ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   أعمال القلوب (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=286510)

ابوالوليد المسلم 23-12-2022 10:00 AM

أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


اعتاد المكوث في المسجد بين العشائين، يقرأ القرآن، ويستقبل أصحاب الحاجات، ويبحث في مكتبة المسجد، هكذا عرفته منذ انتقلت إلى هذا الحي، قررت الأحد الماضي أن أذهب إلى العشاء الآخرة باكرا لأجالسه، كان في مكتبة المسجد ومعه أحد المصلين، استأذنت أن اشاركهما، نظر إلى جليسه كأنه يطلب إذنه فرحب، ودعاني إلى الجلوس.
- حديثنا لا خصوصية فيه، ولعلك تستفيد أو تفيد، كنت أشكو إلى الشيخ أحوال قلوبنا، في رمضان كنا نتقلب في الطاعات، ونزداد في القربات، ونكثر من العبادات، وكذلك في أوائل ذي الحجة، وبعد أن انتهي الموسم لا نرى أثرا لما كنا فيه، ونرجع إلى ما كنا عليه!
تحمست قليلا، وعلقت:
- هذا حال معظمنا -إن لم نكن كلنا كذلك.
تدخل إمامنا موضحا:
- إن تقلب أحوال العبد في الإيمان أمر طبيعي؛ فالإيمان يزيد وينقص، ولكن العبرة هي: هل الزيادة من الإيمان إلى الإحسان، أم من الإسلام إلى الإيمان، أم من الطاعات إلى المعاصي أم من الوجبات إلى المنهيات؟ هذا ما يجب أن يقلق عليه المرء، فالصحابة -رضوان الله عليهم- شكوا حال قلوبهم.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث حنظله قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فذكرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي العين، فأتيت أهلي وولدي فضحكت ولعبت، ثم ذكرت ما كنا عليه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فخرجت فلقيت أبا بكر - رضي الله عنه -، فقلت: نافقتُ نافقتُ، فقال أبا بكر: إني لأفعله، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك فقال: يا حنظلة لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو في طرقكم، يا حنظلة ساعة وساعة» صحيح على شرط مسلم.
فالصحابة كانوا يتقلبون بين الإيمان والإحسان، وبعض الناس يستغل هذا الحديث ليسوغ تقلبه بين الطاعة والمعصية، يقول: ساعة وساعة!
على أية حال، ينبغي على المرء أن يعلم بعض الثوابت عن أعمال القلوب، حتى يعرف كيف يحافظ على إيمانه، وثواب أعماله.
- أولا: أعمال القلوب أعظم عند الله من أعمال الجوارح؛ ولذلك كان القلب محل نظر الرب -عز وجل- كما في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار إلى صدره . (مسلم).
وفي المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
- ثانيا: القلب السليم يثمر عملا صالحا، أما العمل الصالح فلا يدل على سلامة القلب، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، متفق عليه.
- ثالثا: أعمال القلب تؤدي إلى الخلود في النار أو النجاة منها؛ وذلك أن من أعمال القلب الشرك، والنفاق، وهذه تخلد في النار، ومن أعمال القلب توحيد الله -عز وجل- والإيمان بـ(لا إله إلا الله)، وهذه منجية من النار.
- رابعا: أعمال القلوب إما أن تحبط أعمال الجوارح، أو تبطل نفعها، أو تقلل أجرها؛ فثواب أعمال الجوارح يعتمد على أعمال القلوب، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الرجل ليصلي ولعله ألا يكون له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» حسن. وفي حديث الصيام والقيام عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» صحيح الجامع.
وهذه من أعظم أعمال الجوارح، الصلاة والصيام.
- خامسا: أعمال القلوب تحتاج إلى عناية مستمرة، أما أعمال الجوارح فيجب مراعاتها في أثناء أدائها، وذلك أن العبد يحتاج إلى الحرص على طهارة القلب وعدم تنجسه دائما، أما طهارة البدن فلا يحتاج إليها إلا إذا أراد العبادة، وكذلك سلامة القلب من الكبر، ومن الحسد، والبغض والشحناء وإلا حرم الأجر، بل والعفو، والعتق من النار؛ بسبب هذه المعاصي القلبية، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا» مسلم.
دخل المجلس مؤذن المسجد، قبل موعد الأذان بعشر دقائق، نبهنا إلى الوقت، ثم خرج إلى مكان الصلاة ينتظر موعد الأذان.
تابع الإمام حديثه:
ودعونا نختم الآن بحقيقة شديدة عن أعمال القلوب، وهي أن القلب شديد التقلب، ولذلك يحتاج إلى جهد عظيم ودائم ليبقى على استقامته، مع الاستمرار بالدعاء؛ ففي الحديث عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا» الصحيحة، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث عن أم سلمة أنها قالت: «كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقيل له في ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقامه، ومن شاء أزاغه»، الصحيحة.

د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 02-01-2023 10:40 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب (3) الإخلاص


«الصادقون مع الله قسمان، قسم صدقوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل وجعلوها دأبهم، وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل، وشتان بين هؤلاء وأولئك!» ابن القيم.
- هذه القضية وهي قضية كبرى، يغفل عنها أكثر الناس، بل أكثر الصالحين الملتزمين دين الله.
- تعني، أعمال القلوب، والعمل على إصلاحها؟
- نعم.
كنت وصاحبي في رحلة قصيرة إلى المدينة المنورة، وتركنا موضوع العمرة إلى الظروف هناك إن تهيأت.
- لا شك أن أعمال القلوب أشد وأصعب من أعمال الجوارح، أين تطهير القلب، من تطهير البدن؟ وأين مراقبة الله، من صلاة ركعتين، وأين الخوف من الله من ترك المسكرات؟ فأعمال القلوب صعبة شديدة، والفائز من تيسرت له وعمل بها.
- مثلا، الإخلاص، عمل عظيم من أعمال القلوب، وهو أصل كل عمل صالح من أعمال الجوارح، والعبد يحتاج إلى مجاهدة عظيمة حتى يحققه ويستحضره دائما.
وذلك أن كل عمل مهما صغر، ينشر له ديوانان: لم؟ وكيف؟
فالأول: هو الإخلاص، والثاني هو المتابعة، ولا يقبل إلا بهما.
ومن حقق الإخلاص في قلبه، فاز، ودخل في وصف الله -تعالى-: {عباد الله المخلصين}، كما في قوله -تعالى- عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83).
كانت رحلتنا بالطائرة، مع أولى الرحلات المباشرة من الكويت إلى المدينة، قطع المضيف حديثنا بتقديمه القهوة والتمر.
تابعنا الحديث:
- دعني أقرأ لك بعض ما جمعت من كتابات ابن القيم -رحمه الله-: «ولا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة الثناء والمدح من الناس، فإذا طلبت الإخلاص فازهد في المدح والثناء».
والإخلاص من أعمال القلوب الواجبة، التي إن تخلفت عن العبادات، حبط أجرها، وإن صاحبت العادات، ثبت أجرها.
وفي تعريف الإخلاص ورد الكثير من أقوال العلماء ومنها، تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وذلك أن مدار الإخلاص في اللغة، الصفاء والتميز عن الشوائب، وهو أشد شيء على النفس؛ لأنها لا نصيب لها فيه.
وفي بيان عظيم ثواب الإخلاص يذكر العلماء حديث البطاقة، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل هذا، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه التسجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء».
يقول شيخ الإسلام -معلقا على حديث البطاقة-: «فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة».
- يظن كثير من الصالحين أن تحقيق الإخلاص سهل ولا يستدعي كل هذا الجهد الذي تقوله.
- ذلك أنهم لا يعلمون حقيقة الإخلاص، ودعني أذكر لك ما ورد في درجات الإخلاص حتى تبين لك صعوبته.
الدرجة الأولى:
إخراج رؤية العمل عن العمل، والخلاص عن طلب العوض عن العمل، والنزول عن الرضى بالعمل.
- فالأولى: يشاهد منة الله -تعالى- وتوفيقه له على هذا العمل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}.
- الثانية: ليعلم أنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا.
- الثالثة: مطالعته عيوبه وآفاته وتقصيره فيه.
الدرجة الثانية:
الخجل من العمل مع بذل المجهود؛ حيث لا يرى العمل صالحا لله مع بذل المجهود {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فالمؤمن جمع إحسانا في مخافة، وسوء ظن بنفسه.
الدرجة الثالثة:
إخلاص العمل بالخلاص من العمل، إلا بنور العلم، فيحكمه في العمل حتى لا يقع في البدعة.
كانت ردة فعل صاحبي تلقائية.
- لا حول ولا قوة إلا بالله، حقا إنها مهمة صعبة، أن يحقق العبد الإخلاص، ويداوم عليه، دائما في كل عمل.
- نعم، هو عمل عظيم! قليل من يوفق فيه، والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يسبقونا بكثرة صلاة ولا صيام ولا ذكر، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، ومما وقر في قلوبهم: (الإخلاص).
أما ثمرات الإخلاص، فلا يعلمها إلا الله -عز وجل- وكلها خير في الدنيا والآخرة ولكن نذكر منها:
- تفريج الكربات (قصة الثلاثة).
- العصمة من الشيطان: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
- نيل شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «قلت يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة، ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».
- مغفرة الذنوب ونيل الرضوان: كما في حديث البطاقة.


د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 02-01-2023 10:45 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - التقوى



تمكنت من إقناع صاحبي بأداء العمرة انطلاقا من المدنية، بعد أن يسر أولو الأمر على المسلمين بتشغيل قطار الحرمين، كانت تجربتنا الأولى في استخدام هذه الخدمة الجميلة للانتقال من المدينة إلى مكة والعودة في اليوم نفسه دون الشعور بالإرهاق وتعب السفر، أخذنا مقاعدنا المريحة، وأنا شخصيا من عشاق السفر بالقطار أينما كنت، أفضله على وسائل السفرة الأخرى كافة.
- (التقوى)، غاية كل مسلم صادق، متى دخلت القلب، انتقل العبد من ماديات الدنيا، إلى الملذات الأخروية، وارتقى من حطام الدنيا، إلى نعيم الروح، وراحتها.
- وما السبيل لنيل التقوى؟ وهل من نالها يفقدها؟ وكيف أعلم أني تحصلتها، وأحافظ عليها؟
- التقوى مثل أعمال القلوب الأخرى، تزيد وتنقص، وتأتي وتذهب، وتظهر وتختفي، وتحتاج إلى مجاهدة لاستحضارها والمحافظة عليها دائما، وسبل الوصول إليها، كما في أعمال القلوب الكبرى، الصدق مع الله والعلم الصحيح من الكتاب والسنة، والعلم وفق هذا العلم، ودعاء الله -عز وجل.
- لنناقش الأمر نقطة بنقطة، ولا تكثر علي، وعُدني أحد طلابك الجدد.
هكذا علق صاحبي، الذي يكبرني عمرا، فما كان مني إلا أن نظرت إليه مبتسما، مستنكرا.
- أنت أستاذنا الكبير يا (أبا عبدالله).
- التقوى، شرعا عرفها كثير من علمائنا، وأحب دائما أن أستشهد بتعريف طلق بين حبيب: «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله».
- هذا التعريف، جمع العلم والعمل والقصد، كلام جميل.
نعم، والعبادات سبيل لنيل التقوى، ولكن إن لم يحافظ العبد عليها، فإنها تمضي مع انتهاء العبادة، وأوضح مثال على ذلك الصيام، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)؛ فالعبد ينبغي أن يستغل هذه العبادات لاستحضار التقوى، ثم يبذل الجهد للمحافظة على التقوى وزيادتها، فقد ذكر الله التقوى وما يتعلق بها في أكثر من مائتين وخمسين آية في كتابه -عز وجل-، أحيانا يأمر -تعالى- الناس جميعا، وأحيانا المؤمنين خاصة، وأحيانا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل بما يناسب مقامه.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج:1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الأحزاب:1).
وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء كثير لعل أشهرها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره، ثلاث مرات، حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله وعرضه». مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر.
تركنا مقاعدنا نتجول قليلا في ممر القطار إلى أن وصلنا دون سابق قصد إلى زاوية المرطبات، أخذنا حاجتنا، ورجعنا.
- وثمرات التقوى لا يمكن حصرها، يكفي العبد منها أنها شأن عظيم أمر الله به، ويريد من عباده تحقيقه، ولكن دعنا نذكر شيئا مما يتحصله العبد بالتقوى.
- محبة الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4-7).
- معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).
- الحفظ من الشيطان: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).
- انتفاء الخوف والحزن: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف:35)، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).
- النجاة من النار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم:72).
- انفراج الكرب في الدنيا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3).
وغيرها كثير، لا مجال لحصرها.
وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا» البخاري.
ومكانة العبد عند الله بما في قلبه من تقوى.
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
ولا شك أن من تمكنت التقوى في قلبه، انعكس ذلك على جوارحه وأخلاقه، فتراه لا يقصر في حق الله ولا حقوق البشر، فيأتي العبادات التي أمر الله بها، ما استطاع، ويصدق مع الناس ويفي بالعهد ويكف الأذى ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفق شريعة الله -عز وجل- ولا تأخذه في الله لومة لائم، وينقص من ذلك كلما نقصت التقوى.
- نعم، التقوى شأنها عظيم، وقليل من يدركها ويحافظ عليها، مع أن سبيل نيلها واضح بين لمن أرادها، ويسير لمن صدق الله.
- أحسنت، ولعلنا نذكر أنفسنا بما يعين على تحصيل التقوى، ومن ذلك، مراقبة الله، والإكثار من ذكره، والرجوع عن الخطأ والاستغفار من الذنب حال وقوعه، والتوبة منه، وتعلم أحكام الشرع واتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومصاحبة الأخيار الذين يذكرونك الله واليوم الآخر بمجرد رؤيتهم، ودعاء الله -عز وجل- دائما باتباع الحق، والثبات عليه.


د. أمير الحداد



ابوالوليد المسلم 02-01-2023 04:33 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - حب الله



«إن القلوب لا بد لها من تعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله محبوبه ومعبوده، تعلق قلبه بغيره»، إغاثة اللهفان.
يسر الله لنا العمرة، رجعنا إلى المدينة بعد تجربة رائعة في قطار الحرمين.
- «حب الله» قضية يدعيها كل الخلق، ويبنون عليها أن الله يحبهم!
يدعيها اليهود والنصارى والمبتدعة وحتى أصحاب الأهواء والشهوات، وينسون أن من ادعى شيئا يجب أن يقيم الحجة على ادعائه!
- إنها كلمة عظيمة، وعمل قلبي كبير أن يحقق العبد (حب الله)، ولا شك أن لهذا العمل أركانه ودلالاته وثمراته.
- نعم، هو كما قلت، ولنبدأ بقوله الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165). وقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وقوله -سبحانه-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). في هذه الآيات أثبت الله -عز وجل- حب المؤمنين له -سبحانه وتعالى- وبيّن مقياس هذا الحب وبرهانه، فلنعمق في هذه القضية الجميلة العظيمة من أعمال القلوب.
أول أسباب حب العبد لله، أن يعرف الله معرفة صحيحة، ولا سبيل لمعرفة الله، إلا كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما بينها هو - صلى الله عليه وسلم - وكما فهمها من كانوا معه من الصحابة - رضي الله عنه -، معرفة أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلا، تورث في القلب المحبة الصحيحة لله، فتدفع العبد إلى العمل بما أمر به المحبوب، والابتعاد عما نهى عنه المحبوب، لأن محبة الله، تمتزج بتعظيمه والخوف منه، والحياء من التقصير في حقه، ورجاء رحمته وعفوه، والأمل نيل رضاه، هذه كلها مترابطة لا تنفصل عن بعضها بعضاً؛ ولذلك من سعى إلى حب الله، دون تعظيم وخوف وقع في بدع المتصوفة، الذين شبهوا حب الله بحب المخلوق من حب وغشق ووله، دون تعظيم أو خوف أو خشية!
فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، عظم أوامره، فأتى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وزاد بالنوافل والمستحبات، كما في الحديث القدسي، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالـى- يقول: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترتضه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد منه» البخاري. كنا في صالة الانتظار نتناول مشروبات ساخنة بانتظار موعد إقلاع طائرتنا.
- وهذا الحديث يستشهد به أهل البدع؛ لأنهم لم يفهموه كما فهمه الصحابة الذين سمعوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وباختصار، أن غاية محبة العبد لله -عز وجل- ألا يرى إلا ما يرضي الله، ولا يسمع إلا في طاعة الله، ولا يبطش إلا في أمر الله، ولا يمشي إلا في رضى الله -عز وجل-، فمن كان كذلك فقد بلغ المراد -بإذن الله-، وحديث أن البشر يقع في الخطأ والمعصية؛ فإن المحب لله، إذا عصا تاب، وإذا أذنب آب، وإذا قصّر استغفر، ولا يستغني أحد، عن التوبة والاستغفار أبدا!
ولا شك أن حب المؤمنين لله -عز وجل- يتفاوت، ونؤمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أشد الخلق حبا لله، ثم الأنبياء -عليهم الصلام والسلام-، ثم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وحتى العبد، يكون في درجات متفاوتة من حبه لرب العالمين، وإن كان الأصل موجودا في القلب إلا أن درجات المحبة تزداد بالطاعات وتنقص بالمعاصي. {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). وليس عند القلوب السليمة أجمل ولا أطيب ولا أنعم من محبة الله -عز وجل، كما في الحديث:
عن أنس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار»، متفق عليه. وفي الواقع هذه الثلاث ترجع إلى واحدة (حب الله -عز وجل).
ودلائل حب العبد لله كثيرة، منها ما ورد في هذا الحديث، ومنها الراحة والتلذذ بالطاعات، ولاسيما الفرائض، كالصلاة والصيام «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ومنها التلذذ بسماع كلام الله والسعادة بطاعة الله والفرحة بإنجاز أوامر الله، كالفرحة عند الفطر بعد الصيام وإتمام الحج، وختم القرآن، وقضاء حوائج المسلمين، وغيرها من الطاعات، يأتيها برغبة، ويفرح أن أداها، {وإلى ربك فارغب} الشرح، ولا يستغني العبد عن دعاء الله أن يرزقه محبته؛ فإن المطالب العظمى لا تنال إلا بتوفيق الله، وهذه نعمة عظيمة من الله يتفضل بها على من يستحقها بحق.
فقد ورد في الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: «احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: على مصافكم كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد قلت: رب لبيك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قالها ثلاثا قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سل. قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحبّ عملٍ يقرِّبُ إلى حُبِّك، قال رسولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنّها حقٌّ فادرُسوها ثمّ تعلّموها». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؛ فقال هذا حديث حسن صحيح ( تحقيق الألباني: صحيح مختصر العلو).


د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 02-01-2023 04:37 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - الخوف والرجاء





التقينا بعد انقطاع السفر في الصيف، قضى صاحبي عطلته الصيفية في أوروبا، وقضيتها أنا في شرق آسيا، ثم تركيا، لفترة امتدت أسبوعين تقريبا، كان أول لقاء لنا بين العشائين.
المراقبة أساس أعمال القلوب جميعا، ولقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة (الإحسان): «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
- صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» مسلم.
- لماذا لا يذكر الخوف إلا وذكر الرجاء، ولا يذكر الرجاء إلا وذكر الخوف وكأنهما مقترنان أبدا؟
- تعجبني ملاحظتك الدقيقة يا (أبا أحمد)، نعم هما مقترنان، ودعني أقرأ لك من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله:
«الخوف سوط يضرب به العبد نفسه؛ لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها، يطيب لها السير، والحب قائدها زمامها الذي يسوقها به». وفي موضع آخر: «الخوف يبعدك عن معصيته، والرجاء يخرجك إلى طاعته، والحب يسوقك إليه سوقا». وفي موضع ثالث: «القلب في سيره إلى الله -عز وجل- مثل الطائر، المحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه».
كان حديثنا في الديوان الملحق بالمسجد، وهو مكان للراحة، وفيه أدوات إعداد القهوة والشاي، ومكتب صغير، نستخدمه في عقود الزواج، وغير ذلك.
- أراك تستشهد كثيرا بكتب ابن القيم مؤخرا!
- نعم، لأننا نتحدث عن (القلب)، وما يتعلق به، والإمام ابن القيم مرجع في هذه القضايا، يفصل فيها تفصيلا لا تجده عند غيره.
إليك بعض ما كتب:
الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي الخوف والرجاء والمحبة، وقد ذكره -سبحانه- في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57)، فجمع بين المقامات الثلاثة؛ فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه، ثم يقول: ويرجون رحمته ويخافون عذابه؛ فذكر الحب والخوف والرجاء.
وقد أثنى -سبحانه- على أقرب عباده إليه بالخوف منه؛ فقال عن أنبيائه -بعد أن أثنى عليهم ومدحهم-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (الإنيباء:90)، فالرغب الرجاء، والرهب الخوف، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل:90)، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والله إني لأعلمكم بالله -عز وجل- وأخشاكم له» مسند الإمام أحمد. فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - وكفى بخشية الله علما. والخوف ينشأ من ثلاثة أمور، أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب، فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه.
وورد عن أمير المؤمنين على - رضي الله عنه -: «لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» فجعل الرجاء متعلقا بالرب- سبحانه وتعالى-؛ لأن رحمته من لوازم ذاته وهي سبقت غضبه، وأما الخوف فمتعلق بالذنب فهو سبب المخافة حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة.
فإن قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة، وشدة خوف النبي مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أقرب الخلق إلى الله، قيل عن هذا أربعة أجوبة، الجواب الأول أن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله، كان خوفه منه أشد.
الجواب الثاني: أنه لو فرض أن العبد يأتى بمقدوره كله الطاعة ظاهراً وباطناً؛ فالذي ينبغي لربه -سبحانه- فوق ذلك وأضعاف أضعافه.
الجواب الثالث: أن العبد إذا علم أن الله -سبحانه وتعالى- هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه - سبحانه وتعالى - كل يوم هو في شأن، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران: 8)، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه ألا يزيغ قلوبهم.
الجواب الرابع: أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة؛ فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها، والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركها بها في طاعته.
والخوف يزول في الجنة؛ لأن تعلقه إنما هو بالأفعال لا بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه؛ فقد أمنوا ألا يفعلوا ما يخافون منه، وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع لهم؛ فبه وصلوا إلى الأمن التام فإن؛ الله- سبحانه وتعالى- لا يجمع على عبده مخافتين اثنتين؛ فمن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا ولم يخفه أخافه في الآخرة، وناهيك شرفا وفضلا بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق!.


د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 18-01-2023 09:46 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - اليقين


{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة3-4).
جاري في المنزل المقابل، أستاذ جامعي من السودان، ويدرس الشريعة في إحدى الجامعات الخاصة، وهو دمث الخلق، جميل المعشر، لا تفارق الابتسامة محياه، ولا يتردد في إلقاء الخواطر، والمواعظ الخفيفة القصيرة، في أي مجلس مكان.
- أما اليقين، فهو العلم الجازم الذي لا يشوبه شك، واستقرار هذا العلم في القلب؛ فلا يتزعزع ولا يضطرب، ومنه يقال (ماء يقن)، إذا استقر عن الحركة. و(اليقين) ضد الشك، وهو ركن من الإيمان، بمعنى أن الإيمان إن لم يكن عن يقين، ينتقض، فالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، كلها يجب أن تكون عن يقين لا شك فيه، بكل ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة.
- هل اليقين درجة واحدة، أم درجات يسعى العبد لتحقيقها، ويرتقي فيها؟
كان السائل أحد طلبة العلم، كثير الاطلاع والمتابعة للدروس والمحاضرات، التفت إليه الشيخ بابتسامته المعهودة.
- سؤال جميل، وجيد، لا شك أن اليقين درجات يرتقي خلالها العبد، والناس يتفاوتون في درجات اليقين، ولكن الحد الأدنى هو اليقين بما أخبر به الله -عز وجل- وثبت في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أمور الغيب كالإيمان بالله والملائكة والجنة والنار، والجن، والصراط والحوض، وغيرها وإليكم بعض التفصيل في ذلك:
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل:3) و(لقمان:4)، أما الكفار فقد أخبر الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية:32)، فهذه علامة فارقة بين الإيمان والكفر. يقول ابن القيم: «ودرجات اليقين ثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وقبول ما غاب من الحق والوقوف على ما قام بالحق، استوقفت صاحبي:
- مهلا شيخنا الفاضل، أرجو أن تحدثنا بطريقة أسهل حتى تصل المعلومة لعامتنا، ابن القيم يخاطب طلبة علم متخصصين.
- لك ذلك.
أما قبول ما ظهر من الحق فهو قبول أوامر الله ورسوله والإذعان لها وعدم رد شيء من الآيات أو الأحاديث أو الأوامر أو النواهي، وقبول ما غاب من الحق، كالإيمان بما ورد من قضايا الغيب، والوقوف على ما قام بالحق، وتطبيق شرع الله والعمل بمقتضى أمر الله، أما عين اليقين: فهو مشاهدة ما كان غائبا، من أمور الآخرة ويحصل ذلك بعد الموت، مشاهدة بعض ما أخبر الله عنه كالملائكة وأنواع النعيم وأنواع العذاب، وكل ذلك يشاهد في الآخرة أيضا.
أما حق اليقين فهو التلبس بالأمر بعد دخول الجنة للمؤمنين والنار للمجرمين، ولذلك وصف الله -تعالى- كتابه بأنه ينبغي أن يكون في أعلى درجات اليقين، فقال -سبحانه-: {وإنه لحق اليقين} (الحاقة:51).
وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المؤمن ليناله فينعكس ذلك على جوانب حياته كافة، في النعماء والضراءوفي كل تقلبات الدنيا كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: «يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم لو أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (صحيح أحمد والترمذي).
فاليقين يجب تحقيقه في قضايا الإيمان، ويحتاج إليه المؤمن في أمور الحياة ليعيش حياة مطمئنة، كما في الدعاء، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا» (حسنه الألباني)، وكذلك يحتاج العبد لليقين في دعائه لله -عز وجل- كما في الحديث: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء عن ظهر قلب غافل» (الصحيحة).
- وأين يكون التفاوت بين الناس؟
- التفاوت يكون بما يستقر في القلب من اليقين، وحتى يتحصل العبد على اليقين يجب أن يتحصل على العلم ويعمل بمقتضاه ويدعو الله -عز وجل- أن يرزقه اليقين، والله يعطي كل عبد ما يستحق من الخير؛ لأن الله يعلم ما في القلوب، والقلب هو محل نظر القلب.
كعلم العبد أن الله رب كل شيء وملكيه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك، إما لغفلة القلب عن هذا العلم، والغفلة هي ضد العلم التام، وإن لم تكن ضد أصل العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك. فأهل اليقين إذا ابتلوا ثبتوا، بخلاف غيرهم فإن الابتلاء قد يذهب إيمانه أو ينقصه.
وأما كيف يحصل اليقين فبثلاثة أشياء: أحدها: تدبر القرآن، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه الحق. والثالث: العمل بموجب العلم.
تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تفتتح بالمحبة واليقين وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم. (من مدارج السالكين).


د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 18-01-2023 09:50 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - محبة النبي محمد صلى الله علي



من تمام محبة الله، محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أحب الخلق إلى الله.
- ما تقول في تلك القصائد التي تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاسيما في المجالس التي تعقد للاحتفال بميلاده؟
صاحبي من بلاد المغرب العربي، حريص على الصلاة، محب لكل ما هو من الدين، ينقصه الكثير من العلم الشرعي، مجتهد في عمله.
- لا شك أن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب على كل مسلم، سواء بأمر الله، أم بما لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفات وأخلاق، أم لما أداه، وسوف يؤديه لهذه الأمة يوم القيامة، كلها توجب حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حبا صادقا خالصا، وهذا لا يقتصر على الصاحبة الذين عاشوا معه - صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الأمة إلي يوم القيامة؛ لأن مقتضبات محبته قائمة دوما. ففي الحديث، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» (البخاري).
- وكيف ينال العبد هذا الشعور بصدق؟ لأني صراحة أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا أشعر أنه أحب إلي من كل شيء! هذا شعور نظري وليس واقعيا.
عجبت من صدق صاحبي وصراحته.
- محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب أن ينميها العبد في قلبه، وذلك بخطوات، أولا: أن يعلم يقينا أن هذه المحبة واجبة، فيسعى إلى تحصيلها، وذلك بأمور عدة، أولا: يتعرف على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، ولاسيما بعد أن بعث رسولا لهذه الأمة، ويحرص على هذا العلم كلما سنحت له فرصة، فيقرأ ويستمع ويتابع سيرته - صلى الله عليه وسلم .
- ثانيا: يعرف مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله -عز وجل- وكيف أن الله اصطفاه، ورباه، وشرفه، وأكرمه، وفضله على باقي الأنبياء والرسل، ورفع ذكره، وجعل له مكانة في الآخرة وهي (الوسيلة) وليست لأحد غيره، كما في الحديث، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صل الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل لي الوسيلة، حلّت عليه الشفاعة» مسلم.
- ثالثا: يتعلم مدى حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة وحبه لها، كما قال الله -تعالى-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128). وقال -تعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف:6). وقال - صلى الله عليه وسلم - في وصف حاله مع هذه الأمة، عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا؛ فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النارس، وأنتم تفلتون من يدي» مسلم.
وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد حرصا على هذه الأمة يوم القيامة، حتى أصحاب الكبائر ومن دخل النار من هذه الأمة يشفع له النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في الحديث:
أَخِرُّ له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأَخْرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرة - أو خردلة - من إيمان فأخرجه، فأنطلق، فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله». (متفق عليه).
كان صاحبي منصتا طوال الحديث، قاطعني:
- وهل تعتقد أنه يمكن أن نرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، وأن نتحدث إليه ونجالسه؟
- هل اشتقت لرؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- صدقا، نعم، وتخطر لي هذه الخاطرة أحيانا، فأبتسم خفية.
- ولم لا؟ إليك بعض البشارات، التي نرجو أن تنال شيئا منها:
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا! قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد؛ فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض (صحيح).
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رأني بأهله وماله» مسلم.
عن أنس - رضي الله عنه -: «أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها»؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أنت مع من أحببت»، قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت مع من أحببت»! قال أنس: «فأنا أحب النبي -[- وأبو بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم».
- وهل تريد أن أقدم لك نصيحة محب؟
- دائما.
- أكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى لو جعلتها أكثر ذكرك، واحرص على اتباع سنته، وادع الله صادقا أن يرزقك حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما الأدلة على ذلك، باختصار:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).
عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: «ما شئت» قلت: الربع؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك»، قلت: النصف؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قالت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذا يكفي همك ويكفر لك ذنب»، رواه الترمذي (حسنه الألباني). عن محمد بن علي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة (صحيح) (نسي: ترك).
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة». حسن لغيره (الألباني). وليس من وسائل محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتفال بمولده أو السفر لزيارة قبره والدعاء عنده، أو اطراؤه ومدحه بما لم يأمر به - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الحب، باتباع سنته وتعظيم حديثه وتوقير هديه ونشر دعوته الصحيحة والتخلق بأخلاقه، والحمدلله رب العالمين.



د. أمير الحداد



ابوالوليد المسلم 18-01-2023 09:53 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - الحب والبغض في الله




«أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
- اتخذ إمامنا لوحة بيضاء متوسطة الحجم، علقها على الحائط الأيمن من مدخل حرم المسجد، يكتب عليها حديثا صحيحا كل أسبوع، ذهبت لصلاة المغرب بنصف ساعة، وجدته يكتب الحديث أعلاه، وذيله بعبارة (السلسلة الصحيحة).
وتمامه، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال أبو ذر: الله ورسوله أعلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الحديث، سألته:
- أظن أنه من الأفضل أن تكتب شيئا عن معنى ألفاظ الحديث.
- لقد خطر على بالي وربما يكون من الأفضل كتابة مختصر المعنى.
بحث صاحبي عن شرح الحديث لكتابة شيء مختصر، أخذ يقرأ من (فيض القدير)، (أوثق) أقوى وأثبت وأحكم.
(عرى) جمع عروة، استعير لما يتمسك به من أمر الدين (في الله) فيما يرضي الله موالاة وتركا. وعند الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل الصحابة: «تدرون أي عرى الإيمان أوثق؟ قلنا: الصلاة، قال: الصلاة حسنة وليست بذلك، قلنا: الصيام؟ قال: الصيام حسن وليس بذلك، قلنا: الجهاد في سبيل الله، قال: الجهاد حسن وليس بذلك، فقال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
- شرح جميل، وعمل عظيم من أعمال القلب، ينفع العبد يوم القيامة.
- نعم، الأحاديث في بيان عظم هذا العمل القلبي كثيرة.
عن معاذ بن جبل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله -عز وجل- عبادا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم، وقربهم من الله، انعتهم لنا جلهم لنا -يعني صفهم لنا شكلهم لنا، فسر وجه النبي -صلى الله عليه وسلم - بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله -[-: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون» (صحيح الترغيب والترهيب). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «زار رجل أخا له في قرية، فأرصد الله له ملكا على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أخا لي في هذه القرية، فقال: هل له عليه من نعمة تربها؟ قال: لا إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته» (مسلم).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». (رواه مسلم).
دخل المؤذن المسجد، شاركنا الحوار، بعد أن تأكد من موعد الأذان.
- لدي زميل في العمل يشتكي من سوء أخلاق المتدينين، يقول في التجارة يتلاعبون، وفي المواقف يتلونون، وفي المعاملات يتبعون مصالحهم، وإذا أقيمت الصلاة ركضوا إلى المصليات.
- ابتداء، لا يمكن التعميم، من المصلين من يلتزم شرع الله بطريقة صحيحة، ومنهم من فيه من العيوب، وكذلك من غير المصلين، فلا يمكن التعميم، والعبد الصالح يلتزم شرع الله كاملا في العقيدة والمعاملة والعبادة، ومن لم يفعل ذلك ظلم نفسه، وليس ذلك بسبب عيب في دين الله، ومن هذا الأصل فإن العبد قد يجمع في المرء حبا وبغضا، يحب في المرء التزامه بالصلاة وحرصه على الجماعة وصلاة الفجر، ويبغض فيه كثرة كذبه في المزاح، وإخلافه لعهوده، وعدم التزامه بديونه، فربما غلب بغضه حبه، ولكن كلاهما موجود.
يقول العلماء في هذا الباب:
وهذا أصل من أصول الإيمان، وأصل عظيم، الحب في الله والبغض في الله، وهو أن تحب ما يحب الله من شخص؛ فتحب هذا الشخص؛ لأنه مستقيم على طاعة الله؛ لأنه يؤدي فرائض الله، ولو كان بعيداً، ولو كان أعجمياً، ولو كان في المشرق وأنت في المغرب، وتبغض من كان مستروحاً للمعاصي والكبائر والآثام ، والشرك، ولو كان قريباً لأمك وأبيك، فهذا من الأصول العظيمة التي أميتت في هذا الزمن، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور، وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وذاك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «من أحب إنسانًا لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومن قال: إنه يحب من يعطيه الله، فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره، إنما أحب النصر لا الناصر، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة، وليس هذا حبًّا لله ولا لذات المحبوب، وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى هذا للنفاق والمداهنة؛ فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في الله وحده، وأما من يرجو النفع والضر من شخص، ثم يزعم أنه يحبه الله، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال» الزهد والورع ج 1-45.

د. أمير الحداد



ابوالوليد المسلم 20-02-2023 11:01 AM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - التوحيد



«إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة وعبودية ظاهرة؛ فقيامه بالعبودية الظاهرة مع تعريه عن العبودية الباطنة لا يقربه إلى الله، ولا يوجب له الثواب؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر» (الفوائد).

كنت في مطار (كوالامبور) بانتظار رحلة العودة إلى الكويت، أتيت باكرا؛ لأنه لم يكن ما أنجزه في المدينة بعد انتهاء مدة إقامتي في الفندق، ذهبت إلى المصلى قبل أذان المغرب، وهذه من الأمور التي أحببتها هناك، توفر المصليات النظيفة الواسعة في كل مكان، أدينا المغرب والعشاء، جمعا وقصرا، وأنا في طريقي للعودة إلى بوابة السفر، سلّم عليّ أحدهم، ونبهني إلى أن قراءتي تحتاج إلى مراعاة المدود، شكرته ومضيت.

التقيته مرة أخرى، في صالة الانتظار، كان عائدا إلى مصر، بعد دردشة قصيرة بدأ حوارنا.

- لا شك أن التوحيد، الذي هو إفراد الله -تعالى- بما اختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، أعظم أعمال القلوب، من مات عليه نجا من الخلود في النار، ومن نقضه حرم من دخول الجنة، فهو نفي وإثبات في الحديث. «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (مسلم)، فلا يكفي أن يقول العبد «لا إله إلا الله»، بل يجب أن يكفر بما يعبد من دون الله، من قبور وأضرحة ومزارات وقبب ومشاهد، يعظمها بعض الناس، ويتقربون إليها بالنذور والذبائح والهدي والتمسح وغيرها، وهذه تنفي تلك.

- هذه أفكار الوهابية!

نظرت إليه منكرا عليه مقولته، أردت أن أنهي الحديث معه، استجمعت هدوئي، وقررت متابعة الحوار.

- أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: وهابية؟! هل نطقت أنا بهذه الكلمة، أو ذكرت شيئا عدا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن دعنا نتحاور فيما ثبت عن الله في كتابه وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة.

يقول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَفَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36). {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25).

وفي سورة الأعراف يذكر الله -تعالى-، نوحا، وهودا، وصالحا، وشعيبا، وكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وهكذا مع جميع الأنبياء والرسل؛ فلأجل التوحيد أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار، فالتوحيد سبب الخلق وغايته وتوحيد الله، مكانه القلب أولا، فإذا تمكن من القلب أفلح العبد ونجا.

- هل تعني أن ما يفعله عامة المسلمين عند ضريح السيدة زينب أو ضريح (أبو مسلم)، أو (البدوي)... وغيرها، ينقض قولهم (لا إله إلا الله)؟

- نعم، هذه تنقض تلك، وما يفعله إلا الجهلة من الناس، فالعبد كلما ازداد علمه الصحيح بالله -عز وجل-، ازداد عبادة له، وبعدا عن الشرك به، هؤلاء جهلوا معنى التوحيد، ومعنى العبادة، وأسماء الله وصفاته، فتعلقت قلوبهم بالموتى، من الأنبياء والأولياء والأئمة والمشايخ، وجهلوا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله -عز وجل-، ولا يعطي ويمنع إلا الله -عز وجل-، ومن كانت له حاجة فليتوجه بها إلى الله مباشرة، كما أمر الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60). وقال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة:76).

قاطعني:

- ولكنهم لا يعبدون هذه الأضرحة، لا يصلون لها ولا يسجدون لها!

- وهل العبادة الصلاة، والسجود فقط؟ العبادة بتعريفها الشرعي (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة)، فالدعاء عبادة، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» صحيح الجامع، ولو تدبرت قول الله -تعالى- في الآية التي ذكرت سابقا. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (غافر:٦٠)، ذكر أولا الدعاء، ثم ذكر العبادة، وفي وقوله -تعالى عن إبراهيم عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (مريم: ٤٨-٤٩).

فذكر الدعاء أولا، ثم ذكر أنها العبادة. فالدعاء عبادة، والنذر عبادة، الحلف عبادة، بل أعظم من ذلك، أعمال القلب، من الخوف والرجاء عبادة، والخشية والرضا عبادة، والتوكل عبادة، وغيرها من أعمال القلوب، كما أن الصلاة عبادة، والسجود عبادة، لا ينبغي صرف أي شيء منها لغير الله؛ فهي تبدأ في القلب، وتنعكس على الجوارح، سكت صاحبي، فتابعت الحديث:

- فالتوحيد عمل قلبي أولا، يظهر أثره على الجوارح، وهو أعظم قربة يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-، وشعاره: (لا إله إلا الله)؛ لذلك من عرف هذه الكلمة صادقا مخلصا، نجا من النار، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر» (الصحيحة).


د. أمير الحداد


ابوالوليد المسلم 06-03-2023 04:49 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - الإنابة





«التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة» (مدارج السالكين لابن القيم).
- أعمال القلوب تزيد وتنقص، فيرقى العبد في الدرجات بزيادتها، وتنخفض منزلته بنقصانها، ويتفاوت العباد، بما في قلوبهم.
هكذا بدأ ضيفنا الشيخ خاطرته، أقدر أنه لم يتجاوز الأربعين عاما، ولكنه له صيت في الرقائق، وتخصص في كتب الإمام ابن القيم؛ حيث كان موضوع أطروحته الدكتوراه لديه، تابعنا حديثه متلهفين.
- والإنابة، من أعمال القلوب، وتختلف عن التوبة، ومدارها على الرجوع إلى الله في كل وقت، والإنابة إنابتان، الأولى: إنابة الخلق جميعا، ويشترك فيها المؤمن والكافر ولا ميزة لها ولا ثواب عليها، كما قال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم:33).
- والثانية: إنابة المؤمنين والأولياء والأنبياء، وهي إنابة العبودية لله، وتتضمن أربعة أمور، محبة الله والخضوع له -سبحانه-، والإقبال عليه والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من حقق هذه الأربع. كانت المحاضرة مسجلة، وتبث مباشرة عبر قنوات التواصل الاجتماعي، وكثير من الحضور كانت بيده كراسة يكتب فيها ملاحظات. يقول ابن القيم في مدارج السالكين، ج1، ص432:
إذا استقرت قدم العبد في منزل التوبة، نزل بعده منزل الإنابة، وأثنى على خليله بها، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75)، وقال شعيب -عليه السلام- لقومه: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88)، وعن داوود -عليه السلام-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص:24)، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها أهل الإنابة ويتذكرونها ، فقال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق:8)، إلى أن قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (ق:8)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (غافر:13)، وقال -تعالى-: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم:31).
{منيبين} منصوب على الحال من الضمير المستتر في قوله: {فأقم وجهك} (الروم:30)؛ لأن هذا الخطاب له ولأمته، أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه، ويجوز أن يكون حالا من المفعول في قوله: {فطر الناس عليها} (الروم:30)، أي فطرهم منيبين إليه، فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه، ولكنها تتحول وتتغير عما فطرت عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولد إلا يولد على الفطرة» متفق عليه، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة، فقال: {ووَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق:31-34)، وأخبر -سبحانه- أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة، فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17).
وأمر الله -تعالى- بها فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.
وفي كتب التفسير: المنيب: الملازم للطاعة، ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيها للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها: فعلة بصيغة المرة؛ لأنها مرة من النوب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا، وفي حديث عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينزل يوما وأنزل يوما» الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها، قال -تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75). واتباع (سبيل من أناب) هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، المقلعين عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين، وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك. {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُون} (الزمر:54).
لما فتح لهم باب الرجاء أعقبه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة معطوفا بالواو وللدلالة على الجمع بين النهي عن القنوط من الرحمة، وبين الإنابة جمعا يقتضي المبادرة، وهي أيضا مقتصى صيغة الأمر.
أمر -تعالى- بالإنابة إليه، والمبادرة إليه فقال: {وأنيبوا إلى ربكم} بقلوبكم {وأسلموا له} بجوارحكم، وإذا أفردت الإنابة، دخلت فيها أعمال الجوار.
همس لي صاحبي مستحسنا ما نسمع:
-كلام جميل، مشوق.
تابع الشيخ حديثه:
- فالإنابة عمل قلبي دائم، كما أعمال القلوب الأخرى، يجب على العبد أن يتعاهده دائما، ويتزود منه، نعم مطلوب من المقصرين (الإنابة إلى الله)، بالإقلاع عن المعاصي والعمل بالطاعات، وكذلك الصالحون مطلوب منهم الإنابة القلبية، وهي الرجوع إلى الله بزيادة التقرب إليه، وأشدالخلق إنابة إلى الله، أشدهم إيمانا، الأنبياء والرسل، وكان في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل: «اللهم لك أسلمت، وبك أمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» (البخاري).
وأختم بقول الإمام ابن القيم: «الإنابة هي عكوف القلب على الله -عز وجل- كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وإجلاله وتعظيمه، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -». (الفوائد: ج/196).



د. أمير الحداد



ابوالوليد المسلم 06-03-2023 04:52 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - التوكل



سر التوكل هو اعتماد القلب على الله وحده.

وأعمدته: الإيمان بالقدر، وحسن الظن بالله، واتخاذ الأسباب.

دخلت وصاحبي محلا صغيرا يبيع أدوات كهربائية ولوازمها، وضع صاحب المحل لوحة، كتب فيها: (توكلت على الله)، لا يمكن للمرء ألا يراها.

بعد السلام

- لوحة جميلة، ومعبرة، وأشرت إلى تلك اللوحة.

- نعم،ورثتها عن والدي -رحمه الله-، وكان يملك مخبزا صغيرا في قريتنا بالشام، وانتقلت هنا وعملت في هذا المجال، ثم توفي والدي منذ سبع سنوات؛ فبعنا المحل وأخذت هذه اللوحة، أشعر بالراحة والأمان كلما قرأتها، قضينا حاجتنا، وفي طريقنا إلى مركبتنا علق صاحبي:

- كلام صاحب المحل جميل عن لوحة (توكلت على الله).

- نعم، ولكن قليلا من الناس من يحقق التوكل الصحيح، ذلك أن التوكل عمل قلبي عظيم، لا يكفي أن يقول المرء توكلت على الله بلسانه، وقلبه لا يتوكل على الله.

- ماذا تعني؟

- إذا علمنا أن التوكل عمل قلبي، فينبغي أن نجعل القلب يتوكل على الله أولا، فلا يتعلق بشيء غير الله، ولا يرجو إلا الله، ويرضى بما قسم الله، و يسعى دوما إلى مبتغاه وكله ثقة بالله مهما كاد له الكائدون، ومكر له الماكرون.

من توكل على الله علم أن الله كافيه، إيجابا وسلبا، أي في جلب المنافع ودفع المكاره.

ومن توكل على الله جعل التوكل دائما في قلبه، بل يزداد توكله كلما ازداد إيمانه، فهو يزيد وينقص.

- وكيف قرن الله بين الإيمان والتوكل؟

- في آيات كثيرة، منها: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (تبارك:29)، وقوله -عز وجل-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، وقوله -سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122- 160)، (المائدة:11)، (التوبة:51)، (إبراهيم:11)، (المجادلة:10)، (التغابن:13).

وكذلك قرن الله -عز وجل- بين التكل والهداية، {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} (إبراهيم:12)، وقال -سبحانه-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (النمل:79)، وجعل الله جزاء التوكل كفايته -سبحانه- لعبده: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:2).

وهذه الآية، شاملة كافية، من توكل على الله حق التوكل، كفاه الله، توفيقا وهداية ونصرا وحفظا ورزقا، ونجاة من النار، وفوزا بالجنة، مع الأخذ بالاعتبار أن (كمال الأجر، مع كمال العمل).

- قرأت كلاما لابن القيم، أظنه في مدارج السالكين: «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة».

- نعم، ابن القيم، مرجع في أعمال القلوب، وإليك بعد أحاديث التوكل، الذي هو من واجبات أعمال القلوب:

عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (الصحيحة).

عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال -يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت ووقيت وكفيت، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟» (الجامع الصغير وزيادته).

عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» متفق عليه.

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ‏عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ بِالْمَوْسِمِ ‏ ‏فَرَاثَتْ ‏ ‏عَلَيَّ أُمَّتِي قَالَ فَرَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَاتُهُمْ قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏حَسَنٌ ‏‏فَقَالَ أَرَضِيتَ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ لَكَ مَعَ هَؤُلَاءِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عَفَّانُ ‏ ‏وَحَسَنٌ ‏ ‏فَقَالَ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏إِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ ‏ ‏سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمْ الَّذِينَ لَا ‏ ‏يَسْتَرْقُونَ ‏‏وَلَا ‏ ‏يَتَطَيَّرُونَ ‏ ‏وَلَا ‏ ‏يَكْتَوُونَ ‏ ‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ ‏ ‏عُكَّاشَةُ ‏ ‏فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهُ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا ‏ ‏عُكَّاشَةُ ‏ » صحيح على شرط مسلم.







د. أمير الحداد








ابوالوليد المسلم 06-03-2023 04:55 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب - الشكر


الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، والصبر داخل في الشكر.

كنا في محاضرة بعد صلاة العشاء ألقاها شيخ فاضل من الجامعة الإسلامية في المدينة، بدعوة من وزارة الأوقاف في الكويت، بدأ الشيخ محاضرته بهذه الآية، يقول الله -تعالى- مخبرا ومحذرا ومنبها عباده، لأخبث أساليب الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16-17).
فإن تذييل الآية بقوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} هي الغاية من الإضلال والتزيين، وذلك أن نفي الشكر، كناية عن الكفر؛ إذ لا واسطة بينهما كما قال -تعالى-: {واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة:152)، وكذلك في سورة الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3)؛ فالشكر عبادة المتقين والأولياء الصالحين، وهذا أمر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:66).

في طريق عودتنا تدارسنا ما ذكره الشيخ في محاضرته التي استمرت لأكثر من أربعين دقيقة، ولو أراد لاستمر لأكثر من ساعة، ولكن توقف خشية ملل الحضور.

- والله ما شعرنا بمرور الوقت؛ فقد كانت المحاضرة شيقة، وفيها الكثير من المعلومات الجديدة بالنسبة لي.

- كم مرة ورد ذكر الشكر في القرآن بصيغه المختلفة.

- ذكر الشيخ أنها وردت خمسا وسبعين مرة، بمشتقاتها، والأهم من ذلك أنه ذكر أركان الشكر الخمسة.

خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.

فإذا نقصت إحدى هذه الأركان، انتقض الشكر، ولم يكن العبد شاكرا، والشكر عبادة قلبية دائمة لله -عز وجل- بمعنى أن العبد ينبغي أن يكون دائما شاكرا لله -عز وجل-، ولذلك يُذكِّر الله عباده نعمه التي قد يغفل عنها الإنسان لوجودها دون عناء منه، فيقول -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:78).

في تفسير السعدي: «.. خص هذه الأعضاء الثلاثة (السمع والأبصار والأفئدة) لشرفها وفضلها ولأنها متفاح كل علم، وذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بالكفر لا بالشكر».

ويقول -تعالى- مذكرا خلقه جميعا: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل:53). كل نعمة ظاهرة وباطنة، الله هو المنعم بها، لا أحد غيره. ويقول -تعالى-: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل:18). وذلك إن بدأ العبد يعد نعم الله عليه، فإنه لن ينتهي من العد؛ لأن الإحصاء نهاية العد، فنفاه الله -عز وجل.

وفي آية آخرى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:34). فلا ينبغي لعبد أن يشعر مطلقا، أنه ليس في نعمة من الله -عز وجل- ويغفل عن شكر الله -سبحانه.

أعجبني بيان الشيخ أن العبد ينبغي أن يكون شاكرا ويرتقي إلى أن يكون شكورا، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم ليصلي من الليل حتى ترم قدماه، فيقال له في ذلك؟ فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا» (البخاري)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم ـ أدى أعلى درجات الشكر، فكان عبدا شكورا، والمؤمن ينبغي أن يكون -على الأقل- عبدا شاكرا، كما في الحديث.

عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (صحيح مسلم).

فالعبد ينبغي أن يذكر نفسه دائما نعم الله عليه، ويملأ الشكر قلبه، فمن أذكار الصلاة ما ورد في حديث معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (صحيح أبي داود).

- لو تدبر المرء الآيات التي وردت في الشكر لوجد أنه عبادة الأنبياء والرسل والصالحين، والشكر يؤدي إلى دوام النعمة وحسن الجزاء يوم القيامة، كما قال -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7).

ويقول -تعالى-: {وسنجزي الشاكرين} (آل عمران:145)، ويقول -تعالى-: {... وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144).

- وماذا عن سجود الشكر؟

- هذه عبادة عظيمة ينبغي على العبد أن يفعلها حال تجدد نعمة من الله عليه، ففي السجود كل أركان الشكر التي ذكرتها، خضوع لله، وحب واعتراف بالنعمة، وثناء على الله، واستخدام النعمة في طاعة الله، والصحيح أنها لا يشترط فيها الطهارة وستر العورة للمرأة كما في الصلاة ولا الاتجاه للقبلة وغيرها؛ فهي عبادة جسدية تعكس ما في القلب، من شكر لله، وإليك بعض آيات القرآن التي ذكرت في الشكر.

{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:40).

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان:12). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان:31). {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13).

(والشاكر) و(الشكور) من أسماء الله الحسنى الثابتة في كتاب الله والمعنى أنه -سبحانه- يقبل القليل من العمل الصالح ويجازي عليه أضعافا مضاعفة لا حدود لها، يقول -تعالى لأهل الجنة: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} (الإنسان:22).


د. أمير الحداد





ابوالوليد المسلم 24-04-2023 11:20 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب – الرضا – 1


د. أمير الحداد





الرضا عبادة قلبية عظيمة، ينالها من عرف الله حقا.

– مجرد النطق بكلمة (الرضا)، يترك أثرا جميلا في القلب، وكلما قلت «رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا» تجدد هذا الشعور الجميل، وامتلأت طاقات إيجابية، كما يقول أصحاب مبدأ الطاقة.

قالها صاحبي مبتسما، سألته.

– ذكرني بالحديث الذي وردت فيه هذه العبادة.

– تقصد حديث العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» مسلم، وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال: «من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وجبت له الجنة» (صححه الألباني).

– نعم، رددتها، «رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا».

– ولكن هل تعلم واجبات القول -رضيت بالله ربا.

– أمتعني بما لديك يا أبا خالد.

كنت وصاحبي في طريقنا لمعرض الكتاب المقام في نوفمر بأرض المعارض في الكويت.

– إن الرضا بالله ربا، آكد الفرائض، ومن لم يحققه لم يصح له إسلام ولا عمل، وهذه الثلاث هي أصول الدين، فالرضا بالله ربا، يتضمن توحيده وعبادته بإخلاص والخوف منه ومحبته والصبر على قضائه، والتسليم لأحكامه، والرضا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا يتضمن الإيمان برسالته، وتوقيره ونصرته واتباع هديه، والرضا بالإسلام دينا، يتضمن قبول كل شرائعه، والتسليم بكل جوانبه التعبدية، والسلوكية، والقضائية، هذا جانب، والجانب الآخر الرضا بقضاء الله -عز وجل.

– نعم هذا الذي أردت.

– تفعيل ذلك أن قضاء الله -عز وجل-، قضاء شرعي، وقضاء قدر كوني، أما قضاؤه الشرعي فهي ما شرع من الأوامر والنواهي، وهذه حكمها ورد في قوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65).

وفي قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36).

وأما القضاء القدري فهو إما خير للعبد، وهذا يحبه العبد ويجب عليه شكر الله عليه، وإما مما لا يحبه العبد، وهذا الذي ورد في الحديث عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله -عز وجل- إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (حسنه الألباني). إن رضا الله عن العبد ينبغي أن يكون غاية كل مسلم، يسعى بما يستطيع أن ينال رضا الله، وهو -سبحانه- يعلم صدق عبده في السعي إلى هذه الغاية، فييسرها له، ويثيبه عليها، يقول -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100). ويقول -تعالى-: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح:18).

هؤلاء المخلصون، رضي الله عنهم في الدنيا، ووعدهم الجنة في الآخرة، واعلم أنه من رضي الله عنه، فقد فاز؛ لأن الله يعلم أن هذا العبد سيموت وهو -سبحانه- راض عنه.

– إنها نعمة عظيمة أن يعلم العبد أن الله راض عنه.

– هذه لا يمكن أن يزعمها أحد، ولكن يسعى العبد أن ينالها صادقا، ويدعو الله، ويحسن الظن بالله.

من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت» (صحيح).

وسئل أبو عثمان عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الرضا بعد القضاء، فقال: «لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا».

وصلنا إلي مواقف المركبات، ولم نجد مكانا فارغا إلا على بعد مسيرة عشر دقائق، ترجلنا، تابعنا حديثا:

– وماذا يقول ابن القيم، عن الرضا، فهو المرجع في أعمال القلوب.

– نعم، يقول -رحمه الله-: إن الرضا كسبي باعتبار سببه، موهبي باعتبار حقيقته، فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه، فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته، اجتنى منها ثمرة الرضا؛ فإن الرضا آخر التوكل، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض، حصل له الرضا ولا بد، ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه، رحمة بهم، وتخفيفا عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضا قبله، أوجب له أن يرضى عنه، ورضا بعده، هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين. ومن أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولابد. (مدارج السالكين- ج2-ص172).

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» متفق عليه.

– اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار. حقا من يتدبر (آيات الرضا)، يجد أنها تلامس القلب والوجدان، وتدفع العبد أن يجتهد في نيل هذا المقام العظيم من مقامات التقرب إلى الله، يقول -تعالى-: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:15).


ويقول -سبحانه-: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة:21). وأيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72).

وأخيرا هذه الآيات المبشرة عند الاحتضار: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر).








ابوالوليد المسلم 24-04-2023 11:26 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب – الرضا – 2


د. أمير الحداد

إذا نال العبد رضا الله فاز





– من صفات الله -عز وجل- أنه يرضى عن فئات من الناس في الدنيا، وصفة الرضا في حق الله -عز وجل- ثابتة، كما تليق بجلاله وعظمته -عز وجل-، ومن رضي الله عنه، لا يغضب عليه أبدا!


– هل هذا هو معنى قوله -تعالى-: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}؟

– هذه جزء من آية تكررت في أربعة مواضع.

(المائدة:119)، و(التوبة:100)، و(المجادلة:22)، و(البينة:8).

أما رضا الله فقد ورد في سورة (الفتح:18)، عن الذين بايعوا النبي – صلى الله عليه وسلم – تحت الشجرة؛ فقد نالوا رضا الله، وهذه شهادة من الله أنهم من أهل الجنة.

– أفهم الجزء الأول من الآية: {رضي الله عنهم}، ولكن ما معنى {ورضوا عنه}؟

كنت وصاحبي نتصفح كتاب مدارج السالكين لنعرف العناوين الرئيسية لأعمال القلوب.

– أولا: رضا العبد بالله، ورد في الحديث: عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، غفر له ذنبه» (مسلم). وإذا رضي العبد بالله ربا، رضي بعطائه ومنعه، رضي بتشريعه وحكمه، رضي بقدره وقضائه، رضي بما يأتيه من الله -عز وجل-، الرضا بالله، ثمرة معرفة الله بأسمائه وصفاته، رضي بالله؛ لأنه ربه، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه على كثير من خلقه، رضي بالله؛ لأنه الرؤوف الرحيم الكريم، رضي بالله؛ لأنه العفو الغفور الودود، رضي بالله؛ لأنه الولي النصير مجيب الدعاء، لا يسخط أبدا، إذا منعه الله شيئا، بل حتى إذا ابتلاه فأخذ شيئا من عطاياه، فهو في رضا؛ لأنه على يقين بأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وقضاؤه بين العدل والفضل، هذا في الدنيا، أم في الآخرة، فلا شك أنه يرضى بكرم الله، وجزيل ثوابه، ومن رضي الله عنه، أكرمه الله بالرضا عنه، في الآخرة، ورضوان الله أعظم نعيم يناله أهل الجنة.

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:115). ويقول -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72).

رضوان الله أكبر من كل نعيم الجنة، وهو الفوز العظيم، تنهد صاحبي داعيا:

– اللهم إنا نسألك رضاك والجنة.

– آمين.

– وماذا عن قوله -تعالى-: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر).

– هذا يفسره الحديث، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا حضر المؤمن (جاءه الموت)، أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان.. إلى آخر الحديث» صححه الألباني.

وذكر الله -عز وجل- الصحابة في غير موضع مبينا رضاه عنهم، وسعيهم لنيل رضا الله، كما في قوله -عز وجل-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ… الآية} (الفتح:29). ويقول -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8).

– وما الفرق بين الرضا والرضوان؟

– في اللغة، ما ينتهي بالألف والنون، يدل على الكثرة، مثلا، تقول نائم، نومان، ولذلك، (الرضوان)، لم يرد إلا منسوبا إلى الله -عز وجل-؛ لأن رضا الله عظيم فهو (رضوان)، أما الرضا فينسب إلى العبد أيضا وكل بحسب ما يليق به، كما قال -تعالى-: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة:21).


ويقول -تعالى-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20).


وقالوا: إن رضا الله في الدنيا، ورضوانه في الآخرة، والعبد يسعى أن ينال رضوان الله، ولا أقل من أن يسعى أن ينال رضا الله.

– دعني أسألك، لأتأكد من مسألة، هل إذا رضي الله عن عبد لا يسخط عليه بعد ذلك؟

– إذا رضي الله عن العبد، فاز؛ لأن الله لا يرضى عن العبد إلا إذا كان أهلا لذلك أبدا، ولكن العبد لا يدري إذا كان الله قد رضي عنه، ولكنه يسعى ويدعو ويحسن الظن بالله.









ابوالوليد المسلم 24-04-2023 11:29 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد

تعظيم الله -عز وجل





«أعرف الناس بالله أشدهم له تعظيما وإجلالا» (مدارج السالكين: 2/465). كانت خطبة الجمعة جامعة نافعة، هزت مشاعر المصلين، وحركت قلوبهم وذكرتهم بالخوف من الله وتعظيمه وإجلاله، والاستعداد للوقوف بين يديه يوم القيامة.

اجتمعت وصاحبي بعد الصلاة في مكتبه، نتذاكر ما ورد في الخطبة.

– جزى الله خيرا خطيبنا على هذه الموعظة.

– إن تعظيم الله عمل قلبي، ينبغي على العبد أن يستحضره دائما، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله -سبحانه وتعالى- والرسالة لعبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر على الجوارح، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه» (الصارم المسلول: ج1، ص369).

– وماذا يقول ابن القيم عن مقام تعظيم الله -عز وجل؟

أحضر لنا الخادم قارورة الماء وبعض الفاكهة والمكسرات كالمعتاد.

– نعم قال ابن القيم عن منزلة التعظيم: «هذه المنزلة تابعة للمعرفة؛ فعلى قدر المعرفة، يكون تعظيم الرب -تعالى- في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيما وإجلالا، وقدم ذم الله -تعالى- من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال -تعالى-: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح:13).

قال ابن عباس ومجاهد: «لا ترجون لله عظمة»، وقال سعيد بن جبير: «ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، وروح العباد هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة». (مدارج السالكين: 2/495).

– كلام جامع مانع.

– يحتاج العبد دائما أن يذكر نفسه بعظمة الله -عز وجل-، ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا وتمجيدا لله -عز وجل-، فمن أسمائه -سبحانه- (العظيم)، كما ورد في آية الكرسي، التي هي أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255). وكذلك قوله -عز وجل-: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة:74).

وكذلك قوله -سبحانه-: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى:4). وأمرنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن نعظم الله -عز وجل- في صلاتنا: عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا؛ فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم» (صحيح مسلم). وذلك أن نقول في ركوعنا: «سبحان ربي العظيم»، وكذلك: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». ولا شك أن العبد إذا استحضر أنه يقف أمام الله -عز وجل- الجبار الملك العظيم، كلما كبر للصلاة، يزداد تعظيما له.

– ومن تعظيم الله، تعظيم كتابه؛ لأنه كلام الله-عز وجل- تعظيما ماديا ومعنويا، بمعنى يكرم المصحف ولا يهينه ولا يرميه، ولا يضعه في مكان لا يليق به، ومعنويا، أن يتبع أوامره، وينتهي بنواهيه ويتدبر آياته، ويتفاعل معها، ويؤمن بكل ما جاء به.

– لا شك أننا مقصرون كثيرا في هذا الجانب، بغفلتنا عن تعظيم الله، ونغتر أوقاتا كثيرة بأمور الدنيا، ولا يؤثر فيها آيات القيامة والبعث والحساب، نسأل الله السلامة.

– على المؤمن أن يجتهد في هذه العبادة القلبية العظيمة، ويقرأ الآيات التي تبين عظمة الله -سبحانه وتعالى-، مثلا يقول الله -عز وجل-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم).


السماوات والأرض والجبال، أعظم المخلوقات تنكر نسبة الولد لله العظيم، وتعظم الله كما ينبغي، وابن آدم يصر على هذا الكفر القبيح! وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحدا منهما، أدخلته النار» وفي رواية «قذفته في النار»، ونحن نؤمن بهذا الحديث كما ورد دون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل، نؤمن به؛ لأنه وحي من الله إلى رسوله.

وفي الحديث أيضا: عن عبدالله – رضي الله عنه -، قال: جاء حبر من اليهود، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل لله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك، فلقد رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقوله، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}» (الزمر:67)، (البخاري).







ابوالوليد المسلم 24-04-2023 11:33 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد
الصبر





الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر (الإمام أحمد).
عرض علي صاحبي مقطعاً مصوراً لأحد المعجبين في رده على عدم جواز الاستعانة بغير الله، يقول:
يقول الله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (45) فكيف لا تجوز الاستعانة بغير الله ولا سيما إذا كان الله قد أمرنا بالاستعانة بهم كأئمتنا لمكانتهم عند الله؟ هذا جهله مركب، جاهل باللغة، وجاهل بالعقيدة، وأمثاله لا يستهدفون، وإنما نتوجه للعامة الذين يُلبِّس عليهم أمثال هذا.
– الصبر، واجب على المسلم بإجماع الأمة، وهو حبس النفس عن الجزع والتسخط، ولا شك أنه درجات، أوله واجب وآخره صبر الأنبياء، وذكر الإمام أحمد أنه ورد في كتاب الله في نحو تسعين موضعاً على ستة عشر نوعاً.
استغرب صاحبي مقولتي!
– كنت أظن أن الصبر ثلاثة أنواع، صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء.
– نعم هو كذلك، ولكن الإمام يذكر تفصيل هذه الثلاث يقول:
– الأول: الأمر به نحو قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153)وقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} آل عمران: 20 وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} النحل: 127.
– الثاني: النهي عن ضده كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 53). وقوله: {وَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} الأنفال: 15. فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33 فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (آل عمران: 139) فإن الوهن من عدم الصبر.
– الثالث: الثناء على أهله كقوله -تعالى-: {الصابرين والصادقين} الآية آل عمران: 17 وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) وهو كثير في القرآن.
– الرابع: إيجابه -سبحانه- محبته لهم كقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146). الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية العلم والإحاطة كقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَابِرِين} (البقرة: 249). (الأنفال: 69).
– السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} (النحل: 126) وقوله: {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} (النساء: 25).
– السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله -تعالى-: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل: 96.
– الثامن: إيجابه -سبحانه- الجزاء لهم بغير حساب، كقوله -تعالى-:
{بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125)، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن النصر مع الصبر».
– الحادي عشر: الإخبار منه -تعالى- بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله -تعالى-: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشور: 43 .
– الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله -تعالى-: {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرين} القصص: 80 ، وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (35).
– الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله -تعالى- لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إبراهيم: 5 في أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} سبأ 19. وقوله في سورة الشورى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} .
– الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله -تعالى-: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
– الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).
– السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله -سبحانه وتعالى- باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: خير عيش أدركناه بالصبر. وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: (أنه ضياء) (صحيح مسلم) وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من يتصبر يصبره الله» متفق عليه.
وفي الحديث الصحيح: «عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» صحيح مسلم. وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: إني أتكشف فادع الله: ألا أتكشف فدعا لها. متفق عليه. وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر عند المصيبة وأخبر: «أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى» متفق عليه.

– تفصيل جميل، وسمعت أن الصبر ينبغي أن يكون جميلاً
نعم هو قوله -تعالى-: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً} (المعارج: 5) وهو الصبر الذي لا شكوى فيه ولا معه، ودعني أختم بمعنى قوله -[-: «ومن يتصبر يصبره الله» الحديث.. ذلك أن الصبر يكتسب فيبدأ من القلب، ويذكر المرء نفسه بأنه يتعامل مع الله، فيتقبل أوامره وينتهي عن نواهيه ويرضى بقضائه، ويدرب قلبه، ويعالج ضعفه، ويستعين بالله على ذلك حتى يتقوى صبره، ويترقى في درجات الصبر، حتى يكتبه الله من الصابرين.






ابوالوليد المسلم 15-05-2023 05:42 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد







– الإخبات


















إذا أدرك العبد منزلة الإخبات نزل أول منازل الطمأنينة.

لم أسافر إلى لبنان لأكثر من ثلاث سنوات؛ لما يمر به هذا البلد العزيز من أزمات، جعلت الحليم حيران، بعد استشارة معارفي هناك، عقدت العزم، وتوكلت على الله، وكنت هناك لثلاثة أيام في شهر نوفمبر الفائت.

حرصت أن أصلي في مسجد (الحميضي) وسط بيروت؛ لألتقي الإمام، الذي صرت أجلس معه في كل زيارة تقريبا، كان يقرأ لبعض الشباب، من كتاب مدارج السالكين، قطع قراءته ورحب بي ترحيبا حارا، طلبت منه متابعة الدرس، جلست استمع.

– الإخبات: هو التذلل لله -عز وجل- مع المحبة والتعظيم له، وهو أول مقامات الطمأنينة واليقين والثقة بالله، وهو أول مقام يتخلص فيه العبد من التردد والرجوع، سأله أحد الحاضرين:

– قرأت أن الإخبات، يعني التواضع.

– نعم لغة (الإخبات) من الخبت وهو المكان المنخفض من الأرض، واستعير لمعنى التواضع، ويقال فيه (خبتة) أي تواضع ودماثة.

والآيات التي وردت في كتاب الله هي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (هود:23). {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج:34). {لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الحج:54).

في التفسير، (المخبتين) المطمئنين المتواضعين.

{فتخبت له قلوبهم}، طاعة وتواضعا لأمره بامتثاله، استقر الحق في قلوبهم فخضعوا له.

فالإخبات، تواضع وانقياد وخضوع لأمر الله -تعالى. وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري» صحيح ابن ماجة.

كان الحضور يدونون ملاحظاتهم من كلام الشيخ، وبعضهم كان يسجل الدرس كاملا في جهازه النقال.

تابع الشيخ حديثه:

– ومنزلة الإخبات، منزلة متقدمة من منازل القرب من الله، لا تنال إلا بمجاهدة النفس وكبح جماحها، وتربيتها على التواضع لأوامر الله، والخضوع لتعاليمه الواردة في القرآن أو السنة الصحيحة.

وبيّن الله -سبحانه- صفات المخبتين في سورة الحج الآية: (34)، فذكر في الآية بعدها: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج:35).

فأتبع صفة المخبتين بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكل هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع؛ فليس المقصود مَنْ جمع تلك الصفات؛ لأن بعض المؤمنين لايجد ما ينفق منه، وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها، والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين؛ لأن ذلك هو دأب المخبتين. والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام، وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبة فمما تشترك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. إن القلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم إلى قسمين: أحدهما: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة.

وثانيهما: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب:

فالإعراض مرتبة، والتكذيب مرتبة فوقها، ثم الاستهزاء مرتبة فوقها، والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه، كما قال الله -سبحانه-: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} (النحل:88).

والله -جل جلاله- جعل القلوب على ثلاثة أقسام:

مختبة، ومريضة، وقاسية. فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به. والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.

ومن آثار الإخبات: وجل القلوب لذكر الله -سبحانه-، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه، كما قال -سبحانه-: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج:34-35). فالقلب المخبت ضد القاسي والمريض.

القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.

ومن فوائد (الإخبات):

1- أول درجات الطمأنينة والثقة بالله وحسن الظن به.

2- للمخبت البشرى من الله بالجنة.

3- الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.

4- الإخبات من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله.

5- الإخبات يورث صاحبة العزة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

6- الإخبات يقي من الفتنة.


7- بالإخبات ترتفع الهمة وتعلو النفس عن الرغبة في المدح أو الخشية من الذم.

8- بالإخبات يباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين.







ابوالوليد المسلم 15-05-2023 05:45 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد



حُسن الظن بالله







«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» صحيح مسلم.

كنت وصاحبي في طريقنا إلى المقبرة، لنصلي العصر في المسجد الجديد المجاور للمقبرة، ثم نصلي على موتى المسلمين الذين سيدفنون في هذا اليوم.

وهذه عادة تعاهدنا أن نفعلها مرة كل شهر منذ سنوات ربما تجاوزت السبع!

– حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»، ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه -، هل هذا في سكرات الموت أم على العموم؟

– إن حسن الظن بالله، عبادة قلبية عظيمة ينبغي أن تكون ملازمة للمؤمن دوما، وذلك أن حسن الظن بالله هو الإيمان بما يليق بالله -عز وجل- واعتقاد ما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العلا، وصيغة الحديث تشبه قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

والحديث قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل وفاته بثلاثة أيام، أما حال حياته، فيحسن العبد الظن بالله، بأنه سيغفر له إذا استغفر وتاب، وسيفرج همه إذا اتقاه، وسيستجيب لدعوته إذا دعاه، وسينصره إذا استغاث به، وسيوفقه إذا استخاره، وسيكفيه إذا توكل عليه، وسيحفظه إذا حفظ أمره، وسيعينه إذا استعان به، وهكذا. وفي لحظات الموت، يحسن الظن بالله، بأنه قبل أعماله الصالحة سوف يلقى الثواب الحسن على طاعته وسيتجاوز عن سيئاته.

وكان السلف يدعون الله أن يرزقهم حسن الظن به، كما ورد عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحُسن الظن بك». وكان عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول: «والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله -عز وجل-، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله -عز وجل- الظن إلا أعطاه -عز وجل- ظنه».

رفع المؤذن أذان العصر، وكان أمامنا -بحسب الخريطة- 17 دقيقة للوصول إلى مسجد المقبرة، ونعلم أن صلاة العصر لا تقام إلا بعد نصف ساعة، تابعنا حوارنا:

– إن حسن الظن بالله، يدفع العبد للعمل الصالح، هذا هو الفهم الصحيح لحسن الظن بالله، لا ذلك الفهم الذي يزعم صاحبه أن الله سيغفر له، وهو مقيم على المعاصي! من أحسن الظن بالله، أحسن العمل، وذلك أن العبد يعلم أن الله يحب العمل الصالح ويثيب عليه، فيجتهد في الطاعات ويعلم أنها تسجل له، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، بل يقبل العمل ويضاعف الأجر عليه، وذم الله -عز وجل- المشركين ووصفهم بأنهم يظنون بالله ظن السوء، قال -تعالى-: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (الفتح:6).

ووصف لنا المنافقين فقال -عز وجل-: {طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران:154).

«وظنهم السوء بالله، أن الله -عز وجل- لا ينصر رسوله، وعموم لفظ الآية، يشمل ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره» (روح المعاني).

– دعنا نبحث عن أقوال ابن القيم عن حسن الظن بالله.

– لك ذلك، لحظات وانتهى بحثنا في كتب ابن القيم، اسمع من أقوال الشيخ -رحمه الله-:

دخل وائلة بن الأسقع على مريض فقال: أخبرني كيف ظنك بالله، قال: أغرقتني ذنوب لي، وأشرفت على هلكة، ولكني أرجو رحمة ربي، فكبر وائلة وكبر أهل البيت بتكبيره وقال: الله أكبر سَمِعْتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «يقول الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي» (متفق عليه).

ودخل النبي – صلى الله عليه وسلم – على شاب وهو يموت فقال: «كيف تجدك قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال – صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه من الذي يخاف» صحيح الترمذي (الألباني).

وَقَالَ عبدالله بن عَبَّاس -رضي الله عنهما-: إذا رأيتم الرجل قد نزل به الموت فبشروه حتى يلقى ربه وهو يحسن الظن بالله -تعالى.

قال سفيان الثوري – رضي الله عنه -: من أذنب ذنبا، فعلم أن الله -تعالى- قدره عليه ورجا غفرانه غفر الله -عز وجل- له ذنبه قال: لأن الله -تعالى- غيّر قوما فقال -تعالى-: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} (فصلت: 23)، وقد قال -سبحانه وتعالى- في مثله: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} (الفتح: 12) أي هلكى، ففي دليل خطابه -عز وجل- أن من ظنّ حسنا كان من أهل النجاة على قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه؛ ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه. والعارف بربه حسن الظن به، لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره؛ فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له ربه -سبحانه. والراجي ليس معارضا ولا معترضا، بل راغبا راهبا مؤملا لفضل ربه.

حسن الظن به متعلق الأمل ببره وجوده، عابدا له بأسمائه: المحسن، البر، الحليم، الغفور، الوهاب، الرزاق، والله -سبحانه وتعالى- يحب من عبده أن يرجوه؛ ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به.

ولما احتضر سليمان التيمي قال لابنه: يا بني، حدثني بالرخص، واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله -تعالى- على حسن الظنّ به. وكذلك لما حضر سفيان الثوري – رضي الله عنه – عنه الوفاة جعل العلماء حوله يرجونه، وحدثنا عن أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – أنه قال لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظنّ.

وروى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «عمود الدين وغاية مجده وذروة سنامه: حسن الظن بالله؛ فمن مات منكم وهو يحسن الظن بالله، دخل الجنة مدلا(أي: منبسطاً لا خوف عليه)».







ابوالوليد المسلم 15-05-2023 05:48 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد



الخشية




(الخوف المقرون بالمعرفة والسكون، هو الخشية)
– قرأ إمامنا آيات من سورة (تبارك)، وهي من السور التي يكررها كثيرا إمامنا في الصلاة حتى حفظها بعضنا من قراءاته، وورد قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:12).
وبعد الصلاة، استأذننا أن يلقي خاطرة قصيرة عن هذه الآية، بقي كل المصلين تقريبا في أماكنهم.
– في هذه الآية وعد جميل «للذين يخشون ربهم بالغيب»، والخشية تختلف عن الخوف، ذلك أن الخوف هروب وانتقال من المخوف، والخوف قد يكون من أي شيء وإن كان مجهولا للعبد، أما الخشية فلا تكون إلا مع العلم، ونتيجتها السكون والاستقرار، يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، وأخذ إمامنا ينقل لنا النص كما ورد في الكتاب، من هاتفه الذكي:
«الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوّف، وقيل الخوف هروب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله كما قال -تعالى-: {‌إِنَّمَا ‌يَخْشَى ‌اللَّهَ ‌مِنْ ‌عِبَادِهِ ‌الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28)، فهي خوف مقرون بمعرفة.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية»؛ فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض».
بعد الخاطرة، جلسنا في مكتبة المسجد مع إمامنا.
– لم تذكر حكم الأحاديث التي ذكرتها في خاطرتك يا شيخ، وليست هذه عادتك.
ابتسم (أبو أحمد).
– صدقت، ذلك أني لم أكن أنوي إلقاء هذه الخاطرة ولكن الآيات التي قرأتها دفعتني، لنبحث عن تخريج الأحاديث، وبالفعل كان الأمر يسيرا.
– حديث «إني أتقاكم لله» ورد في حديث الثلاثة الذين قال أحدهم: إنه يقوم الليل فلا ينام والآخر يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث الذي اعتزل الناس، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم: «إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له..» صححه الألباني.
وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا».
تابع الشيخ:
– الخشية عمل قلبي وطاعة عظيمة لله -عز وجل- تبدأ بالقلب، ويظهر أثرها على الجوارح، والخشية تبعث في العبد مراقبة الله -عز وجل-، وكلما كان العبد أكثر علما ومعرفة بالله، اشتدت خشيته من الله.
وفي سورة البينة يقول الله -تعالى- عن المؤمنين:
{جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:8).
عقب (أبو ياسر) على مقولة الشيخ:
– وهناك فرق آخر بين الخوف والخشية، ذلك أن الخوف يقع عادة بعد الوقوع في معصية، وتذكر العقاب، وربما يختفي الخوف، أما الخشية فهي عمل قلبي دائم، لا ينبغي أن يفارق قلب العبد المؤمن.
أعجبني تعليق أبي ياسر.
– ولذلك كانت الخشية من صفات العلماء والأولياء الصالحين. وماذا عن قول الله -تعالى- عن موسى وفرعون: {وأهديك إلى ربك فتخشى}؟
هذه نجدها في كتب التفسير، ولحظات كانت جاهزة.
– أي أعلمك وأرشدك إلى الله، كما ورد في الآيات الأخرى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (الشعراء).
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه)، فهذه الآيات وغيرها، يعلم موسى فرعون بالله -عز وجل-، لعله يخشى بعد العلم.
– ووردت مادة (خشي) ثماني وأربعين مرة، من ذلك قوله -تعالى-:
محبذا ومحببا للخشية منه -تعالى-: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة:150).
وقال في مقام الذم لمن يخشى الناس كخشية الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء:77).
وآيات أخرى وردت فيها الخشية: {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (طه:3).
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44).
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (النازعات:26). {وهو يخشى} (عبس:9). {سيذكر من يخشى} الأعلى:10). {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18). {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء:49). {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33).
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد:21).

فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهروب، والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب، ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء.
والعبد يحتاج إلى الخوف، والخشية، ومن بلغ منزلة الخشية، فقد ملأ الخوف قلبه سابقا.




ابوالوليد المسلم 27-09-2023 03:28 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد


الطمأنينة والسكينة






{ألا بذكر الله تطمئن القلوب}
– وما الفرق بين السكينة والطمأنينة؟
– الطمأنينة، حال دائمة تستقر في القلب، يعمل العبد على اكتسابها، بالأسباب التي بيّنها الله -عز وجل.
والسكينة، ينزلها الله -عز وجل- على من يستحق من عباده حال الاضطراب والخوف والحيرة، فيهدأ ويفعل الصواب وينطق بالحق.
وقالوا: الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والسكينة، وثبات القلب عند هجوم المخاوف.
كنت وصاحبي في حوار علمي، مع مجموعة من مرتادي المسجد، بين العشائين، كعادتنا كل أربعاء.
– ولو تدبرنا آيات الطمأنينة وآيات السكينة، ندرك الفرق بينهما.
يقول -تعالى-:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر:7). {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:260). {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28). {قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة:113).
أما آيات السكينة فمنها:
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة:26).
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40).
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الفتح:4). {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح:18).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة. وأصل السكينة هي السكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات.
ولهذا أخبر -سبحانه- عن إنزالها على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعلى المومنين في مواضع القلق والاضطراب.
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» صحيح الترمذي. وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -تعالى-، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» مسلم. والطمأنينة موجب السكينة، وأثر من آثارها، وكأنها نهاية السكينة. وفي تفسير قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قال الجمهور: لم يكن إبراهيم -عليه السلام- شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي…» متفق عليه.
الحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، بمعنى أن إبراهيم لم يشك في مسألة إحياء الموتى؛ ولذلك فنحن أولى بالشك منه؛ فإذا كنا لا نشك في هذا الأمر، فإبراهيم من باب أولى. وإذا تأملت سؤاله -عليه السلام- وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول.
– هل نستطيع أن نقول: إن المرء ينبغي أن يسعى ليصل قلبه إلى الطمأنينة؟ وأنها من طاعات القلوب، وأن السكينة في الغالب، ينزلها الله، في قلب المؤمن إذا اتخذ الأسباب؟
– نعم، والطمأنينة تزيد وتنقص كأعمال القلوب كلها، ولكن لا ينبغي أن تفارق القلب في أدنى مستوياتها، وهي الاطمئنان إلى جنب الله، وكلام الله، ووعد الله ومعية الله ونصر الله والرضاء بقضاء الله.
والنفس المطمئنة، هي التي اطمأنت عند موتها، بعد الله لأهل الإيمان بالكرامة في الآخرة وصدقت به.



ابوالوليد المسلم 27-09-2023 03:30 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد

التـوبـة




التوبة هي أول الأعمال وآخرها وهي في كل مقام مستصحبة
أديت صلاة الظهر في المسجد الملاصق للمقبرة، قدر الله أن تكون هناك جنازة، على غير المعتاد، صليت عليها، وتبعتها، وانتظرت حتى انتهى دفنها، (رجاء القيراطين). في طريق عودتي إلى المركبة، صادفت صاحبي، دون سابق موعد.
– قرأت كلاما عجيبا عن التوبة، ليتك تضمنه خطبة الجمعة القادمة.
– أفعل إن شاء الله.
– سوف أرسل إليك الورقات التي جمعتها، خذ منها ما تراه.
– بإذن الله.
بعث لي، خمس ورقات، لخص فيها صاحبي ما قرأ من كتب عن التوبة، قرأتها، أعدت ترتيب بعض الفقرات، وبحثت عن تخريج الأحاديث وها هي ذي بين أيديكم.
إن التوبة هي: انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما عليه من سوء الحال وتقصير في حق الله -عز وجل.
وتظاهرت دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على وجوب التوبة على الجميع، فإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحصى له أكثر من مئة مرة التوبة والاستغفار، فغيره من باب أولى، عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «ربما أعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)» أبي داوود (الألباني).
قال الله -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} (التحريم:8)، أمر الجميع بالتوبة وجعلها سببا للفلاح.
وقال -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11).
فأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله. عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (رواه البخاري). قال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: وأعظم توبة وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان، قال الله -تعالى-: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال:38)، ثم يليها التوبة من الكبائر، كبائر الذنوب.
ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب. والواجب على المرء، أن يتوب إلى الله -سبحانه وتعالى- من كل ذنب. وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف -رحمه الله-، ولكنها بالتتبع تبلغ إلى خمسة:
– الشرط الأول: الإخلاص لله.
– الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية.
– الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب الذي هو فيه.
– الشرط الرابع: العزم على ألا يعود في المستقبل.
– الشرط الخامس: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة.
لقول الله -تعالى-: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} (النساء:18) انتهى كلامه.
وقال -تعالى- في حق أصحاب الأخدود الذي خدوا الأخاديد لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج:10). قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. وحذر -سبحانه- من القنوط من رحمته وتوبته، قال -تعالى-: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).
أما ثمرات التوبة فهي كثيرة منها:
1- التوبة سبب للفلاح: قال -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31).
2- بالتوبة تكفر السيئات: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه» (متفق عليه).
3- بالتوبة تبدل السيئات حسنات: قال -تعالى-: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الفرقان:70).
قال ابن القيم في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
4- التوبة سبب للمتاع الحسن: قال -تعالى-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود:3).
5- أن الله يحب التوبة والتوابين: فعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها؛ فإنه -سبحانه- يحب التوابين، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (التوبة:222).
6- حصول الذل والانكسار لله: ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة؛ فالذل والانكسار روح العبودية، ولبها.
7- أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فرتب له على ذلك حكما ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة، وتقوى، فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.





ابوالوليد المسلم 27-09-2023 03:32 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد

الثقة بالله


عندما ترك أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- زوجته وابنه في صحراء قاحلة، لا أثر فيها للحياة، بأمر الله -عز وجل- تبعته هاجر، تستفسر عن السبب، ولا يجيبها، فما كان منها إلا أن سألت، آالله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، ولم يلتفت ومضى، فقالت: إذن لا يضيعنا! كنت أبين للجميع في لقاء الجمعة، معنى (الثقة بالله)، كان في المجلس جميع الأبناء وأزواج البنات، وبعض أبنائهم. سألت ابنتي براء:
– ولكن هذه ثقة لا تكون إلا عند الأنبياء، لا أظن أن أحدا منا (عامة الناس) يمكن أن يبغلها.
– نعم، هي قمة الثقة بالله، ولا شك أن الأنبياء على ثقة كاملة بالله، ولكن علينا أن نسعى ونربي قلوبنا على الثقة بالله، بمعنى أن نكون على ثقة، بأن من حفظ الله، يحفظه الله، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «احفظ الله يحفظك»، هذه عقيدة إذا ترسخت في القلب، فإن العبد يراها في حياته دون شك، وينبغي أن نربي قلوبنا بأن مقادير الله -عز وجل- لا تأتي إلا بالخير للعبد، وإن كره العبد بعض ما يصيبه.
– يبدو لي أن الأمر يحتاج إيمانا راسخا، قويا، علقت على مداخلتها.
– نعم، على العبد أن يرتقي بإيمانه، فيثق بكل ما شرعه الله، ويثق بأن الله يستجيب دعاءه إذا كان مظلوما، ويثق بأن رزقه يأتيه كاملا من الله، وأن الله أرحم بعباده منهم بأنفسهم، وأنه -سبحانه- يحب عباده، ويلطف بهم، ويتولاهم، هذه قضايا أساسية ينبغي على كل منا أن يربي نفسه عليها، وكلها تبدأ بالعلم الصحيح، والعقيدة السليمة في القلب.
علّق معاذ، وهو كثير سماع لآراء العلماء والمشايخ، وقليل الاطلاع.
– سمعت درسا في اليوتيوب يشرح (الثقة بالله)، انطلاقا من قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال:64)، أي حسبك، وحسب المؤمنين، الله -تبارك وتعالى-، بمعنى كافيكم جميعا، يقول الشيخ: قال بعض الحكماء: صفة أولياء الله -تعالى- ثلاث خصال: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إلى الله في كل شيء، والرجوع إلى الله في كل شيء، الواثق بالله يؤمن: أن الله -تعالى- إذا حكم بحكم وقضى أمرا، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وحسبك من آثار تربية النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه على قوة الثقة بالله. فهذا أبو بكر – رضي الله عنه – جاء بماله كله حتى دفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر»، فقال: عدة الله وعدة رسوله؛ فبكى عمر – رضي الله عنه – وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر! والله ما استبقنا إلى باب خير إلا كنت سابقا.
قال ابن القيم: الفرق هو الثقة بالله والعجز؛ ذلك أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود. وقال -رحمه الله-: إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها؛ فكلما قويت تلك الأمارات، قويت الثقة واستحكمت ولاسيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة. وأما الغرّة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه، حتى أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير كحال المغتر بالسراب.
– كلام جميل يا (أبا سعد)، ودعني أضيف عليه أن الثقة بالله تشمل:
– أولا: الثقة بكلام الله -عز وجل-، والقرآن كله كلام الله -عز وجل-؛ فمن كان يثق بالله، يثق بكل وعد ورد في القرآن، وبكل آية في كتاب الله، دون أدنى شك، وإن لم يرها تتحقق في حياته.
– ثانيا: الثقة بكلام النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه وحي من الله، فيثق العبد، بما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولاسيما ثواب الأعمال الصالحة، وعقاب الذنوب والمعاصي، وهذه الثقة تُقوِّم أعمال القلب والجوارح.
سألني أبو يوسف.
– وما الفرق بين الثقة بالله، وحسن الظن بالله؟
– حسن الظن بالله يحتاجه العبد، في سكرات الموت، يذكر رحمة الله، وعفوه، ومغفرته، وجنته، أما الثقة بالله فهي عمل قلبي يدفع، القلب إلى أن يحسن التوكل على الله واليقين بما عند الله، والاطمئنان إلى وعد الله، وإليك بعض الأمثلة: عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – حدثه، قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» رواه البخاري.
وهذه أم موسى -عليه السلام- وثقت بكلام الله أنه سيرد إليها ابنها، قال ابن القيم -رحمه الله-: «فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله -تعالى-؛ إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به أمواجه، وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف» (مدارج السالكين 2/142).
وهذا موسى -عليه السلام- يواجه البحر، وفرعون وجنوده يطاردونه وكادوا يصلون إليه والفئة التي معه. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (الشعراء).
نعم، هذه ثقة الأنبياء والرسل، ولنا فيهم قدوة، فلنثق بالله، في رزقنا، وتفريج همومنا، ونصرة ديننا، وتثبيت أمننا، كل ذلك وغيره، ولكن مع الأخذ بالأسباب.





ابوالوليد المسلم 27-09-2023 03:33 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب


د. أمير الحداد

الافتقار إلى الله



أقرب السبل إلى الله، كمال الافتقار إليه -سبحانه!
منذ وفاة والدتي ليلة الثلاثاء، الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من العام 2022 للميلاد، وأنا أتردد على المقبرة مرتين في الأسبوع، ومن فضل الله علي أنني توليت صلاة الجناة عليها،، ولحدها، وتمام الدفن، ثم الدعاء، واجتهدت أن تكون وفق سنة النبي – صلى الله عليه وسلم .
أديت صلاة الجمعة الماضية في المسجد المجاور للمقبرة، وكانت الخطبة مؤثرة، موضوعها (الافتقار إلى الله)، أدينا صلاة الجنازة على خمسة من الأموات، ثلاث نساء، ورجل، وطفل، بعد أن انتهينا من الدفن وفي طريق عودتي إلى مركبتي، قال صاحبي:
– كانت الخطبة اليوم مؤثرة ولاسيما الحديث القدسي، عن أبي ذر قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي أنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم..)» مسلم.
– نعم هذا حديث عظيم، كان إدريس إذا ذكره جثا على ركبتيه، وفيه بيان تمام افتقار الخلق جميعا لله -عز وجل- في أبسط حاجاته، فضلا عن أعظم الحاجات، وهي الهداية؛ ولذلك في نهاية الحديث يقول الله -تعالى-: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك لا يلومن إلا نفسه».
– الافتقار إلى الله، هل هذا مثل قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15).
– نعم، الكل فقير إلى الله، سواء: الغني، والملك، والقوي، والعظيم، والمعافى، والشاب، والمؤمن، والكافر، ولكن الغافل، لا يظهر الافتقار إلـي الله ولا يتذكره إلا في الشدة، والضيق، أما المؤمن فإنه يظهر الافتقار إلي الله، في كل حين، يقول -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر:8).
توقفنا عند براد المياه، أخذنا حاجتنا، تابعنا المسير.
– نعم إنها قضية ينبغي الانتباه إليها، وعدم الغفلة عنها.
– من التزم السنة، وفقه الله إليها، ففي الحديث: عن معاذ بن أنس، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من أكل طعاما ثم قال: الحمدلله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا فقال: الحمدلله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح أبي داوود -الألباني).
وفي الحديث أيضا عن حذيفه بن اليمان قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم نموت ونحيا، وإذا استيقظ من منامه قال: الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» البخاري.
فإذا تذكر العبد أنه فقير إلى الله عندما يأكل طعامه ويلبس ثيابه ويستيقظ من نومه، فإنه يمارس هذا العمل القلبي دائما، بل هناك تذكير أكبر من هذا، وهو قولنا في كل ركعة من صلواتنا، {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم}، وهذا يحدث أكثر من سبع عشرة مرة في كل يوم.
فالعبد يفتقر إلى الله في الثبات على الدين، ويفتقر إليه في الطعام والشراب والثياب والنوم واليقظة، ومن كان هذا ديدنه، فلا شك أن الله يغنيه!
بلغنا مواقف المركبات، طلبت من صاحبي:
– ابحث لنا في مكتبة هاتفك عن أقوال ابن القيم في الافتقار إلي الله.
– لك ذلك.
دقائق وكان صاحبي يقرأ لنا، في طريق عودتنا.
قال ابن القيم: الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله -تعالى- من كل وجه. ومن الافتقار إلى الله -عز وجل- أيضا الافتقار إليه في التوفيق إلى الأعمال الصالحة، وهو الافتقار إليه في أمر الهداية وعدم حصول العُجب؛ فالعبد المؤمن مفتقر إلى الله -تعالى- في عبادته ويعرف أن منازله التي يحصلها والعبادات التي يوفق لها هي محض توفيقه -عز وجل- ومنة منه -تعالى- فيفتقر إلى الله في الهداية؛ لذلك يقول وهو يقرأ فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة)، فهو يشهد نعمة الله عليه وعلى غيره، ويسأله الهداية ليل نهار، ويعلم أن التوفيق من عند الله -تعالى-، وأنه لا يثبت على الخير بنفسه، بل يثبته الله -عز وجل- مقلب القلوب ومصرف القلوب -سبحانه وتعالى-، فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا في أمر الدين كما لم يملكه في أمر الدنيا، فيزول من قلبه إعجاب النفس، فالمؤمن يشهد فقره إلى الله -تعالى- إلها معبودا، وأن الله -عز وجل- هو الذي سبق فضله إليه كل شيء.
فما كان به من خير فمن الله، فهو لم يتغير حاله إلى الطاعة وإلى الإيمان وإلى الحب وإلى الخوف وإلى الرجاء، وإلى التوكل وإلى الافتقار وإلى الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة بنفسه، ولم يوفق إلى ذلك بنفسه إلا أن هداه الله، والمفتقر إلى الله يكون قريبا من الله -سبحانه وتعالى- في كل عباداته وأعماله، وأن الأسباب هي مجرد أسباب يسرها الله -عز وجل- بما فيها الأعمال الصالحة، كما في الصحيحين «أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول «لن يدخل أحدا عمله الجنة» وفي رواية «لن ينجي أحدا منكم عمله». قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة؛ فسددوا وقاربوا»، فهذا مقام الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى- في كل شيء؛ حيث يرى الأسباب كلها ويرى نفسه ضعيفة، لا تؤثر شيئا إلا أن يجعلها الله كذلك، فيحقق حقيقة: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وفقر العباد إلى ربهم نوعان: الأول: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى خالقها، فهي مفتقرة إلى ربها في خلقها وبقائها وحفظها ونفعها وضرها ورزقها وتدبيرها. الثاني: فقر إلى ألوهيته -سبحانه-، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، ولبه دوام الافتقار إلى الله في كل حال.
الافتقار إلى الله من أجل مراتب المحبين، وأرفع منازل المنيبين، وأزلف حالات التائبين، وأعظم آلات الأوابين، وأجل مقامات التائبين، وأعلى وسائل المقربين، وهو أصل العبودية، وصدر الإخلاص، ورأس التقوى، ومخ الصدق، وأساس الهدى؛ فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا إلى الله -تعالى- دون انقطاع البتة.
– كلام جميل، ويمكن ممارسة هذه العبادة القلبية العظيمة فضلا عما ذكرناه بكثرة الإلحاح والسؤال لله -عز وجل- ولاسيما في السجود عند الصلاة فإن العبد يكون في أذل هيئة بدنية؛ فينبغي أن يكون في أفقر حالة قلبية بين يدي رب العزة -سبحانه.





ابوالوليد المسلم 29-09-2023 03:38 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد
الشوق للقاء الله



من اشتاق للجنة، اشتاق للقاء الله
دخلت المسجد قبل صلاة المغرب بخمس دقائق، وجدت إمامنا يكتب حديثا على لوحة الإعلانات، وعادة ما يكتب حديثا جديدا كل يوم سبت، وقفت أقرأ ما يكتب:
عن صهيب بن سنان قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ» (مسلم).
– لنا جلسة بعد الصلاة لتدبر هذا الحديث الجميل.
– إن شاء الله.
– بعد السنة، ذهبنا إلى مجلسنا المعتاد، شاركنا المؤذن (أبا يعقوب) بدأت الحديث.
– بعض المصطلحات أتحرج من استخدامها، مثل الشوق إلى الله، والعشق الإلهي، والوله؛ لأنها لم ترد في القرآن أو السنة -بحسب علمي- ويستخدمها أقوام خالفوا السنة ونهج السلف، وابتدعوا أمورا لم يأت بها دين الله -عز وجل-، وتدخل (أبو يعقوب):
– ولكن هؤلاء أردوا الخير وظنوا أنهم يتقربون إلى الله بهذه الطريقة.
أعطينا المجال لإمامنا:
– (حسن النية) لا يكفي للتقرب إلى الله، لابد من اتباع ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإلا وقع المرء في البدعة ولم يزدد إلا بعدا من الله، ويزين له الشيطان هذا، فلا يرجع إلى الحق؛ ولذلك قالوا: «البدعة أشد من الكبيرة»، وكما قال أبو عبدالرحمن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه -: «وكم مريد للخير لن يصيبه».
– أما (حب الله)، فهذا مطلب كل مؤمن كما قال الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165). {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54). {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31)؛ فالمؤمن يحب الله كما يليق بجلاله وعظمته، ويأمل أن يحبه الله، بطاعة أوامره واتباع هدي نبيه، والدعاء، أما (عشق الله)، فلم ترد هذه العبارة في القرآن ولا في السنة ولا عن الصحابة، وأما الشوق للقاء الله، فهو نتيجة حب الله، والشوق إلى الجنة يورث الشوق للقاء الله؛ لأنه أطيب ما في الجنة.
– أحسنت يا شيخ حسن، زدنا من هذا البيان، أحضر لنا أحدهم الشاي كالمعتاد، بينما بحث الشيخ في الحاسوب وأخذ يقرأ:
والشوق إلى الله درجتان: أحدهما: شوق زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن، سببه مطالعة منة الله وإحسانه ونعمه.
الثاني: شوق زرعه الحب الذي نشأ واستقر من معرفة أسماء الله وصفاته المختصة بالمن والإحسان، كالبر والودود، والمحسن والرؤوف والغفور والرحيم، والوهاب والكريم، ونحو ذلك، وهذه أكمل وأقوى.
ويوصف الله -عز وجل- بالمحبة ولا يوصف بالشوق؛ لأنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة، وكل من عرف ربه أحبه، ومن أحبه اشتاق إليه وإلى لقائه.
وكان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وأسألُكَ الرِّضاءَ بالقضاءِ وبردَ العيشِ بعدَ الموتِ ولذَّةَ النَّظرِ إلى وجْهِكَ والشَّوقَ إلى لقائِكَ..»، (صحيح النسائي).
وعن عبادة بن الصامت، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ. قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ» متفق عليه. وفي الحديث القدسي: «إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة» (رواه البخاري). فالبداءة من العبد ثم الإجابة حتما من الرب: {ادعوني أستجب لكم} {فاذكروني أذكركم}.
أما عوامل بعث الشوق إلى الله
1- مطالعة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وتدبر معاني هذه الأسماء الحسنى والصفات؛ فإنها السبيل للوصول إلى محبة الله -عز وجل- وتأمل قصة أبي الدحداح في فهمه كلام ربه كيف حرك أريحيته وألبسه حب البذل.
فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت هذه الآية: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي، قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها، قال فجاء أبو الدحداح فنادى يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي -عز وجل-، وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك، عمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح» (الصحيحة).
2- مطالعة منن الله العظيمة وآلائه الجسيمة؛ فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها؛ ولذلك كثر في القرآن سوق آيات النعم الخلق والفضل تنبيها لهذا المعنى، وكلما ازددت علما بنعم الله عليك، ازددت شوقا لشكره على نعمائه.
3- التحسر على فوت الأزمنة في غير طاعة الله، بل قضاؤها في عبادة الهوى، قال ابن القيم: وهذا اللحظ يؤدي به إلى مطالعة الجناية، والوقوف على الخطر فيها، والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها.
4- تذكر سبق السابقين مع تخلفك مع القاعدين يورثك هذا تحرقا للمسابقة والمسارعة والمنافسة، وكل ذلك أمر الله به، قال -تعالى-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.



ابوالوليد المسلم 29-09-2023 03:41 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

الوجـــل



{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
– من القواعد المهمة التي يغفل عنها الكثير، أن كمال الأجر مع كمال العمل، وأن حصر الإيمان، يعني كمال الإيمان.
– لم أفهم الجزء الثاني.
– مثلا قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال:2)، في التفسير: إنما المؤمنون الكاملو الإيمان، فمن لم يوجل قلبه، لا ينتفي الإيمان منه، ولكن ينقص، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
كنت وصاحبي في استراحة الأساتذة، بعد صلاة الظهر بانتظار موعد اجتماع القسم الذي يعقد عادة الساعة 12:30، أخذنا حاجاتنا من المشروبات، صاحبي مدمن قهوة وأنا اكتفيت بالماء البارد.
– وما الفرق بين الخوف والخشية والرهبة والوجل؟
– دعني أبحث لك في هاتفي حتى أفيدك وأستفيد.
(الوجل) و(الخوف) والخشية) و(الرهبة) ألفاظ متقاربة غير مترادفة، قال أبو القاسم الجنيد: الخوف توقع العقوبة، وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه، وأما الوجل فرجفان القلب، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته، وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية» (متفق عليه). ومن هنا فإن الوجل إنما يكون في القلب وهو الخوف مع التعظيم ولا يكون إلا لله -عز وجل-، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال:2)، فوجل القلب من أخص صفات المؤمنين، وإنما يكون عند ذكر الله -تعالى-، سواء كان المؤمن ذاكرا لله -تعالى- أم ذكر الله -تعالى- عنده؛ إذ ليس كل من ذكر الله -تعالى- أو ذكر عنده لان قلبه، واقشعر جلده، وفاضت عيناه، وانتابته حالة من الخوف والرهبة، والتعظيم والإجلال والافتقار.
وفي الحديث: «عن العرباض بن سارية يقول: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العينون، ….» (صحيح بطرقه وشواهده).
ومن أهم علامات الوجل وأماراته الوقوف عند أوامر الله، والرجوع إلى طاعته والحذر من معصيته، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:135).
ومن علامات الوجل وأماراته كذلك البكاء من خشية الله -تعالى-، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».
ويقول الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}(المؤمنون)، فهذا هو الوجل المختلط بالمحبة، وتلك هي مقدمات ذكر الله، فأول ما يذكر العبد رب العالمين يشعر بالوجل، ثم سرعان ما يتبدد هذا الوجل إلى طمأنينة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، فليس هناك منافاة بين أن يوجل القلب عند ذكر الله وبين أن يطمئن، فإن الوجل هو مقدمة الذكر، والطمأنينة بالذكر الخاتمة. فربنا -تبارك وتعالى- يذكر صفات المؤمنين، كما قال -تعالى-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر:23)، هذه مقدمة الذكر، قال: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر:23)، (تلين): هذه هي الطمأنينة، وهي آخر درجات الذكر. توقف عند الاستراحة رئيس القسم ينبهنا لاقتراب موعد الاجتماع ومضى إلى قاعة الاجتماعات.
– وماذا عن الآية الأخرى من سورة الحج؟
– بل هما آيتان.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج). {وبشر المخبتين}، المطمئنين، وعن الضحّاك: المتواضعين؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقه، والتعدي لحده.
وفي قراءة ابن مسعود – رضي الله عنه -: «إذا ذكر الله فرقت قلوبهم»، وهذا صحيح؛ فإن (الوجل في اللغة) هو الخوف، يقال: حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنه قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
قال عائشة -رضي لله عنها-: «يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: لا يا ابنة الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه».
قيل لبعض العلماء ما علامة التوبة؟ قال: الوجل من الذنب.





ابوالوليد المسلم 29-09-2023 03:42 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

الحياء من الله



{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}
يصف النبي حال العبد إذا تلبس بالمعصية، يقول – صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو مؤمن» (متفق عليه). فحال تلبسه بالمعصية ينزع ثوب الإيمان ويغيب عنه نظر الله إليه، فيقع في معصية ربه، مستخدما نعم ربه وتحت نظر ربه!
– إن مسألة (الحياء من الله)، تلامس القلوب مباشرة دون أن تمر على العقل أو الفكر، فتطرق الرؤوس، وتنكر العيون، وتتلون الوجوه، إذا حقق العبد (الحياء من الله)، وإن كان من أصحاب الطاعات.
– ماذا تقصد بالعبارة الأخيرة؟
كنت وصاحبي نقرأ جزءا من (مدارج السالكين) للإمام ابن القيم.
– دعني أضرب لك مثلا -ولله المثل الأعلى- ماذا يكون موقفك من خادمك الذي أكرمته وألبسته وأسكنته وأطعمته، أفضل مما يستطيع أن يفعل لنفسه، حين تراه مقصرا فيما طلبت منه؟ وأشد من ذلك إذا رأيته يستغل نعمتك عليه، فينتهك بها حرماتك؟!
– أول عبارة ستقولها له: «ألا تستحيي؟».
– الله -سبحانه- أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، ما نحتاج وما لا نحتاج: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}. ونحن نستعمل عافيتنا وأموالنا ووقتنا -وكلها نعم من الله- في معصية ربنا، وتحت نظر ربنا -عز وجل-، وحتى إن لم نكن نعصيه، نقصر في عبادته، فلا نصلي كما يجب، ولا نصوم كما يرضى، ولا نتعامل كما أمرنا، ولا نقرأ كتابه كما يجب، وهكذا.
إنه ذلك الشعور (بالتقصير تجاه الله -تعالى-، مع استحضار نعم الله). يقول الجنيد: «الحياء من الله يتولد من مشاهدة النعم ورؤية التقصير». ويقول ابن عطاء: «ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء من الله».
انضم إلينا مؤذننا (أبو صالح)، عُين في مسجدنا منذ شهر تقريبا يمتعنا بأذانه؛ لأنه يذكرك بأذان المسجد الحرام في مكة، دعني أقرأ لك شيئا من كتابنا. وقد قسم الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحيي من نفسه، فأما حياء الجناية: فمنه حياء آدم -عليه السلام- لما فر هاربا في الجنة قال الله -تعالى-: أفرارا مني يا آدم؟ قال: لا يا رب بل حياء منك. وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك. وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه. وحياء الكرم: كحياء النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا القوم إلى وليمة زينب، وطولوا الجلوس عنده؛ فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا. وحياء الحشمة: كحياء علي بن طالب – رضي الله عنه – أن يسأل رسول الله عن المذي لمكان ابنته منه. وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه -عز و جل- يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها، وفي أثر إسرائيلي إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب إنه لتعرض لى الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك؛ فقال الله تعالى: سلنى حتى ملح عجينتك وعلف شاتك. وقد يكون لهذا النوع سببان أحدهما: استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه، والثاني: استعظام مسؤوله. وأما حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه حتى، إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به في وجهه، ولا يدرى ما سببه؟. وأما حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها؛ فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة. وأما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من: بذل أو عطاء وإحسان؛ فإنه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.
وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.
– هذا تفصيل دقيق جميل للحياء، ولاسيما الجزء الأخير (حياء المرء من نفسه).
– نعم، يحتاج المرء أن يذكر نفسه بهذا العمل القلبي الجليل، وألا يفارقه أبدا، وإن غفل عنه أحيانا، يرجع ويذكر نفسه، ليستحيي من الله، ويتذكر ألا يكون حيث نهاه الله، ولا يغيب حيث أمره الله.
– وإليك هذا الحديث.
– عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا نبي الله، إنا لنستحيي والحمدلله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (حسن لغيره -الألباني).





ابوالوليد المسلم 03-10-2023 05:06 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

الإحسان



نزلة الإحسان هي لب الإيمان
بعد صلاة الجمعة، أهداني (أبو سالم) مجموعة أوراق مطبوعة.
– هذه مقالات جمعتها، وعلقت عليها، عن (الإحسان)، ليتك تقرؤها وتخبرني برأيك.
أخذتها مبتمسا.
– لك ذلك -إن شاء الله- ولكن لا تلزمني بوقت.
– خذ ما شئت، لست في عجلة من أمري.
بعد يومين جلست عقب صلاة العشاء في مكتبي، تصفحت ما جمع صاحبي.
الإحسان بمعناه العام يشتمل إحسان العبد في عبادة ربه، وتعامله مع الخلق، وأعماله، وأقواله ظاهرا وباطنا، قال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2).
وعن شداد بن أوس – رضي الله عنه – قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (مسلم).
والإحسان شرط في قبول العمل؛ فإن العمل لا يقبل إلا بشرطين: الإخلاص لله، وموافقته للسنة، وهو الإحسان الذي ذكره الله -تعالى- بقوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان:22). أما الإحسان إذا ذكر مع الإسلام والإيمان فهو أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، كما فسره النبي – صلى الله عليه وسلم -:
قال جبريل -عليه السلام- للنبي – صلى الله عليه وسلم -: ما الإحسان؟، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه). وجعل الله جزاء الإحسان الجنة والنظر إلى وجهه الكريم -سبحانه-: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} (يونس:26).
الحسنى، الجنة، والزيادة، وهي النظر إلى وجه الله -عز وجل-، كما في تفسير ابن كثير عن صهيب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تلا هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه؛ فيقولون وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، قال فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر بأعينهم» (صحيح على شرط مسلم). والإحسان من العبد جزاؤه الإحسان من الله -عز وجل- وشتان بين الإحسانين، يقول الله -تعالى-: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60).
فمن جزاء الإحسان الذي ذكره الله -تعالى- في كتابه:
معية الله للمحسنين
– {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).
– {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).
حب الله للمحسنين
– {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195).
– {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134).
جزاء الإحسان في الدنيا والآخرة
– {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:58).
– {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112).
– {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:172).
– {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:85).
– {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).
– {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115).
– {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف:12).
– {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (الذاريات).
أبديت بعض الملاحظات على ما كتب صاحبي، التقيته في الجمعة التالية، أخبرته قبل الصلاة أني استمتعت بقراءة ما كتب، وأن نلتقي بعد الصلاة لأعطيه الأوراق ونتجاور عن الموضوع.
– جهدك واضح في جمع هذه الآيات والأحاديث، وليتك تكملها ببيان كيف الوصول إلى درجة الإحسان.
أجاب مبتسما.
– أشكر لك جهدك ووقتك في قراءة ما جمعت، وبالفعل قمت ببيان سبيل الوصول إلى الإحسان، ولكني لم أحضر ما جمعت، ولكن دعني أخبرك ما جمعته، من ذاكرتي، السبيل إلى الإحسان بينه النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث التقرب إلى الله: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله -تعالى- قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته» (البخاري).
فالعبد يجتهد في الطاعات (الفرائض والسنن)، وينتهي عن السيئات (كبيرها وصغيرها)، ويستغفر الله ويتوب إن وقع منه تقصير، ويدعو الله أن يثبته.
فهذا الحديث يختصر كل ما كتبته.
– أحسنت، أسأل الله أن يتقبل منك هذا الجهد.





ابوالوليد المسلم 03-10-2023 05:07 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

إنكار المنكر



وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
جاورني في رحلتي الأخيرة إلى لندن لزيارة حفيدتي (تاج)، ابتدرني بابتسامة لطيفة، وسرعان ما تعارفنا، وتآلفنا، بدأ الحديث:
– بعض المتدينين يتشددون مع من لا يتفق معهم؛ فيرمون هذا بالفسق، وتلك بالفجور، وذاك بالانحراف، وربما أطلقوا هذه الصفات علنا؛ ليسمعوا الطرف الآخر.
– إن الدعوة تحتاج إلى علم، وسعة صدر، وحلم، وحكمة، نعم أتفق معك أن بعض المتدينين يضرون أكثر مما ينفعون، ولكن أيضا يجب على كل مسلم أن ينكر المنكر بطريقة صحيحة وأنت تعرف الحديث.
«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (مسلم).
– دعني أكون صريحا واضحا، أنا أعرف الكثير من الملتزمين بالصلاة في المساجد، المتبعين لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في السنن، وكذلك أعرف كثيرا من الذين لا يصلون، وأحضر مجالس هؤلاء وهؤلاء، وربما حضرت مجلسا، يدار فيه الخمر أحيانا.. مع أني أكره هذه المجالس، ولكن من باب صلة الرحم؛ لأنهم من أقربائي، قاطعته.
– هل تعرف أين المشكلة يا (أبا فواز)، المشكلة أن يتعود القلب على المنكر، فلا ينكره، ولا يكرهه، وهذا عمل قلبي خطير، ألا ينكر القلب المنكر؛ ففي الحديث، قطع المضيف حديثنا ليعطينا المناشف الساخنة المنعشة.
تابعت حديثي:
– أقول في الحديث، عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» (رواه مسلم).
فالعبد ينبغي أن يدرب قلبه دائما على إنكاره للمنكر وكرهه وبغضه والابتعاد عنه؛ لأن كثرة التعرض للمعاصي والرضا بها يميت القلب، ويذهب الإيمان، ومن علامات الإيمان ألا يكون المسلم في مجلس يدار فيه الخمر، والحديث صريح في ذلك.
عن عمر – رضي الله عنه – قال: «أيها الناس إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر».
استوقفني
– هل هذا الحديث صحيح؟
– نعم هذا الحديث ورد في مسند الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه العلامة الألباني.
– لم أكن أعرفه.
– الشاهد أن المرء ينبغي ألا يألف المنكر، ويتعود عليه، بل يذكر نفسه، أن هذا المنكر معصية لله -عز وجل-، ويكره هذا المنكر، وإن كان صاحب سلطة، يزيله، وإلا فلبسانه ينكره دون أن يوقع ضررا أكبر منه، وإلا فبقلبه، ويتحول عن المكان الذي يقع فيه، ويكره هذا المنكر.
بل من صفات المؤمنين حبهم للإيمان والطاعات وكرههم للمعاصي، كما قال -تعالى في سورة الحجرات-:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
أي جعل الإيمان بما فيه من عقيدة وعمل، محبوبا إلى قلوبكم (وزينه)؛ بحيث لا تتركونه، بل تقومون به وأنتم راغبون فيه، مقبلون عليه بقلوبكم، قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر».
– آية جميلة، كأني أسمعها أول مرة؛ لأنها أتت في صياغ عمل القلب، نعم كل الفطر السليمة تحب الإيمان وأعمال الإيمان، والصلاح من صلة الرحم، والإصلاح بين الناس والإحسان إلى المحتاجين، والصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، إنها نعمة عظيمة من الله أن حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
– نعم، هي كذلك فضل من الله، ونعمة، وأذكر حديثا آخر للتو حضرني، وهو في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»
– أحاديث لم أعرفها من قبل، وكنت أظن أني ملم بمعظم الأحاديث لاطلاعي الدائم وثقافتي الإسلامية.
– من شيمة العلماء، كما قال الشافعي: كلما ازددت علما ازددت علما بجهلي.
استدرك علي مقالتي.
– هذا شطر من بيت شعر للشافعي يقول فيه:
كلما أدبني الدهر
اراني نقص عقلي
وكلما ازددت علما
ازددت علما بجهلي
– هذه أول مرة أسمع هذا البيت من الشعر كاملا.





ابوالوليد المسلم 03-10-2023 05:09 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

سلامة الصدر



أفضل طرق الجنة سلامة الصدر
– قرأ إمامنا في العشاء الآخر آيات من سورة الشعراء: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء). غلبته العبرة؛ فبكى، وخيم الصمت على الجماعة، بعد الصلاة، التفت إلينا، وبعد المقدمة قال:
– هذه الآية تختصر للعبد أسباب النجاة يوم القيامة، في سبب واحد وهو (القلب السليم)، وفي صحيح ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: «قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد».
أنهى إمامنا خاطرته التي لم تتجاوز خمس دقائق، في شرح هذا الحديث.
خرجت وصاحبي آيبين إلى منازلنا مشيا، كما أتينا.
– كثيرا ما ننسى عبادات قلوبنا وطاعاتها، ونغفل أن عبادة القلب أعظم من عبادة البدن، ومعصية القلب أشد من معصية الجوارح، وسلامة القلب عبادة عظيمة، ينبغي أن ينتبه لها العبد ولا يغفل عنها.
– صدقت يا أبا سالم، عبادات القلب تتطلب مجاهدة دائمة ومراقبة مستمرة؛ لأنها عبادات لا يحدها وقت، ولا ترتبط لا بالشمس ولا بالقمر ولا بالليل ولا بالنهار، وسلامة الصدر من العبادات القلبية العظيمة، من أداها فاز، ومن تخلف عنها حرم القبول والمغفرة، حتى يلتزم بها.
استغرب صاحبي مقالتي.
– نعم (أبا سالم)، في الحديث عن أبي هريرة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا» مسلم. وفي رواية: «اركوا هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا» مسلم. وهذا هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمره لأمته، كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه . قال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» متفق عليه. وذلك أن الهجران والتدابر أصله شيء في القلب؛ فإذا وقع ولم يستطع أن يزيل ما في قلبه، فليتواصل مع أخيه؛ فإن هذا يزيل ما كان في القلب، أيا كان، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم -، «يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم – أهم أسباب هذا المرض، ومبدأه، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاشدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» (البخاري). بغلنا منزل صاحبي وهو الأقرب إلي المسجد، دعاني للدخول اعتذرت بأن لي موعدا مع أهلي، تابعنا الحديث.
– فالعبد إذا نظر إلي فداحة النتيجة، (الحرمان من المغفرة) هان عليه أن يتنازل لأخيه المسلم، وإن كان مخطئا. وأحدنا ينبغي أن يبذل الأسباب حتى يصل إلى سلامة صدره وذلك في كل حين، وأول الأسباب الإخلاص والصدق مع الله؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (رواه أحمة وصححه الأرناؤوط)، ومن أسباب سلامة الصدر، الرضا بما قسم الله، وحسن الظن بالمسلمين، وعدم تتبع عوراتهم وزلاتهم، والستر على المسلم كما في الحديث:
عن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: صعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ المنبر فنادى بأعلى صوته: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» صحيح أبي داود.
وفي الحديث المتفق عليه: «إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث»، وفي زماننا هذا كثير من الناس ينقل الأحاديث عن الآخرين ويسوغ عمله بديباجة: (يقولون…) وهو أحد القائلين.
هناك حديث سمعته في الإذاعة قبل فترة عن سلامة الصدر ولا أعلم مدى صحته. أخرج صاحبي هاتفه، بحث عن الحديث وأخذ يقرأ علي.
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كنا جلوسا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي – صلى الله عليه وسلم – تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت. فقال: نعم. قال أنس: وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه، ذكر الله -عز وجل- وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا. فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق».
– نعم هذا الحديث اختلف في صحته علماء الحديث، وآخرهم العلامة الألباني -رحمه الله-، حيث صححه، ثم تراجع عن صحته وأخرجه في السلسلة الضعيفة، ولكن يبقى موضوع سلامة الصدر من العبادات القلبية العظيمة، وهي من أعظم النعم على أهل الجنة لتمام التنعم.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجرات:47).
وإليك هذا الحديث الصحيح، كان الصحابي أبو ضمضم إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به علي الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي؛ فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم؟» صحيح أبي داود. وكذلك ما صح من أحاديث ليلة النصف من شعبان، ومنها حديث أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ينزل الله -تبارك وتعالى- ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لكل نفس، إلا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله -عز وجل» صحيح لغيره.
وفي رواية: «يطلع الله -تبارك وتعالى- إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (صحيح).





ابوالوليد المسلم 10-10-2023 03:29 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

الأنس بالله – من كان قريبا من الله أنس به


- يغمرني أحيانا شعور بأني أريد أن أكون وحدي بعيدا عن البشر وعن العمران، في الصحراء، أو في البحر، أذكر الله، (سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وأمجده (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وأثنى عليه: (الحمدلله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد -الحمدلله كثيرا- الحمدلله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه)، أشعر براحة قلبية، في هذه الأحوال، ولاسيما عندما تكون في الشوارع المزدحمة والأسواق المكتظة.
يحتاج المرء بين فترة وأخرى أن يختلي بنفسه، ليعبد الله، فيذهب إلى العمرة منفردا، أو يقيم الليل بعيدا عن الناس ويأنس بالتقرب إلى الله.
كنت وصاحبي في طريق عودتنا من زيارة لأخ لنا في المشفى عدناه بعد صلاة العشاء، بناء على رغبته.
- الأنس بالله، من أعمال القلوب، يجد فيه العبد حلاوة الإيمان، وحلاوة مناجاة الله، وحلاوة الذكر والدعاء، والتضرع، كل شيء يصدر من القلب، ولعل هذا الشعور، هو الذي يبث الراحة في القلب، فيستشعر العبد قوله -تعالى-: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود:٦١)، وقوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النمل:١٢٨)، معية تأييد وأنس وقبول.
- نعم، هذا العمل من أعمال القلوب، يبلغه العبد بعد منازل أخرى من الثقة، والطمأنينة، والتوكل، والإفاضة، فيستحضر العبد لطف الله، وإحسانه، مع تقصيره في حق ربه، فيتضرع ويناجي، ويلقي أثقال الدنيا، ويفرغ قلبه من هموم الحياة، ويملأه بذكر الله، والخوف من الله، وحب الله، والرغبة بما عند الله، والزهد في الدنيا، فينال من الأنس والأمان والطمأنينة ما لا يتحصله بأموال الدنيا كلها، أخذ صاحبي هاتفه.
- دعنى أبحث لك عن الأنس بالله من أقوال العلماء، في أقل من دقيقة، ظهرت نتائج البحث، وأخذ صاحبي يقرأ:
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: «ومن علامات صحة القلب: ألا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر» انتهى (إغاثة اللهفان:ص72).
فالأنس بالله -تعالى- حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام. قال أحد السلف: «مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته».
فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعليقا على الحديث-: فهذان مقامان أحدهما-: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه.
الثاني- أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان. ويتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله، والخلوة لمناجاته وذكره، واستثقال ما يشغل عنه مخالطة الناس والاشتغال بهم؛ فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد، حصل له الأنس بالله -تعالى-، ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب -سبحانه-، والقرب منه -جلا وعلا- يوجب الأنس.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «والقريب يوجب الأنس والهيبة والمحبة» (مدارج السالكين). ويقول كذلك -رحمه الله-: «وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب، فكلما كان القلب من ربه أقرب، كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد، كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد» (انتهى) من (مدارج السالكين: 95/3).
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «هذا الأنس المذكور مبدؤه التعبد بأسماء الله الحسنى التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها، كاسم الجميل، والبر، واللطيف، والودود، والحليم، والرحيم، ونحوها» (انتهى) (مدارج السالكين 419/2). والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان، واستقرت قدمه فيه، وأنس بالله -تعالى- والتذ بطاعته وذكره.
قال العلامة السعدي -رحمه الله مقررا ذلك في منظومته، واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة-:
عبدوا الإله على اعتقاد حضوره فتبؤوا في منزل الإحسان
وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدرج «للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها، فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه».
ولذا فإن الأنس بالله -تعالى- ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: «فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش». (انتهى) (مدارج السالكين: 406/2).
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين! فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين!» (انتهى) من (صيد الخاطر: ص213).
قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد -رحمه الله-: «هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: لا، ولا من يهم بالمعصية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: «من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية».
إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا، فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبائهم، فاجعل أنسك بالله.


ابوالوليد المسلم 10-10-2023 03:31 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

– خشوع القلب لما نزل من الحق واجب


- من محاسن حضور الجماعة، سؤال الإخوة عنك إذا غبت عن صلاتين أو ثلاث، على غير عادتك؛ لذلك عندما التقيت (أبا وليد) بعد غياب يومين عن صلاة الجماعة، صافحته بحرارة، وسألته عن السبب.
- الحمدلله، كل الأمور بخير -بفضل الله.
رافقني بعد الصلاة.
- بصراحة لا عذر لي في الغياب، ولكني شعرت أنني لا أخشع في صلاتي بالمسجد، فأصابني الكسل، وحديث نفس ووسوسة: بألا داعي للذهاب إلى المسجد؛ فكنت أصلي في البيت.
- أعلم ذلك، ولا عذر لي كما قلت لك، ولكن أود أن أصلي بخشوع، كما قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون).
- الخشوع عمل قلبي، يجتهد الإنسان في تحصيله، ويزيد وينقص، وربما يغيب أحيانا؛ ففي الحديث عن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي أحد كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيني أبو بكر - رضي الله عنه - فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلقنا؛ فلما رآه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، قال : وما ذاك؟ قلت: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي طرقكم، وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً.. ثلاث مرات» رواه مسلم.
فالمسلم تتقلب حاله، من زيادة الإيمان والخشوع والتقوى وتنقص، ولكن لا يترك صلاة الجماعة؛ بزعم أنه لا يخشع فيها.
توقفنا عند مركبته.
- ما معنى الخشوع؟
- لفظ (خشع) ورد في القرآن سبع عشرة مرة، جاء في خمسة عشر موضعا بصيغة الاسم، مثل قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وجاء في موضعين بصيغة الفعل في قوله -تعالى-: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طه:108)، وقوله -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (الحديد:16).
ولفظ (خشع) له أربعة معان:
- الأول: التصديق والتسليم، مثل قوله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45).
قال الطبري: إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده.
- الثاني: التواضع والخضوع، مثل قوله -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90). أي متواضعين خاضعين.
وقوله -عز وجل-: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} (القلم:43)، أي: خاضعة أبصارهم للذي هم فيه من الخزي والهوان.
- الثالث: التذلل: ومنه قوله -تعالى-: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، قال الطبري: خشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته وقيامهم بما أمرهم بالقيام به فيها.
- الرابع: سكون الجوارح، ومنه قوله -تعالى-: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} (طه:108)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سكنت.
والخشوع من آخر ما يتحصله العبد في العباد بعد مجاهدة، ولذلك يكون أول ما يفقده، كما قال حذيفة: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع.
وقال الحسن البصري: الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب؛ لذلك اتفقوا أن الخشوع محله القلب.
وخشوع كل عبد على قدر علمه بربه، ويتحصله الإنسان في الصلاة بحضور قلبه، فعلى قدر حضور القلب في القراءة بتدبر وتفكر، وفي الركوع، وفي السجود، يكون الخشوع: إذا استحضر العبد أنه إذا كبّر للصلاة فإنه يقف بين يدي الله (أي أمام الله -عز وجل).
فإذا قال العبد الحمدلله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبد ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل. (مسلم) عن أبي هريرة.
هذا في الفاتحة، وهكذا ينبغي أن يستحضر العبد قلبه، فيسمع ما يقرأ، فتدخل المعاني قلبه، ويتحصل الخشوع.
- أحيانا، يتصنع المرء هيئة الخشوع، وليس بخاشع!
نظرت إلى صاحبي مبتسما.
- ولماذا يتصنع الخشوع؟
لم انتظر إجابته، تابعت حديثي.
يقول الفضيل بن عياض: يكره أن يرى على الرجل الخشوع أكثر مما في قلبه.
ويقول ابن القيم -في الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق-: «خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء؛ فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نعم الله؛ فيخشع القلب لا محالة؛ فيتبعه خشوع الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا، والقلب غير خاشع».
أردت أن أنهي الحديث ليذهب كل منا لحاجته.
- يا أبا وليد، حضور الجماعة، عمل جسدي، تسمع الأذان، فتتوضأ وتخرج من بيتك، وتأتي إلى المسجد فتصلي مع الإمام، هذه الأمور تجلب لك ما لا يحصى من تكفير السيئات وتكثير الحسنات، ورفع الدرجات، وبعد ذلك تتحصل على ما تريد من التقوى والخشوع والإنابة، إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وفقني الله وإياك.


ابوالوليد المسلم 10-10-2023 03:32 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

– مفتاح الرغبة في الآ خرة الزهد في الدنيا


تميز الشيخ (حامد) بخطب الموعظة والترغيب والترهيب، صوته الجهوري وأسلوبه الخطابي، ولغته السلسة، جعلت مسجده قبلة من أراد أن يرق قلبه، وتذرف عينه، ويتذكر الآخرة في خطبة الجمعة.
طلب صاحبي أن نصلي عنده آخر جمعة من العام الميلادي (2022)، ظنا أننا سنكون في الصف الأول، ولما وصلنا المسجد قبل الأذان الأول، لم نجد مكانا إلا في الصف الثالث، فأدينا السنة، وجلست أقرأ سورة الكهف، وبقي صاحبي يصلي ركعتين إلى أن يصعد الخطيب المنبر، وهذه عادته دائما. لم يخيب ظننا الشيخ حامد، ألقى موعظة بليغة عن قيمة الوقت، وفناء الدنيا واغتنام الفرص للاستزادة والاستعداد للآخرة.
دعنا نستعيد ما ذكره الشيخ، جزاه الله خيرا.
كنا في انتظار خروج المركبات من المواقف، وهذا يستغرق بعض الوقت لكثرة المصلين.
- مدار (الرغبة والرهبة) اللذان لابد أن يكونا مجتمعين في قلب كل مؤمن، مدارهما الشكر وطلب العافية والتوبة النصوح، وهما (الرغبة والرهبة) مفتاح التوفيق، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
علقت على كلام صاحبي.
- وهنا ذكر الشيخ قضية مهمة، وهي أن (الرغبة والرهبة) بيد الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، ويضعهما الله في قلب العبد إذا كان القلب صالحا لهذه الهبة، فعلى العبد أن يهيئ قلبه، ويدعو ربه، فيرزقه الله (الرغبة والرهبة)، وهما أساس التوفيق والفلاح.
- والموعظة، التي هي الأمر والنهي مقرونان بالرغبة بالنعيم والرهبة من العذاب، يحتاجها، المنيب الطائع، والمعرض الغافل، والمعارض المتكبر، أرسل الله موسى وهارون إلى الطاغية فرعون، ليعظاه، ويذكراه، ويأمراه، وينهياه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه44). {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (طه:48). وكذلك الموعظة لخيرة البشر (الصحابة) كما في الحديث عن عرباض بن سارية: «وعظنا رسول الله -[- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون» (صحيح أبي داود).
تيسرت أمورنا، وتمكنا من الوصول إلى الطريق السريع الموصل إلى المنازل التي لا تبعد إلا سبع دقائق عن المسجد.
- هل لك أن تبحث في كتاب الله عن آيات الرغبة والرهبة؟
- لك ذلك يا (أبا صالح).
- سبحان الله! هكذا بدأت حديثي بعد أن انتهيت من البحث في هاتفي.
- اسمع يا (أبا صالح).
الرغبة بمشتقاتها تكررت 8 مرات في كتاب الله، والرهبة بمشتقاتها تكررت 8 مرات في كتاب الله، واجتمعت (الرغبة والرهبة) في آية واحدة فقط هي قوله -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90).
أما الآيات فهي:
1- {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة:59).
2- {عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم:32).
3- {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة:130).
4- {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} (النساء:127).
5- {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة:120).
6- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} (الشرح).
7- {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (مريم:46).
وآيات الرهبة:
1- {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} (الحشر:13).
2- {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40).
3- {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف:116).
4- {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف:154).
5 - {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60).
6- {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} النحل:51).
7- {سْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (القصص:32).
- إنه كلام الله -سبحانه.
واسمع هذه الموعظة التي ظهرت لي للتو:
قال علي بن أبي طالب -رضي اله عنه -: إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم! فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب، فسوفها بالتأميل والإرغاب، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت. ثم ضمنها تلاوة كتابه المنزل ليتدبر ما فيه، من أوامره ونواهيه، ويعد إعجاز ألفاظه ومعانيه، ثم بأوقات راتبة، وأزمان مترادفة؛ ليكون ترادف أزمانها وتتابع أوقاتها سببا لاستدامة الخضوع له والابتهال إليه، فلا تنقطع الرهبة منه ولا الرغبة فيه، وإذا لم تنقطع الرغبة والرهبة استدام صلاح الخلق. وبحسب قوة الرغبة والرهبة يكون استيفاؤها على الكمال أو التقصير فيها حال الجواز. (انتهى).
وفي القرآن الكريم من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت عند الإنسان الرغبة في الخير والرهبة من الشر أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوات نفسه، وينبغي أن يجمع في دعائه بين الرغبة والرهبة.
ومن حسن الدعاء الجمع فيه بين الرغبة والرهبة، فإنها من سنن الأنبياء قبلنا، قال -تعالى- عن زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90). ومن كمال الدعاء أن يجمع الداعي حال دعائه بين الرغبة والرهبة والتوبة: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.



ابوالوليد المسلم 10-10-2023 03:34 PM

رد: أعمال القلوب
 
أعمال القلوب

د. أمير الحداد

لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه

في إحدى زياراتي القصيرة إلى الشارقة، رافقني (أبو عبدالله)، وهو من محبي السفر في المركبة، وأنا أستثقل السفر بالمركبة، ولاسيما إذا لم تكن مدة السفر تزيد عن خمسة أيام. كانت رحلتنا بهذه المركبة ليوم واحد، غادرنا الثلاثاء ورجعنا الأربعاء، استأجرنا مركبة من المطار، وكالعادة بدأنا الرحلة بتناول الغداء في مركز التسوق الرئيسي في عجمان. - وهل يوصف القلب بالاستقامة؟ لأن الحديث الذي أعرفه يرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابة، فيقول: «قل آمنت بالله، ثم استقم» كأنه يأمره بالتزام العمل الصالح. - تعني حديث سفيان بن عبدالله الثقفي: «أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: قل آمنت بالله ثم استقم، فقال الرجل: يا رسول الله، وما أخوف ما تخاف علي؟ فأشار أو أومأ إلى لسان نفسه» (مسلم). - نعم هذا الحديث. - في الشرح بيان بأن الاستقامة ثمرة للإيمان الصحيح، فلا استقامة نافعة إلا بعد الإيمان الصحيح، وهذا عمل قلبي، قال ابن رجب: «والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها: الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها» انتهى كلامه. أحضر العامل غداءنا، وتابعنا حديثنا. - فالاستقامة، تعني السير على المنهج الصحيح دون إفراط ولا تفريط ودون زيادة أو نقصان، وإذا وقع العبد في تقصير، تاب ورجع إلى الصراط المستقيم. أما وصف القلب بالاستقامة فقد ورد في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (صحيح الترغيب)؛ فالقلب هو أساس الاستقامة، بأن يلتزم الصراط المستقيم، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «الاستقامة: أن تسقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب». - تشبيه جميل، وربما يمكننا أن نقرب المعنى لعامة الناس بأن تقول لأحدهم: ارسم لي خطا مستقيما، فإذا رسمه، قل هذه هي الاستقامة، دون اعوجاج، ولا دوران، بل التزام بالمنهج الصحيح الذي جاء من عند الله. - من أين أتيت بفكرة الخط المستقيم؟ أعجبتني!. - خطرت على بالي، وربطت بين أحرف (استقامة) و(خط مستقيم). - أحسنت! - دعني أقرأ لك بعض الآيات التي وردت في الاستقامة، يقول -تعالى-: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6). ويقول -سبحانه-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112). ويقول -عز وجل-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} (فصلت:6). ويقول -سبحانه-: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن). ويقول -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:3). وأخيرا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف:13). قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: «فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسألون غيره..» مجموع الفتاوى ج 28 ص32. أنهينا غداءنا، وتوجهنا إلى مركبتنا، رفع أذان الظهر، نظرت إلى صاحبي، قررنا أداء الصلاة ثم متابعة بنود جدول أعمالنا. بعد الصلاة، وقد جمعنا العصر قصرا بعد صلاة الظهر، تامة. - الآية، من سورة هود: {فاستقم كما امرت}، سمعت أنها أشد آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم . - الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «شيبتني هود وأخواتها». وفي رواية، عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شمروا شمروا.. وما رؤي ضاحكا بعدها». انطلقنا إلى منزلنا، لنأخذ الغرف، ونضع الأمتعة قبل أن نذهب إلى موعدنا في موقع البناء لنلتقي بمهندس المشروع الساعة الثالثة عصرا. إن الاستقامة تعنى: الاعتدال والتوازن، إنها في الحكمة والإصابة والسداد، والاستقامة مطلب نفيس وعظيم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة». والاستقامة تحتاج إلى جهد وصبر ومجاهدة، وذلك بعد عون الله وفضله وتوفيقه؛ فهو -سبحانه وتعالى- الموفق لسلوك طريق الاستقامة، بل أمر عباده أن يسألوها ويطلبوها منه -عز وجل- في كل وقت، بأن يقول العبد في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6). ويقول -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153). فالمطلوب من العبد الاستقامة؛ فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة.. جاء في الحديث عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن» (صحيح ابن ماجه)، وقوله: «استقيموا، ولن تحصوا». أي: لن تطيقوا ولن تبلغوا كل الاستقامة، لكن على الإنسان المسلم أن يحاول، فإن لم يقدر على السداد فالمقاربة .. كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر بقوله: «سددوا ، وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (صحيح الجامع). فالاستقامة هي الاتباع لا الابتداع مع إخلاص القلب لله -عز وجل.



الساعة الآن : 02:28 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 254.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 253.13 كيلو بايت... تم توفير 1.44 كيلو بايت...بمعدل (0.56%)]