غصون رمضانية
هلالُ الفرح غصون رمضانية (1) عبدالله بن عبده نعمان العواضي متى يهل حبيب القلوب من الآفاق؛ ليرسل إلى الأرواح أنوارَ السرور بدخول خير الشهور، وتنزل هدايا الرحمن التي تجلو العقول، وتهذب النفوس، وتطهر الجوارح؟ لقد طال انتظار المحبين على شواطئ الشوق، وهم يرقبون طلوع مؤذِنِ السعادة، وبشير موسم العبادة، فمتى تضيء السماء بطلعته، ويُهتك سترُ الظلام ببسمته، وتهبط الرحمات بميلاد شهره؟ الشوقُ بين ضلوعنا يتوقّدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والعينُ في أفق السما تتردّدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمتى سيشرق شهرُنا ويهلّ مِن http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وسط الظلام هلالُه والمولِدُ؟ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى إذا بدت من المطالع بشائرُ المنتظر الحبيب، وأطلّت على نواحي السماء إشراقة الحبور؛ استبشر المؤمنون، وعمهم الفرح، فأزهرت الوجوه، وانشرحت الصدور، وربما دمعت على الخدود العيون، فراحوا يفرشون طريق رمضان بالعزم الصادق على العمل الصالح، ويطلقون لجوارحهم العنانَ لتستبق في ميدان الصيام الصحيح، والقيام الخاشع، والتلاوة المتأملة، والأخلاق الحسنة، والكرم والجود، وغير ذلك من مجالات الخير والبر. فأهلاً بهلال تمتلئ به المساجد، ويمتد إلى المعوزين فيه سخاء الأماجد، ويغلب فيه على عموم المسلمين الإقبال إلى الخير المتنوع. وأهلاً بهلال تهل معه البركات، وتكثر فيه الخيرات، وتقضى فيه الحاجات، وينعم فيه ذوو الطاعات. وأهلاً بهلال يشير على المسلمين بجمع الكلمة، وتوحيد الصف، والانتصار على أمراض النفس، وصبغ المجتمع بصبغة الطهر. فيا من أدركه هلال رمضان حيًا صحيحًا اشكرِ الله على نعمة البقاء؛ لتدرك فضائله، وتنال نوائله، فكم من قريب أو بعيد أو صديق أو جار قد سبقوك إلى الآخرة فانقطعت أعمال جوارحهم، وربما يتمنى متمنيهم أن يرجع إلى الدنيا لينال بركة رمضان، فأنت الآن في مُنَاهم، وما أقرب أن يلحق آخر العباد بأولاهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[1]. وقال الشاعر: إذا هبّتْ رياحك فاغتنمها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فعقبى كل خافقةٍ سكونُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تغفلْ عن الإحسان فيها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا تدري السكون متى يكونُ[2]. http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] رواه الحاكم والبيهقي، وهو صحيح. [2] البيتان لابن هندو، غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 131). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (2) منازل رمضان عبدالله بن عبده نعمان العواضي رمضان ضيف العام، ينزل على المسلمين أيامًا معدودة، فيختلف الناس في استقباله، ويتفاوتون في العيش معه أيام حلوله إلى وقت ارتحاله، فهو ضيف ينزل منازل شتى، فمن المنازل: منازل تظل مترقبة بحبٍّ وصولَه، وتعد الشهور والأيام والليالي شوقًا لاستقباله، فقد برح بها الانتظار، وكادت أن تذوب شوقًا؛ حرصًا على لقاء حبيب منتظر، ألفت في نزوله الراحةَ والسعادة تحت دوحة الطاعة الظليلة، حينما قضت حقَّ قِراه، وقامت بواجب الضيافة ومستحبه، فلسان حالها ومقالها لرمضان: فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحبًا ♦♦♦ فهذا مبيتٌ صالح وصديق[1]. فهذه المنازل الكريمة تملك قلوبًا حية، وأرواحًا مشرقة، فرأت في نزول رمضان عليها غنيمة باردة، تتزود منها مغانم ليوم المغارم، وسحابة هتانة تهمي عليها بوابل من الطاعات، إلى ما لديها من طاعات فتكون: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 265]؛ فلهذا تحيا منازلها مع هذا الضيف الكريم حياة طيبة، تغمرها البسمة واللذة، فإذا دنت ساعاتُ الرحيل رسمت ذكراها على القلوب الألم، وعلى الوجوه الحزن، وربما أرسلت على الخدود دموع الولَهِ، والحال كما قال ابن المعذل: إن السرور تصرّمتْ أيامُه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif منِّي وفارقني الحبيب المؤنسُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حالانِ لا أنفك من إحداهما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مستعبراً أو باكيًا أتنفس http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولمثله بكت العيون صبابةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولمثله حزنتْ عليه الأنفس[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن منازل رمضان: منازل قوم يستعدون لاستقبال ضيف العام بإعداد قائمة طويلة من مطعومات رمضان ومشروباته، فإذا اقترب الوعد الحق خرجوا إلى الأسواق، فآبوا بالأسواق إلى بيوتهم، فحملوا من الطعام والشراب ما اتفق واختلف في اللون والطعم والحجم، فمن أصنافه: صنوفٌ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ما إنّ جملة ذلك لتنوء بالعصبة أولي القوة، كأن رمضان هبط وحشًا كاسراً أُجيعَ سنة كاملة فجاء إليهم يذيب الشحم، ويأكل اللحم، وينقي العظم، فإذا نزل بهم مدّوا الموائد، وأوسعوا البطون، وأتعبوا النساء في المطابخ، وعانى عمّال النظافة بقايا أخوِنة[3] طعامهم وشرابهم؛ ولهذا يفرح تجار الأغذية بدخول رمضان فرحًا شديداً، لا بفضائله ونوائله، ولكن لأرباحهم المالية فيه؛ بسبب هذا الصنف من الناس. فأهل هذه المنازل يعدون رمضان للأجساد لا للأرواح، وللبطون لا للقلوب؛ ولهذا يُرَون بِطاءً في مسالك القربات، سِراعًا إلى طرق اللهو والملذات، فيثقل عليهم الصيام، وتطول عليهم الأيام، ويخرج رمضان ضيفًا ثقيلاً، ونازلاً مكروهًا، وراحلاً محبوب الرحيل، فكان الحال: ولما قضينا بالغِذا كلَّ حاجةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأوسعَ في الإسراف من هو آكلُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَتَرْنا عن الطاعات وامتدّ شهرنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفاتت ذوي التبذيرَ تلك الفضائلُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن منازل رمضان: منازل قوم لا يأذنون لرمضان بدخولها، ولا يقبلون بنزوله عليهم؛ فهم ليسوا من أهل الطاعة، بل هم من هواة الخطيئة؛ ولذلك يفطرون رمضان معلنين بين الناس، أو غير معلنين، فرمضان عندهم كشعبان وشوال، فيمضي عنهم الشهر الكريم شاكيًا إلى ربه ما لقي من لؤمهم وتعديهم، أفلا يظن هؤلاء أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فماذا سيقولون لله تعالى إذا قابلوه ولم يكرموا ضيفه، وقد جاءهم ليكرمهم؟!، وما موقفهم يوم القيامة وهم يرون كرمَ العطاء لمن نزل عليهم رمضان فأكرموه؟ قال الأَصمعي: أَنشَدَني رجل من أهل البصرة: فما لَك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تزوّدته قبل الحساب إلى الحشر http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا أنتَ لم تزرع وأبصرت حاصداً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ندمتَ على التضييع في زمن البذر[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] البيت لعمرو بن الاهتم، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 21). [2] ديوان عبد الصمد بن المعذل (ص: 76). [3] ( الخوان ): ما يؤكل عليه ( ج ) أخونة وخون وأخاوين، المعجم الوسيط (1/ 263). [4] أمالي ابن دريد (ص: 25). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (3) رحلة سعيدة عبدالله بن عبده نعمان العواضي نزل الضيف الكريم فاهتز الكون فرحًا وطربًا، ومادت أغصانُ الإيمان نشوة وسروراً، وابتسمت أرض الطاعات استبشاراً وجذَلاً؛ فقد آن للكون أن يرى جموعَ المسلمين بين أعطافه يلبسون حلية الطاعة العامة؛ فتبرق جوانب الحياة صلاحًا وتقى، ويتثنون سعداء بين أكناف عبادة لا تزورهم إلا مرة واحدة في العام؛ فيعانقونها عناق الحبيب للحبيب. ولِدَ (الهلالُ فللحياةِ) ضياءُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفم الزمان تبسّمٌ وثناء http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتعطّر الكونُ الفسيح بنوره http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتوالت الأنوار والأنداء[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وحان للإيمان أن يعلو بنيانه، وتقوى أركانه، وتُجلا قسماته، وتمشي في المجتمع براهينه وآياته، فلعله في الشهور الأحد عشر الماضية قد أصيب بجروح المعاصي وصدوعها، ووهنِ المخالفات وقتَرها. ونزل برياض الطاعات موعدٌ تنبض فيه بالحياة الكاملة، فتورق أشجارها، وتمتد فروعها، وتشرق غصونها، وتفوح أطياب أزهارها، وتتهدل ثمراتها، فلعل أيامها السابقة قد جلبت لها الذبول والعبوس. فجاء رمضان لينطلق ركبُ الطاعة إلى مسالك العمل الصالح نشِطًا مكثِراً، مبيّتًا نية الصيام من الليل، قاصداً بالأعمال التي عزم عليها وجهَ الله تعالى وحده، غير مشركٍ لأحد فيها- سوى الله - توجهًا وتقربًا، متابعًا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مقتديًا بقوله وفعله وحاله في رمضان. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]. وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)[2]. فإذا هبّ على المسلم نسيمُ السحر فليشم أريجه وهو مبادرٌ إلى ثلاثة أعمال عظيمة، إلى صلاة - ولو ركعتين - يتلذذ بين قيامها وركوعها وسجودها، ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، وإلى دعاء يحمل على مدارجه الصاعدة رجاءَ آمال يبغيها، واستعاذةً من شرور يخشاها، مع استغفار يمسح به مدادَ خطايا صحيفته، ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، والعمل الثالث تزوّده ليوم صيامه بلقيمات تشد بدنه، وتعينه على الاجتهاد في أعمال يومه الآتي، ولو تمراتٍ، أو جرعةَ ماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [4]. إن هذه الرحلة السعيدة في جنان رمضان ستمتد شهراً كاملاً فلابد أن يأخذ المسلم أهبته، ويعد لها عدته، فقد قالت العرب: "قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ" يعني: تؤخذ أُهبَةَ الأمر قبل وُقوعه[5]. فهي ليست يومًا ولا أسبوعًا فيفوته الخير إن دهمه التقصير والفتور، وليست عامًا فيملّها، أو يسوّف العمل فيها إلى قابل الأيام، بل هي شهر واحد فقط من عام كامل، وهبةٌ إلهية تستحق أن يستعد المسلم لها استعداداً خاصًا يقوم على ركنين: الأول: العزيمة الداخلية الصادقة التي تُعدّ المحركَ والوقود للعمل، فينبغي إذكاؤها وشحذها بالتأمل فيما أعده الله تعالى للمسابقين إلى الخيرات، المنتهزين فرصَ الباقيات الصالحات، والنظر في فجأة المنية، وورود قواطع العمل، وبلوغ الأمنية: اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فعسى أن يكون موتك بغته http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ذهبتْ نفسه الصحيحة فلته[6] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والركن الثاني: الجد في سَوْق الجوارح إلى الإكثار المتقن من العمل الصالح المتنوع-لازمًا ومتعديًا- ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ولو استطاع المسلم المسابق في مضمار القربات الانعتاقَ من أعمال الدنيا الصادة عن المسابقة من غير ضرر على ضرورة ليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان فقد رزق خيراً كثيراً، وفي بقية الشهور تعويض ما فات من شؤون الدنيا في شهر رمضان، فإذا لقي الله تعالى وهو على مطية الجد فما أحسن وأعظم ما ينتظره عند الرب الكريم!: و(عِنْدَ الصَّبَاح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ♦♦♦ وَتَنْجَلِي عَنهُمُ غَيَابَاتُ الْكَرَى)"[7]. [1] البيتان لشوقي دون ما بين القوسين. [2] رواه البيهقي والنسائي والدارقطني، وهو صحيح [3] متفق عليه. [4] رواه أحمد، وإسناده قوي. [5] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 101). [6] بيتان منسوبان للإمام البخاري، مقدمة فتح الباري (ص: 482). [7] مثل يضرب للرجل يحتمل الَشَّقةَ رَجَاءَ الراحة، مجمع الأمثال، للميداني، للميداني (2/ 3). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (4) ربان السفينة عبدالله بن عبده نعمان العواضي تنطلق الرحلة السعيدة بالله مجراها ومرساها تمخر عباب الزمن القصير، وعلى مقود سفينتها ربان القيادة الذي يزجيها إلى شطآن الأمان، ويلقي على رفقاء الركوب تعاليمَ السلامة، ومفرداتِ خطة الاستقامة. إن على كاهله مهمة عظيمة، وأمانة كبيرة؛ فهو النور الذي يشق سجوف الظلام ليعبِّد طريقًا منيراً للسائرين، وهو القبلة التي يتجه إليها الحيارى؛ ليعرفوا السبيل السالكة، والوجهة الصحيحة. إذا نحن أدلجنا وأنتَ إمامُنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كفى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجد http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دليلاً كفانا نورُ وجهك هاديا[1]. http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهو الذي يرقب أحوال رفقاء الطريق فيكون الطبيبَ لمدنَفهم، والواعظَ لمسيئهم، والمذكِّر لغافلهم، والمعلِّم لجاهلهم، والدليل لضالهم، والقدوة لهم في أقواله وأعماله، وهم يردون نهر أحواله يستعذبون ماء النجاة من قوله ومن فعله، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال، ويسلمون له أسماعهم وقلوبهم، وينقلون ما رأوه عليه، وما سمعوه منه إلى الواقع العملي. فـ" كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا"[2]. فيا إمام المسجد، أنت ربان السفينة التي يفد إليها المصلون، وحادي القافلة الذي قدَّمه المتطهرون، وكبش الكتيبة الذي سوّده المتوضئون، والشامة التي يشرئب إليها الناظرون، وأنت في نعمة عظيمة، ووظيفة شريفة، إذا قمتَ بحقها، وأديت أمانة الله عليك فيها. قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له ♦♦♦ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل[3]. فإذا جاء رمضان عظم الخَطب، وزادت التكاليف، وكثرت الحاجة إلى جهدك، والتفت الناس إلى بضاعتك، وانتظروا ما تقدمه لهم من عطايا الآخرة، فكنْ في أسنمة الثناء، ولا ترضَ لنفسك معرّةَ الهجاء. عليك بأرباب الصدور، فمن غدا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مضافاً لأرباب الصدور تصدّراً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإياك أن ترضى (لنفسك سُبَّة) http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فتنحطَ قدراً من عُلاك وتُحقرا[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقُبيل مجيء رمضان أعدّ البرنامجَ الدعوي النافع المتنوع الذي تسير عليه في زمان الشهر الكريم، وليكن هذا البرنامج مما ترى أن الناس محتاجون إليه-فيمكن أن يكون فيه: مجالس تفسيرية وتدبرية للقرآن الكريم، وأحكام الصيام والزكاة، وشيء من رقائق، وسيرة وتاريخ إسلامي، وغير ذلك مما ينفع الناس. كما أنها نعمة عظيمة أن يأتي رمضان فيسوق جموعَ الناس إلى سفينتك التي تنجي الغرقى، وتصل بأهلها إلى بر السلامة، فبعض الذين تلاطمت بهم أمواج الغفلة واللهو أحد عشر شهراً لجأوا – راغبين - إلى مركبك، فأحسن استقبالهم، وأكرم قدومهم بحسن تعاملك، وبذوخ أخلاقك، وسعة صدرك، وقوة تحملك جهلَهم وضجيجهم ونقدهم واعتراضهم؛ فهم من مؤلفة رمضان؛ فابذل لهم زكاة رِفْقك، وصدقة صبرك. وحبّب إليهم المسجد وروَّاده بحسن تعليمك، وطيب تربيتك، ولين جانبك، وصدق نصحك، وحكمة معالجتك للأخطاء، وجمال ما تلقي عليهم من المعلومات والقالب الذي يوصلها إليهم. وهيّء الجوَّ المريح في أرجاء مسجدك، وأزلْ أسباب النفور عنه بقدر استطاعتك. وزيّن الصلاة بإتقانك للقرآن، وحسن صوتك، وهدوء قراءتك، وتخفيفك عن الناس إلى حد مقبول. ونحن نعلم وأنت تعلم أن الحِمل ثقيل، والعبء جليل، وقد تلقى من الناس مَن لا يقدرك حق قدرك، ولا يشكر لك فضلك وبَذْلك، بل قد تجد من يسيء إليك، ويلقي متواترَ اللوم عليك، وأنت سائر على الجادة، قائم بحق المهمة، فدع ذاك الجفاء والإساءة خلف ظهرك، ويمم نحوَ ثناء الله وثوابه، على بساط الإخلاص، غير ملتفت إلى مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36]. [1] الفوائد (ص: 41)، لابن القيم. [2] مثل يضرب لمن يُفَضَّلُ على أقرانه، مجمع الأمثال، للميداني (2/ 136). [3] البيت من لامية الطغرائي، الكشكول، للعاملي (1/ 303). [4] البيتان في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (5/ 190)، دون ما بين القوسين. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (5) جنة التراويح عبدالله بن عبده نعمان العواضي من دوحة رمضان الندية يمتد غصن مياد من أغصانها الناعمة ليصافح أهلَ المبادرة الذين يتتبعون شعف الأعمال، ومواقع قطر القربات؛ ليرووا روضة الإيمان؛ ليقوى عودها، وتورق فروعها، وتضحك أزاهيرها، ويفوح عبيرها. فتحتَ هذا الغصنِ الذي يتفيأ ظلاله وجماله عن اليمين والشمائل يلفي السبّاقون جنةً من جنات الدنيا يستحم فيها الفؤاد المفؤود، ويستجم فيها الصدر الجريح، وتغتسل العيون من قتام القسوة، ويلبس الوجه حلة نورانية مشعة، ويطلق الحِجا ليسبح في ملكوت الآيات، فيكسر مغالقَ الغفلة، ويفك قيود الفهم، وتنال الآذان نصيبها من سماع الجُمل العذبة التي تترقرق فيها ترقرق الجداول في الخمائل، وتأخذ الأقدام جظها من القيام الخاشع الذي تدخره ليوم قيامها لرب العالمين. تلك صلاة التراويح التي منَّ الله تعالى بها على أهل رمضان. تلك العبادة التي تعد من محرِقات الأوزار، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[1] ومن صفات الأخيار الأبرار، الذين ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور:37]. تلك القربة التي يشتاق إليها المحسنون، وكلما اقترب نزول رمضان برّح بهم الحنين، وعظمت اللوعة: وأعظم ما يكون الشوق يوماً ♦♦♦ إذ أدّنت الخيام من الخيام[2]. فما أحسنَ تلك الجموع التي ظلت واقفة بين يدي ربها تسمع آيات كتابه تتلى عليها زمرة بعد زمرة، وهي لا تبرح مصلاها حتى يفرغ الإمام، طالبةً بصبرها ورباطها هذا ثوابَ الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)[3]. لقد ترك هؤلاء القائمون أهلَ الغفلة وراءهم يحتسون كؤوس الخسارة، مثقلين بثقل بطونهم، أو مسلوبي النهى والعيون من وسائل إعلامهم، أو منصرفين إلى أعمال دنياهم، أو لاهين في أودية عبثهم، ومجالس قالهم وقيلهم، فالصالحون في شأن وسواهم في شؤون أخرى، فطوبى لأولئك القائمين، وحسرة على من لم يكن معهم. فيا من وفِّق لصيام رمضان لا تحرم نفسك من قيامه، ولا تنظر كثرة المعرضين عنه؛ فيصدك ذلك عن جنة التراويح؛ فإن أولئك اللاهين لن يحمدوا لهوهم، ولن يسلموا من توجع الندم حينما لا ينفع. فإذا رزقت ولوج نعيم هذه الجنة فتهيأ لها تهيؤاً صالحًا: فخفف حمولة الطعام والشراب؛ فالسباق إنما هو للخيل المضمرة، واهجر الروائح الكريهة؛ فإنها تنفر عنك صالحي السماء وصالحي الأرض؛ وسارع إلى الصفوف الأُول؛ فإنها تستحق المسابقة، وأرعِ للقراءة سمعك وقلبك؛ لتسمع فتتدبر فتعمل، فمتى وقعَ ذلك القول في القلبِ فرسخَ فيه نفعَ، فهذه طريق من طرق الفوز في رمضان: ومن طلب الوصولَ لدار ليلى ♦♦♦ بغير طريقها وقعَ الضلالُ[4]. [1] متفق عليه. [2] تزيين الأسواق في أخبار العشاق، للأنطاكي (1/ 58). [3] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان، وهو صحيح. [4] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (6/ 301). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (6) حلية الأخلاق عبدالله بن عبده نعمان العواضي في حياتنا هذه يتباهى الناس بجمال الظاهر- الخَلْقي والمكتسب -، ويتفاخرون بحسن الشارات، وإشراق الهيئات، وانبلاج الصور، ولطافة البِزّة، وترقرق ماء الجمال في الوجوه. وينفقون على ظهور الكمال المستطاع في ذلك كثيراً من الحرص والنظر، والمال والوقت. ويأتي هذا الاعتناء بالتأنّق؛ لكون أكثر الناس المشاهدين يعنون[1] لدولة الحُسْن الذي تراه الأبصار، ولا يستهويهم الحسنُ الذي تراه البصائر والعقول. أما العقلاء والمؤمنون فيحبون الجمال الظاهر؛ لأن الله" جميل يحب الجمال"[2]، ولكون النفس مجبولة على الميل إليه، ولكنهم لا يقدمونه على الجمال الباطن، بل يرونه أدنى الجمالين لا أعلاهما. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[3]. لَيسَ الجَمالُ بمئزرٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فاعلمْ وإِنْ رُدّيتَ بُرْدا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إِنّ الجمالَ مآثرٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَمَناقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدا[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وينسب لعلي رضي الله عنه: ليس الجمالُ بأثواب تزيننا ♦♦♦ إن الجمال جمال العلم والأدبِ[5]. كمْ من جمال ظاهر يسبي العيون والأسماع، وفي داخله قبح فسيح يضيق القلوب والصدور، ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4]. وكم من قبح ظاهر تقتحم صاحبَه الأنظار، ولكنْ في قاعه الدر كامن، وفي باطنه آفاق واسعة من الحسن البديع، الذي إذا ظهر عظمّت النفوس صاحبه، وتاهَ ذلك القبح البادي في متاهات ذلك الجمال المعنوي الرحب. فكم من جميل الصورة، قبيح السريرة، وكم من مبغوض المنظر، محبوب الجوهر. إن الجمال المعنوي للذوات هو نصيب القلوب الصافية، والعقول الواعية؛ لإدراكها أثرَ ذلك على الأفكار والسلوك، وأما الجمال الحسي فهو حظ العيون التي لا ترى إلا قشور الذوات، ولا تتجاوز ذلك إلى ألبابها التي قد تكون الدود عبثت بها نخراً وتفتيتًا حتى رمتْ وبليت، فما أكمل أن يجمع المرء بين جمال الباطن وجمال الظاهر، ويرضي القلوب والعيون معًا! وما أجمل قول حسان رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خُلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ[6]. http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الأخلاق الحميدة جمال معنوي يزين الإنسان ويطريه، ويحبّبه إلى الخلق ويُعليه؛ فهو حلية برّاقة، وكساء ساتر مشرق، ودوحة وارفة الظلال يجد الخلق تحت أوراقها الغضة، وأفنانها الميّادة طيبَ العيش، وحسن الجوار الذي يقيهم وهجَ كدر الأخلاق، وسوءَ لقاء أهلها. فالمتزين بهذه الحلية ينعم باله، ويحسن حاله، ويكثر خلاّنه، ويحتفّ به أخدانه، وتحلّ في داره السعادة، وإذا ابتغى بذلك وجه الله كان في عبادة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله، وحسن الخلق)[7]. إن الأخلاق الحسنة سرحةٌ عظيمة كثيرة الفروع تمتد إلى جميع الجهات، وليست فرعًا واحداً إلى جهة واحدة، فهي أخلاق مع الله تعالى: من الإخلاص له في عبادته، ومراقبته، وتقواه، وشكره وذكره وحسن عبادته، وغير ذلك. وهي أخلاق مع النفس: من صبر، وحلم، وقناعة، ومحاسبة، ومجاهدة، وغير ذلك. وهي أخلاق مع الخلق: من رحمة، وتعاون، ونصيحة، وحب، وسخاء، وحسن عشرة، وعفة، وحفظ للسان، والسمع، والعين، واليدين، والرجلين عن السوء، وغير ذلك. يأتي رمضان الإيمان ليسدل على المجتمع المسلم بساطَ الخلق الكريم بمعناه العام، فيعيش الرمضانيون في ظله حياة يعمرها الصيام والقيام، وصفاء الأحلام، وامتداد المحبة والوئام، وطهارة القلوب، وبشاشة الوجوه، وسلامة الجوارح من الإيذاء. ويأتي رمضان ليزداد خلق التقوى والمراقبة والخشية، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. ويأتي رمضان ليساعد المسلم الصائم على تربية نفسه على الأخلاق الكريمة، فيصبر على ما تكره النفس، ويلجمها عن أهوائها، وانحرافِ ميولها. ويأتي رمضان ليعطي المسلم دروسًا في كسب القلوب، وجذب النفوس، فيحلم الصائم عند الاستغضاب، ويسخو ببشاته وابتسامته، كما يسخو بماله وعطفه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8]. فما أجمل أن ترى الصائمين وهم يسعون صاعدين على مراقي حسن العبادة الخالصة، حتى يؤدوا حق الخُلق الحسن مع الله! وما أحسن أن ترى الصائمين وهم كالأزهار في روض الصفاء، كلهم ينشرون عبير الإخاء في الأرجاء، وتشرق البسمات الصادقة على قسمات وجوههم كما تشرق الشمس عند ميلادها على تلك الزهور المتعانقة، فيزدادون بريقًا وألقًا. وما أكمل أن تنبت هذه الأخلاق السامية في جنة الصوم، ثم تنمو وتشتد سوقها، وتصبح أشجاراً مثمرة بعد رمضان، فينال جناها الداني صاحبُها وغيره. إن الأخلاق ميزان الصيام، فمن حسن خلقه حسن صيامه، ومن ساء خلقه ساء صيامه. وما سوء الأخلاق التي قد تبدو على بعض الصائمين إلا برهان على وجود خلل في صيامهم فليراجعوا صومهم قبل أن تطوى الصحيفة، ويرتحل الضيف، ويذهب الشاهد، وتُقوّض السوق المعمورة بالخيرات. [1] عنا يعنو: خضع وذل. الصحاح للجوهري (7/ 290). [2] رواه مسلم. [3] رواه مسلم. [4] البيتان لعمرو بن معد يكرب. عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 127). [5] ديوان علي بن أبي طالب (ص: 185). [6] ديوان حسان بن ثابت (ص: 2). [7] رواه الترمذي وابن حبان، وهو حسن. [8] رواه البخاري. |
رد: غصون رمضانية
هُدًى للنَّاس غصون رمضانية (7) عبدالله بن عبده نعمان العواضي في ليلة مباركة من رمضان سطع نورٌ عظيم في السماء، وهبطَ في سكون الليل البهيم إلى مكان ناءٍ ضمَّ بين جوانحه حاملَ هذا النور الموعود، الذي فرَّ من الدياجي القاتمة التي تحاصر بلدته "مكة"؛ ليجد في هذه البقعة القصية نورَ الأُنس بنور السماوات والأرض، وليرقب هذا اليومَ الأغرَّ الذي يعانق فيه نورَ الوحي، ويمضي به إلى الوجود؛ ليهديه من حيرته، وينجده من أمواج ظلمه وظلامه إلى ضفاف العدل والهدى. قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الدخان: 1 - 6]. ففي غار حراء ائتلف نور القول، ونور الزمان، ونور المكان، فانسكب النور في أذن الهادي البشير صلى الله عليه وسلم فحمله فجراً إلى أهل الأرض الداجية؛ ليطوي به دهوراً حالكة جثمت على صدور الخلق، وليرسله إلى القلوب فيغسل عنها أدران الشرك والانحراف، فتشرق بالتوحيد والصفاء، وتبرق بالحياة والبهاء. بشرى من الغيب ألقتْ في فم الغارِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وحياً وأفضتْ إلى الدنيا بأسرارِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأعلنت في الرُبى ميلادَ أنوار http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وشقّت الصمتَ والأنسامُ تحملُها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تحت السكينة من دار إلى دار http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهدهدتْ مكةُ الوسنى أناملَها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهزّت الفجرَ إيذانًا بإسفار http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأقبل الفجرُ من خلف التِّلال وفي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عينيه أسرارُ عُشّاق وسمّار http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأن فيضَ السنا في كل رابية http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تدافع الفجرُ في الدنيا يزفّ إلى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تاريخها فجرَ أجيال وأدهار[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هذا الكلام العظيم الذي أنزله الله تعالى على النبي الكريم نبعٌ عذب يتدفق على النفوس بالحياة الحقيقية التي تنتشلها من جفاف الموت، وعبوس الضلالة، وأغلال الأحزان؛ فتدب فيها الحياة كلّ الحياة، وتتشح بأثواب الهدى الضافية، وترسم على محياها مخايلَ السعادة الممتدة التي تحطّم قساوةَ الهموم والغموم. إن للقرآن في رمضان خصوصية وعلاقة متصلة؛ فرمضان شهر القرآن الذي أُنزل فيه، فالإكثار من قراءته في شهر بواكير نزوله تذكرٌّ لهذه النعمة التي لا تنقطع، وشكرٌ لمن أنزلها، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يدارس جبريل القرآن كلّ عام في رمضان، وفي رمضان تتضاعف الأجور، وقراءة القرآن من أعظم ما تُجتلب به الحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)[2]. وفي رمضان تخف البطن، وتضيق مجاري الشهوات، فيصفو العقل، ويرق القلب، وتقبل النفس، وتشرق الروح، فيعظم ميل المسلم إلى القراءة، وفي هذه الأحوال تؤتي تلك القراءة مع التدبر أكلَها كل حين بإذن ربها على الجوارح استقامةً وهداية. ولهذا كان الصالحون - وما زالوا - يُعنَون بالقرآن في شهر الصيام عناية خاصة، ويولونه اهتمامًا منقطع النظير، وكان العلماء منهم خاصة يدَعون كل شيء حتى مجالس الحديث والعلم؛ لينصرفوا عاكفين على قراءة كتاب الله تعالى،"؛ فلقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفَرَ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على تلاوة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه"[3]. فيا أيها المسلم، الباغي الخيرَ، الحريص على الأجر، دونك هذه الغنيمةَ الباردة، والنعمة المهداة، عبَّ من منهلها الثرِّ علالاً بعد نهل، والزمْ باب التلاوة ملازمة الدائن البخيل، وليكن القرآن في رمضان هِجِّيرك ليلك ونهارك؛ فالربح وفير، والعمر قصير، والأعمار تتصرم ببغتة الحِمام، والنجاة حاجتك، والثواب طِلبتك: وليس أخو الحَاجات مَنْ باتَ نَائماً ••• ولكنْ أَخُوها مَنْ يَبيتُ على وَجل[4]. ولكن لا تنسَ أن القراءة النافعة هي التي لازمها التدبرُ والحضور والتأمل، وباعدها الهذَّ والشرود والهذرمة، وأورثت رُقيَّ الروح، ونقاء القلب، وعملَ الجوارح، فمن نال ذلك فقد صار من أصحاب القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)[5]. [1] ديوان البردوني (1 /331). [2] رواه الترمذي، وهو صحيح. [3] طلائع السلوان، لحمزة الفتحي (ص: 115). [4] البيت للطرماح، تفسير أبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي، لأبي المرشد المعري (ص: 91). [5] رواه الخمسة وغيرهم، وهو صحيح. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (8) الكنز الثمين عبدالله بن عبده نعمان العواضي هناك كنز ثمين يمتلكه كل إنسان، ولكنه لا يبقى عند كل أحد مصونًا من اللصوص الذين ينتهبونه، أو ينتهبون منه، فبعض الناس لا يشعرون أن لديهم هذا الكنز، وبعضهم يشعرون بذلك، غير أنه ليس ثمينًا عندهم؛ فلهذا لا يحرصون على حراسته، ولا يحزنون على سرقته منهم. أما العقلاء من الناس فيعدّون هذا الكنز من أثمن الكنوز، بل يعتقدون أن هذا الكنز لا يقوّم بثمن؛ لهذا فهم لا يهدرون منه شيئًا، ولا يدعون أحداً يستلب منه جزء، بل يقفون على خزائنه حراسًا يقظين، لا يصرفون من ذلك الكنز العظيم إلا فيما ينفع في العاجل والآجل. هذا الكنز الثمين هو الوقت، الذي يُعدّ راحلةَ الإنسان في سفر الحياة، وطريقه إلى التمتع بمتع الدنيا، ومجالَه الذي يصل به إلى الآخرة، وهو النعمة التي تجاهل قدرها كثير من الناس، فضيعوها، فضاع منهم خير كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[1]. أما الذين عرفوا عظمة الوقت فإنهم أكرموه بالحفظ والرعاية، فأكرمهم بثمر شهي من الأعمال الجبارة التي نتجت عن ذلك الاعتناء - كلٌّ على قدر ما اعتنى -، ونظرة متتبعة لعظماء الإنتاج الديني والدنيوي - في الماضي والحاضر - تدل على ما نقول. عرف الزمانَ ذوو العقول فأسرجوا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هِممًا تتوق إلى العُلوِّ فطاروا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فبدا الصباحُ على نواصي عزمهم http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بغنيمةٍ نِيلتْ بها الأوطارُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الوقت ليل ونهار يتسابقان دون توقف، ويسرعان من غير تريث، من استمهلهما لم يمهلاه، ومن استنظرهما لم يُنظِراه، والوقت للإنسان عمر واحد لا يقبل التثنية والجمع، فإذا ذهب واحده أتى الإنسانَ ما يوعَدُه، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. والوقت حق شخصي صِرفٌ، لا يقبل البيع والشراء، ولا الهبة ولا العطية، ولا يستدينه أحد من أحد حقيقةً، والوقت غير مؤمن بالعودة، والرجوع إلى الوراء، فما ذهب منه فلن يعود. لقد أعطى الله تعالى الإنسان نعمةَ الزمن أرضًا خصبة يزرع فيها الشجر النافع الذي يطعم من ثمراته اليانعة - إذا زرع وتعهد زرعه بالري - راحةً في الدنيا، وفلاحًا في الآخرة. لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على استثمار الوقت فيما يفيد الإنسان قبل فجأة الموانع من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال؛ فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) [2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [3]. إن الله تعالى قد كتب على المسلمين صيام رمضان لحكم عظيمة، لعل منها: تعليمهم المحافظة على الوقت، ونبذ ثقافة الفراغ من أذهانهم، ونزع لباس العبث والكسل والفوضى من أعمالهم. فرمضان دورة تدريبية تربي المسلم على معرفة شرف الزمان، وكيفية استثماره، فزمن صيام رمضان محدد في ابتدائه وانتهائه، والإفطار كذلك، فتناول الطعام والشراب وسائر المفطرات له وقت معلوم، والكف عنها له أيضًا زمن معين، والفراغ في رمضان - بعد أداء الواجبات - رُغِّب المسلم في ملئه بالنافع من القول والعمل ليلاً ونهاراً من صلاة نافلة، وتلاوة، وذكر، ودعاء، وجهاد، وإحسان، وغير ذلك من الأعمال الصالحة والنافعة، إضافة إلى الأعمال الدنيوية. كما أن الصيام المشروع يُبنى على التقليل من الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام غير نافع وخلطة؛ لأن هذه الفضول تقتل جزء كبيراً من الوقت انشغالاً بها، وقطعًا عن غيرها من الأعمال المثمرة، وتركُها يعين على التوجه للأعمال المرغَّب فيها بقوة ونشاط. لهذا كله ينبغي للمسلم أن يدرك شرف زمان رمضان، فيملأ فراغه بالعمل المفيد الكثير، ويزيح عن باله وعن واقعه العملي وجودَ فَضلة وقت، فالوقت في حياة المسلم كلها - وخاصة في رمضان - كله عمدة. وما أجملَ أن يكون لدى المسلم في رمضان جدولٌ دقيق يسير عليه، فيجعل لعمل الدنيا وقتًا، ولقراءة القرآن وقتًا، وللأذكار والدعاء والتعلم والتعليم وبذل المعروف، وغير ذلك من الأعمال الصالحة أوقاتًا أخرى. وهذا التنوع المنظم الشامل لزمان رمضان يخفف على الصائم مشقة الصوم، بل ويجعل لشهر الصيام لذة وراحة، حتى تقضي الروح فيه وطرها في سعادة غامرة. وحينما لا يعرف المسلم شرف زمان رمضان، ونفاسة وقته تزداد مساحة الفراغ لديه فتحدث عنده مشكلات ومفاسد، وإن ملأ جزء من فراغه فقد يملأه بما لا يفيد، وأعداء الزمن الشريف قد أعدّوا للصائمين عبر وسائل الإعلام ما يشغلهم عن بركة رمضان، والمسابقة إلى خيراته. قيل لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم: " أي شيء قلته أحكم عندك وأعجب إليك؟ قال: قولي: علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ [4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإذا انحدر المسلم إلى هذه الهوة السحيقة من معاناته مشكلةَ الفراغ، والانصراف إلى بذل الوقت النفيس في المحرمات أو التفاهات؛ فإنه تعظم خسارته البدنية والروحية، فالصيام سيثقل عليه حتى تطول عليه الأيام، ويجثم عليه ملال الطاعة، ويغدو يشكو من تخمة الفراغ المضني، ليستغيث من ذلك بالتخبط في الشوارع وأماكن اللهو خصوصًا بعد الظهر وبعد العصر، ملقيًا عن كاهله عبء الوقت وضيقه، فإذا جاء الليل نبض فيه عرق الحياة الغافلة، وانقدح في ذهنه زند اللهو المتقد، فصار عاكفًا في محاريب الغفلة، أمام قناة أو جوال، أو في مجلس للسمّار في غير طاعة، وهذا دأبه حتى يخرج رمضان فيكون في قائمة الخاسرين. ومن ترك الزمانَ بغير بذرٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سيحصد عند يقظته الندامه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغرسُ السوء يثمر كلَّ سوء http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغرس الخير يَبسُم بالسلامه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] رواه البخاري. [2] رواه مسلم. [3] رواه البيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [4] لباب الآداب، للثعالبي (ص: 172). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (9) صبر الصائمين عبدالله بن عبده نعمان العواضي تقفُ على طريق الحق أهوالٌ متنوعة تترصّد أهلَه لتفتك بهم، أو تؤخر مسيرهم عن الوصول إلى غايتهم، وتتبدى بصور مختلفة، وتعترض السبيل بأساليب متعددة، وكلما تجاوز أهل الحق هولاً منها بدا آخر، فمنهم من ينجو، ومنهم من يهلك، وتستمر الحال حتى بلوغ المسافر أرضَ وطنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه)[1]. والسالك هذه السبيلَ المحفوفة بالمكاره والفتن إذا لم تكن له درع حصينة تحميه فتكَ هؤلاء القُطاّعِ فإن كلاليبها ستتخطفه وتهوي به في مكان سحيق. فمن الدروع السابغة التي متى ما تدرع بها المسلم جعلته يمضي في طريق الجنة حتى يصل إليها - بعد خوض الغمرات، ومصابرة المكروهات، وعصيان الإغراءات -: درعُ الصبر، الذي يعني: حبس النفس على لزوم الحق في أمر تفعله، أو أمر تنكف عنه. والصبر خُلُق من الأخلاق الكريمة التي تشير إلى النفوس العظيمة، استطاعت باتشاح هذا الخلق النبيل أن تقارع الأخطار، وأن تنازل الأضرار، حتى تصل إلى محمود الأمر، وسنام الهدف، وانفراج الحال بعد الضيق، والراحة عقب العناء، وذلك لا يكون إلا على جناح هذه الشيمة النبيلة، قال نهشل بن حرّى بن ضمرة: ويومٍ كأنّ المصطلين بحرّه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif -وإن لم يكن نارٌ- قيامٌ على الجمرِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تُفرّج أيامُ الكريهة بالصّبر[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال الآخر: بكى صاحبي لما رأى الموتَ فوقنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مُطلاًّ كإطلال السحاب إذا اكفهرْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقلتُ له لا تبك عينُك إنما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يكون غداً حسنُ الثناء لمن صبر http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما أخرّ الإحجامُ يوماً معجّلاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا عجّل الإقدامُ ما أخّر القدر[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهو صفة حميدة تضبط النفس، وتقيمها على نهج المكارم، وتضيء لها فجر النجاة في حالك الظُلَم، قال عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء)[4]. وهو عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى من عبده، ويجازيه عليها جزاء وافراً؛ لأنه يقود النفس إلى ركوب الآلام بغية الآمال، ويبني رسوخها على الحمد عند زلازل الأمور، ويكبح جماحها حين تريد السوم في حمى المحظورات؛ ولذلك تواترت الآيات القرآنية الكثيرة في الأمر به، والثناء على أهله، وبيان أهميته وفضله، والإخبار عن الثواب الجزيل لمن اتصف به، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]، وقال: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. والحياة الدنيا كلها معركة صبر لا يدخل أحد الجنة إلا بالانتصار فيها؛ ولذلك يأتي الملائكة في دار الفلاح مهنئين أهل الظفر في هذه المعركة قائلين لهم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]. وما شهر رمضان إلا صفحة من صفحات الصبر في كتاب الحياة، لكنها صفحة ليست ككل الصفحات، ففي رمضان تتجلى معاني الصبر في أبهى صورها، وأنصع سطورها؛ ولذلك سمي بشهر الصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر)[5]. ففيه تجتمع أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله تعالى، وصبر عن معصيته، وصبر على أقداره المؤلمة. فالتحلي بالصيام الصحيح، والمداومة على القيام والتراويح، وحبسُ النفْسِ الطويلُ على تلاوة القرآن وتدبره، والاجتهاد في العشر الأخيرة، وقيام ليلة القدر، والانتصار على النفس لتجود على المحتاجين، وأمرُ الأهل والأولاد بالفضائل، وتحذيرهم من الرذائل، وتعليم الناس ووعظهم، وغير ذلك من الطاعات؛ كل ذلك من الصبر على طاعة الله تعالى. قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، وقال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]. وهذا النوع من الصبر إذا قام به الصائم على تمامه يعظم حمله عليه حينما لا يرى صاحبُه قدوات كثيرة يستأنس بهم، فقد يشعر بالغربة في وسط مجتمع راغب عن المسارعة إلى هذه القربات، ولكن يستحثه إلى تصبير نفسه على تلك الفضائل ما يعلمه من الأجر العظيم، والنوال الكريم لمن سارع إليها، وزاد حظه منها. وكفُّ النفس عن مفطِّرات الصيام، وحظرُ الجوارحِ عن الآثام، من عين وسمع ولسان، والبعدُ عن جميع المحرمات؛ هو صبر عن معصية الله تعالى. والمعين على لزوم هذا الصبر: أن تقوى في قلب الصائم معاني الخوف والحياء من الله عز وجل، وأن يتذكر ما أعده الله لمن عصاه من الغضب والعقوبة، وما يلحق العاصي من الخزي والندامة؛ لكون المعاصي حلوةَ الأوائل مرّةَ العواقب، كما قال بعض الحكماء. وغانيةٍ مثلِ الربّابة حسنُها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ينادي مُعنّى القلبِ هل لك في مثلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقلتُ فؤادُ الصَبِّ هاوٍ وخوفُه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من الله كفّ النفسَ عن زللِ الوصل http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي الصبر سلوى عن وصالكِ والهوى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُزَّمُ بأعلاق الديانة والعقل http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والصائم إذا خطم نفسه عن ورود هذه المناهي عظُمَ شأنه عند الله وعند الناس، واستطاع أن يستريح راحة ممتدة في حاضره ومستقبله، وتحرر من تسلط النفس عليه، فكان سيدَها الذي يقودها، ولم يعد عبداً لها تقوده. والنوع الأخير هو صبر الصائم على أقدار الله؛ فالصائم قد يفقد بعض المحبوبات، وتطوقّه المشقات، وتنزل بساحته المكروهات، سواء ما تعلق منها بالصيام أم ما كان خارجًا عنه، فالصائم يواجه في رمضان حرَّ الجوع وأُوامَ العطش، وما يتبع ذلك من ذبول الأعضاء، وفتور الحركة، ويشتد ذلك إذا كان صيامه في جوٍّ شديدٍ حره، فيجتمع على الصائم حرّ الباطن، وحر الظاهر. ربّ يومٍ هواؤُه يتلظَّى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيحاكي فؤادَ صَبٍّ متّيمْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قلتُ إذ صاب حَرُّه حَرَّ وجهي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنمْ[6] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويواجه الصائم ما يدعو إلى الكراهة، وبعثِ الغضب من مكامنه؛ كسوء أخلاق بعض الناس، ويلاقي مصائب أخرى تستثير منه الجزعَ وخِفة الحلم، ولكن الصائم العاقل يقابل كلَّ ذلك بحبس النفس عن السخط والتضجر، وتفجر الغضب والمبادرة إلى الانتقام، ويساعده على هذا النوع من الصبر: ما يرجوه من ثواب الله تعالى للصابرين المحتسبين، وما يعقبه هذا الصبر من المسارِّ العاجلة والآجلة، وما يجنيه الطيش والخروج عن هذا الحصن الحصين إلى الغضب والسخط من المضار نقداً أو نسيئة. قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[7]. قال ابن حميدس: صَبَرْنَا لهمْ صَبْرَ الكرام ولم يَسُغْ ♦♦♦ لنا الشهدُ إلاَّ بعدما ساغَ علقمُ[8]. وقال آخر: وكم غمرةٍ هاجت بأمواج غمرة ♦♦♦ تلقّيتها بالصبر حتى تجلّتِ[9]. [1] رواه مسلم. [2] بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر (ص: 102). [3] عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 53). [4] رواه مسلم. [5] رواه أحمد والنسائي، وهو صحيح. [6] البيتان للثعالبي، نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (1/ 162). [7] رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وهو صحيح. [8] ديوان عبد الجبار بن حمديس (ص: 569). [9] الكشكول، للعاملي (2/ 52). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (10) صيام القلب عبدالله بن عبده نعمان العواضي "الملِك" اسم يشد الأذهانَ إلى معاني القوة والعظمة، والقدرة والسلطة، ونفوذ الحكم الصادر عنه فيمن سواه. ويشير هذا الاسم الفخم إلى وجود آمر يصدر، ومأمور ينفذ، ومملكة يقوم على هرمها هذا الملك. وهذه القِمّة الوظيفية السامقة ليست في الأمور العامة فقط، بل في الأمور الخاصة أيضًا؛ فجسد الإنسان يتكون من أعضاء مختلفة، ولها ملك تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه، فإن استقام استقامت، وإن اعوجّ اعوجّت، وإن صلح صلحت، وإن فسد فسدت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)[1]. وحينما كان قلب الإنسان هو ملك أعضائه، التي بصلاحها نجاته، وبفساده عطبه؛ كان محطَ نظرِ الله تعالى، فإن وجده سليمًا فيا سعادة صاحبه، وإن وجده مريضًا فيا ويله وشقوته! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[2]. لهذا تعين على الإنسان أن يولي ملك جوارحه عنايةً خاصة، فيحلّيه بحليه الصلاح، ويخليه من درن الفساد، ويحرسه من كل عدو يريد تكدير صفائه، أو سرقة ذحائره، فالشيطان وأعوانه يرابطون على تخومه ينتظرون ساعة غفلة من حرس الحدود حتى يهجموا فيعيثوا في القلب فساداً. احرسْ فؤادَك من لصوصٍ لم تَزلْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حول الحِمَى يترقّبون ترقّبا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فحراسةُ القلب السليم غدتْ له http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أولى من الكنز الثمين وأوجبا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن هذا الملك العظيم معرّض للضغوط الخارجية، والمؤامرات الداخلية؛ ففتن الشبهات، وفتن الشهوات تعرض عليه، فإن جنح لها، وعدل عن خوف ربه إليها فهي الكارثة المحققة على مملكته، وإذا وقف صامداً أمامها، ولم تلن له قناة عند عرضها فذلك عزّ له ولمملكته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه) [3]. إن بعض القلوب - مع توارد الشبهات والشهوات عليها- تتبدل أحوالها، وبتبدلها إلى السوء تنحرف جوارح أصحابها، والقلوب من طبعها كثرة التقلب، فإذا لم يكن عون من الله للفتى يعصم قلبه، ويحول بينه وبين الزيغ، ولم يكن المسلم مراقبًا لقلبه، يقظًا على حصون حفظه، مالت بها الأهواء كلَّ مُميل؛ ولذلك شُرع لأهل الإيمان الدعاء بتثبيت القلوب، وعدم حصول زيغها. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) [4]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] يدخل شهر رمضان المبارك على المسلم ومعه أشفيةٌ حميدة تداوي القلب، وتبثّ فيه رونقَ الحياة، وتتوفر على إزالة أمراضه، وتجليته وصقله. لهذا كان من المحتم على المسلم في رمضان أن يلتفت إلى قلبه لفتة عناية، مستغلاً الجو الإيماني الفسيح، فيقوم بعمليتي إصلاحه، وهاتان العمليتان هما: التخلية والتحلية، فيقف مع قلبه ناظراً إلى أدغاله إذا - وجدت - من شرك أو نفاق أو رياء، أو تعلق بغير الله، أو أحقاد وحسد، ونحو ذلك فيكرّ عليها ويبعدها عن فؤاده، ويقطع أسبابها إليه. وبعد إجلاء ذلك الزغل يفرّ إلى تحليته بحلية الإيمان والتوحيد والإخلاص والتعظيم والمراقبة والخشية والتوكل على الله تعالى، ويُجري إلى أنوار تلك الروضة الغناء شآبيب نمائها وصفائها، ففي رمضان عوامل تحلية إيمانية تنفع القلب، وترفع مستوى حياته إلى درجات عالية، منها: الصيام الصحيح القائم على التخفيف من الفضول كفضول الطعام والشراب والمنام والنظر والمخالطة، وقراءة القرآن قراءة متدبرة، وقيام رمضان بحضور السكينة والخشوع، والإحسان إلى الناس بالقول والمال والحال؛ ابتغاء وجه الله، وغير ذلك. ثم بعد هاتين العمليتين يبقى على حمى قلبه خفيراً يحوطه بوسائل الحماية التي تمنع عنه الاختراق الشيطاني الذي يميت قلبه أو يمرضه، أو يذبل بهجة ذلك القلب السليم. [1] متفق عليه. [2] رواه مسلم. [3] رواه مسلم. [4] متفق عليه. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (11) صيام اللسان عبدالله بن عبده نعمان العواضي اللسان عضو صغير ذو خطر كبير: إن اللّسان صغيرٌ جِرمُهُ وله *** جُرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المثل[1] فهو يُعلي صاحبه أو يُدنيه، ويحبّبه أو يقليه، ويعزه أو يذله، وينفعه أو يضره، ويبعده أو يقرّبه، ويربِحه أو يخسره. فبنطق اللسان يدخل الإنسان الإسلام أو يخرج منه، وبه يثقل ميزانه أو ينخفض، وبه يدخل الجنة أو يدخل النار. وبه تزيد حسناته أو تزيد سيئاته، وبه يزيد أصدقاؤه أو يزيد أعداؤه، وبه يزيد ماله أو تزيد خسارته. وبنطق اللسان يُعرف عقلُ الإنسان من حمقه، وعلمه من جهله، وفصاحته من عيه، وصدقه من كذبه، وعفته من فحشه، وحلمه من طيشه؛ فاللسان مرآة العقول والقلوب، " إنَّ اللسانَ رسولُ القلبِ للبشرِ"[2]. يدل على جهل الفتى فضلُ نطقه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ونطقُ أخي العقل الرصين قليل http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإنّ لسان المرء ما لم يكن له http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حصاة على عوراته لدليل[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن النطق – الذي جُعل اللسان وسيلة له - مِنَّة سامقة، وهِبة باذخة، أُعطيها الإنسان ليصل به إلى منافعه، ويدفع به مضاره. فهو الحاسة التي اختص بها الإنسان عن سائر الحيوان فغدت الوسيلة التعبيرية العظمى التي يعبر بها الإنسان عما يجيش في نفسه، وينقل عبرها ما يريد أن يُفهمه غيره بكل سهولة، بخلاف الأبكم؛ فإنه متى أراد أن يفهم غيره مراده استخدم أصواتًا متنوعة، وحركات متعددة، مع صحبة المشقة في ذلك. فلما كان اللسان في هذا المكان السامي صار محلاً للحسنات والسيئات، وغدا ما يفوه به من الخير والشر مدونًا في صحيفة الإنسان يحاسب عليها عند لقاء ربه، قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]. فمن حسنات اللسان: " النطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن، والدعاء والذكر، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وغير ذلك. ومن سيئات اللسان: النطق بكلمات الكفر والنفاق والزندقة، والإساءة إلى الناس من كذب وغيبة ونميمة واستهزاء وفحش، وغير ذلك. إن الإنسان يواجه مشقة شديدة في زمّ لسانه، وتقويم عوجه، ومراقبة ما يتكلم به، ولكن مع قوة الإيمان وحصافة العقل والتعود يسهل الأمر. عوّد لسانك قولَ الخير تحظ به http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن اللسان لما عوّدت معتادُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif موكل بتقاضي ما سننتَ له http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الخير والشر فانظر كيف ترتادُ[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمن استطاع أن يكون سيدَ لسانه، وقائد بيانه فلم يفه لسانه إلا بصواب القول؛ سَلِم دينه، وارتاح ضميره، وكُفي عواقب القول غير المرضي، وأمِنَ حُرَقَ الندامات، فالعاقل يتذوق الكلام قبل إخراجه، كما يتذوق الطعام قبل ابتلاعه، ويرجّ عقله قبل الحديث كما يرج مشروبات الدواء، ومشروبات الغذاء قبل الاستعمال. فإذا لم يجد المرء مجالاً لقول الخير فليلذْ بحصن الصمت، فالعي في الباطل فصاحة في ميزان الحق؛ لهذا دعت الشريعة الغراء كما نصح الحكماء بالفيئة إلى السكوت إلا في الحق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)[5]. سجنُ اللسان هو السلامة للفتى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من كلّ نازلةٍ لها استئصال http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنّ اللسان إذا حللت عقاله http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألقاك في شنعاء ليس تقال[6] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن من رحمة الله وفضله على عباده المؤمنين أن وهبهم دورة تدريبية- لمن لم يَسِر عليها من قبل- يتدربون فيها على إمساك اللسان عن كل سوء، وذلك في رمضان المبارك فهو موسم للصيام الحسي والمعنوي للجوارح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)[7]. وقال عليه الصلاة والسلام: (قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8]. فالمسلم مأمور في رمضان أن يُصيم لسانه عن كل قول مشين في حق الله تعالى، أو حق الرسول عليه الصلاة والسلام، أو حق الدين، أو حق الخلق، ابتداء أو رداً. إن من المشاهد المؤسفة أن يُرى بعض الصائمين في رمضان كثيرَ الذكر، كثير التلاوة، كثير الإحسان بالمال في رمضان، لكنه ذرِبُ اللسان على الناس الأقربين والأبعدين، تخرج كلماته إلى الناس شظايا تحرق الأسماع، وتجرح القلوب، حتى عُدّت جراحات اللسان عند الشرفاء أشد من جراحات السنان؛ ولذلك عبر الشعراء عن ذلك، فقال أحدهم: وَقَدْ يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْف بُرْءٌ *** وَجُرْحُ الَّدهْرِ مَا جَرَحَ اللَّسانُ [9] وقال آخر: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا التِئَامٌ *** وَلا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ الِّلسَانُ[10] وقال آخر: وجرحُ اللسان كجرح اليد[11] وقال آخر: والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر[12]. وعلى المسلم كذلك أن يزين لسانه بكل قول حسن من العبادات والأخلاق القولية الحسنة التي يؤدي بها حق الخالق، وحق المخلوق. احفظ لسانك واحتفظ من شرّه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنّ اللسان هو العدوّ الكاشحُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وزنِ الكلام إذا نطقتَ بمجلس http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيه يلوح لك الصواب اللائح http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والصمتُ من سعد السعود بمطلع http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تحيا به والنطق سعد الذابح[13] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمن صام لسانه شهرَ رمضان كله كما صامت بطنه فقد ربح ربحًا جزيلاً، فذاق في الدنيا حلاوة الصيام، ويرجى له في الآخرة وافر الإكرام. [1] البيت لابن المقري، جواهر الأدب، للهاشمي (2/ 34). [2] شطر بيت لابن عربي، ديوان محيي الدين بن عربي (ص: 433). [3] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 96). [4] الجليس الصالح والأنيس الناصح، للمعافى بن زكريا (ص: 128). [5] متفق عليه. [6] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (2/ 139). [7] رواه البخاري. [8] رواه البخاري. [9] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، للبكري (ص: 24). [10] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (ص: 24). [11] شطر بيت لامرئ القيس، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 96). [12] شطر بيت للأخطل، أدب الخواص، للوزير المغربي (ص: 5). [13] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 95). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (12) صيام السمع عبدالله بن عبده نعمان العواضي أطلَّ الإنسان على هذه الحياة وعلى كَتَده جرابُ أمانات استُودِعها؛ ليحفظها، ويقوم بحقوقها، فإن نثرها متخففًا منها؛ هرعًا إلى شهواته ثقلَ عليه الحساب، وخسر عند السؤال يوم المآب. ومن تلك الأمانات: أمانة السمع، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]. لقد أعطى الله الإنسان هبةَ السمع إنعامًا عليه؛ لتكون وسيلة إلى تحصيل العلوم، واستنارة الفهوم، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]. يمشي الإنسان في أحضان هذه الحياة، ويتقلب بين أكنافها فتتوارد إلى سمعه أصوات مختلفة يهتز ببعضها، وينقبض من أخرى، فيسمع الأصوات المحبوبة فيصغي إليها، ويلتذ بسماعها، فينعم باله، وينشرح قلبه، وتنبسط نفسه. وتصل إلى سمعه الأصوات المكروهة فيمجها، ويعرض عنها، ويتخذ الموقف المناسب إزاءها. فيسمع آيات القرآن الكريم – ولا سيما إذا كانت بصوت عذب - تتحدر على أذنيه تحدّرَ الجمان فيجد لتلك الحروف الندية نغمة رائعة تتسلسل بها الحياة إلى القلب فيطرب لها فرحًا، فينشط إلى تلبية نداء تلك الحروف الهادية: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]. ولسماع القرآن العظيم تأثير عظيم على النفوس؛ ولهذا كان الكفار يصفونه بالسحر؛ لقوة انجذاب السامعين إليه، حتى كانوا يتواصون بعدم سماعه، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، فكم أسلم في القديم والحديث من الناس لسماع آيات هذا الكتاب العظيم. وبهذه النعمة - نعمة السمع - تصل إلى الإنسان أحكام الدين، فيعرف الحلال فيتبعه، ويعلم الحرام فيجتنبه، وبه يتلذذ بوصول كلام والديه وأولاده ومن يحب. وبهذه النعمة ينصرف إلى هذا الكتاب المفتوح - الكون - فيسمع تسبيحه في حفيف أشجاره، وتغريد أطياره، وخرير أنهاره، وانهلال أمطاره، وهزيز رياحه، وهزيم رعوده، ويسمع ناطق الكون وصامته، على اختلاف لغاته، وتعدد نغماته. فيقول: فيَا عَجَبَاً كيفَ يُعصى الإلهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أمْ كيفَ يجحدهُ الجاحِدُ! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما أعظم نعمة السمع التي يتقلب الإنسان في نعيمها وقد لا يشعر بعظمها، إلا إذا ضعُفت أو فُقِدت!. بيد أن هناك سامعين لم يعرفوا قدر هذه الأمانة؛ فأعرضوا عن أداء حقها، فسخروها في سماع الباطل، وتتبع السوء: من جنوحٍ محبٍّ إلى استماع الانحرافات العقدية، والاعوجاجات الأخلاقية؛ بغية تشرّبها، ومن انصراف إلى استماع لهوٍ يدعو إلى الرذيلة، ويشغل عن الفضيلة، ومن ميل إلى متابعة أصوات النساء؛ تلذذاً بها، كما قال بشار الأعمى: يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأسمعينيَ صوتاً مطرباً هزجاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يزيد صبًّا محبّاً فيكِ أشجانا[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكما قالت أعرابية: وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومتى ما وصلت تلك الأصوات النابية إلى آذان واعية زرعتها في القلب المريض فأشرِب حبَّها، فأينع نباتها على الجوارح ثمراتٍ مرّة من الأعمال والأقوال السيئة. إن رمضان إذا أشرق نجمُه في النفوس شعشعَ فيها أنوارَ المعرفة لنعم الله تعالى، فسخر العبد الموفق ما وهبه الله منها في مرضاته، فيلتفت إلى سمعه ليشاركه في الصوم، فيهدي إليه الأصوات النافعة، ويحول بينه وبين سماع الأصوات المضرة، فإذا جاءت أصوات الحق كان " أَسْمَع مِنْ سِمْعٍ"[4] لها، وإن وردت أصوات الباطل أعرض عنها، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]. ففي هذا الشهر الكريم يزين سمعه ويصغيه إلى سماع القرآن وقلبُه حاضر؛ ليثمر ذلك السماع الجامع لأركان الفائدة التدبرَ والخشية وزيادة الإيمان، والإقبال على العمل الصالح، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]. ويحليه بسماع الموعظة، وكلماتِ النور التي تهديه إلى الصراط المستقيم. ويحليه بسماع الأخبار والعلوم الطيبة التي تزيده من الله تعالى قربة، وفي الحياة معرفة، فإذا ورد سمعَه الغثُ والسمين من المسموعات وأراد تفريغ ما سمع في آذان الناس انتقى من ذلك الصوابَ فحدّث به، ودفن مسموع الباطل في طي النسيان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) [5]. ولا يحدث بعد إلا بما يتأكد من سماعه؛ خشية أن يخطئ في الحديث؛ بسبب خطأ وصول المعلومات إلى أذنيه، كما قالت العرب: " أَسَاءَ سَمْعاً فأَساءَ جَابَةً" [6]. ويجعل بينه وبين سماع ما يجرح الصوم، ويصيب الديانة في مقتل، خندقًا من ورع وإعراض، كاستماع الحروف المظلمة التي تدعو إلى انحراف القلب والفكر عن الجادة المستقيمة، وكاستماع الغيبة والنميمة، والفحش والبذاء، والطعن في الأعراض، والكذب والبهتان، والغناء والخنا، والدعوة إلى الرذيلة. قال مسكين الدارمي: ويُصمّ عما كان بينهما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سمعي وما بي غيرُه وقر[7] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال معن بن أوس: لعمرك ما أهويتُ كفّي لريبةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا قادني سمعي ولا بصري لها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي [8] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال الآخر: توخَّ من الطُّرق أوساطها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعَدِّ عن الجانبِ المشتبَه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ح كصون اللّسان عن اللّفظ به http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإنَّكَ عند استماع القبيح http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شريك لقائله فانتبه[9] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] ديوان أبي العتاهية (ص: 45). [2] ديوان بشار بن برد (ص: 1057). [3] الزهرة، لابن داود الأصبهاني (ص: 1). [4] مثل عربي، ومعناه ينظر في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 352). [5] رواه مسلم. [6] قصة المثل في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 330). [7] التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (1/ 190). [8] أمالي القالي (ص: 241). [9] الكشكول، للعاملي (1/ 174). |
رد: غصون رمضانية
|
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (14) سلاح المؤمن عبدالله بن عبده نعمان العواضي تتقاطر على الإنسان في هذه الحياة جيوشُ المكاره جيشًا تلو جيش، فمنها ما يقيم ويأبى المغادرة، ولا تنجع معه وفود الوساطات، ولا عوامل التهدئة، ولا الحلول البشرية. ومنها ما يلم به، وينزل به ضيفًا غير مقيم، ولكن تختلف مُدد إقامته طولاً وقصراً. فكم يعاني الإنسان في ليله ونهاره من الأوجاع والآلام، وكم يبقى في أيدي الهموم والأحزان، حتى يطول ليله، ويظلم نهاره: وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويجافي النوم عينيه، ويستضيفه السهاد لديه: نام الخَليُّ من الهُمومِ وبات لِي ♦♦♦ ليلٌ أُكَابِدُه وهَمٌّ مُضْلِعُ [2] ♦♦♦ مَن تستضفْه الهمومُ لم يَنَمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلاَّ كَنومِ المريض ذي السّقم http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا يزَلْ قلبُه يكابِد ما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تُولد فيه الهمومُ من ألم[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم تلجّ به الأشواق والحنين لشيء يروم وصاله، ودون لقائه خرط القتاد: تمادى البعدُ دونهمُ فأمستْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دموعُ العين لجّ بها التّمادي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد مُنع الرقادُ فبتُّ ليلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تجافيني الهمومُ عن الوِساد[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم يطوّق مسارَّ الإنسان الخوفُ والاضطراب، فيظل مِقلاقًا يترنّح على قارب صغير في بحر هائج كبير. وكم من أمانٍ تُرجى وطال طريق بلوغها، وكم من مخاوف مازالت أنياب بؤسها مكشرة لم يولد المخلِّص منها. وبين رجاء الفرج ونيل المنى يظل الإنسان أعزل محتاجًا إلى سلاح ماضٍ يدفع به ما يكره، ويصل به إلى ما يبغي. إنَّ القلوبَ رواجفٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من أن يمسَّكَ شوكُ حاطبْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فجعلتها سوراً عليـ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ـكَ من الحوادثِ والنوائبْ[5] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكان دعاء الإنسان ربه تعالى دون غيره هو ذاك السلاح الذي لا ينبو، والسهم الذي لا يطيش، والعدة الحربية التي لا يستطاع حظرها، ولا يمكن تحديد مداها، ولا يثقل حملها، ولا تقف أمام إصابتها -إذا قبلها الله- كلّ الدفاعات البشرية، فهو عابر الحدود، وهادم السدود، وممزق الحصون الجائرة، ومعجز الموانع البشرية القادرة. لكن هذا السلاح الفتاك لا يحسن استعماله كل إنسان؛ " فإن السيف بضاربه: إن السيوف مع الذين قلوبهم http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كقلوبهن إذا التقى الجمعان http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تلقى الحسامَ على جراءة حدّه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مثل الجبان بكف كل جبان[6] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالدعاء يفتقر إلى شروط وآداب تحمله على معارج القبول حتى يتحقق المأمول، فالداعي المخلص، الحاضر القلب، الآكل من الطيبات، المختار للأوقات والأحوال المناسبة، الصابر على دوام الطلب يوشك أن يصل إلى هدفه: لا تَيْأَسَنَّ وإنْ طالَتْ مُطالبَةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا استعنَت بصبر أن ترى فَرَجا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَخْلِقْ بذي الصبرِ أن يحظَى بحاجته http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلِجَا[7] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن للدعاء في رمضان الصيامِ خصوصيةً تجعل المسلم يسارع إلى بسط طلباته بين يدي ربه الكريم فيه، فالنفس في هذا الشهر منكسرة، والروح إلى القُرَب شفافة، والعبد الصالح على باب الله منيب مخبت، والزمان شريف، ورحمات الله فيه منهمرة؛ لذلك كانت الدعوة قريبة الإجابة ليلاً ونهاراً، فينبغي للعبد أن يغتنم هذه الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم)[8]. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني: في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) [9]. فيا من انبسطت في ساحته البلايا، وضيقت عليه سعةَ الدنيا، وأدمع عيونه وأسهرها مرُّ الشكوى، ولم يجد لها من دون الله كاشفة، ويامن طال زمن حَمل آماله، وأمضّه انتظار ميلادها السعيد، ويامن لجأ إلى الخلق لحاجته فلم تقضَ على أيديهم حاجته، هذا باب الدعاء يفتح مصراعيه في وجه المتوجعين والراجين والمردودين، فاطرقوا الباب طرقَ موقن موحد، وألحوا ولا تستحسروا فأنتم تطرقون باب غني كريم، قدير رحيم، سميع قريب ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]. [1] ديوان امرئ القيس (ص: 5). [2] الأغاني، للأصفهاني (4/ 309). [3] البيتان لطاهر بن الحسين الأغاني (20/ 109). [4] ديوان كثير عزة (ص: 73). [5] المنتحل، للثعالبي (ص: 78). [6] البيتان لأبي الطيب، شرح ديوان المتنبي (2/ 130). [7] الأبيات لمحمد بن بشر، الأغاني، للأصفهاني (14/ 43). [8] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح. [9] رواه البزار، وقال الألباني: صحيح لغيره. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (15) أيادي الندى عبدالله بن عبده نعمان العواضي حينما تعبِس الأرض بالجدب فإنها تضحك ببكاء السماء، وعندما تُقرن الأحوال بأغلال الشدة فإنها تُطلق بأيادي العطاء، فالغيث غيثان: غيث السماء، وغيث الكرماء، والغيث يذكر بالغيث: فيا قبر معنٍ كيف واريتَ جودَه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد كان منه البر والبحر مترعا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فتى عيشَ في معروفه بعد موته http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كما كان بعد السيل مجراه مرتعا[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الجود تاج يتلألأ على رؤوس أهل السماحة، يَهدي إلى ملوكٍ بين الناس بلا ممالك، فيجذب بريقُه العافين، أو ينطلق بلمعانه إلى المعوزين، فيخلع عنهم أسمالَ الحاجة، ويلبسهم حلل الكفاية أو الغنى، فيكسو وجوههم بالبسمة، وقلوبهم بالفرحة، وألسنتهم بالثناء والدعاء. أوليتني نعمًا أبوح بشكرها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكفيتني كلَّ الامور بأسرها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمتْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلتشكرنّك أعظمي في قبرها[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأكرمْ بتلك اليد السخية التي تطلق خيرها في وديان المعروف: فتنجد ملهوفًا من حَيْن، وتنجي غريقًا في دين، وتمسح دمعة يتيم، وتفرح أرملة، وتداوي بؤس محتاج، وتعين على نوائب الحق، وتنقّب عن الذين غشاهم الحياء بجلبابه، وسترهم الخجل خلف بابه، ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]. وأحسنْ بذلك اِلمعطاء الذي فجر ينابيع الندى ففاض بالنوال قبل السؤال، فأروى بنميره الرقراق أرضًا يحب الله أن تُسقى، وأحيا بسخائه الفياض بلاداً يحب الله أن تحيا، فمتى هبّت على الناس عواصفُ الضراء دفعها بيد السخاء، ومتى دجت معايشَهم الظُلَم بدّدها بنور الكرم. ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ♦♦♦ كما زان متنَ الهندواني رونق[3]. يبذل المؤمن سمحُ الكفين ما يفنى ليربح ما يبقى، ويقدم ذخائر الدنيا لينال ذخائر الدنيا والآخرة، فكم من أيدٍ رُفعت داعية له، وألسنةٍ نطقت ثناء عليه، وكم دفع الله تعالى عنه من مصيبة كانت به محدقة، وكم فرج الله عنه كربة كانت له مطوّقة، وكم أطفأت صدقاته من غضب الرب تعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: (مالي مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم، من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت )؟ [4]. وفي المثل: " الرَّبَاحُ مَعَ السَّمَاح"[5]. أَلبستني نعماً على نِعمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ورفعتَ لي علماً على علمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَعَلَوْتَ بي حتّى مَشَيتُ على http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بُسطٍ مِنَ الأعناقِ وَالقِمَمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلأَشكرنّ نداك ما شكرَتْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خُضرُ الرّياضِ صَنَائِعَ الدِّيَمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالحمد يبقي ذكرَ كلّ فتى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَيُبِينُ قَدْرَ مَوَاقِعِ الكَرَمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَالشّكْرُ مَهْرٌ للصّنِيعَةِ إنْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طُلِبَتْ مُهُورُ عَقَائِلِ النِّعَمِ[6] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يسخو أرباب الكرم من أهل الإيمان على الخلق طالبين بسخائهم ثواب من أعطاهم سبحانه وحده، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾[الإنسان: 9] ، ولا يصحب جودَهم غرورٌ ولا مفاخرة، ولا يكدر إفضالَهم منٌّ ولا أذى، ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263]. إن المسلم يعلم أن المال عارية مستردة، ووديعة جعلها الله عنده، ورزق ناله بفضل الله لا باستحقاق نفسه، وأن تكرّمه في ميادين الخير يباركه وينميه، ويثاب عليه يوم القيامة ثوابًا جزيلاً، وأن المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة، فهذه المحفزات وأمثالها تدعوه إلى البذل والعطاء في سبل الحق، وعلى قدر يقين المسلم بذلك تكون سماحته. لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم جواداً كريمًا - مع قلة ذات يده -، فإذا جاء رمضان زاد بسط عنان الكرم لديه، فصار طلق اليدين، كثير الأيادي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)[7]. هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو انَّه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ[8] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن شهر رمضان هو شهر الجود، فيحب الله تعالى من المسلم أن ينفق فيه، ويتقرب إليه بقربة الكرم؛ فكرم الله تعالى في رمضان يتضاعف، فيحب من عباده أن يكونوا كرماء بين خلقه. والمسلم الحريص ينبغي أن يكون له في هذا الشهر الكريم نصيب وافر من السخاء: زكاة، وصدقة، وصلة، وهدية، فيؤدي ما أوجب الله عليه من الزكاة - إن وجبت عليه فيه -، وينظر بكرم جمّ إلى ذي قرابته، وإلى القراء والمحتاجين، ويفطّر الصائمين، ويشارك في أعمال البر القائمة على المال، بقدر استطاعته، ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]. فرمضان لأرباب المال فرصة سانحة، وتجارة رابحة، ولأهل البخل غنيمة ضائعة، وصفقة خاسرة، فـ" رُبَّ شَبْعَانَ مِنَ النِّعَمِ غَرْثَانُ مِنَ الكَرَمِ"[9]. [1] الأبيات للحسين بن مطير الاسدي، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 501). [2] المستطرف، للأبشيهي (1/ 508). [3] ديوان الاعشى (33/ 3). [4] رواه مسلم. [5] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 301). [6] ديوان الشريف الرضي (ص: 1633). [7] متفق عليه. [8] ديوان أبي تمام (ص: 15). [9] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 310). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (16) سوق رمضان عبدالله بن عبده نعمان العواضي رسخ في أذهان كثير من المسلمين اليوم أن رمضان موسمُ مجاعة عامة، يُقبل على الناس بشبح الجوع والظمأ المرعب، ولا ينجي من هوله إلا التدرعُ بالاستعداد الغذائي المتنوع الذي يُدّخر بين يدي رمضان، وعلى أقل الأحوال أن يكون لدى الإنسان رصيد مالي كبير لشراء تلك الأغذية الكثيرة مع أيام رمضان ولياليه. فمن لم يكن له واحد من هذين الاستعدادين - وكان ممن يجعلون رمضان للتوسع في الطعام والشراب - حضره بثُّه، وطفقت سحائبُ الغم والهم تحلِّق فوق رأسه، ولا تبرح عنه حتى يجد، أو يرحل رمضان! ولهذا من كان هذا حاله - من قلة المؤونة وخواء الوفاض -؛ فإنه يَكره دخولَ رمضان، ولعله بلسان حاله يقول: يا ليت بيني وبين الشهر منقَطَعًا ♦♦♦ من الزمان لأُلقيْ عنيَ القلقا! فمن أجل ذلك المفهوم المتمكن خطأً في تصور بعض الناس يسارع التجار قبل حلول الشهر الكريم بزيادة جلب الأغذية العامة والخاصة برمضان وعرضها في الأسواق، فيهرع السابقون لشراء كميات كبيرة متعددة الألوان والاستعمال وتخزينها في البيوت، وأما المقتصدون فيشترونها مع ليالي رمضان وأيامه، أما الظالمون لأنفسهم - فيما استقر عند أهل التصور السابق - فهم الذين يقللون من الطعام والشراب والخروج إلى الأسواق في رمضان عما كان قبله!! ولسيطرة المفهوم السابق عن رمضان في أذهان ذلك الجمع الكبير تضيق جنبات الأسواق ذرعًا بشدة الزحام؛ لكثرة توافد الناس الشُّراة قبيل شهر الصيام بأيام، كما تختنق رحابها كذلك في زمان رمضان بهواة الشراء، والهاربين من ثقل الصيام، وبالمتجولين ذوي المآرب الأخرى. ولأن زمن رمضان زمنٌ نفيس لا تطاوع العاقلَ نفسُه في نثره في الأسواق؛ صار ينبغي أن يكون الخروج إلى تلك الوجهة محدوداً؛ حفظًا للوقت الشريف من الهدر، وحرصًا على حماية جسد الصيام من سهام الجرح، فمن كُفي الخروج إلى ذلك بغيره ليظل منشغلاً بوظائف رمضان فقد رزق خيراً كثيراً. فإذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى خروج المسلم إلى السوق في رمضان فليكن ذلك ضمن إطار معين من الضوابط التي تحفظ له دينه عمومًا، وشرفَ رمضان خصوصًا. فمن ذلك: أن يجمع ما تفرق من مطالبه في وقت واحد؛ حتى لا يتعدد خروجه، ولتكن المشتريات الغذائية مما لا يعكر صفوَ الصيام كالكثير منها والمثير، وأن يختار الوقت الذي لا تعمره وظيفة رمضانية كتسوق بعض الناس زمن صلاة التراويح أو القيام، وأن يصطفي الوقت الذي يجد من نفسه إعياء عقب جدٍّ كبير في عبادة من العبادات، أما الوقت الذي يحس فيه بالنشاط والإقبال على الطاعة فليجعله وقفًا على قربة يتقرب بها في هذا الموسم الخصب، هذا إذا تيسر ذلك، وأن يقتنص الزمان الذي يخف فيه الزحام، والمكان الذي تقل فيه مظاهر الفتنة، وأن ينتقي أطيب الطعام وأحلّه، لا ما حرم منه، أو كان فيه شبهة، ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 19]، وأن يكون صادقًا أمينًا في شرائه؛ حتى لا ينبِت جسمَ صيامه من حرام، فلا يأخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يمنع ما يجب عليه إعطاؤه، وأن يصطحب معه عقلَه الوافر؛ لأنه إذا ولج السوق سيجد ما لذ وطاب من المأكولات التي تزينت وجُلِيت لإغراء المشترين، وكأنها تقول لهم: " هَيْتَ لَكَ"، فإذا جذبه الإغراء والمنظر البهيج فأطلق لشهوته العنان فاشترى كل ما اشتهى - خصوصًا في نهار الصيام - فإنه سيعود إلى بيته حاملاً الخسارة معه، المتمثلة في كثرة ما دُفع من المال، وكثرة الطعام والشراب التي تفقده النشاط للعبادة، هذا إذا أكل ما اشترى؛ لأن المتسوق الصائم قد يشتري ما لا يأكل؛ لكون النفس الصائمة تنفتح على أشياء كثيرة من المطعومات والمشروبات التي تجدها في السوق، ولكنها تنغلق في المنزل وتكتفي بالقليل من الكثير المجلوب، فما أحسن الطعامَ للنفس أمام البائع، ولكن ما أسوأه أمام الطاعم في البيت!، أما صاحب العقل الحصيف فسيقول لتلك الأصناف المتجمِّلة: " مَعَاذَ اللّهِ"؛ فراحةُ صيامي أحب إلي من راحة بطني؛ فلذلك لا يشتري كلَّ ما يشتهي؛ لأن طمع النفس لا حدود له، بيد أنها إذا عوِّدت على كبح جماحها قنعت ورضيت. قال حاتم: وإنّكَ مَهْما تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ ♦♦♦ وفَرْجَكَ نالا مُنتهَى الذّمّ أجمعَا [1] وقال الآخر: إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَسَاقَتْ إلَيْهِ الإِثْمَ وَالْعَارَ لِلَّذِي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلاوَةِ عَاجِلِ[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال البوصيري: والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على ♦♦♦ حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم [3] لهذا فالعاقل يشتري - بلا إسراف - ما يمكن استعماله من غير اضطرار إلى التخلص من سائره إلى المزابل. وعليه كذلك أن لا يكثِر التطواف في السوق، بل يقصر نفسه على الزمان والمكان اللذين يجد فيهما حاجته، فمتى قضى وطره فليعجل الرجوع إلى أهله، و" حَسْبُكَ مِنَ القِلاَدَةِ مَا أحَاط بِالعُنُقِ"،[4] كما قيل. وعليه أيضًا أن يُسيم طَرفَه في أماكن الحاجة، لا في أماكن الشهوة؛ لأن من سام بصره في الرياض الأنيقة الممنوعة ليشبع نهمته المحظورة عاد إلى بيته بفؤاد جريح خميص، وخاطر مكدود ساهم، وذهن كاسف مفرّق، وقد كان غضُّ بصره عن تلك المراعي أسلمَ لقلبه وعقله وصيامه؛ لأن الصيام يظل برّاقًا صقيلاً مادام بعيداً عن فتن الشهوات فإذا سيق إليها تعكر وتكدر. أما الحديث عن السوق للمرأة فهو حديث ذو شجون؛ لأن بعض جروح صيام الصائمين الخارجين إلى الأسواق تأتي من قبل كثرة المتسوقات اللاتي يجرحن قلوب الرجال بتبرجهن وسفورهن وتكسر مشيتهن، وإغراء لباسهن وحديثهن وحركاتهن. فالمرأة درة ثمينة، يجب صونها عن العيون المرسلة، وبيضةُ خدر لا يرام خباؤها لغير أهلها، فبيتها مملكتها الموقَّرة، وعزتها الموفّرة، قال تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33] ، فإذا ساق إليها غيرُها حاجاتِها فما الداعي لخروجها إلى الأسواق المختلطة ومزاحمة الرجال؟!. لكن إذا لم تجد من يكفيها ضرورتها أو حاجتها من السوق خرجت إليه والحياء يلّفها من كل جانب، ويحرسها من كل صائل، فتمشي إليه مشي المكره المضطر، لا مشي المحب المختار، ويتدلى عليها جلبابها الساتر الذي لا يسرق أنظارَ النُّظار إليه؛ لضيقه أو وصفه، أو رقته أو زينته، أو بريقه أو عطره، وتخرج معلِمةً وليَّ أمرها الذي لا يقدر على توفير حاجتها بزمان خروجها ومكانه، مختارةً الوقت والمكان اللذين لا يكثر الزحام فيهما، ولا يُخشى عليها منهما، خافضةً صوتها، غاضة بصرها، غير خالية بالبائع في دكان البيع وحدهما، مبتعدةً عن الخروج في الليل إلا مع زوج أو ذي محرم. وهذه الضوابط ونحوها تساق لمصلحة المرأة، وحفظها من كل ريبة، كما أن فيها إبعاداً للرجال عن الفتنة، ومن رأت المخالفة ستعرف قدر هذه المنائر في ظلمات الدوائر. فلتكن المرأة على درجة عالية من الرقي العقلي والديني والأخلاقي؛ ليعصمها من فتنة نفسها، وفتنة غيرها، وما أجملَ حين نسمع بوجود أسواق خاصة بالنساء: بائعات ومشتريات! إن على أولياء النساء أن لا يرخوا عن النساء أعنة الحزم ليدرجن إلى الأسواق متى شئن وكيف شئن؛ فليس من الرجولة والحزم أن ينام الرجل الغيور عن خروج نسائه وحدهن إلى الأسواق، ويقضين الساعات الطوال، وربما كان ذلك في الليل، فهذا لا يليق به، إنما يليق بغيره، وخلِّ الهُويْنى للضَّعِيفِ ولاتكُنْ ♦♦♦ نؤوماً فإنَّ الحزم ليس بنائم [5]. [1] ديوان حاتم الطائي (ص: 43). [2] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، للسفاريني (2/ 360). [3] ديوان البوصيري (ص: 238). [4] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 196). [5] ديوان بشار بن برد (ص: 1015). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (17) مطبخ رمضان عبدالله بن عبده نعمان العواضي للمطبخ في رمضان حكاية مؤلمة، وتسلسل سردي ممضٌّ للروح، ومظلِمٌ للقلب، ومرهِق لصُرَّة المال، ومجهِدٌ لأبدان الطواهي، ومردُّ ذلك إلى كثرة استهلاك الطعام والشراب في هذا الشهر دون بقية شهور العام، ومع الكثرة الكمية، ثمتَ كثرة نوعية مختلفة الطعوم والألوان. وما بهذا المظهر المحزنِ أُمرَ الصائمُ في رمضان، بل الصيام الصحيح الذي نُدِب إليه هو الصيام الذي تخمص فيه البطن، وتشبع فيه الروح، ويشرق فيه اللبُّ ليلاً ونهاراً، ومن ثَم يعيش المطبخ في إجازة جزئية يصرف أهله فيها جُلّ وقتهم في المسابقة إلى جوائز رمضان الربانية. لكن الحال في عصرنا انقلبت لدى بعض الناس رأسًا على عقب، فصار رمضان شهرَ البسط في كثرة المطبوخ والمُعدِّ من الأطعمة والأشربة المتعددة التي تستقبلها بحفاوة بطونُ الصائمين، وهذا ينساق بلا ريب إلى الفتور، والنوم الكثير، ولسان حال من كان هذا شأنه: إنما الشهر طعام http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وشراب ومنامُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإذا فاتك هذا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فعلى الشهر السلامُ! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا شك أن الامتلاء وكثرة الانشغال بالمطبخ توفيراً وإعداداً، وتخلصًا من فضلاته له ضرائب مكلفة على الأرواح والأبدان، فالروح في رمضان بدل أن تنطلق في سماء التألق التعبدي؛ لخفة البدن من المفطرات ونتائجها صارت تحلق في آفاق المطبخ ولا تتجاوز سقفه؛ لثقل البدن وكثافته بما يُطعم ويُشرب. وبدل أن تنشط النفس إلى اغتنام أنفاس الشهر الكريم بالمسابقة إلى الخيرات، والانتعاش إلى القربات، أضحت تتلفع بأثواب الكسل السابغة، والشرودِ عن تدبر القرآن تلاوة وسماعًا، والنفور عن الاستمرار في فضائل الأعمال، وبدل أن يكون صيام رمضان سببًا لصحة البدن، وتخلصه من الفضلات التي تضره بسبب زيادة الطعام قبل رمضان، كما قال الحكماء: "صوموا تصحوا"؛ غدا بعض الناس يعانون مشكلات صحية في الجهاز الهضمي وغيره، ناتجة عن التخمة، وتوافدِ الأنواع المتباينة من الأطعمة والأشربة على المعدة، وبدل أن يكون الصيام -إذا استمر- وِجاءً للشهوة، وتخفيفًا من وهجها، أضحى بعض الصائمين يشكو سُعارها ونتائجها في رمضان أكثر من غيره!، ولو صام من هذا حاله عن تلك الكثرة لتحقق له ما أخبر به عليه الصلاة والسلام في قوله: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)[1]. فلهذا نقول: ينبغي للمسلم الحريص على خير رمضان أن تكون له سياسة خاصة متبعة في إدارة شؤون المطبخ خلال الشهر الكريم ينفذها هو وأهله، كلٌّ حسب مهمته، تنطلق هذه السياسة الحكيمة من قاعدة معرفة الحِكم والغايات التي شرع لأجلها صيام رمضان. ومن ذلك: أن على الزوج أو رب البيت أن لا يكثر من شراء المواد الغذائية من أجل استعمالها في رمضان، كما أن على الزوجة أو من تقوم بالطبخ أن لا تطيل قائمة المطالب الغذائية، بل تقتصر على القليل الكافي منها، فإن أكثرت فعلى الزوج أن يصطفي منها ما يناسب الهدف السابق، ولا حرج في تعدد أنواع الطعام وتجديدها، ولكن بقلة وعدم إسراف. وعلى الطاهية أن تنظّم أوقات طبخها وما يتبعه من تنظيف وتصفيف للآنية، وتختار الأزمنة المناسبة لطبخها؛ حتى لا تحرم نفسها فضائل رمضان؛ لأن المرأة مطالبة بالمنافسة على الزمن الشريف مثل الرجل، ومن الغبن الفاحش، والظلم الظاهر أن تقضي المرأة أكثر وقتها في المطبخ طاهية ومنظفة؛ بسبب كثرة ما تطبخ، وقد تسرف بعض النساء في الطبخ وتفتنّ في تعديد أحجامه وطعومه وألوانه؛ إرضاء لزوجها، وهذه نية حسنة، ولكن الأحسن منها أن تفتنّ في طاعات ربها، وتسارع إلى مراضيه في هذا الشهر، وعلى الأزواج مراعاة هذا الحق الشرعي للزوجات، فلا يرهقونهن بكثرة الطبخ الذي يفوّت عليهن فضل رمضان؛ لأن الطبخ القليل سيوفر لها وقتًا ونشاطًا تصرفه في القربات. وعلى المرأة في المطبخ أن تحتسب طبخها، وتجعله قربة إلى الله تعالى؛ فالمباحات تتحول إلى عبادات بصلاح النية، كما أن المرأة الراغبة في شرف زمن رمضان أن تستغل وقتها في المطبخ بكثرة ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن-إذا كانت حافظة-، أو سماعه وسماع الدروس والمحاضرات النافعة من أجهزة التسجيل، فإذا حضرت الصلاة تركت انشغالها بالمطبخ ولبّت نداء الله فانشغلت بأداء حقه قبل أداء حقوق الأسرة، ومن التقصير أن تؤخر بعض النساء الصلوات بسبب الانشغال بالمطبخ. ومن التنبيهات المهمة أنه إذا تبقى من الطعام والشراب شيء يمكن الاستفادة منه فلا ينبغي رميه إلى القمامة، بل يحفظ إلى وجبة قادمة، أو يُهدى إلى الجيران، أو يتصدق به على المحتاجين؛ لأن هناك بطونًا تشكو الطوى تنتظر من أهل التخمة شيئًا تقيم به أودها. فمن اعتاد في رمضان على التوسع في المآكل والمشارب فليقف قليلاً ويغير اتجاه سيره إلى صراط الاقتصاد والتخفف الذي يضمن له الوصول إلى فائدة الصيام المرجوة، وإلى توفير المال، والصحة، والراحة، والنشاط، وهذا التحول الصحيح وإن كان صعبًا على بعض النفوس التي مردت على الإسراف، لكنه مع المجاهدة والزمّ الحكيم للنفس تصير هذه الحال لها عادة، كما قال الأول: صبرت عَنْ اللَّذّات حتّى تولّتِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وألزمتُ نفسي هجرها فاسْتَمَرّتِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكانت عَلَى الأيام نفسي عزيزةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلما رأتْ عزمي عَلَى الذلّ ذلّتِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَمَا النَّفْسُ إِلاَّ حيثُ يجعلها الفتى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإن طمِعَتْ تاقتْ وإلاّ تسلَّتِ[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] متفق عليه. [2] ذم النفس والهوى، لعبد الهادي وهبي (ص: 42). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (18) شرك الإعلام عبدالله بن عبده نعمان العواضي الإعلام المعاصر - على اختلاف أنواعه - وسيلة من وسائل السيطرة على أفكار الناس وسلوكهم؛ وذلك لما يمتلكه من قوة الوسائل المؤثرة على المتلقين عامة كانت أو خاصة، ولِما يلقاه من شغف الجمهور به، وإدمانهم الشديد على متابعة ما فيه، وهذا ما أكسبه جموحَ السيطرة، ونفوذ السلطة؛ ولهذا عدّوه السلطة الرابعة، فأصبح المتلقي له طوعَ العِنان يمتطيه إلى حيث يشاء. والكارثة ليست هنا، وإنما الكارثة أن أغلبه طوع يدي شياطين الإنس، الذين يوسوسون في صدور الناس، وينخرون في عقولهم، ويهدونهم إلى صراط الجحيم، وذلك ببث الفساد العقدي والأخلاقي والعملي في قوالب حسنة تستهوي المشاهد أو السامع أو القارئ، ويكيلون الإطراء لأهله، ويسلطون أضواء التمجيد عليهم؛ دعوة للاقتداء بهم، وفي المقابل يحاربون الحق وأهله حربًا شعواء، ويعتبرون الحق الفكري أو السلوكي انحرافًا عن الجادة، وتخلفًا ورجعية، ويصمِون أهله بالألقاب المنفرة، والتُّهم المحذرة منهم! حتى جُعل الكفر حريةَ تعبير، والفاحشة ترفيهًا وحرية شخصية، والصدق كذباً، والكذب صدقاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخبيث طيباً، والطيب خبيثاً، والبطولة تهمة، والانحرافات السلوكية نجومية! على حد قول ابن الرومي: تقول هذا مُجاجُ النحل تمدحهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سحرُ البيان يُري الظلماءَ كالنور[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولقوة القواعد التي ينطلق منها، وبراعة الآلة التأثيرية التي يتمتع بها؛ غدا ساحراً يتصرف في تصورات كثير من الناس وأخلاقهم، حينما فقدوا رُقية دفع السحر، والتمييز بين الغيث والسمين، وعدموا دروعَ الدين المتين، والخلق الرزين، اللذين يردان صولة ذلك العدو الفتاك. من القضايا البديهية اليوم أن الإعلام السيئ هو الاستعمار المعاصر الذي ينصب شراك الهلاك بصور مغرية؛ لكي يصيد العقول؛ ليقوم بصياغتها حسب ما يريد؛ لتتجه بعد ذلك إلى المجتمع؛ لتفريغ شحنة تلك البضاعة العفنة فيه. فلله كم صادت مصايدُه من قلوب كانت معمورة بالفضيلة، فصارت مغمورة في مستنقعات الرذيلة، ولله كم سبت من عقول كانت بالتصور الصحيح مشرقة، فأمست في التصورات الخاطئة مظلمة، فضلّت وأضلت. وما الإعلام حين يضلّ إلا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فخاخٌ للعقول وللقلوب http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأغبى الناس من يسعى إليها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليعلق في الندامة والكروبِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد أدرك شياطين الإعلام عظمةَ رمضان، وما يحلّي الناس به من الفضائل التي يحاربها، وما يخليهم عن الرذائل التي جنّد آلته لنشرها، فأقسموا للصائمين قسم أستاذهم: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]، فجأوا بحدهم وحديدهم لمحاربة خيرات رمضان، ولكن: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64]. فراحوا يعدون للصائمين - قبل مجيء رمضان بأشهر - ما يفسد عليهم صومهم من الأفلام والمسلسلات والبرامج والفلاشات، فيعرضون ما يخدش حجاب الحياء، وما يمزق ستار الأخلاق الحسنة، وما يهد جدار العقيدة الصحيحة. وهناك طائفة إعلامية أخرى قد لا يكونون شياطين، لكنهم لصوص في مساليخ متصدقين، حيث يجهزون لأهل رمضان البرامج الترفيهية الكثيرة التي تسرق عليهم وقتهم الثمين، فتصرفهم عن وظائف رمضان لتأسرهم في شاشة تلفاز أو حاسوب أو جوال. فيصير حال الأسير بين الشياطين واللصوص مثل ذلك الأعرابي الذي تزوج امرأتين فندم فقال: فقلت أصيرُ بينهما خروفاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنعَّمُ بين أكرم نعجتينِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فصرتُ كنعجة تُضحي وتمسي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تداولُ بين أخبث ذئبتينِ![2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن من أضحى صيامه نهبًا بين الشياطين واللصوص فقد ضيع على نفسه غنيمة رمضان التي أهداها الله إليه، فغدا له فيئًا أفاءه الله عليه من الزمان، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ودخل معركة مع أولئك الأعداء بلا عدد ولا عدة فانقلب بنقمة وسوء، مظلمَ العقل، قاسيَ القلب، دامي الخلُق، ذابل الروح، مسلوبَ نفيسِ الزمن، كاسف البال، وقد كان يمكنه أن يصير في رمضان منعّمَ العقل والقلب والروح، سليمًا من هذه الجروح، ولكن: فأصبح كالبازي المنتّفِ ريشُه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد كان دهراً في الرياض منعمًا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif على كل ما يهوى من الصيد قادر http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى أن أصابته من الدهر نكبة http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا هو مقصوص الجناحين حاسر[3]. http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن من المشاهد التي تجلب الأسى أن ينشغل قلةٌ من المسلمين بخيرات رمضان، وينصرف الجمع الغفير عن نفيس الأوقات إلى العكوف أمام القنوات، حتى في ليالي العشر الأخيرة، بل في الثلث الأخير من الليل منها، فشتان بين العاكفين بين يدي رب العباد، والعاكفين بين يدي أهل الفساد والإفساد! إن المسلم الموفّق إذا نزل عليه رمضان ضيفًا كريماً انشغل به، ولم ينشغل عنه، وهذا من كرم الضيافة، وآداب المضيف، فمن اللؤم -عرفًا- انصراف صاحب المنزل عن النازل به إلى غيره؛ فلهذا فالصائم الموفق فورَ وصول رمضان يفتح له أبواب الروح والقلب لينزل فيها، وتنشغل جوارحه بخدمته، كما يغلق أبواق الإعلام الملهي عن إكرام الضيف، ويقول لذلك الإعلام المباح الذي يتابعه قبل رمضان؛ إيثاراً لرمضان: ونعجةٍ من نِعاج الرملِ خاذلةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأن مَأْقِيهَا بالحسنِ مكحولُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ودَّعتها في مُقامي ثم قلت لها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حياكِ ربك إني عنكِ مشغولُ[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أو يقول: تألّق البرق نجديًا فقلتُ له: ♦♦♦ يا أيها البرق إني عنك مشغولُ[5] أما الإعلام الفاسد الذي يسوق له الأوابد فهو صائم عنه الدهرَ كله، وليس في رمضان فقط، فهو منه أحذر من قِرِلَّى[6]، وبينه وبينه مقاطعة دائمة، وحمى لا يُتجاوز، فهو يفر منه، ولا يفر إليه، كحال غيره. وبعد هذا، فمن الإنصاف أن نقول: إن في حشا الغثاء الكثير إعلامًا هادفًا منفصلاً، ويمكن أن يخدم الصائم بالدروس الرمضانية، والفتاوى، والتوجيهات والنصائح، فهذا مورد عذب، ومغنى أنيق، وروض ممرع، ينبغي أن ينتجعه وينزل فيه؛ ليأخذ منه ما يحتاجه، ولا يجاوز الحاجةَ إلى التخمة؛ لأن ذلك قد يلهيه عن التلاوة والصلاة وغيرهما من وظائف الشهر الكريم؛ لأن ما أنبت الربيع قد يَقتل حبَطًا أو يُلِم[7]. [1] ديوان ابن الرومي (ص: 2269). [2] الحماسة المغربية، للجرّاوي (ص: 126). [3] طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 283). [4] الأغاني، للأصفهاني (16/ 251). [5] البيت لأعرابي، الحماسة البصرية، للبصري (ص: 145). [6] القرلى: طائر من طير الماء شديد الحزم والحذر، يطير في الهواء وينظر بإحدى عينيه إلى الأرض، وفي أسجاع ابنة الخُسِّ: كن حذِراً كالقِرِلىَّ: إن رأى خيراً تَدَلَّى، وإن رأى شراً تَولَّى. مجمع الأمثال، للميداني (1/ 228). [7] الحبط- بفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضاً-: انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا إذا أصابت مرعى طيبًا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت،: و"يلم" -بضم أوله- أي: يقرب من الهلاك". فتح الباري، لابن حجر(11/ 247) |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (19) البيت الرمضاني عبدالله بن عبده نعمان العواضي في غمرة مطالب العصر الحاضر التي أخذت على المسلم مساحةً رحبة من التفكير والجهد والوقت؛ تحصل الغفلة - تامة أو قاصرة - عن حقٍّ يجب أن يعطيه المرء جزءًا من الزمن والرعاية؛ لكون هذا الحق مطلبًا دينيًا، ومطلبًا حياتيًا، تترتب عليه آثار حاضرة، وآثار مستقبلية. هذا الحق هو: حق الأسرة: زوجة وأولاداً، من التربية والتقويم، والحماية والعناية. قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)[1]. وهذا الحق قد يتغافل الحريص الصالح عن بعض جوانبه المستحبة - وهو حاضر على باله -؛ لانشغاله بأعماله - وقد تكون دينية - فيريد أن يوليه مزيداً من الاعتناء، ولكن تتعلق به جواذبُ الأعمال فتحول بينه وبين ما يشتهي، كما قال صخر: أَهُمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ♦♦♦ وقد حِيل بين العَير والنزوانِ[2] ومع تكاثر الظباء على خراش لا بد من العناية الإيمانية والتربوية بالأسرة؛ لأن هذا حق لها يؤول إلى سعادة الجميع في الدنيا والآخرة. فصلاح الأولاد ثمرٌ ينبت في حقل الأسرة؛ إذ البيوت حقول تجارب، فإن أحسن الوالدان الرعاية لهذا الثمر بسقَ وأينع، وأورقَ إيّما إيراق، وإن أساءا ذَبُلَ هذا النشء وانحرف في حاضره ومستقبله، فكانت الثمرة المُرّة على الجميع: ويَنشأُ ناشئ الفتيانِ مِنّا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما دانَ الفتى بحِجًا ولكنْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُعَلّمُهُ التّدَيّنَ أقرَبُوه[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي هبوب مواسم الخير ينبغي لرب الأسرة أن يستضيف بعض أنسامها العبقة إلى بيته؛ ليتطيب البيت كله، ومن أعظم هذه المواسم، وأنعم هذه النسائم: موسم رمضان المبارك. فمن أحب أسرته فليدخل عليهم شهر الصيام برياض طاعاته الخضيلة، وأفنانِ ثمراته المتهدلة، وأطايب قرباته الزكية، ويكون ذلك بعمل برنامج رمضاني يقوم على ركيزتين: ركيزة التخلية، وركيزة التحلية، فبرنامج التخلية يتم بإبعاد كل سبب يؤثر وجودُه على روح الصيام، وتكدير جوّه النقي، مثل: وسائل الإعلام المفسدة، وكثرة اللعب والعبث وهدر الوقت، والإسراف في الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام واجتماعات طويلة في غير طاعة. وبرنامج التحلية يتم بعمل الوسائل التي تعين على ربح رمضان، والقيامِ بالأعمال الصالحة العامة والخاصة التي يزخر بها الشهر الكريم - وهذا بعد الحفاظ على الواجبات، والابتعاد عن المحرمات. فمن بنود برنامج التحلية: توجيه الأسرة إلى معرفة فضل رمضان، وأهمية الطاعة فيه، والمسارعة إلى الخير في لياليه وأيامه، سواء جاء ذلك من الأب أو الأم إذا كانا ذوي علم أم استعانا بالكتب والدروس المسجلة، وعمل برنامج يومي يتناسب مع أحوال جميع أهل البيت؛ حتى لا تكون هناك فوضى وقتية تقضي على النشاط، وتبعد عن العمل، وتعويد الصغار على الصيام، وتشجيعهم عليه ولو بالجوائز، فعن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: (من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائمًا فليصم)، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)[4]. وكذلك مراقبة سير التلاوة لأفراد الأسرة من أجل التقويم والتحفيز، واصطحاب الأطفال إلى المسجد؛ لتعويدهم على صلاة الجماعة، ورؤيتهم المصلين، وحضور حلقات العلم، مع تعليمهم آداب المساجد قبل الذهاب إليها، والسماح لهم بجزء يسير من الوقت لمتابعة بعض البرامج المذاعة أو المشاهدة التي تخدم الصيام، ولا تجرحه ولا تلهي عنه، وتحذير نساء البيت من أن تتغفلهن بعض النسوة عن خير رمضان بتضييع الوقت بكثرة الكلام والمراسلة، والطعن في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والاستهزاء. فالبيت المسلم إذا سار على نحو هذا وأمثاله من البرامج النافعة في رمضان التي دعا إليها الإسلام في خطاباته العامة فستظله سحب الخير، وتمطر عليه غيث الهدى، فيخرج نباته بإذنه ربه: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]. بخلاف البيوت التي لا تعرف في رمضان إلا الإسراف في الشراب والطعام، وكثرة السهر ليلاً والنوم نهاراً، والاعتكاف أمام الشاشات التي تفسد الدين والخلُق، واللهو عن الخيرات بالتلهي بالمفسدات، فالأب له ما يشغله عن أسرته، والأم لها برنامج رمضاني مع النساء تذهب به ثقل الصوم، والأولاد في وادي هواياتهم، وكل في فلك يسبحون!، فمثل هذا البيت الذي اجتمع على الضياع، وتفرق عن الصواب ماذا ينتظره في نهاية الشهر الكريم؟! ولمن ستكون جوائز الصائمين، وكرامات العابدين؟! فشتانَ بين الهدى والعمى ♦♦♦ وشتان نورُ الضحى والعتَمْ[5] ••• سَهِرْنَا على حِفْظِ الغَرامِ ونمتُمُ ♦♦♦ وَلَيسَ سَواءً ساهِرُونَ ونُوّمُ[6] [1] متفق عليه. [2] الكامل في اللغة و الأدب، للمبرد (4/ 51). [3] ديوان أبي العلاء المعري (ص: 1458). [4] متفق عليه. [5] البيت لابن حزم، تاريخ الأدب الأندلسي (ص: 318). [6] ديوان بهاء الدين (ص: 445). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (20) الحبس المحمود عبدالله بن عبده نعمان العواضي في زحمة الحياة، وفي ضجيجها المستمر يتفرق القلب، وتغمره القسوة، وتتوزعه متاهات الهموم المعيشية، فتعلوه الظلمات، وتميله الشهوات، ويلجّ في وادي الغفلة السحيق، فيصير مريضًا، أو قاسيًا، أو مقفلاً، أو مطبوعًا عليه، أو ميتًا. وصاحبه إذا لم يتداركه هوى به إلى الهاوية، وندم على تركه علاجَه حتى فات الأوان. لكن المؤمن الحصيف يظل حارسًا لقلبه، مرابطًا على تخومه، مترصدًا لعدوه، يتفقد أحواله فينة بعد فينة، ويترقب الفرص التي تُغسل فيها القلوب، وتُزاح عنها حُجب الغفلة، وترتفع فيها درجات الإيمان، وتستوي في مغانيها سوقُ اليقين، وتتفرع في رحابها غصون الحياة، فتجني الجوارحُ ثمرَ العمل الشّهي، واستقامةَ الحال يوم أن استقام سيدُ الأعضاء. وفي هبوب رمضان الخير تَنسم نسمةٌ زكية تحمل فرصةً عظيمة يُلَمّ فيها شعثُ القلب بعد ذلك الشَّعاع الكثير، هذه الفرصة هي: الاعتكاف في بيت من بيوت الله تعالى تحبس فيه النفس عن مشاغل الدنيا ومذاهلها. هذا الحبس الذي تولع به الأرواح المتقية، وتظل تنتظره طوال العام بشوق؛ لما تجده فيه من لذة المناجاة، وطيب الملاقاة، وحلاوة الضراعة، وسعادة الأُنس بالله تعالى، وفرح الخلوة للعبادة الكثيرة الخاشعة في خير زمان، وخير مكان. في تلك الليالي المنيرة، وأيامها المشرقة ينتصر المعتكف الصادق على هوى نفسه، وهوى أهله، وهوى من له ببقائه في خضم الدنيا مصلحة، فيخرج بقلبه وروحه إلى زمزم رمضان؛ ليتضلع من نميره العذب فيكون طعامَ طُعم، وشفاء سقم. في ذلك المكان الطاهر البهي يجد زمنًا يخلو فيه بربه، فيناجيه ويدعوه، ويعبده ويرجوه، ويبوح له بحاجاته، وأشواقه: وأخرج من بين البيوت لعلّني *** أحدّثُ عنك النفسَ بالليل خاليًا[1] في تلك الحال من السمو الروحي تتجلى عظمة العبادة الخالصة، ويذوق العابد ألذَّ ما في الحياة، ويعرف أن الحياة إنما هي هُنا، وأن ما سواها مرض أو موت. حبيبي يا هوى نفسي وروحي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طبيبي يا شفاْ قلبي المُعنَّى! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أتيتُك والمُنى شوقًا لِيلُفِي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فؤادي في لقائك ما تمنّى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في تلك الزاوية المنفردة يحسّ العبد المنيب تحت خبائه باتساع الحياة مع الله تعالى، وضيقها مع البشر، ويرى الغباء ماثلاً في الانصراف عن هذا الأفق الرحب إلى ما يشغل الروح عن بارئها، والجوارح عن أسباب راحتها، ويقول: أين نحن من هذا النعيم الذي نستطيع أن نجد فيه الحياة الحقيقية لو أردنا، لماذا أعرضنا عنه، وذهبنا نبحث عن الراحة في مضايق الشقاء، وننقب عن السعادة في دياجير الظلماء؟! أين الذين اسودت الدنيا في وجوههم، وكستهم المصائبُ أثوابَ الأحزان والهموم؟ فرّوا إلى الله تجدوا الفرج، وتروا المخرج، أخرجوا من سَمِّ الخيط إلى الفضاء الأرحب ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]. طَامِنْ حَشَاكَ فَإِنَّ دَهْرَكَ مُوقِعٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بِكَ مَا تُحِبُّ مِنَ الأَمُورِ وَتَكْرَهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَإِذَا حَذرْتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدّراً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَفَرَرْتَ مِنه فنحْوَهُ تتوجَّهُ[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سُنة نبوية فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه، وفعلها ويفعلها الصالحون من بعدهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح، ثم يدخله) [3]. فمن تيّسر له فعلُه فلا يفوّت على نفسه هذا الخير؛ فهو غُنم كبير في وقت يسير، ومن لم يقدر عليه كله فلا يترك بعضه، ولو ساعات قليلة يحلق بها في جوّ الصفاء الروحي. ولكن الذي يروم تحقيقَ مقاصد الاعتكاف، والوصولَ إلى أهدافه المنشودة عليه أن يختار المكان الذي يخشع فيه، ويقلّ فيه الضجيج ولقاءُ الناس، ويستطيع فيه اعتزالَ الناس ليخلو بربه متفكراً ومتأملاً، وتاليًا ومتدبراً، ومتضرعًا وداعيًا، وذاكراً وباكيًا على تفريطه، ومشتاقًا إلى لقاء ربه. وبعد هذه الرحلة الإيمانية التي حاز فيها المعتكف الصالح على شحنة إيمانية عالية يعود إلى أهله وقد تجدد إيمانه، وتلألأت أنواره، فيفرح مرتين: مرة بإتمام طاعته، ومرة بلقاء أهله ومحبيه. والمعتكف الفائز لا ينسى تلك الليالي المقمرة، والأيام النضرة التي عاشها بين أحضان الاعتكاف؛ فلذلك يجعلها نبراسًا له يضيء طريقه في مستقبل أيامه، ويعدّ ذلك الزمن المبارك النَّدي الذي عاشه هناك قدوةً يميل إليه ولا يميل عنه: قال حبيب بن أوس: وكانَ أغضَّ في عيني وأندى *** على كبدي من الزهرِ الجنيِّ [4] وقال غيره: وعهدي به عذبَ الجَنَى ناعمَ الذُّرى *** تَطِيبُ وتنَدى بالعشيِّ أصائلُهْ[5] [1] ديوان مجنون ليلى (ص: 141) [2] البيتان لابن الرومي، شرح كتاب الأمثال (ص: 454). [3] رواه البخاري. [4] ديوان أبي تمام (ص: 402). [5] أمالي القالي (ص: 191). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (21) عشر السابقين عبدالله بن عبده نعمان العواضي ها هم الصائمون قد قطعوا ثلثي المسافة، وما بقي على خط الختام إلا القليل، نعم، مضت عشرون أحسنَ فيها من أحسن، وأساء فيها من أساء، وفتر فيها من فتر. لقد كانت سريعة التقضي لدى المحبين، بطيئة الخطو عند الكارهين، ليصل الجميع - بعد ذلك - إلى هذه العشر الأخيرة، وبها تصل مطاياهم إلى نهاية السباق. فلأهلِ الخمولِ، وذوي الحُمُر المعقرة، أخدانِ الآمال بلا أعمال، نقول: إن المضمار ما زال يحويكم، فأسرجوا مراكب الهمم، وامتطوا مُطيَّ العزم الجامح؛ فلعلكم أن تلحقوا. وللمسابقين، إيهِ إيهِ أيها الركب الظافر - إن شاء الله -، جددوا العزم، ولا ترخوا عِنان الجد، ولا تسترضعوا لبان الفتور، ولا تلتفتوا إلى الوراء؛ فالسباق لم ينته بعد، وأنتم على خطوط النهاية التي يتميز فيها الفرسان، ويُكسب فيها الرهان، وتنال فيها الجوائز، والفارس قد يبطئ في أول المجال، لكن إذا لاحت له أعلام النهاية طار إليها طيرة لا تُدرك، فإن كنتم أنتم أهل الغرام بهذا السباق فأروا ربكم من أنفسكم شواهد الحب؛ فصادق الحب لا يشغله غير محبوبه، ولا يفتر في ميدان الوصول إلى لقاء مطلوبه، ولسان الحال: ما إنْ تقاعد جسمي عن لقائكمُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا وقلبي إليكمْ شيِّق عَجِلُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكيف يقعد مشتاقٌ يحرّكه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إليكم الباعثان الشوق والأمل http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإن نهضتُ فما لي غيركم وطرٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكيف ذاك ومالي عنكم بدل http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم تعرّض ليَ الأقوام بعدكمُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يستأذنون على قلبي فما وصلوا[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هذه العشر هي الجولة الأخيرة التي يُعرف فيها عباد الرحمن، وطلاّب الرضوان، وفارس الفرسان، وحائز خطر السبق يوم الرهان؛ ولهذا حظيت هذه العشر المباركة بنواصي الأعمال والفضائل؛ ففي صدرها الرحب ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، وفيها سُنّة الاعتكاف التي ينسلخ فيها المعتكف من عالم الخلطة بالبشر إلى عالم الخلوة والأنس برب البشر وحده، وفيها إخراج زكاة الفطر تطهيراً للنفس، وجبراً للنقص؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعد لهذه العشر الفاضلة استعداداً خاصًا، فيحلّق في سماء المسابقة، مفارقًا فراش الأهل، وحاملاً لهم على الجد، ومباينًا النومَ في الليل، وعاكفًا في محراب العبادة المتنوعة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)[2]. وعنها رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح، ثم يدخله) [3]. في هذه العشر المباركة مظهر من مظاهر رحمة الله وإكرامه لعباده؛ فقد أقطعهم جنةً تزهو بأينع الثمر، وتفوح أزهارها بأطيب الطيب، وقال لهم: دونكم هذه الروضةَ الغنّاء التي أبيحت لكم، فجذّوا ما تشاؤون، واطعموا ما تشتهون، واستقوا ما تريدون، وتطيبوا ما تحبون، وادخروا لحاجتكم من خيرها ما تبغون؛ فهي لكم أنفسُ ما في الهدية السنوية، وهي بيت القصيد، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، كما هي رحمة بالمسيئين، ومكافأة للمحسنين. وما تلك العشرون السالفة إلا مقدمة بين يديها، وترويض للنفس على الاستعداد لخيرها، كما في المثل: " لمثل هَذَا كُنْتُ أُحْسِيْكَ الجُرَعَ"[4]، وقول الشاعر على المنوال نفسه: يقول لما غاب فيها واستوى ♦♦♦ لمِثلها كنتُ أُحسِّيك الحَسى[5] فيا باغي الخير، شدّ المئزر، وشمر عن ساعد الجد، واركب إلى العلياء مطية الحزم، وتخلّص من أسباب اللهو، ودع الدنيا لأهلها، وأقبل إلى البستان الكريم فارّاً إليه، غير خارج منه، حتى يخرج عنك بهلال الوداع. فلا تضيع ليالي هذه العشر التي تقطر بالفضائل، وأيامها التي تسيل بالنوائل، فليكن لك حظ وافر من طول السهر للقيام المتدثر بالانشغال بالأعمال، لا السهر المعمور بالقيل والقال، وليكن لك سهم في الاعتكاف، ولو ساعات معدودات، ولتستمر على خيراتك السابقة مضاعفًا إياها من تلاوة وجود ودعاء وخلق حسن. وإياك إياك أن تسرق الأسواقُ لياليك المقمرة من أجل مطالب العيد؛ فتظلم مشاعل قلبك، وتوهجَ وقتك. فإذا وصلت بك العشر على مركب الجد إلى شروق العيد فهناك: عند الصَّباح يحمدُ القومُ السُّرى ♦♦♦ وتنجلي عنهم غياياتُ الكرى[6] [1] الكشكول، للعاملي (1/ 83). [2] متفق عليه. [3] رواه البخاري. [4] قصة المثل في مجمع الأمثال، للميداني (2/ 190). [5] الأغاني، للأصفهاني (10/ 37). [6] هذا الرجز لخالد بن الوليد، وقيل لغيره، شرح كتاب الأمثال (ص: 254). |
رد: غصون رمضانية
عروسُ الليالي غصون رمضانية (22) عبدالله بن عبده نعمان العواضي لقد تزينّت للخُطّاب، وانتظرتْ الأحباب على الباب، فأين مراكب الحُبِّ التي توصلهم إليها، لتكشف لهم عما هي عليه من الحلاوة والحِلى، والصباحة والملاحة، والشرف الباذخ، والطهر الشامخ، من رآها بعين الإيمان يعتقد أنه لم تفتحِ العين على أتمَّ منها في الخَلق حُسنًا، ولا أكمل منها في الطرْف صورة، قد أُفرغ فيها الجمال إفراغًا، وحوتْ من بديع المحاسن ما جعلها عروسَ الليالي، وملكةَ جمال الدهر. تِلْكَ الَّتِي تَيَّمَتْ قَلْبِي فَصَارَ لَهَا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif منْ ودِّهِ ظاهرٌ بادٍ ومكتومُ [1]. http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تلكَ التي بلغتْ في الحسن غايته http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif و لم تدعْ لنفيسٍ بعدها رُتبا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى اغتدى الدرّ في أسلاكه صدفاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والمندلُ الرطب في أوطانهِ حطبا[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تلك التي قرَّت عيونُ العُلى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والفضلُ فيها يا ابنَ مِفضالها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي السما قد قامَ جبريلُها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُهدي شذا البِشْر لميكالها[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنها تنادي حبيبها للسهر، وهجر النوم فتقول: يا أيها الراقد كم ترقدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قم يا حبيبي قد دنا الموعد http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وخذ من الليل وساعاته http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حظّاً إذا ما هجع الرّقّد[4] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فصادقو الحب يبقون ساهرين منتظرين اللقاء، مشتاقين لذلك الموعد الوضّاء، يعدون الشهور والليالي والأيام، وكلما اقترب الزمن زاد الحنين. تلك التي كانت هوايَ وحاجتي ♦♦♦ لو أنّ داراً بالأحبّة تُسْعِف[5] إنه الموعد السنوي مع الليلة المباركة ليلة القدر، التي يرتقبها أهل الصلاح والعبادة؛ طمعًا في فضلها، وحرصًا على خيرها، فهي مُزنة الخيرات، ومنهل البركات، وليلة الزاد العظيم، والكنز الثمين الذي إذا حازه الإنسان فقد ظفر بخير كثير. ليلة يخبئ رحمُها سعادة رحبة لمن قامها مخلصًا، فهي معراج بلوغ الآمال، وزوال الآلام، وإحراق الذنوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[6] هي ليلة واحدة، لكنها دهر، وساعات معدودة، لكنها سنوات ممتدة، وزمن قصير في حشاه خير كثير، ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]. إنها ليلة تختصر مسافة الزمن، وطريقَ الوصول إلى الهدف المأمول. هذه الليلة المباركة هي الليلة التي شمّر لقيامها أهل السباق، ونصبوا لأجلها أقدمَهم بين يدي الخلاّق، وأسهروا عيونهم، وادخروا الدموع الكثيرة ليريقوها هذه الليلة، لمثلِها كنتُ أصونُ الدُّموعْ ♦♦♦ فلْتذرِفِ العينُ ويَنْأ الهُجوعْ[7]. إن الله تعالى قد شرّف هذه الليلة بنزول القرآن الكريم فيها من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] وهي ليلة ذات شرف وفضل وعظمة ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، وتفوق بهذا الفضل والشرف والعمل الصالح فيها ألفَ شهر ليس فيها ليلةُ قدر، ومن براهين فضلها وخيرها: أن الملائكة يكثر نزولهم إلى الأرض ومن بينهم جبريل عليه السلام، ولا تهبط الملائكة إلا بالخير ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، وهي ليلة كاملة ذات سلامة من المكروهات، وتسليم من الملائكة على المؤمنين، وينبغي عدم الخصام والاختلاف فيها، ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفِعت، وعسى أن يكون خيراً لكم)[8]. وفيها ليلة التقدير السنوي بالأرزاق والآجال والأعمال، يُفصل ذلك من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من الملائكة (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) . فيا أيها المسلم، برهنْ على صدق إيمانك، وحرصك على الخير بقيامك هذه الليلة في العشر الأواخر؛ ابتغاء وجه الله، ومن رحمة الله تعالى أن هذه الليلة أُخفي تحديدها؛ حتى يكثر اجتهاد العابدين، وتزيد قربات المتقربين، من هذا المنهل المَعين. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قرّب ذلك الزمن فحث على التماسها في أوتار العشر، وهي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فقال عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في العشر الأواخر (يعني: ليلة القدر) فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)[9]، وقال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)[10]. وينبغي للمسلم أن يحث أهله على قيامها، واستغلال وقتها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) [11]. إن أهل قيام هذه الليلة ليعجبون من انشغال كثير من المسلمين عن خيرها بأمور الدنيا، فأين الرغبة في الآخرة، والرغبة عن الدنيا؟! فيا فوزَ من وفِّق لقيام هذه الليلة، ويا خسارة من فاته فضلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حُرم) [12]. [1] ديوان ذو الرمة (ص: 93). [2] ديوان ابن نباتة المصري (ص: 96). [3] ديوان حيدر بن سليمان الحلي (ص: 302). [4] المستطرف، للأبشيهي (2/ 193). [5] المستطرف، للأبشيهي (2/ 193). [6] متفق عليه. [7] الأغاني، للأصفهاني (6/ 45). [8] رواه البخاري. [9] رواه مسلم. [10] رواه البخاري. [11] رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم، وهو صحيح. [12] رواه النسائي والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (23) لحظات القرب عبدالله بن عبده نعمان العواضي يهبّ رمضان بنسائمه العذبة على المجتمع المسلم فيفرح المؤمنون بها، وينزلونها منازلها من قلوبهم وأرواحهم، فيطفئ برد تلك النسائم حرارة حزن الدنيا ولأوائها. في الثلث الأخير من رمضان تخرج مواكب الإيمان في الثلث الأخير من الليل إلى رحاب المساجد لتشهد لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص، تتسامى فيها الروح إلى الملاء الأعلى على معارج الخشوع، ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس، وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح، ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء متأملاً في المصير المنتظر. إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة، فقام أهل العزم والشوق هذه اللحظات يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم، مستغلين خلو الطريق من المارة: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)[1]، والطريق إلى الله شاقة فقاموا في هذه اللحظات يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها، منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في تذليل الصعوبات. والطريق إلى الله كثيرة المخاطر فنهضوا هذه الساعة سائرين مستغلين هجعة لصوص هذه السبيل، داعين الله بالثبات عليها، والنجاة من قطّاعها، والنهار فيه حرارة وصخب وازدحام وانشغال بال فقاموا هذه اللحظات لطيب نسيمها وهدوئها، وتفرغ البال وصفاء الذهن، وسكون القلوب وخضوع الجوارح. والنهار انتشار ورؤية وابتداء انطلاقة وسعي، وهم يريدون أن يراهم من في السماء وحده، وأن يسبقوا ابتداء الناس، وأن لا يكونوا مساوين، أو متأخرين عليهم، فقاموا تلك الساعة ليراهم لا ليروهم، وقاموا في تلك الساعة مسارعين ليكونوا من المتقين ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. تنطلق تلك الأقدام عجلى تحمل أجساداً تحذر الآخرة، وترجو رحمة ربها: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، تتجافى جنوب أولئك الركب الطاهر عن المضاجع والفراشُ وثير، والأنيس ودود، والنوم لذيذ، والبرد شديد، ولكن الشوق إذا سما لا تهبطه نوازع المحابِّ الصادة، والمكاره الرادة، والغاية متى عظمت فما في الدنيا شاغل عنها ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16]، وينطلقون إلى محاريب العبادة فيمرون على أقوام في أحضان النوم غاطين، أو في راحات الغفلة سادرين، فيقولون: من يوقظ هؤلاء النائمين والغافلين؟!، (استيقظ النبي صلى الله عله وسلم ليلة فقال: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)[2]. إذا ما الليل أظلم كابدوه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيسفر عنهمُ وهمُ ركوع http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أطار الخوفُ نومهم فقاموا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأهلُ الأمن في الدنيا هجوع[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تصل تلك الجموع إلى بيوت الله فتقف صفوفها بين يدي الله قائمة وساجدة، وراكعة وخاشعة وسامعة منصتة، فما أهيبَ الصفوف، وأعظم الوقوف، وما أعذب المسموع، وأحلى الخشوع، وأعز السجود والركوع!. إنها تجد للصلاة في تلك اللحظات لذة، حينما يسدل عليها من حضور القلب وسكينة الجوارح ما تستعذب فيه طولَ القيام، وتجد للقرآن حلاوة تتسلل إلى النفس حاملة معها حروفًا من نور تتفرع في جوانبها لتضيء حياتها بأسرها، وتجد للدعاء طعمًا آخر، فتلهج به الألسنة، فيصعد إلى السماء في لحظات القرب والإجابة، والاستغفار والإنابة، عندما يقرب العبد فيها من ربه، ويقرب الرب فيها من عبده، فتفتح السماء فيستجاب دعاء الداعين، وتقبل توبة التائبين، وتقضى حاجات السائلين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح)[4]. فأين أصحاب الحاجات في هذه اللحظات، وأين من لفحتهم الخطايا عن برد هذه الأوقات؟. أي شرف للمؤمن في الدنيا أعظم من هذا الشرف! جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)[5]، وأي ساعة ألذ من لحظات تلك الساعة!" "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"[6]، ومن ذاق عرف، وأي وجوه أشد تلألأً من وجوه أهل تلك اللحظات" من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"[7]، وذلك حينما خلوا بنور السماوات والأرض فكساهم نوراً من نوره. ففي تلك اللحظات المضيئة ينسكب النور على القائمين الخاشعين فتكتسي الوجوه حُللَ السناء والضياء، وتشرق القلوب فترى طريقها إلى الله تعالى، وتنشرح الصدور فتعرف قدر كلام الله. فتلك اللحظات ما أحلاها! وأي حلاوة في لذات الدنيا تفوق حلاوتها، وتلك اللحظات ما أغلاها! فغالي الحياة رخيص معها، وتلك اللحظات ما أعلاها! وهل للروح مصعد أقرب وأسرع إلى السماء منها، وتلك اللحظات ما أطهرها وأنقاها! فمن تنجس بدنس الذنوب فليردْها ففيها مغتسل بارد وشراب. فإذا انقضت لحظات القرب من الرب رجع أولئك الأخيار سيماهم في وجوههم من أثر بقائهم في تلك الرياض ركعًا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، فعادوا كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، فبسق عود الإيمان، وتفرعت أغصانه، وينعت ثماره سكينة وطمأنينة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. [1] حديث صحيح رواه الترمذي. [2] رواه البخاري. [3] البيتان لابن المبارك، إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 357). [4] متفق عليه. [5] رواه الحاكم والطبراني، وهو حسن. [6] إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 358). [7] قاله شريك بن عبد الله القاضي، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، للقزويني (1/ 171). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (24) أفنان التيسير عبدالله بن عبده نعمان العواضي مظاهر الرحمة لهذه الأمة ألوانٌ متعددة، ولها صور متجددة، ما زالت سُحُبها تنهلُّ عليها لتنمو من غيثها الثجَّاج بساتينُ النعمة زاخرةً بكل زوج بهيج من التقديرات والتشريعات السماوية التي تنال الأمة من ثمراتها النضيجة حلاوةَ العبادة، وإدراك عظمة الإسلام، وأسبابًا للثبات عليه. ومن تلك الثمار اليانعة التي بسقت بمُزن الرحمة في بستان النعمة: تيسير دين الإسلام، ورفع الحرج عن معتنقيه، قال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]. فسبحان الله! ما أعظم هذا الدين الذي جاء به سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام!، وما أكثرَ نعم الله تعالى على أهله التي اصطفى لهم بعضها دون غيرهم من أهل الأمم السابقة! دِينٌ حباه الله أمةَ أحمدٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فرأتْ به دربَ الحياة مُنيرا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا إصرَ فيه ولا مشقةَ طالما http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شرعَ الرحيمُ بفضله التيسيرا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن هذه السمة البارزة في الشريعة الإسلامية جليّة الظهور في كثير من تشريعات الإسلام، وهذا يدل على رسوخها في التكوين التشريعي. فمن تلك الأبواب التي أضحى فيها التيسير واضحَ المعالم، يدرك عمومَه المسلمُ الجاهل، والمسلم العالم: التيسيرُ والتخفيف في باب صيام رمضان. ففي رمضان تمتد أفنان التيسير على الصائمين فيجدون في ظلالها السهولة واليسر في القيام بهذه العبادة العظيمة. ففي حديث سورة البقرة عن صيام رمضان جاء قولُ الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، ليبين أن "مشروعية الصيام -وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر- فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي: تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم"[1]، فالله تعالى" أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر؛ فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر، وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة"[2]، "وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة؛ ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلّفت تكليفًا فيه مشقة فتحت بابَ الترخيص؛ ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات؛ ولذا قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185] وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى الذى دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يسروا ولا تعسروا) [3]، (وما خُيِّر النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن معصية) [4] [5]. والناظر المتتبع يجد هذه الهدية الربانية السَنية شاخصة في كثير من نواحي صيام رمضان، فمن ذلك: أن رمضان لم ينزل إيجابه مرة واحدة، بل مر بمراحل كان آخرها إيجاب صيامه بشروطه، وكان هذا دفعًا للمشقة؛ فإن النفوس في ذلك الوقت لم تعهد صيام شهر كامل على الوجوب. ومن صور التيسير: أن صيام رمضان ضيفٌ عزيز يأتي إلى المسلمين مرة واحدة في العام، فلو كثر نزوله ربما تُلفى فيه مشقة، وهذه الزيارة مدة يسيرة، وليست إقامة طويلة ترهق المُنزِلين، وتبغّض الضيف إلى المضيفين، فالمدة شهر قمري واحد فقط، وتأمّل التعبير عن ذلك بقوله: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184]، فقد " عبّر عن رمضان بأيام -وهي جمع قلة- ووصف بمعدودات -وهي جمع قلة أيضًا-؛ تهوينًا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عداً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء، وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر"[6]. ومن صور التيسير: أنه لا يجب على جميع أفراد المسلمين، بل على بعضهم ممن توفرت فيهم شروط الإيجاب، فلا يجب على صبي مطلقًا؛ لأنه تكليف، وهو فاقد لسببه، وهو نقصان عقله، إضافة إلى وهن جسمه، ولا يجب مطلقًا على مجنون؛ لذهاب مناط التكليف عنه، وهو العقل الذي يضبط الأفعال والتصرفات، والمجنون لا يدري ما الصيام ولا مفطراته ولا مباحاته، فاقتضت رحمة الله تعالى دفع مشقة الصوم عنهما تيسيراً عليهما. ولا يجب على مريض حال مرض يشق عليه الصيام أثناءه، ولكن يجب عليه إذا شُفي؛ فالصوم لكونه تكليفًا فيه نوع مشقة، والمريض مطوَّق بمشقة السقم، فلا يرغب بمعكر إضافي؛ إذ قد يضاعف الصومُ مرضه، أو يؤدي إلى وفاته، ويلحق بالمريض: الهرم والشيخ الكبير، والحامل والمرضع. ولا يجب على مسافر حال سفره؛ لأن (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه)[7]، كما قال عليه الصلاة والسلام. ولا يجب على الحائض والنفساء حتى تطهرا؛ إذ هما تعانيان غالبًا مشقةَ السيلان وآثاره من الإرهاق، وتغير الأخلاق، فاقتضى التيسير الشرعي العفوَ عنهما عفواً آنيًا حتى يصحّا. ومن صور التيسير: أن صيام رمضان فيه أجور عظيمة، فأصحاب الأعذار السابقة لكي لا يحرَموا هذا الفضل الذي ناله غيرهم؛ فتصيبهم مشقة نفسية بالحرمان؛ جُعل لهم وقت آخر عقب رمضان ليدركوا من ذلك الخير، ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185] ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. ومن فروع التيسير: أن (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)[8]كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وذلك أن النسيان صفة ملازمة للإنسان، فربما نسي كونه صائمًا فطعم أو شرب، فجاء التيسير ليكسوه ثوب العفو، ويحثه على استمرار الصيام. ومن صور التيسير: أن من أصبح جنبًا فإن صيامه صحيح، وعليه الغسل، كما قالت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم) [9]، فقد ينام الإنسان على جنابة ولا يستيقظ إلا بعد أذان الفجر، أو قد ينسى أنه على جنابة ولا يتذكر إلا بعد الصبح، أو أثناء النهار، فمن التيسير: أنه يصح صومه ويجب عليه الاغتسال، فلو كان ذلك مفطراً له لكان فيه مشقة عليه بالفطر ووجوب القضاء، وربما فاته ذلك بنسيان أو ذهول، أو ضيق الوقت، وهو معذور في هذه الأحوال. ومثله الحائض والنفساء إذا طهرتا من دميهما أثناء الليل أو قبل الفجر صح صومهما إذا دخل عليهما النهار ولم يغتسلا، ثم يجب عليهما الغسل؛ وكان ذلك كله تيسراً من الله تعالى. ومن صور التيسير: أن المحتلم نهاراً لا يفطر، وما عليه إلا الاغتسال ومتابعة الصوم؛ لأن نزول مائه لم يكن بإرادته، فلو كان حكم عليه بالإفطار لكان فيه مشقة. ومن صور التيسير: أن الله تعالى لم يحرم المعاشرة الزوجية إلا أثناء نهار الصيام، ولو حرمت كذلك في الليل لكان في ذلك مشقة، ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]. ومن صور التيسير: أن من أفطر عامداً فعليه أن يقضي ما أفطر من رمضان بعد تولي رمضان؛ لأنه لو لم يصح قضاؤه لكان ثَم مشقة بحرمانه من ذلك. وفنن آخر من أفنان التيسير وهو: أن المفطرات أصناف قليلة معدودة، وغير المفطرات للصائم غير محدودة في إطار المباح، فلو كان الأمر على عكس ذلك لأحاطت بنا المشقة. إضافة إلى هذه الصور: يذكر أهل العلم رخصًا للصائم إذا فعلها لم يفطر، وهي كثيرة غير محصورة، منها: تذوق الطعام للصائم، واستعمال الأدوية التي لا تقوم مقام الأكل والشرب، والقيء من غير تعمد، والأمثلة كثيرة. فالحمد لله الذي أوجب فيّسر، وشرع وسهّل، وأنعمَ فأفضل، وجاد فأجزل. لك الحمد كلّ الحمد يا بارئ النَّسَمْ ♦♦♦ ويا شارع التيسيرَ يا واسع الكرمْ [1] التحرير والتنوير 2/ 173. [2] تفسير الرازي : مفاتيح الغيب 5/78. [3] متفق عليه. [4] متفق عليه. [5] زهرة التفاسير، لأبي زهرة ص: 560. [6] التحرير والتنوير، لابن عاشور 2/ 159. [7] متفق عليه. [8] متفق عليه. [9] متفق عليه. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (25) سارق الصوم عبدالله بن عبده نعمان العواضي السرقة انحراف سلوكي، يدل على وهن نفسي أمام نداء الشهوة المعوجة، وهي تشير إلى خواء داخلي خلا من تعظيم حق الخالق، وتعظيم حق المخلوق، وهي استجابة جامحة للسطو على معصوم الآخرين من غير كابح من دين أو خلق. وهذا في الحقوق الحسية كالأموال، وهناك سرقة أشد منها شناعة وهي السرقة في الحقوق المعنوية كالسرقة من العبادات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها[1]. فهذا الذي لم يطمئن في صلاته فأسرع فيها حتى لم يتم ركوعها ولا سجودها؛ قد سرق من حق الله تعالى في الصلاة وهو تمام الاطمئنان في جميع الأركان، فالعجلة في أدائها نقصانٌ وهدر لذلك التمام الذي تجب المحافظة عليه، وهو سرقة من ثواب الصلاة؛ لأنها إذا كملت وقبلت تمّ ثواب صاحبها، فإذا أسرع فيها أنقص من ذلك الكمال. وعلى هذا المنوال يعيش ناس في رمضان يسرقون صومهم؛ تكاسلاً، أو جهلاً، أو طلبًا للراحة وهروبًا من ثقل العبادة، ونحو ذلك من الأسباب. فهناك من الصائمين من يسرق من صومه كجعله صيامَ رمضان عادة لا عبادة، وذلك حينما لا يبتغي به وجه الله تعالى، ولا يقوم به كما جاء في الشرع، وإنما يجاري به جمعَ المسلمين، فكيفما صام الناس صام، وما ألِفه المجتمع من العادات السيئة في رمضان جعله دينًا يدين به. ومن سُرّاق صومهم: من يصوم رمضان ولا يصلي الصلوات الخمس، أو بعضها، فيا لله للعجب! فكيف يصح صيامٌ لم يقم على بنيان الصلاة التي هي الركن الثاني وهو الركن الرابع، فهل يصح لبانٍ أن يعلي بنيانًا لا يقوم على قاعدة راسخة؟ ومن سُرّاق صومهم: من يظل نهار رمضان في نوم طويل، فلا يعرف من يوم الصوم إلا نصفه، أو ثلثه، أو ربعه، بل إن بعضهم لا يستيقظ إلا عند الإفطار! فماذا بقي من الصيام بعد هذه السرقة التي اجتاحته أو اجتاحت معظمه؟! فرمضان عند هذا الصنف نزيلٌ على الفراش، وقِراه النوم العميق، ولسان حالهم: فأهلاً بالصيام على سريرٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفرش ناعمٍ حلوِ الوساده http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بها يُقرى صيامُ الشهر فينا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويلقى فوقها كرمَ الوفاده http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا عتبٌ على ما كان منّا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فنومُ الصائمين لهم عباده![2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن سُرّاق صومهم: مَن يجرحون صيامهم ببذاءة اللسان، وينزعون إلى تلبية دواعي الغضب، فهذا الفعل يسرق عليهم كمالَ الأجر، وينقصهم عن الظفر بتمام الثواب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم) [3]. وهناك سارق يسرق صيام بعض الصائمين برضى من الصائمين، بل بحُبٍّ منهم له، بل بسعي إليه ليسرق كنز الصوم منهم، هذا السارق هو: الإعلام السيء الذي يصيب الصيام في مقتل، فما كان من فضيلة نالها الصائم استلبها منه، وما كان من داء يسحتُ صيامَه وهبه له، وهو سارق يعامل المسروق منه عن بُعد على مدار الساعة، وفي أي ظرف كان فيه، وقد لا يشعر بعض الصائمين بهذا السارق الخادع إلا إذا آبوا إلى عقولهم الصافية، وإيمانهم المشرق، لكن مادام في العقول غبش، وفي الإيمان غشش فإن هذا السارق الظريف سيستمر في السرقة المحبوبة لدى المسروق منهم! وقريب من هذا السارق: الإعلام الملهي الذي يسرق على بعض الصائمين كنز الوقت الثمين، الذي يفتقرون إلى إنفاقه في الأعمال الصالحة في هذا الشهر الكريم. فمن كان فطنًا مؤمنًا فلا يسرق من صيامه؛ فيوقع نفسه في الخسارة، فيكون حاله كمن قيل فيه: " يَدَاكَ أوْكَتَا وَفُوكَ نَفَخَ" وأصل المثل:" أن رَجُلاً كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعْبر على زق نفخ فيه فلم يحسن إحكامه، حتى إذا توسّطَ البحرَ خرجت منه الريح فغرق، فلما غَشِيه الموتُ استغاث برجل فَقَالَ له: يدَاكَ أوكَتَا وفُوكَ نفخ، يضرب لمن يجني على نفسه الحَيْنَ"[4]،- يعني: الهلاك-. ولا يأذن كذلك لأحد ليسرق من صومه باختياره ورضاه، وإلا كان حاله كحال ذلك الأعرابي الذي" رَبَّى بالبادية ذئباً، فلما شبَّ افترسَ سَخْلة له، فقال الأعرابي: فَرَسْتَ شُوَيْهَتِي وفَجَعْتَ طِفْلاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَنِسْوَاناً وَأنْتَ لَهُمْ رَبِيبُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نَشَأتَ مَعَ السِّخَالِ وَأنْتَ طِفْلٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَمَا أدْرَاكَ أنَّ أبَاكَ ذِيبُ؟! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذَا كَانَ الطِّبَاعُ طِبَاعُ سُوءٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَلَيسَ بِمُصْلِحٍ طَبْعاً أدِيبُ[5] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وهو صحيح. [2] " نوم الصائم عبادة" حديث ضعيف، ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 230). [3] رواه البخاري. [4] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 414). [5] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 446). |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (26) شهر الحب عبدالله بن عبده نعمان العواضي الحُبّ كلمة، لكنها قاموس زاخر يُهدي للناس من أعماقه لآلئ ثمينة، يتزينون بها في مجالسهم، وتسرق أبصارَ الإعجاب إليهم، ينظرون إلى أنفسهم وعليهم قلائد الحب فيفرحون، وتضيء عليهم فيستنيرون. والحب نور ونار، نور يضيء دروب المحبين، ونار تحرق أكباد الحاسدين، والحب قلب فسيح يتسع ولا يضيق، ونهر يتدفق ولا ينضب. والحب جنة أريضة، تفوح بأطيب العطور، وتنبت أجمل الزهور. والحب معراج الشرفاء إلى ربابة الأحِبّاء، وعِلْق نفيس لا ينبغي أن يعلّق إلا في صدور المعالي. سقا الله روضَ الحُب بالطلِّ والنَّدى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ودامَ شذيَّ العَرْف ما بقيَ الدهرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإني رأيتُ العيش إن صار عاطلاً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من الحب يومًا لا يطيب به العمرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذ ذكرتُ الحب هنا فإنما أعني به ذلك الحب الطهور الذي تسقي القلوبَ به غمامةُ الإيمان، والخلق الكريم، فتهتز أرضها بكل زوج بهيج من الصفات الفواضل، والخصال الكوامل. ولا أريد به ذلك الحبَّ الكدِر الذي يسيل به الانحراف فترتشفه القلوب الخاوية من حراسة التقى، والعقول الخالية من حصانة ورود البلوى؛ لأن ذلك الحب حينما ضل طريقه تجرّع أهله مرارة الإباق فصار عليهم عذابًا يجدون في سعيره شدةَ الإحراق بحطب الأشواق، كما قال ابن دريد: وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تراهُ باكياً في كلِّ وقتٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مخافةَ فرقةٍ أوْ لاشتياقِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فتسخنُ عينهُ عندَ التنائي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتسخنُ عينهُ عندَ التلاقي[1]http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد أساء ذوو الأهواء الطائشة إلى هذه الكلمة المقدسة حينما أسروها في قبّة الرذيلة، وصاروا يعلنون بدائهم وشقائهم باحثين عن آمالهم وشفائهم فاجتمعت عليهم الأسماع والعيون فنقلت عنهم مفهوم الحب الذي رأته للمشوق والمهجور كالتنور المسجور. فماذا الذى يشفي من الحب بعدما ♦♦♦ تشرّبه بطنُ الفؤاد وظاهرهْ[2] مع أن الحب أطهر من أن يُرمى بذره في هذه السباخ، وأشرف من أن يتجه هذه الاتجاه. إن الحب عبادة من العبادات، وقربة من أعلى القربات، وهو تكليفٌ أمرَ الله تعالى عباده به، فمن عصى الأمر بالحب أثِم، ومن ماطل في الوفاء بحقه غرِم. فمن ذلك حب الله تعالى، فالله أعظم مَن يُصرف له حبُّ المحبين، ووداد الوادّين، فالمحب الصادق لله تعالى يحب ذاته وأسماءه وصفاته، وأفعاله ودينه الذي شرعه. وكيف لا نحب الله تعالى حبًا لا يعلوه حب، وهو ذو الكمال والجلال والجمال. وكيف لا نحب الله عز وجل وهو الذي خلقنا ورزقنا وصوّرنا فأحسن صورنا، كفانا وآوانا، وحمانا وأعطانا. إن أحسنا آجرنا وأثابنا، وإن أسأنا حلم علينا وأمهلنا، وإن تبنا رحمنا فغفر لنا. وكيف لا نحب ربنا تبارك وتعالى، وكل خير نحن فيه فمن عنده، وكل شر دُفع عنا فمن فضله!. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]. ومن ذلك حب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قرة أعيننا، وهادي طريقنا، وقدوة سيرنا، الذي دلنا على الخيرات، وحذرنا من المنكرات، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم برهانُه اتباعُ سنته والعمل بهديه، ومحبة ما يحب، وكره ما يكره، ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]. يطرق رمضانُ أبوابَ المسلمين وفي يديه أمزانُ الحب التي تسقي فراديس حبهم فإن قبلوا ماءها وسقوها به غدت جنانهم بهجة للناظرين، ونالت رضا رب العالمين، فكانت لهم أُنسًا في الخلوة، وزينة في الجلوة. من ذاق حلاوة العبادة المتنوعة في رمضان، وفكّر في عظمة تشريع صيامه وما يحف به من الأعمال الصالحة وما يعقبها من الأجر العظيم زاد حبه لله تعالى الذي كتب صيام رمضان على عباده، وتفضل عليهم بنوائله في هذا الشهر الكريم. فحبّك يا مولايَ زادي وعُدّتي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى قبلة القربّى وتبريحِ أشواقي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تفيض عطاياك الحسانُ فيرتقي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ودادُك في قلبي وتخضرّ أوراقي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن قرأ القرآن الكريم في رمضان قراءةَ تأمل وتدبر، وفهم ما يراد منه، زاد حبه لهذا الكتاب العظيم الذي تنقل بين أفيائه، وتمتع طرفه بمروره بين صفحاته. ومن تقرّب إلى الله تعالى بالطاعات، وتلذذت نفسه في مخارف القربات، عظم في قلبه حب الإسلام الذي ألفى فيه هذه الخيرات. ومن طاب عنده خير رمضان، ونال منه غذاء الروح قوي في قلبه حبُّ نبي الأمة صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى بهذا العطاء الجزيل إليه. كما أنه عندما تحلو له الحياة في الجو الرمضاني الجميل وهو يعبد الله تعالى كأنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في استقاء الشريعة الغراء يعلن بالحب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ولمن تلاهم من أهل العلم والعبادة الذين حملوا هذه الأمانة إليه حتى عبد الله تعالى بما أوصلوه من الحق إلى حيث كان. وفي الوقت نفسه يطفح قلبه بالحب الوافر للمسلمين الذين كانوا رفقاء دربه في رحلة الصيام، فرمضان جاء ليقتلع من فؤاده أشواك الحقد والبغضاء، ويغرس بدلاً عنها ورد الإخاء والصفاء. كيف لا يكون رمضان شهر الحب بين المسلمين، والمسلم مأمور فيه بكف لسانه وجوارحه عن الإيذاء للمسلمين، وكيف لا يكون شهر الحب والصائم مندوبٌ إلى تفطير الصائمين، ومد يد السخاء إلى المحتاجين، فالغني يحب الفقير؛ لأنه كان جهةً لبذله فكان سببًا لثوابه، والفقير يحب الغني؛ لأنه سد حاجته، وأعانه على طاعة ربه بتفريج كربه ليجد وقتًا يتقرب فيه إلى الله. وكيف لا يكون شهر الحب وهذا الجمع الكبير من المسلمين يجتمعون على عبادة واحدة لرب واحد بشرائط واحدة، فينبغي أن يكنّ المسلم الحب لمن هم مثله، ويسيرون معه إلى غاية واحدة. إذن: رمضان بريدُ الحُبّ إلى المسلمين يحمل إليهم رسائل المِقةِ فيقول: أطيعوا لتُحَبّوا، وأحبِّوا لتودّوا، وتأملوا في بساط رمضان تروا مشاعل هادية تقود خطاكم إلى تنمية واجب الحب ومستحبه. فذقْ عذْبَ هذا الحبِّ واشربْ رحيقه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلستَ ملومَ الودِّ في غاية عُليا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تخشَ إظماءَ الحبيب وهجره http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأنت على وصلٍ وأنت على سُقيا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] ديوان ابن دريد (ص: 79). [2] البيت لابن الدمينة، اللآلي في شرح أمالي القالي، للبكري (2/ 693) |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (27) نسيم التغيير عبدالله بن عبده نعمان العواضي من دوحة رمضان الزكية ينبعث نسيمُ التغيير على النفوس فيحملها على أُفُقِه الناعم في رحلة سعيدة تنتقل بها من الضيق إلى السعة، ومن الإظلام إلى الإصباح، ومن وهْي الرُّوح وشيخوختها إلى ريعانها وعنفوانها، ومن ذلِّ الأسر في يد النفس الأمارة بالسوء إلى فضاء النفس المطمئنة التي تجد الحياة مبتسمة رغم العبوس، طليقة رغم القيد، صحيحة رغم الجراح، آملة رغم الآلام. خذوني للعُلا معكمْ خذوني http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تدعوا فؤادي للفُتونِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خذوني قد برِمتُ بحكم همّي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفرّقَ جورُه بين الجفونِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نزل بالنفوس هذا الضيف الكريم لينزع عنها أغشية عمّها غبارُ الشقاء والإعراض عن سلسبيل الجلاء، وليحلّيها حُلل التقوى التي تجعلها تبدو في غاية الرونق والبهاء، ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]. يحمل رمضان بين ثناياه رياحَ التغيير فتمر بطيبها على الأرواح والقلوب والعقول والجوارح فتدعوها إلى تغيير شامل من حياةٍ تسلّط عليها النفور عن الطاعة، والقصور عن المسابقة، إلى حياة تصبح الطاعة هي روحها التي بها تحيا، والمعصية منونها التي بها تموت، وإن بقي الجسد يمشي على الأرض. إن شهر رمضان موسم خصب للتغيير الحسن الذي ينشده الصادقون، وينتظره المشتاقون، والناظر في أحوال رمضان يجد على جبينه ملامح التغيير تعظ بصمت؛ لعل الناس أن يفهموا رسالة صمتها التي أبلغت في الذكرى، فجدول الإنسان اليومي الحياتي وصلت إليه يد التغيير عما كان قبل رمضان؛ فنوم الإنسان واستيقاظه، وأكله وإمساكه، ومعاشرته وبعدُه، ودوامه الوظيفي وسكونه، وغير ذلك؛ كله قد تغيّر، فهذا التغيير الدنيوي يحث على تغيير ديني، والتغيير في العادات يدعو إلى التغيير في العبادات، من شر إلى خير، ومن كسل إلى نشاط، ومن غفلة إلى يقظة. ومن حِكم جعلِ الله تعالى واجبَ الصيام شهراً كاملاً: أنه يساعد على حصول التغيير، وكسر حاجز العادة المطردة، فيكون ذلك حاثّا للمسلم على الاستجابة لنداء التغيير، ولكن في الجانب الروحي كما تم في الجانب البدني. تعيش الروح غالبًا قبل رمضان في ناحية ضيقة فيشرق عليها شهر الصيام بدعوتها إلى تغيير صالح ينقلها به إلى نواحٍ واسعة من أفراح الروح، تحلّق فيها متلذذةً بأنواع من القربات كثرةً ووصفًا. وتهب رياح التغيير الرمضاني إلى القلب ولعله كان أسيراً في أغلال القسوة فتسعى إلى تحريره؛ ليكون سيّداً في عالم الرقة وسموِّ الإيمان، حتى يصير من أهل هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]. وتأتي إليه أسيفًا يحسو كؤوس الأوجاع فتهطل عليه بغيث السرور؛ لينطلق فرحًا بين خمائل الطاعات. وتزور العقل ويكاد -أو يكون- غارقًا في أمواج شهوات الدنيا مفكراً كَلِفًا مهمومًا بها وحدها فترمي إليه قوارب النجاة ليطفو عليها؛ ليفكر في مصالح الآخرة وأعمالها؛ حتى يصل إلى مرافئ السلامة لدنياه وآخرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له)[1]. وتمر بالجوارح فتجد لسانًا يفري في أعراض الأحياء والأموات، وطَرْفًا يسرح في أودية المحارم، وأذنًا تسرق مقالات الألسنة مما حرم عليها سرقته، ويداً تستطيل إلى مآثم الأخذ، ورجلاً ترسل الخطو إلى مسالك الخطيئة، فتقول لها: قفي فالاتجاه غير صحيح؛ فأمامك منحدرات ومنعطفات تقود إلى الهاوية. فمن تأمّل بعد هذا يلحظ أن رمضان مدرسة للتغيير العام الذي يحوي منهجًا متكاملاً لتبديل الأحوال السيئة إلى أحوال حسنة في الواقع الإيماني والتفكيري والسلوكي، فمن تخرج في هذه المدرسة ناجحًا، وحمل نجاحه إلى ما بعد رمضان فهو الناجح حقًا، وإلا ففي انتظامه في هذه المدرسة نظر؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)[2]. [1] رواه الترمذي وغيره، وهو صحيح. [2] رواه الترمذي والحاكم، وهو صحيح. |
رد: غصون رمضانية
غصون رمضانية (28) طهرة الصائم عبدالله بن عبده نعمان العواضي يوشك الصائم أن ترحل عنه دوحة رمضان، ويذهب عن رُوحه رَوحُها المنعش، ونسيمها السَّجسج، وبردُ العيش تحت أفنانها الظليلة، ولكن بركاتها ما برحت تمدّ إليه غصونَ الخير إلى آخر لحظات زمانها السعيد. فهي كالغيث خيرٌ كله مقبلاً ومدبراً، وكرحيق الجنة لذيذُ الأوائل والأواخر. فمن الهدايا التي يُتحَف بها أهلُ رمضان على مشارف توديعه: صدقةُ الفطر. والصائم الصادق لا يشبع من جنى هذا الشهر الكريم - خصوصًا ما زخر به آخره - وخيرات الدنيا قد تعظم أوائلها وتضعف أواخرها، لكن شهر رمضان عظيم كله، بل إن أواخره خير من أوائله؛ حتى يبقى المسلم على ترقٍّ في مدارج النشاط والجد؛ حتى يحوز جوائز الإكرام عند الختام وهو على وتيرة مستقيمة لم تنحدر إلى منعطفات الفتور. كما أن المؤمن يحرص على خواتم الأمور؛ طلبًا للقاء الله على أحسن الأحوال، وأرقى الأعمال، فربما فاجأه الموت وهو في آخر ساعات رمضان. تأتي صدقة الفطر في أعقاب صيام رمضان فرضًا على كل مسلم صغير وكبير، وذكر وأنثى، حاملةً في ثناياها الخيرَ اللازم والخير المتعدي، فلكي لا يفوت المسلمَ والمسلمين هذا الخيرُ الخاص والعام جعل الشرع إخراجَه فرضًا لازمًا على من ملك قوت ليلة العيد ويومه. هذا العبادة الكريمة تجيء كالختم على صحيفة رمضان التي ستُرفع إلى الله تعالى، وهذا الختم يقوم بعملية تطهير لصحيفة الأعمال مما يكدرها من اللغو والرفث، فتصعد إلى الله تعالى مشرقة بعد أن صُقلت بهذا التطهير، وتأتي كذلك تعبيراً عن شكر العبد لله تعالى على توفيقه له لفعل الخير في شهر الخير، فكما أن الله تعالى أحسن إليه بذلك فهو يحسن إلى إخوانه المسلمين الذين شاركوه في عبادة الله، فيعطيهم شكراً لله وإحسانًا إليهم، ورحمة بهم، وحبًا في إسعاد غيره كما أسعده الله تعالى، فتحمل السعادة على أجنحتها المعطي والآخذ. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) [1]. قال عروة بن الورد: إنِّي امرؤٌ عافِي إناَئِيَ شِرْكةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَأنْتَ امرؤٌ عافِي إنائكَ وَاحدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أتَهزَأُ مِنِّي أنْ سَمِنْتَ وأنْ تَرى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بوَجْهي شُحُوبَ الحَقِّ والحَقُّ جاهِدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أُقَسِّمُ جِسْمِي في جُسُومٍ كثِيرةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَأحْسُو قَرَاحَ الماءِ والمَاءُ بارِدُ[2] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتعطي هذه العطية الواجبة المؤمنَ المسابق للخيرات قبل غيره درسًا في ترك الشموخ إلى الزهو بالطاعة، والنظرِ من ذلك المكان العالي إلى الناس العصاة أو المقصرين بعين الاحتقار، فصومه وإن كان في الدرجات العلا من السلامة فإنه يحتاج إلى مطهِّر يجبر نقصه؛ لأنه قد تحصل منه الغفلات والخطيئات؛ فالقائمون الليلَ الذين هجروا لذاتهم، وقاموا محبِّين بين يدي ربهم كان حالهم في ختام هذه العبادة الشريفة كما وصف الله تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]. فهم قاموا، ولكنهم رفعوا القيام إلى الله مصحوبًا بالاستغفار، وغيرهم لم يقم ولم يستغفر! وحينما ننظر إلى جنس ما يُخرج ومقداره نلاحظ أنه نُظر فيه إلى أهمّ ما يحتاجه الإنسان لإقامة حياته الجسدية، وهو الغذاء الذي لا بقاء للبدن بدونه، وغالب الناس لديهم الغذاء-وإن تفاوتوا في مقاديره وأصنافه-؛ فلهذا كان الأمر بالإخراج مما يقتات؛ لكونه من الضروريات التي تحفظ به حياة هذه الأبدان التي تقوم عليها عبادة الله، ولو فاتت مع ذلك الحاجيات والكماليات. ثم إن هذا الواجب هو على من ملك قوت ليلة العيد ويومه، فمن لم يكن له ذلك فلا وجوب عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، وضرورة المرء ومن يعول مقدمة على غيره، ولكن لو ملك مقدار فطرة نفس واحدة من الأسرة فإنه يجب عليه إخراجها؛ حتى يصح في حقه وصف العادم للزيادة عن قوت ليلة العيد ويومه، كما أن المبادرة إلى إخراج ذلك القليل ولو عن نفس واحدة يشعر بنزول هذه العبادة في قلبه منزلة عظيمة لا ترضى بالمنع واحتقار القليل؛ إذ لا يجد إلا جهده، وفيه رسالة غير مباشرة لأصحاب الطَول تدعوهم إلى عدم البخل في إخراج عن هذا الحق. وما ليَ شيءٌ غيرُ نفس بذلتُها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لِحُبكمُ والبذلُ للنفس مُكْلِفُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكنه جهدُ المُقلِّ سخاْ به http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم واجدٍ عند المكارم يرجف! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي إخراج ما زاد على قوت اليوم والليلة درس إيماني مضمونه: أن على المسلم أن يكون يقينُه واطمئنانه في أمر رزقه على ما عند الله، وليس على ما عنده، فإعطاؤه ما زاد على قوت ليلة العيد ويومه صورةٌ من صور التوكل على الغني الرزاق سبحانه وتعالى. ينسب للشافعي قوله: إذا أصبحتُ عندي قوتُ يومي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فخلِّ الهمَّ عني يا سعيدُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا تخْطرْ هموم غدٍ ببالي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإن غداً له رزق جديد[3] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن تأمل في مقدار ما يخرج يجده شيئًا زهيداً لا تبخل به النفوس الكريمة، غير أنه لا تستغني عنه النفوس المعوزة، فمتى تعددت صِيعانُ الإنفاق سقط طغيان الإملاق. وفي اختيار صنف المساكين دون بقية مصارف الزكاة نظرة دقيقة إلى كون حاجة المساكين إلى القوت أكثر من بقية الأصناف، وهي حاجة مستمرة، خصوصًا أن غالب الناس يقفون عن طلب الأرزاق يوم العيد، فمن مراعاة المشاعر أن يجعلوا مشاركين للأغنياء في فرحة العيد وهمْ في أمن غذائي. واختيار وقت الفضيلة لإخراج هذه الصدقة-وهو بعد صلاة فجر يوم العيد- ليبدأ المسلم يومه بطاعة الله تعالى المتعدية التي تدخل السرور على أخيه المسلم مبكراً حينما تقطر مزنةُ الإحسان من أيدي الباذلين فتنبِت أزهارَ الابتسامة في وجوه المحتاجين. [1] رواه أبوداود وابن ماجه والحاكم وغيرهم، وهو حسن. [2] ديوان عروة بن الورد (ص: 13). [3] ديوان الإمام الشافعي (ص: 6). |
رد: غصون رمضانية
|
رد: غصون رمضانية
شروقُ العيد غصون رمضانية (30) عبدالله بن عبده نعمان العواضي ذبلت رياض رمضان الندية، ورحلت أيامه السعيدة، ولياليه المشرقة، رزقنا الله فيه القبول، وأخلف لنا بعده صلاح العاقبة، وحسن المنقلب، ودوام الاستقامة. وعلى عقب رحيله شرعت النفوس في استقبال مولوده وخليفته من بعده، فغربت شمس رمضان فطلع هلال شوال مؤذنًا بحلول عيد الفطر فأهل الناس بالتكبير؛ شكراً لله تعالى على نعمة الإتمام للصيام، ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. لقد صدحت الأجواء، وتعالت أصوات المكبرين في الأرجاء قائلين: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد، إنها عبارات عذبة تفوه بها القلوب والألسنة بأصوات جهورية؛ لتسمع الكون حروف التعظيم، وجُمل التوحيد، وكلمات الشكر والاعتراف بالنعمة، فمعبود المسلمين عز وجل أكبر من كل شيء يُتقرب إليه بعبادة، أو يتزلف إليه بقربة. فالله أكبر! تعظيم وتوحيد لمن عُبد بالصيام وسائر القربات، والله أكبر! حداء طلائع الاستقبال؛ فرحًا بتفضل الله عليهم بإكمال فريضة الصيام، وما حفه من الطاعات العظام، لا فرحًا بملاقاة ملذات النهار المفطرة بعد فراق شهر كامل، ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. والله أكبر! شعار وليدِ رمضان يُلقى في أذن الزمن الجديد في كل مكان: في المساجد والبيوت، والطرقات والأسواق، يردده الجميع: زرافات ووحدانًا، ابتداء من ليلة العيد إلى صعود الخطيب المنبر. إن العيد عَودٌ حميد إلى الأرض بعد رحلة ممتعة حلّقت بها الروح في فضاء الصفاء، فعانقت هناك نجوم السمو الروحي فاقتبست من أنوارها مشاعل هداية ممتدة. والعيد تذكير بعوائد الله تعالى وفضائله على عباده، وأن عادة الله إكرام خلقه، وإسباغ نوائله عليهم، ولكن معاصيهم حجب عنهم استمرارها. العيد ولادة جديدة من رحم شهر التربية والاستقامة فيخرج منه المؤمن صقيلاً مطهَّراً. فالاغتسال عند الذهاب للمصلى تفاؤلٌ مبكِّر بإزالة الخطايا بماء التكفير والعتق في ختام رمضان، ولبس الجديد تفاؤل بفتح صفحة ناصعة مع الله تعالى وعزم على الاجتلاء والبهاء، فالاغتسال تخلية ولبس الجديد تحلية، والتطيب حرص على التعطر بأفعال يطيب سماعها، وتحسن رؤيتها؛ فالسمعة الطيبة هي عَرْف الصالحين بين العالمين. تنطلق الجموع المكبرة إلى مصلياتها وقد أفطرت على تمرات أو غيرها، وخرجت من الإمساك إلى الإفطار؛ فصلاً بين الزمانين، وتمييز مبكر ليوم الفطر. تتقاطر فئام المسلمين إلى المصليات وهي تحمل على ألسنتها ذكر الله تعالى، وعلى وجوهها البسمة والألق، وعلى قلوبها الفرحة والمحبة، تتلاقى الأعناق وتتصافح الأيدي، وتزهر بينهم عبارات التهنئة بسلامة البقاء، والدعاء بقبول العمل، وحسن ما يجيء في المستقبل. ما أعظم ذلك الجمع الذي خرج إلى صعيد واحد رجالاً ونساء صغاراً وكباراً!. ما أشبه اليوم بالغد! يوم يبعثر ما في القبور، ويخرج الخلق كأنهم جراد منتشر إلى صعيد القيامة منتظرين، اليوم خرجوا من بيوتهم إلى المصلى ينتظرون حلول الصلاة، وغداً يخرجون من قبورهم ينتظرون فصل القضاء بين يدي الله. في العيد تبتهج النفوس، وتنداح دائرة السرور، فأكمل الناس حظًا في العيد من أدخلوا الفرحة إلى قلوب البؤساء والمحزونين، يمسحون دمعة يتيم، ويخففون وجْد أرملة، ويمدون أغصان الإحسان إلى مسكين فيلامس في أكفهم السخاء، ويسمع من ألسنتهم القول المعروف، وتسبق إلى فؤاده بسماتهم، قبل أن تصل إلى كفه عطاياهم. هؤلاء السعداء المسعِدون يتفقدون الجار والقريب، ويبحثون عن أحلاس البيوت من الحاجة، ويتفرسون في الوجوه والأحوال فيعرفون الذين أحصروا عن الفرحة لعوزهم وفاقتهم، غشاهم الحياء، وسترهم التعفف والرضا بالقضاء، ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]. هؤلاء الأسخياء هم الذين تتم لهم الفرحة، وتكتمل في قلوبهم ووجوههم البهجة؛ فأسعدُ الناس مَن أسعدَ الناس، كما قيل. وإذا كان يوم العيد يومَ فرحة وحبور فإن ذلك لا يعني الانطلاق إلى هتك حدود المآثم، ومعانقة المخالفات والجرائم، ففرحة المسلم يجب أن تكون في إطار حدود الله، الذي منَّ بالفرحة فيجب فعل ما يرضى تعبداً وشكراً. وفرحة العيد عند النظر العميق هي لأهل الاجتهاد في رمضان الذين بذلوا وقدموا وصبروا، فحق لهم أن يبتهجوا بيوم الجوائز للفائز، وكأن حالهم في هذا اليوم كحال المؤمنين يوم القيامة الذين صبروا ابتغاء وجه الله في الدنيا، وعملوا لذلك اليوم فهنيئًا لهم أن يقال لهم: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، فيطير الواحد منهم فرحًا قائلاً: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 19 - 24]. أما أهل التفريط والكسل في شهر البذر فلماذا يفرحون، وبماذا يفرحون؟! فلعل بعضهم يفرح لكونه عتق من حبس رمضان لشهواته، وانطلاقه لجرائره، فهل بهذا يفرح العاقل، وقد فاته موسم خصب جدّ فيه زارعون فحصدوا يوم العيد جزاءَ جدّهم جنى الرحمن المبارك؟! من فاته ربح الشهر الكريم، وخسر فيه جوائز الرحمن، فبغروب شمس رمضان يتنفس الصعداء فيقول بلسان حاله: رمضانُ ولّى هاتها يا ساقي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما كان أكثرَه على ألَّافِها http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأقلَّه في طاعة الخلاّق http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بالأمسِ قد كنّا سجيني طاعةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واليوم منَّ العيد بالإطلاق[1] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيَشرعُ يمدُّ مائدة المحظورات ليختار ما لذ وطاب لديه من الخطيئات في سمع أو بصر أو قول أو فعل! والعجب كل العجب ممن أحسنوا في رمضان بعض الإحسان فجاء العيد فركبوا إلى المخالفة كلَّ صعب وذلول مسافرين إلى معاطن الفساد، ومراضع اللهو، وسوح الاختلاط، يوزعون حسنات رمضان في تلك الملاهي، مجارين للعابثين، ومشاركين للمفرّطين، فأصبح حالهم كالتي ذكر الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92]، فينكثون ما أبرموه، ويبددون ما جمعوه، ويضيعون ما تعبوا من أجله!. فطوبى لمن كان يوم فطره يزيد في أجره، ويكفِّر من وزره، ويصبح بشرى مشرقة لابتداء حياة الطاعة الخاصة بعد حياة الطاعة العامة، وبهذا يعرف أهل العزائم والمغانم من أهل الفتور والمغارم. [1] الأبيات لشوقي. |
الساعة الآن : 04:03 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour