دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الأول: ثمرات الصوم (1) السيد مراد سلامة الحمد لله جعل الصيام جنة، وسببًا موصلًا إلى الجنة، أحمَده سبحانه وأشكُره، هدى إلى خير طريق وأقوم سنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعَثه إلينا فضلًا منه ومنة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمر سريعًا وتنقضي جميعًا، إنها أيام الله خلقها وأوجدها، وخصَّ بعضها بمزيد من الفضل، ما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله رحمته من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم. مرحبًا أهلًا وسهلًا بالصيام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يا حبيبًا زارنا في كل عام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد لقيناك بحب مُفعم كل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حب في سوى المولى حرام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif زِدْنا من عطاياك الجسام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تُعاقبنا فقد عاقَبنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قلقٌ أسهرنا جنح الظلام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم أما بعد: فاعلم علمني الله وإياك أن هناك حكمًا علية وغايات سنية، من أجلها فُرض الله علينا الصيام، وإليك بعض هذه الأهداف التي ينبغي للمسلم أن يجعلها نُصب عينيه. أولًا: لأنه أحد أركان الإسلام: والمسلم أيها الأحباب من استسلم لَما شرع الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52]. والمسلم من اجتمعت فيه خمسةُ دعائم؛ كما في الحديث عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وأقام الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[1]؛ يقول ابن بطال - رحمه الله - قال المهلب: فهذه الخمس هي دعائم الإسلام التي بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يَعصم الدم والمال، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله، وبهذا احتج الصِّدِّيق حين قاتل أهل الردة حين مَنْعِهِمُ الزكاة، وقال: واللهِ لأُقاتِلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واتبعه على ذلك جميع الصحابة[2]؛ قال الإمام النووي - رحمه الله - قوله صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس)؛ أي: فمن أتى بهذه الخمس فقد تَم إسلامه، كما أن البيت يتم بأركانه، كذلك الإسلام يتم بأركانه، وهي خمس، وهذا بناء معنوي شبه بالحسي، ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم، فكذلك البناء المعنوي، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد هدم الدين)، وكذلك البقية ومما قيل في البناء المعنوي: بناء الأمور بأهل الدين ما صلَحوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن تَوَلَّوا فبالأشرار تنقادُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا يصلح الناس فوصى لا سراة لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا سراة إذا جهالُهم سادوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والبيت لا يُبنى إلا له عمدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا عماد إذا لم تُرس أوتاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثانيًا: ونصوم رمضان؛ لأن الله افترضه علينا كما فرضه على الأمم التي كانت قبلنا: أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: فالله تعالى فرض الصيام على الأمم التي كانت قبلنا وفرضه علينا، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، يُخبر تعالى بما منَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، فالمسلم يسارع؛ أي صومه ويجهد في صيامه؛ حتى لا تكون الأمم السابقة خيرًا منا، وذلك من باب قوله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]. ثالثًا: إن الله يحب الصوم والصائمين، فنصومه تزلفًا وتقربًا إلى الله سبحانه وتعالى: فقد أخبرنا الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله يحب الصوم ونحن نحب ما يحب ربنا؛ عن هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ[3]. رابعًا: ونصوم رمضان؛ حتى نحقق الغاية المنشودة من تلك الفريضة، ألا وهي تقوى الله تعالى، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرَّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، وهي أمور تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابَه، فهذا من التقوى. ومنها: أن الصائم يدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه. ومنها: أن الصيام يُضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يَضعُف نفوذه، وتقِل منه المعاصي. ومنها: أن الصائم في الغالب تَكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى. ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساةَ الفقراء المعدَمين، وهذا من خصال التقوى[4]. فالصوم منهج رباني من خلاله يحقِّق العبد معنى التقوى؛ لأن التقوى هي كما عرَّفها طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، مخافة عذاب الله). خامسًا: ونصوم رمضان؛ لأن الصوم جنة واقية من الوقوع في الذنوب والمعاصي: إخوة الإسلام، اعلموا أن الصيام جنة واقية تقي المسلم من نار الشهوات المهلكات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا[5]. لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الذين لا يستطيعون الزواج أن يصوموا، وأظهر لهم الحكمة من ذلك، وهي كما جاء في الحديث عن عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ[6]. سادسًا: ونصوم رمضان حتى نجار من فتنة القبر وعذابه: فالصوم حصنٌ منيع إذا دخله العبد، فإنه يكون في حماية الله تعالى، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ولقد أمرنا رسولنا الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستعد لتلك الدار؛ عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ فَقَالَ عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ قِيلَ عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ قَالَ فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ فَجَثَا عَلَيْهِ قَالَ فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا قَالَ أَيْ إِخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا[7]. فاستعد لسفرك، وتأهَّب لرحيلك، وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ومن الأمور التي يتحصن بها العبد بالصيام، وتأمل أخي هذا الحديث: روى أبو حاتم في صحيحه القبر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ: الصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، وَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ: الصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ تَدَنَّتْ مِنْهُ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي، قَالَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، قَالَ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَشْهَدُ إِنَّهُ لَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مُتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادَ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ كَانَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَتُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ، وَهِيَ طَيْرٌ تَعَلَّقُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ إِلَى مَا بَدَا مِنْهُ مِنَ التُّرَابِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ: فَيَنَامُ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ[8]. سابعًا ونصوم رمضان: حتى نشرب يوم الظمأ الأكبر يوم القيامة، يوم أن تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويأخذ الناس العطش، فعندها يحتاج العبد إلى ما يروي ظمأه فلن يجد إلى ذلك سبيلًا إلا الصوم؛ يقول ابن القيم - رحمه الله - قد جاء فيما ينجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء.... عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: إني رأيت البارحة عجبًا....... ورأيت رجلًا من أمتي يلهث عطشًا كلما دنا من حوض مُنع وطُرد، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه[9]. [1] أخرجه أحمد 2/143، والبخاري "8" في الإيمان: باب دعاؤكم إيمانكم، ومسلم "16" "22" في الإيمان: باب بيان أركان الإسلام). [2] شرح البخاري لابن بطال- (ج 1 / ص 33). [3] صحيح البخاري - (ج 6 / ص 474). [4] تفسير السعدي - (ج 1 / ص 86). [5] أخرجه مالك (1/10، رقم 682)، وأحمد (2/257، رقم 7484)، والبخاري (2/670، رقم 1795). [6] صحيح البخاري - (ج 15 / ص 498). [7]رواه أحمد في مسنده ج 4 ص 294، والبخاري في التاريخ وابن ماجه ح 4195 وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1751. [8] ابن حبان (3103) قال الألباني: حسن، "التعليق الرغيب" (4/ 188 - 189)، "أحكام الجنائز" (198 - 202). [9] الروح [جزء 1 - صفحة 82]. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثاني: فوائد صوم رمضان (2) السيد مراد سلامة الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب الرحمة، وبسط أسباب المغفرة، ووعَد بمنَّته بالعتق من النيران في شهر رمضان، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من الرحمات، وما ضاعَف من الحسنات، وما محا من السيئات، نحمده جل وعلا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء الأرض والسماوات، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمدًا يوافي فضله وإنعامه، ويولي لنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيًا عن أمته، ووفَّقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71]، أما بعد: فإخوة الإيمان أحباب النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، ما زلنا نتكلم عن فوائد وثمرات الصوم التي تعود بالنفع على الصائم في الدنيا والآخرة. أولًا: ونصوم رمضان؛ حتى يكفر الله عنا السيئات ويمحو تلك الخطايا: فإذا أردت أن يغفر الله لك الذنوب، ويسترك ولا يفضَحك، فعليك بالصوم فإنه يباعد بين المرء وذنوبه، ويغسله كما يغسل البدن بالماء والثلج والبرد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائر[1]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[2]. يقول ي بدر الدين العيني (قوله إيمانا أي تصديقا بوجوبه واحتسابا أي طلبا للأجر في الآخرة وقال الجوهري الحسبة بالكسر الأجر احتسبت كذا أجرا عند الله وقال الخطابي أي عزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقلة لصيامه ولا مستطيلة لإتمامه وانتصاب إيمانا على أنه حال بمعنى مؤمنا وكذلك احتسابا بمعنى محتسبا ونقل بعضهم عمن قال منصوبا على أنه مفعول له أو تمييز قلت وجهان بعيدان والذي له يد في العربية لا ينقل مثل هذا[3]. ثانيًا: ونصوم رمضان حتى ننال الأجر يوم القيامة بغير حساب: فالصوم عباد الله مبناه على الصبر، فهو صبر على الطاعة وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله تعالى، عن هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ[4]. الحافظ قطب الدين القسطلاني - رحمه الله - فان قلت فما وجه قوله: (إلا الصوم فإنه لي)، والأعمال كلها لله، فما علة تخصيصه له بالإضافة دون غيره؟ قلت: لعلماء فيه عدة من الأقوال، أحدها: معناه أنا العالم بجزائها لمالك له، ولا أطلعكم عليه كما أطلعتكم على أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فجزاء الصائم فوق هذا العدد مما أعلمه ولا أخبركم به، فإن الصيام ينقص البدن ويضعف البنية، بخلاف غيره من أركان الإسلام، فالصائم يعرض نفسه لِما هو كارهه، فكان جزاء عمله فيه معنى الصبر، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. ثالثًا: ونصوم رمضان؛ حتى ندخل من باب الريان: واعلَم أن من الأسباب الدافعة إلى صيام شهر رمضان أن ندخل الجنة من باب قد خصَّه الله تعالى بالصائمين، لا يدخل منه أحد غيرهم والجزاء من جنس العمل، عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ[5]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هذَا خَيْرٌ»، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»[6]. رابعًا: ونصوم رمضان حتى يشفع لنا يوم القيامة: واعلموا عباد الله أن الصيام يكون لصاحبة يوم القيامة شفيعًا بين يدي رب العزة جل جلاله، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ؛ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ)[7]. خامسًا: ونصوم رمضان حتى نفرح في الدنيا والآخرة: أخي المسلم، اعلَم بارك الله فيكأن الصوم سبب للسعادة في الدارين، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"[8]. أما فرحته عند فطره، فهي نموذج للسعادة واللذة التي يجدها المؤمن في الدنيا؛ بسبب طاعته وتقواه لمولاه سبحانه وتعالى، وهي السعادة الحقيقية، وفرحته عند فطره تأتي من جهتين: الأولى: أن الله تعالى أباح له الأكل والشرب في تلك اللحظة، والنفس - بلا شك - مجبولة على حب الأكل والشرب، ولذلك تعبَّدنا الله - تبارك وتعالى - بالإمساك عنهما. الثانية: سرورًا بما وفقه الله تعالى إليه من إتمام صيام ذلك اليوم، وإكمال تلك العبادة، وهذا أسمى وأعلى من فرحه بإباحة الطعام له. سادسًا: ونصوم رمضان حتى تكون رائحة الفم أطيب عند الله من ريح المسك: أن خلوف فم الصائم أطيبُ عند الله تعالى من ريح المسك، وخلوف فمه هو الرائحة التي تنبعث من المعدة - عند خلوها من الطعام - عن طريق الفم، وهي رائحة مكروهة عند الخلق، لكنها محبوبة عند الخالق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه -: "والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله مـن ريح المسك "[9]. وفي هذا دليلٌ على أنه لا بأس من أن يستاك الصائم بعد الزوال، بل هو أمر مستحب - على القول الراجح الصحيح - في المواضع التي يُستحب فيها السواك في كل حال: عند الصلاة، وعند الوضوء، وعند دخول المنزل، وعند الاستيقاظ من النوم … إلى غير ذلك من المواضع؛ لأن هذا الخلوف ليس من الفم، وإنما هو من المعدة. وكما أن خلوف فم الصائم المكروه لدى المخلوقين أطيب عند الله – سبحانه - من ريح المسك، فكذلك دم الشهيد يوم القيامة له رائحة المسك، مع أن الدم - من حيث هو - مستقذرٌ، بل هو نجس عند أكثر الفقهاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما مِن مكلوم[10] يُكْلَم في الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يَدمى، اللون لون دم، والريحُ ريح مسك"[11]. [1] «مسند أحمد» (15/ 106 ط الرسالة) «وأخرجه مسلم (233) (16)، والبيهقي 10/187». [2] وأخرجه ابن أبي شيبة 3/2، والبخاري (38)، وابن ماجه (1641). [3] عمدة القاري ج 10 274. [4] صحيح البخاري - (ج 6 / ص 474 صحيح البخاري - (ج 6 / ص 461). [5] وأخرجه ابن أبي شيبة 3/5- 6، والبخاري "1896" في الصوم: باب الريان للصائمين، ومسلم "1152" في الصيام: باب فضل الصوم. [6] مسلم (2/ 711 - 712 رقم 1027)، البخاري (4/ 111 رقم 1897)، وانظر (2841، 3216، 3666) [7] أخرجه أحمد 2/ 174 (6626) انظر صَحِيح الْجَامِع: 3882 , صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 984 [8] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [10] المكلوم: الذي فيه جراح، والكَلْم: الجراحة. مختار الصحاح (ص240). [11] رواه البخاري (5533) ومسلم (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثالث: ثمرات قيام الليل العشر (1) السيد مراد سلامة الحمد لله المجيب لكل سائل، التائب على العباد فليس بينه وبين العباد حائل، جعل ما على الأرض زينة لها، وكل نعيم لامحالة زائل، حذَّر الناس من الشيطان وللشيطان منافذ وحبائل، فمن أسلم وجهه لله فذاك الكيِّسُ العاقل، ومن استسلم لهواه فذاك الضال الغافل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الشريك وعن الشبيه وعن المشاكل، من للعباد غيره؟ ومن يدبر الأمر؟ ومن يعدل المائل؟ من يشفي المريض؟ من يرعى الجنين في بطن الحوامل؟ ما أخبار قلبك؟ ماذا في قلبك لربك جل جلاله؟ ماذا في قلبك من محبة الدنيا؟ ماذا في قلبك من خوف ورجاء؟ أما ماذا في قلبك من فتن الشهوات؟ إخوة الإيمان، حيَّاكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب مَمشاكم، وتبوَّأْتُم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الإخوة الكرام، حديثنا في هذا اليوم الميمون الأغر العشر الأُولى من ثمرات قيام الليل وبيان فضل الله تعالى لأهل الليل. الثمرة الأولى قيام الليل والتسبيح فيه يورث العبد الرضا: أخي المسلم، هل تريد أن يرضى الله تعالى عنك؟ إن رضا الله من أعظم الغايات التي يسعى إليها المسلم، فإذا فاز به فقد فاز في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه:130]. ثانيًا قيام الليل سبب للفهم عن الله والتوفيق: وهذه وصفة ربانية لطالب العلم الذي يريد التوفيق في حياته العلمية واليومية، فعليه بقيام الليل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل:6]؛ أي: إن قيام الليل أبلغ في الحفظ وأثبت في الخير، وعبادة الليل أشدُّ نشاطًا وأتَمُّ إخلاصًا وأكثر بركة. ثالثًا قيام الليل دأب الصالحين: أيها الإخوة الأكارم، من عظيم ثمرات الليل ما جاء في هذا الحديث النبوي الشريف الذي اشتمل على عدة جوائز ربانية؛ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ. وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ» وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: «عَلَيْكُمْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً وَاحِدَةً»[1]. رابعًا: قيام الليل يطرد الغفلة: أيها الأحباب، الغفلة داء مهلك للعبد، يُبعده عن ربه، فإذا أردت أخي أن تخرج من تلك الدائرة، فعليك بقيام الليل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قام بعشرِ آيات لم يُكْتَبْ مِن الغافلين، ومَنْ قام بمائةِ آية، كُتِبَ مِن القانتين، ومَن قامَ بألفِ آية كُتِبَ مِن المقَنْطِرين». أخرجه أبو داود»[2]. قال يحيى بن معاذ: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. خامسًا قيام الليل شرف المؤمن: أيها الأحباب، إن شرفك الذي تنال به المنزلة والمكانة يوم القيامة، هو قيام الليل، فلا تفرط فيها، فيضيع شرفك؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»[3]. (واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، وتأمل بارك الله فيك الفرق بين الشرف في الحديث وبين الشرف اليوم، فاليوم انقلبت الموازين، وسُمِّيت الأشياء بغير أسمائها، فأصبحنا نسمع عن غناء شريف، وعن رقص شريف، وعن فن شريف، وعن فواحش شريفة، فغيَّروا الأسماء، وغيروا المسميات، فيا ألله! فهذه أشراط الساعة قد ظهرت فينا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أيامًا خداعات: يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وتتكلم فيها الرويبضة، وتسمى الأشياء بغير مسمياتها)، بل إن كثيرًا من الناس يرى أن الشرف في الحسب والنسب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بطَّأ به عملُه، لم يُسرع به نسبُه)، والله يقول: ﴿ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون:101]، ويقول: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات:13]. اللهم اجعلنا منهم ومعهم. هذا الإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات في بيته في الصباح، فوجدت بللًا في مصلاه، فعاتبت زوجته فقالت لها: ثكلتْك أمُّك، تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ! قالت: ما هذا بول الصبيان، إنما هذا من أثر دموع الشيخ وهو يبكي في الليل. سادسًا: الحرية والنشاط: اعلم بارَك الله فيك أن قيام الليل سبب من أسباب النشاط والحرية من العقد الشيطانية وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( يَعْقِدُ الشَّيطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأسِ أحَدِكُمْ، إِذَا هُوَ نَامَ، ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإن اسْتَيقَظَ، فَذَكَرَ اللهَ تَعَالَى انحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضّأ، انْحَلّتْ عُقدَةٌ، فَإنْ صَلَّى، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإلاَّ أصْبحَ خَبيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ))[4]؛ متفقٌ عَلَيْهِ. فكم منا من يقوم خبيث النفس كسلان، وكم منا من يقوم وهو كما يقال: نفسه في طرف أنفه، وما ذاك إلا لأننا لا نقوم الليل، ولأننا لا نهتم بهذا الأمر، بل حتى عقدة واحدة نعجِز عن حلها، فبدلًا من أن يستيقظ أحدنا في الساعة الرابعة أو الثالثة، ثم إذا سمع جرس ساعته أطفأه وقال: لا إله إلا الله، فتنفك عقدة واحدة، وإنما تجده يتلفظ بغير الذكر ويكسل عن حل هذه العقدة. سابعًا: الأنور الربانية: ومن ثمرات قيام الليل أن الله تعالى يلبسهم من نورة فتتلألأ وجوهم وتشرق؛ قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس:38 - 39]؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "من قيام الليل"، وقيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن النَّاس وجوهًا؟ قال: "لأنَّهم خلوا بالرحمن فألبسَهم من نوره"، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: "إنَّ الرجل ليُصلِّي بالليل، فيجعل الله في وجهه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يرَه قط، فيقول: إنِّي لأحب هذا الرجل". [1] رواه الترمذي (3549)، وابن خزيمة (1135)، والحاكم (1156)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (624). [2] رواه أبو داود اللفظ له (1398)، وابن حبان (2572)، وابن خزيمة (1144)، والدارمي (3444)، والحاكم (2041)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح (639). [3] قال الحافظ المنذري في الترغيب (2/ 23)؛ رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. [4] البخاري برقم (1142)، ومسلم برقم (776). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
دروس رمضانية السيد مراد سلامة الدرس الرابع: ثمرات قيام الليل(2) أحبتي في الله، ما زلنا نتكلم عن ثمرات قيام الليل وما فيه من عطايا وهبات ربانية، قيام الليل رياض الصالحين، وملاذ المحبين، مع جمالِ نجوم الليل، ومع حسنِ بهائها، ونضارةِ لياليها، خاصةً تلك الساعات الأخيرة المباركة من ثلث الليل، إنها أوقات غيرَ باقي الأوقات! إنها تعدِل موسمًا كاملًا من النَّفحات، وأي مواسم تلك الساعات؟ إنها لحظات تنزُّلِ الرحمات، لا يتخلى الناسُ عن بعضِ أفعالِهم المحبوبة إليهم، وشيء من تصرفاتِهم المحبوبة إلى نفوسهم، منهم مَن يعانق وثير الفراش ونعيم الوسائد، وآخر أمام القنوات والمواقع الهدَّامة! والثالث على تعاطي المسكرات والمخدرات، والعياذ بالله تعالى. أولًا: قيام الليل سبب لإجابة الدعاء: فيا أرباب الكربات، ويا أرباب الهموم، ويا أرباب الديون، هل لكم من حلٍّ لتلك المشاكل، إنها في ركعات بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي صحيح البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ, فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ, وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ, ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لِي, غُفِرَ لَهُ، قَالَ الْوَلِيدُ: أَوْ قَالَ: دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ, فَإِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ, ثُمَّ صَلَّى, قُبِلَتْ صَلاَتُهُ[1]. وهذا حديث عظيم القدر، كثير المنافع لمن عَوَّدَ نفسه كلَّما استيقظ من نومه، جرى لسانه بتوحيد الله وذكره، فكان جزاؤه أن تُقبل صلاته وتُستجاب دعوته، فكم فرِّجت به من همومٍ، وكم قُضيت به من ديون، وكم صلَحت به أحوالٌ فاسدة، والموفق مَن وفَّقه الله؛ قال ابن بطال رحمه الله: «وعد الله على لسان نبيه أن مَن استيقظ من نومه لهج لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك، والاعتراف بنعمه يحمده عليها، وينزِّهه عما لا يليق به بتسبيحه، والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة، إلا بعونه، أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلى قُبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به ويُخلص نيته لربه سبحانه وتعالى»[2]. ثانيًا: الرحمة الرحمانية، أخي المسلم، قيام الليل من موجبات الرحمة؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ وَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»[3]. وصلة بن أشيم العدوي لَما تزوج السيدة معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي ليلة البناء أدخله ابن أخيه بيتًا حارًّا، ثم أدخله بيتًا مطيبًا، ثم بعد ذلك أدخلوا إليه معاذة، فقام يصلي صلاة الليل حتى الصباح، وقامت هي تصلي خلفه، فعاتَبه ابن أخيه في اليوم الثاني فقال له: يا عماه! في ليلة عرسك تصلي إلى الصباح! قال: وماذا أصنع يا بن أخي، إنك أدخلتني بيتًا حارًّا، فذكرتني فيه بالنار، ثم أدخلتني بيتًا مطيبًا، فذكرتني فيه بالجنة، فلم يزل خلدي فيهما إلى الصباح. ورياح القيسي لما تزوَّج ذؤابة العابدة تناوم في ليلة البناء يريد أن يختبر صلاة زوجه، فلما كان ربع الليل الأول قالت: يا رياح، قُمْ فقد مضى ربع الليل الأول، فقال: أقوم ولَم يقم، فلما كان ربع الليل الثاني، قالت: يا رياح قُم، قد مضى ربع الليل الثاني، قال: أقوم ولم يقم، فما زال كذلك إلى صلاة الفجر، فلما كان عند الفجر قام يصلي الفجر في جماعة، فقالت: ليت شعري من غرَّني بك يا رياح؛ لأنه ما صلى إلا الفجر فقط في جماعة. وكانت زوجة محمد بن حبيب العجمي توقِظه لصلاة الليل، وتقول له: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، والطريق طويل، والزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد وصلت إلى الجنة ونحن قد بقينا. ثالثًا: قيام الليل يهوِّن من طول القيام في عرصات القيامة: إنهم عباد الرحمن: ﴿ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان:64]، انتزعوا نفوسهم من وثر الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر:9]، عبادٌ لله قانتون متقون: ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات:17 - 18]، لصلاة الليل عندهم أسرارُها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذتها؛ قال ابن عباس: "مَن أحبَّ أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة، فليَره الله في ظلمة الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة". قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي فيوضِه ومِنَحِه، والأنس به والتعرض لنفحاته والخلوة إليه. الله أكبر، ما طاب لهم المنام؛ لأنهم تذكَّروا وحشة القبور، وهول المطلع يوم النشور، يوم يُبعَث ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله: "ما سهر الليل بالطاعة منافقٌ". رابعًا: قيام الليل ينجي من النيران: ففي حديث عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا، فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا"[4]. قال القرطبي: "حصل لعبد الله من ذلك تبيهٌ على أن قيام الليل مما يُتقى به من النَّار والدنو منها، فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك". رابعًا: قيام الليل يورث سكن الغرف في أعالي الجنان: معاشر المحبين، من ثمرات قيام الليل اليانعة ما أعده الله تعالى بكرمه وفضله من أعالي الجنان، قال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة:16 - 17]، وعَنْ عَلِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرُهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ»[5]. خامسًا: التهجد سبيل النصر على الأعداء: فالجهاد يُسقى بدمع التهجد، ولا ينتصر على العدو في ساحة القتال إلا من انتصر على نفسه وشيطانه في قيام الليل! ولَما هُزم الروم أمام المسلمين، قال هرقل لجنوده: "ما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظماء الروم: من أجل أنَّهم يقومون اللَّيل ويصومون النَّهار، وقال الأمراء الصليبيون: "إنَّ القسيم بن القسيم - يعنون نور الدين زنكي - له مع الله سرٌّ، فإنه لم يظفر ويُنصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا ويُنصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يُصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله ويدعو، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤاله فيظفر علينا". سادسًا: الكتابة في ديوان الذاكرين الله تعالى والذاكرات: إخوة الإسلام، من ثمرات قيام الليل أن يُكتَب العبد في لوحة الشرف، ألا وهي لوحة الذاكرين لله تعالى؛ عَنْ أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ»[6]. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنْ قَالَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرٍ، أَوْ قَالَ مِنَ الْأَجْرِ كَأَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةً»"[7]. سابعًا الوصول إلى محبة الله تعالى: من ثمرات قيام الليل أن ينال العبد محبة الله تعالى، واعلموا أن العبرة ليست أن تُحِب، ولكن العبرة أن تُحَب، فإذا أحبك الله أحبَّك كلُّ شيء، عَنِ ابْنِ الْأَحْمَسِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ فَقُلْتُ: أَبَا ذَرٍّ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا هُوَ فَلَا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَثَلَاثَةٌ يَشْنَؤُهُمُ اللَّهُ»، قَالَ: قُلْتُهُ، وَسَمِعْتُهُ، قُلْتُ: فَمَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: «رَجُلٌ كَانَ فِي فِئَةٍ فَنَصَبَ نَحْرَهُ حَتَّى يُقْتَلَ، أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ، فَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ أَوْ ظَعْنٌ، وَرَجُلٌ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَأَطَالُوا السُّرَى حَتَّى أَعْجَبَهُمْ أَنْ يَمْشُوا الْأَرْضَ فَنَزَلُوا، فَتَنَحَّى يُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَ أَصْحَابَهُ لِلرَّحِيلِ» ، قُلْتُ: فَمَنِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمْ؟ قَالَ: «التَّاجِرُ أَوِ الْبَيَّاعُ الْحَلَّافُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ»[8]. قلت: ما من شكٍّ أن الوصول إلى محبة الله تعالى مِن أجلِّ ما يصبو إليه المؤمن، فإذا وجد عملًا يحبه الله تعالى فعله ولو مرة واحدة؛ كما قال بعض السلف: (إذا سمعتَ بعملٍ صالح فافعله ولو مرة، تكُن من أهله). [1] - «صحيح البخاري» (برقم 1154). [2] - «فتح الباري» (3/ 41). [3] - ذكره القرطبي في تفسيره (15/ 239). [4] - أخرجه البخاري (1121) و(1122) و(3738) و(3739) ، ومسلم (2479) (140) ، وابن حبان (7070) [5] - أخرجه أحمد من رواية علي رضي اللَّه عنه، في المسند 1/ 156 ضمن مسند علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وأخرجه الترمذي في السنن 4/ 673 كتاب صفة الجنة (39)، باب ما جاء في صفة غُرَفِ الجنة (3)، الحديث (2527) [6] - «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (2/ 361): إسناده صحيح «وأخرجه أبو داود (1309) و(1451)، والنسائي في "الكبرى" (1312) و(11342)» [7] -«مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر» (ص109). [8] - وأخرجه أحمد 5/153، والنسائي 5/84 والطحاوي 7/ 214 (2784)، وصحّحه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، (صحيح) انظر حديث رقم: 3074 في صحيح الجامع. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الخامس: الفوائد العشرية لقراءة كتاب رب البرية (1) السيد مراد سلامة الحمد لله الذي جعل القرآن هدايةًً للمقبلين، وجعل تلاوته بخضوع تُهل دمع الخاشعين، وأنزل فيه من الوعيد ما يَهُزُّ به أركان الظالمين، وأخبَر فيه أن الموت نهايةٌ للعالمين، وأننا بعد الموت للحساب مبعوثين، وأننا سنُحاسب عما كنا فاعلين، وسنقف بذُلٍّ وخضوعٍ بين يدي رب العالمين، ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ [الفجر: 23]، ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ [إبراهيم: 49]، ليس هناك فرقٌ بين ملك معظم وإنسان مُهين، هذا جزاء من أخلص العمل لله رب العالمين، وهذا عطاء رب الأرباب مالك يوم الدين، سبحانه من إله عظيمٍ أعزَّ الحق وأخرَس المبطلين سبحانه عددَ ما دعاه عباده المساكين، سبحانه عددَ ما انهمرَت دموعُ المنيبين، سبحانه جوَاد كريم قوي متين. يَا مَنْ سَيْنَأَى عَنْ بَنِيهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أما بعد، فيا معاشر الموحِّدين يقبل المسلمون صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً على القرآن الكريم، ينهلون من نبعه الصافي ومن فيضه الشافي، ونوره الهادي ومن أسراره الدائمة، إقبال الظمآن على الماء البارد في اليوم الصائف، فما نيتُك في قراءة القرآن الكريم؟ اعلم بارك الله فيك أن تؤجَر على قدر نيتك، فباب النيات من أوسع أبواب الخيرات، وهاك أخي الكريم بعض تلك النيات: أولًا: أَقْرأُ القرآن لأنه شفاءٌ: القرآن الكريم هو الشفاء الناجع والدواء النافع الذي أنزله الله تعالى لشفاء البشرية من أسقامها وأمراضها الحسية والمعنوية، قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]. وها هو صلى الله عليه وسلم يَرقي نفسه بالمعوذات؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا»[1]. ثانيًا: أَقْرأُ القرآن لأن الله تعالى يُفرِّج به الهم، ويُذْهِب به الغموم: إخوة الإسلام، القرآن الكريم شفاء ودواء ناجع للهموم والغموم، إذا كنت مهمومًا، فعليك بقراءة القرآن الكريم، يُزيل الله تعالى عنك ما أَهَمَّك، ويفرِّج كربَك؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ, فِي قَبْضَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ عَلَى أَحَدٍ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا "، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ قَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»"[2]. ثالثًا: أَقْرأُ القرآن لأنه سبب لنزول السكينة وغشيان الرحمة: والقرآن الكريم أيها الكرام سببٌ لهدوء النفس ونزول السكينة على العبد، وغشيان الرحمة وحضور الملائكة، والذكر في الحضرة الإلهية، فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوت الله، يتلونَ كتابَ الله ويتدارسُونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة وغَشِيَتهُم الرَّحمَةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذَكَرهُمُ اللهُ فيمَن عندَه"[3]. رابعًا: أَقْرأُ القرآن حتى يكون نورًا لي في الدنيا وذخرًا لي في الآخرة: اعلموا عباد الله أن القرآن الكريم هو نورُكم الذي يضيء لكم دروب الحياة المظلمة التي أظلمتها الشهوات والمخالفات، وكثرة السيئات، فيحتاج المسلم إلى ذلك النور الكاشف عن حقائق الأمور، فقد أخرج ابن حبان بسند حسن عن أبي ذر - رضى الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن، فإنه نورٌ لك في الأرض، وذخر لك في السماء"[4]. خامسًا: أَقْرأُ القرآن حتى يُزاد لي في الإيمان: فمَن أراد زيادة الإيمان يومًا بعد يوم، فعليه بكتاب الله، فقد قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]. عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، «فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا»[5]. الحزاورة: جمع حزور، وهو الغلام إذا قارب البلوغ. سادسًا: أَقْرأُ القرآن حتى لا أُكْتَب من الغافلين: أمة الإسلام، من ثمرات قراءة القرآن الكريم أن من قام بعشر آيات منه في ليلة، لم يكن من الغافلين، فقد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ"[6]. سابعًا: أَقْرأُ القرآن حتى أتحَّصل على جبال من الحسنات: فقد أخرج عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَرَأَ حرفًا من كتاب الله فَلهُ حَسَنَة، والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا، لَا أَقُول الم حرف، وَلَكِن ألف حرف وَلَام حرف وَمِيم حرف"[7]. ثامنًا: أَقْرأُ القرآن لأنه خير من الدنيا وما فيها: إذا فرِح أهل الدنيا بدنياهم، وأهل المناصب بمناصبهم، وأهل الأموال بأموالهم، فجدير أن يفرح حامل القرآن بكلام الله الذي لا توازيه الدنيا بكل ما فيها من متاع زائل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟» قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: «فَثَلَاثُ آيَاتٍ، يَقْرَؤُهُنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ»[8]. وأخرج مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بَطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟»، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُعَلِّمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»"[9]. • بُطْحَانَ: موضع بالمدينة - الكَوْمَاءُ: هي العظيمة السنام من الإبل. [1] «وأخرجه البخاري (4439)، ومسلم (2192)، وابن ماجه (3528) و(3529)، والنسائي في "الكبرى" (7049) و(7488)». [2] المسند 6/ 246 (3712)، ومسند أبي يعلى 9/ 198 (5297)، وصحيح ابن حِبّان 3/ 253 (972). وأخرجه الحاكم 1/ 509 ) انظر الصَّحِيحَة: 199، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب. [3] أخرجه مسلم (2699)، وابن ماجه (225)، والترمذي (3174). [4] المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 349) وقال: رواه ابن حبان في صحيحه في حديث طويل «صحيح الترغيب والترهيب» (2/ 164). [5] «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (1/ 42) «وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 221، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (799) و(825)، والطبراني في "الكبير" (2678)» [6] «صحيح ابن حبان» (6/ 311): «وأخرجه أبو داود (1398) في الصلاة: باب تحزيب القرآن، عن أحمد بن صالح، وابن خزيمة (1144)» [7] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 216)، والترمذي (5/ 175، رقم 2910) وقال: حسن صحيح غريب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 342، رقم 1983) [8] أخرجه مسلم (802). [9] رواه مسلم رقم (803) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، وأبو داود رقم (1456) في الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السادس: الفوائد العشرية لقراءة كتاب رب البرية (2) السيد مراد سلامة وأشهد إن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، الكل تحت قهره ونظره في جميع الأحوال، فتبارك من وفَّق من شاء لخدمته، فشتان ما بين رجال ورجال. عبد الله، يا مسكين: يا غافلًا والجليل يحرسه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من كل سوء يدب في الظلم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كيف تنام العيون عن ملك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تأتيه منه فوائد النعم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. القرآن الكريم كلام الله تعالى، وفي تلاوته فضل عظيم، وقد أمر الله سبحانه بتلاوته كما في قوله سبحانه: ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29]. قال أيضًا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئًا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت الذي تسمع فيه سورة البقرة.. • وقال أيضًا - رضي الله عنه -: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. • وقال فضل الرقاشي رحمه الله: ما تلذَّذ العابدون ولا استطارت قلوبهم بشيء كحسن الصوت بالقرآن، وكل قلب لا يجيب على حسن الصوت بالقرآن، فهو قلب ميتٌ. تاسعًا: أَقْرأُ القرآن حتى يفتح على أبواب الخير الكثيرة: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: ثُمَّ لَقْيتُ أَبَا مَسْعُودٍ فِي الطَّوَافِ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَحَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»[1]. وأفضل الناس وخير الناس عند الله هم حملة كتابه العزيز؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»[2]. عاشرًا: أَقْرأُ القرآن حتى يُحِبُّني الله - عز وجل - وأكون من أهله: واجعل نيتك أخي القارئ أن تصل بالقراءة إلى محبة مُنزِل القرآن الرحيم الرحمن جل جلاله، فقد أخرج الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ بِـ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، فَلَمَّا رَجَعُوا ذكروا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ[3]. فإذا أحبَّك الله أصبحت في معيته الخاصة، وصرت من أهله وخاصته؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ"، قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ"[4]. الحادي عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أكون سببًا في رحمة والدَيَّ: إخوة أحباب من ثمرات قراءة وحفظ القرآن الكريم أنه يكون سببًا من أسباب رحمة الوالدين؛ قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، قَالَ: فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذَا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا"[5]. الثاني عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أُحفَظ من الزيغ والضلال: فقد أخرج الحاكم والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع، فقال: إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في أرضكم، ولكن يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك ممَّا تحقِّرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنة نبيه"[6]. الثالث عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أنجو من فتنة القبر: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سُورَةُ تَبَارَكَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»"[7]. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "يُؤْتَى الرَّجُلُ فِي قَبْرِهِ فَيُؤْتَى رِجْلَاهُ فَيَقُولَانِ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلَنَا مِنْ سَبِيلٍ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى جَوْفُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ قَدْ كَانَ وَعَى فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ "، قَالَ عَبْدُ اللهِ: «فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَهِي فِي التَّوْرَاةِ هَذِهِ سُورَةُ الْمُلْكِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ»[8]. الرابع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أنجو من عذاب النار: فالعبد يسعى بكل ما يستطيع لكي ينجو من عذاب النار، وقد كتب الله تعالى لمَن حفظ القرآن ابتغاء وجهه ألا تَحرقه النار. فقد أخرج البيهقي عن عصمة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَا أَحْرَقَهُ الله بِالنَّارِ"[9]. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ"[10]. الخامس عشر: أَقْرأُ القرآن وأحافظ على قراءته حتى يشفع لي يوم القيامة: معاشر الموحدين، من ثمرات قراءة القرآن الكريم أنه يكون شفيعًا لأهله يوم القيامة؛ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "القرآن مشفع وماحل مُصَدَّقٌ مَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ ومن جعله خلف ظَهْرِهِ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ"[11]. ماحلٌ: ساع، وقيل: خصم مجادل. إن القرآن عباد الله إما أن ينتفع به صاحبه، فيكون حجة له، وذلك إذا قام به حقَّ القيام، وإما ألا ينتفع به، فيكون حجة عليه، وذلك إذا لم يقم بحقه، فمن جعل القرآن أمامه مقتديًا به، يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه لا يعمل به ساقه إلى النار، والعياذ بالله. السادس عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى يكون سبيل لدخول الجَنَّة إن شاء اللهتعالى. وها هي سروة من سور القرآن الكريم تدافع عن صاحبها حتى تدخله الجنة؛ أخرج الطبراني في "الأوسط" عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ"[12]. (خاصمت عن صاحبها)؛ أي حاججت عنه ودافعت، (حتى أدخلته الجنة) بعد منعه عن دخولها. السابع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أرتقي في أعلى الدرجات في الجَنَّة: بل يرتقي الإنسان في الجنة بقدر حفظه للقرآن، فعدد درجات الجنة بعدد أي القرآن الكريم، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارقَ ورتِّل كما كنت تُرتل في الدنيا، فإن منزلكَ عند آخر آية تقرأ بها"[13]؛ قال ابن حجر الهيثمي كما في "الفتاوى الحديثة" (156): الخبر المذكور خاص بمن يحفَظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب فلهذا تفاوتت منازلهم في الجَنَّة بحسب تفاوت حِفْظِهم؛ قال أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن": جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجَنَّة، فيقال للقارئ: "ارْقَ في الدَّرج على قدر ما كنت تقرأ في آي القرآن"، فمن استوفى جميع القرآن استولى على أقصى درج الجَنَّة في الآخرة، ومَن قرأ جزءًا منه كان رقِيُّه في الدرج على قدر ذلك؛ فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. الثامن عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أكون في أعلى الجنات مع السفرة الكرام: فحين يفتخر أهل الدنيا بانتسابهم إلى العظماء والوجهاء والأغنياء، فإن حافظ القرآن يفتخر بأنه سيكون مع السفرة الكرام البررة الذين اختارهم الله عز جل، وشرَّفَهم بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة، كما قال رب العالمين في كتابه الكريم: ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ [عبس: 13-15]. فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وَيَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاق له أجران"[14]. وبعد هذا الشرف والتكريم الذي ناله أهل القرآن يتضح لنا قول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: الثابت في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"[15]. فهيَّا لنكون من أهل القرآن، وهذه هي التجارة مع الله المضمونة الرابحة التي يعطى الله عليها من فضله الكريم وعطائه الذي لا ينفَد؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29- 30]. التاسع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحافظ على قراءته حتى لا أُرَدَّ إل أرذل العمر: فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "مَن قرأ القرآن لم يُرَدَّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [التين: 5-6]، قال: الذين قرؤوا القرآن"[16]. العشرون: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أَحفَظ من فتنة الدجال: فقد أخرج الإمام عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ"[17]. المراد عباد الله أنَّ حفظ عشر هذه الآيات من سورة الكهف يكون عاصمًا من فتنة المسيح الدَّجَّال، الذي يخرج في آخر الزمان مدَّعيًا الألوهية لخوارق تظهر على يديه. سبب ذلك ما فيها من العجائب والآيات، فمن تدبَّرها لم يفتتن بالدجال، أقول: ويمكن أن يقال: إن أولئك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار، كذلك يعصم الله القارئ من الجبارين، اللهم اعصمنا منهم وبدِّد شملهم. [1] «مسند أحمد» (28/ 320 ط الرسالة)، «وأخرجه مسلم (807)». [2] «مسند أحمد» (1/ 530 ط الرسالة) «وأخرجه ابن ماجه (211)، والبزار (396)، والنسائي في "الكبرى"، (8073)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2205)، وأخرجه البخاري (5027) و(5028)، وأبو داود (1452)، والترمذي (3131) و(3132). [3] رواه البخاري (7375). ومسلم (813) والنسائي (171/ 2). [4] «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (1/ 146): «وأخرجه النسائي في "الكبرى" (7977)». [5] «مسند أحمد» (38/ 42 ط الرسالة): «فضائل القرآن" ص 84-85، وابن أبي شيبة في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة" (7979)». [6] «السنن الكبرى للبيهقي» (10/ 194). [7] أخرجه أيضًا: أبو نعيم في الحلية (7/ 248)، (صحيح) انظر حديث رقم: 3643 في صحيح الجامع. [8] «المعجم الكبير للطبراني» (9/ 131) انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1475 ، 1589. [9] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 555، رقم 2700) . (حسن) انظر حديث رقم: 5266 في صحيح الجامع. [10] «مسند الدارمي - ت حسين أسد» (4/ 2092) وأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 505، 10128). [11] «صحيح ابن حبان» (1/ 332) (صحيح) انظر حديث رقم: 4443 في صحيح الجامع. [12] أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 76، رقم 3654)، والضياء (5/ 114، رقم 1738) وقال: إسناده حسن. وأخرجه أيضًا: الطبراني في الصغير (1/ 296، رقم 490) قال الهيثمي (7/ 127) : رجاله رجال الصحيح. [13] (1) الترمذي (2914)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (1464). وقال الألباني في صحيح الترمذي (2329): حسن صحيح. [14] أخرجه عبد الرزاق (2/ 491، رقم 4194)، والبخاري (4/ 1882، رقم 4653)، ومسلم (1/ 549، رقم 798). [15] أخرجه البخاري في صحيحه، في فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، ح 5025. [16] نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم - النسخة المسندة ط-أخرى (3/ 474). [17] أخرجه مسلم (809) (257)، وأبو داود (4323). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السابع: ثمرات الاتباع العشر السيد مراد سلامة الحمد لله الغفور الذي ستَر بستره وأجمل، الشكور الذي عم ببره وأجزل، الرحيم الذي أتم إحسانه على المؤمنين وأكمل، الواحد الأحد القدوس الصمد الأول المنفرد بالعز والكمال، فلا ينتقص عزُّه ولا يتحول، الحي العليم القدير السميع البصير المتكلم بكلام قديم لا يتغير ولا يتبدل، أحمده على ما أنعم وأكرم وتفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه الذي أوحى إليه الكتاب ونزَّل، ونَهج للمتقين طريق الهداية وسهَّل. أما بعد، فحيَّاكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. أما بعد، فيا أحباب الحبيب صلى الله عليه وسلم، نقف اليوم مع ثمرات الاتباع العشر، وقد ذكرت عشر ثمرات لمن اتبع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا رب حمدًا ليس غيرك يُحمد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يا من له كلُّ الملائك تسجدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أبواب كلِّ مُمَلك قد أوصدت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ورأيت بابك واسعًا لا يوصَدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif المؤمنون بنور وجهك آمنوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عافوا لوجهك نومَهم فتهجَّدوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قالوا الهوى والحب هل تَعْنُوا له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أم أنت في ضرب الهوى مُتجَلِّد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قلت المحبة للذي حمل الهدى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فحبيبُ قلبي في الحياةِ محمدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif اعلم زادك الله علمًا أن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم، وأوجب علينا الإيمان به وبما جاء به، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، وقال سبحانه ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الفتح: 8]، وقال ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158]. فهذه الآيات دالة دلالة واضحة على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به؛ يقول القاضي عياض رحمه الله: وأما وجوب طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به، وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتي به قال الله تعالى، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]، وقال: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32]، وقال: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، وقال: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وقال: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، وقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]. فجعل الله تعالى طاعة رسوله طاعته، وقرَن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه، وقال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول التزام سنته واجتناب نهيه، قالوا: وما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه، قالوا: مَن يُطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه، وسُئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام، فقال: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]؛ قال السمر قندي: يقال: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سنته، وقيل أطيعوا الله في ما حرَّم عليكم، والرسول في ما بلغكم[1]. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصا الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أمير فقد عصاني[2]. وهيا لنرى الفوائد الجمة في اتباع النبي والاقتداء به. أولًا: أن اتباعه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم سببٌ من أسباب محبة الله تعالى: معاشر الموحدين، من أجل الثمار لاتباع النبي المختار صلى الله عليه وسلم محبة العزيز الغفار، وكفى بها عطيةً وجائزة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]؛ يقول بن رجب - رحمه الله -: عن الحسن البصري: كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون يا رسول الله، إنا نحب ربنا شديدًا، فأحب الله أن يجعل لمحبة علمًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، قد قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 24]. كما قال الجنيد وغيره من العارفين: الطرق إلى الله كلها مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: ومن فوائده إتباعه صلى الله عليه وسلمالهداية إلى الصراط المستقيم: أمة الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158]، فطرق الهداية كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الجنيد - رحمه الله -: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم. وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، ما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك، وصدق الله إذ قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المؤمنون: 73]. ثالثًا: الجزاء العظيم لمن أحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم واعتصم بها: أيها الإخوة الأحباب، لقد كثُر خيرُ ربنا وطاب، فها هو الجزاء العظيم لمن أحيا سنة النبي الأمين، فالاعتصام بالسنة يعدل الشهادة في سبيل الله مائة مرة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتمسك بسنتي عند فساد أمتي، له أجر مائة شهيد[3]. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة [4]. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل، أية محكمة أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة[5]. رابعًا: الفوز العظيم لمن أطاعه واقتدى به: ومن ثمرات الاتباع أيها الأحباب: الفوز العظيم، وعندما يصفه الله تعالى بأنه فوز عظيم، فاعلم أن الله أعد لأهله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ويوضِّح سبحانه ذلك الفوز في قوله: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾ [النبأ: 31 - 34]. خامسًا: أن إتباعه صلى الله عليه وسلم سبب من أسباب الرحمة: معاشر المحبين، إن من ثمرات الاتباع أن تنهال عليه الرحمات وتتنزل عليه الخيرات من الله تعالى، فأهل اتباعه هم أوفرُ الناس حظًّا برحمة الله تعالى، فالله تعالى وعد ووعده الصدق، وقال وقوله الحق أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه جعل الحظ الأوفر لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]. إنها الرحمة المعبر عنها في الحديث، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمَ: "لِلَّهِ مِائَةُ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ، وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ"[6]. سادسًا: أن إتباعه سبب من أعظم أسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة: أخي المسلم، كلٌّ يسعى في هذه الحياة من أجل النجاح والفلاح، ولكن كثيرًا من الناس يخطؤون طرقَهم، وتتفرق بهم السبل، ولكن المؤمن الحصيف هو الذي يعي أن الفلاح والنجاح إنما هو في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن دخل مدرسة النبوة وتربى على أخلاقها، ونهل وعبَّ مِن مَعينها، فهو من الناجحين الرابحين؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]. ما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهدية[7]: أما ما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهدية وسيرته، فحدثنا رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر، ولا نجد صلاة السفر؟ فقال ابن عمر: يا بن أخي، إن الله بعث إلينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل [8]. وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننًا لأخذ بها تصديقًا بكتاب الله، واستعمالًا بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله تعالى ما تولَّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا[9]. وقال ابن شهاب: بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا: الاعتصام بالسنة نجاة[10]. [1] الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص10. [2] أخرجه البخاري (3/ 1080، رقم 2797)، ومسلم (3/ 1466، رقم 1835)، والنسائي (7/ 154، رقم 4193)، وابن أبي شيبة (6/ 418، رقم 32529)، وأحمد (2/ 252، رقم 7428)، وابن ماجه (2/ 954، رقم 2859). [3] صحيح وفيه محمد بن صالح العدوي قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 172 وضعفه الألباني في المشكاة ح 176 [4] أخرجه الطبراني في الأوسط ح 9439. [5] أخرجه الحاكم ح 7949، والحارث في مسنده ح 58، وضعفه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - (6 / 104). [6] البخاري (6469)، مسلم (2752/ 18). [7] الشفا ج2 ص 18 – 21 باختصار . [8] الأوسط لابن المنذر - (رقم 2206) وغوامض الأسماء المبهمة - (2 / 606). [9] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (رقم 449) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (رقم 118) إبطال التأويلات - (رقم 26). [10] المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي - (2 / 230) رقم (708) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (رقم 11) العواصم من القواصم - (ص 267). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثامن: تابع ثمرات الاتباع السيد مراد سلامة الحمد لله الذي لا يُسأل عما يفعل، فلا تيئَس من رحمته ولا تعجَل، فسبحانه من أقبل بجوده وبرِّه على من رجع إليه وأقبَل، ورأى زلة المسيء وجنح الظلام مُسبل، فعامله برأفته وتجاوَز عنه برحمته وأمهَل، وجعل للقبول والفضل أوقاتًا ليتدارك المقصر ما ضيَّع وأهمَل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، شهادة عبد خضَع لهيبته وتذلَّل، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه، أما بعد: فحيَّاكم الله تعالى وبيَّاكم، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وخالص الأعمال، أما بعد، فقال الشاطبي رحمه الله تعالى: «إن الصحابة كانوا مقتدين بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متَّبع للقرآن، والصحابة كانوا أولى النّاس بذلك، فكلُّ من اقتدى بهم فهو من الفرقة النّاجية الدّاخلة للجنّة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام: «ما أنا عليه وأصحابي»، فالكتاب والسّنّة هو الطّريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما»)[1]. سابعًا: دخول الجنة: أخي المسلم، من ثمرات الاتباع دخول الجنة؛ عَنْ أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلَاّ مَنْ أبَى، قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى»[2]. وقال الطيبي: ومن أبى عطف على محذوف؛ أي: عرفنا الذين يدخلون الجنة، والذي أبى لا نعرفه، وكان من حق الجواب أن يقال من عصاني، فعدل إلى ما ذكره تنبيهًا به على أنهم ما عرَفوا ذاك ولا هذا، إذ التقدير من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة، دخل الجنة، ومن اتبع هواه وزل عن الصواب، وتخلى عن الطريق المستقيم، دخل النار، فوضع أبى موضعه وضعًا للسبب موضع المسبب (3). ثامنًا: العزة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذل والصغار على من خالف أمره: معاشر المحبين، إن من ثمرات الاتباع العزة والرفعة في الدنيا والآخرة، ومن أثار الابتداع الذل والصغار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ[3]. هذا يدل على أن العزة والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لامتثال متابعة أمر الله؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [سورة النساء: 80]. وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة المنافقون: 8]، وقال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [سورة فاطر: 10]. تاسعًا: الحياة الإيمانية: فالاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم دليلُ حبِّه؛ كما أن ثمرته غفران الذنوب، وفي اتباعه صلى الله عليه وسلم فلاح العبد ونجاحه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]. فأمر الله المؤمنين بأن يستجيبوا للرسول، فيما أمرهم ونهاهم، وذلك الحياة الطيبة؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه بقية الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول[4]. عاشرًا: شرط قبل الأعمال: وهو موافقةُ العمل لسنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقال اللهُ تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ[5]؛ أي: مَن خالَف سنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في العبادةِ، فعملُه غيرُ مقبول. قصص من حرص السلف على الاتباع: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم"[6]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعها عن يساره فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا"[7]. وفي رواية عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟"، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى، فليمسحه وليصلِّ فيهما"[8]. وعن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان (أي سواران) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله عز ولرسوله[9]، عن عائشة رضي الله عنه، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لَما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، شَققنَ مُروطهنَّ فاختمرنَ بها، وقال أيضًا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنه، كانت تقول: لَما نزلت هذه الآية ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾، أخذن أزرهنَّ، فشققنَها من قِبَل الحواشي فاختمرنَ بها. أبو بكر الصديقرضي الله عنه يرسم منهجه في الحكم اتباع واقتداء طاعة لا معصية: لما تولى الخلافة رضي الله عنه تكلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، فإني وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أساءت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح[10] عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله[11]. حرص عمر رضي الله عنه على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: ومن صور حرصه رضي الله عنه على الاتباع والاقتداء أنه كان يحج بيت الله الحرام ويطوف به، حتى إذا وقف على الحجر الأسود فقال: كما عند البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبَّل الحجر الأسود وقال: لو لا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبَّلتك[12]، وفي رواية أخرى قال: أما والله أني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتُك. قال الحافظ بن حجر: قال الطبري: إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخَشِيَ عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلِّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كان الجاهلية تعتقده بالأوثان. [1] الاعتصام للشاطبي (2/ 252). [2] أخرجه: البخاري في الصحيح 13/ 249، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (96)، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم- (2)، الحديث (7280). [3] أخرجه ابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في "الشعب" (1199). [4] الفوائد لابن القيم (ص88) بتصرف. [5] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718). [6] أخرجه البخاري برقم (5530)، وأخرجه مسلم في اللباس والزينة باب في طرح الخواتم رقم (2093). [7] رواه أبو داود؛ السلسلة الصحيحة برقم (284). [8] رواه أبو داود والدارمي، مشكاة المصابيح برقم (766). [9] أخرجه أبو داود (1/ 244) والنسائي (1/ 343) وأبو عبيد في الأموال رقم (1260) وإسناده حسن، وصححه ابن الملقن (65/ 1)، وتضعيف ابن الجوزي له في [التحقيق] (6/ 197/1) مردود عليه؛ آداب الزفاف (1/ 184). [10] أريح: أراحه: أرجعه حقه. [11] السيرة النبوية لابن هشام وقال ابن كثير في البداية: إسناده صحيح، ومصنف عبد الرزاق - (ح 20702)، الثقات لابن حبان - (2 / 157) الكامل في التاريخ - (1 / 361) وتاريخ الطبري - (2 / 238). [12] أخرجه البخاري في: 25 كتاب الحج: 50 باب ما ذكر في الحجر الأسود. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس التاسع: الإيثار خلق النبي المختار صلى الله عليه وسلم السيد مراد سلامة الحمد لله الذي نوَّر بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، وطهَّر بكريم ولايته أفئدة الصادقين، فأسكَن فيها ودادَه، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته، فأقبلت مُنقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمَده على ما أَولى من فضل وأفاده، ونشكُره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفادة. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه. فضل الإيثار، إخوة الإسلام، اعلموا أن الإيثار خلق إسلامي رفيع دعا إليه ربنا - سبحانه وتعالى - وحث وأثنى على أهله في غير ما آية من كتابه، فقال الله تعالى مادحًا أوليائه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ، مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. ويقول ابن تيمية: (وأما الإيثار مع الخصاصة، فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدق محبًّا مؤثرًا، ولا كل متصدق يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه، مع محبةٍ لا تبلغ به الخصاصة). أحباب رسول الله ولن تصلوا إلى ذروة الإيمان إلا عن طريق سلم الإيثار؛ قال العزيز الغفار: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]. يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال التي جُبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة). والله تعالى أعد النعيم المقيم والدرجات العلى لمن اتصف بالإيثار، فقال الرحيم الرحمن: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 6 - 9]. وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12، 13]. قال الفخر الرازي: (والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هنيء وحريرًا فيه ملبس بهي).[1] ولقد رغَّب نبينا - صلى الله عليه وسلم- في الإيثار، وحث أصحابه، ومدح أهله، فها هو -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم يمد الأشعريين - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم))[2]. النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه ربه بالكمال والجمال، ومن اعتلى قمة الأخلاق؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلممن جميع الأخلاق أوفر الحظ والنصيب، فما من خلق إلا وقد تربع المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرشه، وعلا ذروة سنامه، ففي خلق الإيثار كان هو سيد المؤثرين وقائدهم، بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يشبع لا هو ولا أهل بيته بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره، يدخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ، أو نزل به ضيف، يشير على أهله بإيثارهم، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه)[3]. الواقع التطبيقي في حياة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان رسولنا الأسوة والقدوة الحسنة في كل عمل يحث عليه ويدعو إليه، وهاك مشهد من مشاهد الإيثار مشهد ينبض الإيثار. • عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، قَالَ يَعْقُوبُ: إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَارُهُ، وقَالَ أَبُو غَسَّانَ: فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ قُتَيْبَةُ عَنْ يَعْقُوبَ: فَجَلَسَ مَا شَاءَ الله فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، فقَالَوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ لِبَرَكَتِهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا؛ زَادَ يَعْقُوبُ: يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ[4]. المشهد الثاني مشهده صلى الله عليه وسلم وقد ألَمَّ به التعب والإرهاق، وظهر على وجهه الكريم علامات الجوع، فيذهب جابر - رضي الله عنه - ليعد له طعامًا له، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى إلا أن يكل الجميع من ذلك الطعام، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "إِنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «أَنَا نَازِلٌ». ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى البَيْتِ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحَتِ العَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ، وَالبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ، قَالَ: «كَمْ هُوَ» فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: " كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لاَ تَنْزِعِ البُرْمَةَ، وَلاَ الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ، فَقَالَ: قُومُوا " فَقَامَ المُهَاجِرُونَ، وَالأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا» فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: «كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ»[5]؛ أخرجه البخاري. العنصر الخامس: إيثار الصحابة الأطهار: الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - جيل فريد، تخرَّج من أعظم جامعة عرفتها الدنيا؛ إنه تخرج من الجامعة المحمدية، من رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على عينه، فنهَلوا مِن مَعين أخلاقه وأفعاله - صلى الله عليه وسلم. ضرب الصحابة أروع أمثلة الإيثار وأجملها، ومن يتأمل في قصص إيثارهم، يحسب ذلك ضربًا من خيال، لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات وبالأسانيد الصحيحة الصريحة. ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النّبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلنَ: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضمُّ - أو يضيف- هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيِّئي طعامك وأصبحي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامها وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما، فأنزل الله ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9][6]. إيثار منبعه الإيمان: المال للرجل الكريم ذرائعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يبغي بهن جلائل الأخطار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والناس شتى في الخلال وخيرهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من كان ذا فضلٍ وذا إيثار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل يرجون رحمته ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوؤا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والزوجات... في صورة يَعجِز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان: • فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما قدِم المهاجرون المدينة، نزلوا على الأنصار في دورهم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أبذل في كثيرٍ منهم، لقد أشركونا في المهنأ، وكفونا المؤنة، ولقد خشِينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتُم الله لهم وأثنيتم به عليهم))[7]. • وهذا عبد الرحمن بن عوف لَما قدم المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرَض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السّوق...))[8]. إيثار... حتى عند الموت: أُسد ولكن يؤثرون بزادهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والأُسد ليس تدين بالإيثار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يتزيَّن النادي بحسن وجوههم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كتزيُّن الهالات بالأقمار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] تفسير الرازي (16/ 227). [2] أخرجه البخاري في: 47 كتاب الشركة: 1 باب الشركة في الطعام والنهد والعروض. [3] البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (45/ 139). [4] أخرجه البخاري في: باب البردة والشملة والحبرة من كتاب اللباس (5810)، وفِي بَابِ حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6036)، وفِي بَابِ النساج من البيوع (2093). [5] رواه البخاري 7 / 304 و305 في المغازي، باب غزوة الخندق، وفي الجهاد، باب من تكلم بالفارسية، ومسلم رقم (2039) في الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك. [6] أخرجه البخاري3798 في مناقب الأنصار: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾، وأخرجه مسلم2054 في الأشربة: باب إكرام الضيف وفضل إثارة. [7] رواه الضيَّاء في ((المختارة)) (5/290) مِن حديث أنس رضي الله عنه. وصحَّح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/325). [8] رواه البخاري (2048) مِن حديث عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس العاشر: التقوى غاية الغايات السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد بعز كبريائه عن إدراك البصائر، وتقدَّس بوصف علاه عن الأشباه والنظائر، وتوحَّد بكمال جبروته، فلا العقل في تعظيمه حائر، وتفرَّد في ملكوته، فهو الواحد القهار الأول قبل كل أول، الآخر بعد كل آخر، الظاهر بما أبدع، فدليل وجوده ظاهر، الباطن فلا يخفى عليه ما هجس في الضمائر. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى، سيد الأولين والآخرين على الله ولا فخر. اعلم أن الزمان لا يثبت على حال؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾[آل عمران: 140]، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي. فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى، زانته، وإن افتقر، فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي، تمت النعمة عليه، وإن ابتلي، جملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه، أو أشبعه، أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة، حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويواقف على الحدود. والمنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى، فإنها ستحول، وتخليه خاسرًا[1]. بين يدي التقوى: إن التقوى قد عرَّفها العلماء بتعريفات كثيرة، نذكر منها تعريف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله عنه؛ سئل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن التقوى التي هي ثمرة الصيام فقال: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". وقال الإمام الغزالي: "التقوى كنز عظيم، فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر، ورزق كريم، وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جُمعت فيها". وقال داود بن نصر الطائي: "ما خرج عبد من ذل المعاصي إلى عز التقوى: إلا أغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا جليس". الغاية من إرسال الرسل تقوى: واعلموا عباد الله أن التقوى هي الغاية من إرسال الرسل، نلمس ذلك جليًّا في سورة الشعراء، فضلًا عن أمثلة في سور: البقرة، والأعراف، والمؤمنون؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون: 23]. الغاية من إنزال الكتب تقوى: واعلموا عباد الله أن الغاية من إنزال الكتب هي الوصول إلى التقوى، فالقرآن الكريم كتاب هداية يأخذ بأيدي الحيارى والسكارى إلى رب الباري، ويوصلهم إلى الغاية العظمى؛ قال الله جل جلاله: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2]. والله سبحانه وتعالى قال: ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي: إن هذا القرآن هدى للجميع، فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه، يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية، فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعًا، ثم خص مَن آمن به بهدى آخر، وهو أن يعينه على الطاعة. العبادات الغاية منها التقوى: اعلموا أيها الأحباب أن الغاية من العبادات تحصيل تقوى الله تعالى؛ قال جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة 21]. "تتقون" من "الوقاية" أن تجعلوا بينكم وبين النار وقاية، وتجعلوا بينكم وبين العذاب وقاية، فالمعنى أن تعبدوا الله تعالى حتى تتقوا النار وتتقوا العذاب، ليس هذا فحسب ولكن تتقوا كل مضار الحياة. أو تعبدوا الله، لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ صُوَرِ الْبَشَرِيَّةَ، وهي صُورَةُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ. الصلاة وتقوى الله تعالى: الصلاة من أهم ثمراتها أنها تنهاه عن فعل المحظورات وتأمره بالفعل المأمورات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى، فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعدًا. وقال الحسنُ وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه. تحقيق تقوى الله بالزكاة: الزكاة عبادة مالية يتقرب بها العبد لربه عز وجل؛ حيث إنها تزكِّي النفس، وتطهِّرها من البخل والشح، وتزكي المال بالزيادة والبركة، وتضاعف لهم الأجر، والثواب، ويتجلى معنى التقوى في الزكاة حينما ينفق الإنسان من أغلى ما يحب بصدق، وإخلاص حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه يريد بذلك وجه الله – تعالى - والحصول على مرضاته، ولعل السر في ذلك أنه ينفق ماله ليحصل على التقوى، فهو يزكي ماله؛ لأنه يعلم أن في هذا المـال حـق لغيره، وليست منة يَمُنُّها على الفقراء والمحتاجين، بل هو واجب عليه، وحق لغيره، وبذلك يتبيَّن لنا أن الزكاة تحقق التقوى، وخاصة في هذا العصر، وقد انتشرت المعاصي وكثـرت الآثـام بسبب ضعف وازع التقوى، فبالزكاة نصل إلى التقوى؛ يقول ربنا سبحانه مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، إنها ليست ضريبة تجبى إلى خزينة الدولة ولا إتاوة تنتزع من الإنسان عَنوة وهو كاره، وليست إحسانًا يلقيه الغني إلى الفقير، ولكنها عبادة يؤديها الغني وهو يستشعر حاجته إلى إخراجها؛ كحاجة المريض إلى الدواء، إنها لا تداوي البدن، ولكنها تداوي النفس، وتهذب البخل، وتقلِّم أظافر الشح، وتزكِّي في النفس بواعث العطاء والبذل والتضحية، وتملأ القلب بالخشية، أن يكون مصيره مصير هؤلاء الذين يشقون بأموالهم ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35]. وهذه الخشية التي تملأ القلب هي أساس التقوى. صيام رمضان وتحصيل التقوى: وكتب الله تعالى علينا الصيام لغاية عظمى وهي التقوى؛ قال الله جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يَعُد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالًا لأمره واحتسابًا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام نصف الصبر))؛ رواه ابن ماجه وصححه في الجامع الصغير. فالصيام عبادةٌ تقوِّي الوازع الإيماني وتعزِّزه لدى المسلم، فتمنعه من الوقوع في المحرَّمات، أو التمادي فيها، وتشكِّل له حاجزَ وقايةٍ يحميه من تتبُّع الآثام والشرور، فالتقوى التي يحقِّقها الصيام تحمل النفس على الالتزام بما أمر به الله تعالى، واجتناب ما نهى عنه، فتحميها من ارتكاب ما يؤدِّي بها إلى الهلاك والخسران، وتجنِّبها التعرُّض لسخط الله، وعذابه في الآخرة. في الحج والعمرة وتحصيل تقوى الله: إخوة الإسلام الحج عبادة من أجلِّ العبادات التي ربطها الله تعالى بالتقوى، ولنقف مع بعض المواضع والآيات التي وردَ فيها الأمر بالتقوى أو الحث عليها أو الإشارة إليها، ففي آية الأمر بإتمام الحج والعمرة ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ ختم الله الآية بقوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]، وفي الآية التي بعدها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾، ختمت الآية بقوله سبحانه: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ وأكد ذلك بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، ثم ختم آيات الحج في سورة البقرة بقوله: ﴿ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِـمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].. فتأمل تَكرار التقوى في كل آية، وفي المائدة ختم أحكام الصيد بقوله: ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [المائدة: 96]، وافتتح سورة الحج بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]، ولما بدأ بالحديث عن الحج تكرر ذكر التقوى ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [الحج: 37]. وعند التأمل في آيات الحج ﴿ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، وهذه أعمال ظاهرة بينة؛ نجده ختمها بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وسبقها ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، ما يؤكد أنه دون التقوى لن يسلم الحاج من الجدل والرفث والفسوق، بل إن الآية التي ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾، تبيِّن حكم من اضطُرَّ إلى الإخلال بهذا الإتمام كالإحصار، وحلق الرأس بسبب الأذى وهو محرم؛ حيث بيَّن جزاء ذلك من الهدي والفدية، والبديل لذلك، وحيث إن هذه الأعمال الظاهرة لا يمكن تحقيق أدائها إلا إذا كان صاحبها مراقبًا لله في سره وعلانيته، وختم الآية بالأمر بالتقوى ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾،ثم هدد من لم يراعِ جانب التقوى بقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]. بل إن التعجل في الحج والتأجُّل عمل ظاهر، ومع ذلك قيد ذلك بقوله: ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾، ثم أمر بالتقوى في ختام هذه الآية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]. ونجد أن نحر الهدي عمل ظاهر بارز، ومع ذلك جعل مدار قبول الدماء على تحقق التقوى ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [الحج: 37]. العلاقة بين البر والتقوى: وها هو سبحانه يذكر لنا صفات أهل البر، وأنهم يحققون الإيمان بالله وملائكته، وكاليوم الآخر، ويتصدقون على الفقراء والمساكين، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصبرون على البأساء والضراء، ثم بيَّن أن هؤلاء هم الصادقون المتقون؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. لقد بدأت الآية الكريمة بالحديث عن حقيقة البر، ثم ذيَّلت بالحديث عن التقوى، وذلك لبيان أنه لن يقوم أحد بفعل أعمال البر الجليلة؛ حتى يتحقق قبل ذلك بمرتبة التقوى، وهي شرط رئيس للبر، ومرحلة سابقة له ومتقدمة عليه، فمن لم يتقِ الله تعالى في عمله بفعل ما أمر الله عز وجل به، وترك ما نهى عنه، لن يقبل الله جل ذكره منه الأعمال الزائدة على الواجب من أعمال البر؛ فالمرتبة الدنيا شرط للارتقاء إلى المرتبة العليا، وبيانًا لذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189]. ومعنى الآية الكريمة أن إتيان المحرم بالحج أو العمرة البيوت من ظهورها، ليس من البر أصلًا، فهي بدعة لا أساس لها في الدين، وزيادة على الواجب غير مشروعة، ثم بيَّن تقدست أسماؤه أن البر المقبول عنده، والذي يكون بفعل خيرات وعبادات زائدات على الواجب، هو البر الذي يكون من المتقي، فمن كان متحققًا بمرتبة التقوى في العمل قُبلت منه زوائد العبادات والطاعات المشروعة: ﴿ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، واعتبرت له في صحيفة أعمال البر، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا ﴾ [البقرة: 189]. [1] صيد الخاطر (ص: 137). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الحادي عشر: وسائل الثبات على الإيمان السيد مراد سلامة الحمد لله ربِّ العالمين المنفرد بالقدم والبقاء والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الصمد الذي لا بصوره العقل ولا يحدُّه الفكر، ولا تدركه الأفهام، القدوس الذي تنزَّه عن أوصاف الحدوث، فلا يوصف بعوارض الأجسام، الغني عن جميع المخلوقات، فالكل مفتقر إليه وهو الغني على الدوام، سبق الزمان فلا يقال متى كان، وخلق المكان فلا يقال أين كان، فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، إله عزَّ مَن اعتزَّ به فلا يُضام، وذلَّ مَن تكبَّر عن أمره ولقِي الآثام، أستغفر الله مما كان من زللي ومن ذنوبي وإفراطي وإصراري، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه. صلوا على خير الأنام محمد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الصلاة عليه نور يعقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من كان صلى عليه قاعد يُغفر له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قبل القيام وللمتاب يجدد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين. أولًا: الاعتصام بكتاب الله تعالى: ذلك الكتاب الذي نزله على نبيه صلى الله عليه وسلم منجمًا ليثبت به فؤاده؛ فالقرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجمًا مفصلًا هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]. لماذا كان القرآن مصدرًا للتثبيت؟ 1- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله. 2- لأن تلك الآيات تتنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله. 3- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تُهيئ له الحكم على الأمور، فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص. - أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين؛ كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر"[1]. ومن منطلق القرآن الكريم تتولد جميع وسائل الثبات، فهو يدعو إلى الصبر وإلى الاعتصام بحبل الله، وإلى تدبر قصص الأنبياء، وإلى الدعاء، فالقرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله، كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوم الأوضاع التي حوله تقويمًا صحيحًا، كما أن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من أحكام وصول وقواعد وحِكم وقصص يرد على الشبهات، فإن عُلِم ذلك كله لزِم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم المقيم - أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه"[2]. ثانيًا: الإيمان بالقضاء والقدر: فمن وسائل الثبات على الإيمان أن يؤمن العبد بالقضاء والقدر، وأن كل شيء مكتوب بقد، وأن كل شيء في كتاب، "فإذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامَةٍ مرفوعة، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيَّابين ولا وَجِلين، وكان الواحد منهم بطلب الموت في مظانه، ويرمي بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثم تراه يموت على فراشه، فيبكي أن لم يسقط في ميدان النزال شهيدًا، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال. وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثَبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة، ولا يخافون في الله لومة لائم؛ لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله، وما قدر لهم سيأتيهم. وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق، فالرزق بيد الله، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحدٌ منعه، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه[3]. ثالثًا: الاعتصام بالله والافتقار إليه: يقول إبراهيم الدويش: "إذا عرفت الهدف وبان لك الطريق، ورضيت بهما، فإياك أن تعتمد على نفسك الضعيفة، وعلى حولك وقوتك، فأنت أخي مهما بلغت ضعيف، والله تعالى يقول ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، نعم لا حول ولا قوة لك إلا بالله، فعليك في زمن الفتن والشبهات والشهوات بالاعتصام بالله، أليس المتغيرات تتلاحق؟ أليس الشبهات والشهوات تموج كموج البحر، فلا عاصم لك إلا بالله. تأمل: أخي لماذا نشكو للناس؟ لماذا تئن بضعف نفسك؟ اشكُ الأمر لله، كن مع الله، إذا سجدت فأعلن ضعفك وافتقارك لله، ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]. ألست تريد الهداية إلى الصراط المستقيم؟ إذًا اعتصم بالله تعالى، أعلِن دائمًا في كل لحظة الضعف والافتقار أكثر من الدعاء والانكسار في مثل هذا الزمن، فلا عاصم لك من الفتن إلا الله، لا معين ولا منجي لك في زمن الشهوات إلا الله، لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من قوله: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دينك"[4]. بل كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ"[5]. فأين نحن إذًا مِن تَكرار مثل هذا الأدعية خاصة في مثل هذا الزمن؟ أليس الله يقول في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ"[6]. اطلبوا الهداية، افعلوا أسبابها، تجنَّبوا مواطن الشبهات، أَلِحُّوا على الله تعالى بالهداية، إذا سألت أخي فاسأل الله، إذا استعنت فاستعنْ بالله، وردد دائمًا، ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250]، كرِّر في كل وقت ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. يقولُ ابنُ القيِّم: ((أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان: أنْ يكلك اللهُ على نفسِك، ويُخلِّي بينك وبينها، والتوفيقُ ألا يكِلك اللهُ إلى نفسِك، فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا، فيطيعهِ ويُرضيهِ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له، ثم يعصيهِ ويخالفُه، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ، فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ، وأنَّ الممسك له: هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ))[7]. هيَّا أعلن افتقارك إلى الله واهتف: فقيرًا جئتُ بابك يا إلهي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولست إلى عبادك بالفقير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غني عنهم بيقين قلبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأطمَع منك في الفضل الكبير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلهي ما سألت سواك عونًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فحسبي العون من رب قدير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلهي ما سألت سواك عفوًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فحسبي العفو من رب غفور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلهي ما سألت سواك هديًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فحسبي الهدي من رب بصير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا لم أستعن بك يا إلهي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمن عوني سواك ومن مُجيري؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالطلب العون من صاحب العون، واسمع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله - إذ يقول: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ [إبراهيم: 27]. كنز عظيمٌ مَن وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنِم، ومن حُرِمَه فقد حُرِمَ، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74]. فكان أثبت الناس قلبًا وأثبتهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة"[8]. فما مُنح عبد أعظم من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج من يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم. رابعًا: الاستعانة بالأعمال الصالحة التي تثبت العبد عند حلول الفتن والشهوات: رأس تلك الأعمال الصبر والصلاة؛ يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]. يقول ابن القيم رحمه الله: "الصبرُ إذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبتْ المِحنةُ في حقِّه مِنْحةً، واستحالتِ البليَّة عطيَّة، وصار المكروهُ محبوبًا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبْتلِهِ عطيَّة، وصار المكروهُ محبوبًا، فإنَّ الله تعالى على العبدِ عبوديَّةً في الضَّراءِ، كما له عبوديَّةٌ في السَّرَّاءِ، وله عبوديَّةٌ عليه فيما يحبُّونه، والشأنُ في إعطاءِ العبوديَّةِ في المكارِهِ، ففيه تفاوتُ مراتبِ العبادِ، وبحسبِه كانتْ منازلُهم عند اللهِ تعالى"[9]. وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. وقال ابن عمر رضي الله عنه بالصبر أدركنا حسن العيش. ولأهل السنة عند المصائب ثلاثة فنون: الصبر، الدعاء، وانتظار الفرج. وقال الشاعر: سقيناهموا كأسًا سقونا بمثلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكننا كنا على الموت أصبرَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال صلى الله عليه وسلم: "رحِمَ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذَا فَصَبَرَ"[10]. دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جَهْدَ النفوس وألقَوا دونه الأُزُرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكابَدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعانَق المجد مَنْ أوفى ومنْ صبَرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تَحسبِ المجد تمرًا أنتَ آكلُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لنْ تبلغ المجد حتى تلْعق الصَّبِرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] -وسائل الثبات على دين الله (ص: 8-9). [2] - مجلة التوحيد "عدد ربيع الأول 1424"ص (34). [3] -كتاب القضاء والقدر ص (111-112). [4] - أخرجه أحمد (6/ 294) انظر صحيح الجامع: 4801، الصحيحة: 2091. [5] - أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 46، رقم 29358)، وأحمد (4/ 123، رقم 17155)، وابن حبان (5/ 310، رقم 1974)، انظر الصحيحة: 3228، صحيح موارد الظمآن: 2047. [6] - أخرجه مسلم (4/ 1994، رقم 2577)، وابن حبان (2/ 385، رقم 619)، والحاكم (4/ 269، رقم 7606). [7] -كتاب لا تحزن (ص:163). [8] - إعلام الموقعين (1/ 76). [9] - لا تحزن (ص: 418). [10] - أخرجه البخاري في: 57 كتاب فرض الخمس: 19 باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثاني عشر: تابع وسائل الثبات على الإيمان السيد مراد سلامة الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى مَن تبِعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافَق ونافَح في كل وقت وحين. خامسًا: الصلاة: ومِن أعظم وسائل الثبات على طريق الإيمان الصلاة، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزَبه أمر فزع إلى الصلاة"[1]، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال"[2]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"[3]، إذا ضاق الصدرُ، وصعُب الأمرُ، وكثر المكْرُ، فاهرعْ إلى المصلَّى فصلِّ، إذا أظلمتْ في وجهِك الأيامُ، واختلفتْ الليالي، وتغيَّرَ الأصحابُ، فعليك بالصلاةِ. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المهمَّاتِ العظيمةِ يشرحُ صدره بالصلاةِ، كيومِ بدْرٍ والأحزابِ وغيرِها من المواطنِ، وذكروا عنِ الحافظِ ابن حجرٍ صاحبِ (الفتحِ) أنه ذهب إلى القلعةِ بمصر، فأحط به اللصوصُ، فقام يصلي، ففرَّج اللهُ عنهُ. وذكر ابنُ عساكر وابنُ القيمِ أنَّ رجلًا من الصالحين لَقِيَه لصٌّ في إحدى طرقِ الشامِ، فأجهز عليه ليقتله، فطلب منه مهلةٍ ليصلي ركعتين، فقام فافتتح الصلاة، وتذكَّرَ قول اللهِ تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: 62]، فردَّدها ثلاثًا، فنزل ملكٌ من السماءِ بحربةٍ فَقَتَلَ المجرم، وقال: أنا رسولُ منْ يجيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ، ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. يقول ابن القيم - رحمه الله -: فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة للغُمَّة"[4]. سادسًا: التزام شرع الله والعمل الصالح: يقول الله تعالى:﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾[إبراهيم: 27]. قال قتادة: "أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر". وكذا روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾[النساء: 66]؛ أي: على الحق. وهذا بيِّن، وإلا فهل نتوقع ثباتًا من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادْلَهَمَّ الخطب؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطًا مستقيمًا، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل[5]. سابعًا: تدبر قصص القرآن الكريم ودراستها للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[هود: 120]، فما نزلت الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتلهي والتفكُّه، وإنما لغرض عظيم وهو تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفئدة المؤمنين، فالله سبحانه وتعالى لَما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام، أوضح للنبي صلى الله عليه وسلم الهدف من ذلك بقوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]. ويقول العلامة ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]. وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين، وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما نثبت به فؤادك يا محمد؛ أي: قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة. وقوله: ﴿ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ﴾؛ أي: [في] هذه السورة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وجماعة من السلف[6]. ثامنًا: الدعاء: ومن صفات عباد الرحمن أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]، ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250]. ولما كانت "قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ" [7]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دينك"[8]. فالدعاء هو سلاح المؤمن الذي يدافع به عن نفسه وبه تثبت الأقدام والقلوب. رأى أصحاب نور الدين محمود زنكي إنفاقه على الفقراء والمساكين، ولا سيما طلبة العلم وشدة طلبه الدعاء منهم، فعوتِب في ذلك فقال: "والله إني لأرجو النصر إلا بأولئك، كيف أقطع صلات قوم يقالون عني وأنا نائم على الفراش بسهام لا تخطئ (يريد الدعاء)، وأصرفها إلى قوم لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تُصيب وقد تخطئ"[9]. وما هو صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى ربه بالدعاء يوم بدر، ويوم الأحزاب، وغيرها من مواقف ومعارك. تاسعًا: الالتفاف حول العناصر المثبتة: تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: "إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه"[10]. البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين والالتفاف حولهم مُعين كبير على الثبات، وقد حدث في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المؤمنين برجال؛ قال علي رضي الله عنه: "إنا كنا إذا حمى البأس - ويروى: إذا اشتد البأس - واحمرَّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا"[11]. ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله: "أعز الله الدين بالصِّديق يوم الرِّدة، وبأحمد يوم المحنة". وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخ الإسلام في التثبيت: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرَغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها"[12]. هنا تبرُز الأخوَّة الإسلامية مصدرًا أساسًا للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه، فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة، الزمهم وعِش في أكنافهم، وإياك والوحدة، فتتخطَّفك الشياطين؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية[13]. والتمسُّك، بل العض بالنواجذ على الصاحب الصالح والمصاحبة، ولو تأملنا هذه الآية الكريمة في كتاب الله تعالى، لكفتنا في الصحبة والمصاحبة؛ يقول الحق جل وعلا: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]. تأملوا في زمن الفتن والشهوات الوصية: ولا تصحب الأردى فتَردَى مع الرَّدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكلُّ قرينٍ بالمقارن يقتدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم من شاب يحب الخير، ويتمنى الصلاح، لكن شياطين الإنس له بالمرصاد، وكم من فتاة فيها الخير وعلى الفطرة، وتحب الصلاح، ولكن شياطين الإنس من الفتيات ممن جلسنَ لها بالمرصاد، يصدونها عن ذكر الله وعن الخير، ونعوذ بالله من شر الناس، فإياك وصحبة البطال وعليك بالأبطال"[14]. عاشرًا الرضا: وللرضا ثمرات إيمانية كثيرة وافرة تنتج عنه، ويرتفع بها الراضي إلى أعلى المنازل، فيصبح راسخًا في يقينه ثابتًا في اعتقاده، وصادقًا في أقواله وأعماله وأحواله، فالرِّضا يُوجِبُ الطُّمأنينة، وبردَ القلبِ، وسكونَه وقراره، وثباته عند اضطرابِ الشُّبهِ والتباسِ والقضايا، وكثْرةِ الواردِ، فيثقُ هذا القلبُ بموعودِ اللهِ وموعودِ رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولُ لسانُ الحالِ: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]. والسخطُ يوجبُ اضطراب قلبِه، وريبتهُ وانزعاجهُ، وعَدَمَ قرارِهِ، ومرضهُ وتمزُّقهُ، فيبقى قلِقًا ناقِمًا ساخِطًا متمرِّدًا، فلسانُ حالِه يقولُ: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12]، فأصحابُ هذه القلوبِ إن يكُن لهمُ الحقُّ، يأتوا إليه مُذعِنِين، وإن طُولِبوا بالحقِّ إذا همْ يصْدفِون، وإنْ أصابهم خيرٌ اطمأنُّوا به، وإنْ أصابتهم فتنةٌ انقلبُوا على وجوههِم، خسرُوا الدنيا والآخرة ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]. كما أنّ الرضا يُنزلُ عليه السكينة التي لا أَنْفَعَ له منها، ومتى نزلتْ عليه السكينةُ، استقام وصلحتْ أحوالُه، وصلح بالُه، والسُّخط يُبعِدُه منها بحسبِ قلَّتِه وكثرتِه، وإذا ترحَّلتْ عنهُ السكينةُ، ترحَّل عنه السرورُ والأمْنُ والراحةُ وطِيبُ العيشِ. فمنْ أعْظَمِ نعمِ اللهِ على عبدِه: تنزُّلُ السكينةِ عليهِ. ومنْ أعظمِ أسبابِها: الرضا عنه في جميعِ الحالاتِ. رضينا بك اللهم ربًّا وخالقًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبالمصطفى المختار نورًا وهاديَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإما حياة نظم الوحي سيرَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإلا فموت لا يَسُرُّ الأعادي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الحادي عشر: ذكر الله تعالى: تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأنفال: 45]، فجعله من أعظم ما يُعين على الثبات في الجهاد. "وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها - ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء - بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيرًا. - وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لَما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن "معاذ الله"، فتكسَّرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟ وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين[15]، وذكر الله - عز وجل - هو الحصن الذي يتحصن به المسلم من أعدائه؛ كما في الحديث الذي أخرجه الإمام احمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ"[16]. فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقًا بالعبد ألا يَفتُرَ لسانه من ذكر الله تعالى، وألا يزال لهجًا بذكره، فإنه لا يَحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثَب عليه وافترسه. وإذا ذكر الله تعالى انخنَس عدو الله تعالى، وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سُمي الوسواس الخناس؛ أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس؛ أي: كف وانقبض؛ قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس"[17]. [1] أخرجه أحمد (5 /388) وأبو داود (1319) انظر صحيح الجامع: 4703 [2] ((جامع الأصول)) (6 /263)، ((المسند)) (5/364)، ((المعجم الكبير)) (6/339)، ((مشكاة المصابيح)) (1 /393)، ((تخريج إحياء علوم الدين)) (1 /369 - للحداد)، ((إحياء علوم الدين)) (1 /165 - تخريج العراقي). [3] أخرجه الضياء في " المختارة " (1532) المعجم الكبير: 20 /420. [4] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 209) [5] وسائل الثبات على دين الله (ص: 11-12). [6] تفسير ابن كثير-(2/ 465) [7] أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب القدر -باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء -4/ 2045، رقم 17). [8] حسن، لشواهده: أخرجه أحمد (6/294) انظر صحيح الجامع: 4801، الصحيحة: 2091 [9] وقفات مع الأبرار ص (105). [10] أخرجه الحسين المروزي في "زوائد الزهد" (968) وابن ماجه (237) وأبو الغنائم النرسي في "قضاء الحوائج" (24) [11] مسند أحمد، تحقيق الشيخ شاكر 2/ 64 رقم 654، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، ومجمع الزوائد 9/ 12. [12] الوابل الصيب (ص: 67) [13] وسائل الثبات (ص: 26) [14] الثبات في زمن المتغيرات ص (24-26). [15] وسائل الثبات (ص: 28) [16] رواه الترمذي (2867). صحيح الجامع: 1724 ، صحيح الترغيب والترهيب: 552 [17] الوابل الصيب (ص: 56) |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثالث عشر أسباب: الثبات على المصائب السيد مراد سلامة الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبِعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافَق ونافَح في كل وقت وحين. اعلم - زادك الله علمًا - أنه من استخبر العقل والنقل بأن الدنيا دار المصائب والشرور، وليس فيها لذة على الحقيقية، إلا وهي مشوبة بالكدر، فما يظن في الدنيا أنه شرابٌ فهو سراب، وعمارتها وإن حسُنت صورتها خراب، والعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع قال بعض الأدباء: طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صفوًا من الأقدار والأكادر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وُضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟! قال الشاعر: على ذا مضى الناس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif اجتماع وفرقة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وميت ومولود https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبشر وأحزان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر؛ إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف، كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه، ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتًا، لكنه يدل على خَور الجازع ويوجب العقوبة، وسبب ذلك والله أعلم ضعف الإيمان بالآخرة والانشغال عنها بالعاجلة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29]. فلا هم لهم إلا الدنيا ولا أسفَ إلا عليها، والعين المتطلعة إلى الآخرة ضعيفة جدًّا لا تكاد ترى، وقد عمَّ البلاء أهلَ هذا الزمان - نعوذ بالله من الخذلان - فالدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية؛ كما قال القائل:https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمؤجَّلٌ يلقى الرَّدى في غيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومعجَّل يلقى الردى في نفسهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكان لابد على الطريق من وسيلة تثبت على الإيمان عند حلول المصائب ونزول النكبات، وها هي بين يديك جمعتها لك من بطون الكتب، ولقد ذكر ابن القيم الأسباب المعينة على الصبر والتي تثبت العبد عندما تحل عليه مصيبة: أولًا: قال: والصبر على البلاء ينشأ من عدة أسباب: • شهود جزائها وثوابها:قلت: الحيوان الأعجمي الذي لا عقل له يدرِّبه صاحبه، فيصبر على السير على الحبال، واقتحام النيران وخوض الصعاب؛ طمعًا في قطعة لحم يحظى بها عند إتمام فقرته يوم العرض، فاصبر أنت يا صاحب العقل على ما هو دون ذلك - محن الزمان - طمعًا فيما أعده الله للصابرين من جزاء يوافيهم يوم العرض، ولأن شمس الأجر فوق رؤوسهم الصالحين بازغة لا تغيب، ساطعة لا تجبها غمامة شكٍّ، أو سحابة هوى، فقد كان كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "لأحدهم أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء"[1]. فرحًا حقيقيًّا من أعماق القلب من علاماته عدم الشكي، قال مغيرة ذهبت عين الأحنف فقال: "ذهبت أربعين سنة ما شكوتها لأحد". فيها أخي المسلم - حتى تثبت على طريق الإيمان لنشاهد فجر الأجر "محبة الله" والله يحب الصبارين". عظم الثواب: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء"[2]. • تكفير السيئات: أخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله وفي ولده، حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة"[3]. قال الفضيل: إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير. إلى غير ذلك من ثواب عظيم يدعو المسلم إلى الاستسلام لقضاء الله وقدره والثبات على دينه. ثانيًا: قال ابن القيم: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها. قلت: كما أشرت في الأحاديث الماضية، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يُصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها"[4]. ثالثًا: مما يثبت المسلم على إيمانه عند المصيبة؛ يقول ابن القيم: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فلا بد منها فجزعه لا يزيده إلا بلاء؛ قلت: يقول المولى - سبحانه وتعالى -: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وقال سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة: هي ميبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يكتُبه الله لك، لم يقدروا على ذلك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتُبه الله لك، لم يقدروا على ذلك، قضي القضاء وجفت الأقلام، وطُويت الصُّحف"[5]. فالمصيبة كيرُ العبد، فإما أن يخرج ذهبًا أو خبثًا كما قيل: سبكناه ونَحسَبه لُجينًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأبدى الكيرُ عن خَبَثِ الحديد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها، خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل. الرابع: يقول ابن القيم: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه، ويقول أيضًا: كل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره إما اختيارًا، وإما اضطرارًا، فالكريم يصبر اختيارًا لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر، لم يرد الجزع عليه فائتًا، ولم ينتزع عنه مكروهًا، وإن المقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله، فالجزع ضره أقربُ من نفعه، قال بعض العقلاء: العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر كما قيل... فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود، فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره"[6]. الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة؛ قال علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع بلاء إلا بتوبة. السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقَّه، فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدَّى الحق. السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي داء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرُّعه ولا يتقيَّأه بتسخُّطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا. شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عُدَّ منعَ الله إياك عطاءً منه لك، فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا"[7].https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم نعمة لا تستقلَّ بشكرِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لله في جنب المكاره كامنهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال الحسن لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة، فلرُب أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تؤثره فيه عطبُك"[8]. وقال التنوخي: المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله بفتح القلوب والأسماع، والأبصار"[9]. إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الكاتب: يصف الفضل بن سهل، ويذكر تقدمه، وعلمه، وكرمه، وكان مما حدثني به أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنَّوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال الفضل: إن في العلل لنعمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعدُ الخيار[10]. الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم، ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره؛ قال تعالى ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقال الله تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، وفي مثل هذا القائل: لعل عتبَك محمودٌ عواقبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وربما صحَّت الأجسام بالعلل[11] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتُهلكه وتقتُله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيَّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا، فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام، وألبسه ملابسَ الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدمًا له وعونًا له، وإن انقلب على وجهه، ونكص على عقبيه، طُرد وصُفع قفاه، وأُقصي وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعُفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة والمصيبة، لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات وعن الآخرة بالحرمان والخِذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"[12]. العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأنَّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يَثبُت على محل الابتلاء والعافية، هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية، فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه، فإما أن يخرج تبرًا أحمرَ، وإما أن يخرج زغلًا مَحضًا، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبًا خالصًا، فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية، لشغل قلبه بشكره ولسانه: اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبثه ونحاسه، وصيَّره تبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره، فهذه الأسباب ونحوها تُثمر الصبر على البلاء، فإن قوِيت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته ولا يفضَحنا بابتلائه بمنه وكرمه"[13]. وهيَّا أخي المسلم - لنقف مع صور من الثبات على الإيمان أمام المصائب، وكيف ثبت أصحابها على الإيمان، وتقبلوا المصائب، وكأنها نعم جاءت إليهم من قبل الله تعالى ولله درُّ مَن قال:https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم نعْمَة لَا تستقلُّ بشكرها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لله فِي جَنب المكاره كامنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] أخرجه ابن سعد (2/ 208)، وابن ماجه (2/ 1334، رقم 4024)، قال البوصيري (4/ 188): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. [2] الترمذي (4/ 601، رقم 2396)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2/ 1338، رقم 4031). [3] أخرجه أحمد (2/ 450، رقم 9810)، وهناد (1/ 238، رقم 402)، وابن حبان (7/ 176، رقم 2913)، والحاكم (4/ 350، رقم 7879) وقال: صحيح على شرط مسلم. [4] أخرجه: البخاري 7/ 149 (5648)، ومسلم 8/ 14 (2571) (45). [5] أخرجه: الترمذي (2516)، أحمد 1/ 307، صححه الألباني" في ظلال الجنة: 315، وصحيح الجامع: 6806. [6] عدة الصابرين (ص: 40) [7] صيد الخاطر (ص: 106). [8] شفاء العليل (ص: 34). [9] الفرج بعد الشدة للتنوخي (ص: 21). [10] الفرج بعد الشدة للتنوخي (ص: 22). [11] طريق الهجرتين (ص: 416). [12] طريق الهجرتين (ص: 416). [13] طريق الهجرتين (ص: 417) |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الرابع عشر: الثبات عند الممات السيد مراد سلامة الحمد لله، شهِدت بوجوده آياته الباهرة، ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة، وسبَّحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والأخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، هو الباطن فله السر والجهر، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبُه، إذا سار سار النور معه، وإذا نام فيَّح الطيب مضجعَه، وإذا تكلم كانت الحكمة مرفعه. هو المختار من البرايا هو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الهادي البشير هو الرسول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عليه من المهيمن كل وقت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صلاة دائمًا فيها القبول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتَمسك بسنته واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين. أولًا: الاستقامة: وهي من أعظم الأسباب والوسائل للثبات عند الممات؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾[فصلت: 30، 31]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13]. والاستقامة كلمة جامعة لكل ما أمر الله به، وكل ما نهى عنه، واختلف العلماء في معناها، فقال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "ألا تشرك بالله شيئًا": وفسَّرها عمر رضي الله عنه بأنها الاستقامة على الأمر والنهي، وألا تروغ روغان الثعالب، وفسَّرها ابن تيمية: بالمحبة والعبودية لا يلتفتون عنها يَمنة ولا يسرة، والله سبحانه قد بشَّر أهل الاستقامة بالروح والريحان، ورُبَّ راضٍ غير غضبان، فالملائكة تتنزل عليهم لتثبتهم على الإيمان ومعهم التحف الربانية - البشارة بالجنة والنجاة من النار - وها هم أهل الاستقامة على فراش الموت لَما احتُضر أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: لا تبكوا عليّ فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت. والعماد المقدسي قال عنه ابن قدامة: من عمري أعرِفه أن ما عرَفت أنه عصى الله معصية، فلما جاءه الموت جعل يقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، واستقبل القبلة وتشهَّد. "أما أهل الكفر والفجور، فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربةً، فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة، كما قيل لرجل عند موته: قل لا إله إلا الله، فجعل يحرك رأسه يمينًا وشمالًا يرفض قولها، وآخر يقول عند موته: هذه قطعة جيدة، هذه مشتراها رخيص، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج، ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذكر معشوق؛ ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا، وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتنَ رائحة، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما أهل الصلاح والسنة، فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين. ثانيًا: تقوى الله: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102]. قال شيخ أحمد فريد - حفظه الله – وعد - الله عز وجل - أهل التقوى بالمخرج والنجاة من كل ضيق، فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]. ولا شك أن العبد في حال السكرات في شدة وحرج والمخرج والنجاة في الذكر والطاعة، والنطق بكلمة التوحيد؛ كما وعد الله - عز وجل - المتقين اليسر بعد المشقة، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]. ويقول الشاعر: تزوَّدْ مِن التقوَى فإنك لا تَدرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا جَنّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكم مِن فتًى أمسَى وأصبحَ ضاحكًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم مِن عروسٍ زينُوها لزوجِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد قُبضَتْ أرواحهمْ ليلةَ القدْرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم مِن صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ عِلَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم مِن سَقيمٍ عاش حِينًا مِن الدهرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثالثًا: حسن الظن بالله تعالى: فليجعل المريض حسن الظن بالله شعاره ودثاره، وليقوِ نفس رجائه، فإن الخوف سوط تساق به النفس إلى الجد، وما بقي في الناقة موضع لشوط إنما حسن الظن جدًّا؛ عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال له: كيف تجدك؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف، عن حيَّان أبي النَّضر، قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلَّم عليه وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها، قال: وما هي؟ قال: كيف ظنُّك بربِّك؟ قال: فقال أبو الأسود، وأشار برأسه؛ أي: حسن، قال واثلة: أبشر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله - عزَّ وجلَّ -: أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء"[1]. عن المعتمر بن سليمان قال: قال لي أبي حين حضرته الوفاة يا معتمر، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به"[2]. عن عطاء بن السائب قال: "دخلنا على أبي عبد الرحمن نعوده، فذهب بعض القوم يرجيه، فقال: إني لأرجو ربي وقد صمتُ له ثمانين رمضان"[3]. رابعًا: الصدق مع الله تعالى: فإن الصدق يهدي إلى البر، والصدق ينجي صاحبه، الصدق منجاة، ومتى على علام الغيوب من عبده صدق النية وصدق السريرة ثبَّته - سبحانه وتعالى - في دنياه وآخرته، ولقد أمرنا سبحانه أن نكون من جملة الصادقين؛ يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]. والصدق أساسُ بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ومن لم يكن معه الصدق فهو من المنقطعين الهالكين، ومن كان معه الصدق أوصَله إلى حضرة ذي الجلال، وكان سببًا في حسن الخاتمة وطيب المآل؛ قال أنس: غاب عمى أنس بن النضر - سُمِّيتُ به - لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَريَّن الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين واهًا لريح الجنة أجده دون أُحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، فوُجِدَ في جسده بضْعُ وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته - عمتي الرُّبَيِّع ابنة النضر - فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ ﴾ [الأحزاب: 23]، فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه رضي الله عنهم"[4]. عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش ألا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار؟ قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسمًا على سريره، ونحن نغسله حتى فرغنا من غسله رحمه الله تعالى[5]. خامسًا: التوبة الصادقة: ومن وسائل الثبات عند الممات التوبة الصادقة التي نبعت من مصدر الإيمان، والخوف من الله تعالى، التوبة التي اكتملت فيها شروطها، لا توبة الكذابين التي لا تتجاوز اللسان ولا تعدوه، فتلك تهلك صاحبها ولا تنفعه؛ لذا طلب الله من معشر المؤمنين أن يتوبوا إليه توبة صادقة، فهي التي تورث صاحبها الفلاح والسعادة؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]. وهيَّا لنعيش في أكناف التائبين أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبًا، فسأله فقال: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله وجعل يسأل، فقال رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها ومات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، قال: فوجدوه أقربَ إلى هذه بشبر، فغفَر له"[6]. وهذا ماعز بن مالك جاء النبي صلى الله عليه وسلم تائبًا من الزنا وقال: طهِّرني، وفي الحديث: "لقد تاب توبة لو قُسِمت بين أمة لوسِعتهم"[7]. أخي المسلم، فهذه بعضُ وسائل أسباب الثبات عند الممات، فهيَّا لنرى أهل الثبات في الصفحات الآتية. [1] أحمد (3/ 491)، والدارمي (2731) ، والحاكم (4/ 240)، وقال: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه، وقال الألباني في صحيح الجامع: صحيح (4316). [2] الثبات عند الممات (ص: 69). [3] حسن الظن بالله (ص: 113). [4] صحيح البخاري (2805) [5] صفة الصفوة (2/ 22) [6] متفق عليه، البخاري (3283) باب ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾ [الكهف: 9]، مسلم (2766) باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، واللفظ له. [7] أخرجه مسلم (3/ 1321، رقم 1695)، وأبو داود (4/ 149، رقم 4433). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الخامس عشر: وسائل الثبات أمام الشهوات السيد مراد سلامة الحمد لله شهِدت بوجوده آياته الباهرة، ودلَّت على كرم جوده نعمُه الباطنة والظاهرة، وسبَّحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والآخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، هو الباطن فله السر والجهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبُه.إذا سار سار النور معه، وإذا نام فيَّح الطيب مضجعه، وإذا تكلم كانت الحكمة مرفعه. هو المختار من البرايا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هو الهادي البشير هو الرسول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عليه من المهيمن كل وقت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صلاة دائما فيها القبول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أولًا: تقوى الله تعالى: فهي وصية الله تعالى لنا وللأمم من قبلنا: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾[النساء: 131]. قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفؤوها بالتقوى، قالوا وما التقوى؟ "التّقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عذاب الله". قال ابن مسعود وغيره في رجل سأله عن التقوى، فقال: ألم تمش على طريق فيه شوك؟ فقال بلى، قال: فما صنعت؟ قال شَمَّرت واتَّقيت، قال: فتلك التقوى. وأخذ هذا ابن المعتز فقال: خلٍّ الذنوبَ صغيرها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكبيرها ذاك التقى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واصنَع كماشٍ فوق أر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ضِ الشوك يَحذر ما يرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تحقرنَّ صغيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنَّ الجبال من الحصى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يقول الإمام الغزالي: "إنما الفضيلة في أمر هذه النفس أن تقوم عليها بقوة العزم، فتمنَعها عن كل معصية، وتصونها عن كل فضول، فإذا فعلت ذلك كنت قد اتَّقيت الله تعالى في عينك وأذنك ولسانك، وقلبك وبطنك وفرجك، وجميع أركانك، وألْجَمتها بلجام التقوى، ولهذا الباب شرح يطول، وأما الذي لا بد منه ها هنا فأن نقول: من أراد أن يتقي الله، فليراعِ الأعضاء الخمسة، فإنهنَّ الأصول: وهي العين والأذن واللسان والقلب والبطن، فيحرِص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضررًا في أمر الدين من معصية وحرام، وفضول وإسراف من حلال، وإذا حصل صيانة هذه الأعضاء، فمرجو أن يكف سائر أركانه، ويكون قد قام بالتقوى الجامعة بجميع بدنه لله تعالى"[1]. وكما نصَحت إحدى الصالحات من السلف بنيها، فقالت لهم: تعوَّدوا حبَّ الله وطاعته، فإن المتقين ألِفت جوارحهم الطاعة، فاستوحشت من غيرها - أي: من المعصية ومن المباح - فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة، فهم لها منكرون. ثانيًا: مراقبة الله تعالى: اعلم - علَّمني الله وإيك - أن من أعظم وسائل الثبت التي تصدك عن المعصية، وتملأ قلبك إيمانًا ومراقبةً لله تعالى، وهي كما فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عن الإحسان، فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهي دوام علم العبد وتيقُّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامة لهذا العلم اليقن في المراقبة، وهي ثمرة بأن الله سبحانه رقيبٌ عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عينٍ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾[الأحزاب: 52]، وقال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾[الحديد: 4]. وقال عامر بن قيس: ما نظرتُ إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني، وقال محمد بن علي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تَغيب عن نظره إليك، واجعَل شكرَك لمن لا تنقطع نعمة عنك، واجعَل طاعتك لمن لا تَستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرُج عن ملكه وسلطانه. قال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء، فإذا أنا بجارية كأنها علمٌ، فأردتها فقالت: ويلك أمالك زاجرٌ من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين، فقلت: إيهًا والله ما يرانا إلا الكواكب، فقالت: وأين مكوكبها. وسئل الجنيد بِمَ يُستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظر إليه. وقال المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب. وكان الإمام أحمد ينشد: إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقُل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خلوتُ ولكن قل على رقيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا أن ما يَخفى عليه يغيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثالثًا: تذكر حقوق المنعم: ومما يُثبت العبد أن يتذكَّر أن عليه حقوقًا لابد أن يرعاها، فالله أنعم عليه، فوه يتقلب في نعمه وفي خيره؛ يقول ابن الجوزي: نازعتني نفسي إلى أمرٍ مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات، وندفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة، فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة، وكان درسي قد بلغ سورة يوسف، ففتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي، حتى لا أدري ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]، انتبهت لها، وكأني خوطبت بها، فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس، أفهمت؟ هذا حر بيع ظلمًا، فراعي حق من أحسن إليه، وسماه مالكًا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: ﴿ إِنَّهُ رَبِّي ﴾، ثم زاد في بيان موجب كف كفِّه عما يؤذيه، فقال: ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾، فكيف بك، وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك، وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصى؟! أفما تذكرين كيف رباك، وعلمك، ورزقك، ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد، وضَمَّ إلى حسن الصورة الظاهرة جودةَ الذهن الباطن، وسهَّل لك مدارك العلوم، حتى نلت في قصير الزمان رزقك بلا كلفة تكلف، ولا كدر مَنٍّ، رغدًا غير نزرٍ؟! فوالله، ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة، وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج، واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم تحبيب طريق النقل، واتباع الأثر، من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع؟ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34]، كم كايد نصب لك المكايد فوقاك؟ كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقًا وسقاك؟ كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟ فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم، وبلوغ الأمل. فإن منعت مرادًا، فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح، ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره، امتلأت الطروس ولم تنقطع الكتابة، وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه؟! ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾[يوسف: 23][2]. إن رجلًا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: يا أبا إسحاق، إني مسرف على نفسي، فاعرِض عليَّ ما يكون لها زاجرًا ومستنقذًا لقلبي، قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها، لم تضرَّك معصية ولم توبقك لذة، قال: هات يا أبا إسحاق! قال: أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه، قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟ قال: يا هذا! أفيَحسُن أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال: لا هات الثانية، قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئًا من بلاده قال الرجل: هذه أعظم من الأولى! يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين اسكن؟ قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال لا، هات الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعًا لا يراك فيه مبارزًا له فاعصه فيه، قال: يا إبراهيم، كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر؟ قال يا هذا أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهر به؟ قال: لا هات الرابعة، قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك، فقل له: أخِّرني حتى أتوب توبة نصوحًا، وأعمل لله عملًا صالحًا، قال: لا يقبل مني! قال: يا هذا، فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قالت: هات الخامسة، قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم، قال: لا يدعونني ولا يقبلون مني، قال: فكيف ترجو النجاة إذًا؟ قال له: يا إبراهيم حسبي حسبي، أنا أستغفر الله وأتوب إليه، ولزمه في العبادة حتى فرَّق الموت بينهما[3]. رابعًا: نتائج الشهوات: يقول ابن الجوزي: من وقف على موجب الحس هلك، ومن تبع العقل سلِم؛ لأن مجرد الحس لا يرى إلا الحاضر وهو الدنيا، وأما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات، فيعلم وجود الخالق ويعلم أنه قد منح وأباح وأطلق وحظر، وأخبر أني سائلكم ومبتليكم؛ ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي، وإني قد بنيت لكم دارًا غير هذه لإثابة من يطيع وعقوبة من يخالف، ثم لو ترك الحس وما يشتهي مع أغراضه قرب الأمر، إنما يزني فيجلد، ويشرب الخمر فيعاقب، ويسرق فيقطع، ويفعل ذلة فيُفضَح بين الخلق، ويعرض عن العلم إلى البطالة، فيقع الندم عند حصول الجهل، ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله، قد سلمت دنياه وآخرته، وميز بين الخلق بالتعظيم، وكان عيشه في لذاته غالبًا خيرًا من عيش موافق للهوى، فليعتبر ذو الفهم بما قلت، وليعمل بمقتضى الدليل وقد سلم[4]. ويقول ابن القيم: وقد عدَّد آثار الذنوب: قلة التوفيق وفساد الرأي وخفاء الحق وفساد القلب، وخمول الذكر وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل، وإهانة العدو وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله، كما يتولد الزرع عن الماء، والإحراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة[5]. فمن راقب الله - عز وجل - ونظر إلى العواقب والنتائج، ثبت على إيمانه "فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب ببشر طِيبه". واسمع إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو يكشف لك عن عواقب الحسنة وعواقب السيئة؛ يقول: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ليتَّقِ أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، قيل: كيف؟ قال: يخلو بالمعاصي فيلقي الله له البغض في قلوب الناس". أخي المسلم، إذا وجدت من إخوانك جفاءً، فذلك لذنب أحدثته فتُب إلى الله، وإذا وجدت منهم زيادة محبة، فذلك لطاعة أحدثتها فاشكُر الله عليها؛ يقول ابن الجوزي: الحذر الْحذر من المعاصي، فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه، ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها؛ لأنه عند التذاذهِ يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته، رأى بعين علمه الناهي وهو الله، فيتنغص عيشه في حال التذاذه، فإن غلبه سكر الهوى، كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان مع طول الزمان، حتَّى إنه لو تيقَّن العفو وقَف بإزائه حذار العتاب، فأُفٍّ للذنوب، ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها، ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة"[6]. خامسًا: مجاهدة النفس: اعلم - علمني الله وإياك - أن مما يثبت العبد أمام طوفان الشهوات ويكسر جماحها: مجاهدة النفس على ترك الشهوة، فلا ينصُر العبد على عدوه إلا إذا جاهده وقاوَمه، ولا يصل العبد إلى مبتغاه من رضا الله تعالى، والاستقامة على الصراط إلا بالمجاهد؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[العنكبوت: 69]. يقول إبراهيم الدويش: فإن أردت فلا بد من الصبر والتحمل، ففي الحديث: ما أُعطي أحد عطاءً هو خير وأوسع من الصبر"؛ (كما في الصحيحين)، وتبقى العزيمة والإصرار والهمة العالية هي مفتاح بيدي كل شاب وبيد كل فتاة بعد توفيق الله، ولذلك لابد أن تجاهد أنفسنا، لابد أن تخاطبها: ذَريني أَنَل ما لا ينال من العلا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فصعب العلا في الصعب والسهل في السهلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تريدين إدراك المعالي رخيصةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولابد دون الشهد من إبر النحلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نعم لابد من المرارة، خاصة في هذا الزمان لابد من إبر النحل، لا يخلو الطريق من عقبات، لا يخلو من فتن وشهوات وشبهات، فاصبر إنها لحظات حتى يقال: فلان مات، ثم هي جنات عرضها كعرض الأرض والسماوات، بَخٍ بَخٍ"[7]. ويقول ابن القيم: "وملاك الأمر كله الرغبة في الله وإرادة وجهه، والتقرب إليه بأنواع الوسائل، والشوق إلى الوصول إليه وإلى لقائه، فإن لم يكن للعبد هِمةٌ إلى ذلك، فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعد الله فيها لأوليائه، فإن لم تكن له همة عالية تطالبه بذلك، فخشية النار وما أعد الله فيها لمن عصاه، فإن لم تطاوعه نفسه بشيء من ذلك، فليعلم أنه خُلق للجحيم لا للنعيم، ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه، فهذه فصول أربعة هن ربيع المؤمن وصيفه وخريفه وشتاؤه، وهن منازله في سيره إلى الله عز وجل، وليس له منزلة غيرها، فأما مخالفة الهوى، فلم يجعل الله للجنة طريقًا غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقًا غير متابعته؛ قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41]. وقال تعالى ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾[الرحمن: 46]، قيل هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله"[8]. لا خير فيمن لا يراقب ربَّه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عند الهوى ويخافه إيمانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حجب التقي سبلَ الهوى فأخو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif التُّقى يخشى إذا وفى المعاد هوانا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] كتاب التقوى (ص:24). [2] صيد الخاطر (ص: 188-189). [3] شرح المعرفة وبذل النصيحة؛ تح: شيخنا مجدي فتحي السيد (20-21). [4] صيد الخاطر (414-415). [5] الفوائد لابن القيم (ص: 47). [6] موارد الظمآن لدروس الزمان (5/ 33) [7] الثبات في زمن المتغيرات (ص : 56-57). [8] روضة المحبين ( ص:41). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السادس عشر لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد في أزليته بعز كبريائه، وتوحد في صمديته بدوام بقائه، ونوَّر بمعرفته قلوب أوليائه، وطيَّب أسرار القاصدين بطيب ثنائه، وأسبغ على الكافة جزيل عطائه، وأمن خوف الخائفين بحُسن رجائه، الحي العليم الذي لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، القدير لا شريك له في تدبيره وإنشائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، يا رب. أنا من أنا أنا في الوجود وديعةٌ وغدًا سأمضي عابرًا في رحلتي أنا ما مدت يدي إلى غيرك سائلٌ فارحَم بفضلك يا مهيمن ذلتي وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبُه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فجمع الأنبياء تحت لوائه. الحب في دنيا الناس لماذا؟ إخوة الإسلام، إن الحب له أثرٌ كبير في حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات، ولكن ذلك الحب يختلف باختلاف المحبوب وباختلاف أهدافه، فمن الناس من يحب المال ويجعله هدفه في الحياة، فاذا سألته لماذا تحب المال؟ قال: لأن المال هو كل شيء، وهو عصب الحياة، وبه يحقق المرء أهدافه ورغباته، ومن الناس من يحب الشهرة والمنصب فينصب في تلك الحياة، فإذا سألته لماذا تحب المنصب؟ قال: لأن به الوجاهة والمكانة بين الناس، ومنهم من يحب النساء فإذا سألته لماذا تحب النساء؟ يقول لأن المرأة هي سعادة الرجل، وبها ينال السكن والراحة، وغير ذلك من محبوبات ومشتهيات، وأنا في هذا اللقاء أسألك: لماذا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ *ما الغايات التي تجعلك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما المميزات التي تميز بها سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم؟ هيا لنتعرف على الجواب من كتاب الرحمن ومن سنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم؟ أولا: نحب رسول الله لأنه خليل الله تعالى صلى الله عليه وسلم: أيها الإخوة الكرام، هو خليل الله وأحب خلقه إليه جل جلاله، فنحن نحب ما يحب ربنا ويرضى، وعَبْد اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا»[1]. من علامات محبة الله تعالى لنبيه والأدلة كثيرة وواضحة في القرآن الكريم من ذلك ما يلي: المولى أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم: فالله تعالى ما أقسم بحياة أحد من خلقة، ولكنه أقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72]. جاء في تفسير الطبري وقوله: (﴿ لَعَمْرُكَ ﴾)، يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وحياتك يا محمد، إن قومك من قريش ﴿ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾، يقول: لفي ضلالتهم وجهلهم يتردَّدون؛ عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا، أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره؛ قال الله تعالى ذكره: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾؛ عن ابن عباس في قول الله: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا، ﴿ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾[2]. وعد الله له بأنه يعطيه حتى يرضيه صلى الله عليه وسلم: ومن حبه سبحانه وتعالى لحبيبه ومصطفاه، أنه وعده بأن يعطيه حتى يرضى وقوله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]؛ يقول تعالى ذكره: ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه حتى ترضى، وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء، فقال بعضهم: هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كَفْرًا كَفْرًا، فسُرَّ بذلك، فأنـزل الله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كلِّ قصر، ما ينبغي من الأزواج والخدم[3]. عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. إخبار الله له بأنه يرعاه ويحفظه صلى الله عليه وسلم: ومن حبه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه حفِظه ورعاه، ومن كل مكروه وسوء نجَّاه، قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ [الطور: 48]. ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بتلك التسلية الرقيقة لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ﴾. أي: واصبر - أيها الرسول الكريم - لِحُكْمِ رَبِّكَ إلى أن ننزل بهم عقابنا في الوقت الذي نشاؤه ونختاره، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا؛ أي: فإنك بمرأى منا وتحت رعايتنا وحمايتنا وحفظنا ... إن الله تعالى منحه الطاعة المخوصة وما أتاكم الرسول، إن الله تعالى جعله سببًا لمغفرة الذنوب. ثانيًا: نحن نحب النبي حتى لا تكون من الفاسقين: اعلَم بارك الله فيك وزادك الله علمًا وفهمًا أن الله تعالى أمرنا بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقدمه على كل محبوب ومرغوب، فمن لم يفعل ذلك كان من جملة الفاسقين؛ قال أحكم الحاكمين: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]. ﴿ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ﴾؛ أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد، وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدى إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله. قال القاضي عياض: "فكفى بهذا حضًّا وتنبيهًا ودلالةً وحجةً على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع الله من كان ماله وولده وأهله، أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 24]، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن أضل ولم يهده الله[4]. ثالثًا: نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكتمل إيماننا: اعلم بارك الله فيك أخي المسلم أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نصل إلى كمال الإيمان بالملك الديان، فلا سبيل إلى الوصول إلا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ عن أَنَس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ والِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ[5]. معنى الحديث والله أعلم: أن من استكمل الإيمان علِم أن حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن بالرسول استنقذ الله أُمته من النار وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث بذل النفس دونه صلى الله عليه وسلم، وقال الكسائي في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنفال: 64]؛ أي حسبك الله ناصرًا وكافيًا، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك. عن عَبْد اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلاَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ: «لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الآنَ يَا عُمَرُ»..[6]. (أن من لم يجد من نفسه ذلك الميل، وأرجحيَّته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكمُل إيمانُه. على أني أقول: إن كل من صدَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به إيمانًا صحيحًا، لم يخلُ عن وُجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم في ذلك متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، كما قد اتَّفق لعمر - رضي الله عنه - حتى قال: من نفسي، ولهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، حين قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم لقد كان وجهك أبغض الوجوه كلها إليَّ، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ ... الحديث. وكما قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيتني، وما أحد أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه[7]، ولا شك في أن حظَّ أصحابه صلى الله عليه وسلم من هذا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ لأن المحبَّة ثمرة المعرفة، فتقوى وتضعف بحسبها. ومن المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثر أوقاته، فهذا بأخسِّ الأحوال، لكنه إذا ذُكِّر صلى الله عليه وسلم أو بشيء من فضائله، اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره، ومواضع آثاره على أهله، وماله، وولده، ونفسه، والناس أجمعين، فيخطُر له هذا، ويجده وجدانًا لا شكَّ فيه، غير أنه سريع الزوال والذهاب، لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبَّة؛ حتى لا يوجد منها حَبَّةٌ، فنسأل الله تعالى الكريم أن يَمُنَّ علينا بدوامها وكمالها، ولا يحجبنا عنها؛ انتهى كلام القرطبي [8]. رابعًا: نحب الله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وليُّ كل مسلم: إخوة الإسلام، نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي يدعونا إلى الجنة ونفوسنا تدعونا إلى النار، فالنفس أمارة بالسوء، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بنا من أنفسنا؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَيَّ»[9]. والمولى الذي يتولَّى أمور الرَّجل بالإصلاح والمعونة على الخير والنصر على الأعداء وسد الفاقات ورفع الحاجات. أعميت عيني عن الدنيا وزينتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأنت والروح شيء غير مفترق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من أول الليل حتى مطلع الفلق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما تطابقت الأجفان عن سنة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا وإنك بين الجفن والحدقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خامسًا: نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نكون معه في الجنة: أحباب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، مما يزيدنا حبًّا في الحبيب صلى الله عليه وسلم أن من أحبه كان معه في الجنة، يا لها من منزلة عظيمة تنال بالمحبة؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ [10]. أُشهد الله أنني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة أجمعين، وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل عملهم. والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا وحبُّك مقرون بأنفاسي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا خلوتُ إلى قوم أحدِّثهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا وأنت حديثي بين جلاسي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وها هو حنظلة رضي الله عنه يتهم نفسه بالنفاق؛ لأنه ينسى أمر الانشغال بالآخرة حينما يترك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويعود إلى بيته؛ عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْر، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْر: فَوَاللهِ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْر، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِال نَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً، وَسَاعَةً، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ[11]. أنا ما أَتيتُكَ يا حَبيبي مَادحًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يَكفِيكَ مَدْحُ اللهِ والتَمجِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَصِفَاتُ خَلْقِكَ في الكِتَابِ كَثيرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَيستْ لها حَدٌ .. ولا تَحديدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا هَائمٌ في نُورِ حُبِّكَ ذَائِبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَأَظلُّ أَبكى والغَرَامُ يَزِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يقول الشافعي وهو يتحدث عن نفسه بتواضع: أُحب الصالحين ولست منهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لعلي أن أنال بهم شفاعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأَكره مَن تجارتهم المعاصي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن كانا سويًّا في البضاعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيرد عليه الإمام أحمد ويقول: تحب الصالحين وأنت منهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومنكم قد تناولنا الشفاعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتكره من بضاعتهم المعاصي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقاك الله من شر البضاعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سادسًا: نحب الرسول لحبه لنا وشفقته صلى الله عليه وسلم علينا: إخوة الإسلام، نحب الحبيب صلى الله عليه وسلم لحبه لنا وشفقته علينا، فهو أحن علينا من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا صلى الله عليه وسلم، تأملوا عباد الله في ذلك المشهد الرائع المبكي الذي يصوره لنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وَقَالَ عِيسَى: ﴿ إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، قَالَ: وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ يَا جِبْرِيلُ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ"[12]. يقول النووي رحمه الله: هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد؛ منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة - زادها الله تعالى شرفًا - بما وعدها الله تعالى بقوله: (سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها"؛ انتهى[13]. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لجميع أمته، ويستغيث الله تعالى أن يجعلها أمةً مكرَّمةً مرحومةً، حتى استجاب اللَّه له فجعل شطر أهل الجنة من أمته، أو يزيد، ورزقهم شفاعته يوم القيامة. سابعًا: نحبه صلى الله عليه وسلم حتى يشفع لنا يوم القيامة: أيها المؤمنون المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن رسول الله حتى ننال شفاعته يوم القيامة؛ جاء في صحيح البخاري في حديث الشفاعة العظمى عن أنس رضي الله عنه وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسَلْ تُعْطَ، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حدًّا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته أيضًا يقول: فأَخرج فأُخرجهم من النار، وأُدخلهم الجنة، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تُعط، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حدًّا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته يقول: فأَخرج فأُخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسلْ تُعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حدًّا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأَخرج فأُخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن)؛ أي وجب عليه الخلود، قال: ثم تلا هذه الآية: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم. [1] أخرجه مسلم (4/1855، رقم 2383) . [2] تفسير الطبري، ط الرسالة؛ ت أحمد شاكر (17/ 118). [3] المعجم الكبير: 10/ 277، جامع البيان للطبري: 30/ 292. [4] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 43). [5] أخرجه البخاري في: 2 كتاب الإيمان: 8 باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. [6] رواه أحمد (4/ 336). [7] رواه مسلم (121). [8] مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (2/ 345) راجع "المفهم" 1/ 225 - 227. [9] أخرجه أحمد (2 /290، رقم 7886)، والبخاري (2 /805، رقم 2176)، ومسلم (3 /1237، رقم 1619). [10] رواه أحمد (13419 و13886)، وعَبْد بن حُمَيْد (1296)، ومُسْلم (7520). [11] أخرجه أحمد 4 /178(17753) و\"مسلم\" 8 /94(7066) و\"ابن ماجة\" 4239 والتِّرْمِذِيّ\" 2514. [12] أخرجه : مسلم 1 /132 ( 202 ) ( 346 ) . [13] "شرح مسلم" (3 /78-79) |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السابع عشر: منافع ذكر الموت السيد مراد سلامة ونشهدُ أن نبينا محمدًا عبد الله ورسول الملك الواهب، ما من عاقلٍ إلا وعلم أن الإيمان به حقٌّ واجب.... إخوة الإسلام، إن ذكر الموت له منافع كثيرة وفوائد جليلة، ذكرها لنا الأفذاذ من العلماء وهاكم يا رعاكم الله بيانها. (1) قطع أسباب الغفلة بتقصير الأمل: فإن طول الأمل أكبر أسباب الغفلة، فالموت لا يترك فقيرًا لفقره ولا غنيًّا لغناه، وقد ذكروا عن ابن السماك أنه قال: (بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول: عزيز فلم تترك لعزك!! غني فلم تترك لغناك!! فقير فلم تترك لفقرك!! جوَاد فلم تترك لجودك!! شديد لم تترك لشدتك!! عالم فلم تترك لعلمك!! يردد هذا الكلام ويبكي[1]. عبرة الموت: يروى أن أعرابيًّا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: ما لك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة!! وجوارحك سالمة!! ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متعجبًا من أمره، متفكرًا في شأنه!! قال ابن السماك: (بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول: عزيز فلم تترك لعزك!! غني فلم تترك لغناك!! فقير فلم تترك لفقرك!! جواد فلم تترك لجودك!! شديد لم تترك لشدتك!! عالم فلم تترك لعلمك!!). يردد هذا الكلام ويبكي. اذكروا هاذم اللذات. (2) يحث على الاستعداد وحسن العمل: أخي المسلم، إن مَن أكثر مِن ذكر الموت أحسَنَ الاستعداد ليوم المعاد، قال أبو علي الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي ذكر الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، ترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة[2]. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125]، قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح وانفسح، قالوا: فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت[3]. قال أبو عبد الرحمن السُّلمي في مرضه: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان؟![4]. وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت، ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله، ثم قضى رحمه الله[5]. وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضَّى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: من كان الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟[6]. بينا الفتى مرحٌ الخطى فرحٌ بما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذ قيل بات بليلة ما نامها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذ قيل أصبح مثخنًا ما يرتجى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذ قيل أصبح شاخصًا وموجهًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومعللًا إذ قيل أصبح قد مضى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif (3) الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها: ومن أكثر من ذكر الموت، زهد في زخارف الدنيا، واستوى عنده ذهبها مع حذفها؛ قال التميمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى[7]. وقال الحسن: إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عيشًا لا موت فيه؛ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ، وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ فِي الْخَيْرَاتِ. عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا عُرِضَتْ عَلَيَّ حَلَالًا لَا أُحَاسَبُ بِهَا فِي الآخرة، لَكُنْتُ أَقْذَرُهَا كَمَا يَقْذَرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبَ ثَوْبَهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: الدُّنْيَا غَنِيمَةُ الْأَكْيَاسِ، وَغَفْلَةُ الْجُهَّالِ، لَمْ يَعْرِفُوهَا حَتَّى اخْرِجُوا مِنْهَا، فَسَأَلُوا الرَّجْعَةَ فَلَمْ يَرْجِعُوا. عن موسى بن عبيدة الربذي أن لقمان قال لابنه: يا بني، إنك استدبرت الدنيا منذ يوم نزلتها، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرُب منها أقربُ منك إلى دار تباعد عنها [8]. (4) يردع عن المعاصي: فمن اعتقد أن الموت يخطفه في أي لحظة، هل يجرؤ على المعصية، خصوصًا إذا علم أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فهل يرضى أن يبعث يوم القيامة وهو مقيم على معصية الله تعالى، فيفضح بين الخلائق؟! (5) الرضا على كل حال: فمن كان في ضيق، فذكر الموت وسَّعه عليه، ومن كان في سعة تدعوه للبطر والكبر، فذكر الموت ضيَّقها عليه، ومن أصابته مصيبة، فتعزى بالموت هانت عليه مصيبته، ولذلك قالوا: اصبر لكل مصيبة وتجلَّد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واعلم بأن المرء ليس مخلَّد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من لم يُصب ممن ترى بمصيبة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هذا سبيلٌ لست فيه بأوحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال الشافعي يعزي رجلًا في ميت له: إنا نُعزيك لا أنا على ثقةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا نعيش ولكن سنةُ الدين https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا ما لمعزَّى سيبقى بعد ميته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا المعزي وإن عاشَا إلى حين https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif (6) دواء قسوة القلب: و قسوة القلب داء عضال وله في النفس علامات وهي: • لا نشعر بالخشوع في صلاتنا وعبادتنا. • عدم التأثر والتباكي عند تلاوة القرآن. • عدم التورع عن الشبهات في المعاملات. • الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين. • الجفاء وسوء الظن بين الإخوان. • انتشار القطيعة بين الأسر. أخي السلم، إن مما يلين القلوب ويذيب قساوتها، ذكر الموت وتشييع الجنائز، فإذا أردت عينًا مدرارة وقلبًا خاشعًا، فأكثر من ذكر هادم اللذات، قال أبو الدرداء: مَن أكثر ذكر الموت قل فرحُه وقل حسدُه، ويقول سعيد بن جبير رحمه الله: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيتُ أن يفسد عليَّ قلبي. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. [1] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 286). [2] التذكرة للقرطبي (ص: 8). [3] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (2/ 383) أخرجه ابن جرير ( 12 / 100 / 13855. [4] المحتضرين (ص: 206). [5] الثبات عند الممات (ص: 159). [6] العاقبة في ذكر الموت (ص: 40). [7] التذكرة للقرطبي (ص: 8). [8] الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 80). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثامن عشر: طبقات الناس في كراهية الموت السيد مراد سلامة واعلم زادك الله علمًا - أن الناس ليسوا على طبقة واحدة في كراهية الموت، بل يتفاوتون على حسب ما عندهم من إيمان وقربٍ، أو ما عندهم من معاصي وبُعد عن الله، وإليك بيان ذلك: الطبقة الأولى: الحياء من الله: أعلى هذه الطبقات طبقة أهل الحياء من رب الأرض والسماء، وهو أن يستحيي العبد من لقاء ربه لِما جنت يداه كحياء أم هارون. قال أحمد أبي الحواري: قلت لأم هارون العابدة الدمشقية: أتحبين الموت؟ قالت: لا. قلت: ولِمَ؟ قالت: لو عصيت آدميًّا ما أحببت لقاءه، فكيف أحب لقاء الله وقد عصيته؟[1]. الطبقة الثانية: الخشية الحادة من أن ينزل المرء منزلة تضره ولا تسره: وهذا من الأخطار التي ينبغي على العاقل ألا يغفل عنها، فالإنسان منا لا يدري أهو من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة. قال بعض أصحاب هذه الخشية: وكيف تنام العينُ وهي قرير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولم تدرِ في أي المحلين تنزل؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قال سعيد بن أبي عطية: لما حضر أبا عطية الموت جزع منه، فقالوا له: أتجزع من الموت؟ فقال: ما لي لا أجزع، فإنما هي ساعة، ثم لا أدري أين يسلك بي؟[2]. لما حضرت أحمد بن خضرويه الوفاة، سئل عن مسألة فدمعت عيناه، وقال: يا بني، باب كنت أدقه خمسًا وتسعين سنة، هو ذا يفتح الساعة لي، لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة، فأنى لي أوان الجواب؟[3]. عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه ذكر عمر وأبا بكر ابني المنكدر قال: "لَما حضر أحدهما الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ إن كنا لنغبطك بهذا اليوم، قال: أما والله ما أبكي أن أكون ركبت شيئًا من معاصي الله اجتراءً على الله، ولكني أخاف أن أكون أتيت شيئًا هينًا وهو عند الله عظيم، قال: وبكى الآخر عند الموت فقيل له مثل ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول لقوم: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، فأنا أنتظر ما ترون، والله ما أدري ما يبدو لي"[4]. عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله، وسألوه ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم، فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه، فإذا هو يبكي قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رعت أهلك؟ أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾، قال فبكى أبو حازم أيضًا معه واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرِّج عنه فزدتَه، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما[5]. الطبقة الثالث: ضعف التزود من العمل الصالح: وهم أقوام أحسوا بقلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس، لذا فهم يكرهون الموت مخافة الفوت؛ قال الله سبحانه قد قال فيمن هذا شأنهم: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11]. • تحسر بعض الناس عند الموت، فقيل له: ما بك؟ فقال ما ظنكم بمن يقطع سفرًا طويلًا بلا زاد، ويسكن قبرًا موحشًا بلا مؤنس، ويقدم على حكم عدل بلا حجة[6]. بكى أبو هريرة قبل الوفاة فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: [قلة الزاد، وبعد السفر، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار][7]. تزَوَّدْ من التقوى فإنكَ لا تدري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكمْ من عرُوسٍ زَينوها لِزَوجها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه، وقف ذات يوم أمام الكعبة ثم قال لأصحابه: "أليس إذا أراد أحدكم سفرًا يستعد له بزاد؟ قالوا: نعم، قال: فسفر الآخرة أبعد مما تسافرون! فقالوا: دلنا على زاده؟ فقال: (حجوا حجة لعظائم الأمور، وصلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا يومًا شديدًا حرُّه لطول يوم نشوره)[8]. الطبقة الرابعة: الإسراف على النفس والغفلة عن محاسبتها: إخوة الإيمان، إن الغفلة عن المحاسبة، والتسويف بالمتاب، يُفضيان إلى تراكم السيئات، حتى يذهل من تراكمها من ينتبه إليها. كان الشيخ توبة بن الصمة من الطيبين، وكان محاسبًا لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يومًا ما مضى من عمره، فإذا هو ستون سنة، فحسب أيامها، فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فقال: يا ويلتا، ألقى مالكي بإحدى وعشرين ألف ذنب ثم صعق صعقة كانت فيها وفاته، (وهذا بحساب ذنب واحد فقط في اليوم الواحد)[9]. وتأملوا في أحوال المحسنين الذين يخافون من الله تعالى؛ فعن عبد الله بن مسعود، حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه»، فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه"[10]. كانوا يتهمون أعمالهم وتوبتهم، ويخافون ألا يكون قد قُبل منهم ذلك، فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح؛ قال الحسن: أدركت أقوامًا لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمِن لعِظَم الذنب في نفسه. • فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته يقول: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصَّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا له: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تاليًا يتلو: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص:83][11]. قال معاوية - رضي الله عنه - عند موته لمن حوله: أجلسوني.... فأجلسوه.... فجلس يذكر الله، ثم بكى، وقال: الآن يا معاوية، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام، أما كان هذا وغض الشباب نضير ريَّان؟! ثم بكى وقال: يا رب، يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي.... اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجُد بحلمك على من لم يرجُ غيرك، ولا وثق بأحد سواك.... ثم فاضت روحه رضي الله عنه[12]. الطبقة الخامس: تعلق المرء بالدنيا أو بشيء معين منها: واعلم أن من تعلَّق قلبه بالدنيا وبشيء من متاعها، كره الموت؛ لأنه يعلم أنه سيفوت على ذلك المحبوب؛ روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء القارئ النحوي أنه قال: بينما أنا ذات يوم -أحسبه قال في ضيعتي - سمعت قائلًا يقول: وإن امرأً دنياه أكبرُ همه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لمستمسك منها بحبل غرور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكتبت هذا البيت على فص خاتمي فكان نقشه هذا[13]، قال الحسن - رحمه الله - ابن آدم، لا تعلق قلبك بشيء من الدنيا، تعلِّقها شرَّ تعلُّقٍ، اقطع عنك حبائلها، وأغلق دونك أبوابها. وليكن حسبك -أيها المغرور- منها ما يبلغك المحل، وإياك أن تظن أنك تُباهي يوم القيامة بمالك وولدك، هيهات أن ينفعك شيء من ذلك يوم يقوم الحساب! ذلك يوم تذهب الدنيا فيه بحالها، وتبقى الأعمال قلائد في أعناق عمَّالها. خاتمة السوء: وها هي خاتمة السوء لمن تعلَّق بشيء من متاع الدنيا والخواتيم ميراث السوابق. ففي كتاب العاقبة: أن رجلًا كَانَ وَاقِفًا على بَاب دَاره، وَكَانَ بَابهَا يشبه بَاب حمام مُجاور له، فمرت بِهِ جَارِيَة لَهَا منظر، وَهِي تَقول: أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب... فَقَالَ لَهَا: هَذَا حمَّام منْجَاب... وَأَشَارَ إِلَى دَاره.. فَدخلت الدَّار، فَدخل وَرَاءَهَا، فَلَمَّا رَأَتْ نَفسهَا مَعَه فِي دَاره وَلَيْسَت بحمَّام علمت أَنه خدعها، فعلمت أنه لا نجاة لها منه إلا بالحيلة والخداع.. فأظهرت لَهُ الْبشر والفرح باجتماعها مَعَه على تِلْكَ الْخلْوَة فِي تِلْكَ الدَّار، وَقَالَت لَهُ: يصلح أَن يكون عندنَا مَا يطيب بِهِ عيشنا وتقر بِهِ عيوننا، من طعام وشراب. فَقَالَ لَهَا: السَّاعَة آتِيك بِكُل مَا تريدين وَبِكُل مَا تشتهين، وَخرج فَتَركهَا فِي الدَّار، وَلم يغلقها، وَتركهَا مَفْتُوحَة على حَالهَا وَمضى، فَأخذ مَا يصلح لَهما وَرجع، وَدخل الدَّار فَوَجَدَهَا قد خرجت وَذَهَبت، وَلم يجد لَهَا أثرًا، فهام الرجل بهَا، وَأكْثر الذّكر لَهَا، والجزع عَلَيْهَا، وَجعل يمشي فِي الطّرق والأزقة وَهُوَ يَقُول: يَا رب قائلة يَوْمًا وقد تعبت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَيْن الطَّرِيق إِلَى حمام منْجَاب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَفي رواية: أنه بعد أشهر مر فِي بعض الْأَزِقَّة وَهُوَ ينشد هَذَا الْبَيْت، وَإِذا بِالجَارِيَة تجاوبه من طاق وَهِي تَقول: هلا جعلت لَهَا إِذْ ظَفِرتَ بهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حرْزا على الدَّار أَو قُفلا على الْبَاب؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إِنْ يَنْفَد الرِّزْقُ فَالرّزَّاقُ يَخْلِفُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَالعِرْضُ إِنْ نْفَدَ فمِنْ أَيْنَ يُنْجَابُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَزَاد هيمانه، وَاشْتَدَّ هيجانه، وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى كَانَ من أمره أنه لما نزل بِهِ الْمَوْت وجاءت ساعة احتضاره، فَقيل لَهُ قل: "لَا إِلَه إِلَّا الله"، فلا يستطيع، إنما جعل يَقُول: أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب؟[14]. [1] (صفة الصفوة ج4 ص304). [2] (الحلية ج5 ص 154). [3] (رسالة الثبات عند الممات ص 62) [4] المحتضرين (ص: 170) [5] حلية الأولياء (3/ 146) [6] (الكشكول للعاملي ج1 ص 290) [7] مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (1/ 35) [8] حلية الأولياء (1/ 165) [9] -(الكشكول للعاملي ج2 ص 337) [10] أخرجه: البخاري 8/83-84 (6308) [11] المحتضرين لابن أبي الدنيا (ص: 84) [12] العاقبة في ذكر الموت (ص: 125) [13] الهواتف (ص: 67) [14] العاقبة في ذكر الموت (ص: 179) |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس التاسع عشر: يا عبد الله ماذا تقول لربك غدًا؟ السيد مراد سلامة الحمد لله الذي جعل القرآن هدايةًً للمقبلين، وجعل تلاوته بخضوع تُهل دمع الخاشعين، وأنزل فيه من الوعيد ما يهز به أركان الظالمين، وأخبر فيه أن الموت نهايةٌ لعالمين، وأننا بعد الموت للحساب مبعوثين، وأننا سنحاسب عما كنا فاعلين، وسنقف بذل وخضوع بين يدي رب العالمين، ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾[الفجر: 23]، ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ [إبراهيم: 49]، ليس هناك فرق بين ملك معظم وإنسان مهين، هذا جزاء من أخلص العمل لله رب العالمين، وهذا عطاء رب الأرباب مالك يوم الدين، سبحانه من إله عظيم أعز الحق وأخرس المبطلين، سبحانه عدد ما دعاه عباده المساكين، سبحانه عدد ما انهمرت دموع المنيبين، سبحانه جواد كريم قوي متين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18، 19]. يا من تمتَّع بالدنيا وزينتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تنام عن اللذات عيناه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أفنيت عمرَك فيما لست تُدركه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تقول لله ماذا حين تلقاه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أخي الحبيب، حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون المبارك عن المسؤولية إمام رب البرية في ذلك اليوم العصيب الرهيب الذي صوَّره الله تعالى بقوله: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾[آل عمران:30]، ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ﴾[الفرقان:25]، ﴿ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾[الفرقان:27]، ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج:2]، يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الصَّاخة، ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس:24-37]. ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف. ذكره يهدد الظَّلَمَة ليَرعَووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا، فكل سيأخذ حقه لا محالة، حتى يقاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم، والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا. ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين، تسكن معه قلوبهم، ثم تَثبُت شماء وهي تتطلع لما أعدَّه الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضرٍّ وبلاء وسوء وعناء، وتتطلع لِما أعده الله للظالمين من بؤسٍ يُنسى معه كل هناء. يوم القيامة لو علمت بهوله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لفررت من أهل ومن أوطانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يوم عبوس قمطرير أمره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيه تشيب مفارق الولدانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فاستفتح بالذي هو خير، يقول مولانا في كتابه العظيم: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيب * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيد * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيد * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ﴾ [ق:20-28]. حال السلف ماذا تقول لربك غدًا: روى الذهبي في تاريخ الإسلام بعد أن ذكر مشورة أبي بكر - رضي الله عنه - لكبار الصحابة في عزمه على تولية عمر بعده: (فقال قائل: ماذا تقول لربك عن استخلافك عمر وقد ترى غلظته؟ فقال أجلسوني، ثم قال: أبالله تخوفوني؟ أقول: استخلفت عليهم خير أهلك). وعن الأحنف بن قيس قال: كنت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلقيه رجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدني على فلان فقد ظلمني، فرفع عمر درته وخفق بها رأس الرجل، وقال له: تدعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم مقبل عليكم، حتى إذا شغل بأمر من أمور المسلمين أتيتموه أعدني أعدني، فانصرف الرجل غضبان آسفًا، فقال عمر: علي بالرجل، فلما عاد ناوله مخفقته، وقال له: خذْ واقتص لنفسك مني، فقال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله وانصرف، وعدت مع عمر إلى بيته، فصلى ركعتين ثم جلس يحاسب نفسه ويقول: ابن الخطاب، كنت وضيعًا فرفعك الله، وكنت ضالًّا فهداك الله، وكنت ذليلًا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب الناس، فجاءك رجل يستعديك فضربته، فماذا تقول لربك غدًا إذا لقيته؟ خرج يومًا إلى السوق، فرأى إبلًا سمانًا فقال: إبل من هذه؟ قالوا: إبل عبد الله بن عمر، قال: عبد الله بن عمر! بخ, بخ, يا بن أمير المؤمنين، وأرسل في طلبه، فلما أتاه قال له: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فقال عبد الله: إنها إبل أنضاء اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى: أتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال عمر: ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك، ويربو ربحك يا بن أمير المؤمنين، ثم صاح به: يا عبد الله، خذ رأس مالك، واجعل الربح في بيت مال المسلمين، يا خالق عمر، سبحانك! وروى ابن كثير أن معاوية رضي الله عنه لما دخل على أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فسلم عليها من وراء حجاب، وذلك بعد مقتله حجرًا وأصحابه، قالت له: أين ذهب عنك حلمك يا معاوية حين قتلت حجرًا وأصحابه؟! فقال لها: فقدته حين غاب عني من قومي مثلك يا أماه، ثم قال لها: فكيف بري بك يا أمة؟ فقالت: إنك بي لبارٌّ، فقال يكفيني هذا عند الله، وغدًا لي ولحجر موقف بين يدي الله عز وجل، وروى ابن جرير أن معاوية جعل يغرغر بالصوت وهو يقول: إن يومي بك يا حجر بن عدي لطويل قالها ثلاث، ما أروع هذا الميزان الذي يزن المرء منا به أفعاله في كل وقت: (ما تقول لربك غدًا؟)، هذا الميزان الذي بثه الإسلام في نفوس المؤمنين، ورباهم عليه، فحققوا أعظم حضارة وكانوا به خير أمة أخرجت للناس. ماذا تقول لربك إذا يا مضياع للصلاة: اعلموا عباد الله أن أول ما يسأل عن العبد يوم القيامة الصلاة، فماذا أنت قائل عندما يسألك عنها؛ عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ). يا تاركًا للصلاة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية، ولكن أخروها عن أوقاتها، وقال سعيد بن المسيب إمام التابعين رحمه الله: هو ألا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا يصلي العصر إلى المغرب، ولا يصلي المغرب إلى العشاء، ولا يصلي العشاء إلى الفجر، ولا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس، فمن مات وهو مصر على هذه الحالة، ولم يتُب وعده الله بغَيٍّ، وهو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه، وقال الله تعالى في آية أخرى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4، 5]؛ أي: غافلون عنها متهاونون بها، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: "هو تأخير الوقت"؛ أي: تأخير الصلاة عن وقتها سماهم مصلين، لكنهم لَما تهاونوا وأخَّروها عن وقتها، وعدهم بويل وهو شدة العذاب، وقيل: هو واد في جهنم لو سُيرت فيه جبال الدنيا، لذابت من شدة حره، وهو مسكن من يتهاون بالصلاة ويؤخرها عن وقتها، إلا أن يتوب إلى الله تعالى ويندم على ما فرَّط، وقال الله تعالى في آية أخرى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]. وقال صلى الله عليه وسلم: "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف عن بعض السلف أنه أتى أختًا له ماتت، فسقط كيس منه فيه مال في قبرها، فلم يشعر به أحد حتى انصرف عن قبرها، ثم ذكره فرجع إلى قبرها، فنبشه بعدما انصرف الناس، فوجد القبر يشعل عليها نارًا، فرد التراب عليها ورجع إلى أمه باكيًا حزينًا، فقال: يا أُمَّاه أخبريني عن أختي وما كانت تعمل، قالت: وما سؤالك عنها، قال: يا أمي رأيت قبرها يشتعل عليها نارًا، قال: فبكت وقالت: يا ولدي كانت أختك تتهاون بالصلاة وتؤخرها عن وقتها، فهذا حال من يؤخر الصلاة عن وقتها، فكيف حال من لا يصلي، فنسأل الله تعالى أن يعيننا على المحافظة عليها في أوقاتها، إنه جواد كريم. يا آكلًا للربا ماذا تقول لربك غدًا وأي عذر ستقدمه لربك غدًا؟ آكلَ الرِّبا مُحاربٌ لله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]، قال ابنُ عَبَّاسٍ: (يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلاحَكَ لِلْحَرْبِ)؛ رواه الطبري. توهِم نفسك وأنت واقفٌ بين يدي ملك الملوك وأنت حاربته في الدنيا بترك أمره وانتهاك نهيه، وأنت كنت في الدنيا حريصًا على جمع المال، ولم تعمل حسابًا لوقوفك بين يدي الكبير المتعال أن آكلَ الرِّبا يسبح في نهرٍ من دمٍ في البرزخ حتى تقوم الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا)؛ رواه البخاري. أن آكلَ الرِّبا يُبعثُ يوم القيامة مجنونًا يُخنق؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]. يا مانعًا للزكاة الم تسمع قول الله تعالى وهو يناديك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[البقرة: 254]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ البقرة: 267]. قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34-35]. يا من شغل بماله وولده عن ذكر الله ماذا تقول لربك غدًا؟ ﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11]. ومعنى الآية؛ أي: لا يشغلكم تدبير أموالكم والعناية بشؤون أولادكم عن القيام بحقوق ربكم وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظًّا من اهتمامكم وللآخرة مثله، وهذا ما عناه الحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11]. يا من ضيَّعت عمرك ماذا تقول لربك غدًا؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟))[1]. والله ما خلقنا لنضيع الأعمار، فإن جُلَّ الأمة الآن يقضي جُلَّ الليل أمام التلفاز ولا حول ولا قوة إلا باللـه العلي العظيم. يا من يمضي عمرك وأنت لا تدري، اعلَم أنك ستسأل عن هذه الساعات، ستسأل عن هذا العمر.. قيل لإبراهيم بن أدهم طيب اللـه ثراه: يا إبراهيم كيف وجدت الزهد في الدنيا؟! فقال إبراهيم: بثلاثة أشياء، قيل: وما هي؟! قال إبراهيم: رأيت القبر موحشًا وليس معي مؤنس، ورأيت الطريق طويلًا وليس معي زاد، ورأيت جبار السماوات والأرض قاضيًا وليس معي من يدافع عني. وهذا أخوه هارون الرشيد الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء، ويقول لها: أيتها السحابة في أي مكان شئت أمطري فسوف يحمل إلي خراجك إن شاء اللـه تعالى. لما نام على فراش الموت بكى هارون قال لإخوانه: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه!! فحملوه إلى قبره، فنظر هارون إلى قبره وبكى ورفع رأسه إلى السماء: وقال يا مَنْ لا يزول مُلكه ارحم من زال ملكه. ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون:115-116]. قال لقمان الحكيم لولده: أي بُنَيَّ إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تُقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها. [1] الترمذي: (4/ 529) (38) كتاب صفة القيامة (1) باب في القيامة رقم (2417). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس العشرون: أسباب سوء الخاتمة السيد مراد سلامة الحمد لله ربِّ العالمين إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، سبحانه سبحانه بهرت عظمته قلوب العارفين، وأظهرت بدائعه لنواظر المتأملين، نصب الجبال فأرساها، وأرسل الرياح فأجراها، ورفع السماء فأعلاها، وبسط الأرض فدحاها، الملائكة من خشيته مشفقون، والرسل من هيبته خائفون، والجبابرة لعظمته خاضعون، ﴿ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [الروم: 26]. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، القيوم الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ، لا مغيث غير الله، ولا مجير غير الله، ولا معين غير الله، ولا ناصر غير الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى الرحمة المهداة والنعمة المسداة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود الشفاعة العظمى، سيد الأولين والآخرين على الله ولا فخر. اللهم صلِّ عليه وسلم على أله وأصحابه الطيبين الأبرار الذين كانوا فيما بينهم رحماء، فرضي عنه رب الأرض والسماوات وعن التابعين وتابعين بإحسان إلي يوم الدين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران/102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 69-71]. أما بعد، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ - فِيْمَا يَرَى النَّاسُ - عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلْ فِيْمَا يَرَى الْنَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيْمِهَا»[1]. قال ابن بطال: وفي تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجيًا أعجب وكسل، وإن كان هالكًا ازداد عتوًّا، فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء[2]. لأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُ الصَّالِحِيْنَ مِنْ سُوَءِ الْخَاتِمَةِ شَدِيْدًا، يَقُوْلُ أَحَدُهُمْ: خَوْفُ الصَّالِحِيْنَ مِنْ سُوَءٍ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ كُلِّ خَطرَةٍ وَحَرَكَةٍ، وَيَقُوْلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا أَحَدٌ أَمِنَ عَلَى إِيْمَانِهِ أَلاَّ يُسْلَبَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلاَّ سُلِبَهُ، وَلَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ سُفْيَانَ الْثَّوْرِيَّ رحمه الله جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَمِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ؟ فَقَالَ: لاَ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الإِيْمَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ[3]. فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنة؛ قال ابن القيم رحمه الله: وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى[4]. قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي: ولسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابٌ ولها طرقٌ وأَبوابٌ، وأَعظمها الانكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها، والإِعراض عن الآخرة والإِقدام والجرأة على معاصي الله، وربما غلب على الإِنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية، وجانب من الإِعراض، ونصيب من الجرأة والإِقدام، فملك قلبه وسبى عقله، فربما جاءه الموت على ذلك، وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلَح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة[5]؛ اهـ. 1- فساد المعتقد والابتداع في دين الله: فإن من أعظم أسباب سوء الخاتمة أن يعتقد العبد اعتقادًا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون من أهل البدع والأهواء، فإن هؤلاء يتخطهم الشيطان في حياتهم وعند مماتهم؛ يقول الشيخ أحمد فريد حفظه الله: "فإن أهل البدع هم أكثر الناس شكًّا واضطرابًا عند الموت، وذلك لسوء معتقدهم وفساد قلوبهم، ومرضها بالشـبهات والشكوك، وقد يظهر لهم من معـاينة أمور الآخرة عند الموت ما يظهر فساد معتقدهم، وسوء منقلبهم فيدفعهم ذلك إلى اليأس والقنوط، فأهـل السنة هم أكثر الناس ثباتًا على أقوالهم ومعتقداتهم، فالثبات على الحق هو سيما أهل الحق، قال هرقل لأبي سفيان بن حرب سائلًا عن أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً له، قال: لا، قال كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فأهل السنة والجماعة هم أعظم الناس صبرًا وثباتًا على أقوالهم ومعتقداتهم، وأهل البدع أكثر الناس شكًّا واضطرابًا في الحياة وعند الممات؛ ا. هـ. وتأمل قول الباري - جل جلالة - وهو يبن خيبة وخسران أهل الشرك والأهواء والعصيان، فيقول: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]. يقول وهو يخبر عبادها بأحوال الخاسرين أعمالًا: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]". وتأمل أحوال أهل الاعتقاد الفساد عند الموت يخبرون بما صاروا إليه ونهاية سعيهم؛ حتى يكون عبرة، فهذا ابن الفارض - قبَّحه الله - الذي كان يعنق بالاتحاد، ويقول بحلول الله جل وعلا في مخلوقاته، وأن الرب عبد والعبد رب، عندما حضرته الوفاة يخبر بما هو صائر إليه ويعبر عن شقوته وخيبته وخسرانه، فيقول: إن كان منزلتي في الحب عندكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما قد رأيت فقد ضيَّعت أيامي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أمنية ظفرت نفسي بها زمانًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واليوم أحسبها أضغاث أحلام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif 2- ومن أسباب سوء الخاتمة مخالفة الباطن للظاهر: ومخالفة الظاهر للباطن من أعظم وأخطر الأمور التي تؤدي إلى سوء الخاتمة، إنه النفاق الذي هو سوس الأمة، فكم من إنسان إذا رأيته حسبته من الصالحين، ويحمل بين طيات جنبه كفرًا دفينًا وحقدًا وحسدًا على المخلصين؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. فقوله: فيما يبدو للناس يدل على أن باطنه خلاف ظاهرة، ولا يمكن أن تسوء خاتمة من صلح ظاهرة وباطنه، والله أعلم. قال الحافظ أبن الجوزي - رحمه الله - واسم الرجل قزمان، وكان قـد تخلف عن المسلمين يوم أحد، فعيَّره النساء، فخرج حتى صار في الصف الأول، فكان أول من رمي بسهم، ثم صار إلى السيف ففعل العجائب، فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه، وجعل يقول: أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان، فقال له هنيئًا لك بالشهادة، فقال: والله ما قاتلت على دين، وإنما قاتلت على حسب قومي، ثم أقلقته الجراحة، فقتل نفسه. 3- ومنها الذنوب والمعاصي: فالمعاصي بريد الكفر؛ قال ابن القيم - رحمه الله - ومن عقوباتها - يعني الذنوب والمعاصي - أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه وميعاده، إلى أن قال: هذا وثم أمر أخوف من ذلك أدهى منه وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثير من المحتضرين أصابَهم ذلك حتى قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فقال آه آه لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: "شاه رخ" اسم لأحجار الشطرنج، غلبتُك، ثم قَضَى، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يومًا وقد لغبت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كيف الطريق إلى حمام منجاب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تنتنا حتى مات. وقيل لآخر: ذلك، فقال: ما ينفعني ما تقول ولم أدَع معصية إلا ركبتها؛ وقيل لآخر: ذلك، فقال: ما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة ولم يقلها، وقيل لآخر: ذلك، فقال: أنا كافر بما تقول ولم يلقها وقضى، وقيل لآخر: ذلك، فقال: أردت أن أقولها ولساني يمسك عنها[6]. وتلك هي سنة الله أن من عاش على شيء مات عليه؛ يقول الإمام الذهبي - رحمه الله - ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجالسهم، فاحتضر رجل ممن كان يلعب الشطرنج فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: شاهك ثم مات، فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد شاهك، وهذا كما جاء في إنسان آخر ممن كان يجالس شرَّاب الخمر أنه حين حضرة المـوت، فجاءه إنسان يلقنه الشهادة، فقال له: اشرب اسقيني، ثم مات ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وهذا كما جاء في حديث مروي: "يموت كل إنسان على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه"[7]. 4- التسويف بالتوبة والعمل الصالح: فإن من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله أن يسوف الإنسان بالتوبة، إذا قيل له تُب عما أنت عليه، يقول سأتوب بعد حين، وإذا قيل له صلِّ، يقول سوف أصلي، فالسين وسوف جند من جند إبليس يغري بهما ما يشاء من أوليائه؛ يقول ابن رجب في كتابه القيم "لطائف المعارف": اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة، فإنه لا يقطـع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس الحياة، أفاق من سكراته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ علي تفريط ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا يتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذَّر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزول بالتوبة والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 54 - 56]. سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: "يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله"، وقال آخر عند موته: لا تغرنَّكم الحياة الدنيا كما غرتني، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. وقال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10]. وقال تعالى: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ﴾ [سبأ: 54]، "وفسر طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بأنهم طلبوا التوبة حين حال بينهم وبينها. وقال الحسن: اتق الله، ابن آدم لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت، وحسرة الفوت. وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة أن يفاجئك الموت وأنت على الغرة، فلا يصف واصف قدرَ ما تلقى ولا قدر ما ترى[8]. [1] صحيح البخاري برقم (6493)، وصحيح مسلم برقم (2651) واللفظ للبخاري. [2] فتح الباري (11/ 330). [3] مختصر منهاج القاصدين (ص: 391). [4] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 148). [5] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 146، 148). [6] الداء والدواء ص 141 / 143. [7] الكبائر للذهبي 76-77، والحديث " روي مسلم بلفظ آخر " يبعث كل عبد علي ما مات عليه. [8] لطائف المعارف ص 353-354. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الحادي والعشرون: عقوبات أكل الميراث السيد مراد سلامة الحمد لله لم يزل عليًّا، ولم يزل في علاه سميًّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليًّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًّا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولًا بهيًّا، ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63]. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. اللهم لا تعذِّب جمعًا التقى فيك ولك، ولا تعذب ألسنًا تُخبر عنك، ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم. أمة الإسلام، إن الأمر ليس باليسير، فبعض الناس يظنه هينًا وهو عند الله تعالى عسير، فيا آكِلَ الميراث، اسمع إن كان لك قلب تلك العقوبات التي توعَّدك بها ربُّ الأرض والسماوات. أولًا: أنه متعدٍّ لحدود الله: اعلم - هداني الله تعالى وإياك - أن أكلك للميراث فيه تعدٍّ لحدود الله تعالى، وانتهاك لحرماته فالله سبحانه بعد أن بين الأنصبة؛ قال: ﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾، ولا تُجاوزوها، ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي: فيها، فلم يزِد بعض الورثة، ولَم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل ترَكهم على حُكم الله وفريضته وقِسمته، ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]؛ أي: لكونه غيَّر ما حكَم الله به، وضادَّ الله في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحَكَم به، ولهذا يُجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المُقيم. ولا شك أن من منع امرأة - أختًا كانت، أم أمًّا، أم جدة أم زوجة - ميراثها، فقد تعدى حدود الله، وتعرَّض لعقوبته، والله قد قسَّم الميراث قسمة عدلٍ لا جور فيها ولا حيف؛ أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوْصَى حافَ في وصيَّته، فيُختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيَعدل في وصيَّته، فيُختم له بخير عمله، فيدخل الجنة))، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾[1]. ثانيًا: أنه آكل حق الضعيفين: ونقولُ لهؤلاء الذين فرَّقوا دينهم، وطبَّقوا آية وعطَّلوا أخرى، وصلَّوا ثم ظلموا، وزكَّوا ثم بَخِلوا، وصاموا ثم تركوا، وحجُّوا ثم ختموا حياتَهم بحجة إلى الشيطان: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)[2]. ثالثًا: أنه قاطع لأرحامه: فالله تعالى يجازي أهل الصلة بالصلة في الدنيا والآخرة، ويجازي أهل القطيعة بالقطية في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل؛ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا من ذَنْب أَجْدَر أَن يعجل لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخرة مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ"[3]. يعني: أنه تحصُل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية؛ حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عِظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم. الحجب والحرمان من دخول الجنان: فالجنة هي صلة الله التي جعلها لأهل كرامته ولأهل طاعته، فإذا قطَع المسلم رحمه حجبه الله من جنته؛ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»؛ يعني قاطع رحم (مسلم)، ولفظ أبي داود: ((لا يدخل الجنة قاطعُ رحمٍ)[4]. وفي معنى هذا الحديث قولان: • أنه لا يدخلها من أول وهلة؛ أي: إنه يتأخر في دخول الجنة، وأنه يدخل النار ويعذَّب بها، ولكنه إذا دخل النار لا يستمر فيها أبدًا، بل لابد أن يخرج منها، وأن يدخل الجنة ما دام أنه مرتكبٌ لكبيرة فقط، ولا يُمنع من دخول الجنة أبدًا إلا الكفار الذين هم أهل النار، فلا سبيل لهم إلى الخروج منها أبدًا. • أنه لا يدخلها أبدًا إذا كان مستحلًّا؛ لأن استحلال الذنب كفرٌ، فيكون ذلك مانعًا من دخول الجنة أبدًا؛ لأنه يكون بذلك كافرًا، والكافر لا يخرج من النار ولا يدخل الجنة أبدًا. صلة الله للواصل وقطعه للقاطع والطرد من رحمته: عَنْ أبِي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الرَّحِمَ شُجْنة من الرَّحْمَنِ، فقال الله: من وَصَلكِ وصلتُه، ومن قَطَعَكِ قطعتُه»، وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن اللهَ خَلَقَ الخلق، حتى إِذا فَرَغَ منهم قامَتِ الرَّحِمُ، فأخذت بحَقْوِ الرحمن، فقال: مَهْ؟ قالت: هذا مقامُ العائِذ [بكَ] من القطيعة، قال: نعم، أَمَا تَرضينَ أن أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قالت: بلى، قال: فذلك لكِ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إِن شئتم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَأصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ، أَمْ على قُلُوب أقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 23، 24]»[5]. فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل مَن وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقرباءه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه، ولا يقطع رحمه، فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي، ولكنه يصل رحمه، فإن الله تعالى قد يغفر له؛ لأن صلة الرحم عظيمة جدًّا؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد:22 -23]. فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم، أصمَّ الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم. رابعًا: الإفلاس يوم القيامة: يا آكلًا للميراث، لا تظُنَّ أن ذلك فيه الغنى، كلا بل فيه الإفلاس، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]. توهَّم نفسك وقد بُعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، وقد أُوتيتَ بصلاة وزكاة وصوم وحج، ولكنك قد أكلت المواريث، انظر إلى نفسك في عرصات يوم القيامة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شتم هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طرح في النار"[6]. خامسًا: الإثم الكبير: اعلم علَّمني الله وإياك: أن التعدي على المواريث جُرمٌ عظيم وإثم مبين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2]. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثمٌ عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه. سادسًا: أكلة الميراث أكلة النار: أيها الأحباب، الذين يأكلون الميراث هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. إن اليتامى مَظنة أن يُبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلمًا هو بخسُهم حظَّهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم، سماه الله تعالى أكلًا؛ لما فيه من معنى الأخذ، وأن يَقصِد به تنميةَ ماله كما ينمِّي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مالها البوار، "ومن نبت لحمه من حرام فالنار أَولى به"، وقال سبحانه: (ظُلْمًا) لكمال التشنيع على الأكل؛ إذ هم يظلمون ضعيفًا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْكلُونَ في بُطُونِهِمْ ﴾، وهذا تصويرٌ لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه؛ أي: يملأ بطنه بها، فهو في ألَمٍ دائم حتى يهلك، وكذلك دائمًا من يأكلون أموال اليتامى لَا يأكلون أكلًا هنيئًا ولا مريئًا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتًا خرِبت؛ لأنها أكلت مال اليتيم، وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة، فقال: ﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾؛ أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. قال القاسمي رحمه الله: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى، وكثرة عفوه وفضله؛ لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. سابعًا: الفضيحة يوم القيامة: ألا فلتعلم أن ما أكلتَ من حق أختك - من مال وعقار - ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتها جنيهًا سيأتي عليك نارًا، ولو ظلمتها شبرًا من أرضِ، فسيأتي حول عنقك يومَ القيامة نارًا من سبع أرضين، قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"[7]. وهذا الحديثُ له قصةٌ عجيبة في صحيح مسلم، وذلك أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة -: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ"، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا! فَقَالَ سَعِيدُ بْن زَيْدٍ ـ رضي الله عنه ـ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً؛ فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا! قال بعض الرواة: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ)[8]؛ أخرجه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "َخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ"[9]. ثامنًا: أن أكل الميراث يدخل في السبع الموبقات: قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ"!، "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)[10]. روائع من تاريخ المرأة المسلمة: ونختم خطبتنا بروائع من تاريخ أمتنا تبيِّن العدل وتُبرز الخوف من الله تعالى، وهذه القصص هي لنسوة عرفنَ الله تعالى وقالوا: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]. القصة الأولى: استَمِع لهذه القصة، ومُلَخَّصها أنَّ رجلًا كان ببغداد يعمل بزَّازًا - يَبيع البزَّ؛ أي: الثياب؛ يعني: قمَّاش - له ثروة، فبينا هو في حانوته، أقْبَلَت إليه صبيَّة، فالْتَمَست منه شيئًا تَشتريه، فبينما هي تُحادثه، كشَفَت وجهها في خلال ذلك، فتحيَّر، وقال: قد والله تحيَّرت مما رأيت، فقالت: ما جِئْت لأشتري شيئًا، إنما لي أيَّام أتردَّد إلى السوق؛ ليقع بقلبي رجلٌ أتزوَّجه، وقد وقَعْت أنت بقلبي ولي مالٌ، فهل لكَ في التزوُّج بي؟ فقال لها: لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهَدتها ألاَّ أُغَيِّرها، ولي منها ولد، فقالت: قد رَضِيت أن تَجِئ إليّ في الأسبوع نوبتين، فرَضِي، وقام معها فعَقَد العقد، ومضى إلى منزلها، فدخَل بها، ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: إنَّ بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده، ومضى فبات عندها، وكان يمضي كلَّ يوم بعد الظهر إليها، فبَقِي على هذا ثمانية أشهر، فأنْكَرَت ابنه عمه أحوالَه، فقالت لجارية لها: إذا خرَج، فانظري أين يمضي؟ فتَبِعتْه الجارية وهو لا يدري، إلى أن دخل بيت تلك المرأة، فجاءَت الجارية إلى الجيران، فسألتْهم: لِمَن هذه الدار؟ فقالوا لصبيَّة قد تزوَّجت برجلٍ تاجر بزَّاز، فعادَت إلى سيدتها، فأَخْبَرَتْها فقالت لها: إيَّاكِ أن يعلمَ بهذا أحد، ولَم تُظهر لزوجها شيئًا، فأقام الرجل تمام السنة، ثم مَرِض ومات، وخلَّف ثمانية آلاف دينار، فعَمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقُّه الولد من التركة - وهو سبعة آلاف دينار - فأفْرَدَتْها، وقَسَمت الألف الباقية نصفين، وتَرَكت النصف في كيس، وقالت للجارية: خذي هذا الكيس واذْهَبي إلى بيت المرأة، وأعْلِميها أنَّ الرجل مات وقد خلَّف ثمانية آلاف دينار، وقد أخَذ الابن سبعة آلاف بحقِّه، وبَقِيَتْ ألف، فقَسَمتُها بيني وبينك، وهذا حقُّك، وسَلِّميه إليها، فمَضَت الجارية، فطَرَقت عليها الباب ودخَلت، وأَخْبَرَتها خبرَ الرجل، وحَدَّثتها بموته، وأَعْلَمتها الحال، فبَكَت وفتَحَت صندوقها، وأخْرَجَت منه رقعة، وقالت للجارية: عودي إلى سيِّدتك، وسَلِّمي عليها عني، وأَعْلميها أنَّ الرجل طَلَّقني، وكتَب لي براءة، ورُدِّي عليها هذا المال؛ فإني ما أستحقُّ في تَرِكته شيئًا، فرَجَعت الجارية، فأَخْبَرَتها بهذا الحديث[11]. القصة الثانية: ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها - وهي تعجن - موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء[12]؛ أي: إن مال الرجل إذا توفِّي انتقل وصار ملكًا لورثته الشرعيين، فلم يُصبح لها وحدها، فلذلك رفَعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. القصة الثالثة: وأخرى كانت تستصبح بمصباح - يعني: بالزيت أو شيء من هذا - فجاءها خبرُ زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء[13]؛ يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به. فيا ويل من يأكلون أموال الميراث! وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلمًا، ويتلفون أموالهم في أشياء حرَّم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر. [1] أخرجه أحمد (2 /278، رقم 7728)، وابن ماجه (2 /902، رقم 2704) (ضعيف) انظر حديث رقم: 1458 في ضعيف الجامع. [2] أخرجه ابن ماجه (2 /1213، رقم 3678)، قال البوصيري (4 /103): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم "الصحيحة" برقم (1015). [3] أخرجه أحمد (5 /36) والبخاري في الأدب المفرد (29)، وأبو داود (4902)، وابن ماجه (4211) والترمذي (2511) الصحيحة 915، 978. [4] رواه البخاري 10 / 347 في الأدب، باب إثم القاطع، ومسلم رقم (2556) في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، وأبو داود رقم (1696) في الزكاة، باب صلة الرحم. [5] أخرجه أحمد (2 /330، رقم 8349)، والبخاري (5 /2232، رقم 5641) ، ومسلم (4 /1980، رقم 2554). [6] أخرجه أحمد (1 /38) (3626) والبخاري في الأدب المفرد (154 و155). ومسلم (8 /30). [7] أخرجه أحمد (6 /64، رقم 24398)، والبخاري (3 /1167، رقم 3023)، ومسلم (3 /1231، رقم 1612). [8] أخرجه أحمد 1 /188(1633) والبخاري" 4/130 (3198) و"مسلم" 5/58 (4141). [9] أخرجه أحمد (2 /361 رقم 8722) صحيح الترغيب والترهيب (2/ 59) (حسن لغيره). [10] أخرجه البخاري (3 /1017، رقم 2615)، ومسلم (1 /92، رقم 89). [11] صفة الصفوة (2/ 533). [12] صفة الصفوة (4/ 439). [13] صفة الصفوة (4/ 440). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثاني والعشرون: علاج قسوة القلب: السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والكمال، وجلَّ عن الأشباه والأشكال، ودل على معرفة فزال الإشكال، وأذلَّ مَن اعتزَّ بغيره غاية الإذلال، وتفضَّل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه وهو الخالق الفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن الكبير المتعال، لا يحويه الفكر ولا يحدُّه الحصر، ولا يدركه الوهم والخيال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيَّده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، ورفعه إلى المقام الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وخلع الجمال. أخي المسلم، بعدما رأينا أحوال السلف في التأثر بذلك المشهد مشهد الجنازة، نأتي إلى سؤال ما هو علاج تلك القسوة؟ وكيف نخرج من تلك الغلفة؟ الجواب بحول الملك الوهاب: إن رقة قلب وغزارة دمعة منةٌ وعطية نعمة من نعم الله تعالى، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر:22]. المعرفة بالله تعالى: اعلم أن مَن تعرَّف على الله تعالى حق المعرفة، رقَّ قلبه ودمِعت عيناه من خشية ربه ومولاه؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. يقول ابن كثير رحمه الله: أي: إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفين به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كانت المعرفة به أتَمَّ والعلم به أكملَ، كانت الخشية له أعظم وأكثر؛ عن أبي حيان [التميمي] عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل[1]. تذكر الموت وما بعده: ومما يعين على التأثر والخشية والإنابة أن تُكثر من تذكُّر الموت وأنه أقرب إليك، فلا تدري متى يأتيك. زيارة القبور والتفكر في حال أهلها: واعلموا أن العبرة من زيارة القبور أخذُ العظة والعبر من المقبور، وأن يدرك المرء أنه إلى الله تعالى راجعٌ وإن هذا هو مسكنه، كان لبعض العصاة أمٌّ تعظه ولا ينثني، فمر يومًا بالمقابر، فرأى عظمًا نخرًا فمسَّه، فانفتَّ في يده، فأنِفت نفسه، فقال لنفسه: أنا غدًا هكذا، فعزم على التوبة، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يا إلهي، اقبلني وارحمني، ثم رجع إلى أمه حزينًا، فقال: يا أماه، ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده، فقالت: يَغُلُّ قدميه ويديه، ويُخشن ملبسه ومطعمه، قال: يا أماه، أُريد جبة من صوف وأقراصًا من شعير، وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت به ما طلب، فكان إذا جن عليه الليل، أخذ في البكاء والعويل، فقالت له أمُّه ليلةً: يا بني، ارفق بنفسك، فقال: يا أماه، إن لي موقفًا طويلًا بين يدي رب جليل، فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل، أو إلى شر مقيل، إني أخاف عناءً لا راحة بعده أبدًا، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: فاسترح قليلًا، فقال الراحةَ أطلُب يا أماه، كأنك بالخلائق غدًا يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار، فمرت به ليلة في تهجُّده هذه الآية: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الحجر: 92، 93]. فتفكر فيها وبكى واضطرب وغُشي عليه، فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها، فقالت له: قرة عيني، أين الملتقى، فقال بصوت ضعيف: إن لم تجديني في عرصة القيامة، فسلي مالكًا عني، ثم شهق شهقة، فمات رحمه الله، فخرجت أمه تنادي أيها الناس هلمُّوا إلى الصلاة على قتيل النار، فلم يُر أكثرُ جمعًا ولا أغزرُ دمعًا من ذلك اليوم[2]. تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها: ومما يُعينك على إذابة قسوة القلب أن تتفكَّر في ذلك اليوم الرهيب الذي يفر المرء فيه من أبيه وأمه وأخيه، أن تتفكر وأن تتوهم أنك موقوف بين يدي الله تعالى، وأنه سيحاسبك على أعمالك وأقوالك، وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء، قد علِمت، فكيف عملت فيما علمت؟ وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لَما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتُم إلى الصعدات تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددتُ أني شجرة تُعضد ثم تؤكل. وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد، ووددت أني لم أُخلق وعُرضت عليه النفقة، فقال: ما عندنا عنز نحلبها وحمر ننقل عليها، ومحرر يخدمنا، وفضل عباءة، وإني أخاف الحساب فيها. عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رعتَ أهلك، أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل، قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، قال فبكى أبو حازم أيضًا معه، واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتُفرج عنه، فزدتَه، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما[3]. كان يزيد الرُّقاشي رحمه الله يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه والقبر بيته والتراب فراشه والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيًّا عليه[4]. قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رحمه الله: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي، إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام، لكنت حريًّا ألا تجف لي عين، قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، فقال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي، فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكاني، ولربما أضجَرَ ذلك امرأتي، فتقول يا ويحها: ما خصصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين[5]. مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها: ومما يجعلك تتأثر ويجعل قبلك يلين وعينك تدمع: المحاسبة؛ أي: أن تحاسب نفسك على أعمالك وأقوالك قبل أن تحاسب عليها يوم القيامة؛ قال خويل بن محمد: "كأن خويلًا قد وُقف للحساب، فقيل له: يا خويل بن محمد، قد عمَّرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟ فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار، وإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي، فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها، ثم نظرت في صلاتي، فإذا صلاة منقوصة وصومٌ منخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة". قال إبراهيم التيمي: "مثَّلت نفسي في الجنة آكُل ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار آكُل من زقومها، وأشرَب من صديدها، وأُعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعمَل صالحًا فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي"[6]. [1] تفسير ابن كثير-ط دار طيبة (6/ 544) [2] التبصرة لابن الجوزي (1/ 18). [3] حلية الأولياء (3/ 146). [4] التذكرة للقرطبي ص (124). [5] حلية الأولياء، 5/ 164. [6] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 26). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثالث والعشرون: لماذا يتمنى الميت الصدقة؟ السيد مراد سلامة أحبَّتي في الله، لقد كشف للميت الغطاء، ورأى عظمَ الجزاء، رأى ثمرات تورث صاحبها جنة تجري من تحتها الأنهار، هيَّا لنرى ما رأى: أولًا: أنها تطفئ غضب الله سبحانه وتعالى؛ كما في عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -: "الصَّدَقَةُ تطفئ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ"[1]. ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة، وتُذهب نارها؛ كما في قوله عَنْ جَابِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا كَعْب أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمَرَاءُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يرد عَليّ الْحَوْض وَمن لم يدْخل عَلَيْهِم وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلاةُ قُرْبَانٌ وَالصَّوْمُ جنَّة وَالصَّدَقَة تطفئ الْخَطِيئَة كَمَا يطفئ الْمَاءُ النَّارَ، وَالنَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقٌ رقبته أَو موبقها، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجنَّة لحم نبت من سحت"[2]. ثالثًا: أنها وقاية من النار؛ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، وَقَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[3]. رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يومالقيامة؛ عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "كلُّ امْرِئ فِي ظِلِّ صَدقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ"، قَالَ يَزِيدُ: فَكَانَ أبو الْخَيْرِ مَرْثَدٌ لا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إلاَّ تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيءٍ، وَلَوْ كَعْكَة، أوْ بَصَلَةً"[4]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"[5]. خامسًا: أن في الصدقة دواءً للأمراض البدنية؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ"[6]. يقول ابن شقيق: (سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن تنبُع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ)[7]. سادسًا: أن الله يضاعف للمتصدق أجره؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد:18]، وقوله سبحانه: ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة:245]. سابعا: أن صاحبها يُدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ"، قَالَ أبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»؛ هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. ثامنًا: أن العبد إنما يصل حقيقة البر بالصدقة؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران:92]. تاسعًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ﴾[البقرة:272]؛ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟»، قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا، قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»[8]. عاشرًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء؛ كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل: عن الحَارِثَ الأَشْعَرِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، فقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا - وذكر منها - وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ[9]. فالصدقة لها تأثيرٌ عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به؛ لأنهم قد جربوه. الحادي عشر: أن المنفق يدعو له الملك كل يوم بخلاف الممسك؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا [في الصحيحين]. الثاني عشر: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله؛ كما أخبر النبيصلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"[10]. الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد - إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[11]. [1] (أخرجه الترمذي "664 صحيح بمجموع طرقه وشواهده ). [2] أخرجه أحمد (3/ 321 ، رقم 14481). [3] أخرجه البخاري (6539)، ومسلم (1016). [4] أخرجه أبو يعلى 3/ 300 - 301 [5] أخرجه : البخاري 2/ 138 ( 1423 ) ، ومسلم 3/ 93 ( 1031 ) ( 91 ) . [6] صَحِيح الْجَامِع: 3358 , صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب:744 [7] السير للذهبي (8/ 407). [8] أخرجه الترمذي (4/ 644، رقم 2470) انظر الصَّحِيحَة: 2544 [9] صَحِيح الْجَامِع: 1724, صحيح الترغيب والترهيب: 552. [10] أخرجه مسلم 8/ 21 ( 2588 ) ( 69 ). [11] أخرَّجه البخاري في «الأدب المفرد» (515) ومسلم (3/ 92) و(7/ 110). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الرابع والعشرون: التحذير من اللامبالاة بالكلمة وأثرها السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد بجلال ملكوته، وتوحَّد بجمال جبروته، وتعزَّز بعُلوِّ أحديته، وتقدَّس بسُموِّ صمديته، وتكبَّر في ذاته عن مضارعة كل نظيرٍ، وتنزَّه في صفائه عن كل تناهٍ وقصورٍ، له الصفات المختصة بحقِّه، والآيات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده. يا واحد في ملكه أنت الأحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولقد علِمت بأنك الفرد الصمدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا أنت مولودٌ ولست بوالدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كلا ولا لك في الورى كفوًا أحدُhttps://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. اعلم - علمني الله وإياك -: أن الكلمة شأنها خطير وضررها عظيم، فهي مفتاح كل خير، أو مفتاح كل شر، وبها ينال العبد الرضا والرضوان، أو ينال السخط والخيبة والخسران، فكم من كلمة رفَعت صاحبها إلى عنان السماء، ونال بها الرفعة في الدنيا والآخرة، وكم من كلمة أورثت صاحبها الذل والمهانة، ولذا قيل: احفظ لسانك أيها الإنسان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا يلدغنَّك إنه ثعبان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم في المقابر من قتيل لسانه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كانت تهاب لقائه الشجعانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهيَّا لنقف مع ابن القيم - رحمه الله - وهو يوضح لنا خطورة الكلمة يقول - رحمه الله -: وأما اللفظات فحفظُها بألا يُخرِجَ لفظةً ضائعةً، بل لا يتكلَّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر هل فيها ربح وفائدة أم لا، فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها، فلا يضيِّعها بهذه. وإذا أردت أن تستدلَّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه بحركة اللسان، فإنه يُطلِعُ ما في القلب شاء صاحبه أم أبى. قال يحيي بن معاذ:القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر الرجل حين يتكلَّم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه: حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبيِّن لك طعم قلبه اغترافُ لسانه؛ أي: كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك، وفي حديث أنس المرفوع: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[1]. سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ "»[2]. وقد سأل معاذ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يُدخله الجنة ويباعده من النار، فأخبره برأسه، وعموده، وذروة سنامه، ثم قال: ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ:» اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَإِنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»[3]. ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة، وشرب الخمر ومن النظر المحرَّم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلَّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلُّ بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب! وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول[4]. ويقول النووي - رحمه الله -: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يَعدِلها شيء؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[5]. وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حفظ اللسان مع حفظ الفرج جوازًا إلى الجنة، ونجاة من النار، فمن ضمن اللسان والفرج ضمِن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»[6]. قال الحافظ: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرْجه من وضعه في الحلال، وكفه عن الحرام، وقوله: (لحييه)، هما العظمان في جانبي الفم، والمراد بما بينهما اللسان، وما يتأتَّى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج»[7]. وفي بيان أن اللسان قائد الأعضاء في الاستقامة والاعوجاج، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[8]. تكفير الأعضاء للسان كناية عن تنزيل اللسان منزلة الكافر بالنعم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم اللسان أخوفَ ما يُخاف؛ عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: " قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا»[9]. خوف السلف من اللامبالاة بالكلمة: هيَّا لنقف مع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وكيف أنهم كانوا يخافون من خطورة الكلمة واللامبالاة بها: • أبو بكر الصديق - رضي الله عنه روى عمر - رضي الله عنه- «أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبِّذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، قال أبو بكر هذا الذي أوردني الموارد». • عبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن، عن سعيد الجريري عن رجل قال: رأيت ابن عباس آخذًا بثمرة لسانه وهو يقول: «ويحك قل خيرًا تغنَم، واسكُت عن شر تسلَم»، فقال له رجل: يا أبا عباس، ما لي أراك آخذًا بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟ قال: «إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه». • عبد الله بن أبي زكريا - رحمه الله - قال: «عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة، قل أن أقدِر منه على ما أريد، قال: وكان لا يدع يغتاب في مجلسه، أحد يقول: إن ذكرتُم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم». • عبد الله بن وهب - رحمه الله - قال: «نذرتُ أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويتُ أني كلما اغتبتُ إنسانًا أن أتصدَّق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة». • قال الإمام النووي - رحمه الله - في الأذكار: بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي: قال: حفظ اللسان». • قال سفيان الثوري - رحمه الله - لأصحابه: «قال أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء، قالوا لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل». كأن رقيبًا منك يرعى خواطري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وآخر يرعي ناظري ولساني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَمَا رمقت عيناي بعدك منظرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يسوؤك إلا قُلْت: قَدْ رقاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا بدرت من فِي دونك لفظة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لغيرك إلا قُلْت: قَدْ سماني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا خطرت فِي السر بعدك خطرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لغيرك إلا عرجًا بعناني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإخوان صدق قَدْ سئمت حَدِيثهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأمسكت عَنْهُم ناظري ولساني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَمَا الزهد أسلي عَنْهُم غَيْر أنني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجدتُك مشهودي بكل مكان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما ظنُّك بمن يحصي جميع كلماتك، ويضبط كل حركاتك، ويشهد عليك بحسناتك ترفع الصحائف وهي سود وعمل المنافق مردود، يحضره الملكان لدى المعبود، يا شر العبيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]. يضبطان على العبد ما يجري من حركاته، وما يكون من نظراته وكلماته واختلاف أموره وحالاته، لا ينقص ولا يزيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]. قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾؛ أي: ما يتكلم من كلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه رقيب عتيد؛ أي: حافظ وهو الملك الموكل به، والعتيد الحاضر معه أينما كان. سجعٌ على قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾، يا كثير الكلام حسابك شديد، يا عظيم الإجرام عذابك جديد، يا مؤثرًا ما يضرُّه ما رأيك سديد، يا ناطقًا بما لا يجدي ولا يفيد، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]. كلامك مكتوب وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب، فما أقسى قلبك من بين القلوب، وقد أتاه ما يصدع الحديد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾[10]. [1] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (9)، وفي "مكارم الأخلاق" (342)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (887). [2] أخرجه الترمذي "2004" في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق. [3] أخرجه ابن ماجه (3973)، والترمذي (2616). [4] الداء والدواء (ص 204/205)؟ [5] أخرجه البخاري في "صحيحه" (6019)، (6476). [6] أخرجه البخاري [1609، 6422]، والترمذي [2408]، وأحمد [5/ 333]. [7] فتح الباري لابن حجر (11/ 309). [8] أخرجه الترمذي في "الزهد" باب "6": ما جاء في حفظ اللسان. [9] شأن الكلمة في الإسلام (ص 16-18) وأخرجه الترمذي (2410)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (7)، وابن حبان (5699)، والبيهقي في "الشعب" (4920). [10] التبصرة (ص:617). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الخامس والعشرون: موانع قبول العمل العشر السيد مراد سلامة الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدِّر الأقدار، مصرِّف الأمور مكوِّر الليل على النهار، تبصرة لأولى القلوب والأبصار، الذي أيقظ من خلقه مَن اصطفاه، فأدخله في جملة الأخيار، ووفَّق من اختار من عبيده، فجعله من الأبرار، وبصَّر مَن أحبَّه للحقائق فزهِدوا في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار، واجتناب ما يسخطه والحذر من عذاب النار. وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارًا بوحدانيته، واعترافًا بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته. يا رب إن ذنوبي في الورى كثُرت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وليس لي عمل في الحشر ينجيني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد أتيتك بالتوحيد يصحبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حبُّ النبي وذاك القدر يكفيني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.... أما بعد: فحياكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. حديثنا اليوم عن أمر خطير ألا وهو موانع قبول الأعمال، فهناك موانع كثيرة أذكر منها في هذا اليوم عشرة، فأعيروني القلوب والأسماع. المانع الأول: ألا يكون صاحب العمل مؤمنًا بالله عز وجل: معاشر الموحدين، هذا هو المانع الذي يقبل لصاحبه عمل، فلو تقرب العبد إلى الله عز وجل بقربات كثيرة من صلاة وصيام وغيرها، وهو مشرك بالله عز وجل الشرك الأكبر، وذلك بصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فإنه بذلك لا ينتفع بأي عمل صالح عند الله عز وجل؛ لأن توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله، يُعَدُّ الشرطَ الأعظم في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال، وبدون ذلك تُحبط جميع الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام:88]. قال: محمد رشيد- رحمه الله -: أَيْ وَلَوْ فُرِضَ أَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أُولَئِكَ الْمَهْدِيُّونَ الْمُجْتَبَوْنَ، لَحَبِطَ - أَيْ بَطَلَ - وَسَقَطَ عَنْهُمْ ثَوَابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِزَوَالِ أَفْضَلِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَسَاسُ لِمَا رُفِعَ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْمُزَكِّي لِلْأَنْفُسِ، كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ مُنْتَهَى النَّقْصِ وَالْفَسَادِ الْمُدَسِّي لَهَا، وَالْمُفْسِدِ لِفِطْرَتِهَا، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَأْثِيرٌ نَافِعٌ لِعَمَلٍ آخَرَ فِيهَا - يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَجَاتُهَا وَفَلَاحُهَا[1]. وقوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ [الأنبياء:94]. إن الشرك بالله تعالى من أخطر الأعمال التي تُقصي العبد عن رحمة الكبير المتعال، وتجعل الأعمال كسراب يحسبه الظمآن ماءً؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]. المانع الثاني: إرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة: أمة الإسلام، قد يكون العبد مؤمنًا بالله تعالى، ولكنه يقع في الشرك الخفي، ألا وهو الرياء من حيث لا يشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا منه، وأخبرنا أنه أخفى من دبيب النمل؛ كما في حديث أبي علي - رجلٍ من بني كاهلٍ - قال: خطبَنا أبو موسى الأشعريُّ، فقال: يا أيها الناسُ، اتَّقوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ، فقام إليه عبدُ الله بن حَزَن وقيسُ بن المُضارِب فقالا: والله لَتخْرُجَنَّ مما قلتَ، أو لنأتينَّ عُمَرَ مأذونًا لنا أو غيرَ مأذونٍ، فقال: بل أخرجُ مما قُلتُ، خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، فقال: "يا أيها الناسُ، اتّقُوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النَّملِ"، فقال له من شاءَ اللهُ أن يقولَ: وكيف نَتَّقيه وهو أخفى من دبيبِ النملِ يا رسول الله، قال: "قولوا: اللهمَّ إنّا نَعوذُ بك من أنْ نُشركَ بك شيئًا نَعلمُه، ونستغفرُكَ لما لا نعلمُه"[2]. ذلك هو محض الرياء والسعي وراء الشهرة والأنا، وهذا مانع كبير يحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة، وهذا يكثُر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم شهرة أو منصبًا أو مالًا، أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية، فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ [هود: 15]. قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يُظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله: أُوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. وهكذا روي عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد. وقال أنس بن مالك، والحسن: نزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء. وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وَسَدَمه[3]، وطَلِبَته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها جزاءً، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا[4]. وها هم بين يدي الله تعالى؛ ليحاسبهم على أعمالهم وليجازيهم على نياتهم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِيُّ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ هُوَ عَالِمٌ، فَقَدْ قِيلَ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَّادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ"[5]. عبدِ الله بنِ عمرٍو قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: ((إنْ قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإنْ قاتلتَ مُرائيًا مُكاثرًا، بعثَك الله مُرائيًا مُكاثرًا، على أيِّ حالٍ قَاتَلْتَ أو قُتِلْتَ، بعثكَ الله على تِيك الحالِ))[6]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (يقولُ الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك، مَنْ عَمِل عملًا أشركَ فيه معي غيري، تركته وشريكَه)[7]، وخرَّجه ابنُ ماجه، ولفظه: ((فأنا منه بريءٌ، وهوَ للَّذي أشركَ))[8]. وخرَّج الإمام أحمد عن شدَّاد بن أوسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ صَلَّى يُرائِي، فقد أشرَكَ، ومنْ صَامَ يُرائِي فقد أشرَكَ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي فقد أشرك، وإنَّ الله - عز وجل - يقولُ: أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئًا، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الذي أشركَ به، أنا عنه غنيٌّ))[9]. المانع الثالث: أن يكون سعيه وعمله مخالفًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: أحبيتي في الله، اعلموا أن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير مبتدع ولا مبدِّلٍ، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء؛ حيث قال: ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ [الإسراء: 19]؛ أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عن العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عز وجل؛ عن عَائِشَةَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَأَمْرُهُ رَدٌّ"[10]. ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذَن به سبحانه، أو يُشرِّعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن التفريط في ذلك يضيِّع على العبد سعيه وعمله، ولو كان صاحبه مخلصًا لله فيه مريدًا منه الدار الآخرة؛ لأن قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالشروط السالفة الذكر مجتمعةً كلها في العمل، فلو تخلف واحدٌ منها بطل العمل وحِيلَ بين صاحبه وبين الانتفاع منه. المانع الرابع: حقوق العباد ومظالِمُهم: من موانع الانتفاع بالأعمال مظالم الناس والتعدي على حقوقهم وأعراضهم؛ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [الزمر:30-31]، والخصومة تكون فيما بين العباد من مظالم؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما أُنزلت هذه الآية قال: أيْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم! أيكرَّر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم ليُكررنَّ عليكم حتى يؤدَّى إلى كل ذي حقٍّ حقَّه»[11]، قال الزبير: والله إن الأمر شديد. ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟))، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)[12]. المانع الخامس: النفاق: أيها الكرام، إن من موانع قبول الأعمال النفاق، والنفاق مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض الذي يُستَتَر فيه، سُمِّي النفاق بذلك؛ لأنَّ المنافق يستر كفرَه، وبهذا قال أبو عبيد. النفاق شرعًا: هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر. وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بهذا المعنى الخاص، وإن كان أصله الذي أُخذ منه في اللغة معروفًا. العبادات لا تقبل من المنافقين: بيَّن الله لنا أن من موانع قبول الأعمال النفاق، وأن أعمالهم مردودة عليهم في عليهم حسرة يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء:142]، الآية قد أخبر الله فيها عن المنافقين أنهم يُصلون ويزكون، وأنه لا يقبل ذلك منهم، ومثلها قوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة:54]. إن من أوصاف المنافقين أنهم ارتضوا الخداع والكسل عند الصلاة والمراءاة بها، وهذه أوصاف مشينة، وفيه تحذيرٌ للمؤمن من هذه الأوصاف، فلا ينبغي للمؤمن أن يخادع، بل يجب أن يكون أمره واضحًا، وكذلك على المؤمن أن يقوم إلى الصلاة برغبة ولا يقوم بكسلٍ وتثاقل، وكذلك يحذر المؤمن من الرياء، ويُخلص عمله لله، فإن الرياء من صفات المنافقين، وعدم ذكر الله عز وجل كثيرًا من صفاتهم أيضًا، فهذه أربعة أوصاف من أوصاف المنافقين: الخداع، والكسل عند إقامة الصلاة، والرياء، وقلة ذكر الله. سبب عدم قبول عبادات المنافقين: بيَّن الله سبحانه وتعالى أن المنافقين لا تُقبل منهم نفقاتهم، ولا تُقبل صلاتهم، وبين العلة، وهي كفرهم بالله ورسوله، فقال تعالى: ﴿ مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]. [1] تفسير المنار، (7 / 492). [2] مسند أحمد، 4/408، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (716) «صحيح الترغيب والترهيب» (1/ 121): «حسن لغيره» [3] السَّدَم: اللَّهَجُ والوُلوعُ بالشيء (في الدر النثير: قال الفارسي: هو همّ في ندم) النهاية في غريب الأثر (2/ 899). [4] تفسير ابن كثير - (4 / 310). [5] أخرجه أحمد ح 8260 رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار ورقم (1905). [6] أخرجه أبو داود ح (2519)، وأخرجه أيضًا الحاكم 2/ 85 و112، والبيهقي 9 /168 من حديث عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف؛ فإنَّ العلاء بن عبد الله مقبول حيث يتابع ولم يتابع. [7] أخرجه مسلم، ح 2985. [8] أخرجه ابن ماجه ح (4202)، وأخرجه الطيالسي (2559)، وأحمد 2/301 و435، وأبو يعلى (6552). [9] أخرجه أحمد 4/126، وأخرجه الطيالسي (1120)، والطبراني في " الكبير " (7139)، والحاكم 4/329. [10] رواه مسلم، ح/3243. [11] الترمذي، 9/11، وقال حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد، 1/ 167. [12] خرجه أحمد ح 8016 مسلم، كتاب البر والصلة، ح/ 2581. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السادس والعشرون: تابع موانع قبول الأعمال السيد مراد سلامة الحمد لله البعيد في قُربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته الوجود بعد أن كان عَدمًا، وأودع كل موجود حكمًا، وجعل العقل بينهما حَكَمًا، ليميز بين الشيء وضدِّه، وألْهَمه بما علَّمه فعلم مُرَّ مذاق مصابه من حلاوة شهده، فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق رُشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوقٌ من خزائن نعمه ورفده. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. صلوا على هذا النبي الكريم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَحْظَوْا من الله بالأجر العظيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتظفَروا بالفوز من ربكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجنة فيها نعيم مقيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طوبى لعبد مخلص في الورى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صلى على ذاك الجناب الكريم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين. المانع السادس: معصية الله في الخلوات: اعلم علمني الله وإياك أن من أسباب عدم الانتفاع بالأعمال، وردِّها على صاحبها انتهاك محارم الله تعالى في الخلوات؛ في سنن ابن ماجه بسند جيد من حديث عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[1]. قال محذرًا بلال بن سعد رحمه الله: "لا تكن وليًّا لله في العلانية وعدوًّا له في السر"؛ ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]. إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]. إذا خلو بالمعاصي بين الحيطان والجدران ارتكبوها وفعلوها، ولا يبالون بنظر الله عز وجل لهم، ولا باطلاع الله تبارك وتعالى إليهم. لخص أحد علماء السلف رحمهم الله نتيجة ذنوب الخلوات في جملة وكأنها معادلة حسابية، فقال رحمه الله (ذنوب الخلوات.... انتكاسات، وطاعات الخلوات.... ثبات). المانع السابع: الـمَنٌّ الأعمال: اعلم زادك الله علمًا أن من موانع قبول الأعمال المنَّ بها، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]. يأيها المؤمنون، لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء، لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياءً وحبًّا للظهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئًا، ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج، فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أي شيء عليه؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»[2]. قال الخطابي في المعالم: المنان يتأول على وجهين: أحدهما: من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها. والوجه الآخر: أن يراد بالمن النقص يريد النقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل، ونحوهما، ومن هذا قال الله سبحانه: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]؛ أي: غير منقوص، قالوا ومن ذلك يسمى الموت منونًا؛ لأنه ينقص الأعداد ويقطع الأعمار انتهى[3]. المانع الثامن: مولاة غير المسلمين: اعلم علمني الله وإياك أن من موانع قبول الأعمال وذهابها هباءً منثورًا، موالاة غير المسلمين من اليهود والنصارى والكفرة الملحدين المعاندين المعادين لله رب العالمين، ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - الأمين، يقول أحكم الحاكمين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 51 - 53]. قال في تيسير الكريم الرحمن: "وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك موادٌّ لأعداء الله، مُحب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا الإيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدِّقه، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها"[4]. والولاء والبراء أصل عظيم من أصول الدين؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحَّد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين, والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء"[5]. المانع التاسع: الشحناء والعداوة والبغضاء: أخي المسلم، مما يمنع من قبول الأعمال العداوة والشحناء التي توغر الصدور، وتشعل بين الطرفين الحقد والحسد، فلا يُرفع للمتخاصِمَين عملٌ حتى يصطلحا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[6]. عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَرَّةً، قَالَ: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلَّ يَوْمٍ إِثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْركُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[7]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ»[8]. عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ"[9]. المانع العاشر: كراهية ما أنزل الله: من محبطات الأعمال أن تكره النفس ما شرَعه الكبير المتعال وسنه سيد الرجال - صلى الله عليه وسلم - ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]. واعلموا عباد الله أن من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفَر))، وهذا باتفاق العلماء كما نقل ذلك صاحب "الإقناع" وغيره. وبغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - سواء كان من الأقوال أو الأفعال - نوع من أنواع النفاق الاعتقادي الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار، فمن أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أمرًا كان أو نهيًا، فهو على خطر عظيمٍ. فمن ذلك ما يتفوَّه به كثيرٌ من الكتَّاب الملحدين الذين تغذَّوْا بألبان الإفرنج، وخلعوا ربقة الإسلام من رقابهم من كراهيتهم لتعدُّد الزوجات، فهم يحاربون تعدُّد الزوجات بشتى الوسائل، وما يعلم هؤلاء أنهم يحاربون الله ورسوله، وأنهم يردون على الله أمره. ومثل هؤلاء في الكفر والبغض لما جاء به الرسول مَن يكره كون المرأة ليست بمنزلة الرجل؛ ككرههم أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وغير ذلك، فهم مبغضون لقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، لِكَثْرَةِ اللَّعْنِ وَكُفْرِ الْعَشِيرِ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: "أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ"[10]. فلذلك تجدهم يَمدون ألسنتهم نحو هذا الحديث العظيم: إما بصرفه عن ظاهره، وإما بتضعيفه، بحجة أن العقل يخالفه، وإما بمخالفته للواقع، وغير ذلك مما هو دال ومؤكِّد لبُغضهم لما جاء به الرسول. قال الله تعالى حاكمًا بكفر مَن كَرِهَ ما أنزل على رسوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28]، فالله - جل وعلا - أحبط أعمالهم، وجعلها هباءً منثورًا؛ بسبب كراهيتهم ما أنزل على رسوله من القرآن الذي جعله الله فوزًا وفلاحًا للمتمسكين به، المؤتمرين بأمره، المنتهين عن نهيه. [1] أخرجه ابن ماجه (4245)، وقال الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم: 7174 في صحيح الجامع. [2] أخرجه أحمد ح 21442 ومسلم ح 106. [3] عون المعبود - (9 / 120). [4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص787. [5] الدرر السنية 8 / 331. [6] أخرجه مسلم ح 4652. [7] أخرجه مسلم ح 4653. [8] أبو داود (4914) وقال الألباني (3/ 928): صحيح والإرواء أيضا، المشكاة (5035). [9] أبو داود (4915)، وقال الألباني (3/ 928): صحيح- الصحيحة (3/ 925). [10] أخرجه مسلم (79) (132)، وابن ماجه (4003). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السابع والعشرون: موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة السيد مراد سلامة الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا دارًا للابتلاء والاختبار، ومحلًّا للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، دارًا لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، ودارًا لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبِعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار؛ أما بعد: يا أيها الناس، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]. العنصر الأول: حتمية الرجوع إلى الله: أمة الإسلام، أخرجنا الله تعالى إلى هذه الدار وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وأخبرنا أننا إليه راجعون، وأن الدنيا ممرٌّ لا مقر، فقال الله تعالى وهو يحدثنا عن حتمية الرجوع إليه - عَزَّ وَجَلَّ – ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]. "ترقَّبوا وخافوا يومًا يَردُّكم الله سبحانه وتعالى إليه، فلا تملكون من أموركم شيئًا فيه، فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئًا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئًا، وفي هذا اليوم ﴿ تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ ﴾؛أي: جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؛أي لَا ينقصون شيئًا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا[1]. وقال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 4]، ستأتي ربك وستجرع إليه، ولكن على أية حال ترى أنت من السعداء أم أنك من الأشقياء؟ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 74 - 76]. العنصر الثاني: التعريف بيوم القيامة: الشمس كورت، لُفَّت وذهب ضوؤها، النجوم انكدرت وتناثرت، الجبال نُسفت وسيِّرت، فأصبحت كالقطن المنفوش، العشار عطِّلت، الأموال تُركت، التجارات والعقارات والأسهم نُسيت، السماء كُشطت ومُسحت وأُزيلت، البحار سُجِّرت، وإلى كُتَلٍ من الجحيم تحوَّلت، الجحيم سُعِّرت وأُوقدت، والجنة أُزلفت وقُرِّبت. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]. إنه يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين، يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم. وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله، يوم لا ظل إلا ظله. لقد صور الله تعالى لنا يوم القيامة في كتابه بأبدع تصوير وأبلغ تعبيرٍ، حتى إن الذي يقرأ تلك الآيات ليرى القيامة كأنها رأي العين، وتأمل الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: سُورَةَ هُودٍ"[2]. العنصر الثالث: الوقاية من أهوال يوم القيامة: الأول: كن من المتقين تكن من الفائزين: اعلموا عباد الله أن من أعظم أسباب السلامة من أهوال يوم القيامة - أن ترجع إلى الله وأنت في قافلة المتقين، تأملوا أيها الأحباب إلى تلك القافلة وهي تزف في عرصات يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 85، 86]. يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتَّبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم، وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفدًا إليه، والوفد هم القادمون ركبانًا ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفًا إلى النار ﴿ وِرْدًا ﴾عطاشًا، وقال ابن أبي حاتم عن ابن مرزوق ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحًا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلاّ أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال ابن عباس: ركبانًا، وقال أبو هريرة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: على الإبل، وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾ قال: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوسًا عند علي رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: لا والله ما على أرجلهم يُحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ترَ الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة. ثانيًا: كن من أهل العدل تكن على منابر من نور: عباد الله، أما العادلون ففي مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين عن زُهَيْرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»[3]. ثالثًا: كن من المتحابين في ذات الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمُ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي»[4]. عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، قَالُوا: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ إِذًا، قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيُّ، فَقَامَ فَحَثَى عَلَى وَجْهِهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْشَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى مِنْ شُعُوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ»[5]. رابعًا: جاهد نفسك لتكون من أولياء الرحمن: فهم أهل الأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة فمعهم حصانة ربانية، فهم لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يعطشون إذا عطش الناس، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101-103]. يقول أبو السعود رحمه الله ﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾، بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار؛ لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة؛ عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه الانصرافُ إلى النار، وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار، وقيل: حين يُذبح الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ، وقيل: النفخةُ الأخيرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87]، وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله: ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [النمل: 87]، لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة، على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة؛ كما سيأتي في سورة النمل: ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنبياء: 103]؛ أي: تستقبلهم مهنِّئين لهم، ﴿ هذا يَوْمُكُمُ ﴾ على إرادةِ القولِ؛ أيْ: قائلين هذا اليومُ يومُكم، ﴿ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103] في الدنيا، وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات، وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بالذين[6]. خامسًا: احذر ذنوب الخلوات فإنها أصل الانتكاسات: وإذا أردت أخي المسلم أن تقي نفسك من أهوال يوم القيامة، فاحذر ذنوب الخلوات، فإنها أصل الانتكاسات، توهَّم نفسك الآن واقف في عرصات يوم القيامة، وبينما أنت كذلك إذا رأيت رجلًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم معه أعمال كأمثال الجبال من الحسنات، فهذا قيام ليل وهذا صيام رمضان، وهذه صدقات وتلك قراءة للقرآن، وفجأة يجعلها الله تعالى هباءً منثورًا، ترى ما الذي ضيعها، اسمع إلى كلام نبيك صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأُلْفِيَّنَ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا», فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا لِكَيْ لَا نَكُونُ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[7]. إذا أغلقت دونك الباب، واسْدِلت على نافذتك الستائر، وغابت عنك أعينُ البشر، فتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية، تذكر من يرى ويسمع دبيبَ النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، جل شأنه وتقدس سلطانه، أخشى بارك الله فيك أن تَزِلَّ بك القدم بعد ثوبتها، وأن تنحرف عن الطريق بعد أن ذقتَ حلاوته، واشرأبَّ قلبك بلذته؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات". فهل يفرط موفَّقٌ بصيد اقتنصه، وكنز نادر حَصَّله؟ احذر سلمك الله، فقد تكون تلك الهفوات المخفية سببًا لتعلُّق القلب بها؛ حتى لا يقوى على مفارقتها، فيُختمَ له بها، فيندمَ ولات ساعة مندمٍ؛ يقول ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس". خامسًا: احذر الغدر فإنه فضيحة يوم القيامة: أخي في الله، إذا أردت أن تقي نفسك نارًا حرُّها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، يوم أن ترجع إلى الله تعالى، فاحذر الغدر فإنه فضيحة على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"[8]. والغادر: الذي يواعد على أمر ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحبُ جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا له، فالغادر تُرفع له راية تسجل عليها غدرته، فيُفضَح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[9]. وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة، ارتفعت الراية التي يُفضَح بها في يوم الموقف العظيم؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ»[10]. [1] زهرة التفاسير (2/ 1062). [2] أخرجه أحمد (2/ 27) (4806) و(2/ 36) (4934) و(2/ 100) (5755) قال: حدثنا عبد الرزاق. وفي (2/ 37) (4941). والترمذي (3333) انظر: الصحيحة (1081) [3] رواه مسلم (1827)، وابن منده في «الرد على الجهمية» رقم (73). [4] أخرجه الدارمي (2757)، ومسلم (2566)، وابن حبان (574)، والبيهقي في "الشعب" (8990)، والبغوي (3462). [5] أخرجه أحمد (5/ 343، رقم 22957) والطبراني (3/ 290، رقم 3433) قال الهيثمي (10/ 276): رجاله وُثِّقوا. [6] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (6/ 87). [7] أخرجه ابن ماجه (2/ 1418، رقم 4245)، قال البوصيري (4/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، والروياني (1/ 425، رقم 651)، وأخرجه أيضًا الطبراني في الأوسط (5/ 46، رقم 4632). [8] أخرجه البخاري (5/ 2285، رقم 5823)، ومسلم (3/ 1359، رقم 1735). [9] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأبو يعلى (2/ 441، رقم 1245). [10] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (2/ 419، رقم 1213). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثامن العشرون: تابع موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة السيد مراد سلامة الحمد لله الحي الذي أضاء نوره الآفاق، ورزق المؤمنين حسن الأخلاق، وتجلَّت رحمته بهم إذا بلغت أرواحهم التراق، نحمَده تبارك وتعالى ونستعينه على الصعاب والمشاق، ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والشقاق، ونسأله السلامة من النفاق وسوء الأخلاق. وأشهد أن لا إله إلا الله القوي الرزاق، الحكم العدل يوم التلاق، خلق الخلق فهم في مُلكه أسرى مشدودو الوثاق، أنذِر الكافرين بصيحة واحدة ما لها من فواق، وبشر الطائعين بسلام الملائكة عليهم إذا التفَّت الساق بالساق، أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليعلم الناس أن إليه يومئذ المساق. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المتمم لمكارم الأخلاق، لم يكن لعانًا ولا سبابًا، ولا صخابًا في الأسواق. سابعًا: لا تظلم أحد لأنك إلى الله تعالى راجع: أحبتي في الله، إذا علمنا أننا إلى الله تعالى راجعون، وأننا عن أعمالنا مسؤولون، وجب علينا أن نتحلل من المظالم قبل أن نرجع إلى الله تعالى، فالظلم ظلمات يوم القيامة. فتوهَّم نفسك عبد الله وأنت واقف بين يدي الله، انظر إلى هؤلاء الذين شخصت أبصارُهم، وصارت أفئدتهم هواءً، يسألون الرجعة فلا يجابون، ترهَق وجوههم الذلة. أيها الموحِّدون، تدبَّروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبَّروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه، تصوَّر معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذلٍّ وخشوع وانكسارٍ، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يَمنة ولا يَسرة، لا يرتد إليه طرفه، وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرؤوس، تكاد حرارتها تصهَر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتُزمجر غضبًا لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسِي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كلُّ مَن ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جرًّا ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يَجُرُّه من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تُنْصَبَ، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب، هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب، ظلمني، والآخر يقول: يا رب، اغتابني، والآخر يقول: يا رب، غشَّني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب، وجدني مظلومًا وكان قادرًا على دفع الظلم، فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب، جاورني فأساء جواري، سترى كل من عاملته في الدنيا - نسيته أو تذكَّرته - قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كلٌّ يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بِساط العدل بين يدي رب الأرض والسماوات، إذا شوفِهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين، لا تملك درهمًا ولا دينارًا، لا تستطيع أن ترد حقًّا، ولا تملك أن تبدي عذرًا، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك، فتراها قد خلت من حسنات تعِبتَ في تحصيلها طول عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقَّهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك لتُطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب، هذه سيئات والله ما قاربتها، والله ما عملتها، فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعلك تنجو في هذه اللحظات ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرَّم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم:42-52]. ثامنًا: احذر أن تُطرَد من حوض صاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم: يا من يعلم أنه إلى الله راجع، احذر كل الحذر أن تُطرد من حوض صاحب الشفاعة - صلى الله عليه وسلم - توهَّم نفسك الآن وأنت واقف على حوض صاحب الحوض، والناس قد لهثت ألسنتهم من شدة العطش، والحبيب - صلى الله عليه وسلم - يسقي أصحابه، وبينما هو كذلك إذا رأيت الملائكة تَطرُد أقوامًا من على الحوض؛ ينظر النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة إليهم وهم يطردون، تُرى ما الخطأ أو الذنب الذي وقع فيه هؤلاء؟ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»)[1]. تاسعًا: الخوف من الله: معاشر الموحدين، إن الخوف من الله تعالى ومن سخطه، يحمل الإنسان منا على طاعة الله تعالى، والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، فالخوف سوطٌ تُساق به النفوس الشاردة عن بابه - سبحانه وتعالى - وهو شرط الإيمان؛ كما أخبر بذلك الملك الديان: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. فهيَّا إخوة الإسلام لنرى كيف سيكون الخوف من الله تعالى سبيلًا من سبل النجاة، فالخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا قَالَ: "وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة"[2]. عاشرًا: كن من أهل سورتي البقرة وآل عمران: في ذلك اليوم العظيم العصيب الشديد، والقرآن ظل لأصحابه، بل سورة البقرة وآل عمران تظلان صاحبهما يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ عَنْ أَهْلِهِمَا"، ثُمَّ قَالَ: "اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"[3]؛ أي: تظلان من قرأهما وحفِظهما، وعقَل معناهما وعمل بهما، فلك من أجر الظل في البقرة وآل عمران بقدر ما معك من مصاحبتهما. [1] أخرجه البخاري (7050) و(7051) وأخرجه مسلم (2290) و(2291). [2] أخرجه أيضًا: ابن حبان (2/406، رقم 640)، والدارقطني في العلل (8/38، رقم 1396). [3] صحيح مسلم (1/ 553 رقم 804). |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس التاسع والعشرون: ثمرات الإيمان بالله في الحياة الدنيا السيد مراد سلامة الحمد لله الحكيم الرؤوف الرحيم، الذي لا تخيب لديه الآمال، يعلَم ما أضمَر العبد من السر وما أخفى منه ما لم يخطر ببالٍ، ويسمع همسَ الأصوات، وحسَّ دهس الخطوات في وعس الرمال، ويرى حركة الذرِّ في جانب البر وما درَج في البحر عند تلاطُم الأمواج وتراكم الأهوال، أفلا يستحيي العبد الحقير من مبارزة الملك الكبير بقبيح الأفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير. الكل تحت قهره ونظره في جميع الأحوال، فتبارك مَن وفَّق من شاء لخدمته، فشتان ما بين رجال ورجال. عبد الله، يا مسكين: يا غافلًا والجليل يحرسُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من كل سوء يَدِبُّ في الظلم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كيف تنام العيون عن ملك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تأتيه منه فوائدُ النعم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أما بعد: فحيَّاكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتُم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه. أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعيش اليوم مع الإيمان بالملك الديان لنتعرف على ثمراته على الفرد والمجتمع في الدنيا، في زمان هاجت فيه رياح الشبهات، وتلاطمت فيه أمواج الفتن التي تموج موج البحار العاتية، في زمان أضحى أهل الحق بحاجة ماسة إلى التعرف على دينهم والرجوع إلى مصدر عزهم ومجدهم. هيَّا هيَّا عباد الله لنشنف الآذان بثمرات الإيمان، للإيمان ثمار يانعة، ونتائج طيبة، يجنيها المؤمن في الحياة الدنيا، ومن أهم هذه الثمار: الثمرة الأولى الهداية للحق: إخوة الإيمان، في وسط ظلمة الإلحاد والعلمنة التي تبثها الشبكات والفضائيات، تلك السموم القاتلة، يحتاج المسلم أن يسلك سبيل المؤمنين، فلا يجد ذلك السبيل إلا في الركوب في سفينة الإيمان، فهي العاصم من القواصم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54]، فأهل الإيمان هم أحق الناس بهداية الله - عز وجل - وهذه الثمرة (أعني الهداية) من أعظم وأجل الثمار التي يجنيها المؤمن في هذه الحياة، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ﴾ [يونس: 9]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]. ذكر الشوكاني - رحمه الله - في تفسيره: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم"[1]. الثمرة الثانية الحياة الطيبة: إخوة الإيمان، الحياة الطيبة التي طابت بذكره - سبحانه وتعالى - فما طابت الحياة إلا بذكره، والتي طابت بشكره - جل في علاه - الحياة الطيبة يجدها الإنسان حتى ولو كان في أحلك الظروف وأصعبها، الحياة طيبة وإن كان المسلم فقيرًا محتاجًّا؛ قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل:97}، ففي الآية شرط وجواب، فشرط الحياة الطيبة لكل ذكر وأنثى هو الإيمان والعمل الصالح. إن السعادة أن تعيشَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لفكرة الحق التليدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لعقيدة كبرى تَحل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قضيةَ الكون العتيدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هذي العقيدة للسعيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هي الأساس هي العمودُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من عاش يحملها ويَهتف https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif باسمها فهو السعيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"[2]. وجدها بلال بن رباح - رضي الله عنه - وهو تحت وطأة العذاب، ومن قبله وجدتها امرأة فرعون وهي تحت أشعة الشمس المحرقة. • الحياة الطيبة تحرير للنَّفس من قيود المادَّة وأغلال الشهوات، ثم تسبيحها في ملكوت الأرض والسماوات. • الحياة الطيبة سموُّ الإنسان عن حاجات جسده الفاني دون أن يهملها، والاستجابة لحاجات نفسه الخالدة دون أن ينسى حقوقَ الآخرين. • الحياة الطيبة لا تتراجع بتراجُع صحَّة الجسد، ولكنها تتزايد بتزايد إقبال النفس على ربها. • الحياة الطيبة لا تنتهي بموت بل تبلغ أوجهًا به. •الحياة الطيبة لا تضمنها أعراضٌ زائلة كالمال والسلطان، ولكن يَضمنها ربٌّ كريم، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض والناس أجمعين[3]. قال أحد الصالحين: والله أنا في سعادة لو علمها أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف! عن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد للخليفة، فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان..[4]. قال ابن القيم - يصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتنقل في أصناف من البلاء والاختبار -: قال لي مرة - يعني: شيخ الإسلام -: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبْسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة". وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة"، أو قال: "ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير "، ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله، وقال لي مرة: "المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه"، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13][5]. قيل لأعرابي كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتقل كلُّ شيء ظله، فقال: وهل العيش إلا ذاك يمشى أحدنا ميلًا فيرفض عرقًا كأنه الجمان، ثم ينصب عصاه ويلقى عليها كساءه، وتميل عليه الريح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى[6]. الثمرة الثالثة الولاية: أحبتي في الله، من ثمرات الإيمان بالملك الديان الولاية الخاصة، وهي ولاية النصر والتمكين؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة:256]، وقال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة:56]. وتلك الولاية لها أثرها في حياة الفرد والمجتمع، فالولاية منبعها الإيمان بالله تعالى، وتأملوا آثار تلك الولاية: الإخراج من الظلمات إلى النور؛ قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 257]، اجتماع القلب والثبات على الصراط المستقيم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الْأَنْعَامِ: 153]. محبة الله تعالى لأوليائه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ[7]. عدم الخوف والحزن؛ قال الله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة ﴾ [يُونُسَ: 62 – 64]. عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ عِبَادِ الله عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ"، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟، لَعَلَّنا نُحِبُّهُمْ، قَالَ: "هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِنُورِ الله مِنْ غَيْرِ أَرْحَامٍ وَلاَ أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لاَ يَخَافُونَ إذَا خَافَ النَّاسُ، وَلا، يَحْزَنُونَ إذَا حَزِنَ النَّاسُ. ثُمَّ قَرأ: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]»[8]. الثمرة الرابعة: الرزق الطيب: في زمان يشتكي كثيرٌ من الناس الغلاء وارتفاع الأسعار وقلة البركة، ولو تأملنا ما نحن فيه لوجدنا أن ذلك بسبب ذنوبنا، وأننا ابتعدنا عن شجرة الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَو أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف:96]؛ يقول الإمام الشوكاني - رحمه الله تعالى -: ﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾؛ أي: يسَّرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصُل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، قيل المراد بخير السماء: المطر، وخير الأرض النبات، والأولى حملُ ما في الآية على ما هو أعم من ذلك..."[9]. ✍ الثمرة الخامسة: العزة: معاشر الموحدين: إن من ثمرات الإيمان بالله تعالى أنه يورث العبد العزة والرفعة في الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون:8]. الاعتقاد الجازم والإيمان اليقينيُّ بأنَّ الله تعالى هو العزيز الذي لا يَغْلِبه شيء، وأنَّه هو مصدر العِزَّة وواهبها. قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26]، فلا نصر إلَّا به، ولا استئناس إلَّا معه، ولا نجاح إلَّا بتوفيقه. قال ابن القيِّم: (العِزَّة والعُلُوُّ إنَّما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو عِلمٌ وعملٌ وحالٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، فللعبد من العُلُوِّ بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، فله من العِزَّة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظٌّ من العُلُوِّ والعِزَّة، ففي مُقَابَلة ما فاته من حقائق الإيمان، علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا)[10]. عن طارق بن شهاب رضي الله عنه، قال: "خرج عمرُ بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا؛ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرُّني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أَوَّهْ، لو يقول ذا غيرُك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلُب العز بغير ما أعزَّنا الله به، أذلنا الله"[11]. دخَل إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر المسجدَ الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يُلقي درسًا في المصلين، ومرَّ إبراهيم باشا من جانب الشيخ، وكان مادًّا رِجله، فلم يحرِّكها، ولم يُبدل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظًا شديدًا، وخرج من المسجد، وقد أضمر في نفسه شرًّا بالشيخ، وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب، يزيِّنون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروتَه وسلطانه، وما زالوا يؤلِّبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبَّلًا بالسلاسل، وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغيَّر رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل لا قِبَل له بإغلاقها، وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبِله الشيخ ضمن ولاءه، وسقطت هيبته في نفوس المسلمين، فلا يبقى له تأثيرٌ عليهم، وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب مِن وزيره أن يعطيَ المال للشيخ على مرأى ومسمع مِن تلامذته ومريديه، وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب مِن الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام، وقال للشيخ بصوت عالٍ سمعه كل مَن حول الشيخ: هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك، ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير، وقال له بهدوء وسكينة: يا بني، عُدْ بنقود سيدك ورُدَّها إليه، وقل له: (إن الذي يمد رِجْله، لا يمد يدَه)[12]. [1] [فتح القدير للشوكاني، ج: 5/231]. [2] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/112 ، رقم 300). [3] رابط الموضوع: ما هي الحياة الطيبة؟ [4] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (12/ 232). [5] الوابل الصيب (ص: 67). [6] قطوف وكلمات (ص: 16). [7] أخرجه البخاري "6502" في الرقاق: باب التواضع. [8] إسناده صحيح، وهو في صحيح ابن حبان برقم (573). [9] تفسير فتح القدير ـ (2/ 228). [10] إغاثة اللهفان (2/ 181) [11] الحاكم في المستدرك (1: 62) وصححه ووافقه الذهبي. [12] موسوعة القصص المنبرية للشيخ السيد مراد سلامة. |
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثلاثون: تابع ثمرات الإيمان في الدنيا السيد مراد سلامة الحمد لله منشئ الموجودات، وباعث الأموات، وسامع الأصوات، ومجيب الدعوات، وكاشف الكربات، عالم الأسرار، وغافر الأوزار، ومنجي الأبرار، ومهلك الفجار، ورافع الدرجات، الذي علم وألْهَم، وأنعم وأكرَم، وحكم وأحكَم، وأوجب وألزم، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ [الشورى: 25]. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين. الثمرة السادسة: النصر على الأعداء: هلا سألتم أنفسكم عباد الله عن سبب هزيمتنا وتسلُّط الأعداء علينا؟ الجواب في أبسط عبارة: أننا لم نحقق الإيمان، لم نحقِّق شرط النصر والتمكين، لهثنا خلف الغرب ومغرياته، وخذلنا الحق وأوليائه، فسلَّط الله عينا كلاب الأرض. إننا لَمَّا حققنا الإيمان سخَّر الله لنا السِّباع، ولَمًا ضعُف إيماننا خُفنا من الجِرذان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم:47]. فالنصر على الأعداء والظفر بهم من أهم ثمرات الإيمان في الدنيا، فما أهم هذه الثمرة وأحوجنا إليها اليوم ونحن نعيش في مرحلة من الهزيمة والذل لم تعهَدها أمة الإسلام، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا النصر والظفر وعدٌ من الذي لا يخلف الميعاد؛ كما قال الشوكاني - رحمه الله -: "هذا إخبار من الله سبحانه بأن نَصره لعباده المؤمنين حقٌّ عليه، وهو صادق الوعد لا يُخلف الميعاد، وفيه تشريفٌ للمؤمنين، ومزيدُ تَكرمة لعباده الصالحين"[1]. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد ﴾ [غافر:51] فهي بشارة لأهل الإيمان بالنصر على الأعداء، وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد:7]. ملكنا هذه الدنيا قرونًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأخضعها جدودٌ خالدونَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وسطَّرنا صحائفَ من ضياء https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما نسِي الزمان ولا نسينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حمَلناها سيوفًا لامعاتٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غداةُ الروع تأبى أن تلينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا خرجت من الأغماد يومًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رأيت الهولَ والفتح المبينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكنا حينَ يأخذنا وليٌّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بطغيان نَدوس له الجبينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكنا حينَ يَرمينا أناسٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نؤدبهم أُباةً صابرينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما فتئ الزمان يدور حتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مضى بالمجد قوم آخرونا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأصبح لا يُرى في الركب قومي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد عاشوا أئمتُه سنينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يقول ابن الأثير: "فلما استوثقت الروم لنقفور، كتب إلى الرشيد: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كانت حقيقًا بحمل أضعافها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهنَّ، فإذا قرأت كتابي هذا فاردُد ما حصل لك من أموالها، وافتدِ نفسك به من المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرَّق جلساؤه، فدعا بداوة، وكتب على ظهر الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، لقد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام"، ثم سار من يومه حتى نزل هرقلة، ففتح وغنم وأحرق وخرَّب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما قفل راجعًا بلغه أن نقفور نقض العهد، فكر الرشيد راجعًا إليه وأقام في بلاده حتى شفى نفسه منهم، ولم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد[2]. الثمرة السابعة: الفوز برضا الله، قال الله عز وجل: إخوة الإسلام، من عظيم ثمرات الإيمان بالله تعال أن ينال المسلم رضا الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 71، 72]، فنالوا رضوان الله ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة، بإيمانهم الذي كمَّلوا به أنفسهم، وكمَّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحصلوا على أعظم الفوز والفلاح. الثمرة الثامنة: أن الله يدافع عن الذين آمنوا جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد: اعلم بارك الله فيك أن من عظيم ثمرات الإيمان أن الله تعالى يحفَظهم ويدفع عنهم جميع المكاره؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [سورة الحج: 38]؛ أي: يدافع عنهم كل مكروه، وشرَّ شياطين الإنس والجنِّ، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخفِّفها بعد نزولها؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة الأنبياء: 87 - 88]. وقال - عز وجل -: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة يونس: 103]. وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [سورة الصافات: 171 - 173]. وقال - عز وجل -: ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا ﴾ [سورة الطلاق: 2]؛ أي من كل ما ضاق على الناس، ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [سورة الطلاق: 4]، فالمؤمن المتقي يُيسِّر الله له أموره، ويُيسِّره لليُسرَى، ويجنِّبه العُسْرَى، ويُسهِّل عليه الصعاب، ويجعل له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ويرزُقه من حيث لا يحتسب، وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة. الثمرة التاسعة: أنه شرط صحة للأعمال الصالحة: أخي المسلم، لابد أن تعلم أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمُل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ [سورة الإسراء: 19]؛ أي: لا يُجحَد سعيُه، ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [سورة يونس: 9]، والسعي للآخرة هو العمل بكل ما يقرِّب إليها من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم. عاشرًا: الانتفاع بالمواعظ من ثمرات الإيمان: إخوة الإسلام، قال الله عز وجل: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة الذاريات: 55]، وهذا لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه علمًا وعملًا، ومعه الآلة العظيمة، والاستعداد لتلقِّي المواعظ النافعة، وليس عنده مانع يَمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به. الحادي عشر: الإيمان بالله - عز وجل - ملجأ المؤمنين في كل ما يلمُّ بهم: من سرور، وحزن، وخوفٍ، وأمنٍ، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابدّ لكل أحد منها، فعند المحابِّ والسرور يلجؤون إلى الإيمان، فيحمدون الله، ويُثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحبُّ، وعند المكاره والأحزان يلجؤون إلى الإيمان من جهات عديدة، يتسلَّون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلَّون بما يترتَّب على ذلك من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان، ويلجؤون إلى الإيمان عند الخوف، فيطمئنون إليه ويزيدهم إيمانًا وثباتًا وقوةً وشجاعة، ويضمحلُّ الخوف الذي أصابهم؛ كما قال الله تعالى عن الصحابة - رضي الله عنهم -: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [سورة آل عمران: 173 - 174]. [1] تفسير فتح القدير، (4/ 230). [2] العبر في خبر من غبر (ص: 55) تاريخ الطبري (6/ 501) الكامل في التاريخ (25/ 57). |
الساعة الآن : 04:48 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour