ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الإملاء (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=121)
-   -   تقويم اللسانين (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=253023)

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:21 AM

تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (1)

د. محمد تقي الدين الهلالي

المراد باللسانين - اللسان والقلم، فإن العرب تقول: القلم أحد اللسانين. والمقصود هنا إصلاح الأخطاء التي تفاقم أمرها في هذا الزمان حتى أصبحت مألوفة عند أكثر الخاصة بَلْهَ العوام، فشوهت وجه اللسان العربي المبين، ورنقت صفو زلاله المعين، مما يسوء كل طالب علم، يحرص على حفظ لغة القرآن، وصيانتها من الإفساد والتشويه، والعبارات الجافية التي تشين جمالها، وتذهب ببهائها.

ولم يزل علماء اللغة معتنين بهذا الموضوع، باذلين جهدهم في تنظيف الإنشاء العربي من الألفاظ الدخيلة، والتعابير الثقيلة.

وقد ألف في ذلك الإمام أبو محمد القاسم بن علي الحريري كتاباً نفيساً سماه:(درة الغواص في أوهام الخواص) وهو مطبوع متداول. وألف الشهاب الخفاجي كتاب (شفاء العليل في العامي والمولَّد والدخيل). وألف الشيخ إبراهيم اليازجي الناقد البصير كتاباً سماه:(لغة الجرائد) وألف الأديب أسعد داغر في ذلك كتاباً سماه (تذكرة الكاتب).

وقد بدا لي أن أكتب مقالات في هذا الموضوع، أداء لواجب لغة الضاد، وصوناً لجمالها من الفساد، راجياً أن ينفع الله بما أكتبه تلامذتي في الشرق والمغرب وفي أوربا، وأنا على يقين أنهم يتلقون ما أكتبه بشوق وارتياح. وكذلك رفقائي الكُتَّاب المحافظون سيستحسنون ذلك. أما الكُتَّاب الذين يكرهون التحقيق ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، بين غث وسمين، وكدر ومعين، فإنهم سيستثقلون هذا الانتقاد، وقد يعدونه تكلفاً وتنطعاً، وتقييداً للحرية – بزعمهم – فلهؤلاء أقول: إني لم أكتب لكم، فما عليكم إلا أن تمروا على ما أكتب مرور الكرام، وتدعوه لغيركم الذين يقدرونه حق قدره، وهذا أوان الشروع في المقصود، وبالله أستعين، فهو نعم الناصر ونعم المعين.

1- الكاف الدخيلة الاستعمارية:
أما تسميتها دخيلة فلا إشكال فيه، لأنها لا توجد في الإنشاء العربي الذي قبل هذا الزمان. وأما تسميتها استعمارية، فلأنها دخلت في الإنشاء العربي مع دخول الاستعمار البلدان العربية، فإن جهلة المترجمين تحيروا في ترجمة كلمة تجيء في هذه اللغات قبل الحال، وهي في الإنكليزية (AS.) وفي الفرنسية (Comme) وفي الألمانية (ALS) مثال ذلك: فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة. وفلان يشتغل في الجامعة كمحاضر، وفلان مشهور ككاتب.

وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب، ولا يستسيغه ذوق سليم، وليس له في قواعد اللغة العربية موضع، ودونك البيان. قال ابن مالك:
شبه بكاف وبها التعليل قد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يعني وزائداً لتوكيد ورد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


(واستعمل اسما).

تأتي الكاف في كلام العرب لأربعة أمور:
1- التشبيه كقول المتنبي في ممدوحه:
كالبحر يقذف للقريب جواهر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جوداً، ويبعث للبعيد سحائباَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كالشمس في كبد السماء وضوئها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يغشى البلاد مشارقاً ومغارباَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأركان التشبيه أربعة - المشبه - والمشبه به، وأداة التشبيه - ووجه الشبه. فالمشبه في البيتين المذكورين هو الممدوح، والمشبه به، الشمس والبحر، وأداة التشبيه، الكاف، ووجه الشبه، حصول النفع للقريب والبعيد. فالشمس على فرط بعدها من الأرض، ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها، وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، فكذلك الممدوح يصل إحسانه إلى من كان بعيداً منه، ولا يقتصر على من كان قريباً منه.

والمشبه في البيت الأول هو الممدوح، والمشبه به هو البحر، وأداة التشبيه هي الكاف، ووجه الشبه، وصول الإحسان إلى القريب والبعيد. فالقريب يستخرج الجواهر من البحر، والبعيد ينتفع بمطر السحائب الناشئة من البحر، فكذلك الممدوح يعطي – من كان حاضراً عنده – الجوائز والصلات، ويبعث بها إلى من كان بعيداً عنه.

وبهذا تعلم أن (الكاف) الاستعمارية لا يجوز أن تكون للتشبيه البتة لعدم وجود أركانه.
2- هو التعليل: تجيء الكاف للتعليل، كقوله تعالى ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾[سورة البقرة: 198]. أي واذكروا الله، لأنه هداكم.

3- أن تكون زائدة إذا دخلت على كلمة بمعناها، وجعل منه قوله تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [سورة الشورى: 11] فإن قلت: إن كانت زائدة لا فائدة في ذكرها، فلماذا جاءت في القرآن؟ فالجواب، أن فائدتها التوكيد، وإنما سميت زائدة، لأن الكلام يتم بدونها، كما تزاد (من) للتوكيد كقوله تعالى في ﴿ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾[سورة المائدة: 19]: فمن: هنا زيدت لتوكيد النفي، ولو حذفت لكان الكلام تاماً.

4- أن تكون اسما بمعنى مثل، كقول الشاعر:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



الاستفهام هنا إنكاري. يقول الشاعر لأعدائه: كيف تنتهون عن ظلمكم وبغيكم، ولن ينهي ذوي الظلم شيء مثل الطعن المبيد، المهلك الذي لا يترك لهم شيئاً، لا أنفساً ولا أموالاً، فإن ذهاب الزيت والفتيلة كناية عن الهلاك التام، وهذا ينبغي أن يقال للمستعمرين، إذا كانت الرماح التي يطعن بها حاضرة، وهي في هذا الزمان القنابل المحرقة التي لا تبقي ولا تذر. فهذه معاني الكاف عند العرب، وما سواها شاذ لم يجيء في الكلام البليغ.


وإنما وقع جهلة المترجمين في هذا الاستعمال الفاسد لضعفهم في اللغتين أو إحداهما، فلا يستطيعون إدراك معنى الجملة مجتمعة ليصوغوا في اللغة الأخرى جملة تؤدي المعنى المطلوب بألفاظ جيدة الاستعمال، واقعة في مواضعها التي يقتضيها النظم الفصيح. وهذا العجز هو الذي يلجئهم إلى أن يبدلوا كل مفرد في إحدى اللغتين بمفرد آخر في اللغة الأخرى، فيجيء التركيب فاسداً معوجاً، لا تستسيغه أذواق الفصحاء في اللغة التي ينقل إليها المعنى: وستأتي في هذه المقالات، إن شاء الله، أمثلة عديدة توضح ذلك.

وليس المترجمون العرب وحدهم هم الذين يقعون في أخطاء الترجمة، بل يقع فيها كبار العلماء الأوربيين.وقد أحصيت الأخطاء الموجودة في ترجمة (جورج سيل) للقرآن الكريم بالإنكليزية، فوجدت في الجزء الأول وحده، وهو حزبان بتجزئة المغاربة ستين خطأ. و(جورج سيل) مستشرق انكليزي كبير، وقد تبعه من بعده من المترجمين في أخطائه، حتى الأستاذ محمد (مار ماديوك بكثال) المسلم الإنجليزي، رحمه الله، تبعه في أول خطأ كبير ارتكبه وقد ناظرته في ذلك مناظرة طويلة حتى اقتنع ورجع عن خطئه، وكان ذلك في ترجمة قوله تعالى في «﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾»[سورة البقرة 13]. فإنهما ترجماها بما معناه (أليسوا سفهاء؟) وسبب وقوعهما في هذا الخطأ عدم التمييز بين (ألا) الاستفتاحية البسيطة، و(ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية فإن (ألا) في قوله تعالى ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ﴾ استفتاحية خالية من النفي، يجب أن تترجم بلفظ إنكليزي يدل على التوكيد. ومثال المركبة الذي أوردته على الأستاذ الانكليزي المذكور فاقتنع بوجود الفرق بين الكلمتين قوله تعالى ﴿ لَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [سورة الملك: 14]:
وليس كل الكُتَّاب البلغاء في العصر الحاضر، يتورطون في استعمال الكاف الاستعمارية، فإن فيهم طائفة من عليتهم، لا تشين إنشاءها بذلك الاستعمال.

2- فترة:
شاع استعمال الفترة في هذا الزمان في وقت العمل فيقولون: فترة الصباح، وفترة الظهيرة، وفترة المساء، يريدون بذلك زمان العمل. قال البيضاوي في قوله تعالى ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [سورة المائدة: 19 ] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي.اهـ

قال ابن منظور في لسان العربي: والفترة: ما بين كل نبيين. وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله عز وجل من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة. وفي الحديث: فترة مابين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. اهـ

ومن ذلك تعلم أن الفترة ليست وقت العمل، بل هي ما بين عملين: فالوقت الذي لا يكون فيه عمل، هو الذي يجب أن يسمى فترة، وقد عكسه عامة الكتاب والمذيعين. ومن سوء الحظ أن أكثر الناس في هذا الزمان لا يتعلمون الإنشاء في مدارس اللغة العربية ولا في كتب اللغة العربية، وإنما يتلقونه من الإذاعات والصحف، فكل خطأ يشيع في هذين المصدرين، تنطلق به الألسنة والأقلام بدون تفكير ولا تمييز، وربما استعمله بعض كبار الأساتذة الذين يرجى منهم المحافظة على صحة الاستعمال، وجمال اللغة العربية، وتنقيتها من المولد والدخيل الذي لا حاجة إليه.

3- الخلق:
كثر استعمال الخلق في هذا الزمان بمعنى الإنشاء أو الإيجاد. يقال مثلا: يجب علينا أن نسعى لخلق نهضة ثقافية وهو استعمال فاسد، جاء من جهله المترجمين لكلمة في اللغات الأوربية مشتركة، تستعمل في إنشاء الله تعالى المخلوقات وإيجادها على غير مثال سابق، وتستعمل في تلك اللغات أيضا في معنى الإنشاء المطلق.

أما في اللغة العربية فإن الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى.ومن أسمائه سبحانه:الخالق والخلاق قال تعالى ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [سوره النحل 17] وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾[سوره النحل: 19-20 ]. وقال تعالى: ﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [سورة الرعد: 16].

أما في هذا الزمان الذي اختلت فيه الموازين والمقاييس وصار الناس فوضى في الإنشاء العربي، فلم يبق الخلق خاصاً بالله تعالى، بل صار الناس كلهم خالقين وخلاقين.

قال في لسان العرب: خلق: الله تعالى، وتقدس الخالق والخلاق: وفي التنزيل: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [سورة الحشر: 24], وفيه: ﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]: وإنما قدم أول وهلة، لأنه من أسماء الله تعالى:

الأزهري: ومن صفات الله تعالى الخالق والخلاق.ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله، عز وجل وهو الذي أوجد الأشياء جميعها، بعد أن لم تكن موجودة: وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها بالاعتبار للإيجاد على وفق التقدير:خالق:
والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه.وكل شي خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54] اهـ:
ويطلق الخلق أيضا على التقدير قال في اللسان: وخلق الأديم يخلقه خلقا، قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزاد أو قربة أو خفا. قال زهير يمدح رجلا.
ولأنت تفري ما خلقت وبع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ض القوم يخلق ثم لا يفري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر مالا يقطعه لأنه ليس بماضي العزم، وأنت مضاء على ما عزمت عليه. اهـ


أقول: وقد رأيت أهل البادية في الصحراء يدبغون جلد البعير ويقطعونه نعالا، فكلما احتاج أحدهم إلى نعلين يضع قدمه اليمنى على قطعة كبيرة من الجلد المذكور، فيأتي الشخص الذي يقطع النعلين ويخط خطا إلى جانب القدم دائراً بها، وذلك هو الخلق ثم يقطع النعل على ذلك التخطيط، وذلك القطع هو الفري، ثم يفعل ذلك بالقدم الأخرى، فتجيء النعلان على قدر القدمين بلا زيد ولا نقص: فقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ض القوم يخلق ثم لا يفري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يريد أن ممدوحه متى عزم على شي نفذ عزمه، وغيره يعزم ويقدر، ثم لا ينفذ شيئا، لأنه خائر العزيمة، ضعيف الإرادة.


والمعنى الثالث للخلق هو الكذب. قال تعالى ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ [ العنكبوت: 17] أي تكذبون كذبا. وقال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وليس في الكذاب حيلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

من كان يخلق ما يقول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فحيلتي فيه قليلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



4- بينما:

لقد اعتدى عامة كتاب العصر على هذه الكلمة، فشوهوا جمالها، وسلخوها عن معناها الحقيقي، وألبسوها معنى مكذوبا، فإنهم يستعملونها في معنى (على حين) كقول بعضهم: كما أن هذه المحاولات قد اتخذت أشكالا مختلفة، بعضها اقتصادي صرف، وبعضها سياسي صرف (بينما) البعض الآخر اتخذ الشعارين معا.

فهذا الاستعمال فاسد مختلق، لا أصل له في كلام العرب، وهو أيضا من جنايات جهلة المترجمين، فإنهم ترجموا كلمه while الانكليزية فوضعوا مكانها (بينما) فظلموهما جميعا والترجمة الصحيحة لهذه الكلمة (على حين أو في حين).

أما الاستعمال الصحيح العربي لـ(بينما), فإنها تكون في صدر الكلام، ولا بد لها من جملتين كأدوات الشرط. فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (ص) إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر – الحديث: وكقول الشاعر:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذ هو في الرمس تعفوه الأعاصير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وذو قرابته في الحي مسرور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وشواهد ذلك في كلام العرب لا تعد ولا تحصى.

5- وتحدثوا لبعضهم البعض:
هذا أيضا استعمال فاسد ناشئ عن فقدان الملكة في اللغة العربية والصواب: وتحدث بعضهم إلى بعض، كما قال تعالى ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴾ [سورة القلم: 30].

والذي أوقعهم في هذا الخطأ جهلهم بالنحو، فإن من كان عالما بالنحو في أي لغة كانت، يتخذه مصباحا، يضئ له طريق إنشائه سواء أكان كاتبا أم متكلما، فلا يضع قدمه إلا بعد أن يبصر موطئها ، أما الجاهل بالنحو، فإنه يمشي كالأعمى يضع قدمه دون أن يرى موطئها، فتزل به القدم ويسقط في حفر الأخطاء.

6- والأدهى من ذلك:
هذا الخطأ أيضا ناشئ عن الجهل بالنحو، فكل من يعرف أحكام اسم التفضيل أقل معرفة لا يقع في هذا الخطأ. قال ابن مالك في الألفية:
وأفعل التفضيل صله أبدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تقديراً أو لفظاً بمن إن جردا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



قال ابن عقيل في شرحه لألفية ابن مالك: لا يخلو أفعل التفضيل عن أحد ثلاثة أحوال.
الأول أن يكون مجردا.
الثاني: أن يكون مضافا.
الثالث: أن يكون بالألف واللام، فإن كان مجرداً، فلابد أن تتصل به (مِنْ) لفظا أو تقديرا، جارة للمفضل عليه نحو: زيد أفضل مِنْ عمرٍو، ومررت برجل أفضل من عمرو، وقد تحذف (مِنْ) ومجرورها لدلالة عليهما كقوله تعالى:﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾» أي وأعز نفراً منك.

وفهم من كلامه: أن أفعل التفضيل إذا كان (بأل) أو مضافا، لا تصحبه (من) فلا تقل: زيد الأفضل من عمرو، ولا زيد أفضل الناس من عمرو اهـ.

فتبين أن قولهم: والأدهى من ذلك خطأ، لأن أفعل التفضيل إذا دخلت عليه (أل) لا تلحقه «من». ومن العجيب أن أفعل التفضيل في الإنكليزية والألمانية جار على هذا المنوال.





ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:22 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (2)

د. محمد تقي الدين الهلالي







1- قاتل ضد:

هذه العبارة، وما أشبهها من المصائب الاستعمارية اللغوية التي نكبت بها اللغة العربية: والأصل في ذلك أن (قاتل) في اللغة الإنكليزية والألمانية من الأفعال اللازمة التي لا يتعدى فعلها إلى المفعول به إلا بحرف، وهو في الإنكليزية against وفي كل من الألمانية والفرنسية لفظ يقابله يتعدى به الفعل إلى مفعوله: والمترجم الجاهل هو الذي يضع مقابل كل كلمة من اللغة التي يترجمها كلمة تقابلها من اللغة التي ينقل إليها المعنى، ولم يدر أن (قاتل) في اللغة العربية فعل متعد بنفسه لا يحتاج إلى حرف. قال تعالى ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190].



وقد شاع ذلك التعبير الفاسد، كقولهم مثلا (أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية). وإذا نظرنا في هذه الجملة بعين الناقد البصير الذي يدري ما يقول، نجدها تدل على ضد ما يريده قائلها، وتعكس مراده، لأن الضد هو العدو.



قال صاحب اللسان: الضد كل شيء ضاد شيئا ليغلبه. اهـ.



وقال عكرمة في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [ مريم:81-82]: أي أعداء.



فإذا قلنا: إن أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية، كان معناه: أن أمريكا تقاتل عدو (فيتنام الشمالية) أي تقاتل نفسها، وهذا مسخ للغة العربية، يدمي قلب كل من يحبها، ويغار عليها، ويريد لها الانتعاش، فالحياةَ، فالازدهارَ، وأن يعاد لها مجدها فتساير ركب الحضارة الإنسانية، وتكتسي حلة التقدم في مجال المدنية، وتنال الحظ الأوفر اللائق بمكانتها من التعبير عن العلوم والآداب، حتى يستغنى الناطقون بها عن تكفف اللغات الأجنبية.



2- جمع الرومي على رومان:

مما هو شائع على ألسنة الكتاب والخطباء والمعلمين والأساتذة التعبير بلفظ (الرومان)، فإذا سألناهم عن مفرده وقف حمار الشيخ في العقبة، أو أجابوا بأنه جمع رومي، وهذا جواب غير صحيح.



والحقيقة أن هذا التعبير مأخوذ من اللغات الأوربية كالإنكليزية مثلا. والألف والنون يقابلان الياء في العربية (فرومان) في هذه اللغة نسبة إلى رومة. يقال للواحد، والجمع بزيادة سين ساكنة فيه، فاستعمله جهلة المترجمين بلفظه، ولم يعلموا أن ترجمته الصحيحة في المفرد (رومي) وفي الجمع (روم). قال الله تعالى ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ [الروم: 1 - 4]: والعرب تطلق لفظ الروم على الاغريقيين والإيطاليين، ومن إليهم. قال ابن منظور في لسان العرب: والروم جيل معروف، وأحدهم رومي، ينتمون إلى عيصو بن إسحاق النبي عليه السلام. ورومان بالضم، اسم رجل.



قال الفارسي: رومي وروم، من باب زنجي وزنج: قال ابن سيدة: ومثله عندي فارسي، وفرس، قال: وليس بين الواحد والجمع إلا الياء المشددة كما قالوا: تمرة وتمر، ولم يكن بين الواحد والجمع إلا الهاء. اهـ



فرومان في اللغة العربية لا يدل على جيل من الناس، وإنما هو علم يسمى به الرجال، ورومان أبو قبيلة.



قال الفيروز آبادي في القاموس: ورومان (بالضم) (موضع) ورومان الرومي، وابن نعجا صحابيان، وأم رومان، أم عائشة الصديقية، والروماني (موضع) باليمامة، ورومية، «بلد» بالمدائن خرب، و(بلد) بالروم سوق الدجاج، فيه فرسخ، وسوق البر ثلاثة فراسخ، وتقف المراكب فيه على دكاكين التجار في خليج معمول من النحاس، ارتفاع سوره ثمانون ذراعا في عرض عشرين، فيما نقله ابن خرداذبه، فإن يك كاذبا فعليه كذبه. اهـ



وقد تبين بما ذكرنا أن لفظ (رومان) لا وجود له في العربية، وإنما يوجد للمفرد رومي وللجمع روم: وقد توسع الكتاب في هذا الزمان فقالوا: يوناني ويونان، فكأنهم قاسوه على رومي وروم، وزنجي وزنج: والذي في القاموس هو: واليونانيون جيل انقرضوا. اهـ



وقول الفيروز آبادي: انقرضوا، له في ذلك عذر، لأن بلاد اليونانيين في زمانه كانت ولاية من ولايات الدولة العثمانية ووجود الشعوب مرتبط باستقلال دولها، وما بالعهد من قدم.



ففي الأمس القريب، كنت أنا بنفسي، كلما سألني سائل في أوربا أو في آسيا، وحتى في إفريقية، كلما سألني سائل، من أين أنت أقول: من المغرب فيبادر بسؤال آخر، أنت من المغرب الإسباني أو من المغرب الفرنسي، أو من طنجة الدولية؟



فأقول: المغرب بلد واحد، وهو للمغاربة، فلا يريد أن يصدقني أحد، كأن المغرب خلقه الله، يوم خلق السموات والأرض مجزأ ثلاثة أجزاء، مع أن تقسيمه نشأ منذ زمان قريب، ولم يستمر إلا ثلاثا وأربعين سنة.



وأغرب من ذلك أني لما أردت التجنس بالجنسية العراقية سنة 1934 قدمت طلباً إلى الدوائر المختصة في البصرة فبقيت الأوراق تنتقل من دائرة إلى دائرة مدة شهرين، ثم بعثت إلى بغداد العاصمة، فسافرت لأتعقبها إلى بغداد، وبقيت شهرين أستنجد وأتشفع حتى وصلت الأوراق إلى يد مدير وزارة الداخلية، فأخذ جواز سفري يتأمله وأنا واقف أمامه، وإلى جانبي الأستاذ كمال الدين الطائي من كبار علماء بغداد تفضل بمرافقتي ليعينني ويشفع لي، فقال المدير: بفظاظة، ما هي جنسيتك؟ فقلت: مغربي فاستشاط غضباً وقال:(جنسية هتشي ماكو) يعني لا توجد جنسية هكذا، قل: فرنسي، فقلت بل هي موجودة، فانظر ما هو مكتوب على الجواز باللغة الفرنسية (أمبير شريفيان) أي الدولة الشريفية، فلم يقتنع بذلك، فقلت له: هل كنت أنت إنكليزيا قبل سنتين؟ أي قبل المعاهدة الأخيرة، فقال لي:(حنا كنا عثمانيين، ومن بعد صرنا عراقيين) فقلت له أنا:(ونحن دولة مغربية منذ ما يزيد على ألف سنة، منذ أسس الإمام إدريس بن عبد الله الدولة المغربية واستقلت عن الدولة العباسية) فجذبني الأستاذ كمال الدين من ثيابي وقال لي: دع هذه القضية، فسأتعقبها أنا، لأنه رأى أن القضية قد دخلت في طور خطير بالجدال مع مدير الداخلية.



فكتب ذلك المدير على أوراقي:(الطلب مرفوض)، وبذلك أحبط لي عمل أربعة أشهر، ولكن الله سبحانه وتعالى رحم ضعفي وغربتي، فسقطت تلك الوزارة، وكانت إحدى وزارات جميل المدفعي، ولم تلبث في الحكم إلا اثني عشر يوما، ولا توجد فيما أعلم وزارة عراقية تماثلها في قصر العمر.



وجاءت بعدها وزارة علي جودة الأيوبي فأعدت الطلب وحصلت على الجنسية في ثلاثة أيام بمساعدة النبيل الشهم عارف قفطان العاني، وكان صديقاً حميماً لعلي جودة الأيوبي.



وفي سنة 1341هـ حججت الحجة الأولى، ووقع خصام بيني وبين صاحب حانوت بمكة فعيَّرني، وزعم أني فرنسي، فقلت له: أنت إنكليزي، فنحن في البلية سواء، وكان في زمان الشريف حسين بن علي إذن فلا غرابة في قول صاحب القاموس: إن اليونانيين انقرضوا.



والذي يهمنا هنا هو أنه لا يقال: يوناني ويونان، وإنما يقال: يوناني ويونانيون.



ومن ذلك قولهم: ألماني وألمان والصواب: جرماني وجرمانيون، لأن البلاد التي تسمى في هذا الزمان ألمانية، كانت العرب تسميها (جرمانية) هكذا سماها ابن الفقيه البغدادي المتوفى في أواخر المائة الثالثة للهجرة في كتابه الذي سماه (كتاب البلدان) وذكر فيه جغرافية العالم: وقد ترجمته مع الأستاذ (باول كالي) باللغة الجرمانية ولفظ «ألمانية» فرنسي، فإذا أردنا أن نتساهل ونترك اللفظ العربي، ونستعير اللفظ الفرنسي وجب علينا أن نقول (ألماني وألمانيون) والأفضل لنا أن نستعمل اللفظ العربي ونحييه ونستغني به.



استطراد:

كل من يقرأ مقالاتي يعلم أن الاستطراد محبب إلى فيما أقرؤه وفيما أكتبه، لأن الاستطراد كالطعام المؤلف من ألوان متعددة، ولذلك رأيت أن أذكر تفسير أول سورة الروم تتميماً للفائدة وتلويناً للغذاء.



قال البيضاوي في تفسيره: ﴿ آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ أرض العرب منهم، لأنها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب، واللام بدل من الإضافة ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ﴾ أي من إضافة المصدر إلى المفعول. وقرئ غَلْبِهِم، وهو لغة: كالجلب والجلب ﴿ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾.



روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى، وقيل بالجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من الفرس، فغلبوا عليهم، وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرهن عليكم، فنزلت.



فقال لهم أبوبكر: لا يُقِرَّنَّ الله أعينكم، فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي بن خلف: كذبت، اجعل بيننا أجلا أُنَاحِبُكَ عليه، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبوبكر رسول الله (ص) فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخِطْرِ وماده في الأجل، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين.



ومات أُبَي من جرح رسول الله (ص) بعد قفوله من أحد.



وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخِطْر من ورثة أُبَي، وجاء به إلى رسول الله (ص) فقال: تصدق به. واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار.



والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب: وقرئ غَلَبَت (بالفتح)، وسيغلبون (بالضم)، ومعناه: أن الروم غلبوا على ريف الشام، والمسلمون سيغلبونهم. وفي السنة التاسعة من نزولها غزاهم المسلمون، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل.



توضيحات لكلام البيضاوي:

1- قوله (واللام بدل من الإضافة) يعني أن أداة التعريف في (الأرض) بدل من الضمير المضاف إليه. والتقدير: غلبت الروم في أقرب أرضهم وهي أرض العرب التي كانوا مستولين عليها، لأن أذرعات وبصرى هما من بلاد الشام، وبلاد الشام ليست ملكا للروم، وإنما استولوا عليها بالتسلط والقهر، هذا على القول بأن المراد بالأرض (بصرى وأذرعات) وأما على القول بأنها الجزيرة، فهي كذلك ليست للروم، بل هي من بلاد العرب، لأنها واقعة بين دجلة والفرات.



2- قوله (من إضافة المصدر إلى المفعول) يعني، وهم من بعد غلبة الفرس لهم سيغلبون الفرس في مدة لا تتجاوز البضع، وهو مابين ثلاث إلى تسع.



3- قوله (روي أن فارس غزوا الروم) من المعلوم أن البيضاوي، مع علمه بالنحو والصرف واللغة والفقه الشافعي والأصول، وعلم الكلام مزجي البضاعة في علم الحديث. ففي تفسيره أحاديث موضوعة يذكرها في فضائل السور. وروي بصيغة الفعل المبني للنائب لا يستعملها أهل الحديث إلا إذا كان المروي ضعيفا، فلذلك أردت أن ألم بتخريج هذا الحديث وبيان رتبته.



أما تخريجه فقد رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير بطرق تختلف ألفاظها، ويتفق معناها في الجملة، ورواه كذلك سنيد بن داوود في تفسيره.



وروايته أقرب إلى ما ذكره البيضاوي.



وأما رتبته فقد قال الترمذي في بعض طرقه: حسن غريب، وفي بعضها حسن صحيح.



4- قوله (أناحبك عليه) أي أراهنك وأخاطرك. والقلوص الشابة من النوق.



5- قوله (ومات أُبي بن خلف من جرح رسول الله) (ص). قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ج2ص 93: أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف (يعني في غزوة أحد) على جواد له، يقال له العود، زعم عدو الله أنه يقتل رسول الله (ص) فلما اقترب منه، تناول رسول الله (ص) الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، فَكَرَّ عدو الله منهزما. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله، لو كان ما بي بذي المجاز لماتوا أجمعون.



وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمدا، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى، فلما طعنه، تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله، فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بسرف مرجعه إلى مكة اهـ.



6- قوله (وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية) الخ.



الحديبية بصيغة التصغير وتخفيف الياء على الصحيح عند أهل اللغة. موضع يبعد عن مكة بنحو عشرة أميال. وقع فيه الصلح بين النبي (ص) وبين أهل مكة في ذي القعدة سنة ست للهجرة.



7- قوله (واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب) الخ. يعني أن الحنفية استدلوا بمراهنة أبي بكر الصديق مع أُبي بن خلف، وعلم النبي (ص) بذلك وإقراره عليه، وأمره أبا بكر أن يتصدق بما ربحه من الإبل، استدلوا بذلك على جواز القمار وغيره من العقود المحرمة، مع أعداء الإسلام في دار الحرب، ومنع ذلك الشافعية، وأجابوا عن الاحتجاج بفعل أبي بكر أن ذلك كان قبل أن يحرم القمار، وحينئذ لا حجة فيه على جواز القمار مع المحاربين ولا غيره من المحرمات كالربى، فلا يجوز التعامل بالربا، لا مع المسلمين ولا مع المسالمين، ولا مع المحاربين، وهذا هو الصحيح، لأن المراهنة على ما يظهر كانت في مكة قبل الهجرة. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث أن هزيمة الروم وقعت بعد المراهنة بسبع سنين.



ومن المعلوم أن آية تحريم القمار، وهي قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] نزلت بالمدينة. والخمر التي حرمت مع القمار في الآية كانت حلالا عند ما قدم النبي (ص) المدينة، وكانت تشرب ويتجر فيها، ثم حرمت بعد ذلك أولا في أوقات الصلاة بقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43] ثم حرمت بتة بآية المائدة.



8- قوله (والآية من دلائل النبوة) الخ. هذه معجزة باقية خالدة يستوي في إدراكها من كان في زمان النبي (ص) وشاهدها بنفسه، ومن يأتي بعد ذلك إلى يوم القيامة، لأن سورة الروم مكية، وكان المسلمون عند نزولها في غاية القلة والضعف يسخر منهم أعداؤهم ولا يأبه بهم أحد.



وقد أخبر الله سبحانه في أول هذه السورة أن الروم البيزنطيين هزمهم الفرس شر هزيمة، وكان الروم أعظم دولة في الغرب، والفرس أعظم دولة في الشرق الأدنى على الأقل، ولم تجر العادة أن دولة عظيمة تمنى بهزيمة منكرة تلم شعثها وتجمع شملها، وتعيد الكرة في بضع سنين فتهجم على الدولة التي هزمتها وتكيل لها صاعاً بصاع.



فلو قال قائل بعد هزيمة جرمانية (ألمانيا):«إن الدولة الجرمانية ستعيد الكرة على أعدائها وتهزمهم في بضع سنين»، ثم وقع الأمر طبق ما قال ذلك القائل لصدقه جميع الناس في كل ما يقول وآمنوا به، فماذا يقول المنكرون لمعجزات القرآن من غلاة أعدائه الأجانب، وأذنابهم من الأغمار، من سكان البلاد العربية والإسلامية، في هذه المعجزة الخالدة؟؟ وكم وكم من أمثالها في القرآن لمن تدبر القرآن، وسلمت عين بصيرته من غشاوة التعصب الممقوت والجهل والتهور والطيش.



9- قوله (وقرئ: غلبت (بالفتح)، وسيغلبون (بالضم) الخ.



هذه قراءة ضعيفة خارجة عن السبع، شاذة. والمعنى على هذه القراءة: غلبت الروم فارس، وسيغلبهم العرب المسلمون. وقد غزا المسلمون الروم قصاصاً منهم في السنة التاسعة من نزولها.



والقراءة الأولى هي المعتمدة.



10- قوله (وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل) يعني على القراءة الشاذة، يكون المصدر مضافاَ إلى فاعله.



والتقدير:من بعد أن غلب الروم الفرس سيغلبون - بضم الياء وفتح اللام - أي يغلبهم المسلمون. وهذا آخر المقال الثاني من تقويم اللسانين. وموعدنا الجزء التالي بحول الله وقوته.




المصدر: "مجلة دعوة الحق".




ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:23 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (3)

د. محمد تقي الدين الهلالي




1- في أية مناسبة:
من الأخطاء التي شاعت وذاعت في هذا الزمان تأنيث (أي) إذا أضيفت إلى مؤنث كقولهم: يمكن أن يجيء في أية لحظة، ولم ترد أية أنباء، وهذا الاستعمال كثير يسمع في كل وقت من الإذاعات، ويقرأ في الصحف، وهو فاسد، فإن (أياً) إذا أضيفت إلى مؤنث أو مذكر أو جمع، كيفما كان، تبقى على حالها.

قال الله تعالى في سورة الانفطار ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾.

وقال تعالى في سورة المؤمن ﴿ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ؟ ﴾ وقال تعالى في سورة الرحمن ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.

قال الخضري في حاشيته على ابن عقيل في الكلام على الحكاية بعد تقرير حكم (أي) المحكي بها، وبيان أنها تتبع اللفظ الذي حكي بها في الإعراب والتذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع ما نصه: خرج المسؤول بها ابتداء فلا يحكى بها شيء، بل تكون بحسب العوامل، ومفردة مذكرة لا غير مثل من، وشذ قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقال الصبان في حاشيته على الأشموني مثل ذلك.

وقول الخضري: ابتداء، احترز بذلك من المسؤول بها حكاية، فإنها تذكر وتؤنث، فإذا قال لك قائل: جاءني رجل تقول: أي. وإذا قال لك: جاءتني امرأة تقول: أية. فأي مسؤول بها في الحالين، إلا أنك إذا سألت بها ابتداء تلزم الإفراد والتذكير.

وإذا سألت بها حكاية تجيء على حسب المحكي.

2- نسيت أنا الآخر:
هذا خطأ شائع في البلاد العربية، يقول شخص مثلاً: نسي صديقي وعده ونسيت أنا الآخر، أو نسي هو الآخر.

فاستعمال الآخر هنا خطأ محض. والصواب: ونسيت أنا أيضا.

وهذا الاستعمال موجود في اللغة العامية المصرية بإبدال الهمزة راء، يقولون مثلا: نسيت أنا (راخر) والظاهر أن أول من ارتكب هذا الخطأ عامة الكتاب المصريين، لأنه موجود في لغتهم العامية فاستعملوه في الفصحى، وتبعهم غيرهم من عامة كتاب البلاد العربية والمتكلمين بها من غير العرب.

3- اعتناق الدين:
قال صاحب اللسان: وعانقه معانقة وعناقا: التزمه، فأدنى عنقه من عنقه. وقيل المعانقة في المودة، والاعتناق في الحرب. قال:
يطعنهم ما ارتموا، حتى إذا أطعنوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضارب، حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقد يجوز الافتعال في موضع المفاعلة، فإذا خصصت بالفعل واحدا دون الآخر لم تقل إلا عانقه في الحالين. قال الأزهري: وقد يجوز الاعتناق في المودة كالتعانق، وكلٌّ في كلٍّ جائز. اهـ.

فظهر أن المعانقة والاعتناق كلاهما مأخوذ من إدناء العنق من العنق، والدين ليس له عنق. ولا يعانق من دخل فيه. فالفعل هنا من جانب واحد.

والعرب لا تقول أبدا: اعتنق الإسلام، أو اعتنق النصرانية، أو اعتنق الفكرة، وإنما تقول: أسلم، وتنصّر، واعتقد كذا وكذا قال تعالى في سورة آل عمران (20) ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

ومثل هذه العبارات في الكتاب والسنة كثيرة جدا. ولا يوجد التعبير باعتناق الإسلام في أي موضع. لا يقال: إن اعتناق الإسلام استعارة، لأنا نقول: ليس كل استعارة مستحسنة، ولو كان التعبير بالاعتناق مستحسنا لعبر به القرآن أو السنة أو فصحاء العرب.

وقال الفيروز أبادي في القاموس: وأسلم: انقاد وصار مسلما. اهـ.

أقول: أسلم في اللغة إذ كان لازما، معناه: انقاد واستسلم وأما في اصطلاح الشريعة فمعناه: انقاد إلى ما جاء به رسول الله (ص) وقبله كله في الظاهر، فإن كان قبوله له ظاهراً وباطناً فهو مسلم حقا ومؤمن، وإن كان قد قبل ما جاء به النبي (ص) وانقاد له في الظاهر فقط فهو منافق، تجري عليه أحكام الإسلام، وهو في الحقيقة كافر. قال تعالى في سورة الحجرات (14) ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ وإن كان هذا الفعل متعديا فمن معانيه: إخلاص التوجه إلى الله تعالى.

قال تعالى في سورة النساء (125) ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾.

ومن معانيه: الإلقاء في الهلكة قال صاحب اللسان: قال ابن الأثير: يقال: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه في الهلكة ولم يَحْمِه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم إلى شيء، لكن دخله التخصيص، وغلب عليه الإلقاء في الهلكة.

ومنه الحديث: إني وهبت لخالتي غلاما فقلت لها: لا تسلميه حجاما ولا صائغا ولا قصابا، أي لا تعطيه لمن يعلمه إحدى هذه الصنائع. اهـ

أقول: والعجب من ابن منظور، كيف وقع في خطأ عامي، وهو تعديته (أعطى) إلى المفعول الثاني باللام، وهو متعد بنفسه إلى مفعولين يقال: أعطاه الله علما. قال تعالى:﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ ولكن لكل سيف نبوة، ولكل جواد كبوة، والكمال لله.

ومن أسلم المتعدي قول النبي (ص): المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، أي لا يخذله بل يحميه ويدافع عنه. والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر.

وهذا التعبير أيضا من استعمار لغة الأجانب واستعبادها للغة العربية فهو في الإنكليزية (Embrace) وقال تعالى:﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾، ولم يقل: يعتنقون دين الله.

4- البساطة:
يقال: هذا شيء بسيط، وتكلم ببساطة، وهذا لا يعتقده إلا البسطاء، وذلك كله خطأ قال صاحب اللسان: ورجل بسيط: منبسط بلسانه، وقد بسط بساطة. الليث: البسيط المنبسط اللسان، والمرأة بسيط. ورجل بسيط اليدين: منبسط بالمعروف، وبسيط الوجه متهلل، وجمعها: بسط. اهـ.

أقول: فقد رأيت أن البسيط والبساطة لا يدلان على ما يريد الكتاب بهما، فإنهم يريدون بالبسيط من الناس الغر والمغفل، ويريدون بالبسيط من الأمور، السهل الهين، وذلك كله بعيد عن استعمال العرب، بل هو ضده، لأن البسيط في اللغة العربية، هو الواسع، ومن أجل ذلك سميت الأرض البسيطة لسعتها.

والبساطة كما تقدم في كلام العرب طلاقة الوجه. وأصل هذا الخطأ آت من اصطلاح الأطباء في تسميتهم الدواء الذي هو من مادة واحدة بسيطا، ويقابله: المركب الذي يتألف من أجزاء، كل جزء من مادة.

وقد استعمله الفلاسفة أيضا فقسموا الجهل إلى قسمين: جهل بسيط، وجهل مركب، فالجهل البسيط هو أن يكون الشخص جاهلا، ويعلم أنه جاهل، والجهل المركب أن يكون الشخص جاهلا، ويجهل أنه جاهل، فجهله مركب من جهلين. قال بعض الشعراء على لسان حمار الطبيب توما:
قال حمار الحكيم توما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لو أنصفوني ما كنت أُركب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لأن جهلي غدا بسيطا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وراكبي جهله مركب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومما يحكي من أخبار هذا الطبيب أنه قرأ في كتاب (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فقرأها خطأ (الحية السوداء شفاء من كل داء) فأخذ حية سوداء وصار يعالج بها المرضى، فكانوا يموتون من سمها.

وليس بالكاتب حاجة إلى أن يترك اللغة الفصحى ويستعمل اصطلاحا طبيا ليعبر به عما يريده إلا إذا كان باقليا من أهل العي والحصر.

وقد ارتقى الكتاب من ذلك إلى خطأ آخر، وهو استعمال التبسيط فيقولون: كتاب مبسط، يعني أنه ألف بلغة سهلة غير معقدة. ويقولون: يجب تبسيط قواعد النحو، أي تسهيلها وتيسيرها، فانتقلوا من إلى خطأ، لأن التبسيط هو التوسيع، فهو بمعنى البسط، إلا أن التبسيط فيه مبالغة كالتقتيل بمعنى القتل، أي كثرته. وفعل المضاعف إذا اشترك مع الثلاثي في معنى واحد دل الرباعي على الكثرة والمبالغة في اللغة العربية، وفي أختيها العبرانية والآرامية.

5- نكران الذات:
ومن الأخطاء التي جاءت مع الاستعمار تعبيرهم بـ (نكران الذات) عن الإيثار، وهذه العبارة ترجمة فاسدة للفظ الإنكليزي (self-denial) والتعبير العربي الصحيح عن هذا المعنى هو. الإيثار قال تعالى في سورة الحشر (9) ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ وضد الإيثار هو: الاسئثار ويسميه جهال الكتاب (أنانية) نسبة فاسدة إلى لفظ (أنا) وهو أيضا من الترجمة الفاسدة للفظ الإنكليزي (selfishness) وقد يعبرون عن هذا المعنى أيضا بحب الذات، وهو تعبير فاسد، لأن كل إنسان يحب نفسه وليس ذلك بعيب، وإنما يعاب عليه أن يبالغ في حب نفسه إلى حد الاستئثار بالطيبات، وغَمْط حقوق الناس، وكذلك لا ينبغي للإنسان أن ينكر نفسه، ولا يستطيع ذلك لو حاوله.

وكيف ينكر نفسه، وهو يعلم العلم الضروري أنه موجود؟

وإذا أنكر الإنسان نفسه، فبمن يعترف؟ وهذا كله ناشئ عن الجهل باللغة العربية، وعدم تعلمها من مصادرها الصحيحة.

6- التصدير والتوريد:
ومن الأخطاء الشائعة الذائعة استعمالهم لفظ التصدير فيما تخرجه البلاد من البضائع ليباع في خارجها فيقولون مثلاً: المغرب يصدر الفوسفاط والحوامض والسردين، فدعنا نبحث في صحة هذا التعبير قال في اللسان: وصدر كتابه جعل له صدراً، وصدره في المجلس فتصدر اهـ. والصواب في هذا أن يعبر بالإصدار.

ثم قال صاحب اللسان: وقد أصدر غيره وصدره، والأول أعلى. وفي التنزيل العزيز:﴿ حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ﴾.

قال ابن سيدة: فإما أن يكون هذا على نية التعدي، كأنه قال: حتى يصدر الرعاء إبلهم، ثم حذف المفعول. وإما أن يكون يصدرها هنا غير متعد لفظا ولا معنى، لأنهم قالوا: صدرت عن الماء: فلم يعدوه. اهـ

وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة القصص (23) ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ﴾ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول، لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما، ويدعوه إلى السقي لهما ثمت دونه.

وقرأ أبو عمرو وابن عامر (يصدر) أي ينصرف. اهـ

أقول: قول البيضاوي:(تصرف الرعاة مواشيهم) يرجح الوجه الأول من الوجهين اللذين نقلهما صاحب اللسان عن ابن سيدة، وهو أن يصدر فعل متعد حذف مفعوله، لأن البلاغة تقتضي حذفه كما أشار إليها البيضاوي، لأن الغرض لا يتعلق به، وإنما المراد الدلالة على عفاف ابنتي شعيب وكراهيتهما للاختلاط بالرعاة.

وعلى قراءة يصدر الرعاء (بفتح الياء) لا يختلف المعنى، لأن الرعاء لا بد أن تكون معهم مواش، وإلا لم يكونوا رعاة، فالمواشي مفهومة من المقام، إذا قلنا: إن الفعل الثلاثي لازم، وهو الذي رجحه ابن سيدة.

ويؤيده قوله تعالى في سورة الزلزلة ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ قال البيضاوي في تفسيره:(يصدر الناس) من مخارجهم من القبور إلى الموقف. اهـ

حاصله: أن الصدر (بفتحتين) هو الرجوع من الماء بعد وروده لشرب أو سقي ماشية أو غير ذلك. ثم استعمل في كل خارج من شيء إلى شيء آخر. وفعله ثلاثي من باب نصر، وهو فعل لازم على الأصح، فإذا دخلت عليه الهمزة صار متعدياً يقال: أورد الماشية ثم أصدرها، أي صرفها عن الماء، ثم استعمل الإصدار في كل إخراج. فالصواب أن يقال مثلا: إن المملكة المغربية تصدر الفسفاط والحوامض والسردين (بضم التاء وإسكان الصاد).


وأما التوريد: فقال في اللسان، قال أبو حنيفة: الورد نور كل شجرة وزهر كل نبتة، واحدته وردة. قال:والورد ببلاد العرب كثير ريفية وبرية وجبلية.

ووَرُد الشجر: نَوَّرَ، ووردت الشجرة إذا خرج نورها.

ثم قال: وورد الثوب: جعله ورداً. ويقال: وردت المرأة خدها إذا عالجته بصبغ القطنة المصبوغة.

ثم قال: تقول: وردت الإبل والطير هذا الماء ورداً. ثم قال: ابن سيدة: وورد الماء وغيره ورداً ووروداً. وورد عليه: أشرف عليه، دخله أو لم يدخله قال زهير:
فلما وردن الماء زرقاً جمامة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وضعن عصي الحاضر المتخيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


معناه: لما بلغن الماء أقمن عليه. ثم قال: وكل من أتى مكاناً، منهلاً أو غيره، فقد ورده.


ثم قال الجوهري: ورد فلان وروداً: حضر، وأورده غيره واستورده أي أحضره. ثم قال: وفي حديث أبي بكر: أخذ بلسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد أراد الموارد المهلكة. اهـ

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة القصص:(23) ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ وصل إليه، وهو بئر كانوا يسقون منها ﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ ﴾: وجد فوق شفيرها ﴿ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ﴾ جماعة كثيرة مختلفين ﴿ يَسْقُونَ ﴾ مواشيهم.

وقال تعالى في سورة هود (97-98) ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾.

قال البيضاوي:﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ أي مرشد، أو ذي رشد، وإنما هو غي محض، وضلال صريح ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ إلى النار كما يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال: قدم: بمعنى تقدم ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ﴾ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، ونزل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً.

ثم قال ﴿ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ أي بئس المورد الذي وردوه، فإنه يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بالضد. والآية كالدليل على قوله ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها. اهـ

حاصله: أن التوريد معناه أن تخرج الشجرة وردها، وأن تصبغ المرأة خدها بلون الورد. فالصواب أن يقال في جلب البضائع من خارج البلاد: الإيراد والاستيراد. وفي إخراج البضائع منها: الإصدار.

7- التعبير بالعمل الجنسي عن المباشرة:
من العبارات الأجنبية التي تزري بمن يعبر بها، وتدل على أنه مزجى البضاعة في لغة الضاد، ترك عبارات القرآن، وهي أجمل وأبلغ، وأوجز لفظاً، وأوضح معنى، وأبعد عن التصريح بما لا يستحسن التصريح به، والتعبير بعبارة أجنبية ثقيلة مبهمة، طويلة اللفظ أعجمية، لا جرم أنه لا يعبر بها إلا من لا يعرف القرآن وبلاغته، وأسرار إعجازه، ومن لا يعرف القرآن لا يمكن أن يعرف اللغة العربية معرفة تمكنه من ناصيتها، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، فإن الأدباء من نصارى العرب يحرصون كل الحرص على قراءة القرآن لا ليدينوا بالإسلام بل ليتمكنوا من الفصاحة إذا تكلموا أو كتبوا باللغة العربية، ومن الفهم الصحيح إذا قرأوا ما كتب بها، وبعضهم لم يكتف بقراءة القرآن، بل حفظه عن ظهر قلب، كالشيخ ناصيف اليازجي والشيخ إبراهيم اليازجي، فلذلك جاءت تآليفها في الأدب العربي لابسة حلة من البهاء والبلاغة تسحر الألباب، نظيفة من الدخيل والمولد، والتراكيب الأعجمية الثقيلة الباردة.

وقد كان الشيخ إبراهيم اليازجي حريصاً على التعبير بعبارة القرآن كل الحرص، ولما دعاه النصارى ليرشدهم في ترجمة الأناجيل كان يختار لهم العبارات البليغة فيرفضونها تعصباً، زاعمين أنها تشبه عبارات القرآن. (انظر كتابه كشف المخبا في الرحلة إلى أوربا)، ومجلة الضياء ثمانية مجلدات، ومجلة البيان مجلد واحد، ولغة الجرائد جزء، والواسطة في أخبار مالطة جزء.

وقد عبر القرآن عن هذا المعنى بعبارات من أبلغ الكنايات وأجملها، وأدلها على المعنى، ولم يصرح قط باللفظ المخصص لهذا الحدث. قال تعالى في سورة البقرة:(187).﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.

وقال تعالى في سورة البقرة أيضاً:(237) ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾.

وقال تعالى في سورة النساء:(43) ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾.

فهذه ثلاثة ألفاظ، المباشرة، والمسيس، والملامسة كلها كنايات. وفي اللغة العربية كنايات أخرى لأداء هذا المعنى لا تعد ولا تحصى، فما حاجتنا إلى جلب تلك العبارة الأجنبية الركيكة الغامضة التي تمسخ الإنشاء العربي، وتخدش وجهه، وتسجل العجز عن لغة الضاد، وتصمها بما هي منه براء؟

على أن لفظ الجماع الذي يعبر به الفقهاء في كتب الفقه وفي الوثائق هو أيضا كناية.

قال في القاموس: وجماع الشيء جمعه، يقال: جماع الخباء الأخبية، أي جمعها لأن الجماع ما جمع عدداً. ثم قال: والمجامعة المباضعة، وجامعه على أمر كذا اجتمع معه. اهـ

على أن التشدد في أمر الألفاظ ينافي طباع العرب ويسيء إلى أدب اللغة العربية بل وإلى اللغة نفسها، فإن العرب تتساهل في التعبير والتلفظ، وإنما تتورع في الأقوال والأفعال التي تعد محرمة شرعاً، ولا ترى العرب أن تتأدب بأدب الكنيسة النصرانية وأتباعها الذين يقول لسان حالهم ومقالهم: افعل كل شيء، ولا تقل شيئا والعكس عند العرب هو الصواب.

فالحريري في مقاماته كان عفيف النفس، ولكنه لم يتحرج من التعبير عن المعاني والأشياء الواقعة التي لا ينفك الناس عنها. ومن يريد أن يقلد الكنيسة وأتباعها، ويستهجن مخالفتها يلزمه أن يحذف أربعة أخماس المقامات الحريرية، ويحذف قسماً كبيراً من الأدب العربي شعره ونثره، وذلك هو الخسران المبين.

وقد كان ابن عباس سائراً محرماً في طريقه إلى الحج، فأخذ ينشد بيتاً وهو:
وهن يهمسن بنا هميسا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أن تصدق الطير ننك لميساً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فقال له رجل: كيف تقول هذا، وأنت محرم بالحج، وقد قال الله تعالى:﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ فقال له ابن عباس: إنما الرفث ما كان بحضرة النساء.

أكتفي بهذا القدر وموعدنا المقال التالي بحول الله وقوته.



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:24 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (4)

د. محمد تقي الدين الهلالي




1- الحياة السياسية، والحياة الثقافية، والحياة الاقتصادية، وما أشبه ذلك من العبارات المأخوذة من اللغات الأوربية بعد ترجمتها ترجمة فاسدة قولهم: الحياة السياسية والحياة الفكرية، والحياة الاقتصادية، والحياة الزوجية، فيكون للشخص الواحد أنواع من الحياة، والحياة في كلام العرب واحدة، وهي نقيض الموت، كما في لسان العرب والقاموس وغيرهما، وتستعمل في المجاز على النحو الذي ذكره الراغب في غريب القرآن حيث قال:
الحياة تستعمل على أوجه، الأول للقوة النامية الموجودة في النبات والحيوان، ومنه قيل: نبات حي، قال عز وجل ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ وقال تعالى:﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ﴾ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾.

الثاني: للقوة الحساسة، وبه سمي الحيوان حيواناً، قال عز وجل:﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ وقوله تعالى:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فقوله: إن الذي أحياها، إشارة إلى القوة النامية. وقوله: لمحيي الموتى، إشارة إلى القوة الحساسة.

الثالث للقوة العاملة العاقلة كقوله تعالى:﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ وقول الشاعر:
لقد ناديتَ لو أسمعتَ حياً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكن لا حياة لمن تنادي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والرابع عبارة عن ارتفاع الغم، وبهذا النظر قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنما الميت ميت الأحياء https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وعلى هذا قوله عز وجل:﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم ﴾ أي هم متلذذون لما روى في الأخبار الكثيرة في أرواح الشهداء.

والخامس: الحياة الأخروية الأبدية، وذلك يتوصل إليه بالحياة التي هي العقل والعلم قال الله تعالى:﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ وقوله ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ يعني بها الحياة الأخروية الدائمة.

والسادس: الحياة التي يوصف بها الباري، فإنه إذا قيل فيه تعالى: هو حي، فمعناه: لا يصح عليه الموت، وليس ذلك إلا لله عز وجل.

والحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا والحياة الآخرة قال عز وجل:«فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» وقال عز وجل:﴿ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ وقال تعالى:﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ أي الأعراض الدنيوية، وقال:﴿ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ وقوله تعالى:﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ أي حياة الدنيا.

وقوله عز وجل:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ كان يطلب أن يريه الحياة الأخروية المعراة عن شوائب الآفات الدنيوية. وقوله عز وجل:﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ أي يرتدع بالقصاص من يريد الإقدام على القتل، فيكون في ذلك حياة الناس. وقال عز وجل:﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ أي من نجاها من الهلاك. وعلى هذا يكون قوله مخبرا عن إبراهيم:﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ أي أعفو فيكون إحياء. اهـ

فالحياة في اللغة نقيض الموت قال تعالى في سورة الملك:(2) ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ قال البيضاوي: قدرهما، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدره، وقدم الموت لقوله:﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾. اهـ

وقال تعالى في سورة النجم (44) ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ ومقابلة الموت بالحياة في الكتاب العزيز، جاءت في مواضع كثيرة.

ومن الاستعمال الفاسد، قولهم: فلان اعتزل الحياة السياسية. يريدون بذلك، اعتزل السياسة، فيقحمون لفظ الحياة تقليداً للغات الأجنبية، وليس في إقحامه فائدة، ولكنه يخدش وجه البلاغة العربية ويمسخها. والحاصل أن الإنسان ليس له إلا حياة واحدة، متى زالت مات، فيجب على الأديب أن ينزه كلامه عن ذلك الاستعمال، ولا يستعمل لفظ الحياة إلا في الموضع المناسب له كما جاء في كتاب الله. وفي لسان العرب، سواء أراد الحقيقة أو المجاز.

قوله إيضاح لكلام الراغب:﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ﴾ قال البيضاوي: مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى، وأنقذه من الضلال، وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل. اهـ

أقول: شبه الله الضالين الذي لا يهتدون إلى الحق، ولا يتمسكون به بالأموات. وأهل الهدى والاستقامة بالأحياء فالمراد بالقوة العاملة العاقلة في كلام الراغب التي تعمل عملا صالحا، وتعقل الحق وتميزه من الباطل.

قوله (وقد ناديت) البيت: يروى بعده:
ولو نارا نفخت بها أضاءت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكن أنت تنفخ في رماد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


شبه الشاعر من يدعى إلى النجدة وعمل الخير والإحسان ولا يستجيب لذلك بالميت، فنفى عنه الحياة، وشبهه في البيت الثاني بالرماد الذي لم يبق فيه شيء من النار. وشبه من يدعوه إلى فعل الخير والإحسان بمن ينفخ في رماد، راجيا أن يوقد منه ناراً. ومثل ذلك قولهم: فلان يضرب في حديد بارد، قال الشاعر يهجو رجلا اسمه سعيد، ويصفه بالبخل:
هيهات تضرب في حديد بارد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن كنت تطمع في نوال سعيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والصواب أن يقال: الشؤون الاقتصادية، والشؤون السياسية، والشؤون المنزلية، والشؤون الزوجية، الخ. ويقال: اعتزل التمثيل بدلاً من قولهم: اعتزل الحياة التمثيلية، وهجر الرياضة البدنية، بدلا من قولهم: اعتزل الحياة الرياضية.

2- استعمالهم الإمكانيات بمعنى الطاقة والقدرة أو الإمكان:
وهذا اللفظ الدخيل ترجمة فاسدة للكلمة الأجنبية (Possibilities) ولا حاجة بهم إلى هذا التعبير المستعار الركيك، فإن فنون القول في لغة الضاد كثيرة طيبة لا ضيق فيها، فبدل أن يقول الشخص: ليس عندي إمكانيات للإقدام على هذا العمل، يسعه أن يقول: لا أستطيعه، لا طاقة لي به، لا يمكنني، لا سبيل إليه، إلى غير ذلك من الكلمات الطيبة العربية الخالصة الأصيلة، فإن هذا المعنى موجود منذ وجد العرب والعجم، وفي لغتهم عبارات تفي به على أحسن وجه، فما بالنا نترك جواهرنا مهملة، ونستعير أحجار الأجانب، فمتى نعيد للغتنا شبابها وأصالتها وخلوصها، إن بقينا نتكفف الأعجمين، ونعرض عن كنوزنا وتراثنا؟!

قال ابن منظور في اللسان: قال أبو منصور: ويقال: أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن، ولا يقال: أنا أمكنه، بمعنى أستطيعه، ويقال: لا يمكنك الصعود إلى هذا الجبل، ولا يقال أنت تمكن الصعود إليه.اهـ

أقول: ومن كتاب هذا الزمان من يقول: أمكن لي ولا يمكن لي، متوهما أن الفعل لازم فيعديه باللام، وهو خطأ.

3- أجاب على:
ومن الشائع في هذا الزمان قولهم: أجاب على سؤاله، ولا يمكنني الجواب عليه، والصواب تعدية الفعل (بعن) فيقال: أجاب عن سؤاله.

قال في اللسان: والإجابة رجع الكلام تقول: أجابه عن سؤاله. اهـ

وتجيء على بمعنى (عن) قال القحيف:
إذا رضيت علي بنو قشير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لعمر الله أعجبني رضاها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال ابن هشام في المغنى بعد إيراده هذا البيت شاهداً على مجيء (على) بمعنى «عن»: ويحتمل أن رضي ضمن معنى: عطف. وقال الكسائي: حمل على نقيضه وهو سخط.اهـ.

وقال العيني والصبان مثل ما قال ابن هشام في تضمين (رضي) معنى عطف، أي فلذلك عدي (بعلى). والشاعر يضطر إلى مثل ذلك، وأما الناثر فله مندوحة عن استعمال النادر وهؤلاء الكتاب الذين يستعملون (على) بعد «أجاب» جاهلون بالنحو، لا يعرفون أنه يتعدى بعن، وكيفما كان الأمر، فإن هذا الاستعمال ليس من الأخطاء الفاحشة في النثر، أما في الشعر، فهو جائز لا يعاب.

4- القيم الدينية والأخلاقية:
ومن المعلوم أن القيم هنا جمع قيمة، ولا معنى لاستعمالها هنا. قال ابن منظور في اللسان: والقيمة واحدة القيم والقيمة ثمن الشيء بالتقويم.اهـ

وإذا قلنا: القيم الدينية أو القيم الأخلاقية، يكون المعنى: الأثمان الدينية، والأثمان الأخلاقية، والدين والأخلاق لا تقويم فيهما ولا بيع ولا شراء، وهذا الاستعمال أيضا مأخوذ من اللغات الأجنبية، ولا ينبغي استعماله في العربية، ولا حاجة إليه، لأن استعمال الأخلاق ومكارم الأخلاق، والتمسك بالدين، وما أشبه ذلك، يغني عنه، وليس هذا من المخترعات حتى نبحث له عن اسم، أو نترجم اللفظ الأجنبي، ونستعمله!!

5- الأسرة:
ومن ذلك تعبيرهم عن أهل البيت الواحد (بالأسرة)، وهو من استعمال جهلة المترجمين، ترجموا به لفظ (Family) الإنكليزي وأخيه الفرنسي، وكانوا يترجمون هذا اللفظ من قبل (بعائلة) فعاب ذلك عليهم النقاد، لأن العائلة في اللغة العربية هي المرأة الفقيرة قال تعالى في سورة الضحى:«وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى» أي وجدك فقيراً فأغناك. وقال تعالى في سورة التوبة (28):﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي إن خفتم فقراً، فانتقلوا إلى ترجمته (بأسرة) وهو انتقال من خطأ إلى خطأ آخر، والعبارة الصحيحة هي: بيت، أو أهل بيت، قال تعالى في سورة هود (73) ﴿ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ وقال تعالى في سورة الأحزاب (33) ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ فأهل البيت في آية هود: إبراهيم وسارة زوجه ومن يكون معهما على سبيل التبعية ونحوها. والمراد بأهل البيت في آية الأحزاب النبي (ص) وأزواجه وأولاده والتابعون كالموالي.

وقال تعالى في سورة الذاريات (36) ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ والمراد بالبيت هنا لوط وأهل بيته إلا امرأته، فإن الله استثناها من الناجين وجعلها من الهالكين. أما معنى الأسرة فدونك ما قاله صاحب اللسان: وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون، لأنه يتقوى بهم. اهـ

وقال تعالى في سورة الإنسان (28) ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ﴾ قال البيضاوي: أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. اهـ

فالأسر هو إحكام الربط وقوته، ومن ذلك سميت عشيرة الرجل (أسرة) لأنه يتقوى بهم.

وقال الصبان في حاشيته على الأشموني عند قول ابن مالك في التنازع في العمل من ألفيته:
واختار عكسا غيرهم ذا أسرة

ما نصه: ضبطه الشيخ خالد بفتح الهمزة، وفسره الغزى: بالجماعة القوية، لكن في القاموس: الأسرة (بالضم): الدرع الحصينة، ومن الرجل الرهط الأدنون.اهـ

وقال ابن منظور في اللسان: وفي الحديث: زنى رجل في أسرة من الناس. الأسرة: عشيرة الرجل. وأهل بيته. اهـ

وقال في مجمع البحار: وفيه (أي في الحديث) زنى رجل في أسرة من الناس. الأسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته، لأنه يتقوى بهم. اهـ والمراد بأهل بيته هنا هو المراد بعشيرته الأقربين، لا زوجته وأولاده فقط.

أما قولهم: أسرة المدرسة، يعنون المدير والمدرسين فيها، وأسرة تحرير الصحيفة يعنون مؤسسها والمحررين فيها.

ورئيس التحرير، فله وجه، وهو مقصود ابن مالك بقوله المتقدم: واختار عكسا غيرهم ذا أسرة أي ذا جماعة قوية، شبه المتعاونون على أمر بالأقارب، فاستعير لهم لفظ الأسرة بجامع التعاون في كل.

6- النشاطات:
ومن ذلك استعمالهم النشاطات، يريدون بها الأعمال، وهو أيضا مأخوذ من جهلة المترجمين لكلمة (Energy) الإنكليزية، وقد أولع في استعماله عامة الكتاب حتى الذين لا يعرفون شيئا من اللغات الأجنبية. ومن سوء الحظ أن أكثر الخطباء والكتاب صاروا يأخذون لغتهم من الصحف والمجلات والإذاعة، لا من الدراسة، والقرآن وكلام العرب البلغاء، كما يجب أن يفعلوا وكما كان الناس يفعلون في زمان شباب اللغة العربية، فإلى الله المشتكى.

قال ابن منظور في اللسان: النشاط ضد الكسل، يكون ذلك في الإنسان والدابة. نشط نشاطا، فهو نشيط، ونشطه هو وأنشطه، الأخيرة عن يعقوب. الليث: نشط الإنسان ينشط نشاطا، فهو نشيط طيب النفس للعمل، والنعت ناشط، وتنشط لأمر كذا. وفي حديث عبادة: بايعت رسول الله (ص) على المنشط والمكره. المنشط مفعل من النشاط، وهو الأمر الذي تنشط له وتخف إليه وتؤثر فعله، وهو مصدر بمعنى النشاط. اهـ

فقد رأيت أن معنى النشاط ليس هو المعنى الذي يقصدونه، والنشاط مصدر لا يجمع، إذ لا حاجة إلى جمعه، فإنه يدل على القليل والكثير، كما قال تعالى في سورة الفرقان (14): ﴿ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾ فلم يقل الله تعالى: لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبورات كثيرة، لأن الثبور مصدر يدل على القليل والكثير، فإذا أردنا الكثرة وصفناه ولم نجمعه.

قال ابن منظور في اللسان: وفي حديث الدعاء: أعوذ بك من دعوة الثبور، هو الهلاك، وقد ثبر يثبر ثبوراً. وثبره الله أهلكه إهلاكا لا ينتعش. فمن ذلك يدعوا أهل النار: واثبوراه! فيقال لهم:«لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا» قال الفراء: الثبور مصدر، ولذلك قال ثبورا كثيرا، لان المصادر لا تجمع. ألا ترى أنك تقول: قعدت قعودا طويلا: وضربته ضربا كثيرا.اهـ

وكذلك يقال في النشاط مثلاً: هؤلاء العملة يعملون بنشاط كثير. فلا حاجة إلى جمع النشاط، ولو جمع لم يجمع على نشاطات، بل على نشط (بضمتين) كقَذَال وقٌذٌل.

7- وصف الجمع بالمفرد:
ومن ذلك وصفهم الجمع بالمفرد، فيقولون: رايات بيضاء، وإبل حمراء، والكتب الصفراء، والصواب: رايات بيض، وإبل حمر، وصحائف صفر.قال الله تعالى في سورة فاطر (27) ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ الجدد جمع جدة، بضم الجيم وفتح الدال، وهي الطريق في الجبل، والغربيب: شديد السواد، يقال: أسود غِربِيب (بكسر الغين والباء)، وأحمر قان، وأبيض ناصع، وأخضر حانىء، وأصفر فاقع.

وقال تعالى في سورة المرسلات (33) «كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ» ولم يقل صفراء. وقال ابن عقيل عند قول ابن مالك في الخلاصة:

(فعل لنحو أحمر وحمرا)

ما نصه: من أمثلة جمع الكثرة: فُعْل، وهو مطرد في وصف يكون المذكر منه على أفعل، والمؤنث منه على فعلاء نحو: أحمر، وحمر، وحمراء، وحُمْر.

وقال الخضري في حاشيته: قوله (فُعْل) لنحو الخ. أي بضم فسكون، لكن يجب كسر فائه في جمع ما عينه ياء، كبيض في أبيض وبيضاء.

8- الرضوخ:
ومن ذلك تعبيرهم عن الإذعان (بالرضوخ) يقولون: هدده فرضخ له، أي أذعن، وهو من الأخطاء الفاحشة، لأن معنى رضخ له، أعطاه عطاءً قليلاً.

قال ابن منظور في اللسان: ورضخ له من ماله يرضخ رضخاً: أعطاه. ويقال: رضخت له من مالي رضيخة وهو القليل والرضيخة والرضاخة: العطية. وقيل: الرضخ والرضيخة العطية المقاربة. وفي الحديث أمرت له برضخ وفي حديث عمر: أمرنا لهم برضخ. الرضخ:العطية القليلة. اهـ.

9- السابع والأخير:
هذه أيضا عبارة مأخوذة من اللغات الأجنبية تقليداً بلا علم ولا هدى، والصواب: السابع وهو الأخير، لأننا إذا قلنا: السابع والأخير دل ذلك على اثنين، لأن العطف يقتضي المغايرة.

10- لوحده وبمفرده:
ومن ذلك قولهم: ذهب لوحده، وقاتلهم بمفرده، وذلك من أفحش الخطأ وأقبحه، وأبعده عن لغة العرب الفصحاء، فالصواب أن يقال: ذهب وحده، وقاتلهم وحده، (بفتح الدال منصوب على الحال) قال ابن مالك في الألفية:
والحال إن عرف لفظا فاعتقد= تنكيره معنى كوحدك اجتهد

قال الأشموني: وَكَلَّمْتُهُ فاهُ إلى فيِ، وأرسلها العراك، وجاءوا الجماء الغفير، فوحدك وفاه، والعراك، والجماء أحوال، وهي معرفة لفظا، لكنها مؤولة بنكرة، والتقدير: اجتهد منفردا، وكلمته مشافهة، وأرسلها معتركة، وجاءوا جميعا. وإنما التزم تنكيره لئلا يتوهم كونه نعتا، لأن الغالب كونه مشتقا، وصاحبه معرفة. اهـ

قول الأشموني في تفسير (فاه إلى في) أي مشافهة، فيه نظر، لأن مشافهة مصدر، والأولى أن يقدر اسم فاعل، أي مشافهاً له.

وقوله (أرسلها معتركة) يعني أرسل الإبل معتركة، يزاحم بعضها بعضا. قال الصبان في حاشيته لو قال: معاركة كما قال ابن الخباز لكان أحسن، لأن اسم فاعل العراك معارك لا معترك. اهـ

أقول: وأحسن منهما جميعا أن يقال: معاركا بعضها بعضا، لأننا إذا قلنا: معاركة (بكسر الراء) نسبنا العراك إليها كلها، والعراك لا يقع إلا بين فريقين، ولا يقع من فريق واحد، وقال الصبان: في بيان قوله (الجماء الغفير) أي الجماعة الجماء من الجموم، وهو الكثرة، والغفير من الغفر، وهو الستر، أي ساترين لكثرتهم وجه الأرض. اهـ.

وهذا آخر هذه الحلقة وموعدنا الجزء التالي إن شاء الله.

المصدر: "مجلة دعوة الحق".



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:25 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (5)

د. محمد تقي الدين الهلالي





كلمة أقدمها بين يدي المقال:
لم أقدم على الكتابة في هذا الموضوع حتى أيقنت أن قراء اللغة العربية وكتابها والمتكلمين بها في أشد الحاجة إليه، وأنهم يتلقونه بغاية الترحيب كما يتلقى الظمآن العذب الفرات البارد، وقد صدق ظني في ذلك، فجاءتني رسائل عديدة من الأقطار البعيدة والقريبة تصدق ما ظننت.

ولما وصلت إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى مكة اجتمعت بوفود بيت الله من جميع أقطار العالم، وجدت قراء مقالاتي من العلماء والأساتذة والتلاميذ فوق ما كنت أقدر، ووجدت كثيرا منهم متلهفين إلى هذا الموضوع الجديد (تقويم اللسانين) فزادني ذلك نشاطا واغتباطا، وجعلت قول الحسود والقالي والمتعسف في الموضع اللائق به من الإهمال والإعراض، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.

1- استعمال (حيث) للتعليل:
يقال مثلاً: لم ينجح فلان في الامتحان حيث لم يكن مواظبا على حضور الدروس، والصحيح أن يقال: لأنه لم يكن مواظبا. الخ....

ومن ذلك (حيثيات الحكم المستعملة في المحاكم، إذا أراد الحاكم أن يصدر حكمه يعلله بقوله: وحيث أن المدعى عليه ثبتت براءته بشهادة الشهود، وحيث المدعي (بالكسر) لم يأت ببينة تشهد له ثم يستمر على هذا الشكل يعطف حيث على مثلها حتى يمل القارئ والسامع.

وصواب ذلك أن يقال: ولما ثبتت براءة المدعى عليه بشهادة العدول، ولم يأت المدعي (بالكسر) ببينة تثبت دعواه، ثم يعطف ما شاء بعد ذلك على هذا النمط، ثم يقول: حكمنا ببراءته بعد انتهاء تعليل الحكم.

وبيان ذلك أن (حيث) ظرف مكان يقال: اجلس حيث يليق بك أن تجلس، أي في الموضع الذي يليق بك أن تجلس فيه.

قال الراغب:(حيث) عبارة عن مكان مبهم يشرح بالجملة التي بعده نحو قوله تعالى ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ﴾ ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ اهـ

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (149) ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ ومن أي مكان خرجت للسفر ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ إذا صليت. اهـ

وقوله تعالى: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ أي في أي موضع كنتم من أرض الله الواسعة توجهوا بوجوهكم نحو البيت في صلاتكم.

وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الأعراف (182) ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ﴿ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ما نريد بهم، وذلك أن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب اهـ

أقول: يقول الله تعالى: سنقربهم من العذاب، ونأخذهم به من الجهة التي لا يتوقعونه منها بتكثير النعم عليهم، وتأخير العذاب عنهم حتى يزدادوا بطرا وطغيانا ويغتروا، ويظنوا أن الله ما أكثر عليهم تلك النعم إلا وهو راضٍ عنهم، كما قال تعالى في سورة المؤمنين (55-56) ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ

وقال تعالى في سورة سبأ (37) ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾.

يعني أن كثرة الأموال والأولاد عند المرء لا تدل على أنه من المقربين عند الله، لأن ذلك قد يكون استدراجا ومكرا، والذي يدل على رضوان الله هو الإيمان والعمل الصالح، فصاحبه هو الذي يضاعف الله أجر عمله، ويكون يوم القيامة منعما في الغرفات، آمنا من عذاب الله.

وتجيء (حيث) مجرورة بالباء فلا تخرج عن سنتها، وهي الدلالة على ظرف المكان، قال شاعر يحث بني العباس على الفتك ببني أمية بعد أن أظفرهم الله عليهم:
أنزلوها بحيث أنزلها الله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بدار الهوان والإفلاس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والضمير في أنزلوها، يعود على أمية بمعنى القبيلة، أي أنزلوا بني أمية بالمكان الذي أنزلهم الله به من الذل.

وتجيء أيضا مجرورة بإلى كذلك، كقول الأدباء: إذا سمعوا بهلاك إنسان يكرهونه: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، وذلك إشارة إلى قول زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
فشد ولم يفزع بيوتاً كثيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فحمل حضين بن ضمضم على خصمه، ولم يخف بيوتاً كثيرة، أي لم يتعرض لها في الموضع الذي ألقت فيه رحلها أي نزلت فيه أم قشعم، وهي المنية أي الموت، أي هجم على خصمه في الموضع الذي حان فيه هلاكه، فأرداه قتيلا. وهنا جرت (حيث) بإضافة لدى إليها، وهي مبنية على الضم في اللغة الفصحى، وبعض العرب يفتحونها، وبعضهم يكسرون ثاءها.

ولا تضاف إلا إلى جملة فعلية نحو قوله تعالى في سورة الأنعام (124) ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ وقوله تعالى في سورة الطلاق (2-3) ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ أي من الجهة التي لا يظن أن الرزق يأتيه منها.

أو إلى الجملة الاسمية نحو: أقم حيث المقام طيب، واظعن حيث الظعن سهل، وحيث في ذلك مضافة إلى الجملة الفعلية أو الاسمية، وقد يحذف خبر المبتدأ في الجملة الاسمية نحو: هذا المنزل طيب من حيث الكلأ، والبعد عن طريق القوافل. أما من حيث الماء فليس بجيد، وتقدير الخبر فيهما موجود.

وقد تضاف (حيث) إلى مفرد شذوذا كقول الشاعر:
أما ترى حيث سهيل طالعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نجم يضيء كالشهاب لامعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

(بجر سهيل).

قال العيني، وتبعه الصبان: ترى بصرية، وطالعا مفعولها، وحيث ظرف، ثم قال الصبان: وقيل: مفعولها حيث، وطالعا حال من سهيل اهـ

والقول الذي حكاه بصيغة التمريض هو الصواب الذي يستحق التصدير، أي أما ترى مكان سهيل حال كونه طالعا، وقد قلد الصبان العيني، وقلده كذلك الخضري في حاشيته على ابن عقيل، والعيني إمام محقق في علوم العربية، لا في علوم الدين، ولكنه غير معصوم، وخطؤه في هذه المسألة ظاهر.

وقيل سهيل مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف تقديره موجود، فلا شاهد فيه، على إضافة حيث إلى المفرد. وهناك شاهد آخر على إضافتها إلى المفرد لا أريد أن أطيل بذكره.

وجزم ابن هشام في (المغني) أن حيث قد تدل على الزمان، واحتج على ذلك بقول الشاعر:
حيثما تستقم يقدر لك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
الله نجاحا في غبر الأزمان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


أما أئمة اللغة جعلوا استعمالها للزمان خطأ، وخصصوها بالمكان. قال في القاموس:(حيث) كلمة دالة على المكان كحين في الزمان، ويثلث آخره: اهـ وقد تقدم ذلك مبسوطا.

2- قولهم علماني وعقلاني خطأ، والصواب علمي وعقلي:
وجُهَّال هذا العصر يطلقون العلماني على ما بني على العلم من العقائد والأفكار المضادة للدين، فيقولون: دولة علمانية، أي لا تنتسب إلى أي دين، بل تعتمد في شؤونها على العلم، وهي جديرة بأن تسمى جهلية، لأن الدين هو المبني على العلم اليقيني، ولسنا بصدد انتقاد هذا اللفظ من حيث المعنى، فإنه ساقط، وقد تبين في مقالات: دواء الشاكين وقامع المشككين أن السواد الأعظم من العقلاء الأحرار الذين يستطيعون أن يعبروا عما يعتقدون بلا خوف، يؤمنون بالله وبالدين.

أما الشعوب المغلوبة على أمرها فلا يحكم عليها بشيء حتى تعود لها حريتها في اعتقادها. وإنما ننتقد هذه العبارة ونبين براءة اللغة العربية منها. فالنسبة إلى العلم: علمي.

قال ابن هشام في كتابه (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) ما نصه: باب النسب. إذا أردت النسب إلى شيء فلا بد لك من عملين في آخره: أحدهما أن تزيد عليه ياء مشددة تصير حرف إعرابه، والثاني أن تكسره فتقول في النسب إلى دمشق: دمشقي.اهـ وهكذا فعلنا في النسب إلى العلم، فقد كسرنا آخر الكلمة ليناسب الياء، وزدناه ياء مشددة. فزيادة الألف والنون في قولهم: علماني لا وجه لها، وإنما جاءت من الجهل بقاعدة النسب ولا يمكنهم أن يقولوا: إن هذه نسبة على غير قياس، لأن ما جاء من ذلك يقتصر فيه على السماع ولا يقاس عليه. قال ابن مالك في آخر النسب من ألفيته:
وغير ما أسلفته مقررا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
على الذي ينقل منه اقتصرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك: يعني أن ما جاء من النسب مخالفا لما تقدم من الضوابط شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه، وبعضه أشذ من بعض. فمن ذلك قولهم في النسب إلى البصرة: بصري – بكسر الباء – وإلى الدهر: دهري – بضم الدال – وإلى مرو: مروزي، وإلى الري: رازي، وإلى خراسان: خَرسي وخُرسي، وإلى جلولاء وحروراء – موضعين جلولي وحروري، وإلى البحرين: بحراني، وإلى أمية: أُموي – بفتح الهمزة – وإلى السهل: سُهلي – بضم السين - وإلى بني الحبلي – وهم حي من الأنصار منهم عبدالله بن أبي سلول المنافق، وسمي أبوهم الحبلى لعظم بطنه – حُبَلي- بضم الحاء وفتح الباء – ومنه قولهم: رقباني، وشعراني، وجماني، ولحياني، للعظيم الرقبة والشعر والجمة واللحية.

وقولهم في النسب إلى الشام واليمن وتهامة: رجل شآم ويمان وتهام، وكلها مفتوحة الأول اهـ.

قال في لسان العرب: والربي والرباني: الحَبْر، ورب العلم وقيل الرباني الذي يعبد الرب، زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب. وقال سيبويه: زادوا ألفا ونونا في الرباني إذا أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دون غيره، كأن معناه: صاحب علم بالرب دون غيره من العلوم.

وهو كما يقال رجل شعراني ولحياني ورقباني، إذا خص بكثرة الشعر، وطول اللحية، وغلط الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري، وإلى الرقبة قالوا: رقبي، وإلى اللحية: لحيي.

والربي منسوب إلى الرب، والرباني: الموصوف بعلم الرب. ابن الأعرابي: الرباني العالم المعلم الذي يُغَذّي الناس بصغار العلم قبل كباره. وقال محمد بن علي بن الحنفية لما مات عبدالله بن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة.وروي عن علي أنه قال: الناس ثلاثة: علم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.

قال ابن الأثير: هو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة، قال: وقيل: هو من الرب، بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها. والرباني: العالم الراسخ في العلم والدين، أو الذي يطلب بعلمه وجه الله. وقيل: العالم: العامل المعلم. وقيل: الرباني: العالي الدرجة في العلم.

قال أبو عبيد: سمعت رجلا عالما بالكتب يقول: الربانيون: العلماء بالحلال والحرام، والأمر والنهي. قال: والأحبار: أهل المعرفة بأنباء الأمم، وبما كان ويكون. قال أبو عبيد: وأحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين، قال أبو عبيد، وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم اهـ.

أقول: لله در أبي عبيد وأبي عبيدة فقد أصابا شاكلة الصواب. قال كروسمن Crossmann في معجمه العبراني الإنكليزي في تفسير الرباني ما معناه: هو العالم المتقي، لكن كل ما جاء في القرآن فهو عربي، سواء أكان عربياً غير مشترك، أي خاصا باللغة العربية، أم كان لفظا مشتركا بين العربية وأخواتها الساميات، أم كان لفظاً غير عربي في الأصل، ولكن العرب تكلمت به فصار عربياً بالاستعمال ككلمتي جبريل وميكائيل، فكل مابين دفتي المصحف فهو عربي، إلا أن عامة العرب لا تعرف الألفاظ العلمية، وإنما يعرفها علماؤها كورقة ابن نوفل، وأمية بن أبي الصلت.

ومن ذلك تعلم أن قولهم: علماني هو أمر عدواني على اللغة العربية، وما أشبهه من السخافات كالعقلاني والشخصاني فهو مثله، فأين المجامع العلمية في بغداد ودمشق والقاهرة؟

لماذا لا تذب عن اللغة العربية، وتسعى في تطهيرها، وإخراج القذى من طرفها، وترويق شرابها، ليكون عذباً سائغاً للشاربين.

3- كم هو جميل وكم أنا مسرور وما أشبه ذلك:
وهذا من التراكيب الأعجمية الخالصة، فإن الذي تستعمله العرب في هذا المعنى هو: ما أجمله، وأجمل به، وهما صيغتا التعجب، ولا مكان لاستعمال (كم) هنا، سواء أكانت خبرية أم استفهامية. ويحسن هنا أن أتكلم باختصار في الاستعمال الصحيح (لكم)، وإنما أترك الإطناب، لأنه يستلزم ذكر اختلاف النحويين، وذلك يشوش على كثير من القراء، ويعسر عليهم الاستفادة. وأسهل العبارات في ذلك وأجملها عبارة أبي محمد القاسم بن علي الحريري رحمه الله في المُلحة: باب كم الخبرية:
واجرر بكم ما كنت عنه مخبرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
معظما لقدره مكثرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تقول كم مال أفادته يدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكم إماء ملكت وأعبد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال الحريري في الشرح: اعلم أن (كم) اسم موضوع للعدد المبهم جنسا ومقدارا، ولها موضعان: الاستفهام والخبر المقترن بالتكثير. ولما كان العدد نوعين: أحدهما مجرور، والآخر منصوب، شبه كل واحد من موضعيها بأحد من نوعي العدد، فنصبوا ما بعدها على التمييز في الاستفهام، على ما نبينه في شرح نوع التمييز، وجروا ما بعدها بالإضافة في الأخبار.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:26 AM

رد: تقويم اللسانين
 
ويجوز أن يقع الاسم الذي بعد (كم) الخبرية واحدا وجمعا، كقولك: كم عبد ملكت، وكم عبيد ملكت؟ كما أن العدد المجرور قد يكون واحدا في مثل قولك: مائة ثوب، ويكون جمعا في مثل قولك:ثلاثة أثواب، إلا أن من شرط جرها الاسم أن يكون الاسم يليها، فان فصل بينهما فاصل انتصب على التمييز كما ينتصب في الاستفهام، فتقول في الخبر: كم لي عبدا، كما تقول في الاستخبار: كم عبدا لك؟

وقال في المنصوبات: باب كم الاستفهامية:
وكم إذا جئت بها مستفهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فانصب وقل كم كوكبا تحوي السما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قد ذكرنا في شرح باب الإضافة أن كم الخبرية يجر ما بعدها، وكم الاستفهامية ينصب ما بعدها على التمييز، تشبيها لها بالعدد المنصوب على التمييز، ولهذا جاء مفسرها واحدا ولم يجئ جمعا، كما أن المنصوب بعد العدد الذي هو الذي أحد عشر إلى تسعة وتسعين لا يكون إلا واحدا، وكم الاستفهامية قد تقع موقع المبتدأ في مثل قولك: كم عبد لك؟ فكم مبتدأ، ولك الخبر، ونصبت عبدا على التمييز. وقد تقع موقع المفعول به في مثل قولك: كم رجلا رأيت؟، وتقع موقع الجار والمجرور تارة بحرف الجر في مثل قولك: بكم دراهم بعت، وتارة بالإضافة في مثل قولك: ابن كم سنة أنت؟ اهـ.

وقد راجعت الترجمة الإنكليزية لقوله تعالى في سورة البقرة (175) ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ وترجمه قوله تعالى في سورة مريم (38) ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ وترجمة قوله تعالى في سورة الكهف (26) ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾، وهذه صيغ تعجب، وهي من الله تعالى للتعجب، فوجدت المترجم ترجمها كلها بأدوات الاستفهام, إذ لا يوجد في الإنكليزية صيغه تعجب، ومن هنا جاء معظم البلاء فإن لغة المستعمر الغالب استعمرت اللغة العربية كما استعمرت أهلها، فغيرت تراكيبها، وشوهت محاسنها، وتركتها جسد بلا روح، فالمفردات عربية، والتراكيب أعجمية.

4- تعبيرهم بالتمني عن الدعاء وإرادة الخير:
لم يزل المسلمون، والعرب الجاهليون قبلهم يدعون الله بالخير لمن يحبون، ويدعون بالشر على من يبغضون إلى زمان الدولة العثمانية، فإن الكلمة التي كانت تكتب قبل التوقيع في آخر الرسالة (داعيكم) يعنون الداعي لكم، ولما جاء الاستعمار، وتغلبت لغاته ترجموا اللفظ الانجليزي I wish you بقولهم: أتمنى لكم، وهي ترجمة فاسدة، لأن الفعل الإنكليزي المذكور يعبر عن الإرادة والرغبة الشديدة.

أما التمني فهو طلب المستحيل أو ما فيه عسر، والأكثر استعماله في طلب المستحيل، قاله الأشموني قالوا:ولا يستعمل التمني فيما هو واجب الوقوع. فمثال المستحيل قول الشيخ:
ألا ليت الشباب يعود يوما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فأخبره بما فعل المشيب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقوله تعالى في سورة النساء (73) ﴿ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ وقول الشاعر:
ليت وهل ينفع شيئا ليت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ليت شبابا بوع فاشتريت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال الأشموني: وأما قوله تعالى ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ﴾ مع أنه واجب، فالمراد: تمنيه قبل وقته.اهـ يعني قبل الأجل المحدود، وهو مستحيل.

وقال تعالى في سورة البقرة (96) ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ يعني ولتجدنهم، أي اليهود – مع زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه – أحرص الناس على طول حياة، وأحرص من الذين أشركوا، وهم المجوس، فإن أحدهم يهنئ صاحبه بقوله:(هزار نوروز مهرجان) يعني تعيش ألف سنة، وتشهد ألف عيد واحتفال ولو هنا للتمني قاله البيضاوي، وهذا أيضا من المستحيل.

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة النساء (32) ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ من الأمور الدنيوية، كالجاه والمال، فلعل عدمه خير والمقتضى للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي، لعدم الرضا بما قسم الله له، وأنه تشبه لحصول لشيء له من غير طلب، وهو مذموم لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال اهـ.

وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث شداد ابن أوس أن النبي (ص) قال:«الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني». وقال الشاعر:
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكل امرئ والموت يلتقيان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقال الآخر:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإن حان يوما أن يموت أبوكما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقولا هو المرء الذي لا خليله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أضاع ولا خان الصديق ولا غدر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وكانت المرأة في الجاهلية تلزم الحداد والبكاء على الميت سنة كاملة.وهذا كله في استعمال التمني بمعنى طلب المستحيل وإما استعماله بمعنى طلب الأمر العسير فكقول الشاعر:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وشفت أنفسنا مما نجد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

واستبدت مرة واحدة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنما العاجز من لا يستبد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال في لسان العرب: التمني: حديث النفس بما يكون وما لا يكون، والتمني: السؤال للرب في الحوائج. وفي الحديث:(إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه)، وفي رواية، فليكثر قال ابن الأثير: التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. والمعنى إذا سأل الله حوائجه وفضله فليكثر، فان فضل الله كثير، وخزائنه واسعة اهـ ويجمع بين الحديث المشار إليه – على فرض ثبوته – وبين الحديث المتقدم، على أن التمني الذي في هذا الحديث هو سؤال الله، مع محاسبة النفس والعمل الصالح، فيرجع إلى الدعاء وهو المطلوب. فالصواب أن يقال مثلا:أرجو أن تكونوا بخير وعافية، وأرجو لكم سفرا سعيدا.


ويقال للمريض: أرجو لك شفاء عاجلا، أو أسأل الله لك.




ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:26 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (6)

د. محمد تقي الدين الهلالي


1- قولهم: تنبأ بكذا وكذا:
يريدون أنه علم بصدق الفراسة وقوة الحدس ما سيكون في المستقبل كما قال الشاعر:
الألمعي الذي يظن بك الظن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كان قد رأى وقد سمعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وفي الخبر: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله. رواه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبي سعيد. وبعضهم يقول: تكهن بكذا وكذا، وهذا شيء لا يمكن التكهن به، وسنرى معنى تنبأ الحقيقي.

قال في اللسان: قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة، بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية. ثم قال: ويقال: تنبى الكذاب إذا ادّعى النبوة، وتنبى كما تنبى مسيلمة الكذاب وغيره من الدجالين المتنبين. ثم قال: وتنبأ الرجل: ادعى النبوة اهـ.

وقال شاعر أندلسي في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي يخاطب أحد أمراء الأندلس حين رآه ينشد شعر المتنبي:
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بأنك تروى شعره لتألها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وقد عرفت أن معنى (تنبأ) ادعى النبوة، وهي الإنباء عن الله تعالى. وقصص المتنبئين مذكورة في العقد الفريد وغيره من كتب الأدب، والمتنبئون هم الذين ادعوا النبوة، واستعمال تنبأ بمعنى أخبر بشيء يقع في المستقبل استعمال استعماري، من استعباد اللغات الأوربية للغة العربية، فإن جهال المترجمين يترجمون الفعل الإنكليزيProphesy بقولهم: تنبأ، ويترجمون (prophecy) بالنبوة يريدون بذلك الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والصواب أن يقال: توقع وتفرس، وحدس أنه يقع كذا وكذا.

وقال في معجم أوكسفورد في معنى (بروفيساي prophecy) يتكلم كنبي، وقال في معنى (بروفيت prophet) هو الموحى إليه المخبر عن الله فظهر لك أن الأوربيين يستعملون تنبأ بمعنى يتكلم كما يتكلم النبي، والنبي كثيرا ما يخبر بالمغيبات، فهذا الاستعمال في لغتهم شائع. وقد توهم المترجمون أن كل ما ساغ في لغتهم يسوغ في لغتنا، خصوصا ولغتهم لغة القوي القاهر، ولغتنا لغة الضعيف المغلوب على أمره.

ومعنى (بروفيت) في اللغة الإنكليزية لا يختلف عن معناه في اللغة العربية، فهو الموحى إليه المخبر عن الله تعالى، وحق لغتنا علينا أن ننظفها من كل استعمال دخيل، محافظين على جمالها ونضارتها وبهجتها. ويقال في الكلام الفصيح: صدق حدسه، وتحقق ظنه، والمخطئون يقولون: صدقت نبوته.

2- ينبغي عليه:
ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الإذاعات والصحف قولهم: ينبغي عليه أن يفعل كذا وكذا، فيعدون ينبغي بعلى، وهذا دليل على إهمال اللغة، وطرح العناية بها جانباً وذلك شأن الأمم المخذولة المنحطة، السائرة إلى الاضمحلال. وقد رأينا أسلافنا كيف اعتنوا بلغة القرآن، وخدموها أحسن خدمة، فضبطوا مخارج حروفها وصفاتها، وتجويد النطق بها، وحققوا معاني كلماتها، وتركيب جملها، وجودة أسلوبها وبلاغتها، وتركوها لنا في غاية الكمال والجمال، فلم نكن خير خلف لخير سلف.

ومن المعلوم أن القرآن هو أول كتاب ينطق بلغة العرب الخالصة، ولا يستطيع أحد معرفة اللغة العربية، وفصاحتها وبلاغتها، وأسرارها إلا بدراسة القرآن، واتخاذه إماماً ومناراً يهتدى به في علومها، هذا بالنسبة إلى غير المسلمين الذين لا يهمهم من القرآن إلا ما فيه من فصاحة وبلاغة وأنه حجة في اللغة العربية، فكيف بالمسلمين الذين يجب عليهم – إن كانوا مسلمين حقاً – أن يتخذوا القرآن إماما وسراجاً منيراً، يتبعونه ويهتدون به في دينهم، يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويتخذونه حكماً، فيه شريعتهم، ومنهاج أخلاقهم، وهدايتهم، وشفاء صدورهم، وروح أرواحهم كما قال تعالى في سورة الكهف (1-3) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾.

قال ابن كثير: قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه، ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين.

ولهذا قال ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ أي لم يجعل فيه اعوجاجا، ولا زيغا ولا ميلا، بل جعله معتدلا مستقيما، ولهذا قال ﴿ قَيِّمًا ﴾ أي مستقيما ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾ أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذر بأساً شديداً، عقوبة عاجلة في الدنيا، وآجلة في الأخرى ﴿ مِنْ لَدُنْهُ ﴾ أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ أي مثوبة عند الله جميلة ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه أبدا، دائما، لا زوال له ولا انقضاء اهـ.

قوله (وهو الجنة) الذي أراه أن الأجر الحسن الذي يمكث فيه المؤمنون أبداً لا يختص بنعيم الجنة، بل ينتظم سعادة الدنيا والآخرة، لأن الله وعد بذلك في غير ما آية من كتابه العزيز لقوله تعالى في سورة النحل (97) ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. وحكمة الله تعالى وعدله يقتضيان ثواب الدارين لكل أمة صالحة، وعقاب الدارين لكل أمة فاسقة، وأدلة هذا في القرآن كثيرة.

فسبب ما يقاسيه المسلمون في هذا الزمان من الشقاء هو إهمال القرآن، وجعله وراء ظهورهم. والخطأ الذي نحن الآن بصدد إصلاحه لا يقع ويشيع إلا في أمة أهملت القرآن، لأن هذا الفعل تكرر استعماله في القرآن فجاء في ستة مواضع أحدها قوله تعالى في سورة الفرقان (17-18) ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ، وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴾.

معنى هاتين الآيتين أن الله تعالى يسأل المشركين يوم القيامة الذين كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، كعيسى وأمه، وسائر من عبد من الصالحين، فيقول لهم: أأنتم أمرتم هؤلاء أن يعبدوكم، فيتبرأون منهم منزهين الله تعالى عن الشريك قائلين: سبحانك، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء، أي لا يليق بنا أن نتخذ المشركين أولياء، أو نرضى بعملهم، ولكن متعتهم وآباءهم بالنعم، ولم تعجل لهم العذاب، فتركوا كتابك، واتبعوا أهواءهم، وكانوا في علمك هالكين، فحق عليهم العذاب.

ففعل (ينبغي) لا ينبغي أن يتعدى بعلى، وإنما ينبغي أن يتعدى باللام.

3- مع أنباء وآراء وما أشبهها من الصرف:
كل من يستمع إلى الإذاعات يعلم أن بعض المذيعين يمنعون صرف كل جمع من جموع التكسير جاء على أفعال، كأنباء وآراء، وأحزاب، والذي ورطهم في ذلك أنهم رأوا (أشياء) جمع شيء ممنوعة من الصرف فقاسوا عليها ما يشابهها في اللفظ لجهلهم.وقد اتفق النحاة على منع صرف (أشياء)، واختلفوا في تعليله اختلافاً كثيراً، لو ذكرته هنا لشوش على كثير من القراء، وأيْأَسَهُم في فهم المقصود، فأقتصر على ذكر القول الراجح، وهو قول الخليل وسيبويه.

قال صاحب اللسان: وأشياء: لفعاء عند الخليل وسيبويه اهـ وبيان ذلك أن لام الكلمة تقدمت على فائها وعينها فصارت (لفع) اتصلت بها ألف التأنيث الممدودة، فصارت (لفعاء) وهو وزن أشياء، باعتبار الهمزة الأولى آخر الكلمة في الأصل تقدم على أولها وثانيها، فلم يبق إلا المد والهمزة، وذلك ما يسمى بألف التأنيث الممدودة كما في أصدقاء وأغنياء وغيرهما من الجموع، وكما في خضراء وحمراء وصحراء وغيرهن من الأسماء المفردة.

والذي حملهم على هذا التأويل أنها جاءت ممنوعة من الصرف في القرآن، قال تعالى في سورة المائدة (101) ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.

وقال ابن حمدون على الأزهري: أشياء، جمع شيء، وأصله شياء فكرهوا اجتماع همزتين بينهما حاجز غير حصين وهو الألف فقدموا الهمزة الأولى – لام الكلمة على الفاء والعين، فصار أشياء، فهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة.اهـ.

أقول: علة منعه من الصرف غير معلومة يقينا، وتعليلات النحويين حدس وتخيل قلَّ ما يثبت أمام النقد، والمقصود بها ترسيخ القواعد في ذهن الطالب. أما أنباء وآراء وما أشبههما فلا معنى لمنعها من الصرف، وقد أصبح الإنشاء عند المتكلمين باللغة العربية لا يستفاد من المدرسة وقراءة كلام البلغاء، وحفظ أشعارهم، وإنما يؤخذ من الإذاعات والصحف، وذلك دليل على أن علم العرب اليوم بلغتهم ضحل، وذلك دليل على التخلف، وهم يرون الشعوب المتقدمة كبريطانيا وجرمانية وفرنسا تبذل الجهود والأموال في رفع مستوى لغاتها ونشرها في الدنيا كلها، فأين التقدم الذي يتبجح به بعضهم؟

4- التعبير عن افتتاح المدرسة ونحوها بالتدشين:
يقولون: دشن المدرسة، أو المصرف، يعنون افتتحهما باحتفال، وهذا الفعل لم أجده في شيء من معاجم اللغة التي عندي إلا في المنجد، ولا عبرة به، لأنه يخلط الدخيل بالأصيل، وفي القاموس دشن: أعطى، وتدشن أخذ، وداشان: بلد، والداشن معرب الدشن، يعنون به الثوب الجديد لم يلبس، والدار الجديدة لم تسكن اهـ.

وفي اللسان: داشن معرب من الدشن، وهو كلام عراقي، وليس من كلام أهل البادية، كأنهم يعنون به الثوب الجديد الذي لم يلبس، أو الدار الجديدة التي لم تسكن ولا استعملت اهـ.

وقول صاحب اللسان: كلام عراقي، وليس من كلام أهل البادية، يؤيده ما قرأته في معجم لعالم عراقي موصلي نسيت اسمه الآن، ضمنه الكلمات السريانية التي دخلت في اللغة العراقية، فذكر منها (دشن) الدار الجديدة، أي سكنها لأول مرة. ومن سوء الحظ أنه ليس عندي في هذا الوقت معجم سرياني، ولو كان عندي ما قدرت أن أستفيد منه لضعف بصري، وعدم وجود من يعرف اللغة السريانية هنا.

وكيفما كان الأمر فاستمال الفعل دشن وما يشاركه في الاشتقاق بمعنى افتتاح المعرض أو المدرسة ليس من كلام العرب ولا حاجة إليه والذوق السليم يكرهه.

5- جمع النية على نوايا:
ومما يحزن ويسوء كل من له غيرة على لغة القرآن أن أكثر الخطباء والكتاب يجمعون (النية) على «نوايا» وذلك دليل على إفلاسهم وجهلهم بقواعد اللغة العربية السهلة، لأن النية فعلة، بكسر فسكون، وعينها واو، بدليل: نوى ينوي، فأصلها (نوية) حكمت عليها القاعدة الصرفية الشهيرة بقلب الواو ياء وإدغامها في مثلها.والقاعدة هي قولهم: اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وقد شبه علماء الصرف هذين الحرفين عند اجتماعهما وسبق أحدهما بالسكون بالحجر والصحفة من الخزف، أو الصيني والحجر، فالصحفة هي الواو، والحجر هو الياء، فمتى وقعت الصحفة على الحجر، وهي الواو الساكنة انكسرت الصحفة، كما في تية، ومتى وقع الحجر على الصحفة، أي سبقت الياء الواو، وهي ساكنة انكسرت الصحفة، وهي الواو، فالانكسار خاص بالواو، سواء أتقدمت أم تأخرت.


ومثال تقدم الياء على الواو (سيد) فان أصله (سيود) بدليل الفعل: يسود، حكمت عليه القاعدة المذكورة بإبدال الواو وياء وإدغام الياء فيها. وفعلة بكسر فسكون، كحِكْمة، وقِرْبة، وهي السقاء، إنما تجمع جمع تصحيح على فعلات كما في الحديث المتفق عليه (إنما الأعمال بالنيات) وتجمع جمع تكسير على فِعَل – بكسر ففتح – كحكمة وحِكَم، وقِرْبة وقِرَب، وشيمة وشيم، وذلك كثير، ولا تجمع البتة على فعائل، لأنها لفظ ثلاثي، والذي يجمع على فعائل هي الكلمات الرباعية، كبرية وبرايا، وضحية وضحايا، وفضيلة وفضائل.

وقد جمعت النية على (ني) بكسر النون وتشديد الياء، كسدرة وسدر، وهو نادر، قال النابغة الجعدي:
أنك أنت المحزون في أثر الحي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإن تنوِ نِيّهم تقم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قال صاحب اللسان: قيل في تفسيره: ني جمع نية، وهذا نادر: قال ابن الأعرابي: قلت للمفضل: ما تقول في هذا البيت؟ قال: فيه معنيان: أحدهما يقول: قد نووا فراقك، فإن تنو كما نووا تقم فلا تطلبهم. والثاني قد نووا السفر، فإن تنو كما نووا تقم صدور الإبل في طلبهم انتهى.

أقول: والمعنى الأول هو الظاهر، وهذا البيت من بحر المنسرح.

6- هذا العمل له ما يبرره:
ومن أخطائهم قولهم: لهذا العمل ما يبرره، وكأنهم يريدون بالتبرير أن يجعل من البر وهو الإحسان. وقد بحثت فلم أجد في لسان العرب، وهو أكبر معجم عند العرب اليوم، برَّر على وزن فعَّل، كعلَّم وإنما وجدت برَّ وأبرَّ، وهذا من أخطاء المترجمين للفظ الإنكليزي Jastify والصواب أن يقال: لهذا العمل ما يسوغه، أي يجعله سائغا، فلا يعاقب فاعله ولا يلام.

7- قولهم: يعشق الصحافة ويعشق العلم:
قال في القاموس: العشق والمعشق كمقعد، عجب المحب بمحبوبه، أو إفراط الحب، ويكون في عفاف وفي دعارة، أو عمى الحس عن إدراك عيوبه، أو مرض وسواسي يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور اهـ.

قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس في أثناء انتقاده على بعض الصوفية استعمالهم لفظ العشق في حب الله تعالى قال: لا يعشق إلا ما ينكح. وكلام صاحب القاموس يؤيده، فإن قوله: يكون في عفاف وفي دعارة، يدل على أن العشق لا يستعمل استعمالا صحيحاً إلا في حب يتعلق بمن تمكن مباشرته، والشخص الذي تمكن مباشرته، وهو المعشوق، يكون ممتنع الوصول، فيزيد ذلك الامتناع في إذكاء نار العشق في قلب العاشق، فإن كان تقيا عفيفا صبر وامتنع عن طلب الوصال، إيثارا لما يبقى على ما يفنى، أو تجنباً للعار، وإن كان غير عفيف اندفع في طلب الوصال بدون مبالاة، وهذا هو الذي عبر عنه اللغويون بالدعارة. وكلتا الحالين لا تتفق إلا مع المعشوق الذي تمكن مباشرته.

أما الصحافة والعلم والمعرفة والرياضة وما أشبه ذلك، فالصواب أن يعبر فيها بالحب، وكذلك حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله والمؤمنين، لا ينبغي أن يعبر عنه بالعشق. ويدل على ذلك أيضا قول صاحب القاموس (أو مرض وسواسي يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور) فإن من أحب الله ورسوله والعلم وأهله لا يجلب لنفسه مرضاً وسواسياً أبداً، بل يزداد عقله قوة وصحة.

وكذلك القول بأن العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المعشوق، لا يتناسب إلا مع من تمكن مباشرته. ويروى حديث في العشق ذكره داود الأنطاكي في كتابه (تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق) ص6 هذا نصه:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عشق فعف، فمات دخل الجنة). زاد الخطيب عنه: فظفر، ثم أبدل قوله (دخل الجنة) بقوله «مات شهيدا»، وفي أخرى (فكتم). والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي، وأعله البيهقي والجرجاني والحاكم في التاريخ بضعف سويد وتفرده به. ورواه ابن الجوزي مرفوعا وأبو محمد بن الحسن موقوفا، وأخرج الخطيب عن عائشة رفعه أيضا.

وحاصل الأمر أما صحته أو حسنه، والجواب عن تفرد سويد المنع بوروده عن غيره، وحكايته تحديثا، وكونه قبل عماه، فلا تدليس اهـ.

والعجب من هذا الرجل الذي قضى عمره في علم الطب والفلسفة كيف تكلم على هذا الحديث كأنه من علماء الحديث، ولا غرابة في ذلك، فإن المسلمين في زمان عزهم وارتقائهم كانت لهم ثقافة جامعة عالية لا تشبهها أي ثقافة من ثقافات العصر الحاضر وإذا أردت تزداد أن علماً بذلك فعليك بمطالعة كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، فإنك ترى أولئك الأطباء الذين ترجم لهم متبحرين متفننين في علوم كثيرة، إذا رأيت اطلاعهم في كل علم منها تقول: إنهم لا يحسنون غيره، وهذه مزية خاصة بعلماء الإسلام.

أما المثقفون في هذا العصر، فأغلبهم لا يحسن من العلوم إلا ما اختص به، ومن عجائب ما رأيت في ذلك أني كنت أتحدث في مستشفى العيون التابع لجامعة بُون بألمانيا مع رئيس المستشفى، وهو أحد العلماء العشرة الذين يتألف منهم مجلس الجامعة الأعلى، وهو الدكتور البروفيسور (شميت schmit) وكان ذلك سنة 1954م فوجدته يعتقد وجود الدولة العثمانية واستمرار سلاطينها، مع أنه بلغ الغاية في علم الطب، حتى أنه يدعى من الولايات المتحدة ليسافر إلى هناك لإجراء الأعمال الجراحية وإلقاء المحاضرات، وقد بلغ جهله بالتاريخ إلى ما رأيت.

وهذا الحديث أيضا يدل على أن العشق لا يكون إلا لمن تمكن مباشرته. ثم راجعت الجامع الصغير فوجدته ذكر حديثين في هذا الباب، أحدهما عن عائشة، ونصه:(من عشق فعف، ثم مات، مات شهيدا). رواه الخطيب، وأشار إليه السيوطي بعلامة الضعف.

والثاني: عن ابن عباس:(من عشق فكتم وعف فمات، فهو شهيد). رواه الخطيب، وأشار إليه السيوطي بعلامة الضعف أيضا.

وإن صدق الأنطاكي في نقله صحة الحديث عن الإمام الحافظ علاء الدين مغلطاي، فإنه حجة في علم الحديث. ويؤيد ما ذكرناه أن حب الله، ذكر في القرآن، في مواضع عديدة، ولم يعبر عنه بالعشق. وحب الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الحديث.

أخرج البخاري من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

والأحاديث التي جاء فيها حب الله ورسوله، وحب المؤمنين بعضهم بعضا كثيرة، ولم يرد في شيء منها التعبير بالعشق.




ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:27 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (7)

د. محمد تقي الدين الهلالي


1- قال عنه:

من البدع المحدثات في الكلام العربي التي شاعت وذاعت في زمان الاستعمار، وكثرة ما يترجم من اللغات الأعجمية حين ضعفت الشعوب العربية، ولم يبق لها قول إلا ما تنقله من كلام المستعمرين المتغلبين قولهم (قال عنه) أنه كذا وكذا مدحاً أو ذما، وهذا خطأ، والصواب أن يقال (قال فيه). والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى أقتصر على قليل منها.




قال ابن منظور في مادة (ق ول) وفي حديث سعيد بن المسيب حين قيل له: ما تقول في عثمان وعلي؟ فقال: أقول فيهما ما قولني الله تعالى (59-10) ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾.



وفي حديث علي، عليه السلام: سمع امرأة تندب عمر فقال: أما والله ما قالته، ولكن قولته، أي لقنته وعُلِّمته وألقي على لسانها، يعني من جانب الإلهام، أي أنه حقيق بما قالت فيه اهـ.



الشاهد هنا في ثلاثة مواضع في قول سعيد بن المسيب: أولهما قوله (أقول فيهما ما قولني الله تعالى) والثاني في سؤال من سأله (ما تقول في عثمان وعلي؟) والثالث في خبر علي مع المرأة، وقد فسر صاحب اللسان بقوله (إنه حقيق بما قالت فيه) ومعنى حقيق هنا: جدير بما قالت فيه تلك المرأة من المدح والثناء.



ومراد سعيد بن المسيب بتلاوة الآية أنه يقول فيهما خيراً.

وبيان ذلك أن الله تعالى أثنى على المهاجرين في سورة الحشر بقوله (8) ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾. وأثنى على الأنصار بقوله (9) ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ وأثنى على التابعين لهم بإحسان بقوله (10) ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.



ذِكْرُ تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات باختصار:

قال ابن كثير: يقول تعالى مبينا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء إنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، أي خرجوا من ديارهم، وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي هؤلاء الذين صدَّقوا قولهم بفعلهم، وهم سادات المهاجرين. والفيء كل مال أخذه المسلمون من أعدائهم بدون قتال، كأموال بني النضير، وهي المعنية بهذه الآية.



ثم قال تعالى مادحا للأنصار، ومبينا لهم فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي سكنوا دار الهجرة من المهاجرين، وآمنوا قبل كثير منهم.



قال عمر (يعني في وصيته عند موته): وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. رواه البخاري.



ثم روى عن أحمد بسنده إلى أنس قال: قال المهاجرون: يارسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في الهناء (الهنأ ما أتاك من الرزق بلا مشقة) حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم اهـ.



ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما آخى بين المهاجرين والأنصار صار الأخ الأنصاري يقوم بالعمل كله في أرضه ويقاسم أخاه المهاجر الغلة والثمرة. فخاف المهاجرون أن كل ما عملوه من عمل مقبول عند الله يكون أجره لإخوانهم الأنصار الذين كفوهم مؤونة العمل، وأشركوهم في الغلة والثمرة، فأخبرهم النبي (ص) أن أجرهم ثابت لهم، إن كافؤوا إخوانهم الأنصار بالثناء والشكر ودعوا الله لهم. روى أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي (ص) قال: من لم يشكر الناس، لم يشكر الله.



وروى البخاري بسنده إلى يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي (ص) الأنصار أن يقطع لهم البحرين، قالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال أما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة اهـ.



قال في مجمع البحار: وفي الحديث ستلقون بعدي أثرة - بفتحتين - اسم من آثر يوثر إيثارا، أي أعطى، أراد أنه يستأثر عليكم، فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء. والاستئثار: الإنفراد بالشيء اهـ.



ثم قال ابن كثير: ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾ أي ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة. قال الحسن البصري ﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾ يعني الحسد مِمَّا أُوتُوا قال قتادة: يعني فيما أعطى إخوانهم، وكذا قال ابن زيد:

و مما يستدل به على هذا المعنى ما رواه أحمد بسنده إلى أنس قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته (أي تقطر) من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثله حاله الأولى. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي (أي خاصمته) فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار (أي استيقظ) تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله، قلت ياعبدالله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك، لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت، دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لم أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبدالله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق اهـ.



استفدنا من الآية والحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو عن الرجل الأنصاري، أن العمل القليل مع سلامة الصدر من الحسد والغل والغش خير من العمل الكثير الذي ليس معه تلك السلامة، ولكن عندنا هنا إشكالا في ادعاء عبدالله بن عمرو أنه خاصم أباه فغضب عليه، واتخذ ذلك وسلة إلى أن يكون ضيفا عند الأنصاري ليراقب عمله بالليل من صلاة، وقراءة قرآن ودعاء، فهل كان ذلك جائزا أن يتذرع المرء بالكذب البحت، ليتوصل إلى خير، وهو ما يسمونه في لغة أهل هذا الزمان المأخوذة من اللغات الأجنبية: الغاية تسوغ الواسطة.



والذي نفهمه من أدلة الكتاب والسنة أن الكذب في مثل هذا لا يجوز، فهي هفوة ارتكبها هذا الصحابي الناشئ، حرصاً منه على الخير، واكتشاف الأسرار، ليعرف ما يقوم به ذلك الأنصاري من العبادة بالليل، حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام متوالية.



ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: وَ﴿ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ يعنى حاجة، أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(أفضل الصدقة جهد المقل)، وهذا المقال أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:(س 8: 76) ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ وقوله:(2: 177) ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه.



ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله). وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم أمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.



وقال البخاري بسنده إلى أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيف هذا الليلة، رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فاطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة، وأنزل الله تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة.



وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي من سلم من الشح، فقد أفلح وأنجح. روى أحمد ومسلم بالسند إلى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم).



وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في سورة التوبة (100) ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ أي قائلين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا ﴾ أي بغضا وحسدا ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.



وما أحسن ما استنبط الإمام مالك، رحمه الله، من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.



وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى عائشة إنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ الآية.



وروى البَغَوي بسنده إلى عائشة أيضا قالت، أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم، سمعت نبيكم، صلى الله عليه وسلم، يقول:لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها اهـ.



قال محمد تقي الدين: وهذا ما قصده الإمامان سعيد بن المسيب ومالك، إذ فهما من الآيات الثلاث أن الله قسم المسلمين ثلاثة أقسام: المهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم إذا كانوا يحبونهم، ويستغفرون لهم ولا يسبونهم، فمن سبهم فلا حق له في الفيء، لأنه خارج عن الأصناف الثلاثة التي استوعبت المسلمين. فالمتبعون لهم بإحسان، كما في سورة التوبة لا يقولون فيهم إلا خيرا، ولا يتشيعون لبعضهم، ويسبون غيرهم ويبغضونهم.



قال الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) أبان بن جبلة الكوفي أبو عبدالرحمن، ضعّفه الدار قُطْنِي وغيره. قال البخاري: مُنْكَر الحديث. ونقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه.



ثم قال: اعلم أن كل من أقول فيه: مجهول، ولا أسنده إلى قائل، فإن ذلك قول أبى حاتم فيه. اهـ فقوله (أقول فيه مجهول) وقوله (فإن ذلك قول أبي حاتم فيه) مطابقان للاستعمال العربي السليم. والشواهد في هذا الكتاب وفي غيره من كتب الجرْح والتعديل، كتهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر، ولسان الميزان، له أكثر من أن تحصى، ولم يرد في شيء منها قال عنه أو قالوا عنه.



وإذا سأل سائل ماذا يقول النصارى في عيسى بن مريم يكون الجواب: يقولون فيه: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وأنه الأقنوم الثاني، تعالى الله عن ذلك: وقال البوصيري في الهمزية في وصف امرأة أبي لهب وعداوتها للنبي (ص):



يوم جاءت غضبى تقول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أفي مثل من أحمد يقال الهجاء https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







تعني أفي يقال الهجاء الصادر من أحمد صلى الله عليه وسلم تعني بالهجاء سورة:تبت يدا أبي لهب فقال (في مثلي، ولم يقل عن مثلي) والقول يعدى بـ(في) في المسائل كذلك يقال: ما تقول في مسألة كذا وكذا. وقال عبدالله بن مسعود في مسألة سئل عنها: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.

وقد أكثر من ذلك ابن برى في منظومته كقوله:



القول في التعوذ المختار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وحكمه في الجهر والإسرار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







كيف تستعمل قال عنه؟

فإن قلت: قد فهمنا من كلامك أن تعبير عامة الكتاب يقال عنه في موضع قال فيه خطأ، فأين تستعمل قال عنه؟ فالجواب: يستعملها المحدثون في الرواية، وقد أكثر من ذلك البخاري رحمه الله. فمن ذلك قوله في كتاب العلم من صحيحه: وقال شقيق عن عبدالله سمعت النبي (ص): وقال أبو العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو هريرة عن النبي (ص) اهـ.



فمعنى قال هنا: روى وحدث، فهذا هو الفرق بين قال فيه وقال عنه، يجب علينا أن نميز بينهما، وأن نستعمل كلاً منهما فيما يناسبه، والله الموفق.



2- الخلط والخبط في استعمال الغداء (بالمهلمة) واستعمال الغذاء (بالمعجمة):

إذا استمعت إلى الإذاعات، أو قرأت الصحف تجد أكثر المتكلمين والكتاب لا يميزون بين الغداء والغذاء، ودونك معناهما وضبطهما. فالغداء – بفتح الغين المعجمة ودال مهملة ممدودا، هو طعام الغدوة، وهي أول النهار قال الله تعالى في سورة الكهف في قصة موسى مع الخضر:(62) ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾.

قال البيضاوي: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ مجمع البحرين ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ ما نتغدى به ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ قيل لم ينصب حتى جاز الموعد، فلما جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقى عليه الجوع والنصب اهـ.



وقال الراغب في غريب القرآن:(غدا) الغدوة والغداة من أول النهار، والغداء طعام يتناول في ذلك الوقت اهـ.



وقال صاحب اللسان: والغداء: الطعام بعينه، وهو خلاف العشاء. ابن سيدة: الغداء طعام الغدوة، والجمع أغدية، عن ابن الأعرابي. أبو حنيفة: الغداء رعي الإبل في أول النهار، وقد تغدت وتغدى الرجل وغديته. ورجل غديان وامرأة غديا، على فعلى، وأصلها الواو، ولكنها قلبت استحسانا، لا عن قوة علة، وغديته فتغدى اهـ.



إذا فهمت هذا علمت أن تسمية الناس اليوم للطعام الذي يؤكل بعد الظهر غداء مخالف لاستعمال العرب، لأن العرب لم يكونوا يأكلون في وقت الظهر، وليس لغتهم اسم لطعام يؤكل وقت الظهر، ولم يكونوا يأكلون بالليل، ولذلك لا يوجد في لغتهم اسم لطعام يؤكل بالليل، وإنما كان عندهم غداء وعشاء، فالغداء تقدم بيانه، والعشاء طعام العشي.



قال صاحب القاموس: والعشي بالكسر، والعشاء كسماء طعام العشي، الجمع أعشية، وعشى وتعشى أكله، وهو عشيان ومتعش، وعشاه عشواً أطعمه إياه كعشاه وأعشاه اهـ.



وفيما سوى هذين الطعامين لا يتقيد الأكل بوقت معتاد متى جاع الإنسان أكل. ومن أمثال العرب: خير النهار بواكره، وخير العشاء سوافره، والبواكر هي ساعات الإبكار، الساعات الأولى من الصبح. والسوافر ساعات العشي التي لا يزال فيها ضوء النهار موجودا قبل أن يجيء الظلام ومرادهم بذلك التبكير للأشغال والأعمال، وتعجيل العشاء قبل أن يأتي الظلام.



ولا يزال كثير من العرب عاملين بذلك إلى يومنا هذا، فإني كنت أسكن بقرية الزبير بقرب البصرة، وسكانها من أهل نجد، وهم محافظون على العادات العربية، فكنت إذا خرجت إلى المسجد لصلاة المغرب، ووقفت في الصف أشم رائحة الدسم تنبعث عن يميني وشمالي، وذلك دليل على أنهم تعشوا قبل غروب الشمس، ولكنهم لم يحافظوا على الغداء في وقته الذي كانت عليه العرب، فإنهم يفطرون في الصبح بما تيسر، ويؤخرون الغداء إلى أن يصلوا الظهر.



ولما كنت ساكناً بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ألف وثلاثمائة وست وأربعين وسبع وأربعين رأيت سكان المدينة كلهم يتغدون في الضحى ويتعشون بين العصر والمغرب كما كان العرب الأولون يفعلون. أما في هذه السنة فقد أقمت في المدينة ستة عشر يوما ودعاني كثير من الإخوان إلى الطعام فرأيت تلك العادة قد تبدلت، وصار سكان المدينة يأخذون بعادة أهل المدن وهي ثلاث أكلات في النهار حين يصبحون وحين يظهرون، وحين يمسون.



وقد تجنبت ذكر الوجبة التي اعتاد الكتاب التعبير بها عن كل واحدة من الأكلات الثلاث المعتادة، لأنهم يستعملونها خطأ.



قال صاحب اللسان: الوجبة: الأكلة في اليوم والليلة قال ثعلب: الوجبة: أكلة في اليوم إلى مثلها من الغد اهـ.



والأوربيون أيضا يعملون بشطر المثل العربي، وهو خير العشاء سوافره، فإنهم يأكلون عادة أعشيتهم بين الساعة السادسة والسابعة، وتكون الشمس في الصيف لا تزال مرتفعة.



ويقول علماء الصحة: إن ذلك خير من تأخير الطعام إلى أن يكون قبيل النوم، فإن النوم على امتلاء المعدة تنشأ عنه أمراض، ولا يكون النوم معه هنيئا. أما إذا تعشى الإنسان مبكرا، فانه يتحرك بعد العشاء، فلا يأتي وقت النوم حتى يتم الهضم الأول للطعام.



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:28 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (8)

د. محمد تقي الدين الهلالي



1- من الأخطاء الشائعة في هذا الزمان قولهم يستهدف كذا أو يهدف إلى كذا يريدون أنه يقصده ويتخذه هدفاً ولم تستعمله العرب بهذا المعنى، قال صاحب اللسان: الأزهري روى شمر بإسناد له أن الزبير وعمرو بن العاص، اجتمعا في الحجر فقال الزبير: أما والله لقد كنت أهدفت لي يوم بدر، ولكني أستبقيتك لمثل هذا اليوم فقال عمرو: أنت والله لقد كنت أهدفت لي وما يسرني أن لي مثلك بضرتي منك، قال شمر: قوله أهدفت لي، الإهداف الدنو منك، والاستقبال لك والانتصاب يقال أهدف لي الشيء فهو مُهْدِف وأهدف لك السحاب والشيء إذا انتصب، ثم قال: وفي حديث أبي بكر قال له ابنه عبد الرحمن لقد أهدفت لي يوم بدر، فضفت عنك، فقال أبوبكر لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك، أي لو لجأت إلي، لم أعدل عنك، وكان عبد الرحمن وعمرو، يوم بدر، مع المشركين وضفت عنك أي عدلت انتهى.

ومن ذلك تعلم أن استعمال العرب للإهداف والاستهداف في واد واستعمال المعاصرين لهما في واد آخر، فالعرب تقول أهدف الشيء واستهدف بمعنى قرب وانتصب وصار أمامك كالهدف الذي تتمكن من رميه إذا كان قريباً ومنتصباً أمامك، أما استعمال المعاصرين فإنه يريدون به القصد إلى الشيء ومما يزيد ذلك وضوحا، قول العلماء من ألف فقد استهدف أي نصب نفسه هدفا للمنتقدين يَرْمُونه بسهام نقدهم، وكان قبل ذلك مستوراً، وقول أبي بكر رضي الله عنه لابنه عبد الرحمن: لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك أي لو تمكنت من قتلك ما أبقيت عليك، دليل على قوة إيمانه وتحقيقه لقوله تعالى في سورة التوبة الآية (24) ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ فهذه المحبوبات الثمانية، إذا لم يكن معها حب الله ورسوله تلقي صاحبها في الهلكة وإذا كان معها حب الله ورسوله، وقع التنازع بين الحبين، الصديقون والصالحون لا يبالون بهذه المحبوبات وهي المذكورة في الآية وهي: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن الطيبة، إذا تنافت مع حب الله ورسوله، فيقدمون حب الله ورسوله عليها، ولذلك قال الصديق لابنه عبدالرحمن (لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك) ولا شك أن الصديق كان يحب ابنه عبد الرحمن لأن حب الولد من طبيعة البشر وغير البشر، ولكن لما التقيا في الحرب: أبوبكر ينصر الله ورسوله، وابنه عبد الرحمن كان ينصر الشرك، ويوالي أعداء الله كان أبو بكر عازماً أن يقتله، لو عرض له، وتمكن من قتله، ترجيحا لحب الله تعالى، على حب غيره، وهذه المحبوبات الثمانية، هي عقبات في سبيل الإيمان الكامل الذي يفوز صاحبه برضوان الله تعالى، ويسعد السعادة الأبدية. وكم فتنت هذه المحبوبات من الناس إذا تغلب حبها عندهم على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، فخسروا، وضلوا ضلالا بعيدا.

2- ومن الأخطاء التي جاءتنا بها الترجمة الفاسدة وهي من استعمار اللغات الأجنبية لغتنا العربية قولهم، فلان يؤدي واجبه نحو الله وواجبه نحو وطنه وواجبه نحو أبنائه وما أشبه ذلك، والصواب أن يقال فلان يؤدي حقوق الله الواجبة عليه وحقوق المواطنين، وحقوق الأبناء. وهكذا يقال في الكلام الفصيح عندما يقول من أحسنت إليه، لك علي فضل، هذا من حقك عليّ، هذا واجب لك عليّ، والكلمة التي أوقعتهم ترجمتها في هذا الخطأ في اللغة الإنجليزية مثلا Toward وفي كل من اللغة الألمانية والفرنسية كلمة تؤدي معناها، وأساليب هذه اللغات ونثرها ونظمها متقارب في الغالب، كما أن نظم العربية وأخواتها كالعبرانية والسريانية متقارب. وسبب وقوع مثل هذه الأخطاء، أن المترجم يكون متمكنا من اللغة الأجنبية، ضعيفا في اللغة العربية، يترجم كلمة بكلمة والمترجم الكامل يقرأ الجملة من اللغة التي يترجمها، ويستوعب معناها في ذهنه، ثم يصوغ لها جملة فصيحة في اللغة التي يترجم بها حتى إذا قرأ القارئ العربي كتابا مترجما، لا يشعر أنه مترجم حتى يُخْبَرَ بذلك، كما نرى في ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة وترجمة البنداري للشاهنامة.

3- ومن الأخطاء الشائعة استعمالهم كلمة بالرغم أو على الرغم في غير موضعها فيقولون مثلا: حضر فلان الاحتفال بالرغم من كونه مريضا، أو بالرغم من كثرة أشغاله. والآن ندرس ما قاله الأئمة في استعمال الكلمة: قال صاحب اللسان: الرغم مثلثة الراء: الكره والمرغمة مثله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ مَرْغَمَةً للمشركين) المرغمة: الرغم أي: بعثت هوانا وذلا للمشركين. ثم قال ابن الأعرابي: الرغم: التراب، والرغم: الذل، والرغم: القسر. وفي الحديث: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُه أي، ذل. وفي حديث معقل بن يسار: رغم أنفي لأمر الله، أي: ذل وانقاد، وتقول فعلت ذلك على الرغم من أنفه انتهى، وهذا الاستعمال الصحيح لهذا اللفظ إذا فعلت شيئا وهناك من يكرهه تقول فعلت ذلك على رغم أنفه فإما أن يراد بذلك بقصد أن أذله، وعبر بالأنف لأن المستكبر يشمخ بأنفه، أي يرفعه عزا وتكبرا، انتهى.

فخفض الأنف وإلصاقه بالتراب، وإذلاله ضد شموخه وهو رفعه، فلذلك يعبر برغم الأنف عن الذلة والإهانة والقسر والإكراه وبشموخ الأنف عن الرفعة والتكبر. أما قوله: حضر الاحتفال برغم كثرة أشغاله. مثلا، فهو استعمال فاسد، مأخوذ من الترجمة الفاسدة لكلمة Onsefite وفي كل من الفرنسية والألمانية كلمة تشبه هذه الكلمة في المعنى، والاستعمال العربي الصحيح أن يقال فلان حضر الاحتفال مع كثرة أشغاله، أو مع كونه مريضا، وتستعمل على، في موضع مع، قال تعالى في سورة البقرة الآية (177) ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾. الآية، أي أعطى المال مع حبه له، ولا يقال بالرغم من حبه له، كما يقوله من يأخذ إنشاءه من الصحف والإذاعات، وقال تعالى في سورة الرعد الآية (6) ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾. وقد استشهد ابن هشام في المغنى بآية البقرة وآية الرعد على أن (عَلَى) فيهما للمصاحبة بمعنى مع، ولا يقال ولو في خارج القرآن وإن ربك لذو مغفرة للناس بالرغم من ظلمهم، وقد تبين معنى على، وبقي علينا أن نذكر تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾.

فقد يتوهم متوهم أن المعنى: أن الله يغفر للناس مع استمرارهم على الظلم، ظلم بعضهم لبعض، وذلك باطل، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، أي أنه تعالى ذو صفح وستر للناس مع أنهم يظلمون، ويخطئون بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ انتهى.

ومثل آية البقرة، قوله تعالى في سورة الإنسان، رقم (8) ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ أي مع حبهم له ولا يقال في خارج القرآن فلان يطعم الطعام المساكين بالرغم من حبه له أو بالرغم من قلة ما عنده منه.

4- ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الصحف والإذاعات وعلى ألسنة الناس قولهم القطاع الزراعي والقطاع الصناعي ويضيفون إلى ذلك خطأ آخر فيجمعونه على قطاعات والمصدر الأول لهذه الكلمات، هي إذاعة لندن، ومنها سمعت ما يلي: والملونون في بريطانية يشكلون قطاعا كبيرا من عمال النقل فالقطاع عندهم يطلق على جماعة من الناس، يجمعهم عمل واحد ولم تستعمل العرب القطاع بهذا المعنى البتة، وسنرى ما يقوله أئمة اللغة، فقد وجدنا القطاع بكسر القاف يجيء مفردا، ويجيء جمعا فأما المفرد فقال فيه ابن منظور: والقِطاع والقَطاع، أي بكسر القاف وفتحها صرام النخل مثل الصرام والصِّرام والصَّرام بكسر الصاد وفتحها انتهى. قال محمد تقي الدين: وهو مأخوذ من القطع لأن الصارم يقطع العثاكيل، وهي في النخل بمنزلة العناقيد في الكرم، وهو شجر العنب، وأما الجمع، فقال فيه إنه جمع قِطْع بكسر القاف وسكون الطاء وهو السهم وما تقطع من الشجر، وقطع الليل طائفة منه والبساط والطنفسة تكون تحت الراكب، وضرب من الثياب الموشاة وقطيع الغنم أيضا يجمع على قطاع إلى غير ذلك من المفردات التي تجمع على هذا المعنى والقطع والقطعة والقطيع والقطع والقطاع طائفة من الليل تكون من أوله إلى ثلثه. وقيل للفزاري: ما القطع من الليل، فقال حزمة تهورها أي قطعة تحزرها ولا ندري كم هي والقطع ظلمة آخر الليل، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ﴾ قال الأخفش بسواد من الليل، والصواب أن يقال بدل القطاع الزراعي، والقطاع الصناعي، القسم الزراعي والقسم الصناعي، وأن يقال بدل قولهم: الملونون في بريطانيا يشكلون قطاعا كبيرا من عمال النقل. والملونون في بريطانيا يؤلفون جماعة كبيرة من عمال النقل. والعرب تعبر بالجماعة والطائفة والفريق والجمع، ولا تعبر بالقطاع وكذلك تعبر بالأمة، قال تعالى في سورة الأحزاب رقم (13) ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ﴾ والطائفة هنا جماعة من المنافقين وقال تعالى في سورة الصف رقم (14) «﴿ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ﴾» وقال تعالى في سورة آل عمران رقم (113) ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ وقال تعالى في سورة الأعراف رقم (30) ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾.

5- ومن التراكيب الركيكة الفاسدة لفظا ومعنى، وهي استعمارية بلا ريب مأخوذة ترجمة حرفية من اللغات الأجنبية قولهم منحتهم السماء كذا وكذا فإسناد المنح إلى السماء فاسد عقلا ونقلا ولغة، أما عقلا فإن السماء لا تعطي ولا تمنع، وليست سببا في الإعطاء حتى يقال إن الإسناد إليها مجاز عقلي كما في قولهم أنبت الربيع البقل، وبنى الأمير المدينة، لأن السببية في هذين المثالين ظاهرة، أما قولهم منحتهم السماء فليس كذلك، والأوربيون ينسبون الأشياء إلى السماء في لغاتهم، ويدعونها ويستغيثون بها كما يفعلون مع الله تعالى، ومع المسيح وأمه، ومن العجائب التي تستنكرها عقول الموحدين وأذواقهم، أنهم إذا أصابهم فزع يهتفون قائلين: يا أم الله، ومقصودهم بذلك مريم الصديقة. فإذا قلنا لهم: إن الله لا أم له ولا أب، يشمئزون ويغضبون ولا يصلح أن يكون قولهم منحتهم مجازا عقلياً بالنسبة إلى المسلم لأن المسلم يعتقد أن السماء لا تمنح شيئاً وليست سبباً للمنح كما في بنى الأمير المدينة فإن السبب في بنائها هو الأمير لأنه أمر العملة ببنائها. والحقيقة العقلية هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له في اعتقاد المتكلم كقول المؤمن: أنبت الله البقل، وأنزل الله المطر. وكقول الكافر: أنبت الربيع البقل، وأنزلت السماء المطر. فقول النصارى في عيسى وأمه، إنهما يعطيان ويمنعان! كقول الكافر: شفى الطبيب المريض!، فهو إسناد حقيقي، لأن الكافر يعتقد أن الطبيب هو الفاعل الحقيقي، والنصارى يعتقدون عيسى وأمه إلهين. والمجاز العقلي كقول المؤمن أنبت الربيع البقل، وشفى الدواء المريض لأنه يعتقد أن الله هو الذي أنبت البقل، والربيع سبب، وأن الله هو الذي شفى المريض، والدواء سبب، ومن المجاز العقلي قول الشاعر - وهو أبو النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعى
من أن رأت رأسي كرأس الأصلع
على ذنبا كله لم أصنع

ميز عنه قنزعا عن قنزع
جذب الليالي أبطيء أو أسرعي


والدليل على أنه مجاز قوله بعد ذلك:
أفناه قيل الله للشمس اطلعي
حتى إذا واراك أفق فارجعي


هذا الشعر من مشطور الرجز وهو لأبي النجم العجلى وأم الخيار زوجته، وكانت تعيب عليه صلع رأسه لكبر سنه وكانت ابنة عمه بدليل قوله في موضع آخر من القصيدة:
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
يمشي كمشي الأهدأ المكتع
لا تسمعيني منك ما لم أسمع
ألم يكن يبيض لو لم يصلع


فهي تعيب عليه شيخوخته وما يلازمها من الإحناء والإكباب فإن الأهدا هو الذي يمشي منحنيا مكبا كأنه راكع، والمكتع المتقبض: يقول يا ابنة عمي لا تلوميني على كبر سني وضعفي وصلع رأسي فإنه لو لم يصلع وبقى فيه شعره لصار أبيض بالشيب، وأنت تكرهين رؤية الشيب، كما تكرهين الصلع. فالشاهد في قوله ميز عنه قنزعا عن قنزع، جذب الليالي أي فرق شعر الرأس حتى صار قنازع مجموعة شعيرات هنا، أخرى هناك، جذب الليالي: اختلافها ذهابا ومجيئا، يعني أن سبب الصلع كثرة الليالي التي مرت عليه، حتى طعن في السن فإسناد ميز إلى جذب الليالي من المجاز العقلي، لأن الشاعر لا يعتقد أن شيخوخته هي التي جعلته أصلع وإنما هي سبب الصلع، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه بدليل قوله فيما بعد: - أفناه قيل الله للشمس اطلعي يعني أفني شعر رأسه قول الله للشمس اطلعي كل يوم – وقوله حتى إذا واراك أفق فارجعي، دليل قطعي على أن العرب من قديم الزمان وإن لم يشتهروا بتعاطي العلوم بل كانوا أمة أمية أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، كانوا يعرفون أن الأرض كرة وأن الشمس حين تغيب عن قوم تكون مشرقة عند قوم آخرين لأنها لم تنعدم، وإنما سترها أفق، أي جانب من الأرض، وأن الله هو الذي أمرها بذلك، كما كانوا يعلمون أن المطر ينشأ سحابا من البحر حتى إذا علا السحاب في الجو وبرد، ساقته الرياح إلى الأرض التي يريد الله أن ينزل فيها المطر فينزل المطر، بقدرة الله يدلك على ذلك قول شاعرهم:
شربن بماء البحر ثم ترفعت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
متن لجج خضر لهن نئيج https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قال الخضري في حاشيته على شرح الألفية لابن عقيل ما نصه: قوله شرب الخ... ضمنه معنى روين فعداه بالباء أو هي بمعنى مِن التبعيضية، واللجج من لجة بالضم، وهي معظم الماء، ونئيج: بنون فهمزة فياء فجيم، كصهيل أي صوت عال، وجملة لهن نئيج: حال من نون شربن العائد للسحاب، لزعم العرب والحكماء أنها تدنو من البحر الملح في أماكن مخصوصة منها خراطيم عظيمة كخراطيم الإبل، فتشرب من مائه بصوت مزعج ثم تصعد في الجو فيلطف ذلك الماء ويعذب بإذن الله تعالى في زمن صعودها في الهواء ثم تمطره حيث شاء الله تعالى اهـ.

حكاية الخراطيم التي ذكر للسحاب وأنها تدنو من البحر في أماكن مخصوصة فتشرب بصوت عال تدل على أن الخضري لم يفهم قول الحكماء، والذي قاله الحكماء: هو أن ماء البحار يتبخر بحرارة الشمس فيصعد في الجو بخارا فإذا بلغ أعالي الجو برد ثم نزل مطرا كما تقدم، وقول الخضري يلطف ويعذب يريد أنه يصفى من الأملاح، فيصير ماء عذبا صالحاً للشرب ولسقي الأشجار والنباتات، وقد أخبرني بعض الإخوان في الكويت أن الماء الذي يصفى في معامل التصفية، يصير عذبا كماء المطر ولكنه لا يصلح لسقي الزرع والأشجار إلا إذا مزج بماء الآبار وهذا، إن صح، يدلنا على أن السر الكامن في تصفية الله تعالى والفرق بينها وبين تصفية الإنسان بالآلة والصنعة أما العذوبة أما العذوبة فهي كماء المطر ولا فرق وقد شربت الماء المصفى بالآلات في مطار الظهران بالمملكة العربية السعودية فوجدته كما ذكرت، ولله في خلقه شؤون.




ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:29 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (9)

د. محمد تقي الدين الهلالي



1- تأشيرة السفر – ومن الأخطاء الشائعة الفاضحة التعبير بالتأشيرة في جواز السفر بمعنى الإذن الذي تعطيه سفارة دولة من يريد السفر إلى بلادها، فهذا اللفظ بهذا المعنى لا أصل له في اللغة العربية، وسبب استعماله، أن بعض البلدان العربية يستعملون في لغتهم العامية أَشَّر، بفتح الهمزة وتشديد الشين مفتوحة، بمعنى أشار فيقولون يؤشر له بيده أي يشير له فاستعمل بعض جهلة الكتاب التأشيرة، بمعنى الإشارة، يريد بذلك سِمَة الدخول إلى بلاد دولة من الدول، وتبعه أمثاله في ذلك، وانتشرت هذه الكلمة عند العامة، واستعملتها الخاصة تبعاً بدون مبالاة والذين لا يعرفون اللغات الأجنبية منهم يظنون أنها مقتبسة منها وأنها شيء محتم لا بد منه، ولا غنى عنه، فيذعنون له كما يذعنون إلى غيره من الألفاظ الدخيلة والمولَّدة، وبذلك يخدش وجه اللغة العربية، وتزول محاسنها، ويقضى عليها، حتى إذا قابل العالم بها إنشاء أهل هذا الزمان بإنشاء أسلافهم يصيبه من الحيرة والدهشة مثل ما يصيبه إذا قابل هَمْعَهُم بهمعهم وأعمالهم بأعمالهم فينشد قول الشاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفِعالهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبقيت في خلف كجلد الأجرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وقول الآخر:
ذهب الرجال المقتدى بفِعالهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والمنكرون لكل أمر مُنْكَر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبقيت في خلَف يزكي بعضهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بعضاً ليسكت معور عن معور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والمعور الذي بفيه خلل.


والتأشير في كلام العرب غير مهمل ولكن له معنى، غير ذلك. قال صاحب اللسان تأشير الأسنان تحزيزها وتحديد أطرافها وقد أشرت المرأة أسنانها تأشرها أشراً وأشّرتها (بتشديد الشين) حززتها: ثم مضى، إلى أن قال والتأشيرة ما تعض به الجرادة، والتأشير شوك ساقيها اهـ. المراد منه والصواب أن يقال بدل التأشيرة (السِمَة) بكسر السين وفتح الميم مخففة.

وهذا اللفظ مستعمل فعلاً في العراق يقال فلان منح سمة الدخول إلى البلاد العراقية أو المرور بها، وهو استعمال صحيح.

2- سلام حار وشكر حار، هذا مما أخذه المستعمَرون بفتح الميم، مِنَ المستعمِرين بكسرها، والسلام عند لا يوصف بالحرارة بل بالكثرة والطيب والزكاة. فيقال أزكى السلام وأطيبه ويشبه السلام عند العرب بالنسيم الذي يهب على الروض فيحمل أطيب روائحه إلى المحبوب قال بعضهم:
سلام على الأحباب في القرب والبعد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سلام كما هب النسيم على الورد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لا يقال هذا اقتباس حسن، يقتبسه الكاتب العربي من الكاتب الأوربي، لأنا نقول إن الإنشاء العربي قد بلغ أوج الكمال فلا حاجة إلى أن يقتبس من الآداب الأوربية شيئا سبقهم إليه وعلمهم إياه المسلمون، وليس هذا من المخترعات، ولا من المكتشفات التي كانت مجهولة حتى يقتبسها العرب من مخترعيها ومكتشفيها.

3- الليلة الماضية أو ليلة أمس ومن الجهل باللغة العربية تعبيرهم بالليلة الماضية أو ليلة أمس، كما تعبر بها الإذاعات ويقتدي بها المتكلمون والكتاب، والصواب أن يقال البارحة. قال صاحب اللسان: والبارحة أقرب ليلة مضت، تقول لقيته البارحة ولقيته البارحة الأولى، وقال ثعلب تقول مذ غذوت إلى أن تزول الشمس رأيت الليلة في منامي فإذا زالت، قلت رأيت البارحة من أمثال العرب ما أشبه الليلة بالبارحة! أي ما أشبه الليلة التي نحن فيها بالليلة الأولى التي قد برحت وزالت ومضت، اهـ كلام صاحب اللسان، وقد ضمن بعضهم هذا المثل فقال في ذم أصدقائه:
كل خليل كنت خاللته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا ترك الله له واضحة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كلهم أروغ من ثعلب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما أشبه الليلة بالبارحة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول أن أصدقاءه يشبه بعضهم بعضا في الخيانة والغدر ويدعو عليهم بأن لا يترك الله لأحدهم واضحة أي سنا. أقول البارحة الأولى من الليلة التي قبل البارحة وهذه العبارة لا تزال مستعملة عندنا في سجلماسة (تفلالت) وقد غير لفظها إلى أن صار هكذا (البارحة الأولى).

4- أما عن كذا وكذا، وهذا من التعابير المأخوذة من لغات المستعمرين، ولا تزال طرية يعرفها كل من يعرف اللغات الأجنبية واستعمارها للعربية، وطغيانها عليها، ومسخها لجمالها والصواب أن يقال أما ويأتي بالكلمة المقصورة مرفوعة، إن كانت عارية عن العوامل التي توجب نسبها نحو:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فحلو وأما وجهه فجميل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


و(أما) إن كانت في متناول عامل ينصبها فيؤتى بها منصوبة كقوله تعالى:﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ وأما إن كانت الكلمة جارّا ومجرورا فيؤتى بها بعد أما نحو ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ وأما هؤلاء الكتاب المخطئون فإنهم جعلوا كل كلمة تأتي بعد مجرورة بِعَن، مثلا أما عن فلان فقد فعل كذا وكذا فيقحمون (عن) بدون معنى لموافقة جهلة المترجمين، ولو سألت أحدهم لماذا عبرت بهذه العبارة، لقال لك سمعت كتابا مترجمين، وخطباء ومذيعين يعبرون بها، فهل يجوز أن يكون هؤلاء كلهم مخطئين؟ ولو سألت أولئك الكتاب والخطباء لما كان جوابهم أضل من جواب مقلدهم. وهذا مضرب المثل (تمسك غريق بغريق) أي أعمى يقود أعمى. وما المانع أن يكونوا مخطئين فهل هم معصومون؟ فالمعصوم من الخطأ عند علماء هذا الشأن هو القرآن وما صح من كلام العرب الخلص إلى آخر عهد بني أمية قبل أن يفشو اللحن والخطأ، وتختل اللغة، ويرجع كذلك إلى قواعد اللغة ومن نظر في كتاب الله وكلام العرب، يتبين له لأول وهلة جهل هؤلاء المركب، فإنهم يجهلون ويجهلون أنهم جاهلون وما أكثر هذا الجهل المركب في البلدان المتأخرة التي اختلط حابلها بنابلها والتبس حقها بباطلها.

5- لم ترضخ للاستعمار:- من الأفعال الشائعة الاستعمال في الصحف والمجلات والخطب وكلام الناس والإذاعات استعمال رضخ له بمعنى خضع وهو استعمال مخترع مكذوب لا أصل له فإن الرضخ إذا تعدى بنفسه فمعناه الكسر وإذا تعدى باللام فمعناه العطاء القليل، يقال رضخ رأس الحية أي كسره ورضخ له من ماله أي أعطاه شيئا قليلا، ورضخت المرأة النوى بالمرضخة أي كسرته لتجعله خلصا للمواشي، ومن لا يزن كلامه بقسطاس مستقيم بل يأخذ إنشاءه من كلام كل من هب ودب فإنه يقع في أخطاء لا تعد ولا تحصى، ولا نتعجب من العامة إذا فعلوا ذلك وإنما نتعجب من الخاصة الذين يرجى منهم أن يسهروا على تحقيق اللغة وإصلاح الخطأ، فإذا بهم يرتكبون الأخطاء ولا يبالون وربما يغضبون إذا نبهوا ويتعصبون، وهذا مضرب المثل (بالملح يصلح ما فسد، فكيف إذا الملح فسد) فلسان حال اللغة العربية ينشدهم:
إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذن فالأعادي واحد والحبائب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


6- ومن استعمار بل استعباد اللغات الأوربية للغة القرآن تسميتهم الرجل العظيم شخصية، والرجال العظماء شخصيات (واللفظ الإنكليزي لهذه الكلمة الدخيلةpersonality للمفرد personalities للجمع، والسبب في ذلك أن جهلة المترجمين ترجموا اللفظين خطأ بذلك، فتبعتهم العامة، ثم استسلمت الخاصة للعامة، وتبعتهم بسبب الخلط والخبط والارتباك الواقع في الإنشاء العربي، بل في سائر شؤون العرب في الأزمنة المتأخرة التي اختل فيها النظام، وبقى الناس فوضى، وقد راجعت كتب اللغة على سبيل الاحتياط فلم أزدد إلا يقيناً بفساد هذا الاستعمال، والصواب أن يقال بدل الشخصية رجل عظيم أو نبيل أو سري والشخصية لفظ مؤنث ففيه طعن وذم لمن وصف به فكيف يكون تعظيما وفي لسان العرب ما نصه.

والشخيص العظيم الشخص والأنثى شخصية والاسم الشخاصة. قال ابن سيدة ولم أسمع له بفعل فأقول إن الشخاصة مصدر، أبو زيد رجل شخيص إذا كان سيدا، وقيل شخيص إذا كان ذا شخص وخلق عظيم بيِّن الشخاصة وشخُص الرجل بالضم فهو شخيص أي جسيم اهـ.
يتبع

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:30 AM

رد: تقويم اللسانين
 

قال محمد تقي الدين: يرحم الله ابن سيدة ما أشد حرصه على سلامة اللغة العربية، والمحافظة عليها من الاختلال، فحيا الله ذلك الزمان الذي كان فيه للغة العربية حماتها وأنصارها يذودون عن حماها ويصونونها من العابثين والجاهلين. فإنه رحمه الله، لم يستطع أن يقيس فيوجد لهذه الصفة فعلا لأنه لم يسمعه مرويا عن العرب مع أنه قياس وجيه فإن فعيلا يأتي في الغالب من فَعُل بالضم كعَظُم فهو عظيم، وجمل فهو جميل، وكرم فهو كريم. وقد ذكر بعد ذلك صاحب اللسان الفعل فإن لم يسمعه ابن سيدة فقد سمعه غيره وأثبته وتبين مما نقلته من كلام اللسان أنه يمكن أن يقال رجل شخيص بمعنى رجل نبيل فيكون بديلا عن اللفظ الأعجمي الأصل وهو الشخصية فيقال شخيص وشخصاء بدل شخصية وشخصيات وشخيص أجمل لفظا مع كونه مرويا وليس فيه تأنيث فيصح أن يكون ترجمة لذلك اللفظ الإنكليزي إذا احتيج إليه وأقبح من ذلك لفظ تحيرت في معناه الألباب، اخترعه شخص جاهل فنشرته مجلة دعوة الحق الغراء بدون تعليق مع أنه تكرر في مقالات هرف بها ذلك الشخص ولا نقول إنه شخيص وقد تعجب أحد كبار العلماء المصريين وهو صاحب الفضيلة الشيخ عبدالرحمن الوكيل من هذا اللفظ حين كتب إليه ذلك الشخص كتاباً خاصاً واستعمل فيه ذلك اللفظ المخترع المكذوب على اللغة العربية ألا هو (الشخصانية) ثم ولد لفظا آخر وهو (التشخصن) فصار ابنا للشخصانية ومثل هذا يزري بمجلة دعوة الحق وهي مجلة لها مقام سام في النوادي الأدبية في أنحاء العالم فعسى أن يتنبه سيادة رئيس التحرير لذلك وما نقلته من تعجب الأستاذ الوكيل وتحيره في ذلك اللفظ في (مجلة الهدى النبوي) التي كان يصدرها في القاهرة إلى أن توقفت بعد حرب يونيو 1967.

7- ومن التعابير التي شاعت في هذا الزمان قولهم ساعدته الظروف أو لم تساعده الظروف أو حالت الظروف بينه وبين ما يريد وهو كثير في كلام الخاصة والعامة وهو استعمال غير عربي، ولنبدأ بمعرفة معنى الظرف والظروف لننظر هل يصح إسناد الفعل إليها على سبيل المجاز العقلي كما يسند إلى الزمن والدهر والليل والنهار أو لا يصح؟ - أما إسناد الفعل إلى الدهر على سبيل المجاز العقلي شائع في كلام العرب فمن ذلك قول وزير عزله ملكه من الصباح إلى الزوال ثم رضي عنه ورده إلى مكانته من مخلع البسيط.


عاداني الدهر نصف يوم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فانكشف الناس لي وبانوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يا أيها المعرضون عني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عودوا فقد عاد لي الزمان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وذلك أنه حين عزل تنكر الناس له وتغيروا فقال لهم ارجعوا إلى ما كنتم عليه من التملق والتعظيم فإن الزمان الذي عاداني وأعرض عني فاقتديتم به قد عاد إلي وأقبل علي فعودوا أنتم أيضا فأسند العداوة إلى الدهر والعَوْدُ إلى الزمان على سبيل المجاز، والزمن لم يعاده في الحقيقة ولم يُقْبِل عليه:
ومثل ذلك قول آخر:
رأيت الدهر في خفض الأعالي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفي رفع الأسافلة اللئام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقيها صح في فتواه قول https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بتفضيل السجود على القيام https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والدهر لم يرفع أحدا ولم يخفضه بل الخافض الرافع هو الله تعالى وإنما ذلك مجاز أسند الفعل فيه إلى ملابسه، وهو زمانه الذي وقع فيه، فقوله عاداني الدهر أي عاداني الناس والسلطان في الدهر، وعاداني الزمان أي عاداني الحظ في الزمان، ومثل ذلك إسناد الفعل إلى الدنيا والعرب تفعل ذلك كثيرا قال ابن الوردي في لاميته:
اترك الدنيا فمن عادتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تخفض العالي وتعلي ومن سفل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقال غيره:
سألت عن الدنيا الدنية قيل لي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هي الدار فيها الدائرات تدور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا أقبلت ولت وإن أحسنت أمس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ت وإن عدلت يوما فسوف تجور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وإسناد الفعل إلى الدنيا كإسناده إلى الزمان لأن الدنيا في الأصل صفة الحياة، وبذلك جاء القرآن في غير موضع، والمراد بالدنيا: القربى فُعْلى: من الدنو وتقابلها الحياة الأخرى وإسناد الأفعال إلى الظروف يقصد به ما قصد بإسنادها إلى الزمان والدهر فالظاهر أنهم أخذوا ذلك من تعبير النحاة بظرف الزمان، فإن قيل فهمنا من كلامك أنك لا تنكر إسناد الفعل إلى الزمان على سبيل المجاز، وقد اعترفت بأن مراد المعبرين بالظروف الأزمنة والأوقات فلماذا حملت عليهم هذه الحملة الشديدة؟ فالجواب أن هناك فرقا كبيرا بين إسناد الفعل إلى الزمان وإسناده إلى الظرف مفردا أو مجموعا لأن تعبير النحاة اصطلاح وليس بحقيقة لغوية فإن العرب لم تسم الزمان ظرفا ولا الأوقات ظروفا قال صاحب اللسان: وظرف الشيء وعاؤه، ومنه ظروف الأزمنة والأمكنة الليث، الظرف وعاء كل شيء، حتى إن الإبريق ظرف لما فيه والصفات في الكلام التي تكون مواضع لغيرها تسمى ظروفا من نحو أمام وقدام وأشبه ذلك. تقول خلفك زيد إنما انتصب، لأنه ظرف لما فيه وهو موضع لغيره، وقال غيره: الخليل يسميها ظروفا، والكسائي يسميها الحال، والفراء يسميها الصفات والمعنى واحد، اهـ. فالظرف كما قلنا اصطلاح لبعض النحاة يشمل الزمان والمكان ولا يجوز أن يعبر في اللغة عن الزمان بالظرف فلا يقال أقمت في المدينة الفلانية ظرفا طويلا أو قصيراً وإنما يقال أقمت زمانا، أما قول الشاعر:
رأيت الدهر في خفض الأعالي

فإنه يشير إلى خلاف جار بين الفقهاء فيما هو أفضل أطول القيام في صلاة النوافل، أم كثرة السجود؟ أي السجدات، فقال قوم: كثرة السجود أفضل، واحتجوا بما رواه مسلم عن ربيعة ابن مالك الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود) وقال آخرون طول القيام أفضل من كثرة السجود، واستدلوا بحديث ورد في ذلك.

8- ثلاثينات أو الثلاثينيات:- ومن التقليد القردي ما يعبر به المذيعون في إذاعة لندن وغيرها إذا أرادوا أن يؤرخوا حادثة من الحوادث أنهم يقولون: وقع ذلك في الثلاثينات أو الثلاثينيات أو الأربعينات أو الأربعينيات من القرن التاسع عشر مثلا وهذه العبارة ترجمة لفظية للتعبير الإنكليزي وهي في غاية الفساد لأن القرن الواحد لا تتعدد فيه الأربعون ولا ثلاثون ولا خمسون، فلا حاجة إلى جمعها ولا معنى له.

9- بيانات وخلافات وقرارات وما أشبه ذلك: ومن الأخطاء التي شاعت وذاعت في الزمان جمع كثير من الأسماء المذكرة من مصادر وغيرها بالألف والتاء فيقولون في جمع البيان بيانات، وفي جمع قرار قرارات، وفي جمع خلاف خلافات، وفي جمع جواز السفر جوازات. وهذا من أبين الخطأ لأن المفردات التي تجمع هذا الجمع معروفة، ولا تجوز الزيادة عليها إلا ما سمع من العرب وقد جمعها بعضهم بقوله:
وقسه في ذي التا ونحو ذكرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ودرهم مصغرا وصحرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وزينب ووصف غير العاقل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وغير ذا مسلم للناقل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فالأول ذو التاء يعني تاء التأنيث كغرفة وغرفات وصلاة وصلوات وكاتبة وكاتبات وفاطمة وفاطمات ولو كان مذكرا كطلحة وطلحات، والثاني، ما كان آخر ألف التأنيث المقصورة نحو ذكرى وذكريات وبشرى وبشريات وحبلى وحبليات، والثالث الاسم إذا صغر وكان لمذكر مما لا يعقل، كدريهم ودريهمات وغزيل وغزيلات، والرابع: ألف التأنيث المدودة، كحمراء وحمراوات وصفراء وصفراوات، الخامس: كل اسم علم مؤنث وإن لم تكن فيه التاء كزينب وزينبات وهند وهندات، السادس: وصف غير العاقل كقوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ فإن معلومات جمع معلوم، ومعدودات جمع معدود، هذه ستة يقاس فيها الجمع بالألف والتاء، وقد سمع من العرب جمع الحمام على حمامات وجمع السرادق على سرادقات، قال صاحب اللسان: السرادق ما أحاط بالبناء والجمع سرادقات، قال سيبويه جمعوه بالتاء وإن كان مذكرا حين لم يكسر، وفي التنزيل:﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ في صفة النار أعاذنا الله منها، وسورة الكهف رقم (29).

وقال ابن كثير في تفسيره: قال ابن جريج: قال ابن عباس أحاط بهم سرادقها، قال حائط من نار اهـ. فإن قلت فكيف نجمع هذه الألفاظ أقول، أما القرار فيستغنى بجمع المقرر عن جمعه فيقال المقررات وهو داخل في القسم السادس مما تقدم، وأما البيان فيجمع على أبينة لأن فعالا يجمع على أفعلة، وأما الخلاف فهو مصدر لا حاجة إلى جمعه فإذا أردنا كثرته نقول خلاف كثير، أم جواز السفر فيجمع على أجوزة، وكل اسم يراد جمعه ينظر في قواعد جموع التكسير ويجرى عليها.




ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:31 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (10)

د. محمد تقي الدين الهلالي




1- فلان يريد مقابلة الرئيس:
من العبارات التي شاعت وذاعت في هذا الزمان وهي من الكلمات المولدة التي لم تستعملها العرب قولهم فلان يريد مقابلة الرئيس على صيغة المصدر. ويستعملونه أيضا فعلا: كقابلته وأقابله، أو أن الرئيس لا يقابل أحدا في هذا اليوم. وكل ذلك استعمال فاسد ولا حاجة إليه والصواب أن يقال فلان يريد لقاء الرئيس أو الاجتماع به وما أشبه ذلك قال صاحب اللسان واستقبل الشيء وقابله حاذاه بوجهه، وقال في موضع آخر ويقال فلان جلس قبالته، أي تجاهه ثم قال: ومقابلة الكتاب بالكتاب وقباله به معارضته، وتقابل القوم استقبل بعضهم بعضا، وقوله تعالى في وصف أهل الجنة: ﴿ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ جاء في التفسير إنه لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، ثم قال المقابلة المواجهة والتقابل: مثله.

قال محمد تقي الدين: - نفهم من كل ما تقدم أن المقابلة المواجهة بين إنسانين أو شيئين وغيرهما. والتقابل التواجه وهو أن يستقبل الواحد الآخر وجها إلى وجه سواء أكان قريبا أم بعيدا وهذا المعنى وإن كان يمكن تأويله باللقاء والاجتماع، فإنه لم تجر به عادة العرب الفصحاء في تخاطبهم، وإنما هي عامية مصرية أدخلها الكتاب المصريون فيما يكتبونه من الفصيح، فتبعهم غيرهم من الكتاب كما تقدم في النقد العاشر من هذه المجموعة من قول المصريين (نسيت أنا الآخر) أو (غاب هو الآخر) فهي عامية مصرية أيضا. والمصريون لهم فضل وتقدم في الأدب العربي وغيره من العلوم فلا ينبغي لأحد أن يستنكف من الاقتداء بهم في صوابهم ولكنهم، مع ذلك كغيرهم، غير معصومين من الخطأ فلا يجوز تقليدهم تقليد الأعمى بل يجب على الكاتب أن يكون بصيرا بما يكتب، وبما يتكلم به، ويقرأه ويجعل الحكم للدليل.

2- ويقولون مثلا في منتصف شوال أو مارس القادم يريدون الشهر الآتي والشهر لا يوصف بالقدوم إلا على سبيل التشبيه بالمسافر والتشبيه لا يحسن في كل موضع وقد صار ديدن الكتاب ألا يقولوا في الغالب إلا العام القادم وذلك تعبير يشين وجه اللغة العربية وأظنهم أخذوه من اللغة الإنكليزية لأنها لضيقها، ليس لها ألفاظ بإزاء كل معنى من المعاني فليس لها إلا لفظ واحد تستعمله لكل آت والقراء الذين يعرفون الإنكليزية يفهمون هذا حق الفهم، وليس عندي الآن من يكتبه بالإنكليزية إذا أمليته عليه فلذلك تركته واكتفيت بالإشارة (وكل لبيب بالإشارة يفهم) الدليل على ما قلته قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط ما نصه: وقدم من سفره: كعلم، قدوما وقدماناً بالكسر: آب فهو قادم، ومنه نعلم أن القدوم لا يستحسن استعماله للعام والسنة والشهر، بل يقال الشهر الآتي والسنة القابلة والعام القابل، ولو استغنيت بالوصف فقلت مثلا لم أستطع أن أزورك في هذا العام وسأزورك في القابل إن شاء الله، لجاز ذلك وكان فصيحا أما الشهر فيقال فيه الآتي وأما قوله سبحانه وتعالى في سورة هود رقم (98) حكاية عن فرعون ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ فهو من قدم (بفتح الدال) في الماضي وضمها في المضارع بمعنى يتقدمهم يسير أمامهم إلى جهنم حتى يوردهم النار أي يدخلهم إياها وشبهت النار بالمورد وهو الماء الذي يقصد للشرب، والاستقاء أي أخذ الماء والتزود منه فعبر الكتاب العزيز بأورد، وأما قدم المسافر فهر بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع، كما أشار إليه صاحب القاموس بقوله كعلِم.

3- ومن ذلك قولهم جلسة الأمس:
يعنون بذلك الجلسة التي وقعت في نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه. وهذا خطأ سببه الجهل باللغة وعدم التفريق بين معنى الأمس بالألف واللام وأمس بدونهما وبين اللفظين بَوْن بعيد تضل فيه القطى، فإنه إذا جاء بالألف واللام معناه الزمان الذي قبل زمانك دون تعيين يوم قريب أو بعيد وأما أمس بدون الألف واللام فمعناه نهار اليوم الذي قبل يومك. وأما الليلة التي قبل يومك فتسمى البارحة وأكثر الكتاب لا يميزون بين أمس والبارحة فيظنوهما سواء قال سليمان بن عمر الملقب بالجمل في حاشيته على تفسير الجلالين عند قوله تعالى رقم (24) من سورة يونس:﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾.

ما نصه: قوله بالأمس المراد به الزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، وأما أمس الذي هو اسم لنهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، ففيه لغتان للعرب: لغة الحجاز ولغة تميم، أما أهل الحجاز فهو مبني عندهم على الكسر في حال الرفع والنصب والجر تقول مضى أمسِ، بكسر السين، فهو فاعل مبني على الكسر في محل رفع. وتقول في النصب فعلت ذلك أمس، فأمس ظرف مبني على الكسر في محل نصب وتقول ما رأيته مذ أمس فمذ حرف جر، وأمس مبني على الكسر في محل جر، وفي كل هذه الأحوال تكسر السين من أمس بدون تنوين أما لغة تميم فإنهم يجرونه على إعراب ما لا ينصرف تقول على لغتهم مضى أمسُ بالرفع بدون تنوين، فأمسُ فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة في آخره وتقول في النصب فعلت ذلك أمسَ بدون تنوين فأمس ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره، وتقول في حال الجر ما رأيته مذ أمْسَ فمذ حرف جر وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف وعلى هذه قول الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يأكلن ما في رحلهن همسا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فقوله (مذ أمسَ) الألف زائدة لإطلاق القافية وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف، والسعالى جمع سعلاة، قال صاحب القاموس السِّعلاة والسعلاء بكسر السين فيهما الغول أو ساحرة الجن وتشبه المرأة العجوز عند إرادة ذمها بالسعلاة، قال الشاعر:
يا قبح الله بني السعلاة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
زيد بن عمرو من شرار النات https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قاله يهجو بني زيد بن عمرو، وشبه أمهم العجوز بالسعلاة وقوله في آخر البيت من شرار النات يعني من شرار الناس بإبدال السين تاء. وقال أبو حيان في تفسيره المسمى بالبحر المجلد الخامس ص 144 في تفسير الآية المتقدمة ما نصه وقوله كأن لم تغن بالأمس مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها وهو من غنى بكذا، أقام به. قال الزمخشري والأمس مثل في الوقت كأنه قيل كأن لم تغن آنفا اهـ - وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ولا هو مرادف لقوله آنفا لأن آنفا معناه الساعة. والمعنى كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان، انتهى كلام أبي حيان وهو واضح في أن الأمس تدل على الزمان الماضي قبل النطق بها من غير تعيين ليوم بعينه وقد خطأ أبو حيان الزمخشري في التعبير عن ذلك الوقت الماضي بقوله آنفا لأن معنى، آنفا: وقت قريب جدا من وقت النطق فلذلك عبروا عنه بالساعة أي في هذه الساعة. وهذا اللفظ بمعناه الذي أشار إليه أبو حيان موجود في سورة محمد رقم (16) قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ﴾ معناه: من المنافقين من يستمع إليك يا محمد، وأنت تحدث الناس، حتى إذا خرجوا من عندك قال المنافقون للمؤمنين الذين آتاهم الله العلم بكتابه وسنة رسوله، ماذا قال محمد آنفا أي في هذه الساعة حين كنا عنده، ولقد صدق أبو حيان في تخطئة الزمخشري فإن الأمس تدل على وقت من الزمان الماضي غير معين، وقال الإمام بن جرير الطبري في تفسيره الجزء الحادي عشر صفحة 72 ما نصه قوله أتاها أمرنا ليلا أو نهارا يقول جاء الأرض أمرنا: يعني قضاءنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا أو نهارا فجعلناها: يقول فجعلنا ما عليها حصيدا يعني مقطوعة مقلوعة من أصولها وإنما هي محصودة صرفت إلى حصيد كأن لم تغن بالأمس يقول كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس وأصله من غني (بكسر النون) فلان بمكان كذا، يغنى (بفتح النون) به إذا أقام به كما قال النابغة الذبياني:

غنيت بذلك إذ هم لي جيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
منها بعطف رسالة وتودد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يقول فكذلك يأتي الغناء على ما يتباهون به من دنياهم وزخارفها فيغنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها حتى صارت كأن لم تَغْنَ بالأمس كأن لم يكن قبل ذلك نبات على ظهرها انتهى كلام ابن جرير وعبارة البغوي والخازن موافقة لما نقلنا عن الإمام ابن جرير، ثم تأملت كلام النسفي في تفسيره فوجدته قد اقتدى بالزمخشري فأخذ كلامه بلفظه وقد رأيت ما رد به أبو حيان عليه، وقال صاحب المصباح في (أمس) اسم علَم على اليوم الذي قبل يومك ويستعمل فيما قبله مجازا وهو مبني على الكسر وبنو تميم تعربه إعراب مالا ينصرف فتقول ذهب أمس بما فيه بالرفع، قال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عجائزا مثل السعالى خمسا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



انتهى كلام المصباح - وقال ابن هشام في القطر، ص 20 وأما أمس إذا أردت به اليوم الذي قبل يومك فأهل الحجاز يبنونه على الكسر فيقولون مضى أمس واعتكفت أمس، وما رأيته مذ أمس بالكسر في الأحوال الثلاثة، قال الشاعر:
منع البقاء تقلب الشمس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وطلوعها حمراء صافية https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

اليوم أعلم ما يجيء به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وطلوعها من حيث لا تمسي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وغروبها صفراء كالورس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومضى بفصل قضائه أمس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




انتهى كلام ابن هشام، ثم ذكر بعد ما نقلت عنه ما تقدم في كلام المصباح أن بني تميم يعربونها إعراب مالا ينصرف إلا أنه ذكر تفصيلا في ذلك لم أر نقله فراجعوه إن شئتم، وقد يدخل الألف واللام على أمس الذي يراد به نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه لضرورة الشعر قال: زهير بن أبي سلمى في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكنني عن علم ما في غد عم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ومن استعمال الأمس بمعنى الزمان الماضي قول بعض المحدثين:




يعني الأحبة كانوا هناك فيما مضى من الزمان واليوم لا يوجدون. وخير ما يحتج به في هذا المقام قول الله تعالى المتقدم ذكره في سورة يونس: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ ولا يصح بوجه أن يراد به كأن لم تكن قبل يوم واحد كما رأيت نصوص الأئمة في ذلك إذا تقرر هذا فاعلم أن صاحب لسان العرب وصاحب القاموس ذكرا كلاما مفصلا في أحكام (أمس) اللفظية ولم يحققا معناه إذا كان بالألف واللام وإذا كان بدونها وإذا أريد بأمس يوم من الأيام الماضية فإنه يعرب وينون تقول لم يقع ذلك في أي أمس من الأموس أي لم يقع هذا الأمر في أي يوم من الأيام الماضية ومن ذلك تعلم أن أمس إذا كان نكرة يجمع على أموس في جمع الكثرة وأمُس، بضم الميم، كفلس وأفلس في جمع القلة ويظهر لي أن أداة التعريف تدخل على أمس النكرة ولا تدخل على أمس إذا كان معرفة إلا لضرورة الشعر كما تقدم مثاله.

4- ومن ذلك قولهم في الشيء الذي هو في غاية الكمال أو الجمال (ممتاز) وهو مأخوذ من اللغات الأجنبية لأن العرب لا تقول في الاستحسان والتفوق ممتاز بل تقول حسن، جميل جدا، فائق، بلغ الغاية في الكمال، ونحو ذلك. أما الممتاز فهو الذي يتميز عن غيره، قال تعالى في سورة يس رقم (59) ﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ جاء في تفسير الجلالين في هذه الآية ما نصه: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ سلامٌ مبتدأ (قولا) أي بالقول خبره ﴿ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ بهم، أي يقول لهم سلام عليكم (و) يقول ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ أي انفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم، اهـ.

قال محمد تقي الدين في إعراب قوله تعالى سلام ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ وجوه أحدها ما ذكره وأحسن منه أن يقال سلام مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة أمور منها العموم، وقولا مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره سلام. يقال لهم قولا، والجملة الفعلية في محل رفع، خبر المبتدأ، أما المعنى فهو أن الله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين السعداء: سلام عليكم، تكريما لهم وهم في دار كرامته ويقول للمجرمين الكافرين والمنافقين امتازوا اليوم أيها المجرمون انفردوا وتميزوا عن المؤمنين لتنالوا العذاب المهين، فالمجرمون ممتازون عن المؤمنين وليس ذلك من المدح في شي فقد يتميز الإنسان أو الشيء عن غيره بالحسن أو القبح أو السعادة أو الشقاء فإطلاق ممتاز للاستحسان من غزو اللغات الأوربية للغة القرآن نسأل الله أن يأخذ بيدها ويرد لها شبابها وجمالها، وقال صاحب القاموس وتميز القوم وامتازوا صاروا في ناحية، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي تميزوا وقيل انفردوا عن المؤمنين.

5- ومن الأخطاء الشائعة عند المذيعين والمعلمين إلا قليلا منهم كسر الجيم من جُدة وهي بضم الجيم مدينة معروفة على ساحل البحر الأحمر وهي فرضة مكة شرفها الله، قال صاحب القاموس والجُد بالضم ساحل البحر بمكة كالجدة، وجدة موضع بعينه منه، اهـ، نفهم منه أن الجُد بضم الجيم، والجدة بالضم أيضا اسم بساحل البحر بقرب مكة، وجدة موضع بعينه من ذلك الساحل.

قال محمد تقي الدين:- وهذه الكلمة من مثلثات اللغة العربية التي هي بحر زاخر بالألفاظ والمعاني والمراد بالكلمة المثلثة هي التي يتغير معناها بتغير حركة الحرف الأول منها فيكون لها إذا فتح الحرف الأول منها معنى وإذا ضم يكون لها معنى ثان وإذا كسر يكون لها معنى ثالث، فالجَدة، بفتح الجيم أم الأب وأم الأم والجُدّة بضم الجيم، ساحل البحر بقرب مكة، والجِدة بكسر الجيم، ضد البلى والقدم، وفي لغة القرآن من هذه المثلثات شي كثير خصه بالتأليف إمام النحو قطرب فنظم قصيدة ضمنها كثيرا من المثلثات منها قوله:


أفاد بذلك أن الغَمر بفتح الغين، هو الماء الكثير والغِمر بكسرها هو الحقد الكامن في الصدر والغُمر، بضم الغين هو الجاهل الذي لا يميز بين الحق والباطل، والحالي والعاطل وهكذا كل أبيات هذه القصيدة، ويوجد كتاب أوسع من ذلك وأشمل للمثلثات وهو مثلثات العرب لبعض المتأخرين واسمه حسن قويدر.

المصدر: "مجلة دعوة الحق"



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:32 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (11)

د. محمد تقي الدين الهلالي





1- ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الإذاعة وعلى ألسنة الناس استعمال التصليح في معنى الإصلاح، ولم نجد ذلك في كتب اللغة ولا في القرآن الكريم الذي هو أساس اللغة العربية، أما القرآن فقد قال تعالى في سورة النساء ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وقال تعالى في سورة الحجرات ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، وهو كثير في القرآن، وكله من أصلح، وأما كتب اللغة فقد قال صاحب القاموس (الصلاح) ضد الفساد كالصلوح، صلح، كمنح وكرم وهو صلح، بالكسر، وصالح، وصلح، وأصلح ضد أفسده، اهـ.

2- ومن العبارات المأخوذة من اللغات الأجنبية (الأوربية) التعبير عن علماء الدين برجال الدين وهو تعبير ظاهر الفساد لأن كل من كان له دين يدين به سواء أكان من العلماء بالدين أم لم يكن منهم فهو من رجال الدين، ورجال الدين عند النصارى هم أصحاب الرتب الدينية وهي متفاوتة عندهم كتفاوت رتب قواد الجيوش، فكما أن رتب قادة الجيش تبتدئ من ملازم وتنتهي في رتبة مشير فكذلك رتب رجال الدين عند طوائف النصارى، فعند الكاثوليكيين تبتدئ من أدنى قسيس يجوز له أن يؤم الناس في كنيسة وتنتهي في رتبة البابا، وعند البروتستانتيين الذي لا يؤمنون بالبابا لهم رتب معلومة عندهم، أما الإسلام فليس فيه رهبانية ولا رتب دينية، ولكن ينقسم المسلمون إلى علماء بالكتاب والسنة وعلومهما ترجع إليهم العامة في الاستفتاء والقضاء وإمامة الصلاة، وليس في الإسلام رتب دينية ولا بابوية ولا رهبانية، ولا مجمع يمنح الرتب الدينية ويسلبها فالصواب إذن التعبير بعلماء الدين، قال تعالى في سورة المجادلة: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] اهـ.

3- ومن الأخطاء الشائعة التي يأسف لها من كان عنده أدنى شيء من محبة اللغة العربية والغيرة عليها جمعهم المدير وهو الذي يدبر شؤون مصلحة من مصالح الدولة على مدراء توهما منهم أنه من باب فَعِيل بفتح الفاء وكسر العين، الذي يجمع على فُعَلاء بضم الفاء وفتح العين، كحكيم وحُكماء وكريم وكُرماء وبخيل وبُخلاء، وبينهما بون شاسع، لا يلتبس أحدهما بالآخر إلا على من ليس له من علم اللغة العربية أدنى نصيب، فإن المدير وزنه مفعل من أدار يدير الرباعي فالصواب جمعه جمع مذكر سالما على مديرين، كمقيم من أقام يجمع على مقيمين، قال الله تعالى في سورة الحج، وبعد قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35] قال ابن مالك في الألفية:
ولكريم وبخيل فعلا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وناب عنه أفعلاء في المعل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كذا لما ضاهاهما قد جعلا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لاما ومضعفا وغير ذلك قل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


قال ابن عقيل في شرح هذين البيتين، من أمثلة جمع الكثرة فعلاء هو مقيس في فعيل بمعنى فاعل صفة لمذكر عاقل غير مضاعف ولا معتل نحو ظريف وظرفاء وكريم وكرماء وبخيل وبخلاء وأشار بقوله كذا لما ضاهاهما إلى ما شابه فعيلا في كونه دالا على معنى وهو كالغريزة يجمع على فعلاء، نحو عاقل وعقلاء وصالح وصلحاء وشاعر وشعراء وينوب عن فعلاء في المضاعف والمعتل أفعلاء نحو شديد وأشداء وولي وأولياء وقد يجيء أفعلاء جمعا لغير ما ذكر نحو نصيب وأنصباء وهين وأهوناء، والقياس نصباء وهوناء.

توضيح لكلام ابن عقيل:
رب قائل يقول إن كلام ابن عقيل واضح لا يحتاج إلى توضيح، وتوضيح الواضحات من الفاضحات، فأقول على رسلك إني أحب أن يستفيد من هذه المقالات، القراء كلهم أو أكثرهم وأنا أعلم أن فيهم ضعفاء يصعب عليهم أن يفهموا كلام ابن عقيل فهما تاما ولذلك يدرس في الجامعات والمعاهد ولو كانت قراءته تكفى ما احتاج الطلبة إلى مدرسين يوضحونه لهم، فأقول في توضيحه فيه مسائل:
الأولى:- إن هذا الجمع وهو فعلاء وأخوه أفعلاء من جموع الكثرة وقد تقدم ذكر جموع القلة في هذا الباب من كلام ابن مالك وشرحه لابن عقيل وهي أربعة.

الثانية: قوله كل فعيل بمعنى فاعل احترز به من فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح وكحيل بمعنى مكحول وكسير بمعنى مكسور فقد تقدم ذكر جمعها فبخيل إذا وصف به شخص فهو فاعل البخل وهو المتصف به وكريم وهو فاعل الكرم المتصف به وهكذا يقال في ظريف وشريف وعظيم وما أشبه ذلك.

الثالث: احترز بقوله (صفة) من فعيل اسما كقضيب فلا يجمع على فعلاء واحترز بقوله (مذكر) من مؤنث كشريفة المؤنث فإنه يجمع على شرائف وشريفات، واحتزر بقوله، عاقل من فعيل صفة لغير العاقل كمكان فسيح أي متسع فلا يجمع على فعلاء بل يجمع على فسح، بضمتين، واحتزر بقوله، بمعنى فاعل من فعيل بمعنى مفعول كقتيل، وقد تقدمت الإشارة إليه.واحتزر بقوله غير مضاعف من المضاعف كشديد وخليل فإنهما يجمعان على أفعلاء كما سيأتي قريبا، واحتزر بقوله غير معتل اللام من معتل الآخر كولي وصفي فإنهما يجمعان على أفعلاء.

الرابعة: إن ما شابه فعيلا المذكور في معناه وإن خالفه في لفظه يجمع كذلك على فعلاء إذا كان دالا على معنى هو كالغريزة أي لازم لمن اتصف به لا ينفك عنه كعاقل وعقلاء وصالح وصلحاء وما أشبه ذلك فعاقل وصالح يشبهان بخيلا وكريما في المعنى لأنهما يدلان على صفة لازمة للموصوف بخلاف آكل وضارب فإنهما صفتان لا تلازمان الموصوف وإنما يتصف بهما في بعض الأحيان.

الخامسة: إذا كان فعيل مضاعفا، أعني أن عينه ولامه حرف واحد متكرر كشديد وجليل فإنه ينوب عن فعلاء أخوه أفعلاء فتقول أخلاء وأشداء وأجلاء، وكذلك إذا كان معتل اللام كولي وغني وسخي فإنه يجمع على أفعلاء كأولياء وأغنياء وأسخياء.

السادس: جاء جمع فعيل على أفعلاء لغير ما ذكر بقلة فيما لم توجد فيه الشروط المتقدمة كنصيب وأنصباء فإن نصيباً اسم وليس بصفة وهين وأهوناء فإنه ليس فعيلا وهو صفة ليست خاصة بالعقلاء.

4- ومن المصائب التي جاء بها الاستعمار الأجنبي (العملية) استعملوها أولا في الجراحات الطبية فأخذوا يقولون فلان أدخل المستشفى فأجريت له عملية جراحية ثم توسعوا فيها فصاروا يعبرون بها عن كثير من الأعمال فيقولون عملية التفتيش وعملية إنزال البضائع من الباخرة فيقحمونها قبل مصدر يدل على المعنى المطلوب فتكون عبثا وتكثيرا للكلام بلا فائدة وهذا الاستعمال مأخوذ من اللغات الأجنبية ترجم بها جهال المترجمين الكلمة الفرنسية operation وبالإنكليزية آبريشن، ولم تستعملها العرب ولا من جاء بعدهم من الكتاب والشعراء والمؤلفين واستعمالها يخدش وجه اللغة العربية ويشينها فينبغي للأديب الذي يحافظ على جمال لغة القرآن وفصاحتها ألا يستعملها في إنشائه فإن كان ولا بد فليقل علاج جراحي أو عمل جراحي، أما عملية التفتيش أو عملية إنزال البضائع من الباخرة ففي مثل ذلك يحذفها ويعبر بالتفتيش أو إنزال البضائع بدون ذكر العملية وبالله التوفيق.

5- ومن الكلمات الدخيلة التي جاء بها هذا العصر التبسيط يقال شرح الكتاب شرحا بسيطا ويقال يجب تبسيط كتب النحو يريدون بذلك التسهيل. أخذ ذلك من لفظ بسيط وقد تقدم انتقاد استعماله في نقد استعمال البساطة للتعبير عن السهولة في النقد الثاني عشر من تقويم اللسانين وهذا أيضا مما أخذ من اللغات الأجنبية بلا علم ولا هدى قال صاحب القاموس المحيط بسطه، نشره كبسطه بالتشديد اهـ فالبسط والتبسيط معناهما التوسيع والنشر قال الله تعالى في سورة الشورى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، وقال تعالى في سورة القصص في قصة قارون لما رآه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها حين خرج عليهم بزينته وأمواله: ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79].

فرد عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بقولهم: ﴿ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [القصص: 80] مما أوتي قارون من بهجة الحياة الدنيا وزينتها فلما رأوا ما حل به من الهلاك حين خسف الله به وبداره الأرض ندموا على ما فرط منهم كما حكى الله عنهم بقوله ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82]قوله سبحانه يبسط الرزق لمن: أي يوسعه لمن يشاء من عباده، ويقدر أي يضيقه على من يشاء من عباده، وقولهم شيء بسيط هو ترجمة للكلمة الأجنبية simple يراد به شيء سهل غير مركب غير معقد وأخذوا منه بجهلهم بسّطه بتشديد السين جعله بسيطا أي سهلا غير معقد أو قليلا أو حقيرا، وكل ذلك ضلال مبين.

6- ومن الأمثال العربية قولهم ليس الخبر كالعِيان بكسر العين ومعناه لا يستوي ما سمعته وأخبرت به وما رأيته بعينك وقد نظم هذا المعنى شاعر، فقال:
يا ابن الكرام لا تدنو فتبصر ما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فالعيان، بكسر العين، هو المعاينة والمشاهدة أي الرؤية بالعين وكثير من المتكلمين بالعربية يفتح العين في العيان فتعمى الكلمة أي تفسد فإبصارها في كسرها وعماها في فتحها ومن كان عنده علم بقواعد العربية يدرك ذلك لأن العيان بكسر العين مصدر عاين ومثله المعاينة كقاتل قتالا ومقاتلة وجادل جدالا ومجادلة وحاسبه حساباً ومحاسبة، قال ابن مالك في الألفية:

لفاعل الفعال والمفاعلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وغير ما جر السماع عادله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


7- ومن الأخطاء الشائعة بين المذيعين والقراء قولهم كسب فلان المعركة والسباق، بكسر سين كسِب، والصواب فتحها في الماضي وكسرها في المضارع قال تعالى في سورة البقرة:«لَهَا مَا كَسَبَتْ» بفتح السن، وقال تعالى في سورة النساء: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِه ﴾ [النساء: 111] فقوله سبحانه وتعالى لها ما كسبت أي لكل نفس جزاء ما عملت من خير، وعليها عقاب ما اكتسبت من شر، وقال صاحب القاموس كسَبه بفتح السين يكسِبه بكسرها كسباً وتكسب واكتسب طلب الرزق أو كسب أصاب واكتسب تصرف وبإنعام النظر في ما نقلته هنا يظهر لك خطأ آخر وهو استعمال لهم كسب بمعنى ربح كأنه يقابل خسر فيقولون ليس في هذه الصفقة كسب بل فيها خسارة وقد عرفت فساد ذلك.

8- ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من المذيعين والقراء كسر الذال من كذب وهذا الفعل لفظه مشهور جدا مذكور في القرآن وهو بفتح الذال من الباب الثاني من الفعل الثلاثي كضرب يضرب بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ومن ضعف اللغة العربية في هذا الزمن أن أكثر المدرسين والطلبة المتخرجين في الجامعات لا يعرفون الأبواب الستة التي أولها فعَل يفعُل بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع وثانيها فعَل يفعِل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع كضَرب يضرِب وكسب يكسب، وثالثها فعَل يفعَل بفتح العين في الماضي والمضارع كنصح ينصح وقطع يقطع وهذا الباب لا بد أن يكون عينه أي الحرف الثاني منه أو لامه الحرف الثالث منه حرف حلق، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا فعل واحد وهو أبَى يأبى فإن عينيه وهي الباء مفتوحة في الماضي والمضارع مع أن عينه ولامه ليستا من حروف الحلق، فهذا الباب محصور في كون عينه أو لامه حرف حلق إلا ما استثنى. غير أن الأفعال التي عينها أو لامها من أحرف الحلق لا تنحصر في هذا الباب بل تكون فيه وفي غيره كدخل يدخل فإنه من باب نصر ينصر، وصحب يصحب فإنه من الباب الرابع الذي سنذكره بعد وكنت أشبه ذلك في زمن الاستعمار حين أقرر هذه القاعدة للطلبة بالدولة المستعمرة بكسر الميم، والشعب المستعمَر بفتحها ففعَل يفعَل بفتح العين في الماضي والمضارع شبيه بالشعب المستعمر لا يجوز له أن يخرج من الحلق فإن الشعب الذي تستعمره فرنسا مثلا لا يجوز لأحد من أهله وإن كان ملكا أن يتصل بدولة غير فرنسا والشعب الذي تستعمره بريطانيا لا يجوز لأحد من أهله وإن كان ملكا أن يتصل بدولة أخرى كفرنسا مثلا، وقد وقع لي مثل ذلك حين كنت ضيفا على ملكة (بهوبال) في زمن الاستعمار الإنكليزي في الهند فقد جاءها بعض المتعصبين المبغضين لأهل الحديث، نضر الله وجوههم في الدنيا والآخرة وبالخصوص العالم المحدث الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليمني إلى الملكة وقال لها إن هذا الشخص الذي في ضيافتك وهو محمد تقي الدين الهلالي ليس عربيا من جزيرة العرب كما أخبرك به شيخه، ولكنه من عرب المغرب، ومن شروط الحماية البريطانية التي يجب عليك التزامها أن لا تتصلي بدولة أجنبية ولا برعاياها فراجت هذه المكيدة على الملكة وأرسلت إلي تعتذر وأمرت رئيس الضيافة الكرنل عبد القيوم خان أن ينقلني من دار الضيافة الملكية إلى بيته ويكرمني ولم يأذن له في ذلك شيخنا المذكور رحمه الله ونقلني إلى ضيافته تغمده الله برحمته.

أما الأفعال التي يوجد فيها حرف الحلق عينا أو لاماً فهي كالدولة المستعمرة حرة تخالط أهل مستعمراتها وتخالط من تشاء من الدول.

الرابع: فعِل يفعَل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع وهذا قياس مطرد سواء أكان متعديا كعلِم يعلَم أو لازما كفرح يفرح.

الخامس: فعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع معا كحسن يحسن وعظم يعظم وكرم يكرم.

السادس: فعِل يفعِل، بكسر العين في الماضي والمضارع معا كورث يرث وولي يلي وعدد هذا القسم لا يزيد على ستة أفعال وهي على هذا الترتيب في الكثرة والقلة في كلام العرب، والباب الأول والثاني سماعيان لا ينضبطان إلا بالحفظ، والثالث كثير في كلام العرب يقرب أن يكون قياسيا، أما الرابع والخامس فهما قياسيان، والسادس قليل عدده، سهل حفظه، فإن قيل هذه الأفعال غير القياسية التي تحتاج إلى الحفظ هي مما جعل اللغة العربية صعبة التعلم، وجعل الشباب يعرضون عنها ويقبلون على اللغات الأوربية، أقول في جوابه: من جهل شيئا عاداه، إن اللغة العربية أسهل من اللغات الأوربية الشائعة، فالفرنسية فيها أفعال وتصاريف خارجة عن القياس، تزيد على الألف وفيها صعوبات أخرى ليس هذا مقام بسطها واللغة الإسبانية مثلها في صعوبة معرفة الأفعال، واللغة الألمانية فيها صعوبات كثيرة جدا في أفعالها وأسمائها ومعرفة المبني والمعرب من الأسماء وإعرابها أصعب، من إعراب اللغة العربية لأن المعربات في اللغة الألمانية، لا يتغير إعرابها لا في الوقف، ولا في الوصل، وفيها صعوبات أخرى، ليس هذا محل بسطها، وأما الإنكليزية فإن أكثر كلماتها تكتب بخلاف ما تقرأ وقد عكف أحد كبار العلماء البريطانيين على دراسة هذه المسألة فخرج بنتيجة وهي أن التلميذ الإنكليزي لو كتب اللغة الإنكليزية كما ينطق بها لوفر ذلك عليه سنتين كاملتين يتفرغ فيهما لدراسة علوم أخرى وطرح بحثه أمام مجلس العموم الإنكليزي فاختلف النواب فأخذت الآراء وذلك ما يسمى بالاقتراع أو أخذ الأصوات فكان أكثر الآراء مع المانعين لتغيير كتابة اللغة الإنكليزية القائلين نكتبها كما كتبها أسلافنا وإن كانت معرفة الكلمات على ما هي عليه يكلف أبناءنا دراسة سنتين كاملتين، والحق أن السبب الذي بغَّض الناس في اللغة العربية ليس إعرابها ولا صعوبة قواعدها ولكن خذلان أهلها لها، وعدم شعورهم بواجب خدمتها فضيعوها كما ضيعوا غيرها من الواجبات.

وإلى اللقاء في المقال التالي بعون الله.



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:33 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (12)

د. محمد تقي الدين الهلالي





1- شاع في هذا الزمان قولهم (تأكدت من شيء) وأنا متأكد منه، وهو خطأ قال في اللسان (أكد العهد والعقد لغة في وكده وقيل هو بدل والتأكيد لغة في التوكيد) فقال صاحب القاموس (أكد الحنطلة رأسها وأكده تأكيدا وكده والأكيد الوثيق) وقال صاحب المنجد (أكد ووكد العهد أو السرج شده وأوثقه تأكد وتوكد توثق واشتد، الأكيد المحكم الوثيق، وقال أيضا أكد ووكد الشيء قرره، تأكد وتوكد تقرر، الأكيد: الثابت) اهـ.

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [النحل: 91]، ﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ بعد توثيقها بذكر الله تعالى. ومنه أكد بقلب الواو همزة اهـ - وقال الأشموني في شرح الألفية التوكيد هو في الأصل مصدر ويسمى به التابع المخصوص، ويقال أكد توكيدا تأكيدا، وهو بالواو أكثر.


شرح ما تقدم:
قول صاحب اللسان أكد العهد والعقد لغة وكده نفهم منه أن التوكيد أصله بالواو. والتأكيد بالهمزة لغة فيه وقال بعضهم ليس هو لغة، وإنما أبدلت الواو همزة. فعلى القولين يقال أكدت العهد واليمين ووكدتهما توكيدا وتأكيدا فهما موكدان ومؤكدان، وقول صاحب القاموس أكد الحنطة داسها أي درسها ليتميز حبها من تبنها. والحنطة هي البُر بالضم، وتسمى القمح فالحنطة مأكودة، - وأكده تأكيدا أكد العهد أو اليمين يؤكده تأكيدا ووكده كذلك فهو موكد ومؤكد.

ووكده بالتخفيف ثلاثيًا وأكده فهو موكود وأكيد وفعيل هنا بمعنى مفعول والتوكيد التوثيق، وقول صاحب المنجد أكد ووكد العهد أو السرج شده وأوثقه، نفهم منه أن توكيد العهد واليمين توثيق معنوي وتوكيد السرج توكيد حسي، وتأكد العهد أو السرج مطاوع أكد. وعليه نقول أكدت العهد والخبر والسرج مثلا، فتأكد أي توثق وصار محكما، والعجب من صاحب اللسان وصاحب القاموس إذ أهملا فعل المطاوعة وهو تأكد ومن دواعي الأسف أنه لا يوجد عندي الآن من كتب اللغة إلا الثلاثة المذكورة، وسائر كلامه واضح - وقوله وتعالى ﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [النحل: 91] دليل على أن التوكيد بالواو أفصح من التأكيد بالهمزة سواء أقلنا قلب الواو همزة أم قلنا أنها بدل منه، وإطلاق التوكيد في كتب النحو على التابع مجاز من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل لأن التابع موكد بكسر الكاف للمتبوع فإذا قلنا جاء زيد نفسه، أو عينه لدفع احتمال أن يكون المراد جاء كتابه أو رسوله فإن النفس والعين مؤكدتان لمجيء زيد حقيقة لا مجازا وكلام الأشموني واضح، نفهم من ذلك كله أن العهد واليمين والخبر وما أشبه، يتأكد أو لا يتأكد، أما المتكلم فلا يؤكد ولا يتأكد فلا يقال أكدت فلانا فتأكد حتى يستطيع هو أن يقال أنا متأكد، بقي أن يقال إذا كان قول الكاتب أو المتكلم أنا متأكد من ذلك الأمر خطأ فما هو الصواب؟ علمنا يرحمك الله فالجواب أنه يجب أن يقول أنا مستيقن هذا الخبر أو أنا مستيقن لهذا الخبر قال تعالى في سورة النمل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 13- 14] فالضمير في استيقنتها يعود على الآيات المبصرة أي البينة المذكورة قبل هذا، وقال تعالى في سورة الجاثية حكاية عن الكافرين المكذبين بالبعث ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32] قال صاحب اللسان: اليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وقد أيقن يوقن إيقانا، فهو موقن، ويقن ويَيقن فهو يَقِن، واليقين نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل، تقول علمته يقينا، وفي التنزيل ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الحاقة: 51] أضاف الحق إلى اليقين وليس هو من إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الحق هو غير اليقين إنما هو خالصه واضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] أي حتى يأتيك الموت، كما قال عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]. وقال ما دمت حيا وإن لم تكن عبادة لغير حي لأن معناه اعبد ربك أبدا، واعبده إلى الممات، وإذا أمر بذلك فقد أمر بالإقامة على العبادة، ويقنت الأمر، بالكسر، ابن سيدة: يقن الأمر يقنا ويقنا وأيقن به وتيقنه واستيقن به واستيقنه وتيقنت بالأمر واستيقنت به كله بمعنى واحد، وأنا على يقين منه وإنما صارت الياء واواً في قولك موقن للضمة قبلها وإذا صغرته رددته إلى الأصل وقلت مييقن وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن، قال أبو سدرة الأسدي ويقال:

تحسب هواس وأيقن أنني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بها مفتقد من واحد لا إنما مره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول: تشمم الأسد ناقتي يظن أنني أفتدي بها منه وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته وإنما سمى الأسد هواسا لأنه يهوس الفريسة أي يدقها اهـ.


2- ومما شاع في هذا الزمن استعماله قولهم عاش أحداثها، أي أحداث الأيام، أو أحداث الحرب، وهذا استعمال غير صحيح لأن الأحداث ليست ظرف مكان ولا زمان حتى تنصب بتقدير (في) يقال عاش مائة سنة، فمائة منصوب على أنه ظرف زمان قال الحريري في ملحة الإعراب:
الظرف منصوب على إضمار في https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تقول صام خالد أياما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فاعتبر الظرف بذاك واكتف https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وغاب ظهرا وأقام عاما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فهذه ظروف زمان منصوبة بتقدير في، وتقول في ظرف مكان جلست أمام زيد أو خلفه وجلست تحت الشجرة وفوق السطح فهذه ظروف مكان بتقدير (في) أما الأحداث فليست ظرف زمان ولا مكان، فلا يصح أن تكون منصوبة بإضمار حرف الجر ولا يصح أن تكون مفعولا به لعاش لأنه فعل لازم، لا يقال إذا كانت الأحداث مضافة إلى الأيام يجوز أن تقوم مقامها فتكسب الظرفية بإضافتها إليها كما وقع في مائة سنة وألف سنة كما قال تعالى في ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت: 14] وتقول أقمت في البلد سبعة أيام فأنت ترى أن العدد لما أضيف إلى الظرف اكتسب الظرفية منه، فلماذا لا تكسب الأحداث الظرفية إذا أضيفت إلى ظرف كقولهم عاش الأحداث تلك الأيام مغايرة للأيام بل هي مظروفة والأيام ظرفها فإن الأحداث واقعة في الأيام فلا يصح أن تقوم مقامها أما قولهم عاش أحداث تلك الحرب فهو أبعد من الظرفية، وإنما جاء هذا الاستعمال الفاسد من اقتباس المترجمين معاني الألفاظ الأعجمية واستعمالها في اللغة العربية ظنا منهم أن ما جاز في لغة، يجوز في لغة أخرى وهذا في غاية الفساد فإن المترجم لو ترجم كلاما عجميا بكلام عربي بدون مراعاة، لطبيعة كل من اللغتين وأسلوبهما وقواعدهما بل أبدل كل كلمة أعجمية بكلمة عربية لجاءت عبارته في غاية الركاكة والقبح وبعضها لا يكاد يفهم، وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما سلف فلا حاجة إلى إعادته، فإن قيل فما هو الصواب الذي يجب التعبير به بدلا من قولهم عاش أحداث الحرب وأحداث الأيام، فالجواب أنه ينبغي أن يقال شاهد أحداثها فهو شاهد عيان لها.


3- ومن الألفاظ الدخيلة قول بعضهم (بذل فلان كل الجهود لبلورة الشخصية الإفريقية)، وهو مصدر قولهم بلور المخترع، واخترعوا له أيضاً فعلاً مطاوعا وهو تبلور وهذه الألفاظ لا وجود لها في اللغة العربية التي يعرفها العرب وهي مأخوذة من اللغة الإنكليزية يقينا، وهذا نص ما في المعاجم الإنكليزية to cry Staliti، بلور Tobecry Stalized تبلور، crystaloralass الزجاج، flintglass بلور صخرى، وقال صاحب المنجد: تبلور وتبلر، صار شبيها بالبلور، البلور والبلور نوع من الزجاج جوهر أبيض شفاف، (فارسية) وقد ظهر أن هذه الألفاظ الثلاثة البلورة، وفعلها بلور والتبلور وفعلها تبلور، هذه الألفاظ الأربعة لم تستعملها العرب في ما نعلم من كلامهم، ويمكن أن يقال إن سلمنا لك أن العرب لم تستعملها تكون دخيلة أو مولدة والدخيل والمولد كثير في استعمال المحدثين وإن لم تستعمله العرب فما المانع من استعماله؟ والجواب إن الأشياء التي حدثت بعد زمان العرب من الأعيان والمعاني يجب علينا أن نبحث لها عن ألفاظ تدل عليها وما يناسبها من العربية، أو نقبل أسماءها الأعجمية ونمزجها بالألفاظ العربية كما فعل العرب الأولون حين أدخلوا كثيرا من الألفاظ اليونانية والرومية والفارسية، أما الأشياء التي كانت موجودة في زمان العرب ولها ألفاظ تدل عليها في لغتهم فلا يجوز أن نعدل عنها إلى ألفاظ نترجمها ترجمة حرفية ونشوه بها لغة القرآن حتى تفقد جمالها وبلاغتها، فما المراد بالشخصية الإفريقية؟ وما المراد ببلورتها؟ هذان لفظان مبهمان لا يمكن فهمهما إلا إذا رجعنا إلى اللغة الأجنبية، التي أخذا منها، وقد رجعنا فعلا إلى اللغة الأجنبية فوجدنا معنى بلورة الشيء، أن يجعل شبيها بالبلور، والبلور من الجواهر، ولكنا تحيرنا في معنى الشخصية الإفريقية مع معرفتنا لأصلها باللغة الأعجمية وهو personality والظاهر أن الكاتب يريد بالشخصية القوة والعظمة والشرف وعلو المنزلة في أعين الدول الأخرى، ويريد بالبلورة الرفعة والترقية والتقوية والسعي في سمو المنزلة وعلو المكانة، والألفاظ التي تدل على هذه المعاني وافرة في اللغة العربية فلا حاجة بنا إلى استعمال ذينك اللفظين المولدين اللذين على ما فيهما من الركاكة معناهما غامض لا يعرف إلا بمراجعة اللغة العجمية.

4- (على ما أعتقد) هذه العبارة مأخوذة من اللغة الإنكليزية بترجمة فاسدة فإن لفظة Believe، تدل على الاعتقاد وتارة على الظن، والقرينة هي التي تميز بينهما فذكر هذه الكلمة إذا تجردت عن القرينة لا تدل إلا على الظن الغالب، أو المستوى الطرفين ولا تدل على اليقين، وقد أخذها عامة الكتاب فأساءوا استعمالها. فإن لفظة أعتقد في اللغة العربية، تدل على الجزم فتقول مثلا أنا أعتقد صحة هذا الخبر، وأعتقد أن الإسلام حق وأن الله واحد ومن ذلك سمي ما يؤمن به المرء مما يجب لله تعالى من صفات الكمال وما يجب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الصدق والتبليغ والأمانة والتنزيه عن النقائص التي لا تليق بمقامهم العالي، سمي كل ذلك عقيدة وأظن أنها فعيلة بمعنى مفعولة كالذبيحة والنطيحة بمعنى المذبوحة والمنطوحة لأن القلب قد عقدها وأحكم توثيقها فإن قيل عهدناك في مثل هذه المعاني تفْزَع إلى لسان العرب، والقاموس، وتحتج بنصوصهما فما بالك عدلت عنهما في هذا الحرف؟ فالجواب أنني لم أجد فيهما نصا على ما أريده وهذا من العجب وسأسوق هنا نص اللسان، ثم أحاول ربطه بالمعنى المقصود والعقد نقيض الحل عقده يعقده عقدا وتعاقدا وعقدة ثم قال واعتقده كعقده ثم قال وعقدة النكاح والبيع وجوبهما. قال الفارسي هو من الشد والربط، وانعقد النكاح بين الزوجين، والبيع بين المتبايعين، وعقدة كل شيء إبرامه ثم قال واعتقد الشيء صلب واشتد، وقال البيضاوي ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 235]، ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد أي ولا تعزموا عقدة النكاح، وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع وقال القاسمي في تفسيره، قال الرازي أصل العقد الشد وسميت العهود والأنكحة عقودا لأنها تعقد كما يعقد الحبل، وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم عقدتم بالتخفيف وابن عامر برواية ابن ذكوان عاقدتم وهو من فاعل بمعنى فعل، اهـ.

وقال أيضا في تفسير قوله وتعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4] ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، والنفث النفخ من ريق.

بيان وجه الاحتجاج بما تقدم:
حاصله أن العقد هو الشد والربط والإبرام والتوثيق وضده الحل والنكث والنقض. وعقد واعتقد معناهما واحد، ويكون في الحسيات كعقد الخيط والحبل، وفي المعنويات كعقد النكاح والبيع واليمين والعهد والاعتقاد الذي نحن بصدده من القسم الثاني وهو المعنوي فاعتقاد الإنسان أمرا من الأمور، جزمه به وتصديقه وإيمانه فكأنه عقد الأيمان والتصديق بذلك الأمر بقلبه حين جزم به فلو كفر به لكان كفره حلا لما عقد ونقضا له وذلك يتنافى مع الظن المرجوح والمستوى الطرفين والغالب لأنه متى داخله شك في أمر من الأمور لا يصح أن يقال إنه يعتقده إلا مع البيان كقوله اعتقادا غير جازم، فإن قيل فماذا ينبغي أن يقال بدل ذلك؟ فالصواب ينبغي أن يقال: أظن مما تقدم من قوله تعالى حكاية عن الكفار: ﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32] ولما جاء في الخبر الصحيح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [يونس: 36].

المصدر: "مجلة دعوة الحق"



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:33 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (13)

د. محمد تقي الدين الهلالي







كنت قد نشرت مقالات بهذا العنوان في مجلة دعوة الحق التي تصدر في وزارة الأوقاف بالمغرب الأقصى وجمعت ما تيسر لي جمعه من تلك المقالات فبلغ ذلك جزءاً وأهل الغيرة على لغة القرآن الذين يحرصون على بقائها بأسلوبها الجميل وفصاحتها وبلاغتها ويتألمون لكل ما يصيب وجهها الجميل من خدوش تذهب بمحاسنها وأقذاء تكدر صفاء معينها يحرصون كل الحرص على قراءة مثل هذه المقالات التي تنبه على العبارات الدخيلة والأخطاء المفسدة وعسى الله أن ييسر نشر هذا الجزء ليعم نفعه، وعندي من العبارات التي تحتاج إلى الإصلاح شيء كثير لم أنشط للكتابة والتأليف فيه لموانع متعددة، منها صعوبة النشر جعلت هذا مقدمة لإصلاح خطأ فاحش جرى على ألسنة الخاصة والعامة في هذا الزمان نسمعه في الإذاعات والخطب والمحادثات والتدريس، وكلما سمعت شيئا منه أتألم وأتكلم ولكن قلَّ من يستمع وقلَّ من يعين.
لقد أسمعت لو ناديت حيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولو نارا نفخت بها أضاءت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولكن لا حياة لمن تنادي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكن أنت تنفخ في رماد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والشعوب المعاصرة كالبريطانيين والفرنسيين والجرمانيين والأمريكيين يبذلون جهودا وأموالا عظيمة في المحافظة على سلامة لغاتهم ونشرها في أرجاء الدنيا، أما المتكلمون بالعربية فلا تهمهم لغتهم ولا يعبأون بحياتها وموتها وصحتها وسقمها فإلى الله المشتكى.

وسأقتصر هنا على ذكر الخطأ المشار إليه والدعوة إلى إصلاحه وهذا الخطأ مقصور على التحدث والنطق وهو حذف تاء التأنيث المتحركة، والاختصار على حركة ما قبلها وهي الفتحة فبعضهم يمدها فينشأ عنها ألف وأكثرهم لا يمدها فمن ذلك قولهم المملكة العربية السعودية (المملكا العربيا السعوديا) ومن ذلك قولهم (الأجهزَ الإعلامية) ومن ذلك (الأسمدَ الكيماوية) (الطاق البشرية) (الأمم الداخل في الإسلام) وهذا في نظري فساد عظيم بدأت به العامة الجهال وشاع وذاع وألفته الأسماع فاقتدت بهم الخاصة، ويمكننا أن نخفف اللوم على العامة لجهلهم بقواعد اللغة العربية فإذا قالوا مثلا الأمم الداخلة في الإسلام يلزمهم إعراب (الداخلة) والنطق بها إما مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة حسب ما يقتضيه العامل فيخافون أن يخطئوا في إعرابها فيحذفون التاء ويستريحون فهؤلاء لهم شيء من العذر لجهلهم، أما الخاصة العاملون بالنحو فلا عذر لهم وهم ملومون من وجهين، الأول تعمدهم لإفساد لغة القرآن، الثاني اقتداؤهم بالجهال.

والعجب كل العجب أن هذا الفساد نفسه قد سبق إليه العبرانيون والسريانيون منذ آلاف السنين، فإن الرأي الصحيح الذي عليه المحققون من علماء هذا الشأن أن اللغة العربية هي الأصل وسائر اللغات السامية تفرعت عنها كما تفرعت العامية عن الفصحى ومن العجب أن التطور الذي وقع في اللغة العبرانية واللغة السريانية هو بعينه الذي وقع في اللغة العامية فإن العبرانية والسريانية كان فيهما إعراب في الأصل ولا تزال بقاياه في اللغة العبرانية ولما كثر الجهل بالقواعد فيهما أخذ الإعراب يزول شيئا فشيئا حتى صار معدوما بالمرة، ولنضرب لذلك مثلا، المرأة في اللغة العبرانية اسمها (اشه) وأصلها (اسة) فتقول مثلا (ها اشه طوبه) فمعناه المرأة طيبة، و(ها) هي أداة التعريف بمنزلة الألف واللام في العربية فالأصل (ها اشة طوبة) فلما وقع الفساد وتغيرت اللغة عند أصلها وانحرفت عنه حذفت هاء التأنيث في الكلمتين وأبدلت بألف مد كما يقال في العامية (الغرفا العاليا) وعربيتها في الأصل (الغرفة العالية) والدليل على ذلك أنك إذا أضفت كلمة (اشه) يظهر الأصل فتقول (اشة خاطوبة) معناه امرأتك طيبة، ولذلك اشتد ألمي وعظمت حسرتي لأننا إذا سرنا في هذا الطريق يزول الإعراب كله من لغة القرآن وتبعد عن أصلها كل البعد كما بعدت أختاها، فان قيل أن المتكلمين لا يريدون حذف هاء التأنيث وإنما يقفون على الكلمة ومعلوم أنها عند الوقف تبدل هاء فالجواب: إن للوقف مواضعه ونحن نسمعهم صباح مساء لا ينطقون بالهاء أصلا بل يكتفون بالحركة التي قبلها وهي الفتحة ولو نطقوا بها ما سَلِمُوا من الخطأ لأن الجمع بين الوقف والوصل لا يجوز كما هو مقرر في كتب علم التجويد، فإذا وقف المتكلم على كلمة مختومة بهاء التأنيث لا بد أن ينطق بها ساكنة ولا يقف إلا حين يحسن الوقف. وحد الوقف عند علماء التجويد أن يسكت القارئ بقدر ما يتنفس سواء تنفس أم لم يتنفس.

وفي الختام أدعو إخواني المعلمين والطلبة أن يتنبهوا لهذا الخطأ الفاحش وأن ينزهوا قراءتهم وكلامهم منه ولا يتسامحوا مع تلامذتهم إذا فعلوا ذلك وبهذا وأمثاله نحافظ على صحة لغة القرآن وحياتها وجمالها وكمالها، فإن من يعظم القرآن لا بد أن يعظم لغته، ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].

1- ومن ذلك تسميتهم القوة الناشئة عن النفط أو الكهرباء أو الغاز طاقة، وأكثر ذلك الطاقة خصوصا في هذه الأيام التي منع فيها العرب نفطهم عن بعض الدول ونقصوه وأغلوا ثمنه على الدول الأوربية وغيرها. وقد بحثت في معنى الطاقة فوجدت الفيروز أبادي يقول في القاموس: الطوق والطاقة، الوسع وقال بعد ذلك، الإطاقة القدرة على الشيء، وقال ابن منظور في لسان العرب: الطوق والإطاقة القدرة على الشيء، وقال الجمل في حاشية الجلالين عند قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286] الطاقة، القدرة على الشيء اهـ. قال محمد تقي الدين: والطاقة اسم مصدر من أطاق يطيق، إطاقة كالعون من الإعانة، الطاعة من الإطاعة ومن ذلك يظهر لك أن تسمية الوقود أو ما ينشأ عنه من قوة (طاقة)، هو استعمال مولد والصواب أن يقال في النفط والغاز ونحوهما وقود لأن كل ما توقد النار به فهو وقود، ويقال للقوة الناشئة عن الوقود قوة فيقال مثلا هذه المركبة تسير بقوة الكهرباء أو بقوة النفط، لكن الطاقة إنما تقال فيمن له قدرة كالإنسان اهـ.

2- ويقولون إنهم يبحثون تسوية حول هذا الموضوع، وهو خطأ، لأن (سوى) يتعدى بنفسه، فذكر (حول) في هذا الموضع جهل. قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ قال الجلال: أي قومه بتصوير أعضائه على ما ينبغي اهـ.

وقال الجمل في حاشيته، قال أبو السعود، سواه، أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي اهـ.

وقد اختلف المفسرون في مرجع ضمير سواه، فقال بعضهم إلى الإنسان الأول وهو آدم وقال بعضهم يرجع إلى نسله، وقال الجمل في حاشيته عند قوله تعالى في سورة الانفطار: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 6، 7] قال البيضاوي، التسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة مهيأة لمنافعها اهـ.

قال محمد تقي الدين: ولغة الإذاعة والصحف في هذا الزمان تستعمل فيها التسوية للخلاف والنزاع يريدون إزالة الخلاف فإن صح هذا التعبير وجب تأويل التسوية هنا بإصلاح ذات البين، وعل كل حال التسوية متعدية بنفسها كما رأيت.

3- ويقولون الألمان جمع ألمانيين والإسبان جمع إسبانيين وهو خطأ فالألماني يجب أن يجمع على ألمانيين وكذلك الإسباني يجب أن يجمع على إسبانيين وكأنهم شبهوه بجمع رومي على روم، قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ [الروم: 1 - 3] وهذا مما لا يقاس عليه بل يقتصر فيه على السماع على أن العرب لم يسموا البلاد التي تسمى اليوم ألمانية بهذا الاسم وإنما سموها (جرمانية) والنسبة إليها جرمانيون وهكذا تسميها الشعوب السامية الأخرى، انظر كتاب البلدان لمحمد بن الفقيه البغدادي المتوفى في أواخر القرن الثالث الهجري اهـ.

4- ومن أخطاء إذاعة صوت أمريكا أن المذيعين فيها، لا يريدون أن يقولوا مثلا (حوالي عشرة آلاف) أي قريبا من عشرة آلاف بفتح اللام وسكون الياء، وهو الصواب ومعناه ما يحيط بالشيء قال النبي صلى الله عليه وسلم لما شكا الناس له من كثرة المطر (اللهم حوالينا ولا علينا) يعني عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعل المطر يستمر نزوله حول المدينة، لا فوقها، أما إذاعة صوت أمريكا فتجعله حوالي، بفتح اللام والألف المقصورة.

5- ومن ذلك تعبير الإذاعة المتقدم ذكرها بالحياتي والحياتية نسبة إلى الحياة وهذا خطأ لأنه يجب حذف التاء وقلب الألف واوا ثم الإتيان بياء النسب، فيقال الحيوي والحيوية، قال ابن مالك في الألفية:
ياء كيا الكرسي زادوا للنسب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومثله مما حواه احذف وتا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكل ما تليه كسره وجب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تأنيث أو مدته لا تثبتا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



قال ابن عقيل في شرح البيتين: إذا أريد إضافة شيء إلى بلد أو قبيلة أو نحو ذلك جعل آخره ياء مشددة مكسورا ما قبلها فيقال في النسب إلى دمشق دمشقي وإلى تميم تميمي وإلى أحمد أحمدي، شرح البيت الثاني: يعني أنه إذا كان في آخر الاسم ياء كياء الكرسي في كونها مشددة واقعة بعد ثلاثة أحرف فصاعدا وجب حذفها وجعل ياء النسب موضعها فيقال في النسب إلى الشافعي شافعي.

وكذلك إذا كان آخر الاسم تاء التأنيث وجب حذفها للنسب فيقال في النسب إلى مكة مكي اهـ.

6- ومن ذلك استعمالهم المبادرة في الدعوة إلى مفاوضة أو عرض أمر وهذه لا تزال طرية لم يمر عليها زمن طويل فإن هذه اللغة الشريفة التي نكبت بأهلها وكانت لهم خير لغة وكانوا لها شر أهل لا تزال اللصوص تهجم عليها وتقتحم معقلها وتسطو على الألفاظ والتراكيب الأصيلة النبيلة فتميتها وتحل محلها ألفاظا دخيلة ذميمة سمجة ثقيلة، وقد قل ناصرها وكثر في أهلها المقلدون الإمعات الذين لا يسمعون كلمة من الإذاعة أو يقرؤون من كلمة في الصحف إلا بادروا إليها، وفرحوا بها وطفقوا يستعملونها دون أن يضعوها في الميزان ليتبين خالصها من الزيف. ونحن قد عاهدنا الله تعالى على أن ندافع عن لغة القرآن، ونصونها ونحافظ على جمالها وكمالها وسحرها الحلال، إلى أن نلقى الله تعالى ولا نبالي بمن بدل وغير، ولو بقينا وحدنا، وسنرى الآن معنى المبادرة في لغة القرآن ليعرف الحق من الباطل، والجالي من العاطل، قال في القاموس وبادره مبادرة وبدارا وابتدره وبدر غيره إليه يبدره عاجله، وقول أبي المثلم:
فيبدرها شرائعها فيرمي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مقاتلها فيسقيها الزؤاما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أراد إلى شرائعها فحذف ووصل وبادره إليه كبدره وبدر في الأمر وبدر إلى عجل إلى واستبق واستبقنا البدري أي مبادرين، اهـ - نستفيد من كلام القاموس واللسان أن ذلك الاستعمال غير صحيح ونستفيد شيئا آخر وهو أن صاحب القاموس يأخذ ألفاظ اللسان بعينها وقد جربت ذلك في مواضع فكأنه يختصر لسان العرب إلا أنه يزيد في بعض المواد أشياء ليست في اللسان ومن ذلك الأعلام فإن صاحب اللسان لا يعتني بها كما يفعل صاحب القاموس.

7- ومن ذلك فتحهم خاء الخِدمات جمع خدمة، بكسر الخاء، ومما يؤسف له أن أكثر المتكلمين بالعربية لا في الإذاعة وحدها بل في المدارس والجامعات أيضا يقعون في هذه الزلة التي هي من الكبائر بالمعنى اللغوي، ودونك الدليل على أن الفِعلة بالكسر إنما تجمع على فِعلات بكسر ففتح، لا على فَعَلات، بفتحتين. هذا إذا لم تجمعها جمع تكسير، فإن جمعتها جمع تكسير قلت خدم بكسر الخاء وفتح الدال فالخاء مكسورة في المفرد والجمعين، قال ابن عقيل في شرح الألفية:
ونحو كبرى ولفعلة فعل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وقد يجيء جمعه على فعل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن أمثلة جمع الكثرة فعل وهو جمع لاسم على فعلة نحو كسرة وكسر، وحجة وحجج، ومِرية ومِرَى، وقد يجيء جمع فِعلة على فِعل نحو لحية ولِحى وحلية وحِلى، اهـ.

قال محمد تقي الدين: استفدنا من هذا النقل أن فِعْلة، بكسر الفاء وسكون العين، تجمع على فِعل (بكسر الفاء وفتح العين) وجاء جمعها قليلا على فعل، بضم الفاء وفتح العين، كحلية وحُلى ولحية ولحى، وأما جمع خدمة جمع تصحيح أي جمع مؤنث سالم ففيه ثلاثة أوجه.

الأول: كسر الدال والخاء فتقول خِدمات، بكسرتين، والثاني: كسر الخاء وفتح الدال للتخفيف فتقول خدمات، بكسر ففتح، والثالث: كسر الخاء وسكون الدال فتقول خِدمات، بكسر فسكون، قال ابن مالك في الألفية:
والسالم العين الثلاثي اسما أنل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن ساكن العين مؤنثا بدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وسكن التالي غير الفتح أو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اتباع عين فاه بما شكل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مختتما بالتاء أو مجردا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
خففه بالفتح فكلا قد رووا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



إذا جمع الاسم الثلاثي الصحيح العين الساكنها المؤنث المختوم بالتاء أو المجرد عنها بألف وتاء أتبعت عينه فاءه في الحركة مطلقا فتقول في دعد دعدات وفي جفنة جفنات وفي جمل وبرة جملات وبرات بضم الفاء والعين وفي هند وكسرة هندات وكسرات بكسر الفاء والعين ويجوز في العين بعد الضمة والكسرة التسكين والفتح فتقول جملات وجملات وبسرات وبسرات وهندات وهندات وكسرات وكسرات ولا يجوز ذلك بعد الفتحة بل يجب الإتباع وأما قول الشاعر:

وحملت نفرت الضحى فأطقتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومالي بزفرات العشى يدان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فضرورة، يعني أن الشاعر سكن الفاء لضرورة الوزن ولولا ذلك لقال زفرات بفتح الزاي والفاء.



ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:36 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (14)

د. محمد تقي الدين الهلالي



تقويم اللسانين مستقيم




وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (1)




ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء: (آمنت بالله، واعتصمت بحول الله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجهل علي).



بهذا الدعاء أفتتح الرد على هذا المنتقد الذي حاد عن منهج النقد المستقيم، وتنكر وتنقب، كأنه يعلم أنه مليم، وقبل ذلك أشكر الأستاذ الأديب رئيس تحرير دعوة الحق على الكلمات التي أثنى بها على مقالات تقويم اللسانين.



ثم أعيد ذكر ما قدمته في فاتحة هذه المقالات ونصه، وقد بدا لي أن أكتب مقالات في هذا الموضوع، أداء لواجب لغة الضاد، وصونا لجمالها من الفساد راجيا أن ينفع الله بما أكتبه تلامذتي في الشرق والمغرب وفي أوربا، وأنا على يقين أنهم يتلقون ما أكتبه بشوق وارتياح، وكذلك رفقائي الكتّاب المحافظون سيستحسنون ذلك.



أما الكتّاب الذي يكرهون التحقيق، ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، بين غث وسمين، وكدر ومَعين، فإنهم سيستثقلون هذا الانتقاد، وقد يعدونه تكلفا وتنطعا، وتقييدا للحرية، بزعمهم، فلهؤلاء أقول: إني لم أكتب لكم فما عليكم إلا أن تمروا على ما أكتب مرور الكرام وتدعوه لغيركم الذين يقدرونه حق قدره اهـ.



فكأن هذا الرجل رأى نفسه من الكتّاب الذين يرخون العنان لأقلامهم ويكرهون التحقيق فأخذه المقيم المقعد، وفقد رشده، فأخذ يلتمس العيوب للبراء.



فإن يخلق لي الأعداء عيبا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقول العائبين هو المعيب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






وما أبرىء نفسي من الخطأ، فالكمال لله، والعصمة للأنبياء ولا أكره الانتقاد المستقيم الذي يريد به صاحبه الإصلاح والبناء، ويشهد الله أني ما تصديت لكتابة هذه المقالات إلا أداء للواجب، ونصحا للأمة، وغيرة على لغة القرآن التي هجمت عليها لغات المستعمرين في عقر دارها، فأتت بنيانها من القواعد، وهدمت أركانها، وذهبت ببهائها وجمالها ولم أشك أن دعاة الإصلاح يرحبون بهذا المجهود ويؤازرونه، كما أنني أعلم أن دعاة الهدم والفوضى، أكررها مرة أخرى على رغم أنف المتنطع، سيشرقون بهذا الإصلاح ويغصون به ولكن:



إذا رضيت عني كرام عشيرتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلا زال غضبانا علي لئامها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ودونكم أيها القراء الأعزاء ما كتب به إلى الأستاذ المؤلف ذائع الصيت أبو الحسن علي الحسني الندوي من لكناؤ في الهند في الترحيب بهذه المقالات قال حفظه الله، استفدنا كثيرا من مقالكم القيم في العدد الأخير من مجلة دعوة الحق، في موضوع عثرات الأقلام، وغلطات اللسان، في كتابات المعاصرين، وأرجوا أن تتفسحوا في هذا الموضوع، فكلنا في حاجة إلى مثل هذه التوجيهات التي تصدر من ضليع محقق مثلكم، أبقاكم الله طويلا لتلاميذكم الكثيرين في الشرق والغرب.



تلميذكم الصغير أبو الحسن علي بن العلامة السيد عبدالحنى رح الحسني رح – 2- 2-1387هـ.



أما هنا في المغرب فقد رحب بها غير واحد من القراء مكاتبة ومشافهة، ولا يظنن هذا المنتقد أن الجو خلاَ لَه، حتى يبيض ويصفر وينقر ما شاء أن ينقر، فإن بين قراء هذه المجلة العالمية فحولا لا يقعقع لهم بالشنان ولا يخدعون بالمغالطات والروغان، يزنون الأقوال بالقسطاس المستقيم، ويميزون بين الصحيح والسقيم، وسيحكمون بيني وبين هذا المعترض الذي نصب نفسه حكما، وتوهم أن حكمه لا ينتقض.



وقبل أن أخوض معه غمار المعركة مستعينا عليه بالله الذي يحق الحق ويبطل الباطل، أذكر للقراء الأعزاء بعض ما أعرفه من أخباره، وأترك سائرها إلى أن يحين أوانه، كان هذا الرجل يدرس في فرنسا وكان مبتلي بهذا التنطع من أول أمره، فوجه انتقادا إلى أمير البيان الزعيم العربي الأوحد الذي:



حلف الزمان ليأتين بمثله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حنثت يمينك يا زمان فكفر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






إلا وهو الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وكنت أنا إذ ذاك أدرس في جرمانية، وأحاضر اللغة العربية بجامعة (بُنْ) فكتب إلى الأمير شكيب المسائل التي انتقدها عليه المعترض والتمس مني الحكم، فنظرت فيها فوجدت الحق في أكثرها مع الأمير شكيب، ووجدت اعتراض المعترض ساقطا إلا في النادر.



وابن اللبون إذا ما لز في قرن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لم يستطع صولة البزل القناعيس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ولكن الأمير شكيب رحمه الله، كان عنده من الإنصاف والتواضع ومكارم الأخلاق، ما يندر وجوده في هذا الزمان فلذلك لم يرد أن يجيبه حتى يعلم رأيي فيما انتقده عليه، ثم عرفت المعترض بعد ذلك معرفة تامة، وكان يجمعنا بيت واحد، نشتغل فيه جميعا، وهو من الكتّاب المشهورين في النثر، وله نظم لا يبلغ حد الجودة، ولكن لا بأس به.



وقد طرق هذا الباب الذي طرقته أنا اليوم من قبل في الصحف العراقية وفي الإذاعة ولم ينجح فيه، بل كان عامة القراء يستهزئون به، ولم أتعرض قط، إلى نقده، مع أني وجدت في ما كتبه ثغرات وأخطاء لأني أعلم أنه من الأساتذة القليلين الذين يكتبون إنشاء حسنا ويتكلمون كلاما قليل الخطأ، فغض الطرف عن هفوات هؤلاء عندي هو الصواب، والسعي في هدم ما بنوه من الفساد.



وأنا لا أطمع أن يكون له من أصالة الرأي وسداده ما يحمله على أن يعاملني بمثل ما عاملته به، لأن طبعه لا يسمح له بذلك، وحسبي أن يكون انتقاده معتدلا خاليا من الجور وأمارات سوء القصد، ولكن الأمر كما قيل

وكل إناء بالذي فيه يرشح

1- (بدون) قال المعترض: قال في مقالته (ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، ثم قال: وإنما سميت زائدة، لأن الكلام يتم بدونها) فأنا أقول له، من استعمل كلمة (دون) من فصحاء الأمة العربية هذا الاستعمال؟ ولهذا المعنى؟ إن معنى بدونها، هو بأقل منها.



المجيب: يالله للعجب، من جهل هذا المعترض بقواعد النقد! كيف يحتج بكلام المؤلفين من الفقهاء، كأن كلامهم قرآن، أو حديث نبوي، أو شعر امرئ القيس أو النابغة الذبياني، ومن قال لك: إن كلام الفقهاء حجة في اللغة العربية؟ يرجع إليه ويعتمد في الحكم عليه؟ كان يجب عليك قبل أن تتصدى للاعتراض أن تعلم أن الحجة إنما هي في ما صح عن العرب في جاهليتهم، وفي دولة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ودولة بني أمية قبل أن يختلط العرب بالأعاجم، وتفسد ألسنتهم، أما كلام المولدين، ولو كانوا من فحول الأدباء والشعراء كابن الرومي والبحتري والمتنبي، بل بشار بن برد أيضا لا يحتج بشعره مع قربه من العصر الأموي، فهذه حجتك التي جئت تصول بها؟



قال الراغب: في غريب القرآن: يقال للقاصر عن الشيء (دون) قال بعضهم هو مقلوب من الدنو والأدون الدنيء، وقوله تعالى: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118] أي ممن لم يبلغ منزلته منزلتكم في الديانة، وقيل في القرابة، وقوله: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 48] أي ما كان أقل من ذلك، وقيل ما سوى ذلك، والمعنيان يتلازمان وقوله تعالى: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116] أي غير الله وقيل معناه، إلهين متوصلا بهما إلى الله اهـ. فانظر إلى قول الراغب (وقيل ما سوى ذلك) يعني أن بعض اللغويين فسروا (مادون ذلك) بسوى ذلك، ثم قال والمعنيان متلازمان فبأيهما عبرت يفهم المعنى الآخر، ثم انظر إلى قوله فيما حكى الله تعالى عن عيسى بن مريم في آخر سورة المائدة: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي غير الله، فقد استعملت هنا (دون) بمعنى غير، بغير اختلاف، فما هو جواب المعترض؟



وقال صاحب لسان العرب بعد ما ذكر تسعة معان، (الدون) وقال (يعني الفراء) في قوله تعالى:﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ ﴾ دون الغوص، يريد سوى الغوص من البناء، اهـ - سبأ.



فهذا من استعمال (دون) بمعنى سوى، فماذا يقول المعترض في تفسير الفراء؟، وقال الفيروزابادي في القاموس، (دون) بالضم، نقيض فوق، ويكون ظرفا بمعنى أمام ووراء وفوق ضد، وبمعنى غير، قيل ومنه ليس فيما دون خمس أواق صدقة، أي في غير خمس أواق، قيل ومنه الحديث، أجاز الخلع دون عقاص رأسها، أي بما سوى عقاص رأسها، أو معناه بكل شيء حتى عقاص رأسها، اهـ.



أقول فقد رأيت نقل الفيروز أبادي عن أئمة اللغة أن (دون) تستعمل بمعنى (غير) لكن الاحتجاج على ذلك بالحديثين غير صحيح إذ يحتمل (دون) أن يكون في كل منهما بمعنى أقل، ولذلك حكاه بصيغة التمريض، ومعنى الحديث الأول، أن الزكاة لا تجب في أقل من خمس أواق من الفضة، والأوقية أربعون درهما. فالمقدار الذي تجب فيه الزكاة من الفضة لا يقل عن مائتي درهم، ومعنى الحديث الثاني، أن المرأة الناشز التي طلبت فراق زوجها كراهية له، يجوز أن تفتدي نفسها بكل ما تملك إلا ضفائر رأسها، هذا معنى الحديث، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، وليس هذا محل ذكر الخلاف.



وقال صاحب مجمع مجار الأنوار - وفيه (أي في الحديث) الحاكم يحكم بقتل، على من وجب عليه، دون الإمام، أي عنده أو هو بمعنى غير انتهى.


وقال تعالى: في سورة الأنعام (14) ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.




المعنى قل يا محمد، أغير الله أتخذ وليا، أتوجه إليه في جلب الخير ودفع الضر، والله خالق السموات والأرض، وغيره لا يخلق شيئا، بل هو نفسه مخلوق، والمخلوق لا يستحق أن يتخذ وليا، أي إلها، والله يطعم كل طاعم، ولا يحتاج إلى من يطعمه، وكل طاعم، أي آكل محتاج إلى الله، والمحتاج لا يكون إلها.



قل يا محمد لجميع الناس، إن الله أمرني أن أكون أول من أسلم وجهه إليه، ووحده في ربوبيته وعبادته، ثم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، وقال تعالى في سورة الشورى (6): ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾.



وقال تعالى فيها أيضا:(9): ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وأمثال هاتين الآيتين كثيرة جدا في القرآن.



والمراد بلفظ من (دونه) في آيتي الشورى هو بعينه المراد بغير الله في آية الأنعام فهذا تفسير القرآن بالقرآن، فماذا يقول فيه المعترض؟ وقال تعالى في سورة النجم (57-58) ﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ والآزفة: القيامة.



قال القاسمي في تفسيره: أي ليس لقيامها غير الله مبين لوقته كقوله:﴿ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأعراف: 187] وكاشفة صفة محذوف، أي نفس كاشفة أو حال كاشفة، أو التاء للمبالغة، أو هو مصدر بني على التأنيث، ومن (دون الله) بمعنى غير الله، اهـ.



أقول: ينبغي أن أمسك عِنان القلم بعد ما تبين الحق في هذه المسألة، ورجع المعترض، يجر أذيال الهزيمة، نادما على تفوه ما ليس له به علم. قوله (وهو فقيه، ولعله درس في الفقه زواج المرأة بدون مهرها أي بأقل من مهرها الخ)، أرجو أن أكون كما قال فقيها عند الله، وعند عباده المؤمنين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، ذكره البخاري تعليقا في كتاب العلم من صحيحه، والعبارة التي ذكرها المعترض، ونسبها إلى كتب الفقه فاسدة، لم أرها في شيء من كتب الفقه التي اطلعت عليها من كتب أهل السنة، فإن كانت موجودة في فقه الشيعة الذين ينسب إليهم المعترض، فليذكر لنا أين وجدها، وعلى فرض وجودها، لا يصح الكلام إلا بتأويل، إذ ليس للمرأة مهر معين عند أهل الحديث، بدليل (التمس ولو خاتما من حديد) وبدليل (أملكناكها بما معك من القرآن) رواه البخاري وغيره، وحده بعض الفقهاء بربع دينار، لكن الفقهاء يقولون إذا لم يسم لها مهرا، أي صداقا، فلها صداق أمثالها، فإن صحت العبارة التي نسب إلى الفقه، كان الكلام على حذف مضاف (أي بدون مهر نظيراتها من النساء).



وأنا لا أنكر أن دون تستعمل بمعنى أقل، بل كلامي لا يأباه، لأن (دون) هو الأقل منها، أي ناقص عنها، ولكن ضلاله كان في حصره معنى (دون) في أقل، وجهله أنها تكون بمعنى (غير) وبقية كلامه ساقط لا يحتاج إلى جواب.



2- واعتراضه على قولي (لعدم وجود أركانه) يقوله، لأن الوجود لا يعدم وإنما يعدم هو الموجود تنطع وتفلسف عقيم.



قال في اللسان والقاموس - وجد من العدم فهو موجود، اهـ وقال الراغب في غريب القرآن: وقال بعضهم الموجودات ثلاثة أضرب، موجود لا مبدأ له ولا منتهى، وليس ذلك إلا الباري تعالى، وموجود له مبدأ ومنتهى، كالناس في النشأة الأخيرة، اهـ.



وقال الراغب أيضا، الوجود أَضْرُب: وجود بإحدى الحواس الخمسة، نحو وجدت زيدا، ووجدت طعمَه، ووجدت صوتَه، ووجدت خشونته، ووجود بقوة الشهوة نحو، وجدت الشبع، ووجود بقوة الغضب، كوجود الحزن والسخط، ووجود بالعقل أو بواسطة العقل، كمعرفة الله تعالى، اهـ. ومن ذلك تعلم أن وجود الشيء في نفسه هو ضد عدمه، ووجود الناس له، هو غير وجوده في نفسه، فإذا نفينا وجوده فقلنا لا وجود له انتفى باللازم وجود الناس له، أي إدراكهم إياه.



وأركان التشبيه في الكاف الاستعمارية لا وجود لها في نفسها، ولا يدركها أحد، فوجود الناس لها معدوم، ولعل المعترض لا يفهم هذا المعنى، وهو متلهف إلى الطعن، فتوهم أنه وجد مطعنا، فارتد طعنه عليه في هذا كما وقع له في الأولى.



فلا تحفرن بئراً تريد بها أخاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإنك فيها أنت من دونه تقع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



كذاك الذي يبغى على الناس ظالما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تصبه على رغم عواقب ما صنع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








قوله (إن الفصحاء لم يستعملوا كلمة (عدم) هذا الاستعمال) الخ، دعوى بلا دليل، ومتى نصبك الفصحاء قاضيا، ووضعوا زمام الفصاحة في يديك؟ ووكلوا أمرها إليك، تثبتها لمن تشاء وتنفيها عمن تشاء، ألا يحق لي أن أتمثل في حكمك هذا بالشطر الأول من قول الشاعر العربي القح:



ما أنت بالحكم المترضى حكومته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأما الشطر الثاني فاتركه تكرها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:36 AM

رد: تقويم اللسانين
 


3- قال المعترض: وقد خالف الفصاحة العربية باستعماله جمع القلة المنكر (أنفسا) مع أن مقتضى الحال يوجب استعمال (النفوس) أعني جمع الكثرة، فذوو الظلم كثيرون، أو كثير على الأفصح، وإنما قلت المنكر، لأن المعرف (بأل) أو الإضافة من هذا الجمع يجوز أن يستعمل للكثرة، الخ. يا أيها الناس: اقرءوا واسمعوا وتعجبوا من هذا المعترض الذي يصدر الأحكام واحدا بعد واحد بدون دليل ولا برهان، ولا استناد على قاعدة، ولا عزو إلى إمام فكأنه يظن أن القراء أطفال في المدرسة الابتدائية، يتقبلون منه كلما حدثهم به، ودونكم ما قاله الأئمة في جمع القلة وجمع الكثرة، ونيابة أحدهما عن الآخر وضعا أو استعمالا.



قال الأزهري في التصريح ج 2 ص 300، ما نصه: وله رأي لجمع التكسير الذي يتغير فيه بناء مفرده لفظا سبعة وعشرون بناء منها أربعة موضوعة للعدد القليل وهو من الثلاثة إلى العشرة بدخول العشرة على القول بدخول الغاية في المغيا، ولو قال وهو الثلاثة والعشرة، وما بينهما لكان أولى وهي أفعُل، بضم العين، كأكلب، جمع كلب، وأفعال كأجمال بالجيم جمع جمل، وأفعِلة بكسر العين، كأحمرة، جمع حمار، وفِعْلة، بكسر الفاء وسكون العين، كصِبْية جمع صبى، وخصت هذه الأوزان الأربعة بالقلة، لأنها تصغر على لفظها، نحو أكيلب، وأجيمال وأحيمرة، وصبية، بخلاف غيرها من الجموع فإنها ترد إلى واحدها في التصغير، وتصغير الجمع يدل على التقليل، وإليها أشار الناظم بقوله:



أفعلة أفعل ثم فعلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تمت أفعال جموع قلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وليس من جموع القلة (فُعَل) بضم الفاء وفتح العين، كغرف، ولا (فعل) بكسر الفاء وفتح العين، كنعم، ولا فعلة بكسر الفاء وفتح العين، كقِرَدة خلافا للفراء.



وثلاثة وعشرون موضوعة للعدد الكثير، وهو ما تجاوز العشر، وقد يستغنى ببعض أبنية القلة عن بناء الكثرة وضعا أو استعمالا، اتكالا على القرينة، قاله في التسهيل:

قال الشاطبي: وحقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البناءين استغناء عنه بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معا، ولكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر اهـ.



فالأول كأرجل، جمع رِجْل بسكون الجيم، وأعناق جمع عُنُق، وأفئدة جمع فؤاد قال الله تعالى:(5، 6) ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ (8-12) ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ ﴾ (14، 43) ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ فاستغنى فيها ببناء القلة عن بناء الكثرة، لأنها لم يستعمل لها بناء كثرة.



والثاني: كأقلام جمع قلم، قال الله تعالى:(31- رقم الآية 27) ﴿ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ﴾ والمقام مقام مبالغة وتكثير قطعا، وقد استعمل فيه وزن القلة، مع أنه سمع له وزن كثرة، وهو قلام، وقد يعكس، فيستغنى ببعض أبنية الكثرة عن بناء القلة وضعا أو استعمالا اتكالا على القرينة.



فالأول كرجال جمع رجل بضم الجيم، وقلوب جمع قلب، وصردان بكسر الصاد، جمع صُرد، بضمها وفتح الراء، اسما لطائر، تقول: خمسة رجال بخمسة قلوب معهم خمسة صردان، فيستغنى بجمع الكثرة عن جمع القلة لعدم وضعه وليس منه، أي من هذا القسم، وهو ما لم تضع العرب له بناء قلة ما مثل به الناظم وأنبه من قولهم في جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، صفي بضم الصاد وكسر الفاء وتشديد الياء لقولهم في جمع قلتها، اصفاء حكاه الجوهري وغيره، بل هو من القسم الثاني، وهو ما وضعت العرب له بناء قلة، ولكنها استغنت ببناء الكثرة عنه كقوله تعالى (2- 228) ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ نفسر ثلاثة بجمع الكثرة، مع وجود جمع القلة، كقوله صلى الله عليه وسلم:(دعي الصلاة أيام إقرائك) وعلى ذلك يحمل قول الناظم:



وبعض ذي بكثرة وضعا يفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كأرجل والعكس جاء كالصفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








انتهى - وقد طالعت ما عندي من شرح الألفية كالأشموني بحاشية الصبان وابن عقيل وبحاشية الخضري وألفية ابن بونا بحاشيته، فوجدتهم لا يختلفون فيما نقلته عن التصريح، واخترت كلامه، لأنه أوسع وأوضح. ومنه تعلم أن ما زعمه المعترض من أن جمع القلة لا يستعمل في موضع جمع الكثرة إلا إذا كان مضافا أو معرفا بالألف واللام، لا وجود له في كلام أولئك الأعلام ومحال أن يهملوه لو كان ثابتا في القواعد الصحيحة المسلمة.



فنحن نطالبه بتصحيح النقل، إن كان ناقلا، وإن لم يكن ناقلا، فقد كذب على النحاة، واخترع قاعدة من عنديته، فإن جاء بالنقل عن بعض علماء اللغة قابلنا نقله بتلك النقول، وهي أكثر فيسقط نقله، أو يكون مرجوحا، ولو ثبتت القاعدة التي ادعاها ما أغنته شيئا، لأن جمع القلة المنكر قد استعمل في موضع جمع الكثرة في أفصح الكلام وأبلغه، وهو كتاب الله، قال تعالى في سورة لقمان: (27) ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ﴾ والمقام يقتضي استعمال جمع الكثرة، ومع ذلك عدل عنه إلى التعبير بجمع القلة، اكتفاء بالقرينة، هذا مع أن للقلم جمع كثرة على (قلام).



قال ابن منظور في لسان العرب، القلم: الذي يكتب به، والجمع أقلام وقلام، قال ابن بري: وجمع أقلام أقاليم، وأنشد ابن الأعرابي:



كأنني حين آتيها لتخبرني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما تبين لي شيئا بتكليم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



صحيفة كتبت سرا إلى رجل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لم يدر ما خط فيها بالأقاليم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





وقال أيضا في مادة: ط.ل.ح - وطلحة الطلحات، طلحة ابن عبيد الله بن خلف الخزاعي، ثم نقل عن ابن الأعرابي في طلحة هذا أنه، إنما سمي طلحة الطلحات بسبب أمه، وهي صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة، زاد الأزهري، ابن عبد مناف، قال وأخوها أيضا طلحة بن الحارث، فقد تكنفه هؤلاء الطلحات كما ترى، وقبره بسجستان، وفيه قال ابن قيس الرقيات:




رحم الله أعظما دفنوها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بسجستان طلحة الطلحات https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








قوله (أعظما) دفنوها، يريد عظام طلحة الطلحات المذكور، وهو من استعمال جمع القلة في موضع جمع الكثرة، لأن عظام الجسم كثيرة، وجمع القلة يدل على تسعة أو عشرة، فأين ما زعمه المعترض من أن جمع القلة إذا كان نكرة لا يستعمل في موضع جمع الكثرة.

وقال تعالى في سورة القيامة:(3) ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ فعبر بجمع الكثرة، لأن عظام الإنسان كثيرة، وعبر الشاعر بجمع القلة لوجود القرينة الدالة على أنه يريد الكثرة، فما يقول المعترض في هذه النصوص القاطعة؟ وهذه القواعد المحكمة؟



قوله (وكأنني بالدكتور) وقد قرأ هذا الاعتراض يلجأ إلى ثلاثة قروء. أقول في جوابه، أنا لا ألجأ إلى ثلاثة قروء، وإنما تلجأ إليها النساء وأشباههن من الرجال الذين يقاتلون من وراء جدر، وقد أقمت الدليل على بطلان ما ادعاه دون أن التجئ إلى ما توهمه.



4- قوله: فما معنى القنابل في اللغة العربية؟ أقول في جوابه:



جاء شقيق عارضاً رمحه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إن بني عمك فيهم رماح https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن قدمته نفسه دون غير https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رأى غيره التأخير ذاك التقدما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





أتظن أنه لا يعرف معنى القنابل والقنابر في الدنيا أحد غيرك، لقد كذبتك نفسك، أنا ما جاريت جهلة المترجمين، بل أنت جاريتهم، وأجلبت بخيلك العجاف، ورجلك الضعاف، لتصحيح أخطائهم، وتقف في طريق المصلحين الناصحين لقومهم، لتكتسب بذلك شهرة، وما نقلت عن أولئك المؤرخين، ولم تسم أحدا منهم من استعمالهم القنبر والقنابر بالراء – لا يساوي عند علماء اللغة جناح بعوضة، لأنهم ليسوا من العرب، وكلامهم ليس بحجة، فالعرب لم تعرف هذه الأشياء المتفجرة التي تسمى في هذا الزمان (قنابل) وليس من واجباتها أن تضع لها لفظا، بل ذلك من واجباتنا نحن، وأنت تعلم أنه ليس للمتكلمين بالعربية دائرة معارف، أو موسوعة كما يسمونها، متفق عليها تجمع شتات ما نحتاج إليه، إما أن نستعمل اللفظ الذي اصطلح عليه جماهير الكتاب والقراء، ليكون كلامنا مفهوما عند قرائنا، وإما أن يخترع كل واحد منا ما يعجبه من الألفاظ فلا يفهمه أحد سواه، فكأنه يكتب لنفسه، لا لقراء كتابة أو مجلته، ولا شك أن الصواب هو اختيار الطريق الأول.




وما المانع لنا أن نضع لفظ القَنْبَلة بفتح فسكون ففتح، الذي عبرت به العرب عن الطائفة من الناس ومن الخيل لما يسمى بالإنكليزية Bomb وبالفرنسيةBombe ولاسيما وقد شاع استعمال هذا اللفظ بين المتكلمين بالعربية من عرب وغيرهم، فيكون بالنسبة إلى أهل زماننا يدل على المعنيين كليهما؟ وما الذي يجعل لفظ (القنبر) أولى بالتعبير من القنبلة والقنبل، هل عندك شاهد من القرآن أو من كلام العرب الذين يحتج بكلامهم على صحة ما زعمت؟ أما القنبر في لغة العرب فدونكم معناه أيها القراء الأعزاء، قال ابن منظور في لسان العرب: والقبر والقبرة، والقنبر والقنبرة والقنبراء: طائر يشبه الحمرة، الجوهري القبرة واحدة القبر، وهو ضرب من الطير قال طرفة وهو يصطاد هذا الطير في صباه:



يالك من قبرة بمعمر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

خلا لك الجو فبيضي واصفري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ونقري ما شئت أن تنقري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قد ذهب الصياد عنك فابشري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








لا بد من أخذك يوما فاحذري

ومثله باختصار في القاموس وفي حياة الحيوان للدميري ما نصه: القبرة، بضم القاف وتشديد الباء الموحدة، واحدة القبر، قال الجوهري: وقد جاء في الشعر (قنبرة) كما تقوله العامة، وقال البطليوسي في، أدب الكاتب، وقنبرة أيضا بإثبات النون، قال وهي لغة فصيحة، وهو ضرب من الطير يشبه الحمر، وكنية الذكر منه أبو صابر، وأبو الهيثم، والأنثى، أم العلعل، وأنشد أبيات طرفة المتقدمة، اهـ.



فظهر مما تقدم أن استعمال القنبر فيما يسميه الأوربيونBomb ليس من اللغة العربية في قبيل ولا ديبر:

أقول لك أيها المعترض الكريم: إن احتجاجك بكلام غير العرب باطل، فالكلمة التي نبحث فيها لم تسمها العرب، لا قنبرة ولا قنبلة، ولنا أن نصطلح على تسميتها بما نشاء وليس ما يشتهيه بعضنا حجة على غيره، وأنا لا أعيب على المترجمين إلا خطأهم فيما عرفته العرب وتكلمت به، ومنعهم جهلهم من معرفته، فعبروا عنه بعبارات فاسدة، لا مستند لها، أما آلاف المحدثات من الأجرام والأعمال والآلات والمكتشفات فلا أتعرض لها، إذ لا يستطيع أن ينشرها إلا جماعة من العلماء اللغويين تنتخبهم الأمة العربية وتتلقى ما يضعونه من الكلمات بالقبول والاستعمال، ولا يستطيع شخص واحد أن يقوم بهذا العمل، فدع المغالطة واستقم، واقتصر على هذا القدر، وموعدنا الجزء التالي إن شاء الله.





ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:38 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (15)

د. محمد تقي الدين الهلالي

تقويم اللسانين مستقيم


وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (2)



1- قال المعترض الفاضل والناقد العادل: وقال (وعمت الفوضى في الإنشاء العربي) فما هذه الفوضى؟ ومن استعملها هذا الاستعمال من فصحاء الأمة العربية؟ إنها من استعمال جهلة المترجمين الذين عاب عليهم الدكتور استعمالهم كلمات عربية في غير مواضعها، إنها ترجمة كلمة Anarchi.

قال الأب بلو Belot في ترجمتها: عدم الحكم في الشعب، أمر فوضى، فالرجل على كونه غير عربي، استعمل الفوضى، صفة لا اسما كما استعملها الدكتور، فالفوضى صفة كالشتى، فالصواب، وعمت الحال الفوضى، وكأني بالدكتور يقول قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة اسما، فنقول له، ليست هذه بقاعدة مطردة وأنت تدعو إلى اتباع كلام الفصحاء وأقوالهم، وهذا ليس بذاك ولا هناك، ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق، فنقول: إن الفوضى أصلها (الفضى) كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقة تفريقا ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى، فالفوضى جمع كالشتى، تستعمل للجمع أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان فكيف يجوز استعمالها اسما جامدا مع لزوم الوصفية الجمعية لها، اهـ.

قال محمد تقي الدين: أيها المعترض الكريم، متى اصطفاك فصحاء الأمة العربية نقيبا لهم، وفوضوا إليك أمر النقض والإبرام في الفصيح من لغتهم وغير الفصيح؟ لقد ارتقيت مرتقا صعبا، وطرت في غير مطارك، وأخاف عليك السقوط، إن ميزان الفصاحة ليس هو فهمك ولا ذوقك، وإنما هو قواعد وضعها الأئمة يرجع إليها ويعتمد في النقد عليها، وسأضع نقدك في الميزان، ليرى القراء، أيثقل، فتكون من المفلحين، أم يخف، فتكون من الخاسرين.

وسنرى هل استعمالي لهذه الكلمة من استعمال جهلة المترجمين، أم نقدك أنت ينتمي إلى جهلة المنتقدين، أنا لم آخذ هذه الكلمة من معاجم آبائك الأجانب، لا من معجم بلو ولا من معجم غيره، وإنما أخذتها من كلام العرب الأقحاح، ومعاذ الله أن أكون في لغة قومي عالة على الأجانب، فاسمع ما يقوله أئمة اللغة العربية. قال ابن منظور في لسان العرب في مادة ف وض ما نصه، وقوم فوضى، مختلطون، وقيل هم الذين لا أمير لهم ولا من يجمعهم، قال الأفوه الأودي:
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا سراة إذا جهالهم سادوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وصار الناس فوضى، أي متفرقين، وهو جماعة الفائض، ولا يفرد كما يفرد الواحد من المتفرقين، والوحش فوضى، متفرقة تتردد، اهـ. ومثله في القاموس للفيروزأبادي في مادة: ف و ض، ثم قرأت مادة: ف ض ض، في القاموس فلم أجد فيها أثرا لما زعمه المعترض من أن أصل الفوضى، فضى، كشتى وشتيت، ولم يذكر للفوضى مفردا ومقتضى كلامه أن يكون فضيضا، وذلك ضل بتضلال.

فالفوضى من مادة: ف و ض، ومفردها (فائض) كما تقدم من كلام لسان العرب، ومن المعلوم أن الهمزة في فائض منقلبة عن واو، قوله: كأني بالدكتور يقول.قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة اسما. الخ، هذا كلام رجل لم يدرس علم النحو فهو يخبط خبط عشواء، أو كلما حذفنا الموصوف وجب علينا أن نتخذ الصفة اسما؟ من قال هذا من أئمة النحو؟ فهل درست ألفية ابن مالك أو ما يساويها من كتب النحو؟ الظاهر أنك لم تدرس شيئا من ذلك، فكيف تتصدر وتنصب نفسك حكما وإماما في علوم الأدب، وأنت لا تعرف ما في الألفية، يقول ابن مالك:
وما من المنعوت، والنعت عقل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يجوز حذفه، وفي النعت يقل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قال ابن عقيل في شرحه: وهو أسهل شروح الألفية في شرح البيت السابق، يجوز حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إذا دل عليه دليل، نحو قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ أي دروعا سابغات، وكذلك يحذف النعت إذا دل عليه دليل، لكنه قليل، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ أي البين، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي الناجين، انتهى.

وقال الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك، الشرح ممزوج بالمتن ما نصه: (وما من المنعوت والنعت عقل) أي علم (يجوز حذفه) ويكثر ذلك في المنعوت وفي (النعت يقل) فالأول شرطه، أما كون النعت صالحا لمباشرة العامل نحو ﴿أن اعمل سابغات﴾ أي دروعا سابغات، أو كون المنعوت بعض اسم مخفوض بمن أو في، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، وقوله:
لو قلت ما في قومها لم تيثم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يفضلها في حسب ومسيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أصله لو قلت: ما في قومها أحد يفضلها لم تأثم، فحذف الموصوف وهو أحد، وكسر حرف المضارعة من تأثم، وأبدل الهمزة ياء، وقدم جواب لو فاصلا بين الخبر المتقدم، وهو الجار والمجرور والمبتدأ المؤخر وهو أحد المحذوف، فإن لم يصلح ولم يكن المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أو في، امتنع ذلك، أي إقامة الجملة وشبهها مقامه الأصلي إلا في الضرورة كقوله:
لكم قبضة من بين أثرى وأقترا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ترمي بكفي كان من أرمى البشر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقوله:

كأنك من جمال بني أقيش https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يقعقع بين رجليه بشن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



انتهى.

فظهر مما نقلته من كلام النحويين أنه يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، بشرط أن تصلح الصفة التي حذف موصوفها لمباشرة العامل، بأن لا تكون جملة ولا شبه جملة، مع كون الموصوف فاعلا أو مفعولا أو مجرورا أو مبتدأ، لأن الجملة لا تصلح لذلك، قاله الخضري في حاشيته على ابن عقيل.

وهذا الشرط ينطبق أتم الانطباق على عبارتي التي انتقدها المعترض جهلا وتهورا، فإننا نقول عمت الفوضى، أي الأحوال الفوضى، لا الحال كما قدره المعترض، لأن الحال مفرد والفوضى صفة للجمع كما تقدم في كلام لسان العرب، وهو كقوله تعالى في سورة سبأ: (10-11) ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ يخبر الله تعالى أنه ألان الحديد، أي جعله لينا لداود قائلا له، اعمل دروعا واسعات ففي كلامه حذفت الأحوال وهي(فاعل) وأقيمت صفتها مقامها، وفي كلام العلي العظيم: حذفت (دروعا) وهي مفعول به، وأقيمت سابغات مقامها، وحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه يقال فيه، حدث عن البحر ولا حرج يستعمله الناس كل يوم في كتاباتهم وكلامهم بالعربية الفصحى وبالعامية، ولا يكاد أحد يستغنى عن استعماله، قال الله تعالى في سورة المائدة: (38) ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي الرجل السارق والمرأة السارقة.

وقال تعالى في أول سورة النور: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي الرجل الزاني لا ينكح إلا امرأة زانية، أو امرأة مشركة، وقال تعالى في سورة البقرة: (280) ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي إن وجد شخص مدين ذو عسرة لا يجد ما يؤدي به دينه، فلا تضيقوا عليه وأمهلوه إلى أن يتيسر له قضاؤه.

فكيف يزعم هذا المعترض المتخبط أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ليس من كلام الفصحاء، يا هادي الطريق ضللت:
يا أيها الرجل المعلم غيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هلا لنفسك كان ذا التعليم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كيما يصح به وأنت سقيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أما إذا كانت الصفة جملة أو شبه جملة، فيشترط لحذف الموصوف بها أن يكون بعض اسم مجرور (بمن أو في) مثال المجرور بمن، قول العرب منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن، أي سافر، ومنا فريق أقام، ففريق الذي هو موصوف محذوف وهو بعض ما يدل عليه الضمير (نا) المجرور بمن، ومثال المجرور (بفي) قولهم، فينا سلم، وفينا هلك أي فينا فريق سلم وفريق هلك، وفيما سوى ذلك لا يجوز الحذف، قوله (لو قلت ما في قومها) البيت، قاله أبو الأسود الحماني يصف المرأة بالحسب والجمال. والموصوف المحذوف هنا تقديره (أحد) أي لو قلت أيها المعجب بها بجمالها وكمالها، ما في قومها أحد من النساء في الحسب، وهو مفاخر الآباء والميسم، بكسر الميم، وهو الجمال لم تأثم، لأنك صادق في قولك، والمحذوف هنا وهو (أحد) بعض اسم مجرور بـ(في).

قوله (لكم قبصة) البيت، وصدره، لكم مسجدا الله المزوران والحصى والحصى: العدد الكثير، وقِبصة بكسر القاف أيضا العدد الكثير من الناس، والشاهد في قوله من بين أثرى، والتقدير من بين رجل أثري، أي كثر ماله، ورجل أقتر أي قل ماله، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، مع أن الموصوف ليس بعض اسم مجرور بمن أو في لضرورة الشعر.

أقول: إن كانت القصيدة التي مدح بها الكميت بني أمية كلها مثل هذا البيت، ولم يعاتبوه عليها، فإنهم كانوا حلماء.

لأن البيت ركيك.

وقوله (ترمى بكفى) البيت، التقدير، ترمى بكفى رجل كان من أرمى البشر، فحذف الموصوف وهو (رجل) وأقام الصفة مقامه، وهي جملة كان، وإنما فعل ذلك للضرورة كالذي قبله.

قوله (كأنك من جمال بني أقيش) البيت، بنو أقيش بصيغة التصغير حي من العرب، وزعم بعضهم أنهم حي من الجن، وإبلهم وحشية شديدة النفور، وزعموا أنها كانت هي أيضا من الجن، والشن القربة اليابسة، ويقعقع يصوت، وجمال هذه القبيلة تنفر بدون سبب، فكيف إذا صوت مصوت بين أرجلها بضربه قربة يابسة، وأراد الشاعر ذم المهجو ووصفه بسرعة الغضب. والشاهد في حذف الموصوف للضرورة، والتقدير كأنك جمل من جمال بني أقيش، فإن قلت، وما الذي يضطرنا إلى تقدير هذا الموصوف، مع أن الكلام يتم بدونه، أقول، لو لم نقدره لم يكن في البيت ما يعود عليه ضمير رجليه، ولا بد له من شيء يعود عليه أيها المعترض الكريم. أظنك أدركت زمان الإمام العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، رحمه الله، ولم تكن من تلاميذه، بل حرمت الاستفادة من بحر علمه الغزير، ولم يصحبك التوفيق الذي صحب تلامذته، كالأستاذ محمد بهجة الأثري، وشاعر العرب معروف الرصافي وغيرهما، ولو أنك كنت من تلامذته لم تهد إلينا هذا الهذيان، متوهما أنه جواهر البيان.

وقول المعترض: إن الفوضى، أصلها الفضى، كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقه تفريقا، ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى فالفوضى جمع كالشتى، الخ.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:38 AM

رد: تقويم اللسانين
 
إن كان جمعا فما هو مفرده؟ على مقتضى زعمك يكون مفرده فضيضا، فإن كنت ناقلا فعليك بتصحيح النقل، فإني لم أجد في كتب اللغة أحدا أشار إلى شيء مما ذكرت، وقد تقدم أنه من مادة (ف و ض) وإن كنت مخترعا لهذا الاشتقاق الفاسد، وظننت أنك تستطيع أن تروجه على قراء دعوة الحق أجمعين، فقد بلغ بك الغرور كل مبلغ.

واعلم أيها القارئ العزيز، أنني لم أستفد لفظ الفوضى من كلام المترجمين الجاهلين أو العالمين كما هو شأن المعترض الذي اتخذ القسيس (انسطاس الكرملي) إماما معصوما في علوم اللغة العربية، ولم يأت علومها من أبوابها كما فعل غيره من أدباء العراق النبلاء، فكأن الشاعر عناه بقوله:
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضللت، وإن تدخل من الباب تهتد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وإنما أخذت ذلك اللفظ من شعر الأفوه الأودي أنشده بعض المؤلفين في علم العروض فقال:
لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والبيت لا يبتني إلا بأعمدة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإن تجمع أوتاد وأعمدة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا سراة إذا جهالهم سادوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا عمود إذا لم ترس أوتاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وليت شعري، ما معنى قوله: ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق؟ ما المراد بهذا أهو لفظ الفوضى؟، أم حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها؟ وأيهما قصده لم يكن لكلامه معنى.

وقوله: فالفوضى، جمع كالشتى، تستعمل للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، الخ أما كونها صفة جمع، فمسلم، ولكن إذا عرف ذلك، فكيف قدر موصوفها مفردا في تصحيحه الفاسد؟

بقوله فالصواب: وعمت الحال الفوضى؟
يصيب وما يدري ويخطي وما درى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكيف يكون النوك إلا كذلك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ثم إن ادعاءه أن هذا اللفظ يكون صفة للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان مفردا، من أين علم أنه يكون صفة لما يمكن أن يتجزأ وإن كان مفردا، وما هو هذا الشيء الذي يتجزأ وهو مفرد، أهو جنة تتجزأ إلى أشجار؟ فنقول شجرة من جنة، أم روضة تتجزأ إلى أزهار؟ فنقول: زهرة من روضة، أم ماذا؟، وهل هذا الادعاء نقل أو اختراع؟ فإن كان نقلا فليصححه بأن ينسبه إلى قائله من الأئمة، وإن كان اختراعا فهو من تخيلاته الفاسدة ونيات غيره، فلا يساوي قلامة ظفر عند المحققين.

ثم أقول له، والحال التي قدرتها محذوفة وجعلت الفوضى صفة لها والأمر الذي نقلته من كلام أبيك (بلو) الفرنسي وأعجبت به كل الإعجاب، هل هما من المفرد الذي يتجزأ؟ فكيف تجزئهما؟

أثلاثا أم أرباعا أم أخماسا، أو أجزاء لا يعرف عددها؟ هل فكرت في هذا الأمر قبل أن تكتبه وترسله من بغداد إلى الرباط هدية ثمينة إلى أدباء المغرب وأدباء العالم؟ ما أخال أن أدباء العراق يرضون بخطتك هذه، ويعتبرونها شيئا مشرفا، وقد يعتبرونك كبراقش التي كانت تجني على أهلها، ونحن ننزه أدباء العراق المحققين عن مثل هذه السفاسف المرتجلة.

ثم إن تمثيل الإمام ابن عقيل لحذف النعت أي الصفة بقوله تعالى في سورة البقرة: (71) ﴿قالوا، الآن جئت بالحق﴾ أي البين، فحذفت الصفة وهي البين، تمثيل غير صحيح، لأن موسى قال لهم ﴿إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا، قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ فلم يكن بنو إسرائيل يعتقدون أن موسى أجابهم في أول الأمر بالحق المبهم، وفي آخر الأمر بالحق البين، بل ظنوا أنه يتخذهم هزؤا، وفهم موسى ذلك من كلامهم، فاستعاذ بالله منه، وعده من الجهل وهو السفه.

وكذلك تمثيله بقوله تعالى في سورة هود (46) ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي الناجين، لا حاجة إلى تقدير هذا النعت، لأن نوحا عليه السلام حين قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ لم يرد بذلك أن يخبر أن الابن الهالك من ذريته، وإنما أراد أن يقول، إنه من أهله الذين يستحقون الرحمة والعفو لقربه من رسول الله نوح أحد أولي العزم، فأخبره الله أن ذلك الابن ليس من المؤمنين بما جاء به أبوه، فلا يستحق النجاة ولا الرحمة بالقرابة المجردة، فإنها لا قيمة لها عند الله، قال تعالى في سورة الطور: (21) ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.

وقال تعالى في سورة الأنعام بعد ذكر الرسل: (87-88) ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فمن أشرك من ذرية الرسل حبط عمله واستحق الخلود في العذاب، ولم تغن عنه قرابته من الرسول شيئا، والصواب ما مثَّل به الأشموني حيث قال والثاني كقوله تعالى: (18-79) ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ أي كل سفينة صالحة، وقوله:

فلـم أعـط شيئا ولـم أمنع

أي شيئا طائلا وقوله:
ورب أسيلة الخدين بكر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مهفهفة لها فرع وجيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أي فرع فاحم، وجيد طويل.

2- قال المعترض، وقال (ربما استعمله بعض كبار الأساتذة الذين يرجى منهم المحافظة على صحة الاستعمال، أراد بالبعض هنا غير واحد منهم، مع أن (بعض) لم تكرر في الجملة حتى تدل على غير الواحد فالمكررة كالقول الذي قاله الدكتور في نقده هذا (تحدث بعضهم إلى بعض) وكما في الآية الكريمة التي اتخذها شاهدا وهي (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) فإذا لم تكرر، وكان المضاف إليه الذي أضيفت ذا أجزاء منفصلة) أو ممكن فصلها دلت على واحد أو واحدة.

أقول في جوابه بالعامية العراقية (ياباه شاباش) وبالعامية المصرية (عفارم) ما هذا العلم الغزير، والتحقيق البديع؟ والآن أضع في الميزان هذا النقد، ليعرف القراء الأعزاء قيمته.

ادعى المعترض أن لفظ (بعض) إذا كرر دل على أكثر من واحد، وإذا لم يكرر، وكان المضاف إليه ذا أجزاء منفصلة، أو ممكن فصلها دل على واحد أو واحدة، أقول من وضع هذه القاعدة؟ إن كنت ناقلاً، فلم لم تَعْزُ ما نقلت إلى قائله وتذكر فيه الخلاف أو الإجماع إن كنت من المحققين كما تزعم، وإن كنت مخترعا، ما أنت علي، ولا أبو الأسود، ولا الخليل ولا سيبويه، ولا من هو دونهم من النحاة واللغويين، فما تضعه من القواعد هوس لا قيمة له، وما أحسن ما قال بعضهم في أمثالك:
تصدر للتدريس كل مهوس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لقد هزلت حتى بدا من هزالها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سفيه يسمى بالفقيه المدرس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ببيت قديم شاع في كل مجلس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كلاها وحتى سامها كل مفلس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



اسمع ما يقوله الأئمة في (بعض) قال ابن منظور في لسان العرب (بعض) الشيء، طائفة منه، والجمع أبعاض، قال ابن سيدة، حكاه ابن جني، فلا أدري أهو تسمح أم هو شيء رواه، واستعمل الزجاجي (بعضا) بالألف واللام فقال: وإنما قلنا البعض والكل مجازا، وعلى استعمال الجماعة له مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز، يعني أن هذا الاسم لا ينفصل عن الإضافة، قال أبو حاتم: قلت للأصمعي، رأيت في كتاب ابن المقفع: العلم كثير، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل، فأنكره أشد الإنكار وقال الألف واللام لا يدخلان في (بعض وكل).

ومضى إلى أن قال وقوله تعالى: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ بالتأنيث في قراءة من قرأ به، فإنه أنث، لأن بعض السيارة سيارة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع يكون اصبعا وأصبعين وأصابع، اهـ.

تأمل قول ابن منظور في بيان قول العرب، ذهبت بعض أصابعه لأن بعض الأصابع، يكون أصبعا وأصبعين وأصابع، وكذلك (بعض الأساتذة) يكون أستاذا وأستاذين وأساتذة ولا فرق، فبطل بذلك ما زعمه المعترض من أن (بعضا) إذا لم يكرر يدل على واحد أو واحدة فقط.

قوله: وشاهدنا كتاب الله العزيز ففيه: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ الخ أقول: نعم الشاهد كتاب الله. ولا حجة لك فيه، لأن لفظ (بعض) مذكر ومفرد، والضمير يعود عليه مفردا حسب لفظه، فليس فيه دليل على ما زعمت، لأننا نقول كما قال ابن منظور: إن (بعضا) إذا أضيف إلى جمع يدل على واحد أو اثنين أو أكثر، فنحن لا ننكر أنه يدل على واحد في بعض الأحيان، ولكننا ننكر ما ادعيت من أنه لا يدل إلا على واحد أو واحدة بالشرط الذي ذكرته من مخترعاتك.

وقوله: ولولا أنزل على بعض الأعجمين فقرأه، أيها المعترض المسكين لقد استهدفت ونصبت نفسك للرماح دريته، نحن نعلم أن الله حرمك من حفظ القرآن ولكنه لم يحرمك من مصحف يوجد في خزانة كتبك فهلا راجعته قبل أن تحرف كتاب الله وتغيره، ففي أي سورة وجدت هذا اللفظ؟ وفي أي آية؟ لقد خانتك ذاكرتك الواهمة وأظنك تريد قوله تعالى في سورة الشعراء (198-199) ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وغاية ما في الآيتين أن (بعض) هنا تدل على واحد، وأنا لا أنكره، ولا حجة لك فيه، وكذلك يقال في آية التحريم وأما قول الشاعر:
ولانت تفرى ما خلقت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبعض القوم يخلق ثم لايفرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فلا أسلم أن (بعض) هنا تدل على واحد فقط، والقرينة والواقع يحتمان أنه يدل على أكثر من واحد، أما الواقع، فإن الذين يرسمون الخطط لعمل من الأعمال، ويعزمون على تنفيذها فريقان فريق ذوو عزائم ماضية وهمم عالية، ينفذون كل ما رسموا له خطة، وفريق ذوو عزائم واهية، وهمم سافلة، يقولون ما لا يفعلون ويعزمون على مالا ينفذون، ولا يمكن أن ينحصروا في واحد.

وأما القرينة، فإن الشاعر يريد أن ممدوحه من ذوي الهمم العالية الذين إذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا أنجزوا، وكثير من الناس تقصر هممهم عن التخلق بهذا الخلق، وعلى تأويل المعترض، يكون الناس كلهم ينجزون وعودهم ويوفون بعهودهم، وينفذون ما رسموا من الخطط إلا واحدا، فلا يكون فيه مدح، وقد ظهر أن هذا البيت حجة عليه ولا له.

وأما بيت أبي دلامة وبيت بشار، فمع تسليمي لدلالة (بعض) فيهما على واحد أقول: لا حجة في كلام أحد من المولدين، وبشار بن برد كان مجوسيا عجميا، كان يزمزم على الطعام قبل أن يظهر إسلامه، ومع ذلك هو من فحول الشعراء المحدثين، ولا حجة في كلامه.

أما قول لبيد: أو يعتلق بعض النفوس حمامها.

فقد اختلفوا في دلالة (بعض) هنا، والصحيح أنها تدل على واحد، ولا حجة للمعترض فيه، لأن الخلاف بيني وبينه ليس في صحة دلالتها على واحد، وقال تعالى في سورة الزخرف: (63) ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ، قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾.

قال الراغب في غريب القرآن: قال أبو عبيدة: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ أي كل الذي كقول الشاعر:
أو يرتبـط بعض النفوس حمامهـــا

وفي قوله هذا قصور نظر منه، وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب: ضرب في بيانه مفسدة، فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه، كوقت القيامة، ووقت الموت، وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه. ألا ترى أنه كيف أحال معرفته على العقول في نحو قوله: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ وغير ذلك من الآيات وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه، وضرب يمكن الوقوف عليه بما بينه صاحب الشرع كفروع الأحكام.

وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسبما يقتضي اجتهاده وحكمته، فإذن قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ لم يرد به كل ذلك، وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه، اهـ. قال محمد تقي الدين: قول الراغب (ضرب في بيانه مفسدة) الخ خطأه لأن صاحب الشريعة لا يعرف وقت القيامة لقوله تعالى في سورة الأعراف: (187) ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ وقوله سبحانه في سورة لقمان: (34) ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.

وقوله (وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه) الخ، جرى في ذلك على مذهبه الاعتزالي أن العقل وحده كاف لمعرفة الله، والحق أن العقل وحده لا يكفى في ذلك، فلا بد من بيان الرسل، وسائر كلامه لا إشكال فيه.

وعلى ما زعمه المعترض يكون معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ ولأبين لكم مسألة واحدة من الذي تختلفون فيه، وكفى بقول يفضي إلى هذا فسادا، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة آل عمران: (50) ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قال القنوجي في: فتح البيان، عن الربيع قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى، لحوم الإبل والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك وفي أشياء من الصيد، وفي أشياء أخر حرمها عليهم، وشدد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، اهـ.

فعلى قول المعترض لا يمكن أن يحل عيسى لبني إسرائيل إلا شيئا واحدا، وقد أحل لهم أشياء عديدة كما رأيت أيها القارئ الكريم، وهذه نصوص القرآن التي زعم أنها تنصره، فإذا بها تخذله لأنه ليس من أهل القرآن، لا حفظا ولا عملا وإيمانا، فإن القرآن يقول في سورة البقرة: (185) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهو يأكل ويشرب في رمضان جهارا على أعين الناس، وهو شاهد غير مسافر، والقرآن يقول في غير ما آية: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة ويحتج علي بنصوص الفقه في مسألة لغوية لا علاقة لها بالفقه. والمبتدئون من تلاميذ الأدب، فكيف بالعلماء يعلمون أن أقوال الفقهاء ليست حجة في اللغة، وهل سمعتم بفقيه لا يصلى ولا يصوم، ورأسه منذ عشرين سنة أبيض كالثغامة، يسوء الغانيات إذا رأينه؟ هذا آخر هذا المقال وموعدنا الجزء التالي بحول الله وقوته.






ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:40 AM

رد: تقويم اللسانين
 
تقويم اللسانين (16)

د. محمد تقي الدين الهلالي

تقويم اللسانين مستقيم


وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (3)




قال المعترض: وقال (فإن من كان عالما بالنحو في أي لغة كانت يتخذه مصباحا) وهذا التعبير كان أولى من غيره بتقويم اللسان، فإن مراده، من كان عالما بنحو لغة من اللغات يتخذه مصباحا، فاستعمل (أيا) هذا الاستعمال الغريب، وظن أن الضمير في (كان) يعود إلى اللغة، فألحق به تاء التأنيث، مع أن الفعل ينبغي أن يكون للعلم المفهوم من اسم الفاعل. وبيان ذلك من كان عالما بنحو لغة كائنا ما كان هذا العلم بالنحو، فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة أي لغة كانت) فالفعل الذي يأتي بعد (أي) يعود ضميره إلى الاسم الذي قبلها وهذه أدنى مراتب الصحة أو دنياها، اهـ.



أقول: هذا كلام رجل يجادل بالباطل ليدحض به الحق، قد شوى الحسد قلبه، وأغصه بريقه، فأراد أن يهدم ما بينته، ويفسد ما أصلحته "﴿ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 82]".



قولي: في (أي) لغة كانت، جار ومجرور، في محل نصب متعلق بمحذوف حال من النحو، وكانت فعل تام، وفاعله ضمير مستترا جوازا تقديره، هي يعود على اللغة، وهذه الجملة في محل جر صفة للغة، وهذا كلام مستقيم لا إشكال فيه.



وقوله: فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة، أي لغة كانت) أنا لم أرد العلم باللغة، وإنما أردت العلم بنحوها ولو أردت العلم بها لما وجب تقديم الموصوف مذكورا، فقد تقدم ما يشفي العليل ويروي الغليل في جواز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، وتقدمت الشواهد على ذلك، فمعنى كلامي من كان عالما بالنحو في أي لغة كيفما كانت، وهو واضح لكل ذي قلب سليم، وفهم غير سقيم.



1- قال المعترض، وقال (ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك) فكيف نصل (إلى غير ذلك) بالجملة، وهي لا تحتاج إلى (إلى) التي هي منتهى لابتداء الغاية، فلو قال (من ضوئها ودفئها إلى غير ذلك) لصح التعبير، فالصواب، العطف (غير ذلك) فتكون الجملة بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، اهـ.



أقول: لقد طاش سهمك في هذه أيضا، ومن قال لك إن (إلى) محصورة في انتهاء الغاية ولو درست كتابا من كتب النحو المتوسطة لعرفت أن لها معاني أخرى غير انتهاء الغاية فدونك ما قاله الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك في معاني (إلى) لتعلم أن ريحك لاقت إعصارا، وأن الحق لا يعدم أنصارا.



قال الأشموني:

وأما (إلى) فلها ثمانية معان:

الأول: انتهاء الغاية مطلقا كما تقدم.



الثاني: المصاحبة، نحو: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [النساء: 2].



الثالث: التبيين، وهي المبنية لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾.



الرابع: موافقة اللام نحو: ﴿ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ ﴾ وقيل لانتهاء الغاية، أي منته إليك.



الخامس: موافقة في، نحو: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ وقوله:



فلا تتركني بالوعيد كأنني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلى الناس مطلي به القار أجرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






السادس: موافقة مِنْ كقوله:



تقول وقد عاليت بالكور فوقها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أيسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






السابع: موافقة عند كقوله:



أم لا سبيل إلى الشباب وذكره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أشهى إلي من الرحيق السلسل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






الثامن: التوكيد، وهي الزائدة، أثبت ذلك الفراء مستدلا بقراءة بعضهم ﴿ أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ بفتح الواو، وخرجت على تضمين تهوى معنى تميل، اهـ.



قال ابن منظور في لسان العرب:

وتكون (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [النساء: 2]معناه مع أموالكم، وكقولهم، الذود إلى الذود إبل، وقال الله عز وجل: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 52] أي مع الله وقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ [البقرة: 14] اهـ.



فظهر أن استعمالي (لإلى) بمعنى (مع) صحيح مستقيم، وأن انتقاد المعترض سقيم.



2- قال المعترض: وقال (ورنفت صفو زلاله المعين مما يسوء كل طالب علم) فمن هنا للبيان والتفسير فكيف يكون الزلال لمعين مما يسيء كل طالب علم، وإذا عددناها للتعليل يكون ترنيق الصفو بسبب ما يسوء كل طالب علم وهو غير مراد الكاتب، فالصواب وذلك مما يسوء كل طالب علم على الابتداء والإخبار، اهـ.



أقول: لم أقصد (بمن) بيانا ولا تعليلا، وإنما قصدت أن ترنيق الصفو مما يسوء كل طالب علم، إلخ، فهي هنا للتبعيض، والمبتدأ محذوف، التقدير: وهو أي الترنيق، مما يسوء إلخ، وهكذا يفهم أولو الألباب أجمعون، وإنما حمله على التخطئة والتصويب ابتغاء العيوب وإلصاقها بالبراء، شأن كل مريب.



3- قال المعترض: وقال في الكاف التي سماها استعمارية (وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب) أراد (لم تعرفه العرب) وإلا فإن العرب عارفة به، فالمراد نفي الماضي لا المستقبل، جاء في الصحاح (لا) حرف نفي لقولك، يفعل، لم يقع الفعل، إذا قال: هو يفعل غدا، قلت، لا يفعل غدا ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت، أو عوض عن تكرارها، وليس هذا موضع الجدال، لأن الفعل في الجملة المنقودة مضارع جعلته (لا) للاستقبال مع أن المراد نفي معرفة العرب قديما، اهـ.



أقول: من الشائع الذائع في كتب النحاة وعلى ألسنتهم، العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، فهل معناه، لن تبدأ ولن تقف، بل المراد أنه ليس من عادتها ولا من شأنها أن تفعل ذلك، فالمعنى غير مقيد بالمعنى، ولو قلنا، لم تبدأ ولم تقف لم يحصل المراد، وكلام الصحاح قد ساء فهم المعترض له، فإن قوله (لا يفعل غدا) لا يدل على أن (لا) هي التي عينت الفعل للاستقبال، بل القرينة (غدا) هي التي عينته له قال ابن بونا في ألفيته:



واجعل في الاستقبال الأمر واقعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقل به والحال فيما ضارعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






قال الناظم نفسه في شرح هذا البيت، أي المضارع، ولو (نفى) بلا خلافا لمن خصصها بالمستقبل، ومن وروده مع (لا) للحال قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾، اهـ.



فهذه حكاية حال ماضية، وهي تحكى بالمضارع كما رأيت شاهده في كتاب الله، ولكن فهم المعترض منحصر في دائرة ضيقة لقلة علمه، ولأنه لم يأت البيوت من أبوابها.



قال ابن منظور في لسان العرب في الكلام على (لا) ما نصه:

قال الليث، العرب تطرح (لا) وهي منوية كقولك: والله أضربك، تريد والله لا أضربك، وأنشد:



واليت آسى على هالك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأسأل نائحة ما لها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






فقول الليث وهو من أئمة اللغة: والعرب تطرح (لا) هو كقولي أنا (لا تعرفه العرب) إلا أن الفعل في كلامه مثبت، وهو في كلامي منفي (بلا) وقد تقدم أن (لا) لا تعينه للاستقبال، فبطل كلام المعترض، وقال ابن منظور أيضا، التهذيب، قال الفراء، والعرب تجعل (لا) صلة إذا اتصلت بحرف قبلها، وقال الشاعر:



ما كان يرضى رسول الله دينهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والأطيبان أبوبكر ولا عمر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ومثل هذا في أقوال أئمة اللغة كثير.



وقوله:(وإلا فإن العرب عارفة به) من أعجب العجب، هل يستطيع أن يأتينا بدليل على أن العرب كانت تعرف الكاف الاستعمارية وتستعملها في كلامها؟ فأنا أتحداه أن يأتي بشاهد واحد عن العرب، بل لا يستطيع أن يأتي بدليل من كلام المولدين الذين جاءوا بعد العرب ولا يجده أبدا قبل هذا الزمان النحس، زمان الاستعمار المادي والسياسي واللغوي، والذي يؤسفني أن هذا المعترض يعلم يقينا أن هذه الكاف هي ترجمة Comme بالفرنسية، وAS بالإنكليزية وAIS بالجرمانية، وأن هذه الكلمات تأتي في هذه اللغات قبل الحال، وقد تأتي قبل غيرها، وتأتي للتشبيه أيضا، فاستعملها جهلة المترجمين استعمالا فاسدا، وهو يعلم فساده، ويجادل بالباطل عمدا ليغمط غيره ويبخسه حقه، وينصب لنفسه عرشا يجلس عليه، ولم يدر أن من أم أن يرتفع بالباطل خفضه الحق، ولو أنه لم يجادل إلا فيما لا يعرفه، وقصر عنه فهمه لهان الخطب وما أحسن ما قال ذو الأصبع العدواني:



الله يعلمني والله يعلمكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والله يجزيكم عني ويجزيني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






قوله (ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت) باطل، فقد جاء الفعل الماضي في كلام العرب منفيا (بلا) غير متكررة، قال الشاعر:



ردوا فو الله لا ذرناكم أبدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مادام في مائنا ورد لوراد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






قال العلامة المحقق أحمد بن أمين الشنقيطي العلوي في الدرر اللوامع شرح شواهد همع الهوامع للسيوطي بعد إيراد البيت المتقدم استشهد به على تعيين لماضي المنفي (بلا) للاستقبال، ذدناكم، كففناكم، وهو بالذال لا بالزاي، ولم أعثر على قائله، اهـ.



واستشهد به أيضا على ذلك ابن بونا في حاشية ألفيته، واعلم أيها القارئ الكريم أن المضارع في كلام العرب يأتي بمعنى الماضي في مواضع، وأن الماضي يأتي للحال وللاستقبال بشروط وقرائن ذكرها السيوطي في همع الهوامع شرح جمع الجوامع له، وذكرها ابن بونا في ألفيته، وأظن أن المعترض لم يسمع بهذين الكتابين، فضلا عن أن يدرسهما، وحسبه ما كتبه إمامه القسيس (انسطاس الكرملي) والقسيس بلو الفرنسي، فبهما يصول ويجول ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾.



4- قال المعترض: وقال (بين غث وسمين، وكدر معين) ظانا أن المعين هو الصافي والرائق مع أنه الجاري، وقد يكون الجاري رائقا أو كدرا بحسب أرضه وجريته ومنبعه وعينه وما يحدث فيه، اهـ.



أقول، صدق المعترض، فإن المعين هو الذي تراه العين، كما قال البيضاوي، وهو الماء الجاري، ولكن أكثر الماء الجاري، وهو البحر يكون صافيا على الدوام ولا يتكدر، فإن قيل إن البحر غير جار، نقول، بلى بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي كان يقوله إذا رأى قرية، اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب البحار، وما جرين، ورب الرياح وما ذرين.... الحديث، وإذا علمت أن ثلاثة أرباع الأرض يغطيها البحر، وأن الأنهار في أغلب الأوقات صافية، وكذلك العيون الجارية، ولا تكدر إلا عند نزول الأمطار وسيلان الأودية تعلم أن الجريان يلازم الصفاء، والتعبير باللازم وإرادة الملزوم شائع في كلام البلغاء والقرينة لا تبقي شكا في أني أريد الصافي، وكذلك قول الشاعر:



إن حمامنا الذي نحن فيه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أي ماء به!وأية نار! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



قد نزلنا به على ابن معين https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وروينا به صحيح البخار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






قوله (على ابن معين) فيه تورية، فالمقصود هو الماء المعين الصافي في الحمام، والمعنى الذي وري به هو الإشارة إلى الإمام الحافظ أحد أئمة الجرح والتعديل يحيى بن معين، وفي قوله صحيح البخار تورية، فإن المقصود بخار الحمام، والتورية بصحيح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ومن المعلوم أن ماء الحمام غير جار ولكنه عبر باللازم وأراد الملزوم، والمناقشة في مثل هذه الصغائر من الشطط، والتماس العيوب للبراء.



5- قال المعترض: وقال (وستأتي في هذه المقالات إن شاء الله أمثلة عديدة توضح ذلك) أراد بعديدة (كثيرة) مع أن العديدة هي المعدودة، قليلة كانت أو كثيرة، واستعمل (أمثلة) جمع القلة مع إرادته الكثرة، فالصواب مثل كثيرة، الخ.



أقول: صدق المعترض في قوله: إن العديدة يراد به المعدودة، سواء أكانت قليلة أم كثيرة، إلا أن القرينة التي فهم بها هو (الكثرة) كافية لجعل القارئ يفهم الكثرة، واستعمال اللفظ في أحد مدلوله مع القرينة الصارفة عن إرادة مدلول الآخر شائع في كلام البلغاء جار على الأصول، لا سبيل إلى إنكاره فلا يعد عيبا ولا خطأ، إلا عند الذي أصيبت عين بصيرته بالحول، ونكب عن الصراط لمرض في قلبه ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.



على أن ابن منظور في لسان العرب قال ما نصه، والعديد الكثرة، اهـ. وإذا كان العديد هو الكثرة، فلتكن العديدة كذلك، وعلى ذلك أقول: لو كان اعتراض هذا المعترض كله مثل هذين الاعتراضين الأخيرين لتلقيته بكل سرور، ولكن أكثره كان الباعث عليه القصور وسوء الفهم، أو إرادة السوء والغش المتعمد للقراء.



وأما قوله: إن (أمثلة) جمع قلة، فقد تقدم الكلام عليه مستوفي في الجواب عن النقد الثالث.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-02-2021 03:40 AM

رد: تقويم اللسانين
 


6- قال المعترض، نعود إلى الكاف الاستعمارية التي جرب استعمالها في قول القائل (فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة) لأنه استعمال دخيل، مع أنه ذكر من معاني الكاف، (التعليل) فإذا قلنا: فلان لأنه وزير لا ينبغي أن يتعاطى التجارة، كان المراد مضمونا والمعنى واضحا، اهـ.



أقول: إنني لا أحسن استعمال هذه الكاف، ولله الحمد، لأن طبعي يأباها كما يأباها طبع كل كاتب تعزف نفسه عن استعمال الألفاظ الدخيلة الاستعمارية التي غزت لغة الضاد، وأفقدتها جمالها وفصاحتها، وأنا لا أعتقد أن المعترض يجهل هذا، ولكنه ركب رأسه، وحاد عن سواء السبيل بقصد أن يهدم ما بنيته من صروح الإصلاح فهدم نفسه كما قال المتنبي:



وكم من مريد ضرَّه ضرَّ نفسه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






وزعمه أن الكاف الاستعمارية تؤول على أنها للتعليل زعم قليل، فقولنا: فلان كوزير لا يجوز له أن يتعاطى التجارة، لا يفهم منه أحد أن الكاف للتعليل إلا إذا كان فهمه عليلا، فاسمع أيها المعترض ما يقوله ابن هشام في المغنى.



(الكاف المفردة) جارة وغيرها، والجارة حرف واسم، الحرف له خمسة معان، أحدها التشبيه، نحو زيد كالأسد، والثاني: التعليل أثبت ذلك قوم، ونفاه الأكثرون، وقيد بعضهم جوازه، بأن تكون الكاف مكفوفة بها، كحكاية سيبويه، كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، والحق جوازه في المجردة من ما نحو: ﴿ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ أي أعجب لعدم فلاحهم، وفي المقرونة بما الزائدة كما في المثال، وبما المصدرية، نحو ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ﴾ الآية، قال الأخفش، أي لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم فاذكروني، وهو ظاهر في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ وأجاب بعضهم بأنه من وضع الخاص موضع العام، الذكر والهداية يشتركان في أمر واحد، وهو الإحسان، فهذا في الأصل بمنزلة: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ والكاف للتشبيه ثم عدل عن ذلك للإعلام بخصوصية المطلوب.



وما ذكرناه في الآية من أن ما مصدرية، قاله جماعة وهو الظاهر وزعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أنها كافة، وفيه إخراج الكاف عما ثبت لها من عمل الجر بغير مقتض، واختلف في نحو قوله:



وطرفك إما جئتنا فاحبسنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






فقال الفارسي: الأصل كيما فحذف الياء، وقال ابن مالك هذا تكلف، بل هي كاف التعليل، وما الكافة، ونصب الفعل بها لشبهها بكي في المعنى، وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى بنزهة الأديب، أن أبا علي حرَّف هذا البيت، وأن الصواب فيه:



إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لكي يحسبوا.... البيتhttps://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






شرح الغامض على بعض القراء من كلام المغنى.

قوله (جارة وغيرها) أي الكاف المفردة، منها كاف جارة، ومنها كاف غير جارة.



قوله (كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه) المعنى تجاوز الله عنه لأنه لا يعلم، أي غفر له لعدم علمه، أن ما فعله ذنب.



قوله (كما في المثال) يعني المتقدم من حكاية سيبويه، وهو كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، فالكاف للتعليل، وما زائدة، والمصدر المؤول من أن وما بعدها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت هكذا أعربه الأمير في حاشيته على المغنى والتقدير لثبوت عدم علمه سامحه الله فتجاوز عنه، والذي حمله على هذا التكلف أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، ولو اعتبرنا الفاء زائدة لم نحتج إلى هذا التقدير كله، فيكون الجار والمجرور متعلقا بما بعده، وهو تجاوز قوله (قال الأخفش: أي لأجل إرسالي) الخ فيه، إعمال ما بعد الفاء فيما قبلها، وقد سكت عنه الأمير، وهذا يدل على ما رجحته أنا في إعراب المثال المتقدم.



قوله (وقال بعضهم) الخ يعنى أن بعضهم جعل الكاف في (كما أرسلنا) للتشبيه وفي ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ لا للتعليل ومراده بالخاص إرسال الله الرسول، وذكر الناس لله وشكرهم له يشملهم الإحسان، فالإرسال إحسان من الله إلى عباده، والذكر والشكر إحسان منهم في طاعته وعبادته، وبذلك يشبه قوله تعالى في سورة القصص: (77): ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾.



قوله (طرفك) الخ، هذا البيت لعمر بن أبي ربيعة، قاله السيوطي في حاشيته على المغنى، والمعنى، أن المحبوبة قالت للشاعر، بزعمه إن جئتنا فاحبس طرفك عني، وانظر إلى غيري ليظن الناس أنني لست محبوبتك، وأن محبوبتك حيث تنظر، وبذلك يبقى حبنا مستورا، فهكذا تستعمل كاف التعليل أيها المعترض المتعنت الغازي بلا سلاح، فلا جرم أن تكون عاقبتك الهزيمة والافتضاح.





دعاني لشب الحرب بيني وبينه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقلت له لا لا، هلم إلى السلم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فلما أبى ألقيت فضل عنانه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فكان صريع الخيل أول وهلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فبعدا له يختار جهلا على علم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا، فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.



قوله: ثم إنه لما عاب على القائل قوله لم يذكر له القول الصحيح فلنحسب أن القول المذكور دخيل، فما وجه الصواب؟ فالبراعة ليست في التخطئة وحدها، بل فيها وفي ذكر الوجه الصحيح، انتهى.



أقول: أنا لا أعامل الكتاب كما يعامل معلم الإنشاء في المدرسة الابتدائية تلاميذه كما تفعله أنت، ثم إن الكاف الاستعمارية تستعمل ضروبا من الاستعمال الفاسد، وقد نقلت عن الأئمة معاني الكاف، واستعمالها بأمثلة موضحة من كلام العرب، لا تبقي لبسا ولا إبهاما فإذا راعوا تلك القواعد، وتجنبوا الكاف الاستعمارية التي لا معنى لها، ولا ينطبق عليها كلام الأئمة، فليختاروا ما شاءوا من العبارات، لأن باب التعبير واسع، وضروب القول كثيرة، ومن تجنب الخطأ أدرك الصواب، فقولهم مثلا، حضر فلان المؤتمر كمراقب، فاسد، لأنه من باب تشبيه الشيء بنفسه، ولا يصح أن تكون الكاف للتعليل، كما زعم المعترض، إذ ينبغي أن يقال ليراقب، بلام التعليل، لأن استعمال القرآن والمثال الذي حكاه سيبويه كل ذلك يأبى أن نقول: حضرت المؤتمر كمراقب، ويراد بذلك: لأني مراقب.



7- قال المعترض: ونعود أيضا إلى منعه قول القائل (يجب علينا أن نسعى لخلق نهضة ثقافية) الخ، أقول في رده، الذي منع استعمال الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء، وخصه بنفسه سبحانه هو الله، والقرآن أكبر حجة في اللغة العربية على المؤمن به والكافر به، قال تعالى في سورة النحل: (17): ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ فالذي يخلق هو الله والذي لا يخلق هو غير الله، فمن زعم أن غير الله يخلق، وكان ينتسب إلى الإسلام فقد كذب القرآن، وإن كان لا ينتسب إلى الإسلام، فهو جاهل باللغة العربية، فهما خطتا خسف.



وقال تعالى في سورة النحل: (20) : ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾.



ومن المعلوم أن الآلهة التي اتخذوها من دون الله، منها من يعقل كالملائكة وعيسى وأمه، والصالحين، ومنها تماثيلهم التي يزعمون أن أرواحهم لا تفارقها، وهي الأصنام والأوثان، وقوله تعالى: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ يصدق على جميع ذلك، فمن كان مآله الموت فهو ميت، كما قال تعالى في سورة الزمر: (30): ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾.



وقال تعالى في سورة الفرقان: (3): ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾.



وقال تعالى في سورة فاطر: (3): ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾.



فهذه الآيات ناطقة بأن الخلق لا يسند إلى غير الله البتة، لا فعلا ولا اسما، معرفا أو نكرة، وقال تعالى في سورة لقمان: (11): ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ فالخلق لا يسند إلى غير الله تعالى إلا إذا كان بمعنى التقدير كما في البيت الذي أنشدته من قبل وهو قول الشاعر:



ولانت تفرى ما خلقت وبع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ض القوم يخلق ثم لا يفرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






أو بمعنى الكذب كقوله تعالى في سورة العنكبوت: (17): ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾.



وأما قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام: (49): ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ كتبت ما تقدم قبل أن أراجع غريب القرآن للراغب، فوجدت كلامه مطابقا لما قلته، ولما كنت أريد أن أقوله ولله الحمد:

قال الراغب: الخلق، أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: خلق السموات والأرض، أي أبدعهما، بدلالة قوله: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، نحو قوله: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ ﴿ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ ﴾ ﴿ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ ﴾.



وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾ والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين أحدهما: في معنى التقدير، كقول الشاعر:



ولأنت تفري ما خلقت وبع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ض القوم يخلق ثم لا يفري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






والثاني: في الكذب نحو قوله: ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾، اهـ.



أقول: وبنقل هذا الكلام يقال قطعت جهيزة قول كل خطيب، ودارت الدائرة على المعترض.



قال المعترض: احتجاجه بأن الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى وكذلك الخلق، وهذا احتجاج غريب، فالله تعالى المحيي، وعلى قوله لا يجوز أن نقول (إحياء مآثر العرب وتراثهم) الخ.



أقول، أنا ما احتججت قط بأن استعمال الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى، وكذلك الإحياء، فهذا افتراء عليَّ، وإنما قلت: إن استعمال الخلق، هو الخاص بالله تعالى، فليراجع كلامي، ليعلم أنه يقولني ما لم أقله، ثم يرد ما تقوَّله عليَّ، بل الذي أرتضيه وأدعو إليه هو استعمال الإيجاد والإنشاء، وترك استعمال الخلق فيما يفعله غير الله تعالى فيقال فلان أحدث، أو أوجد نهضة أدبية في قومه، وكذلك فلان أحيى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومآثر السلف الصالح، وفي الحديث (من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدى فله أجر مائة شهيد) وفي كتب الحديث، إحياء الموات ومن أحيى أرضا مواتا فهي له.



ولا أدري كيف وقع المعترض في هذا الخلق والبهتان، أتعمده حسدا وشنئانا، أم أعماه حب الظهور الذي يقطع الظهور، وختم على قلبه الحسد، وحب الهمز واللمز، حتى إنه لم يفهم كلامي مع وضوحه؟ وسائر كلامه ظاهر البطلان.



أما قوله (ينبغي أن نلعن البديع الهمداني) فهو في غاية السخافة فنحن لسنا بصدد لعن أحد، وإنما نحن بصدد اختيار العبارات الصحيحة ونبذ العبارات الفاسدة، فأين يذهب بك أيها المعترض؟ وما هذه النوبة الجنونية؟ التي استولت عليك، وأنت دائما تتظاهر بالرزانة وتتحلم، والحلم عنك بعيد؟



قوله (ولنا مع الدكتور موعدا آخر إن شاء الله) تقدم الجواب عنه في آية الأنفال: ﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ [الأنفال: 19] الآية ولولا الحياء والإبقاء لأنشدته:



إن عادت العقرب عدنا لها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكانت النعل لها حاضرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







الساعة الآن : 06:52 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 441.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 440.29 كيلو بايت... تم توفير 0.93 كيلو بايت...بمعدل (0.21%)]