النصارى يعرفُ الدينَ الحقَّ، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وذكرتُ قصة النجاشي ملك الحبشة مع المهاجرين إلى الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وأن النجاشي عندما سمع صدر سورة مريم من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بكى حتى اخضلت لحيته، وبكى مَن معه من القسيسين والرهبان حتى أخضلوا مصاحفهم، وقد أشار الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم إلى بكاء بعض القسيسين والرهبان عندما سمعوا القرآن، وذكر أن هؤلاء الذين عرفوا الحقَّ هم أقربُ الناس مودةً للذين آمنوا، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة المائدة: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 82 - 85].

ويقول في سورة الإسراء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109].

ويقول في سورة القصص: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 52 - 55].

وقد أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن آمن مِن أهل الكتاب بنبيِّه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يؤتيه الله أجره مرتين؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لهم أجران: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجلٌ كانت له أَمَةٌ فأدَّبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوَّجها فله أجران)).

وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82] ليس ثناء على كلِّ قسيس أو راهب وليس مدحًا لهذين الوصفين، إنما الثناء على مَن كان قسيسًا أو راهبًا، ثم عَرَفَ أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق، وأنه دين الإسلام، وأن من ﴿ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85] فسارع إلى الدخول في الإسلام واستمسك بشرائعه؛ ولذلك لا يوصف أحد من هؤلاء بعد الدخول في الإسلام بأنه قسيس أو راهب، كما لا يوصف اليهودي أو النصراني إذا دخل في الإسلام بأنه يهودي أو نصراني.

والقسيس والقُسُّ والقَسُّ والقِسُّ: هو رئيس النصارى في العلم والدين، وأصله في اللغة: تتبع الشيء وطلبه، قال رؤبة بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتتبعن النمائم:
يُصبحْنَ عن قسِّ الأذى غوافلًا

ويقال: تقسست أصواتهم بالليل؛ أي: تسمعتها، والرهبان: جمع راهب؛ وهو مَن كان مِن النصارى يتعبَّد في الصوامع ولا يخالط الناس من الرهبانيَّة والترهُّب، وهو التعبد في الصوامع مع اعتزال النساء، وقد ابتدع النصارى الترهُّب وشدَّدوا على أنفسهم فيه، على حد قوله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27]، وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ استثناء منقطع، أي: لم نفرضها عليهم لكنهم ابتدعوها من قبل أنفسهم اجتهادًا منهم في طلب مرضاة الله، فصاروا كَمَنْ أجهد نفسه في السير وانْبَتَّ فلا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرًا أبقى؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشدد والتنطُّع في الدين، ويأمر بالرفق وبالتيسير؛ ولذلك لما بلغه أن بعض أصحابه تأثَّروا من خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في بيت بعض الصحابة وعزموا ألا يأكلوا اللحمَ ولا يقربوا النساء ولا يمسوا الطيب فنهاهم عن ذلك أشدَّ النهي.

وكذلك قصة الثلاثة الرهط الذين أتوا بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأُصلِّي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).

هذا، وقد أكثر الله تبارك وتعالى من ذمِّ اليهود والنصارى وبيَّن أن قلوبهم مليئة بحقد بعضهم على بعض، وأن كلَّ طائفة منهم ترمي الأخرى بأنها ليست على شيء، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]؛ أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا وليس معهم برهان سوى الأمنيات الكاذبة.

ويقول عز وجل: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113].

ويقول عز وجل: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135].

ويقول عز وجل: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

ويقول تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 65 - 68].

هذا، ولما نزل قوله تعالى في مشركي مكة: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 98 - 100]، قالوا: إذًا نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ابن مريم في النار؛ لأن عيسى عُبِدَ من دون الله، وهم يجهلون أن مَن عُبد مِن غير الله وهو لم يدع الناس إلى عبادته ولا هو راضٍ أن يُعبَدَ من دون الله فإنه لا يضره ذلك، فأنزل الله قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [الزخرف: 57 - 65]، سلام على عيسى في المرسلين ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 182].
وبهذا ينتهي كتابُ قصص الأنبياء، وقد تمَّ الفراغُ منه في ضُحى الخميس الموافق للرابع من ربيع الأول لعام 1407 من هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.







الساعة الآن : 11:30 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 188.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 187.98 كيلو بايت... تم توفير 0.93 كيلو بايت...بمعدل (0.49%)]