فقه الدعوة
فقه الدعوة (4) د.وليد خالد الربيع ذكرنا في الحلقة السابقة أن من فقه الدعوة العلم بأن درجات الواجب تتفاوت، فهناك الواجب العيني، وهناك الواجب الكفائي، وأن من البصيرة في الدعوة أن يدرك الداعية حكم الدعوة في الجملة وأحوالها المختلفة التي يختلف الحكم الشرعي باختلافها. وأشرنا إلى أن الدعوة إلى الله في حق الحاكم واجبة؛ حيث إن من واجبات الإمام الدفاع عن الدين ورد الشبهات ومنع الزائغين من المبتدعة والعصاة من هدم أركان الدين بشبهاتهم ومخالفاتهم . -فضل الدعوة : تقدم أن الدعوة إلى الله في حق الحاكم واجبة؛ لأن الحاكم خليفة عن النبي[ والدعوة إلى الله من مهام الرسل، وأن الأصل في الدعوة إلى الله في حق الأفراد أنها فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وقد يصبح الوجوب عينيا على الشخص القادر إذا لم يقدر عليه غيره لعلمه أو لسلطته . وللدعوة إلى الله عز وجل - مع كونها من فرائض الدين - فضل كبير وأجر وفير ومنزلة رفيعة، يدل على ذلك ما جاء في أهمية الدعوة وفضلها من نصوص عديدة تؤكد هذا المعنى وتقرره بكل وضوح. - فمن القرآن الكريم: يكفي الدعوة فضلا وشرفا أن الله عز وجل تولاها في القرآن فقال تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (يونس: 25) قال الشيخ ابن سعدي: «عمم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام والحث على ذلك والترغيب فيه، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل». وقال عز وجل: {أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} (البقرة: 221) قال الشيخ ابن سعدي: «أي يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة التي من آثارها دفع العقوبات، وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة والتوبة النصوح، والعلم النافع والعمل الصالح، ويبين آياته: أي أحكامه» اهـ. ومن فضل الدعوة أن الله عز وجل سنها وشرعها وأمر بها فقال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125) وقال تعالى: {فلا ينازعُنّك في الأمر وادع إلى ربك} (الحج: 67)، وقال: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (الشورى: 15) قال الشيخ ابن سعدي: «فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك، ومن المعلوم أن أمر الرسول[ أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له» اهـ. وقال عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104) قال ابن كثير: يقول تعالى: «ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» اهـ. ومن فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء والمرسلين، قال عز وجل: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل: 36) قال ابن سعدي:«يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث فيها رسولا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له» اهـ. ومن شرف الدعوة أنها من هدي النبي محمد [ إمام المتقين وخاتم النبيين، قال عز وجل: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} (سبأ: 28) وقال سبحانه لنبيه الكريم: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف: 108) فبين أن طريقة النبي [ وأتباعه هي الدعوة إلى الله تعالى على علم ويقين بلا شك ولا امتراء، وقال عز وجل: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67)، وقال عز وجل: {يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (الأحزاب: 45-46) قال الشيخ ابن سعدي: «هذه الأشياء التي وصف بها رسوله محمدا [ هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه شاهدا على أمته بما عملوه. الثاني والثالث: كونه بشيرا ونذيرا وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر وما يبشر به وينذر والأعمال الموجبة لذلك. والرابع: كونه داعيا إلى الله، أي أرسله الله يدعو الخلق إلى ربهم ويشوقهم لكرامته ويأمرهم بعبادته. والخامس: كونه سراجا منيرا، وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور يهتدى به في ظلماتها ولا علم يستدل به في جهاتها، حتى جاء الله بهذا النبي الكريم فأضاء الله به تلك الظلمات وعلم به من الجهالات» اهـ باختصار. والله تعالى قد أكرم الأمة الإسلامية فجعلها خير الأمم لقيامها بهذه الشعيرة وتخلقها بهذه الفضيلة، فقال عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110) وأخرج البخاري عن أبي هريرة أنه قال: «خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام»، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «أنفع الناس للناس» وقال ابن سعدي: «هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب التي تميزوا بها وفاقوا بها سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس نصحا ومحبة للخير ودعوة وتعليما وإرشادا وأمر بالمعروف ونهيا عن المنكر وجمعا بين تكميل الخلق والسعي في منافعهم - بحسب الإمكان - وبين تكميل النفس بالإيمان بالله والقيام بحقوق الإيمان» اهـ. ومن فضائل الدعوة أن الله تعالى أثنى على القائم بها فقال: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} (فصلت: 33) قال الحسن البصري: «هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله» اهـ. وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (النساء: 114)؛ فبين أن كثيرا من كلام الناس لا خير فيه إلا ما استثني ففيه الخير، ومنه الأمر بالمعروف ويدخل فيه الدعوة إلى الله تعالى ودينه القويم. - ومن السنة المطهرة : ما جاء أن من فضائل الدعوة إلى الله الأجر المتتابع الذي يحصل للداعي بسبب دعوته كما قال[: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم، قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث - وما أشبهه من الأحاديث - فيه الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الضلالة والغي، والهدي هو العلم النافع والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجّـه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم فهو داع إلى الهدى، وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله أو بحقوق الخلق العامة والخاصة فهو داع إلى الهدى، وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله فاقتدى به غيره فهو داع إلى الهدى، وكل من تقدم غيره بعمل خيري أو مشروع عام النفع فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة. فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار. وكل من عاون غيره على البر والتقوى فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة» اهـ. ومن فضل الدعوة إلى الله عز وجل ما جاء في قوله[: «لَأَن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» متفق عليه، قال النووي: «هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، قال: وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة» اهـ. وقال[: «نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه» أخرجه الترمذي، وله ألفاظ أخرى، قال شراح الحديث: النضرة: الحسن والرونق، والمعنى: خصه الله بالبهجة والسرور؛ لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمه في الآخرة حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة، ثم قيل: إنه إخبار بمعنى: جعله ذا نضرة، وقيل: دعاء له بالنضرة وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة ، وفي الحديث فضل تبليغ الدين والعلم وما يلحق الداعي والمبلغ من النضرة والبهاء . ومن فضل الدعوة إلى الله أنها سبب لمنع العذاب، قال[: «والذي نفسي بيده لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» أخرجه الترمذي، قال شراح الحديث: «والمعنى: والله إن أحد الأمرين واقع إما الأمر والنهي منكم، وإما العذاب من ربكم، ثم عدم استجابة الدعاء في رفعه عنكم ، بحيث لا يجتمعان، فإن كان الأمر والنهي لم يكن العذاب، وإن لم يكونا كان عذاب عظيم. ومن فضل الدعوة أنها صمام أمان للمجتمع من الهلاك والضلال كما قال[: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (5) د.وليد خالد الربيع ذكرنا في الحلقة السابقة أن الدعوة إلى الله من فرائض الدين، وأشرنا إلى فضلها الكبير وأجرها على الداعي، وعرضنا بعض النصوص من الكتاب والسنة التي تؤكد أهمية الدعوة وفضلها، وقلنا: إن من فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء والمرسلين، أنها صمام أمان للمجتمع من الهلاك والضلال. -أهداف الدعوة: بينت النصوص الشرعية الغايات السامية والمقاصد العالية للدعوة الإسلامية, ويمكن إيجاز تلك الغايات في مقصد كلي وهو هداية الناس عموما وخصوصا في الدنيا والآخرة, يظهر هذا من فاتحة الكتاب التي اشتملت على مقاصد القرآن الكلية، وفيها قال عز وجل مبينا الغاية والوسيلة: {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم}, ثم قرر ذلك في أول سورة البقرة في قوله عز وجل: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}، ووضح تلك الهداية تفصيلا في آيات هذه السورة العظيمة, ثم أكد هذا المقصد في مطلع سورة آل عمران بقوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} أي هو كذلك هدى للناس, وهكذا في كل موضع يذكر فيه القرآن تجد الإشارة إلى معنى الهداية فيه ابتداء أو انتهاء، أو بما فيه من النور والمواعظ والأحكام والأخبار التي تهدي إلى صراط الله تعالى في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة. وكذلك الآيات التي بينت مقصد البعثة المحمدية دلت على أن الهداية العامة والخاصة هي المصلحة العظمى من الدعوة إلى الله؛ كما قال عز وجل: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}, وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}, وقال عز وجل: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض}, وقال عز وجل: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}. ولنا وقفة مع بعض وجوه الهداية الربانية التي اشتملت عليها الدعوة الإسلامية: -أولاً- تحقيق العبودية لله عز وجل وحده ونبذ الشرك والكفر: من أعظم وجوه الهداية التي قررتها الدعوة الإسلامية ومن قبلها كل دعوات الأنبياء والرسل السابقين، تحقيق العبودية لله تعالى وحده ونبذ العبودية لما سواه، كما قال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}, وبين سبحانه أن هذا المقصد هو لب بعثة كل نبي ورسول، فقال عز وجل: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. والقرآن كله في تقرير هذه القضية الكبرى والغاية العظمى, فهو إما حديث عن الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة, وإما دعوة إلى عبادته وحده، وإما نهي عن الشرك به, وإما خبر عن نصره لأوليائه وما أعد لهم في الآخرة, وإما خبر عن أعدائه وما أعد لهم في الآخرة. وبالنظر إلى سيرة النبي الكريم [ تجد أنها تدور حول الدعوة إلى الإيمان بالله وحده وامتثال شرعه وترك الإشراك به وعصيان دينه, وقد لخص ذلك في كلامه لقومه حين قال لهم: «قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم»، وعندما أرسل معاذا إلى اليمن بين له أهداف الدعوة وأولويات الرسالة فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، وفي رواية: أن يوحدوا الله, وفي رواية: إلى التوحيد, وقد استمر [ على هذا النهج إلى أن توفاه الله وهو يدعو إلى التوحيد ويدافع عنه ويحمى حماه أن ينتقص أو ينتهك. - ثانياً- تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وفق المنهج الرباني: قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة, رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم؛ قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}, فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها, ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير, ثم صلاح السريرة الخاصة, وهي العبادات الظاهرة كالصلاة, والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. أما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه, ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرفات الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات, ومواثبة القوى النفسانية, وهذا هو علم المعاملات, ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي, وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع, ورعي المصالح الكلية الإسلامية, وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها, ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع» اهـ. فتزكية النفوس من مقاصد الدين الحنيف؛ قال عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}, وقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. فالله عز وجل يمتن على عباده في هاتين الآيتين وغيرهما ببعثة النبي الكريم[ الذي أنقذهم به من الضلالة وعصمهم به من الهلاك وأخرجهم به من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإسلام والإيمان والإحسان, وبين أن من مهمات الرسول تعليم الناس آيات الله عز وجل ببيان ألفاظها ومعانيها وأحكامها، ومن أعظم وظائفه تزكية الناس بتخليتهم من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر مساوئ الأخلاق. فتزكية النفوس وتطهيرها من سوء الاعتقادات وسوء الأخلاق من أعظم غايات البعثة كما قال [: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وتزكية النفوس هي تطهيرها وتطييبها وتنقيتها من القبائح والرذائل العقدية كالشرك والشك والشقاق والنفاق, أو الأخلاقية كالجبن والبخل والحسد والظلم والكذب, وتجميلها بالفضائل ومحاسن الصفات التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة. فالنفس الزكية هي النفس الطيبة البعيدة عن كل دنس, المتعالية عن كل خبث؛ ولهذا أقسم الله عز وجل بمخلوقات عديدة في قوله تعالى: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} على قضية واحدة وهي قوله عز وجل: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} أي فاز من طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب وجملها بالعلم النافع والعمل الصالح, وقد خسر من ترك تكميلها بالفضائل، ودنسها بالرذائل. وتزكية النفوس منـّّة من الله عز وجل على من يشاء من عباده؛ كما قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكَا منكم من أحد أبدا}؛ لأن الشيطان وأتباعه, والنفس والهوى والدنيا والفتن متكالبة على العبد من كل مكان, فلو خلي وهذه الدواعي ما زكا أحد أبدا, ولكن الله تعالى بفضله يجتبي من يشاء من عباده فيطهره من الرذائل وينميه بالفضائل. ولتزكية النفس ثمرات عظيمة، منها أن التزكية سبب للفلاح في الدنيا والآخرة كما قال عز وجل: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}, ومنها دخول الجنة كما قال تعالى: {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}, ومنها النجاة من النار كما قال تعالى: {فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيُجنّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى} وغيرها من الثمرات الطيبة للتزكية الشرعية. والدين كله سبيل للتزكية, فالشريعة الإسلامية بما فيها من اعتقادات وعبادات وأخلاق وأحكام شرعية في المجالات المختلفة، كلها طريق لتزكية النفوس. فالتوحيد وتصحيح الاعتقاد والإيمان تزكية؛ لأنه اعتراف وإقرار بالإله الواحد وتوجه إليه وحده بالعبادة وتنزيه له سبحانه عما لا يليق به من الصفات والأفعال؛ ولهذا وصف الله عز وجل المشركين بالقذارة المعنوية فقال: {إنما المشركون نجس} أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم, وأي نجاسة أبلغ ممن يعبد مع الله إلها آخر لا ينفع ولا يضر ولا يغني عنه شيئا؟! وأعمالهم ما بين صد عن سبيل الله ونصر للباطل وإفساد في الأرض, فأي ضلال ورجس أعظم من هذا؟! ولهذا قال موسى عليه السلام لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} أي هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم وتطيع؟ فالهداية والإيمان والتوحيد من أعظم سبل التزكية, والكفر والشرك من أكبر أسباب الفساد. والعبادات البدنية والمالية سبيل لطهارة النفس وزكاتها, فالصلاة كما وصفها الله عز وجل: {تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقال[: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات, هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»، والصيام سبب للتقوى التي هي من غايات التزكية الشرعية كما قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}, والزكاة تطهير للمال ولنفس المزكي من الشح والبخل كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}, وإقامة حدود الله تعالى في العقوبات طهارة للمجتمع من الجرائم وإشاعة للأمن والاستقرار كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}. والخلاصة أن التزام أحكام الدين في الظاهر والباطن, في العلم والعمل, في العبادات والمعاملات وسائر مجالات الحياة سبب لتزكية الأفراد والمجتمعات. - ثالثاً-: إقامة الحجة لله تعالى: من أهداف بعثة الرسل إقامة الحجة على أقوامهم, قال شيخ الإسلام: «فإن الله أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين» كما قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}, وأتباع الرسول[ هم خلفاؤه في مهمته, ومن ذلك إقامة الحجة لله تعالى بالبلاغ والبيان والدعوة, والمدعو إما أن يستجيب فيهتدي فهو المطلوب الأعلى, وإما أن يعاند ويعرض فتقوم عليه الحجة وينقطع عذره؛ ولهذا قال تعالى لرسوله[: «{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال: {إن عليك إلا البلاغ}, فالمطلوب هو القيام بالدعوة والبلاغ، أما الهداية فهي بيد الله تعالى يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله. والبيان المطلوب قد يكون لأصول الدين وأسسه التي يقوم عليها كالإيمان والتوحيد وفرائض الإسلام والمحرمات القطعية كالشرك والكفر والنفاق وكبائر الذنوب , وقد يكون لبعض فروعه من السنن أو فضائل الأعمال أو محاسن الأخلاق, فالدعاة إلى الله لا يهملون حقيقة من حقائق الدين الكبرى أو الصغرى, ولا ينظرون إلى الأحكام الشرعية على أن بعضها لباب وبعضها قشور, بل الدين كله لباب ومهم، إلا أن درجة الأهمية تختلف كما جاء في حديث شعب الإيمان حيث قال [: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان». - رابعاً- إبراء الذمة بأداء أمانة الدعوة والخروج من عهدة التكليف: الدعوة إلى الله تعالى واجب المسلمين, وأمانة في أعناقهم؛ كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}, وقال [: «بلغوا عني ولو آية», وقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان». فالمسلم عندما يقوم بهذه المهمة فإنه يؤدي الأمانة التي حملها المسلمون ويخلي مسؤوليته أمام الله تعالى, كما أخبر الله تعالى في قصة أصحاب السبت: {قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا هو المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة وإقامة حجة على المأمور والمنهي» اهـ. كما أن الداعي ينصر الله بالدعوة إلى دينه والتحذير من مخالفة أمره كما قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}, وقد وعد سبحانه عباده القائمين بأمره بالنصر والتمكين فقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}, فلا يكسل الداعي ولا ييأس ولا يقنط, وليعلم أنه دائما على خير ما دام قائما بأمر الله تعالى من الدعوة. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (6) د.وليد خالد الربيع ذكرنا في الحلقة السابقة أن النصوص الشرعية بينت المقاصد العالية للدعوة الإسلامية التي هي هداية الناس، وتحقيق العبودية لله عز وجل ونبذ الشرك والكفر، وتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وفق المنهج الرباني. شروط الدعوة: للدعوة إلى الله عز وجل شروط لابد من مراعاتها ليحصل الأجر والثواب في حق الداعي، ولتحقق الدعوة أهدافها في حق المدعو والمجتمع؛ لأن الدعوة إلى الله من أفضل العبادات، ومن أسمى القربات، وباب العبادات والقربات في الشرع المطهر منضبط بشروط وضوابط مستمدة من النصوص الشرعية والقواعد الكلية؛ حفظا للمكلفين من اتباع الهوى أو الانحراف في العبادات عن مقصودها بالغلو أو التقصير أو الابتداع والإحداث. الشرط الأول: الإخلاص من أهم شروط الدعوة إلى الله عز وجل الإخلاص قال الشيخ ابن باز رحمه الله في بيان أخلاق الدعاة: «يجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل، لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، وإنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} وقال عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله}، فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة «اهـ. والإخلاص: هو تصفية السر والقول والعمل من إرادة غير الله، ويكون في القلب والقول والعمل والحال. قال الدكتور سيد نوح رحمه الله مبينا حقيقة الإخلاص في الدعوة: «أن يقصد الداعية بكل ما يصدر منه من قول أو فعل وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، واضعا هذه الآية نصب عينيه: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت}. إن هذا الخلق إن توافر في الداعية حمله على بذل كل ما في طاقته، كل ما في وسعه في الدعوة إلى الله، وكان سببا في عون الله وتأييده وتوفيقه ونصره فيكون النجاح والفلاح. وفي سيرة الأنبياء والمرسلين وورثتهم على مدار الزمان كله ما يقطع بأهمية هذا الخلق في حياة الدعاة إلى الله ونجاحهم في كل ما يقصدون» اهـ. وقد تكاثرت الأدلة على وجوب الإخلاص وفضله في الجملة: فقال عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، وقال عز وجل: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} وقال عز وجل: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}. وقال [: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، وذكر منهم: رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» (أخرجه مسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (أخرجه مسلم)، وقال ابن عباس: من راءى بشيء في الدنيا من عمل وكله الله إليه يوم القيامة، وقال: انظر هل يغني عنك شيئا، وعن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «من يسمّع يسمّع الله به، ومن يراءِ يراءِ الله به» (متفق عليه) وعن محمود بن لبيد قال: قال النبي [: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (أخرجه أحمد). وعن أبي بن كعب أن رسول الله [ قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» أخرجه أحمد. قال عبادة بن الصامت: «يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميزوا ما كان منها لله عز وجل فيماز، ويرمى سائره في النار» وقال الفضيل: «ترك العمل من أجل الناس شرك، والعمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما»، وقال جعفر بن حيان: «ملاك هذه الأعمال النيات؛ فإن الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله». وقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الإخلاص وتجريد العمل لوجه الله: قال حذيفة: «ثلاث خصال إن كنّ فيك لم ينزل من السماء خير إلا كان لك فيه نصيب، يكون عملك لله عز وجل، وتحب للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرة من الطعام تحرّ فيها ما قدرت». قال بعض الوعاظ لمحمد بن واسع: «ما لي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر ؟» فقال محمد: «يا فلان ما أرى القلوب أتيت إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب». وعن ابن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: «لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق». قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة، يعني الحسن البصري، قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولا بفعل، وإن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنيا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟! وعن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل «، وقال عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون على آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا ؟ فقالوا: كان يحمل جراب الدقيق ليلا على ظهره فيعطيه فقراء المدينة». والطريق إلى الإخلاص بقطع الطمع فيما في أيدي الناس والزهد في الثناء والمدح؛ فلا يجتمع الإخلاص مع محبة الثناء والمدح والطمع فيما في أيدي الناس. قال الدكتور عبد الكريم زيدان: «المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله وهذا هو الواجب عليه، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس؛ قال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ}، فإذا كان الرسول غير مكلف إلا بالتبليغ، فغيره من آحاد الأمة أولى ألا يكلف بغير التبليغ». ثم يتبع ذلك ببيان بعض النتائج التي تبنى على هذا الأصل، فيقول: «إذا كان المطلوب من المسلم أن يدعو إلى الله وليس المطلوب منه أن يهدي الناس، فعليه أن يستمر على الدعوة بلا كلل ولا ملل ولا فتور؛ لأن واجبه البلاغ والتبيين، وهذا متعلق به فعليه أن يؤديه كما يؤدي سائر العبادات وإن لم يستجب له أحد». ويقول أيضا: «الداعي إلى الله يؤدي واجبا ويقوم بعبادة امتثالا لأمر الله، والأجر على العبادة يناله العابد من الرب الجليل تفضلا منه وإحسانا، وعلى هذا فلا يطلب الداعي من أحد من الخلق أجرا على دعوته ولا مالا ولا ثناء ولا جاها ولا أي عوض من الأعواض المادية أو المعنوية؛ قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام: {فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقال عن نبينا [: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} وهكذا جميع رسل الله يدعون الناس إلى الله ولا يبغون منهم جزاء ولا شكورا؛ لأن أجرهم على الله الكريم، قال عز وجل: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} اهـ. ويحذر الدكتور سيد نوح رحمه الله من خطر الرياء والسمعة على الدعوة والدعاة فيقول: «الآفة الثامنة التي يبتلى بها بعض العاملين، والتي تعد من أخطر الآفات، وأشدها فتكا بهم، وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم فورا للتخلص والتطهر منها و إلا ضل سعيهم في الدنيا والآخرة إنما هي الرياء أو السمعة.» ثم يوضح ذلك بقوله: «الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس «، ثم يذكر رحمه الله تعالى مجموعة من الآثار الضارة والعواقب المهلكة للرياء والسمعة يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- الحرمان من الهداية والتوفيق. 2- الضيق والاضطراب النفسي. 3- نزع الهيبة من قلوب الناس. 4- الإعراض من الناس وعدم التأثر. 5- عدم إتقان العمل. 6- الفضيحة في الدنيا والآخرة. 7- الوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس ثم الغرور ثم التكبر. 8- بطلان العمل. 9- العذاب الشديد في الآخرة. وتفصيلها في رسالته القيمة (آفات على الطريق). نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص لوجه الكريم، وأن يحفظنا جميعا من الرياء والنفاق والشرك والشقاق وسيئ الأخلاق، إنه سميع قريب مجيب |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (7) د.وليد خالد الربيع ذكرنا في الحلقة السابقة أن من أهم شروط الدعوة إلى الله تعالى التي يجب مراعاتها ليحصل الأجر والثواب في حق الداعي الإخلاص، لأنه يجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل، لا يريد رياء ولا سمعة. الشرط الثاني: العلم من شروط الدعوة إلى الله تعالى التي يجب مراعاتها العلم، فالدعوة إلى الله من العمل الصالح كما لا يخفى، وشرط العمل الصالح أن يكون مستندا إلى العلم الشرعي الصحيح، قال شيخ الإسلام: «ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلم وفقه، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح»، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «العلم إمام العمل، والعمل تابعه»، وهذا ظاهر؛ فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم، وهذا الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي». وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «العلم هو أساس الدعوة ومادة الدعوة، ولا يمكن أبدا لدعوة أن تتم على الوجه الذي يرضاه الله عز وجل إلا إذا كانت مبنية على العلم «، وقال: « كل دعوة بلا علم فإنها لابد أن يكون فيها انحراف وضلال؛ ولهذا حذر النبي [ من هذا الأمر عندما يقبض العلماء فلا يبقى إلا رؤساء جهال يفتون بغير علم فيضلون ويضلون»، وقال: «الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها؛ لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجها ومرشدا، فإذا كان جاهلا فإنه بذلك يكون ضالا مضلا والعياذ بالله»، وقال: « الدعوة إلى الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي [ ومن اتبعه، واستمعوا إلى قول الله تعالى آمرا نبيه [ حيث قال: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} أي إن من اتبعه [ فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل»اهـ. ويقول بعض الدعاة: «أنت أعمى كيف تقود غيرك؟! إنما يقود الناس البصير، إنما يخلصهم من البحر السابح المحمود، وإنما يرد الناس إلى الله عز وجل من عرفه، أما من جهله فكيف يدل عليه ؟!»اهـ. وقال د. سيد نوح -رحمه الله- مبينا حقيقة العلم المطلوب: «أن يكون الداعية على دراية تامة بإسلامه، وبمهمته في الحياة، وبأي المدعوين يبدأ وأيهم يؤخر، وبالظروف المحيطة بمن يدعوه، وبأفضل السبل أو الأساليب لتوصيل الدعوة إليه، وصدق الله العظيم: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}اهـ. فمن العلم المطلوب في مجال الدعوة إلى الله تعالى: 1- العلم بالمعروف والمنكر: كما تقدم في كلام شيخ الإسلام فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، فالعلم مهم للداعية ليعرف مراتب المعروف الذي يدعو إليه فيميز بين الواجبات والمندوبات والمباحات، ويعرف الفرق بين الكبائر والصغائر والمحرمات والمكروهات والمتشابهات التي يريد أن ينهى عنها. فالمعروف: اسم لكل أمر يعرف حسنه بالشرع أو العقل، قال شيخ الإسلام: «مثل شرائع الإسلام... ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، ومثل الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه...، ومثل ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة». والمنكر: اسم لما ذمه الشرع ونهى الله عنه، قال شيخ الإسلام: «وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله...، ومن المنكر كل ما حرمه الله كقتل النفس بغير الحق وأكل أموال الناس بالباطل والبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله [، وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين..، وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله وغير ذلك»اهـ. 2- العلم بحال المأمور والمنهي: يحتاج الداعية إلى العلم ليميز بين مراتب المدعوين، فيعامل كلا حسب رتبته، فيفرق بين الكبير والصغير، والعالم والجاهل، والعامد والمخطئ، والمكابر والمتأول، كما فرقت الشريعة بينهم في النيات والأحكام. قال الحليمي: «ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مميزا، يرفق في موضع الرفق ويعنف في موضع العنف، ويكلم كل طبقة من الناس بما يعلم أنه يليق بهم وأنجع فيهم وأن يكون غير محاب ولا مداهن». قال شيخ الإسلام في بيان أدب الإنكار: «ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم... فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين». وقد ضرب لنا النبي [ أروع الأمثلة في كمال الفقه وغاية الحكمة في استعمال الأسلوب المناسب في موضعه، فانظر إلى لينه ورفقه بالجاهل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي [: «دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، قال النووي: «فيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يرد بالمخالفة استخفافا أو عنادا»اهـ. وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي عندما تكلم في الصلاة جاهلا قال: فلما صلى رسول الله [ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، قال النووي: «فيه بيان ما كان عليه رسول الله [ من عظيم الخلق الذي شهد ال له تعالى به ورفقه بالجاهل ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه الترفق بالجاهل وحسن تعليمه واللطف به وتقريب الصواب إلى فهمه». وقد يكون فاعل المنكر أو تارك الواجب متأولا له شبهة أو دليل اعتمد عليه فلا يعامل معاملة المكابر المعاند، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك». وقال شيخ الإسلام: «ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العملية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول [ بحسب إمكانه، هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذ بما أخطأ؛ تحقيقا لقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا}. ويقول أيضا: «هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدا مخطئا في المسائل الأصولية ولا الفرعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفّرون ولا يفسّقون ولا يؤثّمون أحدا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة علمية ولا عملية، قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم». قال: «وإذا ثبت بالكتاب المفسر أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عموما محفوظا، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه... وأيضا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة». قال الشيخ ابن عثيمين: «فالمسائل الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي للإنسان أن يكون فيها عنيفا بحيث يضلل غيره، فمن رحمة الله عز وجل أنه لا يؤاخذ بالخلاف إذا كان صادرا عن اجتهاد؛ فمن أصاب فله أجران، ومن أخطا فله أجر واحد، وأهل السنة والجماعة من هديهم وطريقتهم ألا يضللوا غيرهم ما دامت المسألة يسوغ فيها الخلاف.»اهـ. وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة على هذه المسألة، وأن المسلم يعذر بجهله وخطئه ونسيانه وأنه غير مؤاخذ بكل ذلك إذا قصد الخير وطلب الحق، فمن الكتاب قوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..} وقد ثبت في (صحيح مسلم) أن الله تعالى قد قال: «قد فعلت». قال د. عبد الكريم زيدان في كتابه (أصول الدعوة): «فيجب لكل داع إلى الله تعالى: العلم بشرع الله وبالحلال والحرام وبما يجوز وما لا يجوز، وبما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ، وما يحتمل وجهين أو أكثر وما لا يحتمل، والعلم بما قام عليه الدليل الشرعي من كتاب الله أو سنة رسوله أو من أدلة الشرع الأخرى، وعلى المسلم أن يستزيد من هذا العلم الشرعي النافع ليعرف موضوع دعوته، وليكون على بصيرة وبينة؛ فلا يأمر إلا بحق، ولا ينهى إلا عن باطل.» اهـ. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (8) د.وليد خالد الربيع ذكرنا في الحلقة السابقة أن شروط الدعوة التي يجب مراعاتها العلم؛ حيث إن الدعوة إلى الله من العمل الصالح ومن شروط العمل الصالح أن يكون مستنداً إلى العلم الشرعي الصحيح، وقلنا إنه لابد للداعية من أن يتمكن من التميز بين المعروف والمنكر ليعرف مراتب المعروف والفرق بين الواجبات والمندوبات والمباحات وكذلك بين الكبائر والصغائر والمحرمات . الشرط الثالث - الحكمة في الدعوة : قال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، فقسم الدعوة إلى أربعة مراتب: الحكمة، ثم الموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الفعل الرادع للظالم، كما قال عز وجل: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}، والمتأمل في سيرة النبي[ ودعوته يجد أنها قائمة على الحكمة في أسمى صورها وغاياتها، حيث كان[ يستعمل الرفق في موضعه، ويضع الحزم والشدة في موضعهما، وهذه هي الحكمة. فالحكمة في حقيقتها: وضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها، والحكمة هي معرفة الحق والعمل به، وهي إصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وقد مدح الله تعالى صاحب الحكمة فقال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}، ودعا بها النبي[ لابن عباس فقال في رواية:«اللهم علمه الحكمة»، وقال[:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها». ومن الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل مراعاة المصالح والمفاسد: فقد يحمل الحماس بعض الشباب الغيورين على القيام ببعض التصرفات التي يظنونها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللهو دون اعتبار أو نظر في قواعد المصلحة والمفسدة وكيفية الترجيح بينها إذا تعارضت، وإهمال هذا الأصل الجليل يؤدي إلى مفاسد عظيمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات، فلابد أن تكون المصلحة فيهما راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به هو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر أو النهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد تُرك واجب وفُعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم، وهذا من معنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب؛ فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال». وقال: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. ولكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام». فإعمال هذا الأصل الجليل والتوقف عن إنكار بعض المنكرات لا يعد تهاونا في الدين، وإنما هو اقتداء بالنبي[ على بصيرة كما أمر الله تعالى. قال ابن القيم: «إن النبي[ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله[ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله[ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصار دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء». ومن الحكمة مراعاة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله[ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي[ قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». قال ابن رجب: «فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، أما إنكاره بالقلب فلا بد منه؛ فمن لم ينكر بقلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وسمع ابن مسعود رجلا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر»، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد؛ فمن لم يعرفه هلك. وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب القدرة، وقال ابن مسعود: «يوشك من عاش منكم أن يرى منكرا لا يستطيع له، غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره». يستفاد من هذا: 1- أن الإنكار القلبي فرض على كل مسلم في كل حال، أما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة، يقول شيخ الإسلام: «حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته ينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان، وأما فعل البدن فبحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل». 2- التغيير باليد مشروط له الاستطاعة الشرعية وهي الولاية والسلطة، قال شيخ الإسلام: «وهذا واجب على كل مسلم قادر - أي الأمر والنهي - وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم؛ فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}اهـ. وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «فالإنكار باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع، أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غير بيده يترتب على ذلك الفتنة والنزاع و المضاربات فإنه لا يغير بيده، بل ينكر بلسانه ويكفيه ذلك؛ لئلا يقع بإنكاره ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره كما نص على ذلك أهل العلم»اهـ. وسئل الشيخ ابن عثيمين عن موقف المسلم من كثير من المعاصي المنتشرة فقال :«موقف المسلم حدده النبي[ فقال: «من رأى منكم منكرا..» الحديث؛ فمن هذا الحديث يكون تغيير المنكر على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى - التغيير باليد: فإذا كان لك سلطة يمكنك بها أن تغير هذا المنكر بيدك فافعل، وهذا يمكن أن يكون للإنسان إذا كان المنكر في بيته وكان هو القائم على البيت؛ فإنه في هذه الحالة يمكن أن يغير بيده. المرتبة الثانية: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي تغيير المنكر باللسان ، والتغيير باللسان على وجهين: الوجه الأول: أن يقول لصاحب المنكر: ارفع هذا المنكر، ويتكلم معه ويزجره إذا اقتضت الحال ذلك. الوجه الثاني: إذا كان لا يستطيع هذا فليبلغ ولاة الأمر. المرتبة الثالثة - التغيير بالقلب: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده أو بلسانه فلينكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان، والإنكار بالقلب أن تكره هذا المنكر وتكره وجوده» اهـ. ومن الظواهر الخطيرة في الساحة الدعوية اتخاذ المواقف بناء على العواطف، فلاشك أن واقع المسلمين مليء بالمآسي والآلام مما يحمل بعض الغيورين على اتخاذ بعض المواقف الطائشة والقيام ببعض التصرفات غير المسؤولة كردة فعل عاطفية للتعبير عن مشاعر الغضب والغيرة على الدين والمسلمين، متجاهلا ما قد ينجم عن تلك التصرفات من مفاسد تعم المسلمين وتضيق عليهم . يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق؛ لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفئ لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلا لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى»اهـ. ويقول أيضا: «ينبغي لأهل هذه اليقظة والحركة المباركة ألا تحملهم العاطفة فتصدهم عن التعقل، وعن السير على مقتضى الشرع؛ لأن العاطفة إذا لم تكن مقيدة بما يقتضيه الشرع والعقل فإنها تكون عاصفة ويترتب عليها من الضرر أكثر مما يترتب عليها من النصح؛ لذلك يجب أن يكون نظرنا بعيدا، ولست أريد بهذا أن نسكت على باطل، أو أن نؤيد باطلا، ولكني أريد أن نأتي البيوت من أبوابها ، وأن نحاول بقدر استطاعتنا سلوك سبيل الحكمة في إزالة هذا الباطل والقضاء عليه؛ لأن سلوك طريق الحكمة وإن طال فإن ثمرته ونتيجته تكون مرضية للجميع، ربما الغيرة تطفئ لهيب النار، لكن لا تطفئ الجمر الذي قد يتقد فيما بعد. لذلك أحث إخواني وأبناءنا الشباب أصحاب هذه الحركة وهذه اليقظة على التأني، وبعد النظر والتعقل، وأن يجعلوا تصرفاتهم كلها على ما تقتضيه الشريعة، وأن ينظروا كيف كانت حكمة النبي[ في الدعوة إلى الله وتغيير المنكر؛ حتى يأخذوا منه أسوة حسنة»اهـ. وانظر إلى ضبط الصحابة عواطفهم وغيرتهم وحماسهم وفق الأحكام الدينية والسياسة الشرعية، يقول سهل بن حنيف: «أيها الناس اتهموا رأيكم، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله[ لرددته» أخرجه مسلم، وفي لفظ له قال سهل: وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله[ وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله[ فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: «بلى»، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا» قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله[ بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: «نعم»؛ فطابت نفسه ورجع. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (9) د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن مسألة الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وذكرنا مراتبها الأربعة التي هي الحكمة والموعظة الحسنة ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الفعل الرادع للظالم، وقلنا إن الحكمة في حقيقتها هي: وضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها، ومعرفة الحق والعمل به، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال. الشرط الرابع - الرفق والحلم واللين في الدعوة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر»، وقال أيضا: «ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقرب الطرق وهو الموصل إلى حصول القصد، ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي [: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه» ، ونقل رحمه الله عن بعض السلف أنه قال: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه» «، وقال رحمه الله: «فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد» اهـ. والحلم والأناة من خلق الأنبياء والمرسلين قال عز وجل: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}، وقال عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} قال ابن كثير: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين...»، إلى أن قال: «والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}». وقال عز وجل عن رسوله الكريم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، قال قتادة: «إي والله طهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا رحيما رؤوفا بالمؤمنين»اهـ ومن فضل الرفق وعظمته أنه من أسماء الله عز وجل وصفاته، وقد ظهر رفقه في خلقه وأمره، قال ابن سعدي: «ومن أسمائه تعالى (الرفيق) في أفعاله وشرعه، ومن تأمل ما احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئا بعد شيء، وجريانها على وجه السداد واليسر ومناسبة العباد، وما في خلقه من الحكمة، إذ خلق الخلق أطوارا ونقلهم من حال إلى أخرى بحكم وأسرار لا تحيط بها العقول، وهو تعالى يحب من عباده أهل الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقا في أموره متأنيا، ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت» اهـ. وقال د. سيد نوح رحمه الله وهو يعدد صفات وأخلاق المتصدر للدعوة: «الرفق أو اللين، ومعناه رقة الطبع ودماثة الخلق ولين الجانب، فلا فظاظة ولا خشونة ولا عنف، قال تعالى في وصيته لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، ثم شرح هذا القول اللين فقال: {فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}. وقال الله تعالى عن فضله على نبيه محمد [ بما كفل له من النجاح في دعوته: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقد حفلت دواوين الحديث والسنة والسيرة النبوية بالنماذج الحية الناطقة برفقه ولينه [ في دعوته، الأمر الذي أدى إلى فتح مغاليق القلوب، وكسب ثقة الناس ومودتهم، أو على الأقل السلامة من شرهم وأذاهم». ولا يخفى على ذي بصيرة ضرورة الرفق واللين والرحمة للداعي، لأن الداعي بمثابة الطبيب الذي يرفق بالمريض لأجل مصلحته، وبمنزلة الوالد الذي يتلطف بالطفل من أجل منفعته، قال د. عبد الكريم زيدان: «الرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر إليهم من مستوى عال رفيع أوصله إليه إيمانه وصلته بربه؛ ولذا فهو ينظر إليهم كصغار يعبثون، والشأن في الصغار والأطفال العبث والجهل وعدم إدراك ما ينفعهم؛ ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه لهم بالإعراض والصدود والأذى، كما يفعل الطفل إذا نصحته أو أبعدته مثلا عن مس النار أو الشيء المؤذي، فإنه يصيح ويغضب وربما آذاك، إن الداعي لا يعجب من صدودهم ولذلك فهو يعيد الكرة معهم ويتحمل أذاهم ويقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» اهـ. وقد جاء الكثير من الأحاديث والآثار في الحث على الرفق واللين منها ما روته عائشة عن النبي [ قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» أخرجه مسلم. وعنها أن النبي [ قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» أخرجه مسلم. وعن جرير عن النبي [ قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير» أخرجه مسلم. قال النووي: «في هذه الأحاديث فضل الرفق والحث على التخلق به، وذم العنف، والرفق سبب كل خير، ومعنى «يعطي على الرفق»: أي يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، وقال القاضي: معناه: يتأتى به من الأغراض ويسهل عليه من المطالب ما لا يتأتى لغيره» اهـ. وعن أبي الدرداء عن النبي [ قال: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير» أخرجه الترمذي. وفي (المسند) مرفوعا: «يا عائشة، أرفقي؛ فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا دلهم على باب الرفق « وفي لفظ: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق». وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله [: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار، وبمن تحرم عليه النار، كل قريب هين سهل» أخرجه الترمذي. وعن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله [ قال ذات يوم في خطبته: «وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» أخرجه مسلم. وعن عائشة قالت: «سمعت رسول الله [ يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشَقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» أخرجه مسلم، قال النووي: «هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى»اهـ. وعن عروة بن الزبير قال: «مكتوب في الحكمة: «الرفق رأس الحكمة» ، وعن قيس بن أبي حازم قال: «كان يقال: من يعط الرفق في الدنيا نفعه في الآخرة». وقال بعضهم: «ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم». ولا شك أن لفقد الرفق في الدعوة آثارا سلبية تنعكس على المدعوين وعلى الدعوة: قال د. عبد الكريم زيدان: «الداعي المحروم من الرحمة الغليظ القلب لا ينجح في عمله ولا يقبل الناس عليه وإن كان ما يقوله حقا وصدقا، هذه هي طبيعة الناس ينفرون من الغليظ الخشن القاسي، ولا يقبلون قوله؛ لأن قبول قول الناصح يستلزم إقبال قلب المنصوح إليه، ولا يحصل هذا الإقبال مع خشونة الطبع وغلظة القلب، قال عز وجل: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، فإذا كان هذا يمكن أن يقع بالنسبة إلى رسول الله [ لو حصل ما ذكرته الآية الكريمة، والرسول لا ينطق إلا بالحق ومؤيد بالحق، فكيف يمكن تصور تخلف الانفضاض عن الداعي إذا كان فظا غليظ القلب؟! فليتق ربهم الدعاة إلى الله، وليتكلفوا الرحمة والرفق إن لم يكونوا رحماء حتى يكتسبوها ويألفوها، ولا يكونوا منفرين عن الإسلام بسوء أخلاقهم وغلظة قلوبهم وخشونة طبعهم وبذاء كلامهم، فإن عجزوا عن اكتساب الرحمة وحمل نفوسهم على أخلاق الإسلام، فمن الخير لهم وللدعوة ترك الدعوة والانصراف إلى علاج نفوسهم». قال الشيخ ابن عثيمين: «إن علينا أن نستعمل في دعوتنا إلى الله عز وجل الرفق واللين ما أمكن ذلك؛ لأن النبي [ قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» أخرجه مسلم. ومن تتبع هدي النبي [ وجده [ رفيقا بالأمة، فالذي أدعو إخواني إليه أن يسلكوا هذا السبيل في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر؛ فيحصل لهم بالرفق ما لا يحصل بالعنف».اهـ. ولا يخفى أن الرفق في الدعوة لا يعني التنازل عن الثوابت والتهاون في الواجبات، وإنما يعني تقديم الحق في صورة مقبولة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هيئة مناسبة تحمل المدعو على الامتثال وقبول الحق والانقياد له، وسر ذلك أن حب الخير للغير والخوف عليهم والشفقة بهم إذا ملأت قلب الداعي إلى الله ظهر أثر ذلك في أقواله وأفعاله كما قال عز وجل لرسوله [: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} وقال أيضا: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} أي مهلك نفسك غما وحزنا عليهم، فكان [ يفرح ويسر باهتداء المؤمنين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين شفقة منه [ عليهم ورحمة بهم، فعلى الدعاة التأسي برسول الله [ في حبه الهداية للخلق والخوف عليهم من سوء العاقبة وخطر الآخرة. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (10) د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن الرفق والحلم واللين في الدعوة إلى الله تعالى، وذكرنا أقوال السلف في هذا الباب حيث قال بعضهم: إنه لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه، وقلنا: إن الرفق في الدعوة لا يعني التنازل عن الثوابت والتهاون في الواجبات، وإنما يعني تقديم الحق في صورة مقبولة. الشرط الخامس - الصبر في الدعوة: الصبر في اللغة هو الحبس، كما يقال: صبرت الدابة أي حبستها بلا علف، والصبر هو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل، فإن كان حبس النفس عن الجزع وقت المصيبة سمي صبرا، وإن كان حبس النفس عن الخوف وقت الحرب سمي شجاعة، وإن كان حبس النفس عن الفضول كان قناعة عفة، وإن كان حبس النفس عن الضجر عند النوائب كان حلما ورحابة صدر . وقد أمر الله جل وعلا بالصبر فقال: {يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، قال الحسن: «أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا العداء ». ووعد الله الصابرين بأوفى جزاء فقال تبارك وتعالى: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا}، وقال تعالى: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما} وقال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وقال تبارك وتعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}. وقال [: «ما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر» متفق عليه، وقال [: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا » أخرجه مسلم . الصبر في الدعوة: ويبين د. سيد نوح معنى الصبر في باب الدعوة إلى الله فيقول :» ومعناه: أن يوطن الداعية نفسه على تحمل كل ما يصيبه من أذى في ذات الله، ويصبر ويحتسب؛ لأنه يدعو إلى الانخلاع عن أخلاق وعادات وأعراف وتقاليد تأصلت في الناس حتى صارت كأنها جزء من حياتهم وما أنزل الله بها من سلطان، وهذا يؤدي إلى معارضته معارضة شديدة، وعليه فما لم يكن الداعية قد وطن نفسه على التحمل والصبر والاحتساب فإنه سيتعب وييأس بسرعة، وبالتالي يكون الفشل وعدم النجاح ». والصبر في الدعوة إلى الله من أهم المهمات وأولى المطلوبات، قال الشيخ ابن عثيمين: «على كل داعية أن يكون: صابرا على دعوته، صابرا على ما يدعو إليه، صابرا على ما يعترض دعوته، صابرا على ما يعترضه هو من الأذى». ويعلل ذلك شيخ الإسلام فيقول:» ولابد أن يكون حليما صبورا على الأذى، فإنه لابد أن يحصل أذى، فإن لم يحلم ويصبر يفسد أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}؛ ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر، كقوله لخاتم رسله [: {يأيها المدثر < قم فأنذر...} إلى قوله {ولربك فاصبر}، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار وختمها بالصبر»أهـ. قال د. سيد نوح مبينا منزلة الصبر في الشرع المطهر:» حسبنا تكرار مادة الصبر في القرآن لأكثر من سبعين مرة، وحسبنا دورانه مع كل الأنبياء والمرسلين: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم}، وحسبنا وصية لقمان لولده: {واصبر على ما أصابك}، ووصية عمير بن حبيب بن حباشة الصحابي الجليل لولده إذ يقول:« إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطن نفسه قبل ذلك على الأذى وليوقن بالثواب؛ فإنه من يوقن بالثواب من الله تعالى لا يجد مس الأذى »اهـ. الصبر بالله ولله: قال د. عبد الكريم زيدان:« بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون الله، فالله هو المصبر له، قال تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله}، وصبر المسلم لله، أي إن المسلم يصبر طاعة ومرضاة له، فالباعث على صبره محبة الله وطلب مرضاته»اهـ الدعاة والابتلاء: جرت سنة الله تعالى بابتلاء الدعاة بأنواع الفتن والمحن، قال تبارك وتعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}، وللابتلاء فوائد منها ما ذكره الله تعالى فقال: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}، والابتلاء كما يكون في الشر يكون في الخير قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}، وهو سنة ماضية كما قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}، وبين سبحانه أن المطلوب وقت الابتلاء هو الصبر والاحتساب فقال تعالى: {ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين} وقال: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}. الصبر واستدعاء البلاء: وهنا وقفة مهمة نبه إليها د. عبد الكريم زيدان، وهي إذا ما كان الابتلاء سنة ماضية فهل على المسلم أن يستدعي البلاء ويعمل على وقوعه ولا يجوز له دفعه ؟ فبين قائلا: «أولا: المطلوب من الداعي المسلم أن يدعو إلى الله على بصيرة بالوسائل والكيفيات المشروعة التي بينها القرن الكريم وطبقها الرسول الكريم [، فإذا أدت هذه الوسائل إلى أذى يصيب الداعي، فعليه أن يتقبله بالصبر لا بالجزع. ثانيا: إذا كان للداعي مندوحة من الأذى - أي يستطيع أن يتوقاه - فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال، فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، وقد يجب عليه الابتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه؛ لأن الابتلاء صعب على النفس فلا يجوز الحرص عليه ولا الرغبة فيه لأن فيه فتنة كجهالة العاقبة، وقد يحس المسلم من نفسه القدرة على الثبات، فإذا نزل به البلاء ضعف عن الاحتمال ووقع في الافتتان ورسب في الامتحان؛ ولهذا جاء في الحديث:» لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه « قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال:« يتعرض للبلاء لما لا يطيق » أخرجه الترمذي، وقال [: «يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» أخرجه مسلم، ـ قال النووي:« وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتداولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن، في الدين والدنيا والآخرة » اهـ ـ ثالثا: قول ربنا عز وجل: {وكفى الله المؤمنين القتال} يشعر بأن عدم احتياج المؤمنين للقتال لكفاية الله تعالى يعد من نعمة الله على المؤمنين، والقتال فيه أذى ونصب وألم، فلو كان تعريض المسلم نفسه للابتلاء والأذى مطلوبا لذاته لما كان عدم الاحتياج إليه مما يمن الله به على المؤمنين . رابعا: إيذاء أهل الباطل للمؤمنين غير مطلوب قطعا، بل هو من سيئات أهل الباطل، فكيف يسوغ تسليم المسلم نفسه للمبطل يؤذيه ويهينه ويذله؟ ألا يكون في هذا التسليم إعانة على وقوع ما يسخط الله تعالى، وإلقاء للنفس في التهلكة والمهانة؟ وكل هذا لا يجوز . وقد ضرب د. زيدان العديد من الأمثلة من السيرة تبين فقه الرسول [ وصحابته لدفع البلاء قبل وقوعه وعدم استدعائه، كما أذن [ لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم، وقبوله [ لعون عمه أبي طالب في الدفاع عنه، ودخوله في جوار المطعم بن عدي حتى لا تؤذيه قريش، وغير ذلك من أمثلة كثيرة تبين أن الأذى والضرر الذي يلحق المسلم كالأمراض والمصائب التي تنزل بالإنسان، فكما أنه لا يحبها ولا يرغب فيها ولا يريد إيقاعها على نفسه ولا يقدح ذلك في إيمانه، فكذلك لا يقدح في إيمانه عدم محبته ولا رغبته في وقوع أذى أهل الباطل عليه، وعدم استدعاء الضرر على نفسه » اهـ باختصار من كتاب ( أصول الدعوة ). والخلاصة أن على الداعية أن يتحلى بالصبر وضبط النفس والابتعاد عن التهور والانفعال؛ لأن الصبر والاحتساب هدي النبي [ والأنبياء والمرسلين من قبله، وهو هدي الصالحين من الدعاة والمصلحين، أما الضجر والتهور فهو من أمراض الدعاة، ومن اتباع الهوى لا الهدى، ومن الاستعجال المذموم كما حذر الله منه في قوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم}، وكم من عجلة أدت إلى ندامة، وكم من إقدام بلا حكمة أورد صاحبه موارد الهلاك بل وجر معه من لا ذنب له ولا مسؤولية، ففقه الدعوة يقوم على العلم والحلم والرفق والصبر، فهي أركان الدعوة الصحيحة وحماها الذي يحميها - بإذن الله - من الزيغ والزلل في القول والعمل. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (11) -قواعد الدعوة إلى الله د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن مسألة الصبر في الدعوة إلى الله تعالى، وذكرنا منزلته في الشرع، وقلنا: إن على الداعية أن يتحلى بالصبر وضبط النفس والابتعاد عن التهور والانفعال؛ لأن فقه الدعوة يقوم على العلم والحلم والرفق والصبر، فهي أركان الدعوة الصحيحة وحماها الذي يحميها من الزيغ والزلل في القول والعمل بإذن الله تعالى. من فقه الدعوة ومن أهم أولويات الدعاة الإحاطة بالقواعد الشرعية - الأصولية والفقهية - التي لها ارتباط وثيق واتصال عميق بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن القواعد الشرعية أخذت من الأدلة الشرعية والمسائل الجزئية التي تنطبق عليها، فجعلها العلماء مبادئ كلية جامعة لفروع كثيرة يمكن معرفة حكمها من خلال تلك المبادئ العامة . فالعلم بالقواعد الشرعية من البصيرة التي هي صفة أتباع النبي [ في دعوته كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} قال ابن القيم:» فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر، الداعون إلى الله على بصيرة، فمن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى » اهـ. يقول د. محمد أبو الفتح البيانوني في بحثه المفيد: ( القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ص104): «إن الدعوة الإسلامية لا تكون سليمة ولا صحيحة ومنتجة إلا تقيدت بتلك القواعد الشرعية، وانضبطت بتلك الضوابط ...، وما ضعفت الدعوة الإسلامية على مدى الأيام، وما تخبطت في طريقها إلا بسبب بعدها عن تلك البصيرة المنشودة ووقوعها في انحراف المنهج أو قصوره، وخطأ الأسلوب وضعف الوسيلة» . وما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم القواعد الشرعية، والانضباط بها ليقوموا بدعوتهم حق القيام، فيصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.اهـ. ويقول أ.د. عبد الرحيم المغذوي في كتابه النفيس: ( الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/293): « ولا يخفى ما لدراسة قواعد منهج الدعوة من فوائد عظيمة على جميع المجالات ومناشط العمل الدعوي، إنها تحفز إلى إيضاح مسائل الدعوة وبيانها، وعدم تركها للاجتهاد أو العشوائية التي أضرت كثيراً بمسار الدعوة وألحقت بها التهم والظنون؛ فإن لدراسة قواعد منهج الدعوة بأنواعها المتعددة أهمية في مجالات العمل الدعوي، وإضاءة لمسار الدعاة، وتحديدا لكيفية عملهم وتعاملهم مع الناس، وإيضاحا لفقه الخطاب والكتاب، وإنارة لمعرفة وسائل الدعوة، وتحذيرا من كل ما يضاد ويخالف المنهج القويم في الدعوة إلى الله » اهـ. وفيما يلي بعض القواعد الشرعية في باب الدعوة إلى الله جل وعلا مما أثبته العلماء وكبار الدعاة مما استنبطوه من النصوص الشرعية واستقراء السيرة النبوية والوقوف على التاريخ الإسلامي القديم والحديث بما حواه من تجارب زاخرة بالدروس والعبر . القاعدة الأولى - البدء بالعقيدة أولاً: قبل الخوض في تحرير هذه القاعدة وتقريرها، لابد من التنبيه على أن المقصود بالعقيدة هنا معناها الشامل العام، وهو كل ما يتعلق بقضايا الإيمان والاعتقاد التي جاء بها النبي [ من ربه تعالى ليعقد عليها المكلف قلبه ويبني إيمانه ودينه، وليس المقصود جانبا من قضايا الاعتقاد، كمسائل الألوهية وما يناقض ذلك أو ينقصه من الشركيات وبيان ذلك والتحذير منه، أو مسائل الأسماء والصفات وما وقع فيها من انحراف والردود والمناقشات لهذه الانحرافات، وغير ذلك من جوانب العقيدة المهمة، إنما المقصود هنا التفريق بين أمرين: الأول: عرض العقيدة الإسلامية بمعناها الواسع الشامل، وهذا الجانب يؤخذ من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة الصحيحة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان . الثاني: الدفاع عن العقيدة والرد على الانحرافات والشبهات، وقد وضع العلماء ضوابط لهذه الردود تبين أصولها ومناهجها، يقول أ.د. عمر الأشقر: «وقد وضع علماء أهل السنة والجماعة هذه القواعد في مقابل انحرافات الفرق الإسلامية في مجال الاعتقاد، ومعرفة هذه الضوابط في غاية الأهمية؛ لأنها تعصم من الانحراف في مجال الاعتقاد، وتحصن المسلم ضد تلك الانحرافات . وأحب أن أقرر هنا - والحديث للدكتور الأشقر ـ أن هذه الضوابط والقواعد - مع عظيم أهميتها ـ لا يمكن أن توجد العقيدة الحية النابضة الدافعة إلى العمل ...، إن الذي يوجد القوة الدافعة النابضة في أعماق النفوس لون آخر من العقيدة، وأعني بذلك العقيدة التي تقوم على العلم الذي يسوقه القرآن والسنة في الحديث عن الله وعظمته وقدرته ورحمته» أهـ باختصار من رسالة (أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج الأصيل ص35ـ39). ويؤكد هذا المعنى د. البيانوني في رسالته (بصائر دعوية ص15) فيقول: «البصيرة الرابعة: ألا يبدأ من يريد تعليم العقيدة الصحيحة ونشرها بين الناس بأسلوب رد الشبهات المثارة حولها، ومناقشة الخلافات الواردة فيها، بل يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة وإبراز أهميتها والأدلة عليها ومحاسنها على وجه تتلاشى أمامه الشبهات القائمة أو المتوقعة تلقائيا؛ وذلك حتى لا تتداخل الشبهات مع أصل العقيدة، فتعكر من صفوها أو تعقد من فهمها ...أولاً، وتماشيا مع ملامح المنهج الرباني الذي يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وتثبيتها في النفوس البشرية وتحصينها، قبل أن يبدأ بإبطال العقائد الفاسدة السائدة ومناقشة شبهاتها...ثانياً، وانسجاما مع الفطرة البشرية السليمة التي تتقبل الحق وتقبل عليه، وترفض الباطل وتنفر منه... ثالثاً»اهـ. إذا تقرر هذا نعود إلى القاعدة الأولى وهي البدء بالعقيدة أولاً في مجال الدعوة إلى الله، ومقصود هذه القاعدة - كما يقول د. المغذوي - أن أي دعوة لابد أن تبنى على العقيدة الصحيحة، وأي نشاط دعوي ينبغي أن ينطلق من توجيهات العقيدة وأحكامها، وإن أي دعوة ونشاط دعوي يجانب العقيدة الصحيحة أو يبتنى على عقائد باطلة أو محرفة أو أنه يهمل العقيدة ولا يضعها في اعتباره ومقصوده، فإن تلك الدعوة أو ذلك النشاط محكوم عليه بالفشل الذريع، والتخبط الفظيع، وسوف ينال من الجفاء بقدر انكفائه عن العقيدة» اهـ. والبدء بالعقيدة في الدعوة إلى الله تعالى هو الواجب الذي أمر الله تعالى به فقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، وقال سبحانه: {يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} يقول الشيخ ابن سعدي: «وأمر هنا بالإيمان به وبرسله وبالقرآن وبالكتب المتقدمة فهذا كله من الإيمان الواجب ...، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به فقد اهتدى وأنجح»اهـ. والقرآن كله في العقيدة، فهو إما خبر عن الله تعالى أو عن رسله أو عن عباده وما أعد لهم، أو عن أعدائه وما أعد لهم، وإما أمر بالتوحيد أو لازمه، أو نهي عن الشرك والسبل المفضية إليه وهكذا . وهي طريقة النبي [ ومنهجه في الدعوة إلى الله، حيث بدأ بالعقيدة وانتهى بها، فكان في أول حياته يدعو إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وعند موته حذر من الشرك ومداخله فقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: «يحذر ما صنعوا»، وكان [ بين ذلك يجاهد لأجل العقيدة ويقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ». والبدء بالعقيدة طريقة الرسل، فكل نبي قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. ويقرر د. البيانوني هذه الأهمية بقوله: «وتكمن في جعل العقيدة المبتدأ الذي يبدأ منه الداعية في دعوته والمنطلق الذي ينطلق منه؛ ذلك لأن جميع تصرفات الإنسان وأعماله إنما تتأثر بالعقيدة التي يعتقدها والتصور القائم في نفسه عنها، فإذا كان معتقده صحيحا سالما، كان عمله صحيحا سالما، وإذا كان معتقده باطلا فاسدا، كان عمله باطلا فاسدا، وإذا كان معتقده مشوبا بشيء من باطل أو ضلال، لم تسلم أعماله وتصرفاته من ذلك الباطل وهذا الضلال... أليس من مجانبة العقل والحكمة بعد بيان هذه البصيرة: أن يبدأ الداعية بالدعوة إلى خلق معين أو فضيلة خاصة ـ مهما كانت عظيمة ومهمة ـ قبل أن يدعو إلى العقيدة التي انبثق منها ذلك الخلق، وترتبت عليه تلك الفضيلة ؟ ألا يكون حال هذا الداعي عندئذ كحال من ينفخ في رماد أو يبني بيتا على غير أساس ؟» اهـ (بصائر دعوية ص13). ومن هنا فينبغي على الدعاة التفقه في هذه القاعدة الشرعية؛ لما لها من أولوية، وأن يجعلوا منطلق دعوتهم العقيدة بمعناها الواسع علما وتعلما ومنهجا ومرجعا، مع ضرورة ربط مباحث العقيدة بآثارها العملية في النفس والعمل والسلوك، فللعلم بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته آثار في حياة الإنسان واستقامته كما قال جل وعلا: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} يقول ابن سعدي: «فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته سعوا بالأسباب الموصلة إلى رحمته وأقلعوا عن الذنوب، وحذروا وبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب «. وللإيمان باليوم الآخر آثار كما قال تبارك وتعالى: {ذلك لمن خاف عذاب الآخرة} وقال: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا}، وللإيمان بالقدر آثار كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، قال علقمة: «هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلّم». |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (12) "الاتباع لا الابتداع في الدعوة" د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن قواعد الدعوة إلى الله تعالى، وقلنا: إن من فقه الدعوة وأهم أولويات الدعاة الإحاطة بالقواعد الشرعية التي لها ارتباط وثيق واتصال عميق بالدعوة إلى الله، وذكرنا قاعدة البدء بالعقيدة حيث ينبغي على الداعية أن يعرض العقيدة الإسلامية بمعناها الشامل، وسنستعرض في حلقتنا هذه القاعدة الثانية من هذه القواعد. - القاعدة الثانية - الاتباع لا الابتداع في الدعوة: والمقصود من هذه القاعدة كما يوضح د.عبد الرحيم المغذوي: «الاهتداء بالكتاب الكريم والسنة النبوية والتأسي بما سار عليه الصحابة رضي الله عنهم وبقية السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان, وعدم الخروج من هذا المسار» (الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/297). والاتباع في اللغة: مصدر الفعل اتبع, يقال: اتبع الشيء: أي سار وراءه وتطلبه، واتبع الإمام: حذا حذوه, واتبع القرآن والسنة: عمل بما فيهما. وفي الاصطلاح: قال الإمام أحمد: هو أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي [ وعن أصحابه ثم هو بعد في التابعين مخير. فالاتباع: هو العمل بالوحي واتباع الدليل والأخذ بما قامت عليه الحجة, فسبيل المسلم هو اتباع الحجة والبرهان كما قال عز وجل: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، وقال عز وجل: {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}، وقال عز وجل: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}. والتمسك بهدي النبي [ واتباع سنته من معالم المنهج القويم وسبيل الناجين, قال الزهري: «كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا؛ فعيش العلم ثبات الدين والدنيا, وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله». وقال الأوزاعي: «كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد [ والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله». وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي [». وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله [ إذا صح الخبر عنه». قال القاضي عياض: أصول مذهبنا ثلاثة:الاقتداء بالنبي [ في الأخلاق والأفعال, والأكل من الحلال, وإخلاص النية في جميع الأعمال. وقال ابن قدامة: في اتباع السنة بركة موافقة الشرع, ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات وراحة القلب ودعة البدن وترغيم الشيطان وسلوك الصراط المستقيم. أما البدعة في اللغة: فهي الشيء المبتدع على غير مثال سابق. وأما في الاصطلاح: فهي الأمر المحدث في الدين مما يقصد به التقرب إلى الله عز وجل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «البدعة ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات». وقال ابن رجب الحنبلي: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه, وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة»، وعرفها الشاطبي بأنها عبارة عن «طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه». وقد دلت الأدلة الكثيرة على خطورة البدع وشناعة آثارها على المباشر لها على وجه الخصوص, وعلى الدين والمجتمع عموما, ومن هذه الأدلة: أولا - الأدلة القرآنية: 1- قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. قال مالك: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا [ خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا. وقال الشاطبي: «إن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد؛ فلا يكون لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} معنى يعتبر عنده». 2- قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}، فعن مجاهد في قوله: {ولا تتبعوا السبل}. قال: «البدع والشبهات». 3- وقال تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}، قال ابن عباس رضي الله عنه: «تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة». ثانيا - الأدلة من السنة المطهرة: 1- أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله [: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»، وفي لفظ مسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ»، قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعد الدين»، وقال الشاطبي: «وهذا الحديث عدّه العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية». 2- وعن جابر أنه قال: كان رسول الله [ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم, ويقول: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد [، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» أخرجه مسلم. 3- وعن العرباض قال: وعظنا رسول الله [ موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا, قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمِّر عليكم عبد, وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة».أخرجه أبو داود, قال ابن حجر: وقوله: «كل بدعة ضلالة»، قاعدة شرعية كلية بمفهومها ومنطوقها, أما بمنطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة؛ فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى. 4- قال رسول الله [: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته». ثالثا - الآثار عن الصحابة والتابعين: 1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم», وقال: «أيها الناس لا تبتدعوا ولا تنطعوا ولا تعمقوا، وعليكم بالعتيق، خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون»، وقال: «القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة»، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة». 2- وقال رجل لابن عباس رضي الله عنه: أوصني، فقال: «عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع»، وقال: «ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن». 3- وقال سفيان الثوري: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها»، وعن الحسن قال: «صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا». فظاهر مما تقدم من الأدلة أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان, ولم يمت النبي [ حتى بيّن جميع الدين أصوله وفروعه كما قال [: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك», فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: أن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع. وحيث إن الدعوة إلى الله تعالى من أشرف الوظائف الدينية ومن أفضل القربات الشرعية, كان على الداعي إلى الله أن يحرص على اتباع السنة والبعد عن البدعة في موضوع دعوته وأسلوبها, فيقدم الموضوعات المشروعة ويتجنب المحدثات والبدع فلا يدعو إليها، بل يحذر منها وينبه إليها, فهذا من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولعامة المسلمين, كما يحرص الداعي على استعمال الوسائل والأساليب الشرعية والبعد عن السبل غير المشروعة أو التي تخالف أصول الدين وقواعده الكلية؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد, ولا يعرف الإسلام مبدأ(الغاية تبرر الوسيلة), بل لا بد من سلوك السبل المباحة التي لا تخالف الشرع لتحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية, وكون المقصد ساميا ونبيلا لا يبرر سلوك الأساليب المحرمة أو التي تخالف الشرع, ولا يعني ذلك الاستدلال لكل وسيلة دعوية بدليل مخصوص من الكتاب أو السنة وإلا صارت الوسيلة غير مشروعة, وإنما يستعمل الداعية في دعوته الوسائل المباحة المتاحة في كل عصر بشرط ألا تخالف الشرع؛ لا أن ينص عليها الشرع, لأن الأصل في الوسائل الإباحة ولا يمنع منها إلا ما خالف الدين, ودليل ذلك عموم قوله عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} وقوله: {وادع إلى ربك} لم يقيد سبحانه ذلك بوسيلة معينة وإنما وضع ضوابط عامة كالحكمة, ومنها قوله [: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها, وحرم أشياء فلا تنتهكوها, وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» فالأشياء المسكوت عنها محمولة في الشرع على السعة والفضل, وفعل الصحابة الكرام يدل على ذلك فجمع القرآن الكريم في مصحف واحد على عهد أبي بكر رضي الله عنه وهو أمر لم يوجد في العهد النبوي يدل على أن الفعل في غير العبادات, الذي لم يرد دليل على إلغائه وفيه مصلحة للدين يكون مباحا؛ ولهذا لما قال أبو بكر لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله [؟ قال عمر رضي الله عنه: «هذا والله خير» ووافقه سائر الصحابة بعد ذلك وحمدوه على صنيعه لأن فيه حفظا للقرآن والدين. فهناك فرق دقيق بين البدع في الدين وهي المذمومة شرعا، والمصالح المرسلة التي لم يرد دليل على اعتبارها ولا إلغائها فتكون محل نظر, فإذا أدت إلى مصالح خالصة أو راجحة كانت مشروعة وإلا صارت ممنوعة, والوسائل الدعوية من هذا الباب، والله أعلم. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (13) لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة الاتباع لا الابتداع في الدعوة، وقلنا: إن الدعوة إلى الله من أشرف الوظائف الدينية ومن أفضل القربات الشرعية؛ ولذلك ينبغي على الداعي إلى الله تعالى أن يحرص على اتباع السنة والبعد عن البدعة في موضوع دعوته وأسلوبها، فيقدم الموضوعات المشروعة ويتجنب المحدثات والبدع فلا يدعو إليها، بل يحذر منها وينبه إليها. القاعدة الثالثة - لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار: هذه قاعدة كلية من قواعد الشريعة المطهرة، لها تعلق وثيق بجميع التكاليف الدينية، ومن جملتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها من أجلّ التكاليف الشرعية وأفضل القربات الدينية . ومن المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام : «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يُعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها». فلابد من أمرين ليتحقق التكليف، الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل ، والدليل على الأمر الأول: 1- قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: «بين سبحانه أنه لا يعاقب أحدا حتى يبلغه ما جاء به الرسول ، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى»، وقال: «فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه». 2- حديث المسيء صلاته ،قال شيخ الإسلام: «أن النبي [ علمه الصلاة بالطمأنينة ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه». 3- حديث يعلى بن أمية فيمن جاء إلى النبي [ وهو محرم بعمرة وعليه جبة ومتضمخ بخلوق؛ فأمره النبي [ بخلع الجبة وغسل أثر الطيب ، قال شيخ الإسلام : «ولم يأمره بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم». 4- عن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «قال رجل لم يعمل خيرا قط: إذا مات فحرّقوه واذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت ؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم. فغفر له» قال ابن تيمية: «إن هذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفريق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا فغفر الله ذلك». والدليل على الأمر الثاني: 1- قوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله: {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة، فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج». 2- قوله [ : «دعوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، مما يدل على أن الأمر بالقيام بالواجبات مقيد بما يطيقه الإنسان وما يقدر عليه، فمن عجز عن شيء سقط عنه. فهذه القاعدة (التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل) تدل على رحمة الله بعباده، وأن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد بما يقدرون عليه علما وعملا، وأن حجة الله على عباده إنما تقوم بشيئين: التمكن من العلم والقدرة على العمل به، قال شيخ الإسلام: «الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة مثل الكتاب والسنة المتواترة ... إذا بلغت هذه الأدلة للمكلف بلاغا يمكنه من اتباعها فخالفها تفريطا في جنب الله وتعديا لحدود الله، فلا ريب أنه مخطئ آثم، وأن هذا الفعل سبب لعقوبة الله في الدنيا والآخرة»، وقال: «أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز، والمفرط المعتدي ومن ليس بمفرط ولا معتد، والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد وهو الوسط الذي عليه الأمة الوسط». وبناء على هذا تأتي هذه القاعدة (المعجوزعنه ساقط الوجوب، والمضطر إليه غير محظور) كتطبيق للقاعدة المتقدمة، وهي تشتمل على أصلين: الأول : أن الواجبات تسقط عن المكلف في حالة عجزه عن القيام بها، قال ابن تيمية: «فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد»، فالعجز عن العلم أو العمل قد يكون عجزا تاما ـ كعجز المجنون عن العلم، أو عجز العمى عن الجهاد ، أو عجز المسلم المقيم بين الكفار عن تعلم أحكام الإسلام ـ وفي هذه الحالة يقول ابن تيمية: «التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه». وقد يكون عجزا نسبيا، بحيث يتمكن من العلم أو العمل لكنه ليس تمكنا تاما بل يلحقه في ذلك كلفة ومشقة، وفي هذه الحالة يقول ابن تيمية: «قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفا وضبطا لمناط التكليف، وإن كان التكليف ممكنا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه ... وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادا وراحلة عند جمهور العلماء مع إمكان المشي لما فيه من المشقة ..». الثاني: أن الاضطرار إلى المحرم يبيح فعله فيرتفع الإثم عن المضطر ويسوغ له الإقدام على المحظور، قال شيخ الإسلام: «كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج، وهو منتف شرعا... ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية ـ وهي ترك واجب أو فعل محرم ـ لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر». ويستفاد من هذا العرض الموجز لهذه القاعدة الكلية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب القدرة والاستطاعة الشرعية، وهذا ما دل عليه قوله [: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه...» الحديث، قال الجصاص في (أحكام القرآن): «أخبر النبي [ أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إن لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه ، ثم إن لم يكن ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه» اهـ. وقال الغزالي في (إحياء علوم الدين) في بيان شروط المحتسب الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: «كونه قادرا، ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه؛ إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها» اهـ. وقال القرطبي في ( الجامع لأحكام القرآن): «أجمع المسلمون ـ فيما ذكر ابن عبد البرـ أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه» اهـ. وقد ذكر الفقهاء بعض الأمور التي تسقط فريضة الاحتساب، ومنها: أن يكون عاجزا عن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكره عمر السنامي في كتابه (نصاب الاحتساب) وقال: «إذا عجز عن الاحتساب فلا يأثم بتركه ،لأن التكليف بقدر الوسع، ولكن ينبغي أن يكون حزينا بذلك مغتما» اهـ. فمما يخرج عن القدرة (العجز الحسي)؛ كضعف البدن أو الهزال أو عدم القدرة على تحمل الأذى في نفسه أو ماله أو عرضه، و(العجز المعنوي) بأن يجهل المعروف والمنكر ومراتبهما وفقه تغييرهما، قال النووي: «إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة الصيام والزنى والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء» اهـ. ومما ينبغي التنبه إليه هو ( تفاوت المكلفين في القدرة ) ، قال د. عبد الكريم زيدان في (أصول الدعوة ): «ولا شك في تفاوت الدعاة في هذه القدرة، وأعظمهم قدرة الأمير، أي من بيده السلطة والأمر والنهي؛ ولهذا فهو مسؤول أكثر من غيره عن إزالة المنكر» اهـ. وقد يعجز المكلف عن الدعوة والإنكار على أشخاص ويقدر على غيرهم، فهنا ينبغي أن يقوم بوظيفته الدينية فيما يقدر عليه، وقد ذكر ابن مفلح في (الآداب الشرعية) أن الإمام أحمد سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وجار آخر ضعيف يعمل بالمنكر أيضا، ويقوى على هذا الضعيف، أينكر عليه؟ قال: «نعم، ينكر على هذا الذي يقوى على أن ينكر عليه». فهذه قاعدة مهمة للدعاة إلى الله عز وجل تبين لهم مجال التكليف ودائرة العمل؛حتى لا يكلفوا أنفسهم فوق طاقتها، ولا يقوموا بما لم يجب عليهم ، فيقعوا بين ضائقتين: إما أن يفعلوا ما لم يؤمروا، أو أن يقعوا تحت تأنيب الضمير وتوبيخ النفس في تركهم ما ظنوه تقصيرا في ترك الواجبات أو التهاون في أمور الديانات، والواقع أنهم معذورون غير مكلفين بما لا يقدرون عليه، قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (14) مراعاة مقاصد الشـريعة الكليــة والجزئية د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة لا واجب بلا اقتدار ولا محرم مع الاضطرار، وقلنا: إن هذه القاعدة تتعلق بجميع التكاليف الدينية ومن جملتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها من أجل التكاليف الشرعية وأفضل القربات الدينية. القاعدة الرابعة - مراعاة مقاصد الشريعة الكلية والجزئية: هذه القاعدة من القواعد الكلية التي يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد والنظر, كذلك لا يستغني عنها الدعاة إلى الله عز وجل لضبط سبل الدعوة وفق المقاصد الشرعية وحفظها من الشطط والغلو أو التفريط والتقصير. وقد ذكر الفقهاء المعاصرون تعريفات كثيرة للمقاصد الشرعية, منها: تعريف الطاهر بن عاشور للمقاصد العامة: «المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها, بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة, فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها, ويدخل في هذا أيضا معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة «. وأما تعريف المقاصد الخاصة عنده فهي: «الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة, ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس, مثل قصد التوثق في عقد الرهن وإقامة المنزل والعائلة في عقد النكاح». وعرفها د. نور الدين الخادمي بأنها: «المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئيا أو مصالح كلية أو سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين». وعرفها د. يوسف البدوي بأنها: «الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد». فعلم المقاصد الشرعية يتناول حكم الأحكام وأسرار التشريع وغايات الدين ومقاصد الشرع ومقصود المكلف ونيته. وقد أولى العلماء المقاصد الشرعية عناية كبيرة؛ لما لها من شأن عظيم في حسن الفهم عن الله عز وجل ورسوله [ ومن ثم حسن الامتثال للتكاليف الشرعية، وإيقاعها على الوجه المطلوب شرعا, فينال العبد ما أمله من الأجر والثواب والقبول عند الله تعالى, ويسلم من مغبة التقصير والتفريط والانحراف في تحقيق العبودية, ويأمن من المخالفات المحظورة والبدع المذمومة. يقول ابن تيمية: «جماع الخير أن يستعين بالله عز وجل في تلقي العلم المأثور عن النبي [ فإنه هو المستحق أن يسمى علما...، ولتكن همته فهم مقاصد الرسول [ في أمره ونهيه وسائر كلامه, فإذا اطمأن أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك». ويقول أيضا: «العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم, وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد..». ويقول ابن القيم: «وينبغي أن يفهم عن الرسول [ مراده من غير غلو ولا تقصير, فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله, ولا يقصر به مراده وما قصده من الهدى والبيان, وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام, بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع, ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد من التابع فيا محنة الدين وأهله, والله المستعان». ويقول الشاطبي:» إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها, والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها». وقال: «فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه مقصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها, فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي[ في التعليم والفتيا والحكم بما أنزل الله». ويقول: «وأكثر ما تكون - أي زلة العالم - عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه». وتنقسم المقاصد الشرعية إلى أقسام عديدة وذلك بحسب اعتبارات مختلفة منها: التقسيم الأول - باعتبار محل صدورها: القسم الأول - مقاصد الشارع: وهي المقاصد التي قصدها الشارع من أمره ونهيه, وهي الغايات الحميدة والحكم الجليلة التي أرادها الله عز وجل وهي جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين. وقد قسمها الشاطبي إلى أربعة أنواع وهي: النوع الأول: قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء, النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام, النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها, النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة. القسم الثاني - مقاصد المكلف: وهي الأهداف التي يقصدها المكلف من تصرفاته, وهي التي تميز القصد الصحيح من الفاسد, والعبادة من العادة. التقسيم الثاني - باعتبار وقتها: المقاصد الأخروية: وهي ما يرجع إلى تحصيل مصالح أخروية من دخول الجنة والنجاة من النار ولا يمنع ذلك أن تؤدي إلى مصالح دنيوية كالتعارف في الحج, والانتهاء عن الفحشاء والمنكر في الصلاة والتكافل في الزكاة ونحو ذلك المقاصد الدنيوية: وهي التي ترجع إلى تحصيل مصالح دنيوية أو دفع مفاسد كذلك. التقسيم الثالث - باعتبار تعلقها بعموم التشريع وخصوصه: المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة في كل الأحكام أو أغلبها. المقاصد الخاصة: وهي التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين أو أبواب متقاربة مثل مقاصد أحكام الأسرة ومقاصد التصرفات المالية ونحوها. المقاصد الجزئية: وهي الحكم التي راعاها الشارع عند كل حكم من أحكامه المتعلقة بالجزئيات. التقسيم الرابع - باعتبار القطع والظن: المقاصد القطعية: وهي التي قامت الأدلة على إثباتها كالتيسير وإقامة العدل والضروريات الخمس. المقاصد الظنية: وهي التي تختلف الأنظار فيها, مثل توريث مطلقة مريض مرض الموت, وضرب المتهم للإقرار ونحو ذلك. المقاصد الموهومة: وهي التي يتوهم أن فيها مصلحة أو دفع مفسدة والواقع بخلافه. التقسيم الخامس - باعتبار تعلقها بعموم الأمة وأفرادها: مقاصد كلية: وهي ما يتعلق بالخلق كافة وعموم الأمة، مثل إقامة العدل. مقاصد أغلبية: وهي التي تتعلق بأغلب الخلق وتدفع الفساد عن معظمهم كالتطبيب. مقاصد فردية: وهي العائدة على فرد معين وربما في حالات نادرة, مثل مصلحة فسخ نكاح زوجة المفقود, وتوريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت. التقسيم السادس - باعتبار أصليتها وتبعيتها: مقاصد أصلية: وهي التي يراد تحقيقها ورعايتها أصالة وابتداء. مقاصد تابعة: وهي التي تكون تابعة للمقاصد الأصلية ووسيلة إليها التقسيم السابع - باعتبار مدى الحاجة إليها وقوتها وتأثيرها: القسم الأول - الضروريات: وهي التي لابد منها في قيام مصالح الدارين, وهي الكليات الخمس: «الدين والنفس والعقل والنسل والمال». القسم الثاني- الحاجيات: وهي التي يحتاج إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج, كالترخص وتناول الطيبات والتوسع في المعاملات المشروعة. القسم الثالث - التحسينيات: وهي التي تتعلق بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق, والتي لا يؤدي تركها غالبا إلى الضيق والمشقة. ومن خلال هذا العرض الموجز للمقاصد الشرعية يظهر مدى سعة هذا الباب ودقة مباحثه وكثرة مسائله؛ لذا أفرد كثير من الفقهاء المعاصرين هذا النوع من العلم بمصنفات مفيدة وكتب قيمة, فحري بالدعاة إلى الله التفقه في هذا الباب للوقوف على المقاصد الشرعية العامة والخاصة فلا يهملوها أو يتجاوزوها, ومعرفة أقسامها ومراتبها للترجيح بينها عند التعارض وتقديم أولاها وأرجحها؛ فلا يقدم الداعي ما حقه التأخير ولا يؤخر ما حقه التقديم, كما أنه يحرص على أن يكون مقصده من دعوته موافقا للمقاصد العامة والخاصة, فكل مقصد يخالف المقصد الشرعي باطل غير مقبول, يقول الشاطبي في (الموافقات): «قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع...فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه, يجري أحكامه ومقاصده مجاريها» اهـ, ثم قال: «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل; فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل». فبعض المناهج الدعوية انحرفت وزاغت بسبب جهلها أو إهمالها للمقاصد الشرعية، فأتت بأعمال تهدم أصول الشريعة ومبادئها وتجعلها متناقضة متعارضة أمام غير المسلمين بسبب إهمال هذه القاعدة المهمة; مما يجعل دراستها وتطبيقها من أولى المهمات, والله المستعان. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (16) مجالات التـوازن د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي وحذرنا من الغلو وأنواعه وخطورته على الدعاة وبينا أسباب الغلو والتطرف، ونستكمل الحديث عن التوازن في الدعوة. مجالات التوازن: 1 - عند غلبة النوازع: النوازع هي الأمور التي يشتاقها الداعية ويحنّ إليها، وتحصل المجاذبة بينه وبين نفسه لتحقيقها وتحصيلها، ولا يخفى على اللبيب أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه. (التنازع والتوازن في حياة المسلم ص15). يقول ابن الجوزي: «نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه... فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة. ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى ورع بشر وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد. ثم إني أروم الغنى عن الخلق وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم عن الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية. ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصانيف لبقاء الخلفين - أي الكتب والأولاد - نائبين عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد. ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرّق جَمْع الهمة... وكل ذلك جمع بين أضداد... فواقلقي من طلب قيام الليل وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف... وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة بالخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لابد منه لعائلة، غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنية المؤمن خير من عمله» اهـ (صيد الخاطر 216). فالمطلوب من الداعي تقديم الأهم على المهم من العلوم والأعمال كما قال ابن القيم: «إن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل الأعمال وقت الجهاد هو الجهاد وإن أدى الأمر إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل من ترك إتمام الفريضة، وأفضل الأعمال إذا حضر الضيف القيام بحقه ولو اشتغل به عن الورد المستحب وأداء حق الأهل والزوجة، وأفضل الأعمال وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والاستغفار والدعاء، وأفضل الأعمال إذا جاء سائل يطلب العلم الإقبال على تعليمه والاشتغال به، وأفضل الأعمال وقت الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، وأفضل الأعمال وقت الصلوات المفروضة الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت. وأفضل الأعمال وقت الضرورات المساعدة بالجاه أو البدن أو المال والاشتغال بمساعدة المحتاج، وهكذا فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عما تعلق به من العبادة رأى نفسه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله أين كانت، فلا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه حتى ينتهي سيره» اهـ. كذلك على الداعية أن يحقق التكامل بين المثالية والواقعية: المثالية: فالدين يحرص على أن يبلغ الإنسان الكمال المقدر له، بأن تكون تصرفاته كلها وفق المنهج الرباني، وهذا يعتمد على أمرين: الأول: الاعتدال: وهو عدم الإفراط أو التفريط. الثاني: الشمول: فالدين يريد من المسلم أن يبلغ الكمال باتزان وتناسق في جميع الشؤون؛ ولهذا كان الصحابة أسوة في كل المجالات دون فرق. الواقعية: فالدين يقدر طبيعة البشر؛ ولهذا وضع حدا أدنى للكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأنه أقل ما يقبل من المسلم وهو فعل الواجبات وترك المحرمات، وأما ما زاد على ذلك فهو مندوب لا واجب مراعاة لأحوال المكلفين، وشرع الرخص عند المشاق والحرج تيسيرا على العباد. 2 - عند تعارض المصالح والمفاسد: قال شيخ الإسلام: «قاعدة الشريعة تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما»، وقال: «فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا». وقال: «تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات جميعا ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع». دليل هذه القاعدة: 1- قوله عز وجل: {والفتنة أشد من القتل} وقوله: {والفتنة أكبر من القتل}، فقتل النفوس وإن كان فيه شر وفساد، ففي فتنة الكفار وظهورهم على أهل الحق من الشر والفساد ما هو أكبر منه فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما. 2- قصة الخضر مع أصحاب السفينة حين نزع لوحا منها؛ لأن بقاء السفينة معيبة خير من فواتها وهي سليمة. 3- حديث الأعرابي الذي بال في المسجد حيث تركه النبي [ حتى فرغ لئلا يوسع دائرة الفساد. 4- تركه [ قتل المنافقين مع استحقاق بعضهم لذلك؛ دفعا لمفسدة إعراض الناس عن الدين. ما ينبني على هذه القاعدة: إذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا، فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة؛ ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما؛ فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». 1 - إذا كانت إحدى المصلحتين واجبة والأخرى مندوبة قدمت الواجبة: قال شيخ الإسلام: «سائر ما يتزاحم من الواجبات والمستحبات، فإنها جميعها محبوبة لله، وعند التزاحم يقدم أحبها إلى الله، والتقرب بالفرائض أحب إليه من التقرب إليه بالنوافل، وبعض الواجبات والمستحبات أحب إليه من بعض». قال ابن الجوزي: «وقد لبّس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيـام الليـل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلان فلا يقدر على الكسب لعائلته». 2 - لو كانت المصلحتان واجبتين قدم أوجبهما: فتقدم طاعة الله عز وجل على طاعة الوالدين والزوج، وتقدم الفريضة على النذر ونفقة الزوجات على الأقارب، ونفقة الأم على الأب. 3 - لو كانت المصلحتان مستحبتين قدم أفضلهما: تقدم الراتبة على النفل المطلق، وما فيه نفع متعدٍ على ما نفعه قاصر كالتعليم وعيادة المريض على النافلة والذكر. 4 - لو كانت إحدى المفسدتين حراما والأخرى مكروهة قدم المكروهة على الحرام: فيقدم الأكل من المشتبه على الحرام المحض. 5 - إن كانت المفسدتان محرمتين قدم أخفهما تحريما: قال شيخ الإسلام: «إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك: ترك واجب، وسمي هذا: فعل محرم - باعتبار الإطلاق - لم يضر، ويقال في هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم». فلو اضطر إلى أكل طعام ووجد ميتة أو صيد الحرم قدّم صيد الحرم؛ لأن حرمته عارضة وأما الميتة فحرمتها أصلية. الصبر على جور الأمراء الظلمة على ما فيه من مفسدة إلا أنه مقدم على الخروج عليهم؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة التي تمس كثيرا من المسلمين. تولي الرجل الصالح الولاية وإن كان فيها ظلم لأجل تخفيف الظلم، مقدم على تركها لغير الصالحين لأن تركها أعظم فسادا وضررا. وقال شيخ الإسلام: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال الكفار الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (17) التدرج في الدعوة د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن التوازن في الدعوة وحقيقة التوازن والموازنة في العمل الدعوي ونستكمل اليوم عن ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفنون التعامل مع الآخرين ، وعن القاعدة السادسة وهي التدرج في الدعوة وأهمية التدرج وحكمته. 3 - عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويدخل الغلو أيضا أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، كما قال شيخ الإسلام: «وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر... فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع لله ورسوله وهو معتد في حدوده». وقال أيضا: «فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين». 4 - في التعامل مع الآخرين: يحرص الدعاة على بذل النصيحة لعامة الناس والسعي في إيصال النفع لهم، فأتباع النبي [ أعلم الناس بالحق وأرحم الناس للخلق؛ وذلك لأنهم يتمسكون بالوحي ويمتثلون أوامره وينتهون عن نواهيه ويقفون عند حدوده ويتخلقون بآدابه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية) في بيان مكارم الأخلاق التي يتحلى بها أهل السنة والجماعة: ويعتقدون معنى قوله [: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة». 5- عند الفتن والمحن: قال الشيخ صالح آل الشيخ في (الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ): «إذا ظهرت الفتن أو تغيرت الأحوال فعليك بالرفق والحلم ولا تعجل؛ لأن النبي [ قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه»، وإذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال فلا تحكم على شيء من تلك الأحوال إلا بعد تصوره؛ لقوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. وعليك بلزوم الجماعة؛ لقوله [: «عليكم بالجماعة وإياكم والتفرق»، وقال: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب». وعليك بالموازين الشرعية لمعرفة الحق من الأقوال والأفعال والأحوال والأشخاص، والرجوع إلى أهل العلم الراسخين. القاعدة السادسة - التدرج في الدعوة: من القواعد الدعوية التي تمس حاجة الدعاة إليها (قاعدة التدرج)، فبعض الدعاة يستعجل في قطف الثمار وتحصيل النتائج دون مراعاة لأحوال المدعوين وظروفهم النفسية أو الاجتماعية أو مستواهم العلمي والثقافي، فيريد أن يبرئ ذمته فيقول ما يعلمه أو يفعل ما يظنه الصواب، غافلا أو متجاهلا لغاية الدعوة وهدفها الأسمى وهو هداية الناس بأيسر طريق وأقرب سبيل. والتدرج هو الأخذ شيئا فشيئا وعدم تناول الأمر دفعة واحدة. ويوضح د. عبدالرحيم المغذوي المقصود من هذه القاعدة بأنها: «ترفق الداعية في دعوته للناس والانتقال بهم في سلم الدعوة خطوة خطوة، ودرجة درجة وعدم الإكثار عليهم وإعطائهم فوق طاقتهم وأكثر من وسعهم وخاصة غير المسلمين أو من أسلم حديثا ولم يتمكن الإيمان من قلبه، أو من يعيش في بلاد غير إسلامية ولم يعرف الإسلام على حقيقته أو ما شابه تلك الحالات. ومن أدلة هذه القاعدة ما أوصى به رسول الله [ معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال [: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، فهذا الحديث يدل على أهمية التدرج في الدعوة ومراعاة أحوال الناس، وما تنطوي عليه أنفسهم وعقولهم من أشياء تقتضي الترفق والتدرج بهم في الدعوة» اهـ. ويؤكد د. أبو الفتح البيانوني أن من مظاهر الحكمة في الدعوة (التدرج) ولاسيما عند معالجة الأشخاص والأوضاع العامة، تماما كما فعل القرآن الكريم والرسول العظيم [، ومشى على ذلك الخلفاء الراشدون والعلماء العاملون. فقد نزل القرآن الكريم متدرجا في ثلاث وعشرين سنة، ولما اعترض على ذلك الكافرون بين الله الحكمة من نزوله متدرجا فقال: {وقال الذين كفروا لولا نزِلّ عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، وفي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبدا» أخرجه البخاري. وروى الشاطبي في (الموافقات) أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال يوما لأبيه عمر: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال: عمر لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة» اهـ. يقول الشاطبي: «ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة؛ فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين، وفي الحديث: «الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، وإذا اعتادت النفس فعلا من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه وانشرح له صدره، فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول، هذا عادة الله في أهل الطاعة، وعادة أخرى جارية في الناس، أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه، ومنها كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه، فكان يحب الرفق ويكره العنف، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله؛ لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور» اهـ. وللتدرج حِكَم عديدة ذكرها د. محمد الزحيلي منها : أولا - موافقة الفطرة: فالإسلام دين الفطرة، وأحكامه عامة تتفق مع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، وأسلوبه في التشريع خاصة يلتقي مع الفطرة، فيلتقي مع النفوس السليمة والعقول الراجحة في تقبل الأخبار والتكاليف شيئا فشيئا وبناء الأشياء والقرارات درجة درجة، ونقل عن المودودي قوله: «لا ينبغي أن نغفل قاعدة تدرك بالفطرة، وهي أنه لا يحدث تغيير في الحياة الاجتماعية إلا بالتدرج». ثانياً: التيسير والتخفيف: إن التدرج الزمني في التشريع يسّر فهم أحكامه على أحسن وجه، ويسّر معرفته حكما حكما، وهذا ما يلمسه المدقق في نزول الأوامر والنواهي في بداية الإسلام على سنة التدرج مراعاة للتيسير على الناس والتخفيف عنهم، ورفع الحرج في أخذهم باليسر من التكاليف والأحكام . ثالثاً - تغيير العادات: إن العادة تتحكم في صاحبها، حتى اعتبرت طبيعة ثانية، ولما بعث رسول الله [ كان العرب قد استحكمت بهم عادات فردية وجماعية، فاقتضت الحكمة التشريعية أن يتدرج المشرع الحكيم بإبطال العادات السيئة والضارة شيئا فشيئا لاقتلاع جذورها، ثم بناء الأحكام والقيم الإسلامية مكانها. رابعاً - بناء الفرد قبل بناء المجتمع: اتجه التشريع الإسلامي أولا لبناء الفرد السوي بإصلاحه وتغيير ما بنفسه قبل البدء ببناء المجتمع وقبل تغيير الأنظمة والأحكام، وهذا هو التوجه القرآني في ذلك، فقال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. والحكمة في ذلك أن الفرد هو الأساس لبناء الأسرة، والأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، وعندما تصلح النفوس وتتربى تربية إسلامية كاملة فإنها تتلقى الأحكام الشرعية برحابة صدر وتتجه ذاتيا إلى تنفيذها وتطبيقها، وهذا ما فعل بالمؤمنين في مكة أولا ثم في المدينة.» اهـ. ويقابل التدرج في الدعوة آفة من الآفات التي يصاب بها بعض الدعاة وهي (الاستعجال)، ومعناه - كما يوضحه د- سيد نوح - رحمه الله - أنه: «إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون في لمحة أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل، بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها، أو ينامون ليلة ثم يستيقظون فإذا بهم يرون كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم». ثم يذكر من مظاهر الاستعجال القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة ولا تفيدها، والارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم. وسرد - رحمه الله - بعض سبل معالجة الاستعجال، فمن ذلك : 1- إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على الاستعجال؛ فإن ذلك مما يهدي النفس ويحمل على التريث والتأني. 2- دوام النظر في كتاب الله؛ فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع ومع العصاة والمكذبين قال تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلونِ}. 3- دوام المطالعة في السنة والسيرة؛ فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي [ من الشدائد والمحن وكيف أنه تحمل وصبر ولم يستعجل حتى كانت العاقبة له وللمنهج الذي جاء به. 4- مطالعة كتب التراجم والتاريخ؛ فإن ذلك يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات والسلف في مواجهة الباطل، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مُكِّن لهم. 5- العمل في أحضان وظل ذوي الخبرة والتجربة ممن سبقوا على الطريق. 6- العمل من خلال منهج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور. 7- مجاهدة النفس وتدريبها على التريث والتأني والتروي؛ فإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله. فعلى الدعاة التدرج في الدعوة إلى الله، وهذا يشمل: 1- التدرج في بيان الأحكام الشرعية، وذلك بالبدء بالأهم فالمهم، دون إثقال أذهان المدعوين بمعلومات كثيرة لا يحتاجون إليها، وقد تكون لبعضهم فتنة أو شبهات لعدم استعدادهم الفطري والعقلي لتلقي مثل تلك المعلومات، كما قال علي -رضي الله عنه- : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!». 2- التدرج في التطبيق والعمل، بحيث يراعي قدرة المدعوين وظروفهم، مع الانتباه إلى أن العقائد والفرائض والمحرمات لا تدرج فيها ولا تهاون. |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (18) المشـقـة تجـلـب التيـســير د.وليد خالد الربيع تحدثنا في الحلقة السابقة عن التدرج في الدعوة وأهمية التدرج وحكمته، ونتحدث في هذه الحلقة عن المشقة التي يلاقيها الدعاة في سبيل تحقيق الدعوة والسير على منهج الأنبياء والرسل، ونأخذ بشيء من التفصيل أنواع هذه المشقة التي تجلب التيسير. القاعدة السابعة - المشقة تجلب التيسير: هذه القاعدة الفقهية من أهم القواعد التي يحتاج إليها الدعاة عند قيامهم بالدعوة إلى الله، وذلك أن الدين الإسلامي - كما يقول الشيخ ابن سعدي - «ميسر سهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتروكه.. كل مكلف يرى نفسه قادرا عليها لا تشق عليه ولا تكلفه» اهـ. ومن هذا المنطلق ينبغي أن يبدأ الدعاة مدركين هذا الأصل مستصحبين هذه الحقيقة . ومعنى القاعدة: أن الصعوبة والعناء تكون سببا للتسهيل، ويلزم التوسيع في وقت المضايقة، فالأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر ولا حرج. وقد أكد الفقهاء أنه ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف، فالمشقة في اللغة هي الجهد والعناء والشدّة والثقل، من الفعل: شقّ، تقول: شقّ عليّ الشيء، إذا أتعبك، وقد ذكر الشاطبي أن المشقة أنواع: الأول: مشقة غير مقدور عليها: كتكليف المقعد بالقيام، والإنسان بالطيران ونحو ذلك، فهذه لا يرد بها التكليف والنصوص دالة على ذلك. الثاني: مشقة داخلة تحت قدرة المكلف، وهي أقسام: 1- مشقة خفيفة: كأدنى وجع في الأصبع أو الرأس ونحو ذلك، فهذا لا أثر له في التخفيف والترخص؛ لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها. 2- مشقة عظيمة: وهي الخارجة عن حدود المعتاد: بحيث يؤدي امتثال التكاليف إلى خلل في نفس المكلف أو ماله أو أطرافه، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وموجبة للتخفيف والترخص؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات، مثل الاغتسال من الجنابة مع شدة البرد، وصيام المريض والحامل. 3- مشقة في الحدود العادية وداخلة تحت القدرة البشرية: وهي لا تنفك عن العبادة غالبا وهي موجودة في المسائل الدنيوية كمشقة العمل وكسب العيش، فهذه وإن كانت مشقة لكن النفس قادرة عليها، بل لو ترك الإنسان العمل من أجلها لعدّ ذلك سفها وعجزا، وهذه مثل مشقة البرد في الوضوء والصوم في الحر ومشقة السفر للحج والعلم والمشقة في إقامة الحدود ونحو ذلك، فهذه المشقة لا أثر لها في إسقاط العبادة ولا تمنع التكليف وليست سببا للترخص. وقد دل على هذه القاعدة أدلة شرعية منها: 1- قوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}. 2- سئل النبي [: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» قال الشاطبي: وسميت بالحنيفية لما فيها من التيسير والتسهيل. 3- وقال [: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة». 4- وقال [: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». 5- وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما خيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما». 6- تشريع الرخص يدل على مراعاة مصالح العباد ورفع الحرج والمشقة عنهم بالتخفيف. ومن حيث تطبيق هذه القاعدة في مجال الدعوة يقول د. عبدالرحمن المغذوي: «المقصود بهذه القاعدة أن الأمور التي تلحق المشاق والمتاعب أو المخاوف على الداعية أو المدعو في باب الدعوة تفتح لهم باب التيسير عليهم ورفع الحرج والعنت عنهم، والإتيان من الأمور قدر المستطاع، ولكن بشرط عدم مصادمتها للنصوص أو التكليفات الشرعية. والمتأمل في هذه القاعدة يجد أنها تتضمن محورين مهمين: الأول: الدعاة وما يكتنف أعمالهم في بعض الأزمان والأماكن من عنت ومشقة، الأمر الذي قد يدخل بعض المشقة التي قد تضر بالدعاة، فهنا التيسير مطلوب على هؤلاء الدعاة وعدم تحميلهم فوق طاقتهم. الثاني: المدعو وما قد يعترض طريقه من مصاعب ومشاق في تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ أحكام الإسلام كاملة، فهنا يدخل التيسير والتخفيف على هؤلاء الناس، وخصوصاً الذين يعيشون تحت ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولاسيما في المجتمعات غير الإسلامية، كالأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فاليسر من طبيعة دعوة الإسلام، وليس له هدف في إلحاق المشقة المفضية للضرر على الناس» اهـ. (الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية 1/217). ومن القواعد ذات الصلة بهذا الأصل قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ومعناها أن الأمر الذي يستطيع المكلف فعله وهو يسير عليه، لا يسقط بما شق فعله عليه أو عسر، ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله [: «إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم»، وقوله [: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب». قال د. البيانوني: «ومن هنا وجب على من قدر على أداء الصلاة قاعدا أو على جنب أو بالإيماء أن يصلي كما يستطيع، ولا تسقط عنه الصلاة جميعها بسبب تعذر الإتيان ببعض أركانها. وإن مثل هذه القاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) يمكن الاستفادة منها في جميع الحياة، ولا تقتصر على أحكام العبادات، فإذا عجز الدعاة عن تحقيق أمر الله في جميع جوانب الحياة لضعفهم أو لظروف خاصة بهم، وأمكنهم تطبيق أحكام الله في بعض الجوانب دون بعض، فلا يجوز لهم أن يتوقفوا عن تطبيق ما أمكنهم نظرا إلى ما عجزوا عنه من إقامة الدين كاملا؛ فما لا يدرك كله لا يترك جله. وكثيرا ما فهم بعض الدعاة خطأ مقولة مشهورة لبعض الدعاة وهي: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» فذهبوا إلى ترك الممكن والمتيسر منه، وانتظروا تيسر تطبيق الإسلام كاملا، أو وجهوا النقد الشديد اللاذع إلى من استطاع أن يطبق بعض الجوانب دون بعض، غافلين عن مثل هذه القاعدة الفقهية. فهناك فرق بين من يستطيع أخذ الإسلام جملة ومن لم يستطع ذلك مع اعتقاده بوجوب الأخذ به جميعا، وسعيه إلى الأخذ به من جميع أطرافه، وبين من ظن أن بإمكانه أن يتخير من الإسلام بعض جوانبه ويترك بعضها، فيأخذ بشيء ويترك أشياء، مشوها بذلك وحدة الإسلام وكماله، وهذا هو الذي ينزّل عليه قول: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة» اهـ. (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ص139). |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (19) د.وليد خالد الربيع البشارة قبل الإنذار تحدثنا فيما سبق عن بعض القواعد الفقهية المتعلقة بفقه الدعوة إلى الله وأشرنا إلى أن الدعاة إلى الله في حاجة ماسة لفهم هذه القواعد حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم على أكمل وجه القاعدة الثامنة: البشارة قبل الإنذار من وظائف الرسل وأتباعهم البشارة والإنذار، قال عز وجل: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين}، وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، وقال تعالى عن خاتم النبيين وسيد المرسلين: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا}، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}. والقرآن كذلك بشير ونذير كما قال تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}.فالبشارة: كل خبر صادق تتغير به بشرة الوجه، فمعنى يبشرك: أي يسرك ويفرحك، بشرت الرجل: إذا أفرحته، وذلك أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ومنه قولهم: إن فلانا يلقاني ببشر أي بوجه منبسط . والبشارة تستعمل في الخير مطلقا وفي الشر مقيدة كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}، واستعمالها في الخير أغلب . وجاءت البشارة في القرآن في مواضع كثيرة لأصناف عديدة منها: بشارة أرباب الإنابة بالهداية في قوله: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله}. بشارة المخبتين بالحفظ والرعاية {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. بشارة المستقيمين بثبات الولاية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة}. بشارة المتقين بالفوز والحماية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}. بشارة المؤمنين بالعطاء الوفير والجزاء الكريم: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}. بشارة الخائفين بالمغفرة والوقاية: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم}. بشارة المجاهدين بالرضا والعناية: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}. بشارة الطائعين بالجنة والسعادة: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}. بشارة الصابرين بالصلوات والرحمة في قوله {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. بشارة العاصين بالرحمة في قوله {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} .(بصائر ذوي التمييز 2/200) والإنذار: هو الإعلام بما يحذر، والإخبار الذي فيه تخويف والتهديد، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم: والمؤمنين بالإنذار فقال تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وقال: {يأيها المدثر قم فأنذر} وقال عن المؤمنين:{ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. فالإنذار فيه اتباع لرسول الله [، ودليل على شفقة المنذر وخوفه على من ينذره، كما أنه إبراء للذمة، وإقامة الحجة على الكافرين والمنافقين والعاصين وقطع أعذارهم . فظاهر مما تقدم أن البشارة والإنذار من وسائل الدعوة وأساليبها، إلا أن بعض الدعاة قد يغفل عن جانب مهم في هذه الأساليب، وهو تقديم البشارة على الإنذار وتغليب جانب الترغيب على جانب الترهيب، واستعمال كل منهما في موضعه الصحيح دون إفراط ولا تفريط، فهذا من الفقه الدعوي الدقيق، والفهم العملي العميق، وهذا ما أشار إليه رسول الله [ عندما قال لأبي موسى ومعاذ لما بعثهما إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا «متفق عليه، قال النووي: «في هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسّر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد، ومتى عسّرت عليه أوشك ألا لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألا يدوم أو لا يستحليها»أهـ. وقال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث:«الإنذار لا ينفى مطلقا بخلاف التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم فليكن بغير تنفير كقوله تعالى: {فقولا له قولا لينا} اهـ يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة: «على حامل رسالة الداعي إلى الله أن يقدم في أكثر أحواله البشارة على الإنذار، وأن يضرب على أوتار الطمع بثواب الله الجزيل قبل أن يضرب على أوتار الخوف من عذاب الله في نفوسهم، حتى إذا يئس من استجابة المدعوين، وظهر له من عنادهم وكفرهم ركز على توجيه الإنذارات والتحذيرات لهم من عذاب الله ونقمته في العاجلة والآجلة، على مقدار ما يرى من عنادهم وإصرارهم على الكفر . ومهما وجد لديهم ولو قليلا من لين الجانب نحو قبول الحق، فتح لهم أبواب الطمع بغفران الله وعفوه، وقدم لهم البشريات المرتبطة بإيمانهم واتباعهم الحق . من استقراء معاني النصوص القرآنية التي جاء فيها استعمال مادتي التبشير والإنذار تبين لي - والكلام للشيخ حبنكة - ما يلي: الأول: جاء في القرآن المجيد (ثلاثة عشر نصا) قدم فيها التبشير على الإنذار، مثل: «بشيرا ونذيرا، مبشرا ونذيرا، مبشرين ومنذرين». الثاني: جاء في نصين فقط تقديم الإنذار على البشارة؛ إذ روعي فيهما حال أكثر المخاطبين الذين يغلب فيهم الكفرة . الثالث: جاء في (31 نصا ) ذكر الإنذار دون البشارة، لأن المتحدث عنهم كفرة ماتوا على الكفر، أو عاندوا وأصروا على الكفر وصار إيمانهم ميئوسا منه؛ فلا يلائمهم من الرسالة إلا النذارة. من هذا الاستقراء مع سبر المعاني يتبين لنا أن من الحكمة في الدعوة إلى الله والنصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العمل بهذه القاعدة» اهـ (فقه الدعوة إلى الله 1/396) اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (20) د.وليد خالد الربيع الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص تحدثنا في الحلقة السابقة عن البشارة قبل الإنذار، وقلنا إن البشارة والإنذار من وسائل الدعوة وأساليبها إلا أن بعض الدعاة قد يغفل عن جانب مهم في هذه الأساليب، وهو تقديم البشارة على الإنذار وتغليب جانب الترغيب على جانب الترهيبٍ. القاعدة التاسعة: الارتباط بالحق وعدم التعلق بالأشخاص: في طريق الدعوة إلى الله قد يتأثر الداعي بعالم جليل أو داعية كبير، فيعجب به وبأفكاره وأسلوبه، فيحمله ذلك على قبول كل ما يصدر منه بغير استدلال أو نظر فيما وافق الصواب أو خالفه، وقد يحمله الإعجاب على تعليل أخطائه أو التسويغ لانحرافاته، وهذا مزلق خطير قد يقع فيه بعض الدعاة من حيث لا يشعرون.فالله عز وجل قد أمر المؤمنين الصادقين بالتمسك بهذا الدين الحق والمنهج الواضح في كل أمورهم لتحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وحذرهم من الإعراض عنه أو التمسك بغيره، فقال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} قال المفسرون: هو القرآن العظيم والسنة معه لأنها تبينه وتفسره، وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء}، أي تتولونهم وتتبعون أهواءهم وتتركون لأجلها الحق. وقد تضافرت النصوص الشرعية والآثار عن الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين على الحث بالتمسك بالوحي والهدى الذي جاء به النبي[ وعدم معارضة ذلك بأقوال الرجال ولو علا قدرهم وارتفعت رتبتهم، فضلا عن تقديم أقوالهم وآرائهم على كلام الله ورسوله، وبينوا أن واجب كل مكلف اتباع الحق إذا ظهر له دون توقف في قبوله على قول أحد من الناس، ودلت تلك النصوص على أن سبيل النجاة إنما يكون بالارتباط بالحق دون الأشخاص، فبالحق تقاس الأقوال والآراء ويستبين صوابها من باطلها. أما التعلق بالأشخاص واتباعهم في أقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم وقبولها على الإطلاق دون نظر في مدى موافقتها للحق الذي جاء به النبي [ من ربه فهو مسلك خطير مخالف لهدي سلف الأمة كما قال الشاطبي: «إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا (ضلال)، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره ، ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله [، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينيا» (الاعتصام 2/355). وقال أيضا: «ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل» (الاعتصام 2/347)، وقال: «اتباع الرجال شأن أهل الضلال» (الاعتصام 2/350). فمن النصوص الشرعية الواردة في لزوم التمسك بالحق ونبذ التعلق بالأشخاص: قال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «هذا متضمن للأدب مع الله تعالى ومع رسول الله[ والتعظيم والاحترام له وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله ورسوله من امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله متبعين لسنة رسول الله[ في جميع أمورهم وألا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فلا يقولوا حتى يقول ولا يأمروا حتى يأمر. وفي هذا نهي شديد عن تقديم قول غير الرسول[ على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله [ وجب اتباعها وتقديمها على غيرها كائنا من كان». وقال عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان، ولا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس؛ فبهذا الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم». وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي[ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي[ - أي قرئ عليه – فغضب وقال: «أمتهوّكون فيها يابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى [ كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» أخرجه أحمد وابن أبي عاصم وقال الألباني :حسن. والتهوك: هو التحير، وقيل: الوقوع في الشيء بقلة مبالاة. وعن أنس قال: قال رسول الله [: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 1/174 وقال الألباني : إسناده صحيح. وعنه عن النبي [ أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح. وعنه قال: ذكر لي أن رسول الله[ قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون « أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق». المرجع السابق . وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله[ منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع». وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:»إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» «الجامع» لابن عبد البر. وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر». وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد[ كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم». وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته». وقال الإمام مالك: «ليس كلما قال رجل قولا - وإن كان له فضل - يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي[«. وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله[ إذا صح الخبر عنه». فحريّ بالداعي إلى الله تعالى أن يأخذ نفسه بهذا الأصل البيّن والمسلك الواضح، وهو الاعتصام بالسنة وما كان عليه سلف الأمة من تعظيم النصوص وعدم معارضتها بقول أحد من الناس، فضلا عن تقديم قوله عليها، وألا يغتر بصلاح أحد ولا يعجب بعمله لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ فإن خير من يقتدى به النبي [ وصحابته الكرام الذين زكاهم الله عز وجل في كتابه وتوفي النبي [ وهو عنهم راضٍ والتابعون لهم بإحسان، الذين قال [ فيهم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» متفق عليه. فمع التقدير والإفادة من العلماء والدعاة والمفكرين إلا أن الداعي يستصحب دائما هذا الأصل، وهو أنه لا عصمة إلا للقرآن والسنة والإجماع، وكل إنسان عدا رسول الله[ - مهما سما في العلم والإخلاص - فهو عرضة للخطأ ويؤخذ من قوله ويرد عليه، مع الاحترام لشخصه والتقدير لاجتهاده، فهذا الأصل يحفظ الداعي من التحزب والتعصب والتفرق، ويجعله دائما -بإذن الله- مخلصا في دعوته لله عز وجل. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (22) د.وليد خالد الربيع - التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة الدعوة للاجتماع على الحق ونبذ الفرقة والاختلاف، وقلنا: إن من مقاصد الدعوة إلى الله تعالى الحرص على ائتلاف القلوب واجتماع الكلمة ووحدة الصف والبعد عن التفرق والاختلاف، والتحذير من ذلك ومنع أسباب التنازع والشتات، ونتكلم في هذه الحلقة عن قاعدة التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف. القاعدة الحادية عشرة: التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف: من أصول الإسلام الأصيلة وقواعده المستقرة «مبدأ العدل»، كما قال عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي»اهـ. والشريعة الإسلامية كلها عدل وقسط ورحمة في أصولها وفروعها وفي كل مجالاتها العامة والخاصة، وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس الموافق منهم والمخالف، وتحثهم على الإنصاف من غير محاباة للقريب ولا مجافاة للبعيد البغيض.قال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}. وقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. قال الشيخ ابن سعدي: «ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين؛ فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان حتى على الأحباب بل على النفس.. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدلها على دين القائم به وورعه».اهـ وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، قال الشيخ: «أي بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه». وعن أنس -رضي الله عنه - أن النبي[ قال: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه». قال المناوي: فلا يحمله الغضب على الجور ولا الرضا على الوقوع في المحظور لأجل رضا المخلوق». وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله[: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا». وقال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» رواه البخاري تعليقا. قال الشراح: «إنما كان من جمع الثلاثة مستكملا للإيمان، لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان. وبعث رسول الله[ عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار، فأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت ولقد جئت من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. قال ابن عبد البر: وفيه أن المؤمن إذا أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغضه. ولم تمنع الغيرة أزواج النبي[ أن يشهدن بالفضل لبعضهن، قالت عائشة عن زينب بنت جحش: «وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله[، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق في الحديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفيئة». أخرجه مسلم. ولما سأل رسول الله[ زينب عن عائشة في قصة الإفك فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: «يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا»، قالت عائشة: «وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي[ فعصمها الله بالورع». أخرجه الشيخان. وقال محمد بن سيرين: «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره». وقال سفيان الثوري: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق». وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق برأسه ثم قال: «هذا هو الدين، أبي ضعيف». وقال الشافعي: «ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بينّ الله الحق على لساني أو لسانه». وقال أيضا: «والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة، أو قال: فأحببت أن يخطئ». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني؛ فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبيّة جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه..» إلى أن قال: «وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه». ويقول ابن القيم: «أما أهل العدل والإنصاف فهم هؤلاء الذين أعطوا كل ذي حق حقه، ولم يحكموا للصحيح بحكم السقيم ولا للسقيم بحكم الصحيح، ولكن قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد». ويقول شيخ الإسلام: «فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب رئاسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا، ثم إذا ردّ عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار وأتاه الشيطان؛ فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي. وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون على من وافقهم وإن كان جاهلا شيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد؛ فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله. وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه؛ فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب بهواه، ويكون مع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظّم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟! وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفّر بعضهم بعضا وفسّق بعضهم بعضا «اهـ (منهاج السنة 5/254). فعلى الداعي إلى الله عز وجل والمتمسك بهدي النبي[ أن يحرص على التزام العدل والإنصاف في كل أموره؛ فهما كما قال المناوي: العدل والإنصاف توأمان، نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة باكتساب الفضائل وتجنب الرذائل. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
رد: فقه الدعوة
فـقه الدعوة (23) د.وليد خالد الربيع -الدعوة بالأفعال قبل الأقوال تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة التزام العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف، وذكرنا أن الشريعة الإسلامية كلها عدل ورحمة وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس، وقلنا: يجب على الداعية أن يحرص على التزام العدل والإنصاف في أموره جميعها. القاعدة الثانية عشر: الدعوة بالأفعال قبل الأقوال:من المعلوم أن النفس البشرية مجبولة على التقليد والمحاكاة والتأسي، ويتأثر الناس بالمواقف العملية أكثر من المواعظ القولية والخطب الكلامية ، وإن كان للبيان بالقول أثر لا ينكر في نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فمن المهم أن يكون الداعية قدوة حسنة وأسوة صالحة، يمتثل بنفسه قبل أن يدعو غيره، ويدعو بأفعاله قبل أقواله، يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويتخلى عن الصفات السيئة، كما قال الحسن البصري: «عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك»، وقال: «الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله»، وكان إذا أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيء انتهى عنه. ولهذا جعل الله عز وجل أفضل البشر وهم الأنبياء والمرسلون أسوة للناس، فقصّ أخبارهم وحكى أحوالهم ثم أمر بالاقتداء بهم فقال عز وجل: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90)، وقال عز وجل: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف: 35). ونصب سبحانه وتعالى سيد المرسلين وإمام المتقين قدوة صالحة ومثالا يحتذى في كل شؤون الدين وأعمال الإسلام، فقال عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب: 21)، قال ابن كثير: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله [ في أقواله وأفعاله وأحواله». وقد كان [ القدوة في كل المجالات، ففي مجال العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يكثر الصيام، ويديم العبادة، فقد سألت عائشة - رضي الله عنها- أكان رسول الله [ يخص شيئا من الأيام بمزيد من العبادة؟ قالت: «لا، كان عمله ديمة - مستمرا- وأيكم يطيق ما كان رسول الله يطيق؟». وفي مجال الدعوة كاد [ أن يهلك نفسه في سبيل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النار حتى قال له ربه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}. وفي مجال الزهد كان [ ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه الشريف، ويجوع حتى تمر عليه الأيام العديدة كما قالت عائشة - رضي الله عنها-: «ما شبع رسول الله من خبز بر ثلاثة أيام تباعا منذ قدم المدينة حتى مضى لسبيله»، وما كان ذلك عن فقر وضيق يد وإنما كان تقللا من الدنيا كما قال [: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت الشجرة ثم راح وتركها». أما في الشجاعة فكان [ أجود الناس لاسيما في رمضان، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان [ في كل أبواب الخير في القمة، قال ابن القيم: «هو الأسوة والقدوة، وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الدعوة ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم ، وكان أحسن الناس معاملة» اهـ. وكان [ يسلك الجانب العملي في التعليم فكان يصلي أمام الصحابة ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وطاف حول الكعبة ووقف على عرفة على دابته وقال لهم: «خذوا عني مناسككم». وكان أصحاب رسول الله [ القدوة من بعدهم كما قال ابن مسعود: «من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله [؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم». وقد جاءت النصوص الشرعية تحذر من مخالفة الأقوال للأفعال، فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2-3). قال القرطبي: «قَالَ الْمُثَنَّى: ثَلَاث آيَات مَنَعَتْنِي أَنْ أَقُصّ عَلَى النَّاس: {أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ} (الْبَقَرَة: 44), {وَمَا أُرِيد أَنْ أُخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هُود: 88), {يَأَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث مَالِك بْن دِينَار عَنْ ثُمَامَة أَنَّ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «أَتَيْت لَيْلَة أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْم تُقْرَض شِفَاههمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَار كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاء أُمَّتك الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرأُونَ كِتَاب اللَّه وَلَا يَعْمَلُونَ». وَعَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا; فَسَكَتَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُول مَا لَا أَفْعَل فَأَسْتَعْجِل مَقْت اللَّه! اهـ. وفي الحديث: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: «كنت آمرك بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه». وكان عمر - رضي الله عنه- يجمع أهل بيته فيقول لهم: «أما بعد، فإني سأدعو الناس إلى كذا وكذا وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالا شديدا». ويبين ابن القيم الأثر الخطير للقدوة السيئة فيقول: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويصدون عنها بأفعالهم، كلما قالت ألسنتهم: هلموا إليها، قالت أعمالهم: لا تصدقوهم ، فلو كان خيرا لكانوا أول عامل به» اهـ. فالقدوة الحسنة من أعظم أساليب الدعوة إلى الله وأكثرها تأثيرا، وإنما دخل كثير من الناس في دين الله عز وجل؛ لما رأوا من حسن أخلاق المسلمين وطيب معاملتهم وصدق أحوالهم وتطابق ظاهرهم مع باطنهم وتوافق أفعالهم مع أقوالهم، فحري بالداعية إلى الله تعالى أن يتحلى بهذا الخلق القويم، ويستعمل هذا الأسلوب الحكيم في نشر دين الله وهداية الناس إلى منهج الإسلام، وبالله التوفيق. اعداد: د.وليد خالد الربيع |
الساعة الآن : 05:40 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour