شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (1) - باب: في عيادة المرضى الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَال: كُنَّا جُلُوسًا مع رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ علَيْهِ، ثُمَّ أَدْبَرَ الْأَنْصَارِيّ؛ فَقَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « يا أَخَا الْأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟»؛ فقال: صَالِحٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟»؛ فَقَامَ وقُمْنَا مَعَهُ، ونَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ، ما عَلَيْنَا نِعَالٌ ولَا خِفَافٌ، ولَا قَلَانِسُ ولَا قُمُصٌ، نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ؛ فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ، حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ . شرح الحديث باب: في عيادة المريض، وهي زيارته, وسُميت عيادة؛ لأنَّ الناس يعودون إليه مرة بعد أخرى. حكم عيادة المريض ذهب بعض العلماء إلى أنها سنة مؤكدة, واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنها فرض كفاية، كما في (الاختيارات، ص: 85), وهو الصحيح؛ فقد ثبت في الصحيحين: قوله صلى الله عليه وسلم : «خمس تجب للمسلم على أخيه المسلم، وذكر منها: عيادة المريض». وفي لفظ: «حق المسلم على المسلم...». وقال البخاري: باب: وجوب عيادة المريض، وروى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أطْعمُوا الجائع, وعُودوا المريض, وفكُّوا العاني». انتهى؛ فجزم بالوجوب، والحديث الذي ذكره يدل على الوجوب, وقد يؤخذ منه أنه فرض كفاية كإطعام الجائع، وفك الأسير . ونقل النووي الإجماع على أنها لا تجب، قال الحافظ في الفتح (10/117): يعني على الأعيان، واختاره الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في (الشرح الممتع: 5/173)؛ فقال: «الصحيح أنها واجب كفائي؛ فيجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم» انتهى بتصرف . فضل عيادة المريض ورد في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة، منها : قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ». رواه مسلم: 2568)، وخرفة الجنة: أي جناها، فشبه ما يحوزه العائد من الثواب، بما يحوزه الذي يجتني الثمر من البستان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله -عزَّ وجل- يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مَرضتُ فلم تَعدني! قال: يا ربِّ، كيف أعُودك وأنت ربُّ العالمين؟! قال: أما علمتَ أنّ عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمتَ أنك لو عُدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، اسْتطعمتك فلم تُطعمني...». الحديث، (رواه مسلم: 2569). وعن جابِرٍ رضي الله عنه قال : قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ في الرَّحْمَةِ حتَّى يَجْلِسَ, فاِذا جَلَسَ اغْتَمَسَ فيها». (رواه الإِمامُ أَحمدُ، صححه الألباني في الصحيحة: 2504). وللترمذي (2008) وابن ماجة: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا له فِي اللَّه، نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلا». (حسنه الألباني في صحيح الترمذي). وعن علِيٍّ رضي الله عنه قال: سَمِعْت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً، إلا صَلَّى علَيه سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ, وإِنْ عادَهُ عَشِيَّةً إلا صَلَّى عليْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، حَتَّى يُصْبِحَ، وكَان له خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ». أَخْرَجَه أحمد والتِّرْمِذِيُّ: 969) وصححه الألباني، صَلَّى علَيه سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ: صلاة الملائكة دعاؤهم له، والخريف: هو البستان. وليست عيادة المريض، ولاسيما بمن يعرفه فقط، بل هي مشروعة لمن يَعرفه ومن لا يعرفه، قاله النووي في (شرح مسلم). المريض الذي تَجبُ عيادته وحدُّ المريض الذي تَجبُ عيادته: هو المريض الذي يَحبسه مرضه عن شهود الجماعة، وحضور مجالس الناس, أما إذا كان مريضاً، ولكنه يخرج ويشهد الناس؛ فلا تجب عيادته. حكم زيارة أهل البدع مسألة: يستثنى من عيادة المريض، عيادة أهل البدع والأهواء، وكذا أهل الفسق؛ لما جاء في القرآن الكريم، والسُّنة النبوية من الأمر بهجرهم، والتباعد عنهم، قال -تعالى-: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(الأنعام : 68). قال قتادة: نهاه الله أنْ يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذّبون بها، فإنْ نسي فلا يقعد بعد الذكر مع القوم الظالمين. رواه ابن جرير . وقد روى أبو داود في (سننه) (4691) في كتاب السُّنة: باب: في القدر : عنْ ابْنِ عُمَرَ -رضِي الله عنْهُما- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ». ورواه الطبراني في (الأوسط: 2494) والبغوي في (شرح السنة: 1/78) وابن أبي عاصم في (السُّنة: 268) وغيرهم، وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح أبي داود) وغيره. قال الخطَّابِيُّ -رحِمه الله-: « إِنَّما جَعَلهم صلى الله عليه وسلم مَجُوسًا، لِمُضَاهَاةِ مَذْهَبهم مَذْهَب الْمَجُوس، فِي قَوْلهمْ بِالْأَصْلَيْنِ النُّور وَالظُّلْمَة، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخَيْر مِنْ فِعْل النُّور, والشَّرّ مِنْ فِعْل الظُّلْمَة؛ فَصَارُوا ثنَويّة؟! وكَذَلِك الْقَدَرِيَّة يُضِيفُونَ الْخَيْر إِلَى اللَّه -تَعَالَى- والشَّرّ إِلى غَيْره, وَاَللَّه -سُبْحانه وتعالى- خَالِق الخَير والشَّرّ جمِيعًا، لَا يَكُون شَيْء مِنْهُمَا إِلَّا بِمَشِيئَتِه؛ فَهُمَا مُضَافَانِ إِلَيْهِ -سُبْحانه وتَعَالَى- خَلْقًا وإِيجادًا، وإِلى الْفَاعِلَيْنِ لَهُمَا مِنْ عِبَاده فِعْلًا وَاكْتِسَابًا». انتهى.(شرح مسلم: 1/154). وجاء في شرح كتاب السُّنة للبربهاري (16) : «لا يقال لرجل إنه صاحب سُنة، حتى تجتمع فيه خصال السنة، وعليه أنْ يحذر من أهل البدع، وأنْ يُبغضهم ويكرههم في الله؛ فلا يزور مريضهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا يبتسم في وجوههم، لكن ينتهرهم، حتى يملأ الله قلبه بنور الإيمان والسنة». انتهى. وقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن حكم زيارة أهل البدع من أجل دعوتهم ونصحهم؟ فكان الجواب: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه . أما بعد؛ فزيارة أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة، وزيارة الإخوان في الله قربة وطاعة، أما زيارة أهل البدع فلا تجوز زيارتهم على سبيل المؤانسة والمحبة ونحو ذلك . أما إذا زارهم طالبُ العلم للموعظة والتذكير والتحذير من البدعة، هذا مشكور ومأجور؛ لأنّ هذا من باب الدعوة إلى الله، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا زرت هؤلاء الذين عندهم شيء من البدع، زرتهم للدعوة إلى الله والنصيحة والتوجيه؛ فأنت مأجور، وينبغي أنْ لا تدع ذلك إذا كان فيه فائدة، أما إذا أصرُّوا ولم يستجيبوا؛ فدعهم .انتهى. تفقد الإخوان قوله صلى الله عليه وسلم: «كيف أخي سعد؟» فيه: دليل على حسن التعاهد، وتفقُّد الإخوان، والسؤال عن أحوالهم إذا غابوا، وعلى اللطف والمودّة في السؤال عنهم، بقوله: «أخي سعد»، وسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ هو ابن دليم بن حارثة، السيد الكبير الشريف، أبو قيس الأنصاري الخزرجي الساعدي المدني، النقيب سيد الخزرج. له أحاديث يسيرة وهي عشرون بالمكرر؛ ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يبعث إليه كل يوم جَفْنة من ثريد اللحم، أو ثريد بلبن أو غيره؛ فكانت جَفْنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه. وقال ابن سيرين: كان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصُّفَّة يُعشيهم . وقال عروة: كان سعد بن عبادة يقول: اللهم هبْ لي حمداً ومَجْدا، اللهم لا يُصلحني القليل، ولا أصلح عليه. قال الذهبي: كان ملكاً شَريفا مُطاعا، وقد التفت عليه الأنصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعوه، وكان مُوعوكاً، حتى أقبل أبو بكر والجماعة؛ فردُّوهم عن رأيهم، فما طاب لسعد. توفي سعد بن عبادة -رحمه الله ورضي عنه- بحوران من أرض الشام، لسنتين ونصف من خلافة عمر رضي الله عنه. وقوله: «مَنْ يعوُده منكم؟»، حضٌ على عيادة المرضى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة تدل على ندبيتها، وكثرة ثواب فاعلها، وهي مندوبة، وقد تجب إذا خِيف على المريض ضيعة؛ فإنَّ التمريض واجبٌ على الكفاية؛ فمن قام به سقط عن غيره، والله أعلم، قاله القرطبي في المفهم. وقد سبق القول فيه . قوله: «ونَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ»، البِضع في اللغة: ما بَيْنَ الثَّلاثِ والتِّسْعِ في العَدَدِ، ويَنْطَبِقُ عليه حُكْمُ العَدَدِ المُفْرَد؛ فتقول: بِضْعَةُ رِجالٍ، وبِضْعُ نِساءٍ . قوله: «ما علينا نعالٌ ولا خِفاف، ولا قلانس ولا قُمُص» فيه: ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الزُّهد في الدنيا، والتقلّل منها، وإطْراح فُضولها، وعدم الاهتمام بفاخر اللباس ونحوه. فيه: جواز المشي حافيا، فيما لا ضرر عليه ولا أذى ولا شُهرة . الأمر بالاحتفاء وقد روى أبو داود في (السنن:4160)، وأحمد: 23969): عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ؛ فَقَدِمَ عَلَيْهِ؛ فقال: أَمَا إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَنَا وَأَنْتَ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ. قال: وما هُوَ؟ قال: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَمَا لِي أَرَاكَ شَعِثًا وَأَنْتَ أَمِيرُ الْأَرْضِ؟ قَال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الإِرْفَاهِ، قَالَ: فَمَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاء؟ قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا». (وصححه الألباني في صحيح أبي داود). والْإِرْفَاهِ: هُوَ كثْرةُ التَّدهُّن والتَّنَعُّم. وقِيل: التَّوسُّع فِي المَشْرَب والمَطْعَم. (النهاية). وقوله: «كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا»، أي: نمشى حُفاة، حينا بعد حين . وذهب غير واحد من أهل العلم إلى أنه يستحب الاحتفاء أحيانا، والحكمة من هذا: تعويد النفس على الخشونة، وإبعادها عن الدعة، وتطبيعها على الزهد، واحتقار الدنيا والتوَاضُع، وكَسْر النَّفْسِ؛ فيستحب للإنسان أن يمشي حافيا أحيانا، إلا إذا كان بأرضٍ إذا مشى فيها حافيا تعرض للضرر والأذى؛ فإنه حينئذ لا يمشي إلا منتعلا. قال المناوي -رحمه الله-: «إنْ أمن تنجس قدميه، ككونه في أرض رملية مثلا ولم يؤذه؛ فهو محبوب أحيانا بقصد هضم النفس وتأديبها؛ ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي حافيا ومنتعلا وكان الصحب يمشون حفاة ومنتعلين». (فيض القدير: 1/ 317). قوله: «نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ»، السباخ: جمع سَبْخة، وهي الأرض التي تعلوها المُلوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. (نهاية)، وفيه: عيادة الإمام والعالم المريض مع أصحابه. (انظر النووي وغيره). من فضائل عيادة المريض من فضائل عيادة المريض: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يقُولُ يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا ربِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأنتَ ربُّ العالمينَ، قالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عبدي فُلاناً مَرِضَ فلم تَعُدْهُ، أمَا عَلِمْتَ أنكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدتني عندَهُ» رواه مسلم، قال الإمام ابن تيمية: «وهذا صريحٌ في أن الله -سبحانه وتعالى- لم يَمْرَضْ، ولكن مَرِضَ عبدُهُ الذي يُحبُّه؛ فجَعَلَ مَرَضَهُ مَرَضَهُ، مُفسِّراً ذلك بأنك «لو عدته لوجدتني عنده ». انتهى. سبب لدخول الجنة عيادة المريض سببٌ لدخول الجنة: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عادَ مريضاً لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الجنَّةِ، قيلَ: يا رسولَ اللهِ وما خُرْفَةُ الجنةِ؟ قالَ: جَنَاهَا» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المسلمَ إذا عادَ أخاهُ المسلِمَ لَم يَزَلْ في خُرفةِ الجنةِ حتى يَرْجِعَ». رواه مسلم، قال ابن حجر: «شَبَّهَ صلى الله عليه وسلم ما يَحُوزُهُ عائدُ المريضِ من الثوابِ بما يَحُوزُهُ الذي يَجْتَني الثَّمَرَ». انتهى. صلاة الملائكة على الزائر قال عليّ رضي الله عنه : «ما من مُسلمٍ يَعُودُ مريضاً إلا خَرَجَ مَعَهُ سبعُونَ ألفَ مَلَكٍ، كُلُّهُم يَستغفرُ لهُ، إنْ كانَ مُصْبِحاً حتى يُمسِيَ، وكانَ لهُ خَرِيفٌ في الجنةِ، وإنْ كانَ مُمْسِياً خَرَجَ مَعَهُ سَبعُونَ ألفَ مَلَكٍ، كُلُّهُم يَستغفِرُ لهُ حتى يُصبحَ، وكانَ لهُ خريفٌ في الجنةِ». رواه الإمام أحمد، وقال ابن عبد البرِّ: «هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ ثابتُ الإسنادِ شريفُ المعنى رفيعٌ، والحمدُ للهِ كثيراً» انتهى. نزول الرحمة والمغفرة قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عادَ مريضاً لَم يَزَلْ يَخُوضُ في الرحمةِ حتى يَجلسَ، فإذا جَلَسَ اغْتَمَسَ فيها». رواه الإمام أحمد، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وفي روايةٍ قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عادَ مريضاً خاضَ في الرَّحمةِ، فإذا جَلَسَ عندَهُ اسْتَنْقَعَ فيها». رواه الإمام أحمد وحسنه ابن حجر. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (2) - باب: ما يُقال عند المريض والميت الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا حَضَرْتُمْ الْمَرِيضَ، أَوْ الْمَيِّتَ؛ فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ على ما تَقُولُونَ»، قالتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ, قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً»، قَالَتْ: فَقُلْتُ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ: مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم . شرح الحديث أم سلمة -رضي الله عنها- من أمهات المؤمنين، وهي هند بنت أبي أمية بن المغيرة، بنت عم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وهي من المهاجرات الأول، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها أبو سلمة رضي الله عنه . وقد نالت أم سلمة بزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم حظّاً وافراً من أنوار النبوة وعلومها، حتى غدت ممن يُشار إليها بالبنان فقها وعلماً، بل كان الصحابة يقصدونها ويستفتونها في العديد من المسائل، ويحتكمون إليها عند الاختلاف، ومن ذلك أن أبا هريرة وابن عباس اختلفا في عدة المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حملها؛ فبعثوا إلى أم سلمة، فقضت بصحة قول أبي هريرة -رضي الله عنهم-. وبلغ ما روته من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الذهبي: ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، و مسلم بثلاثة عشر حديثا. قوله: «إذا حضرتم المريض». إذا حضرتم المريض، أي: إذا زرتم المريض، وحضرتم عنده؛ «أو الميت» أي: المحتَضَر، كما يومىء إليه السياق، ونظيره ما في حديث: «لقنوا موتاكم»، أو هو مَن فارق الحياة، كما هو ظاهر اللفظ. وقد تعقب القاري في شرح المشكاة الجزم بالشك، وقال: إنْ أُريد بالميت من يؤول إلى الموت؛ فأو للشك، وإنْ أريد به الحقيقة، أي: المقابل للحي؛ فأو للتنويع.اهـ. فقوله إذاِ: «الميت» أي: الحكمي، أو الحقيقي؛ فأو للتنويع، قال في المرقاة: ولا وجه لما جزم به ابن حجر من أنها للشك، والمراد من الثاني هو الأول. قوله: «فقولوا خيراً». قال السندي: أي ادعوا له بالخير لا بالشر، أو ادعوا بالخير مطلقاً لا بالويل ونحوه، والأمر للندب، ويحتمل أن المراد: فلا تقولوا؛ فالمقصود النهي عن الشر بطريق الكناية، لا الأمر بالخير. انتهى. وقال المظهر: أي ادعوا للمريض بالشفاء، وقولوا: اللهم اشفه، وللميت بالرحمة والمغفرة، وقولوا: اللهم اغفر له وارحمه. وقال بعضهم: «فقولوا خيراً»، أي: لا إله إلا الله، مع الإتيان بالدعاء بالخير له، أو لكم، كما يدل عليه ما جاء في أحاديث طلب الدعاء في العيادة، كما سيأتي بعضها. قوله: «فإنَّ الملائكة». أي: المكلفين بالاستغفار للمؤمنين، (يؤمنون) بالتشديد من التأمين، والتأمين على دعائهم، أي: يقولون: آمين، «على ما تقولون». أي: من الدعاء له من خير أو شر، ودعاء الملائكة مستجاب. وقيل: قوله: «فإن الملائكة». أي: ملك الموت وأعوانه «على ما تقولون». أي من الدعاء خيراً أو شراً. وفي الحديث: الندب إلى قول الخير عند المريض والمحتضر، من الدعاء والاستغفار وطلب اللطف به، والتخفيف عنه ونحوه، وفيه: حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم. (النووي). ويحتمل أنْ يقال: إنهم إذا تكلموا في حق الميت بما لا يرضاه الله -تعالى- يرجع تبعته إليهم؛ فكأنهم دعوا على أنفسهم بشر، ويكون المعنى كما في قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: بعضكم بعضا. موت أبي سلمة قالت: فلما مات أبو سلمة، وذلك سنة ثلاث أو أربع من الهجرة؛ فإنَّ أبا سلمة رضي الله عنه شهد أحداً، وكانت في شوال سنة ثلاث؛ فجرح فيها جرحاً فاندمل ثم انتقض؛ فتوفي منه لثلاثٍ خلون من جمادى سنة أربع، كما ذكر ابن عبد البرّ في كتابه (الاستيعاب). وأبو سلمة هو: عبدُ اللّه بنُ عبدِ الأَسَدِ بن هلال بن مخزوم القُرَشي المخزومي، يكنى أَبا سلمة، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أُمه بَرَّة بنت عبد المطلب، وهو أَخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَخو حمزة بن عبد المطلب من الرضاعة، أَرضعتهم ثُوَيْبَة مولاة أَبي لهب، وهو ممن غَلَبت عليه كُنيتهُ. وهو زوج أُم سلمة قبلَ النبي صلى الله عليه وسلم ، أَسلمَ بعد عشرة أَنفس، وكان الحادي عشر، قاله ابن إِسحاق، وهاجر إِلى الحبشة، وكان أَول من هاجر إِليها، قاله أَبو عمر. وقال ابن منده: وهو أَول من هاجر بظعينته إِلى الحبشة وإِلى المدينة. وقال أَبو نعيم: كان أَبو سلمة أَول من هاجر من قريش إِلى المدينة، قبل بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأَنصار بالعقبة، ومعه امرأَته أُم سلمة، وولد له بالحبشة عمر بن أَبي سلمة. موقف قريش من أبي سلمة ومنعت قريش أبا سلمة من أنْ يصطحب معه زوجته أم سلمة وابنه الصغير سلمة؛ فبقيت قرابة سنة بعده حتى لحقت به، وكان أبو سلمة لما أراد الهجرة، رحّل لها بعيراً وحملها عليه، وفي حِجْرها ابنها سلمة؛ فلما رآه رجال بني المغيرة قالوا: هذه نفسك قد غلبتنا عليها؛ فما بال صاحبتنا ؟ لا ندعك وتسييرها في البلاد، ثم انتزعوا خطام البعير من يده، وأخذوها إليهم؛ فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد بن هلال، وقالوا: والله لا نترك ابنها عندكم؛ إذْ نزعتموها من يد صاحبنا - يعنون أبا سلمة - وتجاذبوا سلمة بينهم، حتى خلعوا يده؛ فكانت مخلوعة حتى مات. وشهد أبوسلمة بدرًا وأُحدًا، واستخلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة لمَّا سار إِلى غزوة العُشَيرة، سنة اثنتين من الهجرة. قلت: وقد نبّه أهل العلم على قول الحافظ ابن منده: إِن أَبا سلمة شهد بدرًا وأُُحدًا وحنينًا والمشاهد، ثم قال بعد هذا القول: إِنه مات بالمدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من بدر! فمن مات لما رجع من بدر، كيف يشهد حُنينًا وكانت سنة ثمان؟! وكذا قوله: إِنه مات لما رجع من بدر، فيه نظر؛ فإِنه شهد أُحدًا ومات بعدها. مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم ومما يدل على مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته له: ما جاء عن أُم سلمة قالت: لما حضر أَبا سلمة الموت، حضره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما شخص أَغمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عينيه. رواه مسلم، وسيأتي الكلام عليه. قولها: أتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات، قال: «حذف العاطف؛ لأن مرادها الإخبار بما قال من غير قيد اتصال أو انفصال. قوله: قولي: اللهم اغفر لي وله»، فيه البداءة بالنفس في الدعاء، وهي طريقة الكتاب والسنة، كما في قوله: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا}، وقوله: {ربنا اغفر لي ولوالدي}(إبراهيم: 41)، وغيرها. قوله: «وأعْقبني عقبى حسنة»، وأعْقبني بقطع الهمزة: أي: أبْدلني وعوّضني، من أعقب بين الشَّيئين: أتى بأحدهما بعد الآخر، وأعقب أباه في منصبه، تلاه وخلفه فيه من بعده، وأعقب فلانًا خيرًا: جازاه، وعوَّضه وبدَّله. وأعقب فلانًا ندمًا وحسرةً: أورثه، وأتبعه، وألحقه، كما في قوله -تعالى-{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}(التوبة). و«عقبى» بوزن بُشرى، اسم مصدر أعقب,»«حَسَنة». أي: بدلاً صالحاً . أعقبني الله مَنْ هو خيرٌ قولها: «فقلت». أي: ما أمرني به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، من الدعاء المذكور، «فأعقبني الله مَنْ هو خيرٌ لي منه»، أبدلت «من» من قولها «محمداً؛ ففيه: حصول ثمرة الامتثال بسرعة من غير توان ؛ فسبحان الملك الوهاب. قال عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه : إن أم سلمة لما انقضتْ عدتها خطبها أبو بكر فردّته، ثم خطبها عمر فردّته؛ فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالت: مرحباً، أخبرْ رسول الله أني غيرى - أي شديدة الغيرة-، وأني مُصْبية -أي ذات أولاد صغار-، وليس أحدٌ من أوليائي شاهدا؛ فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما قولك: إني مصبية؛ فإنَّ الله سيَكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي». أحمد. من أسباب حسن الخاتمة التوفيق لحسن الخاتمة فضل كبير ونعمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى-، ومن أسبابُ التوفيق للخاتمة الحسنة أمور عدة أهمها: النيةُ الصالحة والإخلاصُ لله؛ لأنَّ النيةَ والإخلاص شرطان للأعمالِ المقبولة. المحافظةُ على الصلواتِ جماعةً؛ ففي الحديث: «من صلّى البردَين دخل الجنة». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه ، والبردان هما الفجر والعصر. الإيمان والإصلاح، الإصلاح للنفس، والإصلاح للغير، كما قال -تعالى-: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون}(الأنعام:48). تقوَى الله في السرِّ والعلن بامتثالِ أمرِه واجتنابِ نهيِه والدوامِ على ذلك، كما قال -تعالى-: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص:83). اجتنابُ الكبائر وعظائمِ الذّنوب، قال الله -تبارك وتعالى-: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}(النساء:31). البعدُ عن ظلم الناسِ وعدَمُ البغي والعدوان عليهم في نفسٍ، أو مال، أو عِرض، قال صلى الله عليه وسلم : «المسلِمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويده، والمهاجِر من هجَر ما حرَّم الله»، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: «واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حِجاب». رواه البخاري وغيره، وفي الحديثِ: «ما من ذَنبٍ أسرَع من أن يعجّل الله عقوبتَه من البغي وقطيعة الرحم». |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (3) - باب : تلقين الموتى : لا إله إلا الله الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «َلقِّنُوا مَوْتَاكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه»، هذا الحديث رواه مسلم في أول كتاب الجنائز (1/631)، وقد بوّب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . والتلقين: هو التعليم والتفهيم، والمراد بتلقين الميت: أن يكون عنده من يذكره بالنطق بـ (لا إله إلا الله)، كما لو كان يُعَلِّم صبياً ويلقنه، والمراد بالميت هنا: المحتضَر الذي نزل به الموت، وليس الميت الذي فارق الحياة؛ فإنه لا ينتفع بذلك، وإنما استُحِب تلقين الميت كلمة الإخلاص في هذه الحال، لأجل أن يختم له بها، وتكون آخر ما ينطق به من الكلام؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها. وعن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميقولُ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ». رواه أحمد (21529)، وأبو داود (3116). وعن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رجُلا مِنْ الأَنْصارِ؛ فقال: «يا خَالُ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»، قال: خَالٌ أَمْ عَمٌّ؟! قال: بَلْ خَالٌ، قال: وخَيْرٌ لي أَنْ أَقُولَهَا؟! قال: نَعَمْ». رواه أحمد (13414)، وقال الألباني في أحكام الجنائز: إسناده صحيح على شرط مسلم . لا ينبغي إيذاء المحتضر ولا ينبغي إيذاء المحتضر بالإكثار عليه في التلقين ، إذا قال : لا إله إلا الله، ولم يتكلم بعدها بشيء . قال النووي: «وكرِهُوا الإِكْثَار عليه والْمُوَالاة، لِئَلا يَضْجَر بِضِيقِ حَاله، وشِدَّة كَرْبه؛ فَيَكْرَه ذلِك بِقَلبِهِ , ويَتَكَلَّم بِما لا يَلِيق. قالوا: وإِذا قالَهُ مَرَّة، لا يُكَرِّر عليه، إِلا أَنْ يَتَكَلَّم بعده بِكلامٍ آخَر؛ فَيُعَاد التَّعْرِيض به؛ لِيَكُونَ آخِر كَلَامه». انتهى. ولَمَّا احْتُضِرَ عبد الله بْنُ المُبَارَكِ -رحمه الله- جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فأَكْثَرَ عليه. فقال له: لستَ تُحْسِنُ! وأَخافُ أَنْ تُؤْذيَ مُسلماً بعدي، إِذا لَقَّنْتَنِي؛ فقلتُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ لَمْ أُحْدِثْ كلاماً بعدَهَا؛ فَدَعْنِي، فإِذا أَحدَثْتُ كلاماً؛ فَلَقِّنِّي حَتَّى تَكونَ آخِرَ كَلامي. سير أعلام النبلاء (8/418) . مسألة: هل التلقين خاصٌ بالمسلم ؟ - الجواب: لا، بل التلقين يُشرع لكلّ أحد، ولو كان الميت كافراً؛ لأنه لو قالها قبل موته، نفعته وأنقذته من الخلود في النار، ولو عُذّب ما عذب قبلها بذنوبه وسيئاته، كما هو معتقد أهل السنَّة والجماعة، وسيأتي صريحا في حديث أبي هريرة. ومما يدل على أن الأمر بالتلقين يعمّ المسلم والكافر؛ فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عمّه أبي طالب، ومع الغلام اليهودي الذي كان يخدمه. فقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم موت عمه أبي طالب، وقال له: «أَيْ عَمِّ، قُلْ: لا إِله إِلا اللَّهُ، كلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بها عِنْدَ اللَّه». رواه البخاري (3884) ومسلم (24). وكذلك حضر النبي صلى الله عليه وسلم موت الغلام اليهودي الذي كان يخدمه، وقال له: «أَسْلِمْ». رواه البخاري (1356)، وفي رواية أحمد (12381) قال له: «قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ». ويدلّ عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقّنوا مَوْتاكم لا إله إلا الله؛ فإنِّه مَنْ كان آخر كلامه: لا إله إلا الله عند الموت، دخلَ الجنةَ يوماً مِن الدهر، وإنْ أصَابه قبل ذلك ما أصابه». رواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5150). فائدة: هل التلقين بلفظ الأمر هل يكون التلقين بلفظ الأمر، بمعنى أنّ الملقن يأمر المحتضر؛ فيقول له: قُلْ: لا إله إلا الله، أو يتلفّظ بها أمامه؛ بحيث يتذكرها إذا سمع من يقولها أمامه؟ أما إذا كان المسلم قوي النفس، لم يجزع، فلا بأس من أنْ يؤمر بها, ويستدل على ذلك، بحديث الأنصاري المتقدّم، وفيه أمره صلى الله عليه وسلم له بقول: لا إله إلا الله، بقوله: «يَا خَالُ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ». قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «ينبغي في هذا أنْ ينظر إلى حال المريض؛ فإنْ كان المريض قوياً يتحمَّل، أو كان كافراً؛ فإنه يُؤمر؛ فيقال: قلْ: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك. وإنْ كان مسلماً ضعيفاً؛ فإنه لا يؤمر، وإنما يُذكَر الله عنده حتى يسمع فيتذكَّر، وهذا التفصيل مأخوذ من الأثر، والنظر. أما الأثر: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أبا طالب عند وفاته أنْ يقول: لا إله إلا الله، قال: يا عم قل : لا إله إلا الله. وأما النظر؛ فلأنه إنْ قالها فهو خير، وإنْ لم يقلها فهو كافر، فلو فرض أنه ضاق صدره بهذا الأمر ولم يقلها، فهو باق على حاله لم يؤثر عليه شيئاً، وكذا إذا كان مسلماً وهو ممن يتحمل؛ فإن أمرناه بها لا يؤثر عليه، وإن كان ضعيفاً؛ فإن أمرناه بها ربما يحصل به رد فعل؛ بحيث يضيق صدره ويغضب؛ فينكر وهو في حال فِراق الدنيا؛ فبعض الناس في حال الصحة إذا قلت له قل: لا إله إلا الله، قال: لن أقول: لا إله إلا الله؛ فعند الغضب يغضب بعض الناس حتى ينسى؛ فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله؛ فما بالك بهذه الحال؟ (انظر الشرح الممتع5/177). فائدة: تلقينه (لا إله إلا الله) التلقين يكون بتلقينه (لا إله إلا الله)، ولم يُنقل تلقينه قول: محمد رسول الله؛ لأنَّ هذا هو الذي وردَ فيه نص الحديث، وهو قوله: «لقّنوا موتاكم: لا إله إلا الله»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً : «مَنْ كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، دخل الجنة». فكلمة التوحيد هي: لا إله إلا الله، وهي مفتاح الإِسلام، وما يأتي بعدها فهو من مكمّلاتها ومُتمماتها. ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال له قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ فهذا لا يمنع مِنْ أن يكون آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله)؛ لأنّ الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، تابعٌ لما قبلها، ومتممٌ لها؛ ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع الشهادة لله بالألوهية ركناً واحداً، فلا يُعاد تلقينه. لكن لو اقتصر على قوله: أشهد أنْ محمداً رسول الله؛ فظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر ذلك، بل لابدّ أنْ يقول: لا إله إلا الله أولاً؛ لأنها الأصل. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (4) - باب: مَنْ أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبّ الله لقاءه الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ؛ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ؛ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فقال: «لَيْسَ كَذَلِكِ؛ ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ؛ ورِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ؛ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ؛ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ؛ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ؛ وكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». وفي رواية: عن شُرَيْحِ بن هانِئٍ عن أَبِي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ؛ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قال: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فقلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ سَمِعْتُ أَبا هُريرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حدِيثًا؛ إِنْ كان كذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا؟! فقالتْ: إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ بِقَولِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ وما ذَاكَ؟ قال قال رسولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ؛ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ «وليس مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وهو يَكْرَهُ المَوْتَ! فقالتْ: قدْ قَالَهُ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ وليسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِليه؛ ولكِنْ إِذا شَخَصَ البَصَرُ؛ وحَشْرَجَ الصَّدْرُ؛ واقْشَعَرَّ الجِلْدُ؛ وتشَنَّجَتْ الْأَصابِعُ؛ فعنْدَ ذلكَ؛ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ؛ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. شرح الحديث الحديث رواه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ( 4/2065) وقد بوب عليه النووي كتبويب المنذري؛ ورواه البخاري ( 6026) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه . قوله «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» هذا الحديث يفسّره آخره، كما قال الحافظ النووي في شرحه: «ومعنَى الحدِيث: أَنَّ الْكَرَاهَة الْمُعْتَبَرَة: هي الَّتِي تَكُون عِند النَّزْع؛ في حالةٍ لا تُقْبَل تَوْبَته ولَا غيرها، فحِينَئِذٍ يُبَشَّر كُلّ إِنْسَان بما هو صَائِر إِليه، وما أُعِدَّ له، ويُكْشَف له عن ذلكَ». شرح صحيح مسلم. لحظات الموت فالمؤمن في لحظات الموت إذا بُشِّر برضوان الله ورحمته، وما أعدَّ الله له في الجنة من النَّعيم المقيم، والثواب الجزيل، والعطاء الواسع العظيم؛ فإنه يحبُّ لقاء الله -عز وجل-، ويتشوَّق إليه، فيحبُّ اللهُ لقاءه. وأما الكافر والفاجر -والعياذ بالله- فإنه إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه، وما ينتظره من العقاب والعذاب والنكال؛ فإنه يكره لقاءَ الله، فيكره اللهُ لقاءَه. كما يوضِّحه أيضًا قول رب العزة -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت: 30؛ أي: تبشرهم الملائكة بألا يخافوا مما يُقْدمون عليه، ولا يحزنوا على ما مضى. حال الكفار وقال -تعالى- عن الكفار: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} الأنفال: 50)، يقول -تعالى-: ولو عاينت -يا محمد- حال توفّي الملائكة أرواح الكفار، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا؛ إذْ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون لهم: {ذوقوا عذاب الحريق}. ( ابن كثير ). الاستعداد للنقلة العظمى وبهذا ندرك أنه يجب على الإنسان الاستعداد لهذه النقلة العظمى إلى الدار الآخرة؛ حتى إذا حضَرَت؛ فقد أعدَّ العدّة من العمل الصالح الذي يسرُّه أنْ يلقاه، ويلقى الله -تعالى- به، لا أن يتمنَّى على الله الأماني حين لا ينفعه ذلك، ويرجو أن يُعاد ويرجع إلى الدنيا؛ كما أخبر الله عن أولئك في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كلا} المؤمنون: 99- 100. لقاءُ الله -تعالى ولقاءُ الله -تعالى- حاصل لا محالة، يقول الله -جل وعلا-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(البقرة: 223)، ويقول -عزّ من قائل-: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(العنكبوت: 5)، ويقول -سبحانه-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110). وفي الصحيحين: من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؛ إِلَّا وسَيُكَلِّمُهُ اللهُ يوْمَ الْقِيَامَةِ، ليس بَيْنَه وَبَيْنَ اللهِ تَرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلا يَرَى شَيْئًا قدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». وفي رواية عند البخاري: «ما منكم مِن أحدٍ؛ إلا وسيكلمه ربُّه؛ ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجابٌ يحجبه». وفي رواية أيضًا عند البخاري: «وليلقينَّ الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمانٌ يترجم له، فيقولنَّ: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُعْطك مالًا وولدًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم». هل نرى ربنا يوم القيامة؟ وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة؛ ليست في سحابة؟ «قالوا: لا، قال: «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؛ ليس في سحابة؟ «قالوا: لا، قال: «فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم؛ إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، قال: فيلقى العبد فيقول: أَي فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ؟ فَيقول: لا. فَيَقول: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي...». الحديث رواه مسلم. ولكن الناس يتفاوتون في حب هذا اللقاء أو كراهيته، كما ورد في حديث الباب، بالنظر لما قدَّموا في هذه الحياة الدنيا من العمل، فقال الله -تعالى- عن المؤمنين: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 46). وقال -سبحانه- مادحًا لعباده، ومبشرًا لهم بحُسن العُقبى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} الأحزاب: 44. ولقاءُ اللهِ -سبحانه- للمؤمنين؛ لقاءٌ كلُّهٌ تشريف وتكريم، وعِزّ ونعيمٌ من الربّ الكريم الرحيم؛ ولذا جاء في الرواية قوله «فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه» أي: ما يستقبله بعد الموت؛ أما لقاء الكافرين لربهم العزيز الحكيم، فعذابٌ أليم، وتصلية جحيم. كراهية الحي للموت قوله «فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ!» فيه: كراهية الحي للموت، قال الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام: «ليس كراهة الموت وشدته؛ لأنّ هذا لا يكاد يخلو عنه أحدٌ؛ ولكن المذموم من ذلك: إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة. قال: ومما يبين ذلك: أن الله -تعالى- عاب قوما بحب الحياة، فقال: {إنَّ الذين لا يَرجُون لقاءَنا ورضُوا بالحياةِ الدنيا واطْمأنوا بها} يونس: 7. وسبق قول النووي-رحمه الله-: معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي يُعتد بها شرعا هي التي تقع عند النزع، في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة؛ حيث يكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه. فما مِن مخلوق إلا وهو يُدافِع الموت ويكرهُه، ويكرهُ لقاءَه؛ ولذلك لما أخبر بهذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، تعجَّب منه الصحابة -رضي الله عنهم- وأنهم جميعاً يكرهون الموت، واستغرَبوا ما يترتَّب على ذلك؛ مما سَبق إلى أنفسهم مِن أن كراهية الموت تقتضي كراهية لقاءِ الله -تعالى-؛ فأوضح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حقيقة هذا الأمر. تفصيل مهم وفي كراهة الموت في حال الصحة تفصيل؛ فمن كرهه إيثارًا للحياة على ما بعد الموت، من نعيم الآخرة، كان مذموما، ومَن كرهه خشية أنْ يفضي إلى المؤاخذة، كأن يكون مقصرا في العمل، لم يستعد له كما ينبغي، بالتوبة والإنابة والاستغفار، والتخلّص من التبعات، ويقوم بأمر الله كما يجب، فهو معذور؛ لكن ينبغي له أنْ يبادر إلى أخذ الأهبة والاستعداد، حتى إذا حضره الموت لا يكرهه؛ بل يحبه؛ لما يرجو بعده من لقاء الله -تعالى. وفي رواية مسلم عن شريح بن هانئ قال «فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثا، إن كان كذلك فقد هلكنا؛ فذكره قال: «وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت: ليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر» أي: فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف» و «وحَشَرج الصدر»أي: ترددت الروح في الصدر. «واقشعر الجلد» أي: وقف الشعر، «وتشنجت الأَصابِع» أي: انقبضت. وهذه الأمور تحصل في حالة الاحتضار. مسألة: قال الخطابي: اللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة، ومنها البعث، كقوله -تعالى-: {الذين كذبوا بلقاء الله}. ومنها الموت، كقوله: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}، وقوله: {قلْ إنَّ الموتَ الذي تفرُّون منه فإنه ملاقيكم}. انتهى. - أما لقاء الله بمعنى الموت، فعبر عنه بلقاء الله، لما كان الموت وسيلة إليه. - أما ملاقاة الله -تعالى- ورؤيته للمؤمنين يوم القيامة؛ فثابتة في أدلّة كثيرة في الكتاب والسُّنة النبوية، فمنها: قوله -تعالى-: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} الأحزاب: 44. والرؤية لهم في قوله -تعالى-: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة} القيامة. - وفي حديث أَبِي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، هلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قال: «هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» قَالُوا: لا يا رسولَ اللَّهِ، قَال: «فَهَلْ تُمَارُونَ في الشَّمْسِ ليسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ «قَالُوا: لا، قَال: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِك». رواه البخاري (764). |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (5) - في حسن الظن بالله -تعالى- عند الموت (1) الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ، يَقُول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ، إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ»، الحديث رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2205-2206)، وبوب عليه النووي : باب : الأمر بحُسن الظن بالله -تعالى- عند الموت . قوله: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ...» أي: لا يموتن أحدُكم في حالٍ من الأحوال، إلا في هذه الحال ، وهي حسن الظن بالله -تعالى-؛ بأنه يغفر له ويرحمه ويعفو عنه. وفي الحديث: تحذيرٌ من القُنُوط، وحثّ على الرجاء عند الخاتمة، وحث على الأعمال الصالحة المقتضية لحُسن الظن بالله، وفيه تنبيهٌ على تأميل العفو، وتحقيق الرجاء في روح الله ورحمته؛ ففي الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم : «يقول الله -تعالى-: أنا عندَ ظنِّ عبْدي بي، وأنا مَعه إذا ذَكَرني...». متفق عليه، وفي رواية: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيراً»، وفي رواية: «فليظن بي ما شاء». رحمة الله والله -تعالى- وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم بنا من أمهاتنا وأبائنا؛ ولهذا قال الإمام سفيان الثوري -رحمه الله-: «ما أحبُّ أنَّ حسابي جُعل إلى والدي؛ فربّي خيرٌ لي من والدي»، قال النووي: «قد تتبعتُ الأحاديث الصحيحة في الخوف والرَّجاء؛ فوجدت أحاديث الرجاء أضعاف أحاديث الخوف مع ظهور الرجاء فيها». قال في مرقاة المفاتيح: لو لم يكن إلا حديث واحدٌ؛ وهو : «سَبَقت - أو غَلَبت - رحمتي على غضبي»، لكفى دليلا على ترجيح الرجاء، ويعضده آية: { ورحْمتي وَسَعتْ كلَّ شيء}، بل هو أمرٌ مشاهد في عالم الوجود من غلبة آثار الرجاء على آثار الخوف؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا؟». أحسنوا أعمالكم قال الطيبـي: أي: أحسنوا أعمالكم الآن، حتى يُحسن ظنكم بالله عند الموت; فإنَّ من ساء عمله قبل الموت يسوء ظنه عند الموت، قال الأشرف: الخوف والرجاء كالجناحين للسائر إلى الله -سبحانه وتعالى- لكن في الصحة ينبغي أنْ يغلب الخوف؛ ليجتهد في الأعمال الصالحة، وإذا جاء الموت وانقطع العمل، ينبغي أنْ يغلب الرجاء وحُسن الظن بالله; لأن الوفادة حينئذ إلى ملك كريم رؤوف. انتهى. القنوط من رحمة الله والقنوط من رحمة الله -تعالى- محرم وهو كبيرة من الكبائر، نهى الله -تعالى- عباده عنه في كتابه، قال -سبحانه-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر : 53)، صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إنَّ ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتَلوا فأكْثروا، وزَنَوا فأكْثروا ، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا: إنّ الذي تقول وتدعو إليه لحَسَن، لو تخبرنا أنَّ لما عملناه كفارة؛ فنزلت هذه الآية: {قل يا عبادي الذين أسْرَفوا على أنفسهم} الآية. رواه البخاري، وقال -تعالى- عن نبيه إبراهيم -عليه السلام- لما بشّرته الملائكة بالولد: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(الحجر: 56). بشارة الملائكة لإبراهيم -عليه السلام فالملائكة لمّا بشرت إبراهيم -عليه السلام- بالولد تعجّب؛ وذلك لكبر سنّه، وعُقم امرأته؛ فقالوا له: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِين}؛ فأجابهم إبراهيم بقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} الذين لا علم لهم بربهم، وكمال قدرته، وأمّا مَنْ أنعم الله عليه بالهداية، والعلم العظيم، فلا سبيل للقنوط إليه؛ لأنه يعرف من كثرة الأسباب والوسائل والطرق لرحمة الله شيئا كثيراً، وقال -سبحانه- على لسان يعقوب -عليه السلام-: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون}(يوسف: 87)، قال لأبنائه: لا تقنطوا من أنْ يروِّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن على يوسف وأخيه بفرَجٍ من عنده؛ فنراهما، إنه لا ييأس من روح الله، يقول: لا يقنط من فرجه ورحمته، ويقطع رجاءه منه {إلا القوم الكافرون}، يعني: القوم الذين يجحدون قُدرته على ما يشاء. قال صلى الله عليه وسلم : «لوْ يَعلَمُ المؤمنُ ما عندَ اللهِ من العُقُوبةِ، ما طَمِعَ بجنَّتِهِ أَحَدٌ، ولو يَعلَمُ الكافرُ ما عندَ اللهِ منَ الرَّحمةِ، ما قَنَطَ من جنَّتِهِ أحَدٌ». رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا تَسأَلْ عنهُم: رَجُلٌ نازَعَ اللهَ رِداءَهُ؛ فإنَّ رِداءَهُ الكِبرِيَاءُ، وإِزارَهُ العِزَّة، ورَجُلٌ شكَّ في أَمْرِ اللهِ، والقُنوطُ من رحمةِ اللهِ». رواه الإمامُ أحمد وصحَّحه الألباني، أي: هؤلاء قد وصلوا في الهَلاكِ والبُعد عن الله، درجة لا يُسأل معها عن مصيرهم وعاقبتهم، وعن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ رجُلاً قالَ: يا رسُولَ اللهِ؛ ما الكبائِرُ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «الشِّركُ باللهِ، والإِياسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، والقُنُوطُ من رحمةِ اللهِ» رواه البزَّار وحسنه العراقي. وقالَ الصحابي الجليل ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : الكبائِرُ: الشِّركُ باللهِ، واليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، والقنُوطُ من رحمةِ اللهِ، والأمنُ من مَكْرِ اللهِ. رواه الطبرانيُّ في الكبير وصحَّحه ابنُ كثيرٍ وغيره . أسباب القنوط وللقُنوطِ من رحمة الله أسباب من أهمِّها: الإسْراف في المعاصي، ثم الجهل بسعة رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وعدم العلم بها، ومجالسة أهل القنوط والبعد عن الله؛ فالرجاء منزلةٌ عظيمة من منازل العبودية لله -تعالى-، وهي عبادة قلبية تتضمن ذلاً وخضوعاً، ورغبةً فيما عند الله، أصلها: المعرفة برحمة الله ومغفرته، وعفوه وحلمه وكرمه ، ولازمها: الأخذ بأسباب الوصول إلى ذلك؛ فهو حسن ظنٍّ مع إيمانٍ وعلم وعمل، وتوبة وندم . والخوف من الله -عز وجل- كذلك منزلة عظيمة من منازل العبودية، وهو أيضاً من عبادات القلوب التي لا تكون إلا لله -سبحانه-، وصرفها لغيره شرك أكبر؛ إذْ إنه من تمام الاعتراف بملكه وسلطانه، وقدرته وعلمه، ونفاذ مشيئته في خلقه، وأهل الإيمان الصحيح، من المحبين الصادقين، هم في هذا المقام في حال موزون بين الرجاء والخوف . فرجاؤهم معلّق برحمة الله -تعالى- وهم مع ذلك؛ أشد الناس خوفًا من الله -تعالى-، وقد جمع الله -تعالى- هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في وصفه للملائكة المقرّبين، والأنبياء المرسلين، والصالحين العابدين من الإنس والجن؛ فقال -جل جلاله- عنهم: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}(الإسراء: 57). |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (6) - في حسن الظن بالله -تعالى- عند الموت (2) الشيخ.محمد الحمود النجدي استكمالاً لما بدأناه من شرح حديث جابر رضي الله عنه حيث قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ، يَقُول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ، إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ»، الحديث رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2205-2206)، وبوب عليه النووي : باب : الأمر بحُسن الظن بالله -تعالى- عند الموت، نقول: المنهج الوسط العدل وهذا هو المنهج الوسط العدل، ومَنْ تدبَّر كلام الله- تعالى-، وجد هذا المنهج القويم؛ فقد ذكر الله -تعالى- هذا في بيانه -سبحانه- لصفاته العلا؛ حيث يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، ثم ذكر المقابل فقال: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ}(الحجر: 49). أي: أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمةٍ، وذو عقابٍ أليم؛ فالخوف والرجاء كجناحي الطائر -كما ذكر أهل العلم- متعاضدان مقترنان؛ فالمسلم يرجوا ما عند الله، ولكن أيضاً يخافه ويخشاه . قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(الأنبياء:90)، ومن الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له -سبحانه-: التفكر في الخاتمة؛ والحساب؛ وتذكر ما أعد الله -سبحانه- لأهل طاعته من النعيم المقيم الأبدي، وما أعد الله لأهل معصيته، من العذاب الشديد الذي لايطيقه بشر، وهذا المنهج هو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، ومن اتبعهم بإحسان. إرشاد العباد ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في إرشاد العباد ألا يَقنَطوا أبدًا من رحمة رب العالمين؛ فإنّ رحمته واسعة، وإذا كان خوف العبد من الله -تعالى- يمنعه من المعاصي؛ فالرجاء فيما عنده يدفع العبد إلى التوبة، وإلى حُسن الظن بالله -سبحانه وتعالى- في قبوله له؛ فالإنسان المؤمن إذا تاب إلى الله -سبحانه-، تاب الله عليه؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله -تعالى-: يا ابنَ آدمَ ، إنك ما دعوتني ورجَوتني، غفَرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، لو بلغتْ ذنوبُك عَنان السماء، ثم استغفرتَني، غفَرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتَني بقُراب الأرض خَطَايا، ثم لقِيتني لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرة». رواه الترمذي . و«عَنان السماء» بفتح العين، قيل: هو ما عنَّ لك منها، أي: ظهر إذا رفعتَ رأسك، وقيل: هو السحاب، و«قُراب الأرض» بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أصحُّ وأشهر، وهو ما يُقارب مِلأَها؛ فالإنسان ينبغي له أنْ يكون طامعًا في فضل الله -عز وجل- راجيًا ما عنده. متى يُحسن العبد الظنَّ بالله -عزّ وجل؟ الجواب: يُحسن الظن بالله -تعالى- إذا فعل ما يُوجب فضل الله ورجاءه، ورحمته وإحسانه، بأنْ يؤمن بالله -سبحانه- وأسمائه وصفاته، ويعمل الصالحات، ويحسن الظن بأن الله -تعالى- يَقبله منه، أما أن يحسن الظن وهو لا يؤمن ولا يعمل؛ فهذا من الغرور؟ ومن التمني على الله، ومَن أتْبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني؛ فهو عاجز، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(البقرة : 218). قال الطبري: فالذين تحوَّلوا من سُلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه؛ وفيما يُرضي الله {أولئك يرجون رَحمة الله} أي: يَطْمعون أنْ يرحمهم الله؛ فيدخلهم جنته بفضلِ رحمته إياهم. انتهى فكان رجاؤهم بعد الإيمان بالله -تعالى- ورسوله، وبعد الهجرة والجهاد في سبيل الله -تعالى-؛ فحسن الظن بأنْ يوجد من الإنسان عمل صالح يقتضي حُسن الظن بالله -عز وجل-، هذا هو إحسان الظن الصحيح . وقال النووي -رحمه الله-: «قال العلماء: معنى حُسن الظن بالله -تعالى-: أنْ يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حال الصحة يكون خائفاً راجياً ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح؛ فإذا دنت أمارات الموت، غلَّب الرجاء أو محَّضه؛ لأنّ مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال؛ فاستُحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله -تعالى- والإذعان له، ويؤيده الحديث المذكور بعده: «يُبْعثُ كلُّ عبدٍ على ما ماتَ عليه»؛ ولهذا عقبه مسلم للحديث الأول، قال العلماء معناه: يُبعث على الحالة التي مات عليها، ومثله الحديث الآخر بعده: «ثم بُعثوا على نيّاتهم» انتهى . (شرح مسلم) (17/210). وكذلك حسن الظن بالله -تعالى- يكون إذا وُجد من الإنسان عملٌ صالح، يقتضي حُسن الظن بالله -عز وجل- أنه يقبله منه، ويثيبه عليه؛ فمثلاً إذا تاب الإنسان وأناب، وندم واستغفر، أحسن الظن بالله -سبحانه- أنه يقبل توبته ورجوعه، ويثيبه عليها خيراً، كما قال -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشورى : 25). قال الطبري: يقول -تعالى- ذكره: والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}، يقول: ويعفو له أنْ يعاقبه على سيئاته من الأعمال, وهي معاصيه التي تاب منها. انتهى وهكذا إذا صلى، أحسن الظن بالله أنه يقبل صلاته منه، إذا صام فكذلك، إذا تصدَّق فكذلك؛ فإذا عمل عملاً صالحًا، أحسن الظن بأن الله -تعالى- يقبل منه عمله، أما أنْ تُحسن الظنَّ بالله مع مبارزتك له بالعِصيان؛ فهذا دَأْبُ العاجزين المغرورين، الذين ليس عندهم رأس مالٍ يرجعون إليه، ويتاجرون به. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سُرعة مجازاة اللهَ -سبحانه وتعالى- وإكْرامه لعبده، إذا تقرّب إليه، وتحبّب له؛ فهو أكثر حبأً، وأعظم كرمًا، وأسرع إجابة من عبده . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -عز وجل-، قال : «إذا تقرَّب العبدُ إليَّ شبراً ؛ تقربت إليه ذراعاً ، وإذا تقرب إليَّ ذراعاً ؛ تقربت منه باعاً ، وإذا أتاني يمشي ؛ أتيته هرولة». رواه البخاري، وثبت في الصحيحين: عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، مِنْ أحدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة؛ فانفلتتْ منه, وعليها طعامه وشرابه؛ فأيس منها فأتى شجرة؛ فأضطجع في ظلها –قد أيس من راحلته-؛ فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده؛ فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأن ربك أخطأ من شدة الفرح». الخوف الشرعي والواجب في هذا الشأن أنْ نفرق بين خوفين: 1- الخوف من الله -عز وجل- الذي يؤدي إلى تقوى الله في جميع الأعمال، بالحرص على الطاعات، واجتناب المحرمات، والإكثار من نوافل العبادات، والإحسان إلى الخلق؛ فهذا خوفٌ محمود، مأجور عليه صاحبه -بإذن الله تعالى . 2- الخوف من لقاء الله يأساً من رحمته، وفرقاً من عذابه، من غير أنْ يكون لذلك أثر ظاهر في أخلاق المرء وأعماله؛ فهذا خوفٌ مذموم، لا ينتفع به صاحبه، بل هو من وسواس الشيطان الذي يقنط عباد الله من رحمته . فالمسلم مأمور بدوام خشية الله والخوف من عذابه، إلا أنه مأمور أيضا أنْ يبقي في قلبه فسحة كبيرة من الأمل بالله، ورجاء عفوه ومغفرته وإحسانه، رجاء يدفع إلى الطمع برحمة الله، ولا يدفع إلى الكسل عن العمل الصالح، أو الوقوع في المحرمات، وهذه أحوال دقيقة يجب على كل مسلم أنْ يتعلَّمها، ويعامل الله -عز وجل- بها. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (7) باب: إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر الشيخ.محمد الحمود النجدي عن أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قالتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أَبِي سَلَمَةَ، وقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ؛ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَال: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَقَال: «لَا تَدْعُوا على أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ علَى ما تَقُولُونَ»، ثُمَّ قَال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ واغْفِرْ لَنَا ولَهُ يا رَبَّ الْعَالَمِينَ وافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ». الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/634) وبوّب عليه النووي كتبويب المنذري، وقولها: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أَبِي سَلَمَةَ» كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعود المرضى من أصحابه، ويتفقد أحوالهم، ويدعو لهم بالشفاء، ويعلمهم ما يحتاجون من أمور طهارتهم وصلاتهم، ونحو ذلك. قولها: «وقد شقّ بصره» قولها: «وقد شقّ بصره» هو بفتح الشين، أي: رفع بصره. قال القاضي: قال صاحب الأفعال: يقال شق بصر الميت، وشق الميت بصره، ومعناه : شَخَصَ، كما في الرواية الأخرى. وقال ابن السكيت في الإصلاح: يقال: شق بصر الميت، ولا تقل : شق الميت بصره، وهو الذي حضره الموت، وصار ينظر إلى الشيء، لا يرتد إليه طرفه. قولها: «فأغْمضه» قولها: «فأغْمضه» دليل على استحباب إغماض الميت، وأجمع المسلمون على ذلك، قالوا: والحكمة فيه ألا يقبح بمنظره لو تُرِك إغماضه؛ فهو مستحب, ولا شيء على مَنْ عجز عنه. قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ينبغي لمَنْ حضر الميت إذا خرجت روحه، وانفتح بصره أنْ يغمضه، مادام حاراً؛ لأنه إذا برد وعيناه شاخصتان، بقيتا شاخصتين، قال العلماء: وينبغي أيضا: أنْ يُلين مفاصلة قبل أنْ تبرد وتشكل؛ وذلك بأنْ يرد ذراعه إلى عضده، وعضده إلى صدره، ثم يمد يده، ويرد الساق إلى الفخذ، والفخذ إلى البطن، ثم يمدها مرات عدة حتى تلين؛ ليسهل تغسيله وتكفينه. انتهى . قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الروح إذا قبض تبعه البصر»، معناه: إذا خرج الروح من الجسد، يتبعه البصر ناظراً أين يذهب، وفي (الروح) لغتان : التذكير والتأنيث، وهذا الحديث دليل للتذكير، وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين ومن وافقهم أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابها، وليس عَرَضا كما قاله آخرون، ولا دما كما قاله آخرون، وفيها كلام متشعب للمتكلمين. (النووي). شخوص البصر فالميت في الغالب يشخص بصره، أي تنفتح عينه باتساع؛ فيشاهد الروح إذا خرجت من البدن، وهذا يدل أنّ الروح جسم وشيء يُرى، لكن لا يراه الناس في الدنيا، إنما يراه الميت والملائكة فقط، وليست عرضاً، ولكنه ليس كأجسامنا هذه؛ فأجسامنا غليظة، لكن الروح جسمٌ لطيفٌ يجري من ابن آدم مجرى الدم، وليس مخلوقاً من طين، بل من مادة الله -تعالى- أعلم بها؛ ولهذا قال الله -تعالى-: {ويَسْألونك عن الروح قلِ الروحُ مِنْ أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}(الإسراء :85). ولما دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد شقّ بصره، عَرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد مات؛ فقال: «إنّ الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناسٌ من أهله» أي: من أهل الميت؛ وذلك لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام، عرفوا أنَّ أبا سلمة قد مات؛ فضجوا كعادة الناس وبكوا؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخيرٍ؛ فإنَّ الملائكة يُؤمنون على ما تقولون»، وكانوا في الجاهلية إذا حصل مثل هذا، يدعون على أنفسهم بالويل والثبور؛ فيقولون: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبه ذلك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النياحة في أحاديث كثيرة، وهي من الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: « أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، ولا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بِهذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ». رواه البخاري (1304) ومسلم (924). لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»؛ ففي هذه الحالة ينبغي للإنسان أنْ يدعو لنفسه بالخير، ويقول ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم أجرني في مصيبتي هذه، واخلف لي خيراً منها» بعد قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا في كل مصيبة؛ فلا ينبغي للإنسان إذا أصيب بمصيبة أنْ يدعو لنفسه إلا بالخير . الدعاء للميت قولها : «ثم قال : اللهم اغْفر لأبي سلمة» إلى آخره ، فيه : استحباب الدعاء للميت عند موته ، ولأهله وذريته بأمور الآخرة والدنيا، قوله صلى الله عليه وسلم : «واخلفه في عقبه في الغابرين»، أي: الباقين، كقوله -تعالى-: {إلا امرأته كانت من الغابرين} . وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة رضي الله عنه أنْ قال: «اللهم اغْفر لأبي سلمة، وارْفع درجته في المَهْديين، ونوَّر له في قبره، وافسحْ له فيه، واخلفه في عقبه»؛ فهذه خمس كلمات ، وهي تساوي الدنيا كلها؛ فقوله: «اللهم اغفر لأبي سلمة»، يعني : اغفر له ذنوبه فلا تعاقبه عليها، وسامحه واعف عنه، «وارفعْ درجته في المهديين» أي : في الجنة؛ لأنّ أصحاب الجنة ، مهديون كلهم . قوله: «وافسحْ له في قبره». أي : وسّع له فيه؛ فإنَّ القبر بالنسبة لمنازل الدنيا ضيق جداً، وهذا بحسب الحسِّ والبصر، لكنه يُفسح للمؤمن حتى يكون كمدّ البصر، ويكون روضة من رياض الجنة، كما جاء في الحديث . «ونوّر له فيه»؛ فالقبر مُظلم بحسب الحس أيضاً؛ فليس فيه ضوء النهار، ولا نور السراج أو غيره، لكن ينوره الله -عز وجل- لمن يشاء من عباده الصالحين . «واخلفه في عقبه». يعني كن خليفة له في ذريته . وكان مِن خلفه في عقب أبي سلمة رضي الله عنه ، أنَّ زوج الله -تعالى- النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة -رضي الله عنها -، وأولاده صاروا ربائب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتربوا في بيته وحجره . «واغْفِرْ لَنَا ولَهُ يا رَبَّ الْعَالَمِينَ» وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه إذا دعا بدأ بنفسه؛ فيقول: اغفر لنا ولفلان، ونرجو الله أنْ يكون قد قبل دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الرجل الصالح في كل ما دعا له به . |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (8) - باب: ثواب من يموت له الولد فيحتسبه الشيخ.محمد الحمود النجدي عَنْ جَابِرٍرضي الله عنه قَال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ، يَقُول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ، إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ»، الحديث رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2205-2206)، وبوب عليه النووي : باب : الأمر بحُسن الظن بالله -تعالى- عند الموت . عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال لِنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: «لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ؛ فَتَحْتَسِبَهُ؛ إِلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ»، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوْ اثْنَيْنِ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: «أَوْ اثْنَيْنِ»، وبإسناد آخر عنه مرفوعا: «لا يموتُ لأحدٍ من المسلمين؛ ثلاثة من الولد؛ فتمسًّه النارُ؛ إلا تحلة القسم». هذا الحديث أخرجه مسلم في البر والصلة (4/2028) باب: فضل من يموت له ولدٌ فيحتسبه، وأخرجه البخاري في الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسب، وقوله -تعالى-: {وبشر الصابرين}. نسوة الأنصار قوله «قال لنسوة من الأنصار» وفي رواية: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ذَهَب الرجال بحديثك؛ فاجعلْ لنا من نفسك يوماً؛ نأتيك فيه تعلمنا مما علَّمك الله، قال: «اجتمعن يوم كذا وكذا» فاجتمعن فأتاهن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فعلَّمهن مما علَّمه الله؛ ثم قال: «ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثةً؛ إلا كانوا لها حجابا من النار» فقالت امرأة: واثْنين واثنين واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «واثنين واثنين واثنين»؛ وفيه: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعليم النساء أمور دينهن، ووعظهن وتذكيرهن بالله -تعالى. تعدد القصة قال الحافظ ابن حجر: وأما تعدد القصة ففيه بُعد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الاثنين بعد الثلاثة أجاب بأن الاثنين كذلك؛ فالظاهر أنه كان أوحى إليه في ذلك في الحال. ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ قوله: «لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ» الولد يتناول الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والمفرد والجمع؛ وفي رواية أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلمٍ من الناس يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث...». رواه البخاري. لم يبلغوا الحنث قوله: «لم يبلغوا الحنث» أي: لم يبلغوا سنّ التكليف الذي يُكتب فيه الحنث، وهو الإثم والذنب؛ قال -تعالى-: {وكانوا يُصرُونَ على الحِنْث العَظيم} الواقعة: 46. وقيل: المراد بلغ زمانا يؤاخذ فيه بيمينه إذا حنث، قال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ؛ لأنّ الصبي قد يثاب، وخصّ الصغير بذلك؛ لأن الشفقة عليه أعظم، والحب له أشدّ، والرحمة له أوفر. وعلى هذا فالقيد للاحتراز عمّن مات له ثلاثة بالغون. السِّقط - ويخرج السِّقط أيضاً من الحديث، لكن ورد في أحاديث أنه يدخل والديه الجنة، منها: حديث ابن ماجة: عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه -: عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ السِّقْطَ، لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلى الجَنَّةِ؛ إِذا احْتَسَبَتْهُ». وصححه الألباني. طلب الأجر والثواب قوله: «فَتَحْتَسِبَهُ» قال ابن الأثير في معنى الاحتساب: المبادرة بطلب الأجر والثواب بالصبر والتسليم، أو القيام بالأعمال الصالحة، وأنواع البر على الوجه المرسوم لها؛ رجاء الأجر والثواب. وقد ذكر البخاري قبل الحديث؛ قول الله -تعالى-: {وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون - أولئك عليهم صلواتٌ منْ ربّهم ورحمةُ وأولئك هم المهتدون} البقرة: 155- 157. من القواعد الشرعية قال الحافظ ابن حجر: وقد عُرف من القواعد الشرعية أنّ الثواب لا يترتب إلا على النيِّة؛ فلا بدَّ من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيّدة. وقال بعضهم: يقال في البالغ احتسب، ويقال في الصغير افترط، لكن قد يستعمل كل مكان الآخر. وذكر ابن دريد وغيره: احتسب فلان بكذا، أي: طلب أجرا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير. عظم المصيبة - ومعلوم أنه كلما عظمت المصيبة عَظُم الصبر المطلوب لها، وكلما عظم الصبر والاحتساب كلما عظم الأجر، ومن أعظم المصائب موت الأطفال، ولاسيما إذا كان في بداية الحياة الزوجية، في الوقت الذي يتشوف فيه الوالدان إلى الأولاد والذرية؛ فالرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لأصحابه، للنساء مرة، وللرجال مرة، في مناسبة موت بعض أطفالهم: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الأولاد ذكورا أو إناثا، قبل أن يبلغوا الحلم إلا حرم الله عليه النار، وأدخله الجنة. وعند أحمد: عن أبي هريرة بلفظ: «ما مِنْ مُسلِمَين يموت لهما ثلاثةٌ من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدْخلهما اللهُ وإياهم - بفضل رحمته - الجنة». قوله «مُسلِمَين» أي: زوجين. ورَغِبَ الصحابة في زيادة الفضل والثواب؛ فقالتْ امرَأَةٌ منْهُنَّ: أَوْ اثْنَيْنِ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «أَوْ اثْنَيْنِ». ويتأسف السائل بعد انفضاض المجلس أنه لم يقل: وواحد؟ وهو يَظنُ أنه لو قال ذلك لأجيب، ووسعته رحمة الله تعالى. من أهل الجنة مسألة: قال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أنَّ من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنة. وتوقّف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: توفي صبي من الأنصار، فقلت: طوبى له لم يعمل سوءاَ ولم يدركه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أو غير ذلك يا عائشة، إنَّ الله خلق للجنة أهلا». الحديث قال: والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة. انتهى. وقال القرطبي: نفى بعضهم الخلاف في ذلك، وكأنه عنى ابن أبي زيد، فإنه أطلق الإجماع في ذلك، ولعله أراد إجماع من يعتد به، وقال المازري: الخلاف في غير أولاد الأنبياء. انتهى. وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند: عن علي مرفوعا: «إنَّ المسلمين وأولادهم في الجنة، وإنَّ المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ: {والذين آمنوا واتبعتهم} الآية. وهذا أصح ما ورد في تفسير هذه الآية، وبه جزم ابن عباس. وفي صحيح أبي عوانة: من طريق عاصم عن أنس: مات ابن للزبير؛ فجزع عليه؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحِنث كانوا له حِجابا من النار». وروى مسلم أيضا في صحيحه: من حديث طلق بن معاوية عن أبي زرعة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتت امرأة بصبيٍ لها فقالت: يا نبي الله، ادع الله فلقد دفنت ثلاثة؛ فقال: «دفنت ثلاثة؟» قالت: نعم، قال: «لقد احْتَظرتِ بحظارٍ شديد من النار». تحلة القسم قوله: وبإسناد آخر عنه مرفوعا: «لا يموتُ لأحدٍ من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسًّه النارُ، إلا تحلة القسم». وتحلة القَسَم بفتح التاء وكسر الحاء وتشديد اللام، أي: ما يَنْحل به القسم، وهو اليمين، وهو مصدر حلل اليمين، أي: كفّرها، يقال: حلل تحليلا وتحلة. وقال أهل اللغة: يقال فعلة تحلة القسم، أي قدر ما حللت به قسمي ويميني، ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة، أي أبررتها. قال القرطبي: اختلف في هذا القسم والمراد منه؛ فقيل: هو مُعين، وقيل: هو غير معين، فالجمهور على الأول، وقيل: لم يعن به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يستعمل في هذا. وقيل: الاستثناء بمعنى الواو، أي: لا تمسّه النار قليلاً ولا كثيراً ولا تحلة القسم، وقال بعضهم: المراد به قوله -تعالى- (وإنْ منْكم إلا واردها) مريم: 71. قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازاً، ولا يكون ذلك الجواز إلا مقدار ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك: ما وقع عند عبد الرزاق بلفظ: «إلا تحلّة القسم، يعني الورود»؛ وعند سعيد بن منصور: ثم قرأ سفيان {وإن منكم إلا واردها}. مَنْ حَرَس وراء المسلمين وأخرج أحمد (15612) والطبراني مرفوعا: «مَنْ حَرَس وراء المسلمين في سبيل الله -تبارك وتعالى-، متطوعا لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعَينيه إلا تحلّة القسم، فإن الله -عز وجل- يقول: {وإن منكم إلا واردها} مريم: 71. وإسناده ضعيف، فيه زبّان بن فائد وابن لهيعة. موضع القسم واختلف في موضع القسم من الآية: فقيل هو مقدر، أي: والله ما منكم إلا واردها. وقيل: معطوف على القسم الماضي في قوله -تعالى-: {فوربك لنحشرنهم...} أي: وربك ما منكم إلا واردها. وقيل: هو مستفاد من قوله -تعالى-: {حتما مقضيا} أي قسما واجبا. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق؛ فإن قوله -تعالى-: {كان على ربك} تذييل وتقرير لقوله: {وإن منكم إلا واردها} فهذا بمنزلة القسم؛ بل أبلغ؛ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات. قال الحافظ ابن حجر: واختلف السلف في المراد بالورود في الآية: فقيل هو الدخول، روى أحمد والنسائي والحاكم: من حديث جابر مرفوعا: «الورود الدخول، لا يَبْقى برٌ ولا فاجر إلا دخلها؛ فتكون على المؤمنين بردا وسلاما» وروى الترمذي: عن عبدالله بن مسعود قال: يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم. وقيل المراد بالورود: المرور عليها. وزاد الطبري من طريق كعب الأحبار يستوون كلهم على متنها ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم. أصحّ ما ورد قال الحافظ ابن حجر: وهذان القولان أصحّ ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما؛ لأنَّ مَنْ عبّر بالدخول تجوّز به عن المرور؛ لأنّ المار عليها فوق الصراط في معنى مَن دخلها؛ لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم؛ فأعلاهم درجة: مَنْ يمر كلمح البرق كما سيأتي في الرقاق إن شاء الله -تعالى- انتهى. ومن الأقوال الضعيفة: قولُ من قال: الورود مختص بالكفار! ومن قال: معنى الورود: الدنو منها، ومن قال معناه: الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها ما يُصيب المؤمن من الحُمّى. وفي رواية «فيلج النار» والمراد بالولوج: الدخول. وفي الرواية الثالثة «إلا كانوا لها حِجاباً من النار». وفي الرابعة «إلا دخلت الجنة» وهي محمولة على دخول الجنة مع أول الداخلين، فمن المسلمين من يدخل الجنة بعد دخوله النار. فتمسه النار وقوله «فتمسه النار» وقوله «فيلج النار» بنصب الفعل؛ لأن المضارع ينصب بعد النفي، بتقدير «أن» لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية، ولا سببية هنا؛ إذْ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سبباً لولوج الأب والأم النار. قال: وإنما «الفاء» بمعنى الواو التي للجمع، وتقديره: لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار. قال: لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وأقره على هذا جماعة، قال: وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه: لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقداراً يسيراً. اهـ |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (9) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب: في أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين عن أَبِي هُريرة رضي الله عنه قال: «إِذا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ، تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِها»، قال حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِها، وذَكَرَ المِسْكَ، قال: «ويَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ- وعلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ؛ فَيُنْطَلَقُ بِه إِلى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلّ-، ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قال: «وإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ»، قال حَمَّادٌ: وذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا، وذَكَرَ لَعْنًا، وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ . قَال: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِه إِلى آخِرِ الْأَجَلِ، قال أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً كَانَتْ عليه على أَنْفِهِ، هَكَذَا . شرح الحديث الحديث أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2202) باب: عَرْض مقعدِ الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوّذ منه. خروج روح المؤمن قوله: (إِذا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تلقاها ملكان). وفي الحديث الآخر ذكر الملائكة بالجمع، وقال القاري: هذا تفصيل للمجمل السابق، ويحتمل أنهما الكريمان الكاتبان، ولا ينافي الجمع فيما مر، أما على قول من يقول أقل الجمع اثنان فظاهر ، وأما على قول غيره فلاحتمال أن الحاضرين جمع المفوض إليه منهم ذلك اثنان، والبقية أو الكل يقولون لروحه: اخرجي أيتها النفس، أو القائل واحد ونسب إلى الكل مجازاً، كقوله -تعالى-: {فعقروها} الشمس: 14؛ وكقولهم: قتله بنو فلان، ويؤيده حديث البراء الآتي (يصعدانها) بضم الياء . قوله “ قال حماد “ هو ابن زيد الأزدي البصري، راوي الحديث عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه . قوله: (فذكر). أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابي، وهو أبو هريرة، وكان سبب ذلك نسيان رواية لفظ النبوة في هذا دون معناه؛ فذكره بسياق يشعر بذلك، قاله القاري، والظاهر أن فاعل (ذكر) بديل بن ميسرة ، شيخ حماد بن زيد . قوله: (من طيب ريحها). أي: أوصافها عظيمة، من طيب ريحها، (وذكر المسك).أي بطريق التشبيه، أي: رائحة كرائحة المسك. وقال القاري: أي ومن أنواع ذلك المسك. وقال الطيبي: أي وذكر المسك، لكن لم يعلم أن ذلك كان طريقة التشبيه، أو الاستعارة أو غير ذلك، وقال الأبهري: الأظهر أنْ يقال: وذكر أن طيب ريحها، أطيب من ريح المسك . قوله: (قال). أي : النبي صلى الله عليه وسلم «ويقول أهل السماء». أي: أهل كل سماء من الملائكة. (روح طيبة) مبتدأ، أو خبر لمحذوف هو: هي روح، وقوله: «جاءت من قبل الأرض». أي: جاءت الآن من قبل، بكسر القاف وفتح الموحدة، من جهة الأرض . قوله في روح المؤمن: «ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل، ثم قال في روح الكافر؛ فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل»، قال القاضي: المراد بالأول: انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى، والمراد بالثاني، انطلقوا بروح الكافر إلى سجين؛ فهي منتهى الأجل، ويحتمل أن المراد إلى انقضاء أجل الدنيا . قوله: (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه». الريطة بفتح الراء وإسكان الياء، وهو ثوب رقيق، وقيل: هي الملاءة، وكان سبب ردّها على الأنف؛ بسبب ما ذَكر من نتن ريح روح الكافر. الرحلة من الموت إلى البرزخ وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب، رحلة الإنسان من الموت إلى البرزخ؛ فقال: «حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل بابٍ، إلا وهم يدعون الله أنْ يعرج من قبلهم؛ فإذا أخذها - يعني ملك الموت - لم يَدَعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها؛ فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط؛ فذلك قوله -تعالى- : {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}(الأنعام: 61)، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض. الصعود بها قال: «فيصعدون بها ، فلا يمرون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيبة؟؛ فيقولون: فلان ابن فلان – بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا؛ فيستفتحون له؛ فيفتح لهم؛ فيُشيّعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة؛ فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليّين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(المطففين: 19-21)؛ فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى». الروح الخبيثة وتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح الخبيثة، التي نزعت من العبد الكافر، أو الفاجر؛ فقال عنها بعد نزعها: «فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل مَلَك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب، إلا وهم يدعون الله، ألا تعرج روحه من قبلهم؛ فيأخذها؛ فإذا أخذها، لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأنتنِ ريح جِيفة وُجدت على وجه الأرض؛ فيَصعدون بها، فلا يَمرُون بها على مَلأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟؛ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا؛ فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}(الأعراف: 40). فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتابه في سجين -، في الأرض السفلى ثم يقول: أعيدوا عبدي إلى الأرض؛ فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى؛ فتطرح روحه من السماء، طرحاً -حتى تقع في جسده -، ثم قرأ {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(الحج : 31)؛ فتعاد روحه إلى جسده . - وقد روى هانئ مولى عثمان بن عفان ، قال : كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبرٍ بكى ، حتى يَبل لحيته؛ فقيل له: تذكر الجنةَ والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ القبرَ أولُ منزلٍ من منازل الآخرة؛ فإنْ نجا منه؛ فما بعده أيسر منه، وإنْ لم ينجُ منه؛ فما بعده أشدُّ منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما رأيتُ منظراً قط، إلا القبر أفظع منه» . أخرجه الترمذي . باب: في تَسْجية الموت عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- قالت: «سُجِّيَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/651)، وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري؛ وقولها: «سُجّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ». سُجي معناه: غطي جميع بدنه. وفي الحديث: استحباب تسجية الميت وتغطيته، وهو مجمع عليه، وحكمته: صيانة الميت من الانكشاف، وستر صورته المتغيرة عن الأعين، قال النووي: قال أصحابنا: ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه، وطرفه الآخر تحت رجليه؛ لئلا ينكشف عنه، قالوا: تكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها؛ لئلا يتغير بدنه بسببها. انتهى. والحبرة: بكسر الحاء وفتح الباء الموحدة، وهي ضرب من برود اليمن. وقد ورد صفة الثوب الذي تُوفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أَبِي بُردة قال: «دَخَلتُ على عائِشَةَ فَأَخْرَجَتْ إِليْنَا إِزَارًا غَلِيظًا؛ مِمَّا يُصْنَعُ بِاليَمَنِ، وكِسَاءً مِنْ التِي يُسَمُّونها المُلَبَّدَةَ، قال: فَأَقْسَمَتْ بِاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ». رواه البخاري في فرض الخمس (2877)، وفي اللباس (5370)، ومسلم في اللباس والزينة: باب التواضع في اللباس (3879) واللفظ له. قال النووي: فيه ما كان عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الزَّهَادة في الدُّنْيَا، والإِعْراض عن مَتَاعهَا وَمَلاذّهَا وَشَهَوَاتهَا، وفَاخِر لِبَاسها ونَحْوه, واجْتِزَائِهِ بِما يَحْصُل به أَدْنَى التَّجْزِئَة في ذلك كُلّه, وفِيه النَّدْب لِلاقْتِدَاءِ بِه صلى الله عليه وسلم فِي هذا وغيره. شرح مسلم و” الْمُلَبَّدَة” قال الحافظ : اِسْم مَفْعُول مِنْ التَّلْبِيد، وقال ثَعْلَب: يُقَال لِلرُّقْعَةِ الَّتي يُرَقَّع بِها الْقَمِيص لُبْدَة. وقال النَّوَوِيّ: قال الْعلماء : الْمُلَبَّد هو الْمُرَقَّع , يُقال: لَبَدْت القَمِيص، أَلْبُدهُ، بِالتَّخْفِيف فيهِمَا, ولَبَّدْته أُلَبِّدهُ بِالتَّشْدِيدِ. وقِيل: هوَ الَّذي ثَخُنَ وَسَطه حَتَّى صَارَ كَاللِّبَدِ. انتهى . |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (10) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب: ما يقال عند المصيبة عن أُمِّ سَلَمَة -رضي الله عنها- قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا؛ إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ؛ وأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ؛ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/633) وبوّب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، وفد انفرد به مسلم عن أصْحاب الستة، وأم سلمة هي هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، أم المؤمنين، مشهورة بكنيتها معروفة باسمها، وكان أبوها يلقب: زاد الركب؛ لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لم يحمل أحدٌ معه من رفقته زادًا؛ بل هو كان يكفيهم.وكانت تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو ابن عمها، وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة، فيقال: إنها أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة، ولما مات زوجها خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل بها سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسبًا، وكانت وفاتها -رضي الله عنها- سنة إحدى وستين للهجرة؛ قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من -مزيدة للتأكيد- عبدٍ تصيبه مصيبة» متناولة لقليل المصيبة وكثيرها، وعظيمها وحقيرها، لكونها نكرة في عموم النفي. قوله: «فيقول» زاد في رواية له «ما أمَره اللهُ: إنا لله...» أي: قال ما أثنى الله -تعالى- به على المؤمنين، وذلك في قوله -تعالى- (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة: 155-157. بشر الصابرين يعني -تعالى- ذكره في هذه الآيات: وبشّر- يا محمد - الصابرين، الذين يعلمون أنَّ جميع ما بهم من نعمةٍ فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ؛ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي , ويقولون عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني, وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به؛ من الخوف والجوع؛ ونَقص الأموال والأنفس والثمرات، وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها: إنا لله، أي: نحن مماليك لربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده؛ وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون؛ تسليمًا لقضائه؛ ورضًا بأحكامه. (انظر الطبري). وقوله: «فيقول: ما أمَره اللهُ» فيه دليل للمذهب المختار في الأصول: أن المندوب والمستحب مأمورٌ به، لكن ليس على سبيل الحتم والإلزام. فقوله: «إنا» أي: ذاتنا وجميع ما يُنسب إلينا «لله» مُلكاً وخَلْقاً، فيتصرّف فينا كيف يشاء، فالكل عوار مُسْتردة؛ كما أشار إليه بقوله: «وإنَّا إليه راجعون» فعلينا الصبر على المصائب؛ وتدير حقائق هذه الآية؛ ليسهل علينا كل ما أصابنا ويهون، وقول هذا الذكر بمجرد لفظه؛ لا ينفع وحده، وإنما فائدته مع تدبره حقّ التدبر؛ فإنه الدواء النافع الناجع؛ الحامل على كمال الصبر؛ بل وعلى الرضا عن الله -تعالى. قوله: «اللَّهُمَّ أجُرني» بِالقصرِ عنْد أَكثر أهل اللُّغَة؛ من آجره الله، أي: أثابه وأعطَاهُ أجره جزاء صبره على مصيبته، وآجره بالمدّ، لغة. وقال الأصمعي وأكثر أهل اللغة: هو مقصور لا يمد. قوله: «في مصيبتي» حرف «في» يحتمل كونها بمعنى مع، أو كونها للسببية، والثاني أظهر. والمصيبة كل مكروه ينزل بالإنسان. والمعنى: أثبني ثواباً مقارناً لها أو بسببها. وأخلف لي خيراً منها قوله: «وأخلف لي خيراً منها» من الإخْلاف، قال أهل اللغة: يقال لمنْ ذهب له مالٌ أو ولدٌ أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك، أي: ردَّ عليك مثله. فإن ذهب ما لا يتوقع مثله، بأن ذهب والدٌ أو عمٌّ أو أخٌ، لمنْ لا جدّ له، ولا والد له، قيل له: خلَّف الله عليك، بغير ألف، كأنّ الله خليفةٌ منه عليك؛ فما يُخْلف يقال فيه: أخلفَ عليك، وما لا يُخْلف كالأب إذا مات ونحوه، يقال: خلّف عليك. إلا آجره الله -تعالى- في مصيبته قوله: «إلا آجره الله -تعالى- في مصيبته؛ وأخلف له خيرًا منها» وذلك لاستكانته تحت أقضية مولاه؛ وصبره على ما أتاه؛ والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن جاء بالحسنة فله خير منها. قوله: «قالت: فلما تُوفي أبو سلمة؛ قلت كما أمرني رسول الله» أي: امتثلت لما أمرني به، وقلت الدعاء المذكور. وفي الرواية الأخرى لمسلم: «قالت: فلما ماتَ أبو سلمة؛ قلت: أيُّ المسلمينَ خيرٌ من أبي سلمة؟» استعظامٌ منها لشأن زوجها؛ وتعجبٌ منها أنْ يكونَ لها خلفٌ خيرٌ منه. أولُ بيتٍ هاجر وقولها: «أولُ بيتٍ هاجرَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أي: أبوسلمة وهي أول بيتٍ هاجر مع عياله، فهو أولُ مَنْ هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وكان أبوسلمة أخاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، وابن عمته. قالت: «ثم إنّي قلتها؛ فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». واللفظ الآخر: «ثم إني قلتها؛ فأخلف الله -تعالى- لي خيراً منه؛ رسول الله» وهو عطف بيان أو بدل، من مفعول أخْلف. وفي الرواية الأخرى لمسلم: قالت: أرْسل إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له؛ فقلت: إنَّ لي بنتا؛ وأنا غَيور، فقال: «أما ابنتُها فندعُو الله أنْ يُغْنيها عنها، وأدْعو اللهَ أنْ يَذْهبَ بالغَيْرة». وأنا غيور قولها: «وأنا غيور» يقال: امرأة غَيْرى وغيور، ورجل غيور وغيران، قد جاء فعول في صفات المؤنث كثيرًا، كقولهم: امرأة عروس وعروب وضحوك؛ لكثيرة الضحك، وعقبة كئود، وأرض صعود وهبوط وحدود، وأشباهها. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأدْعو الله أنْ يَذهب بالغيرة» هي بفتح الغين، ويقال: أذهب الله الشيء، وذهب به، كقوله -تعالى-: {ذهب الله بنورهم} البقرة. وروى مالك أنه: لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة، قال: «ليس بك على أهلك هَوَان، إنْ شئتِ سبَّعت لك، وسبَّعت عندهن - يعني نساءه - وإنْ شئت ثلاثا، ودرت؟» قالت: ثلاثا. وعن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه: أنّ أم سلمة لما انقضتْ عدّتها، خطبها أبو بكر فردَّته؛ ثم عمر فردّته، فبعثَ إليها رسول الله، فقالت: مرحباً، أخبرْ رسول الله أني غيرى، وأني مُصبية وليس أحد من أوليائي شاهدًا. فبعث إليها: أما قولك: إني مُصْبِية؛ فإنَّ الله سيكفيك صبيانك. وأما قولك: إني غيرى، فسأدعو الله أنْ يذهب غيرتك... الحديث رواه ابن سعد والحاكم. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (11) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب : الميت يُعَذّب ببكاء الحيّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبْدِ الرَّحْمن أَنَّها أَخْبَرَتْه: أَنَّها سمِعَتْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، وذُكِرَ لها أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يقولُ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ»؛ فَقَالَتْ عائشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، ولَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عليْها؛ فَقال: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيها، وإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»، هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/643) وبوب عليه النووي: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ورواه البخاري في الجنائز (2/643) برقم (932). وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بن عدس الأنصارية النجارية، المدنية الفقيهة، تابعية من تريبة أم المؤمنين عائشة وتلميذتها، قيل لأبيها صحبة، وجدها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة، قال الحافظ يحيى بن معين: عمرة بنت عبد الرحمن ثقة حجة. وقال الإمام المحدّث سفيان بن عيينة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير ، وعَمْرة بنت عبد الرحمن، وقال الإمام الذهبي: كانت عالمة، فقيهة، حُجّة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام . توفيت عمرة بنت عبد الرحـمن وهي ابنة سبع وسبعين سنة، وقد اختلفوا في وفاتها؛ فقيل: توفيت سنة ثمان وتسعين، وقيل: توفيت في سنة ست ومئة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها. عذاب الميت ببكاء أهله قوله: «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، وفي رواية: «ببعض بكاء أهله عليه»، وفي رواية: «ببكاء الحي»، وفي رواية: «يعذب في قبره بما نيح عليه»، وفي رواية: «مَنْ يبك عليه يعذب»، وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما-، أما عمر رضي الله عنه، فروى مسلم: عن نافع عن عبد الله: أنَّ حفصة بكت على عمر -رضي الله عنهما-؛ فقال: مهلاً يا بُنيّة، ألم تعلمي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الميتَ يعذب ببكاء أهله عليه». ألا تنتهي عن البكاء ؟ وروى مسلم (2/642) أيضاً: عن عبد الله بن أبي مليكة قال: تُوفيت ابنةٌ لعثمان بن عفان بمكة، قال: فجئنا لنشهدها، قال؛ فحضرها ابن عمر وابن عباس، قال: وإني لجالسٌ بينهما ، قال: جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي؛ فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان - وهو مواجهُهُ - : ألا تنتهى عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ الميت ليُعذب ببكاء أهله عليه»؛ فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدَّث فقال: صَدَرْت مع عمر من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء، إذا هو بركبٍ تحت ظل شجرة؛ فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرتُ فإذا هو صهيب، قال : فأخبرته فقال: ادعه لي، قال: فرجعت إلى صهيب؛ فقلت: ارتحلْ فالْحقْ أمير المؤمنين؛ فلما أنْ أُصيب عمر، دخل صهيب يبكي يقول: واأخَاه واصَاحباه؛ فقال عمر: يا صهيبُ أتبكي عليّ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه!»، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرتُ ذلك لعائشة فقالت: يرحمُ اللهُ عمر؛ لا واللهِ ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يعذب المؤمن ببكاء أحد»، ولكن قال: «إنَّ الله يزيدُ الكافر عذاباً ببكاءِ أهله عليه»، قال: وقالت عائشة: حَسْبُكم القرآن: {ولا تَزِر وازرةٌ وزرَ أخْرى}، قال: وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضْحكَ وأبْكى، قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شيء . - قولها: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن» - قولها: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن»، هي كنية عبد الله بن عمر، قدّمته تمهيداً لما يستوحِش من نسبته إلى النسيان أو الخطأ، وهو من الآداب، كما قال الله -تعالى-: {عفَا اللهُ عنكَ لمَ أذنتَ لهم}(التوبة: 43)؛ فمن استغرب من غيره شيئًا، ينبغي أن يُمهد له بالدعاء أو الثناء عليه، إقامة لعذره فيما وقع منه، وأنه لم يتعمّده، ومِنْ ثم زادت على ذلك بياناً واعتذاراً بقولها: «أما» بفتح الهمزة، والتخفيف، وهي أداة تنبيه واستفتاح، يُلقى بها إلى المخاطب تنبيهاً له ، وإزالة لغفلته «إنه لم يكذب»، أي لم يُرِد الكذب، ولم يتعمّده، ولكنه نسي أو أخطأ. فقد أنكرتْ أم المؤمنين عائشة ذلك، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أنْ يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، واحتجت بقوله -تعالى-: {ولا تَزِرُ وازِرةٌ وزْرَ أخْرى}(الإسراء: 15)، أي: كيف يُعَذّبُ الميت ببكاء غيره بعد أنْ مات، وانقطع عمله أصلاً؛ فاستبعدت -رضي الله عنها- الحديث؛ لكونها رأته مخالفاً للآية المذكورة، وقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية أنها: تعذب وهم يبكون عليها، يعني: تُعذّب بكفرها في حال بكاء أهلها، لا بسبب البكاء. لكن الصواب: أن الحديث اختلاف العلماء في الحديث واختلف العلماء في هذا الحديث: فتأوَّله الجمهور على مَن وصَّى بأنْ يُبكى عليه ويناح بعد موته فنفذّت وصيته؛ فهذا يُعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم؛ لأنه بسببه وبأمره لهم، ومنسوب إليه . قالوا: فأما مَن بكى عليه أهله وناحوا، مِن غير وصيةٍ منه؛ فلا يعذب لقول الله -تعالى-: {ولا تَزِرُ وازِرةٌ وزْرَ أخْرى}(الإسراء: 15)، قالوا: وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طَرْفة بن العبد: إذا متُّ فانْعيني بما أنَا أهْله وشُقّي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ مَعْبد قالوا: فخرج الحديث مطلقاً، حَمْلا على ما كان معتاداً لهم .قال كاتبه: وهو ما قاله الإمام البخاري -رحمه الله- في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال -رحمه الله تعالى-: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه»، إذا كان النوح من سُنّته؛ لقول الله -تعالى-: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(التحريم: 6)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكمْ راعٌ ومسؤولٌ عنْ رعيته». إهمال الوصية وقالت طائفةٌ: هو محمول على مَنْ أوْصى بالبكاء والنوح، وكذا إذا لم يوص بتركهما؛ فمن أوصى بهما، أو أهمل الوصية بتركهما يعذب بهما لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما؛ فأما من وصّى بتركهما؛ فلا يعذب بهما؛ إذْ لا صُنع له فيهما، ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بتركهما، ومَنْ أهملهما عذّب بهما . معنى الأحاديث وقالت طائفة: معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت، ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم، وتلك الشمائل قبائح في الشرع، يعذب بها ؛ كما كانوا يقولون : يا مُؤيّم النسوان، ومؤتّم الولدان، ومخرّب العمران، ومفرق الأخدان، ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخراً، وهو حرام شرعا. وقالت طائفة: معناه: أنه يعذّب بسماعه بكاء أهله، ويتألم ويرقُّ لهم، وإلى هذا ذهب محمد بن جرير الطبري، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ونصره ابن تيمية. قال القاضي عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم زَجَر امرأةً عن البكاء على أبيها وقال: «إنَّ أحدَكم إذا بَكَى اسْتعبر له صويحبه؛ فيا عباد الله لا تُعذّبوا إخوانكم» رواه ابن سعد في الطبقات (1/320)، والطبراني في الكبير (25/1) في حديث طويل، والبخاري في الأدب المفرد (1034)، وحسنه الألباني في الحاشية، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: معنى الحديث: أنّ الكافر أو غيره من أصحاب الذنوب ؛ يُعذّب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم . البكاء بصوتٍ ونياحة والصحيح من هذه الأقوال: ما قدمناه عن الجمهور، وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم، أن المراد بالبكاء هنا: البكاء بصوتٍ ونياحة، لا مجرد دمع العين. تعليق الشيخ ابن باز -رحمه الله وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- تعليقا على الحديث : والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم، وأنْ يتحلَّوا بالصبر، ويكفوا عن النَّوْح، ولا بأس بدمع العين وحزن القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»؛ فالميت يُعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة، وهذا مستثنى من قوله -تعالى-: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(الإسراء: 15)؛ فإنَّ القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يُصَدّق أحدهما الآخر، ويفسر أحدهما الآخر؛ فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن، وتبين معناه؛ فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة، ولا تعارض بينها وبين الأحاديث.وأما قول عائشة -رضي الله عنها-؛ فهذا من اجتهادها، وحرصها على الخير، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مقدّم على قولها وقول غيرها؛ لقول الله -سبحانه-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}(الشورى: 10)، وقوله -عز وجل-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(النساء: 59)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله الموفق . انتهى |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (12) الشيخ.محمد الحمود النجدي - ما جاء في مُسْتَريح ومستراح منه عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فقَال: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَال: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا والْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ والْبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ»، الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (2/656) وبوب عليه النووي بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الرقاق (6513،6512) باب: سكرات الموت. وأبو قتادة الأنصاري السلمي، صحابي مشهور -فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم -، شهد أحداً، والخندق، والحديبية، وحنيناً، وله أحاديث عدة، واسمه: الحارث بن ربعي، على الصحيح، وقيل: اسمه: النعمان، وقيل: عمرو.ومن مناقبه في الصحيح: أنّه قال: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، الحديث، وفيه: فقال أبو بكر: لا ها الله، إذا لا يعمد إلى أسدٍ من أسْد الله، فيعطيك سَلبه، فأعطاني الدرع، فبعته. قال: فابتعت به مَخْرفا; فإنه لأول مال تأثَّلتُه» وروى ابن سعد: عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أنّ عمر - رضي الله عنه - بعث أبا قتادة، فقتل مَلك فارس بيده، وعليه منطقة قيمتها خمسة عشر ألفا، فنفّلها إياه عمر، مات أبو قتادة سنة أربع وخمسين. وروى له الجماعة.مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قوله «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ» أي: مرّوا عليه بجنازةٍ، وقوله «فقال: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قال النووي: «معنى الحديث أنَّ الموتى قسمان: مستريحٌ ومستراح منه، ونصب الدنيا: تعبها. وأما استراحة العباد من الفاجر معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوهٍ منها: ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات؛ فإنْ أنكروها قاسوا مشقةً من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإنْ سكتوا عنه أثموا. واستراحة الدواب منه كذلك؛ لأنه كان يُؤْذيها ويضر بها ويحمّلها ما لا تطيقه، ويُجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك، واستراحة البلاد والشجر، فقيل: لأنها تُمْنع القطر بمصيبته، قاله الداودي. وقال الباجي: لأنه يغصبها ويمنعها حقها من الشرب وغيره» انتهى. قال اِبن التِّين: يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالْمُؤْمِنِ: التَّقيّ خَاصَّة، ويَحْتَمِل كُلّ مُؤْمِن، والفَاجِر يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد به الكافِرَ، ويَحْتَمِل أَنْ يَدْخُلَ فيه الْعَاصِي. وقال الدَّاوُدِيُّ: أَمَّا اِسْتِرَاحةُ الْعِبَادِ؛ فلِما يَأْتِي بِه مِنْ الْمُنْكَرِ؛ فإِنْ أَنْكَرُوا عليه آذَاهُم، وإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا، واسْتِراحة الْبِلاد مِمَّا يأْتي بِه مِنْ الْمَعَاصي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ممَّا يَحْصُلُ به الْجَدْبُ؛ فَيَقْتَضِي هَلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ. قال: ويَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِراحة العِبَادِ منه؛ لِمَا يَقَع لَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ، وراحَةُ الْأَرْضِ منه؛ لِمَا يَقَع عليها مِنْ غَصْبِها ومَنْعِهَا مِنْ حَقِّها وصَرْفِهِ في غيرِ وَجْهِهِ، وراحة الدَّوَابِّ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِنْ إِتْعَابِهَا، واَللّه أَعلم. (الفتح)؛ ولذا فليس لأحد - كائنًا من كان - أنْ يخرج من هذه القسمة ألبتة، أو يتجاوزها أو تتجاوزه، فلا بدَّ أنْ يكون أحد الوصفين له: إما مستريحٌ، وإما مستراحٌ منه، مستغرقًا له، دالاًّ عليه، واصفًا لحاله. الموتى قسمان ففي الحديث أنّ الموتى قسمان: قسمٌ يستريح، وقسمٌ يُستَراح منه. فالأول: المؤمن، يستريح هو من نصب الدنيا وما فيها، وهو من أشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يَستريحُ مِن نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله». وفي رواية للنسائي: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ؛ فَيَسْتَرِيحُ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا، ونَصَبِهَا وأَذَاهَا». ولا سيما والدُّنيا: «سِجْن المؤمن» كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عند مسلم. الاستراحة من نصب الدنيا - فالقسم الأول: يستريح من نصب الدنيا: تعبها وأذاها، ويوضِّح مدى هذه الراحة والاستراحة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما وَجَدَ مِن كرب الموت ما وَجَد، قالت فاطمة: واكَرْبَ أبتاهْ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا كربَ على أبيك بعد اليوم»، أخرجه ابن ماجة (1629)، وابن حبان (6613)، عن أنس - رضي الله عنه -، وهو حديث صحيح. وذلك أنّ الكرب والحُزن، والهمّ والغمّ، عند المؤمن، ينتهي بنهاية الدنيا، وانقطاعه منها؛ وذلك لأنها تحجزه عما بعدها من السرور والراحة، والسعادة الأبدية، والتي لا ينغّصها شيء. وقال -تعالى- في ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت: 30، فيقول -تعالى- ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى؛ وقوله: {أَلا تَخَافُوا} أي: ما تُقْدِمون عليه من بعد مماتكم {وَلا تَحْزَنُوا} على ما تخلّفونه وراءكم. قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد؛ فإنا نُخلفكم في ذلك كله.(الطبري). الفاجر أو الكافر - والقسم الثاني من الناس: الفاجر أو الكافر، تستريح منه الدنيا وأهلُها، وهو من أشار إليه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يستريح منه العبادُ والبلاد، والشجر والدوابُّ». نعم يستريح غيره منه -مِن أذاه وظُلمه، وسوء خُلقه وفُجوره- يستريح غيره من فساده الكبير، وشرِّه المستطير. قال أبو الوليد الباجي في (المنتقى شرح الموطأ): قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَأَى الجِنازةَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ النَّاسِ على ضَرْبينِ: ضَرْبٌ يَسْتَرِيحُ، وضَرْبٌ يُسْتَرَاحُ مِنْهُ؛ فَسَأَلُوهُ عَنْ تَفْسِيرِ مُرادِهِ بِذلِك، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْتَرِيحَ هو العَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَصِيرُ إِلى رَحْمَةِ اللَّهِ، وما أَعَدَّ له مِنْ الجَنَّةِ والنِّعْمَةِ، ويَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وتَعَبِهَا وأَذَاهَا. والْمُسْتَرَاحُ مِنه: هو الْعَبْدُ الفَاجِرُ، فإِنَّهُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ والْبِلَادُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَذَاهُ لِلْعِبَادِ بِظُلْمِهِمْ، وَأَذَاهُ لِلْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِغَصْبِهَا مِنْ حَقِّهَا وَصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وإِتْعَابِ الدَّوَابِّ بِمَا لَا يَجُوزُ له مِنْ ذلِك فهذا مُسْتَرَاحٌ منه، وقال الدَّاوُدِيُّ مَعْنَى يَسْتَرِيحُ مِنْه العِبَادُ أَنَّهم يَسْتَرِيحُونَ مِمَّا يأْتِي بِه مِنْ الْمُنْكَرِ، فإِنْ أَنْكَرُوا عَليهِ نَالَهُم أَذَاهُ، وإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا؛ واسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ أَنَّهُ بِما يَأْتِي مِنْ الْمَعاصِي تَخْرُبُ الْأَرْضُ فَيَهْلِكُ لِذَلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ؛ وهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فيه نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ نَالَهُ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ؛ لَا يأْثمُ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عليهِم، ويَكْفِيه أَنْ يُنْكِرَهُ بِقَلْبِهِ، أَوْ بِوَجْهٍ لا يَنَالُهُ به أَذَاهُ؛ وسَيَأْتِي ذلِك مُفسَّرًا فِي الجامِعِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ». من فوائد الحديث 1- ربما هذا المُستراح منه، الذي تستريح منه البلادُ والعباد، يكون مغروراً بنفسه وحاله؛ لما يقع من منَح الله -عز وجل- له وعطاياه في الدنيا ابتلاءً واختبارًا، فيظن أنه محسن غير مسيء! وأنّ له مكانة ومنزلة ليست لغيره، ولم يَدْرِ هذا الأخرقُ أن هذا الإعطاء من الدنيا ليست ميزانًا على القَبول والرضا عند الله، وأنها لا تعدو أنْ تكون استدراجًا؛ ولذلك ردَّ الله -تعالى- على هذه الدعوى في آيات كثيرة، منها قوله -عز وجل-: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} آل عمران: 178. وقال -عز وجل-: {والذينَ كذّبوا بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183)، وقال الله -عز وجل-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}( المؤمنون: 55)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. وإنَّ الله يُعطي الدنيا مَنْ يُحبُّ ومَن لا يحب، ولا يُعطي الإيمان إلا من أحب..». رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب. الصحيحة (2714). وظن هذا المغرور المستدرج أنه عند موته سيَنال من النِّعم مثل ما كان يناله في الدنيا، كما ذكر الله -تعالى- قول من قال منهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} فصلت: 50. أو قول الآخر: {ولَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} الكهف: 36. قياسًا منه للآخرة على الدنيا وهو قياس فاسد باطل. المؤمنون شهداء الله -عز وجل 2- المؤمنون شهداء الله -عز وجل- في الأرض؛ فإذا أراد أحدُنا أنْ يعلم حال الميت من أي النوعين هو؟ فعليه أنْ يسمع ما يقوله المؤمنون فيه، من أقربائه وجلسائه وجيرانه وممن هم حوله، الذين هم شهداء الله -عز وجل- في الأرض، وهل هم يُثنون بالخير عليه أم لا؟، ولا بدّ أن يكونوا جمعًا من المسلمين الصادقين، وأقلُّهم اثنان، من ذوي الصلاح والعلم. فعن أنس - رضي الله عنه - قال: مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بجنازة، فأُثنِي عليها خيرًا، وتتابعت الألسن بالخير، فقالوا: كان - ما علِمْنا - يحبُّ الله ورسوله، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَجَبَتْ وجبت وجبت»، ومُرَّ بجنازة فأُثنِيَ عليها شرًّا، وتتابعت الألسن لها بالشر، فقالوا: بئس المرءُ كان في دين الله ! فقال نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «وَجَبَتْ وَجَبت وَجَبت»، فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أثنَيْتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض». أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) واللفظ له. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (13) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب : في غسل الميت عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قال لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَو خَمْسًا، واجْعَلْنَ فِي الخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فإِذا غَسَلْتُنَّهَا فَأَعْلِمْنَنِي»، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاه؛ فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ ، وَقَال : «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» . الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/648) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في كتاب الجنائز: باب كيف الإشْعار للميت . وأُمِّ عَطِيَّةَ هي نسيبة بنت كعب الأنصارية، صحابية مشهورة، مدنية ثم سكنت البصرة، قال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) في ترجمتها : وهي مِن فاضلات الصحابيات، والغازيات منهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تغسل الميتات، وهي التي غسلت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسمها : نسيبة .قولها: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ» قولها: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » تصريح بأن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلمهذه التي غسلتها، هي زينب -رضي الله عنها-، وهكذا قاله الجمهور، قال القاضي عياض: وقال بعض أهل السير: إنها أم كلثوم، والصواب: زينب، كما صرح به مسلم في روايته التي بعد هذه، وقال ابن عبد البر: وكل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفين في حياته، إلاّ فاطمة؛ فإنها توفيت بعده بستة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر، ولم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته رُقية؛ لأنه كان بِبَدْر. انتهى. زينب -رضي الله عنها وزينب -رضي الله عنها-، قال ابن عبد البر: كانت أكبر بناته -رضي اللَّه عنهن- وماتت سنة ثمان مِن الهجرة، وقال ابن حجر عنها: أول مَن تزوّج منهنّ، وُلِدت قبل البعثة بِمُدّة. قيل: إنها عشر سنين، وتزوّجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمّه هالة بنت خويلد، وذَكَر أسْرَ أبا العاص ومَنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ثم قال: ومضى إلى مكة فأدّى الحقوق لأهلها، ورجع فأسلم في المحرم سنة سبع، فَرَدّ عليه زينب بالنكاح الأول . قوله صلى الله عليه وسلم: «اغْسلنها ثلاثا» قوله صلى الله عليه وسلم: «اغْسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»، وفي رواية : «ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك، إنْ رأيتن ذلك»، وفي رواية: «اغسلنها وِتراً، ثلاثاً أو خمسا». وفي رواية: «اغْسلنها وتراً خمساً أو أكثر». وهذه الروايات متفقة في المعنى، وإنْ اختلفت ألفاظها، والمراد: اغْسلنها وتراً، وليكنْ أقلهن ثلاثا؛ فإن احتجتن إلى زيادة عليها للإنقاء فليكنْ خمساً؛ فإنْ احتجتن إلى زيادة الإنقاء فليكن سبعا، وهكذا أبداً. وحاصله أنَّ الإيتار مأمور به، والثلاث مأمور بها ندباً؛ فإن حصل الإنقاء بثلاث لم تشرع الرابعة، وإلا زِيد حتى يحصل الإنقاء، ويندب كونها وتراً. فرض كفاية وأصل غسل الميت فرض كفاية، وكذا حمله وكفنه والصلاة عليه ودفنه، كلها فروض كفاية، والواجب في الغسل مرة واحدة عامة للبدن، قال ابن قدامة: جَعَل جميع ما أمَرَ به وتراً. وقال أيضا: «اغسلنها وترا». ولا يُقطع إلاّ على وتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «اغسلنها ثلاثاً أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن». - ورَوى عبد الرزاق: عن ابن سيرين قال: يُغسل الميت وتراً، وقال إبراهيم النخعي: غسل الميت وِترٌ ، وكفَنه وِتر ، وتجميره وِتر. هل يُزاد على سبع غسلات؟ قال ابن قدامة: قال أحمد: ولا يُزاد على سبع، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا» لم يَزِد على ذلك؛ ولأن الزيادة على الثلاث، إنما كانت للإنقاء، وللحاجة إليها؛ فكذلك فيما بعد السبع، ولم يذكر أصحابنا أنه يزيد على سَبْع . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنْ رأيتنّ ذلك» بكسر الكاف، خطابٌ لأم عطية، ومعناه: إنْ احتجتنّ، وليس معناه التخيير، وتفويض ذلك إلى رأيهن، وكانت أم عطية -رضي الله عنها- غاسلة للميتات. قوله صلى الله عليه وسلم : «بماءٍ وسدر» وقوله صلى الله عليه وسلم: «بماءٍ وسدر»، فيه دليل على استحباب استعمال (السّدر) في غسل الميت، وهو متفقٌ على استحبابه، ويكون في المرة الواجبة، وقيل: يجوز فيهما. قوله صلى الله عليه وسلم: «واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور».فيه استحباب شيء من الكافور في الأخيرة، وهو متفق عليه عندنا ، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يستحب، وحجة الجمهور هذا الحديث؛ ولأنه يطيب الميت، ويصلب بدنه ويبرده، ويمنع إسراع فساده، أو يتضمن إكرامه. قولها: «فألقى إلينا حِقْوه». وقولها: «فألقى إلينا حِقْوه»؛ فقال: «أشْعرنها إياه» هو بكسر الحاء وفتحها لغتان، يعني: إزاره، وأصل الحقو: معقد الإزار، وجمعه أحق وحقي، وسمي به الإزار مجازاً؛ لأنه يشدُّ فيه. ومعنى: «أشعرنها إياه» أي: الْفِفْنَها فيه، واجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي الجسد، سُمّي شعاراً؛ لأنه يلي شعر الجسد، والحكمة في إشعارها به: تبريكها به؛ ففيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه، وفيه: جواز تكفين المرأة بثوب الرجل . مسائل مهمة وفي الحديث عدد من المسائل وهي: أصل في غسل الميت أن حديث أم عطية هذا أصل في غسل الميت عند العلماء، وكان التابعون يأخذون غسل الميت عن أم عطية -رضي الله عنها-، رَوى أبو داود: عن محمد بن سيرين: أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية، يغسل بالسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور، قال ابن عبد البر: ولست أعلم في غسل الميت حديثا جعله العلماء أصلا في ذلك، إلاَّ حديث أم عطية الأنصارية هذا؛ فعليه عَدَلوا في غسل الموتى . ثم نَقَل ابن عبد البر عن الإمام أحمد قوله: ليس في حديث غسل الميت أرفع مِن حديث أم عطية ولا أحسن منه، فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، ثم قال: ما أحسنه! قال ابن عبد البر: يُقال إن أعلم التابعين بغسل الميت ابن سيرين ثم أيوب بعده، وكلاهما كان غاسلا للموتى يتولّى ذلك بنفسه. اهـ . وضع السدر المسألة الثانية: اخْتُلِف في وضع السِّدر والكافور، في أي غَسْلَة؟ قال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: أتذهب إلى السدر في الغسلات كلها؟ قال: نعم، السدر فيها كلها على حديث أم عطية «اغسلنها ثلاثاً أو خمسا أو أكثر مِن ذلك، إنْ رأيتن ذلك بماء وسدر». قال: في حديث ابن عباس: «بماء وسدر». قال ابن عبد البر: أكثر العلماء أن يُغسّل الميت الغَسْلة الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور. السنة في تكفين الميت المسألة الثالثة: السُّـنّة أن يُكفَّن الميت في ثلاثة أثواب، والمرأة في خمسة . سئل جابر بن زيد عن الميت: كم يكفيه مِن الكَفن؟ قال: كان ابن عباس يقول: ثوبٌ، أو ثلاثة أثواب، أو خمسة أثواب. رواه ابن أبي شيبة. وقال الإمام مالك: ليس في كفن الميت حدّ، ويُستحب الوتر، وفي رواية أخرى عنه: أحب إلي أن يُكفّن الرجل في ثلاثة أثواب ويُعمم، ولا أحب أن يُكفن في أقل مِن ثلاثة أثواب. نقله ابن عبد البر. التبرك بالآثار المسألة الرابعة: في الحديث جواز التبرك بالآثار المحسوسة للنبي صلى الله عليه وسلم، كشعره، وعَرَقه، وريقه، ووضوئه، وطعامه، وثيابه، وسيفه، وجبته، وغيرها، وقد اتفق المسلمون بالإجماع على ذلك، وهي فضيلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزه من معجزات نبوته، وليست لأحدٍ غيره، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، منها:- أ- حديث أَنَسِ رضي الله عنه أنهٍ قال: لَمَّا رَمَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الجَمْرَةَ ونَحَرَ نُسُكَهُ وحَلَقَ، نَاوَلَ الحالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَه، ثُمَّ دَعَا أَبا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَال: «احْلِقْ» فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبا طَلْحة، فَقال: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ». رواه مسلم (1305). ب - حديث أُمَّ سُلَيْمٍ -رضي الله عنها: كانتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِطَعًا فيَقِيلُ عندها على ذلك النِّطَعِ؛ فإِذا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وشَعَرِهِ؛ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ، قَال ثمامة بن عبد الله بن أنس: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ، أَوْصَى إِليَّ أَنْ يُجْعَلَ في حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قال: فَجُعِلَ في حَنُوطِهِ. رواه البخاري (6281). فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن ذات النبي صلى الله عليه وسلم وما انفصل عنها، قد جعل الله فيها البركة، ويرجى بسببها الخير في الدنيا والآخرة، وقد أقرّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه لالتماس البركة منه في ذلك، وقد تبرك الصحابة بما بقي من آثاره الحسية بعد موته، كخاتمه وبردته وسيفه وعصاه وشعره وثيابه وآنيته ونعله وغيرها، واستمر الأمر على ذلك سنوات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت هذه الآثار . فالزعم الآن بأن هذا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أو آثاره، زعم لا يسنده دليل، وعامة ما يقال في ذلك هو نوع من الكذب والخرافة؛ فليُتنبه! التبرك بآثار الصالحين قول النووي عند قوله: «فألقى إلينا حِقْوه فقال: أشْعرنها إياه»؛ ففيه: «التبرك بآثار الصالحين ولباسهم». ونحوه عن الحافظ ابن حجر، قول غير صحيح! فليس في الحديث حجةٌ على جواز التبرك بآثار الصالحين ولا لباسهم ؛ لأن آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليست كآثار غيره، ولا يجوز التبرّك بآثار الصالحين؛ لِعدم ورُود ذلك عن الصحابة، بل ثبت عكس ذلك عنهم؛ فلم يتبرك الصحابة -رضي الله عنهم- بأحدٍ منهم، لا في حياته، ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، لا مع الخلفاء الراشدين، ولا مع غيرهم؛ فدلّ ذلك على أنهم قد عرفوا أنَّ ذلك خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ ولأنّ ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله -سبحانه-؛ فالتبرّك بآثار الصالحين يُفضي إلى الغلوّ والشرك. التبرك الصحيح ومع ذلك؛ فنحن نؤمن بالتبرك الصحيح، فيما جعل الله فيه البركة، من الأعمال الصالحة والذوات؛ فنتبرك بدعاء الصالحين ومجالسهم وعلمهم، لا بذواتهم أو آثارهم، ونتبرك بتلاوة القرآن، وبالصلاة وبذكر الله، وبشرب ماء زمزم، وكذلك نؤمن ببركة مكة، والمدينة، والأقصى، والشام، واليمن، وبركة عجوة المدينة، وشجرة الزيتون، والنخلة، وبركة السحور، والمطر، وببركة بعض الأزمان، كأيام رمضان ولياليه، وليلة القدر خصوصا، والعشر من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، وغيرها مما ثبت في الأحاديث الصحيحة . |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (14) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب: في تَحْسِين كفن الميت عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ؛ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ؛ وقُبِرَ لَيْلًا؛ فَزَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حَتَّى يُصَلَّى عليْه؛ إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلك»، وقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ». الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (2/651)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، وقوله: «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبَ يوما» إما أنْ يكون ذلك في خُطبة الجمعة، أو خطبهم في يوم من أيام الأسبوع.قوله: «فذكر رجلا من أصحابه قُبض» أي: قبضه الله وتوفّاه، «فكفّن في كفنٍ غير طائل» غير طائل أي: حقير، غير كامل الستر. قوله: «وقُبر ليلاً» أي: دفن بالليل. وقوله: «فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ؛ حتى يصلى عليه» يُصلى: هو بفتح اللام. النهي عن القبر ليلاً وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلى عليه: فقيل: سببه أنَّ الدفن نهاراً يحضره ناسٌ كثيرون؛ ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفرادٌ قليلون. وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن؛ فلا يبين في الليل، ويؤيده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدهما معا. حُكم الدفن في الليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا أنْ يضطر إنسان إلى ذلك» دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة، وقد اختلف العلماء في حُكم الدفن في الليل: فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يستدل له به، وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، وجماعة من السلف؛ دُفنوا ليلا من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، أو الرجل الذي كان يَقُمُّ المسجد، فتوفي بالليل فدفنوه ليلا، وسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: تُوفي ليلا فدفناه في الليل، فقال: «ألا آذنتموني؟» قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم. وأجابوا عن هذا الحديث: أن النهي كان لترك الصلاة، ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة، أو لقلة المُصلين، أو عن إساءة الكفن، أو عن المجموع كما سبق. وقال النووي: في دفن فاطمة ليلًا «جواز الدفن بالليل، وهو مجمعٌ عليه، لكن النهار أفضل؛ إذا لم يكنْ عذر». انتهى. الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وأما الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ والصلاة على الميت فيها، فهو مما ثبت أيضاً: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثلاث ساعات، من حديث عقبة بن عامر عند مسلم -رحمه الله-، قال عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُصلي فيهن، وأنْ نقبرَ فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزولَ الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب». هذه الثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قِيد رمح، وعند قيامها قبيل الظهر حتى تزول، قبل الظهر بقليل، وعند غروبها عند انحدارها للغروب، وتضيفها للغروب واصفرارها، حينها في هذه الحال لا يصلى على الميت ولا يدفن. قوله: «فليُحَسن كفنه» وقوله: «فليُحَسن كفنه» ضبطوه بوجهين: فتح الحاء وإسْكانها، وكلاهما صحيح. قال القاضي: والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث، وفيه: الأمر بإحسان الكفن. قال العلماء: وليس المراد بإحسْانه السَّرف فيه، والمغالاة ونفاسته، وإنما المراد: نظافته ونقاؤه، وكثافته وستره، وتوسطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبا، لا أفخر منه، ولا أحقر. فوائد من الحديث - أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان حريصًا عَلى تَعليمِ أُمَّتِه الآدابَ الشَّرعيَّةَ كلَّها، في جميع شئون الحياة، وهنا يُرشدُ - صلى الله عليه وسلم - إلى بعضِ الآدابِ الخاصَّةِ بالمَوتى، مِثلَ إِحسانِ الكفنِ، وعدمِ الدَّفنِ ليلًا إلَّا للضَّرورةِ. - وفيه: الزَّجرُ عنِ الدَّفنِ ليلًا، إلَّا في حالةِ الضَّرورةِ. وفيهِ: أنَّ الأَفضلَ تَكثيرُ النَّاسِ في الصَّلاةِ عَلى الميِّتِ، بإعلامهم بموته وتذكيرهم بالصلاة عليه. وفيه: الأَمرُ بإِحسانِ الكَفنِ؛ مِن غيرِ إِسرافٍ ولا تَقتيرٍ فيه. باب: الإسْراع بالجنازة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ - لَعَلَّهُ قَال: تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ - وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ». هذا الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز ( 2/651-652)، وبوب النووي عليه بمثل تبويب المنذري، ورواه البخاري في الجنائز (1315) باب: السُّرعة في الجنازة. قوله «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ» فهِم كثير من الفقهاء أنَّ هذا الحديث دليلٌ على الإسراع بالجنازة، يعني: إذا حملوها فإنهم يسرعون في المشي، ولا يصل الإسراع إلى الخبب الذي هو السعي الشديد، بل سرعة المشي وإن لم يكن سعيًا , فيقولون: المشي رويدًا مكروه، والسعي الذي يصل إلى الخبب مكروه، والإسراع - وهو وسط - هذا هو المستحب. وقال العيني: «أسرعوا بالجنازة» إسراعًا خفيفًا، بين المشي المعتاد والخبب، لأنّ ما فوق ذلك يؤدّي إلى انقطاع الضعفاء، ومشقة الحامل، فيُكره، وهذا إنْ لم يضره الإسراع، فإنْ ضرّه فالتأني أفضل، فإنْ خيف عليه تغير أو انفجار أو انتفاخ، زيد في الإسراع انتهى. وقيل: المقصود بقوله «أسْرعوا بالجنازة»؛ يعني: الإسراع بتجهيزها؛ وذلك لأنه علّل وحث على سرعة التجهيز، بقوله: «تضعونه عن رقابكم»، ومعلوم أنه ليس كل الذين يهمهم أمر الميت يحملونه، إنما قد يحمله مثلاً أربعة أو أكثر، والبقية لا يحملونه، فكيف قال: «تضعونه عن رقابكم «وهم لا يحملونه؟ ولم يقل: يضعه بعضكم، أو يضعه مَنْ حمله عن رقبته؟! المراد: التجهيز فدلَّ على أنّ المراد: التجهيز؛ أي: أسْرعوا بتجهيز الجنائز، ولا تؤخروها، فإنها إذا كانت صالحة قدّمتموها إلى خير، وهو ما تلقاه في البرزخ من النعيم، وإذا كانت غير ذلك - أي غير صالحة - فهو واجبٌ أنتم مُلزمون به ويهمكم؛ فتضعونه عن رقابكم، بمعنى أنكم تنتهون منه وتستريحون، وتنجزونه وتسلمون من مسؤوليته، فكأنكم وضعتم شيئًا قد حملتم همَّه على رقابكم، وذلك بتجهيزكم لهذا الميت، ودفنكم له؛ يدل على هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لجيفةِ مُسْلم؛ أنْ تُحْبس بين ظهراني أهله». رواه أبو داود. الأصل المبادرة فدل على أن المراد: بعد موته لا يُؤخر؛ بل يبادر به، هذا هو الأصل، لكن يجوز تأخيره لحاجة. وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة، فاستثنوا إذا مات فجأة أنه يؤخر إلى أنْ يتحقق موته؛ لأنه قد يكون أصابه سكتة أو غشية أو إغماء، ولا يكون ميتًا، بل يكون حيًّا، وكم قد حصل من ذلك؟! ذكروا أنَّ ميتًا أو نعشًا مُرّ به على أناسٍ جالسين، وقد حمل على النعش، فقال بعض الجالسين: إن هذا المحمول حي، قالوا: قد كيف يكون حيًّا؟ وقد غُسّل وكُفن ووضع على النعش، وحُمل وذُهب به إلى المقبرة؟! فقال: إنه لا يزال حيًّا، فأُخبروا بذلك، فانتظروا وإذا هو قد أفاق، فسألوه: كيف عرفت أنه حي؟ فقال: رأيت قدميه قائمتين! يعني: أنه قد وقفت قدماه، والميت قدماه تمتد. فاستنبط من وقوف قدميه أنه لا يزال فيه حياة. فلهذا لا يسرع به إذا كان مثلاً موته فجأة، أما إذا تحقق موته؛ فإنه يسرع به، والله أعلم. قوله: «فإنْ تك» أي: الجنازة «صالحة» نصب خبر كان «فخير» أي: فهو خير، خبر مبتدأ محذوف «تقدمونها» زاد العيني كابن حجر: «إليه» أي: إلى الخير، باعتبار الثواب، أو الإكرام الحاصل له في قبره، فيسرع به ليلقاه قريبًا. قوله: «وإن تك» الجنازة «سوى ذلك» أي: غير صالحة «فشر» أي: فهو شر «تضعونه عن رقابكم» فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة. |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (15) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب: نهي النساء عن اتباع الجنازة «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- قالت: كُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/646) وبوب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري (1278) في كتاب الجنائز أيضاً، باب اتباع النساء الجنائز، وقولها: «نُهيِنا عن اتِّباع الجَنَائز» أي: إلى أنْ نصل بها إلى القُبور. ورواه البخاري في الحيض: عن حفصة عنها بلفظ: «كنَّا نُهينا عن اتباع الجنائز». قولها: «نُهيِنا» ذهب الشافعي وأحمد وأكثر الأئمة والمُحدثين: أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي -عليه الصلاة والسلام.قال الآمدي: فإذا قال الصحابي منهم: أُمرنا أو نُهينا كان الظاهر منه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، ولا يُمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه؛لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل، فلا يختصُّ بمعرفته الواحد منهم، ولا على أمر الأُمة ونهيها؛لأنَّ قول الصحابي: أمرنا ونهينا، قول الأمة، وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم، ولا على أمر الواحد من الصحابة؛ إذْ ليس أمر بعضهم لبعض؛ أولى من العكس. (انظر: كتاب الإحكام في أصول الأحكام). نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: «نَهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -..». وفيه ردٌ على من قال: لا حُجة في هذا الحديث. ويؤيد رواية الإسماعيلي: ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: «لمَّا دَخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ جمعَ النساء في بيتٍ، ثم بعث إلينا عمر، فقال: إني رسولُ رسول الله إليكنَّ، بعثني إليكنَّ لأبايعكن على أنْ لا تُشركن بالله شيئا». الحديث. وفي آخره: «وأمرنا أنْ نُخرج في العيد العواتقَ، ونهانا أنْ نَخرج في جنازة». اتِّباع الجنائز وقد مضت سُنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ اتِّباع الجنائز من بيتها حتى يُصلَّى عليها، واتِّباعها حتى تُدفن، وتولِّي حملها ودفنها، من خصائص الرِّجال، وليس للنساء حظٌّ في ذلك، وهو الذي جَرَى عليه عمل السلف الصالح؛ فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه : أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وُضعتِ الجنازةُ؛ واحتمَلَهَا الرِّجالُ على أعناقهمْ، فإنْ كانت صالحةً؛ قالت: قَدِّمُوني، وإنْ كانت غيرَ صَالِحَةٍ؛ قالت: يا ويلَهَا أينَ يَذهبُونَ بها؟ يَسمَعُ صَوتهَا كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسانَ، ولو سَمعَهُ صَعقَ». أخرجه البخاري في صحيحه (1313) وبوَّب عليه: بابُ حمل الرِّجالِ الجنازةَ دُون النساءِ؛ قال النووي في المجموع (5/ 166): «قالَ الشافعيُّ في الأُمِّ والأصحابُ: لا يَحملُ الجنازةَ إلاَّ الرِّجالُ، سواءٌ كانَ الْميِّتُ ذكَراً أو أُنثى، ولا خلافَ في هذا». وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويُفرَغَ من دفنها، فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ». أخرجه البخاري (47). قولها: «ولم يُعزم علينا» قولها: «ولم يُعزم علينا» أي: ولم يؤكد علينا في المنع، كما أكَّد علينا في غيره من المنهيات؛ فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال النووي: وقولها: «ولم يُعزم علينا» معناه: نُهينا نهياً شديداً غير مُحتّم، ومعناه: كراهة تَنَزيه ليس بِحَرام. اهـ وقال ابن حجر: قولها: «ولَمْ يَعْزِم عَلَيْنَا»، أَيْ: ولَمْ يُؤَكِّد عَلَيْنَا في المَنْع؛ كما أَكَّدَ عليْنَا فِي غيره مِنْ الْمَنْهِيَّات، فكأَنَّهَا قالت: كَرِهَ لَنَا اِتِّبَاع الْجَنَائِز مِنْ غَيْر تَحْرِيم، قال الإمام ابن تيمية: «قد تكونُ هيَ -رضي الله عنها- ظنَّت أنه ليس بنهي تحريم، والْحُجَّة في قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لا في ظنِّ غيره». مجموع الفتاوى (24/ 355). وقال الإمام ابنُ القيم: «وقولها: «ولم يُعزم علينا» إنما نفتْ فيه وصف النَّهي، وهو النهي المؤكَّد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرَّد النهي كاف، ولَمَّا نهاهنَّ انتهين لطواعيتهنَّ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فاستغنين عن العزيمة، وأمّ عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلَّت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة؛ فهي مُثبتة للعزيمة؛ فيجبُ تقديمها، وبالله التوفيق» تهذيب السنن (3/ 1556). وقال النووي: «هذا الذي ذكرناه من كراهة اتباع النساء الجنازة هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة، ومسروق، والحسن، والنخعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحق، وبه قال الثوري». المجموع (5/ 171). القول بالكراهة عند السلف ومن المعلوم أنَّ القول بكراهة اتباع النساء للجنائز عند السلف هو بمنزلة المنع والتحريم؛ فإنَّ التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم في عُرف الصحابة غير مستقر؛ فلم يُفرِّقوا فيه، بل كانوا يجتنبون المكروه تنزيهاً وتحريماً مطلقاً؛ إلا لضرورة. أدلة الباب ومن الأدلة في الباب: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: شَهِدنا بنتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ على القبرِ، فرأيتُ عينيهِ تدمَعانِ، فقال: هل فيكم من أَحَدٍ لم يُقارِف الليلةَ؟ فقال أبو طلحةَ: أنا، قال: فانزِلْ في قبرِها، فنَزلَ في قبرِهَا فقَبَرَها». أخرجه البخاري (1342)، ومعلومٌ أنها كانت لها أخوات كفاطمة وغيرها من محارمها وغيرهنَّ هناك -رضي الله عنهن-؛ فدلَّ على أنه لا مدخلَ للنساء في إدخال القبر والدَّفن. وقال ابن قدامة -رحمه الله-: وكيف يُشرَعُ لهُنَّ وقد نهاهُنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّباعِ الجنائزِ؟ ولأنَّ ذلكَ لو كانَ مشروعاً لَفُعِلَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو خُلَفَائهِ، ولَنُقِلَ عن بعض الأئمَّةِ، ولأنَّ الجنازةَ يَحضُرُها جُمُوعُ الرِّجال، وفي نُزُولِ النِّساءِ في القبرِ بينَ أيديهِم هتكٌ لَهُنَّ، مَعَ عَجزهنَّ عن الدَّفن، وضَعفهنَّ عن حملِ الميِّتةِ وتقليبها. المغني (3/ 433)، وقد وردت أقوال كثيرة عن السلف في تأييد ما سبق، منها: 1- عن الشعبي -رحمه الله- قال: خُروج النساء على الجنائز بدعة. أخرجه عبدالرزاق (6296). 2- وعن إبراهيمَ النخعي قال: كانوا إذا أخرجُوا الجِنازةَ أغلَقُوا البابَ على النساءِ. أخرجه ابن أبي شيبة (11402)، وقال أيضاً: كانوا يقفلون على النساء الأبواب، حتى يُخرِجَ الرِّجالُ الجنائز. أخرجه عبد الرزاق (6293).أي: باب المسجد. 3- وقال علقمة -رحمه الله-: لقنوني: لا إله إلا الله عند موتي، وأسرعوا بي إلى حُفرتي، ولا تنعوني؛ فإني أخافُ أنْ أكون كنعي الجاهلية؛ فإذا خرَجَ الرِّجالُ بجنازتي فأغلقوا الباب؛ فإنه لا أرب لي بالنساء. أخرجه عبدالرزاق (6046). 4- وعن عبد اللهِ بن مُرَّةَ عن مسرُوقٍ -رحمه الله- قال: رأيتُه يَحثُو الترابَ في وُجُوهِ النساءِ في الجنازةِ، يقولُ لهنَّ: ارجعنَ، فإنْ رجعنَ مَضَى مع الجنازةِ، وإلاَّ رَجَعَ وتركَـها. أخرجه ابن أبي شيبة (11409). 5- وكان الأوزاعيُّ -رحمه الله- يرى منْعً النساء الخروج مع الجنائز. الأوسط (5/ 387). 6- وعن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: خروج النساء على الجنائز؟ قال: يَفتنَّ. أخرجه عبد الرزاق (6295). 7- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّلَ الإذن للرِّجال: بأنَّ ذلك يُذكِّرُ بالموتِ، ويُرقِّقُ القلبَ، ويُدمعُ العينَ، هكذا في مسند أحمد، ومعلومٌ أنَّ المرأةَ إذا فُتحَ لها هذا البابُ أخرجها إلى الجزع والندبِ والنياحةِ؛ لِما فيها من الضعفِ، وكثرةِ الجزع، وقلَّةِ الصَّبرِ. وأيضاً: فإنَّ ذلكَ سَببٌ لتأذِّي الْميِّتِ ببُكائها، ولافتتانِ الرِّجالِ بصوتها وصُورَتها، كما جاءَ في حديثٍ آخرَ: «فإنكُنَّ تَفتنَّ الحيَّ، وتُؤذينَ الْميِّتَ» مجموع الفتاوى (24 / 355-356). 8- وقال أيضاً: «الصلاةُ على الجنائزِ أوكدُ من زيارةِ القبورِ، ومَعَ هذا فقد ثبتَ في الصحيح: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى النساءَ عن اتِّباع الجنائزِ، وفي ذلك تفويتُ صلاتهنَّ على الْميِّتِ؛ فإذا لم يَستحبَّ لَهُنَّ اتِّباعَهَا لِمَا فيها من الصلاةِ والثوابِ فكيفَ بالزِّيارةِ؟!». المصدر السابق (24/ 345). 9- وقال ابن المنذر: «وقد روينا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لامرأة: «صلاتُك في بيتك؛ خيرٌ من صلاتُكِ في حُجرتكِ، وصلاتكِ في حُجرتكِ خيرٌ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتكِ في داركِ؛ خيرٌ من صلاتكِ في مسجدِ قومكِ». فإذا كان هذا سبيلها في الصلاة وقد أُمرن بالسِّترِ، فالقُعود من الجنائز أولى بهنَّ وأسترُ، واللهُ أعلم». الأوسط (5/ 388-389). 10- وقال أبو بكر الطرطوشي: ومن البدع المنكرةِ عندَ جماعةِ العلماء: خروج النساء لاتباع الجنائز. كتاب الحوادث والبدع (ص 336). قصد الذهاب إلى المساجد فعُلمَ مِمَّا تقدَّم: أنه يُكره للمرأة قصد الذهاب إلى المساجد للصلاة على الجنائز إنْ لم يحرم؛ لأنه من اتباع الجنائز المنهي عنه، ولم يُنقل فيما نعلم: أنَّ نساء الصحابة -رضي الله عنهن- كُنَّ يحضرن للمسجد، أو مُصلَّى الجنائز لقصد الصلاة على الأموات، وأمَّا إذا حَضَرتِ المرأةُ إلى المسجد للصلاة فيه، كالمسجد الحرام أو المسجد النبوي وغيرهما، فوَافقت جنازة فلا بأسَ بالصلاة عليها مع الناس. وكذا لو كانت الجنازة في بيتها فصلَّت عليها فلا حَرَج في ذلك؛ لِما أخرجه مسلم في صحيحه (ح100-973): عن عبد اللهِ بن الزبير يُحدِّثُ عن عائشةَ -رضي الله عنها-: أنها لَمَّا توُفِّيَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، أرسلَ أزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَمُرُّوا بجنازتهِ في المسجدِ، فيُصَلِّينَ عليه، ففعلُوا، فَوُقفَ بهِ على حُجَرِهنَّ يُصلِّينَ عليه، أُخرجَ بهِ من بابِ الجنائزِ الذي كان إلى الْمَقاعدِ، فبلَغَهُنَّ أنَّ الناسَ عابُوا ذلك، وقالُوا: ما كانت الجنائزُ يُدخَلُ بها المسجدَ، فبلَغَ ذلك عائشةَ، فقالت: ما أسرَعَ الناسَ إلى أن يَعيبُوا ما لا علمَ لهم بهِ! عابُوا علينا أن يُمَرَّ بجنازةٍ في المسجدِ! وما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سُهيل بنِ بيضاءَ إلاَّ في جوفِ المسجدِ. وكذا لو جُهِّزَ الْميِّتُ في بيته، وهي فيه فلا بأس بصلاتها عليه، والله أعلم. هل النساءُ مثل الرِّجال؟ فإنّ قيل: ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن اتَّبعَ جَنازةَ مُسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلِّي عليها، ويَفرُغَ من دفنها؛ فإنه يَرجعُ من الأجرِ بقيراطينِ، كُلُّ قيراطٍ مثلُ أُحُدٍ، ومَن صلَّى عليها ثمَّ رَجَعَ قبلَ أنْ تُدفنَ؛ فإنه يَرْجعُ بقيراطٍ». أخرجه البخاري (47). والنساءُ مثل الرِّجال! فالجوابُ: ما قاله الإمام ابن تيمية: «قد عُلمَ بالأحاديثِ الصَّحيحةِ: أنَّ هذا العُمُومَ لم يَتناول النساءَ، لنهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُنَّ عن اتِّباعِ الجنائزِ، سواءٌ كانَ نهيَ تحريمٍ أو تنزيهٍ» مجموع الفتاوى (24/ 346)، وقال الحافظ ابن حجر: «قال الزين بن المنيِّر: فَصلُ المصنفِ بين هذه الترجمة - أي قول البخاري: باب اتِّباع النساء الجنائز - وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تُشعر بالتفرقة بين النساء والرِّجال، وأنَّ الفضل الثابت في ذلك يختصُّ بالرِّجال دون النساء؛ لأنَّ النهي يقتضي التحريم، أو الكراهة، والفضل يدلُّ على الاستحباب، ولا يجتمعان، وأطلق الحكم هنا؛ لِما يتطرَّق إليه من الاحتمال، ومن ثمَّ اختلف العلماءُ في ذلك، ولا يخفى أن محلَّ النزاع إنما هو حيث تُؤمنُ المفسدة». فتح الباري (3/ 145). |
رد: شرح صحيح مسلم للشيخ محمد الحمود النجدي
شرح كتاب الجنائز من صحيح مسلم (16) الشيخ.محمد الحمود النجدي – باب : القيام للجنازة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قال: مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ؛ فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، فَقَال: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا»، هذا الحديث رواه مسلم في الجنائز (2/660)، وبوّب عليه النووي كتبويب المنذري، ورواه البخاري في صحيحه في الجنائز (1311): باب من قام لجنازة يهودي . قوله: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ» خوفٌ وهول، قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم المبالاة، وقوله: «فإذا رأيتم الجنازة فقوموا». أي: تعظيماً لهول الموت وفزعه، لا تعظيماً للميت؛ فلا يختص القيام بميت دون ميت.تعليل القيام لجنازة اليهودي وقد اختلفت الأحاديث في تعليل القيام لجنازة اليهودي أو غيره؛ ففي هذا الحديث التعليل بقوله: «إن الموت فزع»، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها (نفساً)؛ فروى مسلم: عن ابن أبي ليلى: أنّ قيس بن سعد وسهل بن حنيف: كانا بالقادسية؛ فمرّت بهما جنازة فقاما؛ فقيل لهما: إِنَّها مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ؛ فقيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». ورواه البخاري (1312). قوله: «من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، وقيل لأهل الذمة: أهل الأرض؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد، أقروهم على عمل في الأرض، وحمل الخراج، وفي حديث أنس مرفوعا عند النسائي والطبراني والحاكم: «إنّما قمْنا للملائكة»، ولأحمد (6573): عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَمُرُّ بِنَا جَنَازَةُ الكَافِرِ، أَفَنَقُومُ لها؟ َقَال: «نَعَمْ قُومُوا لها؛ فإِنَّكُم لَسْتُمْ تَقُومُونَ لها، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ». وصححه وابن حبان والحاكم، وهو كذلك . وهذا أيضا لا ينافي التعليل السابق؛ لأنّ القيام للفزع من الموت، فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة، ولا معارضة بين هذه التعليلات؛ قال الحافظ ابن حجر: لا منافاة فيها؛ لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة . حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة وقد اختلف أهل العلم في حكم قيام مَنْ مرّت به الجنازة وهو جالس، على قولين: القول بالكراهة - القول الأول: كراهة القيام للجنازة لمن مرّت به، ولو كان في المقبرة سابقا، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، ونقله بعض الشافعية عن جمهور الأصحاب. قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «القاعد على الطريق إذا مرت به، أو على القبر إذا جيء به: فلا يقوم لها, وقيل يقوم, واختير الأول؛ لما روي عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» بهذا اللفظ لأحمد. انتهى. فتح القدير (2/135). وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: وإنْ جاءت الجنازة وهو جالس، أو مرت به «وهو جالس» كره قيامه لها لحديث ابن سيرين قال: مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس؛ فقام الحسن ولم يقم ابن عباس؛ فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها النبي[؟ قال ابن عباس: قام ثم قعد، رواه النسائي. انتهى. كشاف القناع (2/130). وقال الخطيب الشربيني الشافعي -رحمه الله-: يكره القيام للجنازة إذا مرّت به، ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في (الروضة)، وجرى عليه ابن المقري، خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب. انتهى. مغني المحتاج (2/20)، وعزاه النووي -رحمه الله- في المجموع(5/241) إلى الإمام الشافعي وجمهور الأصحاب. القول بالاستحاب - القول الثاني: يستحب القيام لمَن مَرَّت به الجنازة، وهو القول الآخر عند الشافعية، ومذهب ابن حزم الظاهري، قال الإمام النووي -رحمه الله-: هذا الذي قاله صاحب (التتمة) هو المختار –يعني الاستحباب-؛ فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام, ولم يثبت في القعود شيء، إلا حديث علي]، وهو ليس صريحا في النسخ, بل ليس فيه نسخ؛ لأنه محتمل القعود لبيان الجواز، والله أعلم. المجموع(5/241)، وقال ابن حزم -رحمه الله-: نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء - وإنْ كانت جنازة كافر - حتى توضع أو تَخْلفه؛ فإنْ لم يقمْ فلا حرج. المحلى (3/380). واستدلوا بما يلي: 1- عن عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ؛ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ». رواه مسلم (958). 2- وعن ابنِ أَبِي ليلى: أَنَّ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كانَا بِالْقَادِسِيَّةِ؛ فَمَرَّتْ بِهِما جَنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيل لهما: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فقالَا: إِنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيل: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا». رواه مسلم (960). وأجابوا عن أدلة القول الأول: بأن قعود النبي صلى الله عليه وسلم ليس صريحا في النسخ ؛ إذْ قد يكون لبيان الجواز، كما سبق نقله في كلام النووي -رحمه الله-، قال ابن حزم -رحمه الله-: «فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام، مبينا أنه أمرُ ندب, وليس يجوز أنْ يكون هذا نسخا; لأنه لا يجوز ترك سُنّة متيقنة إلا بيقينٍ نسخ, والنسخ لا يكون إلا بالنهي, أو بتركٍ معه نهي . فإنْ قيل: قد رويتم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: قمت إلى جنب نافع بن جبير في جنازة, فقال لي: حدثني مسعود بن الحكم، عن علي بن أبي طالب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام، ثم أمرنا بالجلوس . فهلا قطعتم بالنسخ بهذا الخبر ؟ قلنا: كنا نفعل ذلك, لولا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا يوسف بن سعيد نا حجاج بن محمد هو الأعور عن ابن جريج، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة, وأبي سعيد الخدري قالا جميعا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط؛ فجلس حتى توضع؛ فهذا عمله -عليه السلام- المداوم , وأبو هريرة وأبو سعيد ما فارقاه -عليه السلام- حتى مات؛ فصحَّ أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف, وأمره بالقيام وقيامه ندب. المحلى (3/380-381). وقال البيضاوي: يحتمل قول علي: «ثم قعد». أي : بعد أنْ جاوزته وبعدت عنه، ويحتمل أنْ يريد كان يقوم في وقتٍ، ثم ترك القيام أصلا، وعلى هذا يكون فعله الأخير، قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أنْ يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح لأنّ احتمال المجاز - يعني في الأمر - أولى من دعوى النسخ. انتهى. والاحتمال الأول يدفعه: ما رواه البيهقي: من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا: أنْ يجلسوا، ثم حدثهم الحديث، ومن ثم قال بكراهة القيام جماعة، منهم سليم الرازي وغيره من الشافعية، وأما ما أخرجه أحمد: من حديث الحسن بن علي قال: إنما قام رسول الله[ تأذيا بريح اليهودي، زاد الطبراني: من حديث عبد الله بن عياش: «فآذاه ريح بخورها»، وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن: «كراهية أنْ تعلو رأسه»؛ فهي أحاديث لا تصح سنداً . المسألة الثانية أما المسألة الثانية في هذا الحديث فهي: حكم بقاء المشيِّعين للجنازة قياما في المقبرة، حتى يوضع الميت في قبره، قد اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً على قولين : القول الأول استحباب القيام وكراهة الجلوس، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة، واختاره بعض الشافعية. واستدلوا بحديث أَبِي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا اتَّبَعْتُمْ جنَازَةً؛ فلا تَجْلِسُوا حتَّى تُوضَعَ». رواه مسلم (959). قال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: «وإذا بلغوا إلى قبره يكره أنْ يجلسوا قبل أنْ يوضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون ، والقيام أمكن منه؛ ولأن المعقول من ندب الشرع لحضور دفنه إكرام الميت, وفي جلوسهم قبل وضعه ازدراء به وعدم التفات إليه, هذا في حق الماشي معها». فتح القدير (2/135). وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-: «ويكره جلوس من تبعها» أي: الجنازة حتى توضع بالأرض للدفن، نص عليه، «إلا لمن بَعُد عنها» أي : عن الجنازة؛ فلا يكره جلوسه قبل وضعها بالأرض؛ لما في انتظاره قائما من المشقة، قال: «وكان الإمام أحمد إذا صلى على جنازة - هو وليها - لم يجلس حتى تدفن نقله المروذي، ونقل حنبل: لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن جبرا وإكراما، ووقف علي على قبر فقيل له: ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل على أخينا قيامنا على قبره. ذكره أحمد محتجا به . كشاف القناع (2/130). القول الثاني كراهة القيام، وهو المعتمد في مذهب المالكية ، على خلاف بينهم ، وقول عند الشافعية والحنابلة، قال النووي -رحمه الله-: ثبتت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام لمن مرَّت به جنازة حتى تخلفه، أو تُوضع، وأمر من تبعها ألا يقعد عند القبر حتى توضع، ثم اختلف العلماء في نسخه؛ فقال الشافعي وجمهور أصحابنا: هذان القيامان منسوخان؛ فلا يُؤمر أحد بالقيام اليوم, سواء مرت به أم تبعها إلى القبر. ثم قال المصنف وجماعة: هو مخير بين القيام والقعود. المجموع (5/241)، وقال المرداوي -رحمه الله-: قوله: «ولا يجلس من تبعها حتى توضع « يعني : يكره ذلك, وهو المذهب وعليه الأصحاب, وعنه : لا يكره الجلوس لمن كان بعيدا عنها . تنبيه قوله: «حتى توضع» يعني بالأرض للدفن, وهذا المذهب نقله الجماعة, وعنه حتى توضع للصلاة, وعنه: حتى توضع في اللحد، قوله: «وإنْ جاءت وهو جالس لم يقم لها»، وهو المذهب نص عليه, وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في (الوجيز) وغيره، وقدمه في (الفروع), و(المغني), و (الشرح) وغيرهم, وعليه أكثر الأصحاب. وعنه: يستحب القيام لها, ولو كانت كافرة، نصره ابن أبي موسى واختاره القاضي, وابن عقيل, والشيخ تقي الدين, وصاحب (الفائق) فيه، وعنه: القيام وعدمه سواء، وعنه: يستحب القيام حتى تغيب أو توضع، وقاله ابن موسى . الإنصاف (2/542-543). واختار غير واحد من أهل العلم المعاصرين: القول باستحباب القيام للجنازة في المسألتين، في حالة مرورها بالقاعد، وفي حالة وصولها إلى المقبرة للدفن، اعتماداً على الأدلة الصريحة التي جاء فيها القيام للجنازة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وعدم ثبوت ما يدل على النسخ، وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام في بعض الأحيان؛ فهو لبيان الجواز . وقد سئل العلامة ابن باز -رحمه الله-: إذا كان المسلم في المسجد، ورأى الجنازة هل يقوم؟ فأجاب: ظاهر الحديث العموم؛ فهو إذنٌ مستحب, ومَن تركه فلا حرج; لأن القيام لها سُنة وليس بواجب; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام تارة، وقعد أخرى، فدل ذلك على عدم الوجوب». مجموع فتاوى ابن باز (13/187-188). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الراجح أن الإنسان إذا مرّت به الجنازة قام لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وفعله أيضاً ، ثم تركه ، والجمع بين فعله وتركه: أنّ تركه ليبين أنّ القيام ليس بواجب». مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/112). |
| الساعة الآن : 01:09 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour