ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=240319)

ابوالوليد المسلم 03-07-2025 09:44 PM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 


تراجم رجال إسناد حديث (لا تسبوا أصحابي...)


قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية ]. مسدد مر ذكره، وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأعمش ]. الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي صالح ]. هو أبو صالح السمان واسمه: ذكوان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سعيد ]. هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سب الصحابة مهلكة


ويجدر التنبيه هنا إلى أنه ليس هناك فرق بين من يسب واحداً من الصحابة ومن يسب جميعهم أو يكفر جميعهم أو يفسق جميعهم؛ فمن كفر الصحابة جميعاً فلا شك أنه كافر، ومن فسقهم فلا شك أنه كافر، لأن هذا إبطال للكتاب والسنة. واتهام عائشة رضي الله عنها وحدها بعد نزول براءتها كاف في تكفيره، فمن اتهمها ورماها بالإفك بعدما برأها الله فلا شك أنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن.

شرح حديث (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي...فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة بن قدامة الثقفي حدثنا عمر بن قيس الماصر عن عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة ، فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة ، فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة، فقال: يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال سلمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافاً وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة) والله! لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر ]. أورد أبو داود رحمه الله تعالى هذا الأثر عن حذيفة و سلمان رضي الله تعالى عنهما، وهو أن حذيفة رضي الله عنه كان يحدث بأحاديث ويخبر بأخبار قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه في حال الغضب، وبلغ سلمان هذا الذي يحدث به حذيفة ، فقال للذي أخبره: هو أعلم بما يقول، فرجعوا إليه وقالوا: إنه ما صدقك ولا كذبك، فجاء حذيفة وقال: كيف لا تصدقني في شيء أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في أناس في حال الغضب فيحمله عنه من يحمله، وإنك بهذا تورث حب أناس وبغض أناس، وإن لم تكف عن مثل ذلك لأكتبن بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وذكر الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من سببته سبة أو لعنته فاجعل ذلك صلاة عليه) وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى الذي ذكره سلمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد أورد مسلم في صحيحه جملة منها متوالية، وختمها بقصة أم سليم رضي الله تعالى عنها وجاريتها أو بنيتها التي أرسلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفها وهي صغيرة، ثم رآها وقد كبرت، فقال: (أنت هي؟! كبرت لا كبرت سنك) فجاءت البنية تبكي إلى أم سليم ، فجاءت أم سليم مسرعة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (ما لك يا أم سليم ؟! قالت: إنك قلت في بنيتي كذا وكذا!! قال: أما علمت أني اشترطت على ربي أن من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل أن يبدل الله له ذلك زكاءً وطهراً) فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقول الشيء وهو لا يريده كما هو معروف عند العرب، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذه الدعوة، وسأل الله هذه المسألة وهي أن كل من حصل له شيء من ذلك فإن الله تعالى يبدله به زكاءً وطهراً. ومن جميل صنيع الإمام مسلم رحمة الله عليه أنه لما فرغ من هذه الأحاديث أورد حديث ابن عباس الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم في معاوية : (لا أشبع الله بطنه)، فهذا من جملة الأحاديث التي فيها بيان أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ليس هو لها بأهل أن يجعل الله ذلك له زكاءً وطهراً، وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ادع لي معاوية ، فذهب إليه فوجده يأكل، ثم قال: اذهب ادع لي معاوية ، فذهب إليه وقال: إنه يأكل، قال: ادعه لا أشبع الله بطنه) فبعض الذين في نفوسهم ريب ومرض وحقد على الصحابة يأتون بهذا الحديث على أنه سب وذم لمعاوية ، لكن على هذا الحديث صار محمدة ودعوة لمعاوية ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أن كل من دعا عليه بدعوة وهو ليس لها بأهل أن يبدل الله ذلك له زكاءً، ولهذا عندما شرح الإمام النووي رحمة الله عليه هذا الحديث قال: إنه صار منقبة له، وأثنى بذلك على صنيع الإمام مسلم وحسن ترتيبه ووضعه الأحاديث في موضعها. وقد ذكر ابن عساكر رحمه الله في تاريخ دمشق حديث: (لا أشبع الله بطنه) ثم قال: هذا أصح حديث في فضل معاوية . والإمام مسلم رحمة الله عليه معروف بحسن الترتيب وحسن التنظيم ووضع الأحاديث المناسبة في الأماكن المناسبة، وهو لم يذكر أبواباً في صحيحه وإنما اقتصر على الكتب والأبواب التي ذكرت هي ليست له، بل هي لالنووي وغير النووي ، من الشراح، ولكون مسلم يسوف الأحاديث التي في موضوع واحد مساقاً واحداً في مكان واحد؛ فسهل ذلك تبويب الأبواب على النووي وغيره، ولكن الشيء الجميل في ترتيبه وتنظيمه كونه يأتي بمثل هذا الحديث في هذا المكان، بعد أن يورد الأحاديث التي تبين أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة وهو ليس لها بأهل أنه يكون ذلك دعاءً له. قوله: [ عن عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة ، فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة ]. والمبقلة: مكان أو مزرعة فيها بقل، والبقل هو نوع من النبات معروف، والمكان الذي يوجد فيه البقل يقال له: مبقلة. قوله: [ فقال: يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال سلمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال؟! ]. يعني بسبب هذا الذي ينقله في حق بعضهم. قوله: [ وحتى توقع اختلافاً وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة) ]. ولكن جاء في حديث أم سليم الذي أشرت إليه أنه قيد ذلك بقوله: (من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل) فهذا هو الذي يبدل الله تعالى ذلك زكاءً وطهراً، وقد يسب أحداً وهو أهل للسب. قوله: [ والله! لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر ]. يعني: تنتهي عن هذا الذي تظهره أو لأكتبن إلى عمر بذلك. وفي عون المعبود زيادة بعد قوله: (أو لأكتبن إلى عمر): (فتحمل عليه برجال، فكفر يمينه، ولم يكتب إلى عمر ، وكفر قبل الحنث، قال أبو داود : قبل وبعد كله جائز). كون الإنسان يكفر قبل الحنث أو بعده كله جائز، فيمكن أنه يحنث قبل أن يكفر، ويمكن أن يكفر قبل أن يحنث. ومعنى قوله: (تحمل عليه برجال، فكفر يمينه، ولم يكتب إلى عمر) كأنه طلب منه بواسطة بعض الرجال فكفر عن يمينه ولم يكتب، ومعناه: أنه لم يبر بيمينه بأن يكتب، وترك التنفيذ فيعتبر أنه حنث لكونه أراد أن يترك التنفيذ.

تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي...فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة


قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ]. أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الإمام أحمد : إنه شيخ الإسلام، فوصف شيخ الإسلام قديم. [ حدثنا زائدة بن قدامة الثقفي ]. زائدة بن قدامة الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عمر بن قيس الماصر ]. عمر بن قيس الماصر صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود . [ عن عمرو بن أبي قرة ]. عمرو بن أبي قرة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود . [ حذيفة .. سلمان ]. حذيفة و سلمان كل منهما صحابي جليل، وحديثهما عند أصحاب الكتب الستة.

استخلاف أبي بكر رضي الله عنه


شرح حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه. حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري قال حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: (لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي للناس، فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر ! قم فصل بالناس، فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فأين أبو بكر ؟! يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس) ]. أورد أبو داود هذه الترجمة: [ باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ]. وخلافة أبي بكر رضي الله عنه اختلف فيها: فمن قائل: إنها ثبتت بالنص، ومن قائل: إنها ثبتت بالاتفاق المبني على النص، وإذا أريد بالنص أنه نص خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه النبي: الخليفة بعدي فلان، فهذا لا وجود له، لا لأبي بكر ولا لغيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: الخليفة بعدي فلان، أو يخلفني فلان، والدليل على ذلك أن عمر رضي الله عنه لما طلب منه أن يستخلف لما طعن قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر ، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف بنص مكتوب أو بشيء ينص فيه على أن الخليفة بعده فلان، لكن جاءت نصوص كثيرة تدل على أحقية أبي بكر وأولويته بالخلافة، ومنها: تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة في مرض موته، وكونه روجع في ذلك وفي كل مرة يراجع يصر ويؤكد على أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من ذلك تقديمه بالخلافة من بعده، ولهذا قال عمر رضي الله عنه يوم السقيفة: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا، أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟! ومن أوضح ما جاء في ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في مرض موته: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب كتاباً، فإني أخشى أن يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى، ثم ترك الكتابة عليه الصلاة والسلام وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أن هذا الذي أريد أن أكتبه سيتحقق، لأن الله تعالى يأبى إلا أبا بكر ، والمؤمنون يأبون إلا أبا بكر ، وقد أبى الله إلا أبا بكر وأبى المؤمنون إلا أبا بكر ، وتمت بيعة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وصاروا يلقبونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مع خلافة الخلفاء الثلاثة الذين بعده خلافة نبوة كما جاء ذلك في حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مر بنا قريباً. أورد أبو داود حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال: (لما استعز برسول الله -يعني: اشتد مرضه- وكان عنده مع جماعة من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه بلال واستأذنه في الصلاة فقال: مروا من يصلي بالناس، فخرج ولم يكن أبو بكر موجوداً، فقال لعمر : صل بالناس، فصلى بالناس، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم تكبير عمر وكان جهوري الصوت رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: أين أبو بكر؟! -يعني: لماذا لا يصلي بالناس؟- ثم قال: (يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون). فهذا يدل على فضله وعلى تقديمه بالخلافة، وعلى أنه الأولى بأن يصلي، وقد جاءت الأحاديث التي فيها التنصيص على أن يصلي أبو بكر بالناس حيث قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس). وبعد ذلك دعي أبو بكر وجاء بعد أن صلى عمر بالناس، والذي يبدو أنه صلى الصلوات التي بعد، وليس معنى ذلك أن هذه الصلاة أعيدت؛ لأن الصلاة حصلت بإمامة للناس، فما هناك شيء يدل على أنها هي نفسها أعيدت، وإنما صلى عمر هذه الصلاة لأن أبا بكر لم يكن موجوداً، ثم بعد ذلك صار الذي يصلي بالناس أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

تراجم رجال إسناد حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس


قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ]. عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ حدثنا محمد بن سلمة ]. محمد بن سلمة هو الباهلي ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة و مسلم وأصحاب السنن. و محمد بن سلمة الباهلي هذا في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود ، وهناك محمد بن سلمة في طبقة شيوخه، والمراد به المرادي المصري . [ عن محمد بن إسحاق ]. محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ قال: حدثني الزهري ]. هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قال: حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ]. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والفقهاء السبعة في عصر التابعين في المدينة ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه خلاف، قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر ، والستة المتفق على عدهم هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، و عروة بن الزبير ، و خارجة بن زيد ، و سعيد بن المسيب ، و القاسم بن محمد ، و سليمان بن يسار ، فهؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين في أوله عدداً كبيراً من العلماء المفتين في عصر الصحابة وفي عصر التابعين وفي مختلف البلاد، ولما ذكر المدينة ومن كان فيها من الفقهاء في عصر التابعين ذكر الفقهاء السبعة، وذكر السابع منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هذا، وذكر بيتين من الشعر الثاني منهما يشتمل على الفقهاء السبعة وقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم: عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة فالبيت الثاني مشتمل على ذكر السبعة، والسابع هو أبو بكر هذا الذي معنا في الإسناد، وكما ذكرت هناك قولان آخران أحدهما: أن السابع هو سالم بن عبد الله بن عمر ، والثاني: أن السابع هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف . [ عن عبد الله بن زمعة ]. عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (...ليصل للناس ابن أبي قحافة...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك قال: حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال: (لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر -قال ابن زمعة - خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: لا لا لا، ليصل للناس ابن أبي قحافة ، يقول ذلك مغضباً) ]. أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه أنه قال: لا لا، يعني: لا يصل أحد غير أبي بكر ، وقوله: ابن أبي قحافة هو أبو بكر رضي الله عنه، وهذا فيه إشارة قوية ودلالة واضحة على أنه الأحق بالأمر من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث (...ليصل للناس ابن أبي قحافة...)


قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ]. هو أحمد بن صالح المصري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي في الشمائل. [ حدثنا ابن أبي فديك ]. ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قال: حدثني موسى بن يعقوب ]. موسى بن يعقوب صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن. [ عن عبد الرحمن بن إسحاق ]. عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و مسلم وأصحاب السنن. [ عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ]. ابن شهاب مر ذكره، و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة هو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن زمعة ]. عبد الله بن زمعة مر ذكره.

الأسئلة



صعود النبي صلى الله عليه وسلم على حراء وعلى أحد قصتان متغايران


السؤال: جاء في بعض الأحاديث أن النبي ومن معه أهتز بهم أحد وفي بعضها أنه حراء فهل هي قصة واحدة أم عدة قصص؟ الجواب: صعود النبي صلى الله عليه وسلم جبل أحد أو حراء مع بعض الصحابة وقع على التعدد، قاله الحافظ في الفتح في الجزء السابع، ثم ذكر رواية في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صعد حراء ومعه جملة من الصحابة أبو بكر و عمر و عثمان و علي وغيرهم، فالقصتان مختلفتان، ذكر ذلك في فضائل الصحابة في فضل أبي بكر .


الحكم على حديث (القدرية مجوس هذه الأمة)

السؤال: ما حكم حديث: (القدرية مجوسية هذه الأمة)؟ الجواب: حديث (القدرية مجوس هذه الأمة) هو حديث حسن، حسنه الألباني في الطحاوية والروض والمشكاة والظلال والصحيحة رقم (2748)، وقال: إن له عدة طرق، فتبين أن للحديث أصلاً، وليس بمنكر، فضلاً عن أن يكون موضوعاً، ونقل عن الحافظ تقويته للحديث.


حكم الذبح والصدقة عند تجدد النعم

السؤال: هل يجوز الذبح عند تجدد النعم على المسلم؟ الجواب: شكر الله عز وجل على النعم سائغ ومطلوب، وإذا حصل للإنسان نعمة أو حصل له شيء فذبح ذبيحة وتصدق بها شكراً لله عز وجل على ذلك، لا أعلم شيئاً يمنع منه؟"




ابوالوليد المسلم 03-07-2025 09:47 PM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [522]
الحلقة (552)





شرح سنن أبي داود [522]

إن من عقيدة أهل السنة والجماعة: السكوت عما حصل في الفتنة بين الصحابة، فهم يعتقدون أن الصحابة مجتهدون في ذلك لا يعدمون الأجر والأجرين، ويسلمون صدورهم وألسنتهم من الخوض أو الطعن في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن من خرج عن هذا فقد ابتدع في الدين، وضل عن هدي رب العالمين.

ما يدل على ترك الكلام في الفتنة


شرح حديث (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي..)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة. حدثنا مسدد و مسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا حماد عن علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة ح وحدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي :(إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي) وقال في حديث حماد : (ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين) ]. يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة ]. لأن ما جرى من فتن وأمور حصلت بين الصحابة فإنه يترك الكلام فيها، وهذا هو معنى ما جاء عن كثير من العلماء في كتب العقائد، لا سيما المختصرة منها: الكف عما شجر بين الصحابة، يعني: من عقيدة أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بينهم، وألا يتكلم فيهم إلا بخير، وأن تحسن بهم الظنون، وأن يحمل ما جرى منهم على أحسن المحامل، وفي ذلك سلامة القلوب وطهارتها ونظافتها من أن يقع فيها شيء لا يليق في حق بعض الصحابة، فالواجب الترحم على الجميع والترضي عنهم، واعتقاد أنهم لا يعدمون الأجر أو الأجرين، فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الفتن التي كانت في أيامهم قد صان الله منها سيوفنا، فنسأله أن يصون منها ألسنتنا، يعني: ما كنا في زمانهم حتى يكون لأيدينا مشاركة، وبقيت الألسن فنسأل الله عز وجل أن يصونها وأن يحفظها من أن تتكلم فيهم بما لا ينبغي وبما لا يليق، بل الواجب محبة الجميع وتعظيمهم وتوقيرهم، وألا يشتغل بما جرى بينهم، وإذا اشتغل به فيكون بالاعتذار وبيان سلامتهم، وكثير مما نقل عنهم زيد فيه ونقص منه، وبعضه كذب، وما صح منه فهم دائرون فيه بين الأجر والأجرين، إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد، والخطأ منهم مغفور، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وقد أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان على المنبر ومعه ابنه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من أمتي)، وفي بعض الروايات: (بين فئتين من المسلمين عظيمتين) وهذا يدل على إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بأمر مغيب يأتي في المستقبل، وهو من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وذلك من الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالغيب يكون عن أخبار ماضية وعن أمور مستقبلة، وعن أمور موجودة لكنها غير مشاهدة ولا معاينة، وهذا مما حصل فيه الإخبار عن أمر مستقبل وقريب من زمنه صلى الله عليه وسلم، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذا الغلام سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، وقد فهم من هذا أن الحسن سيعيش، وأنه لن يموت طفلاً، بل سيبقى حتى يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك، وخبره لا يتخلف، بل هو صدق، وهو لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد حصل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بثلاثين سنة، فتحقق هذا الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعت كلمة المسلمين بتنازل الحسن رضي الله عنه وأرضاه، وسمي ذلك العام الذي هو عام (41)هـ عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين، وكونه صار لهم خليفة اجتمع عليه الناس وصارت الكلمة واحدة، وتحقق ذلك الذي أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وفيه إطلاق السيد على المخلوق، وقد جاء إطلاقه على الله عز وجل، فالله تعالى من أسمائه السيد، ويطلق على المخلوق سيد كما جاء في هذا الحديث حيث قال: (إن ابني هذا سيد). وفيه أيضاً وصف الفئتين اللتين يحصل الصلح بينهما بأنهما مسلمتان، وهذا فيه بيان أن هؤلاء الذين حصل بينهم الخلاف مسلمون وأن كلمتهم ستجتمع بتنازل هذا الرجل العظيم لمعاوية رضي الله تعالى عن الجميع، وقد جاء عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه كان يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من المسلمين) يعجبنا جداً، يعني: وصف الطائفتين بأنهما من المسلمين مع اقتتالهم واختلافهم، فهو يقول رحمه الله: إن هذا يعجبنا جداً؛ لأنه حكم بإسلام الجميع، وأن هذا اختلاف بين مسلمين، وأن هذا الاتفاق حصل بين فئتين عظيمتين من المسلمين على يد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما.
تراجم رجال إسناد حديث (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي..)


قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ و مسلم بن إبراهيم ]. هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قالا: حدثنا حماد ]. هو حماد بن زيد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن علي بن زيد ]. هو علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و مسلم وأصحاب السنن. [ عن الحسن ]. هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي بكرة ]. هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ ح وحدثنا محمد بن المثنى ]. (ح) أي: طريق أخرى، ومحمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بالزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة. [ عن محمد بن عبد الله الأنصاري ]. محمد بن عبد الله الأنصاري ثقة، من كبار شيوخ البخاري ، وممن روى عنهم الثلاثيات، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ قال: حدثني الأشعث ]. الأشعث يحتمل أن يكون الأشعث بن عبد الله الحداني أو الأشعث بن عبد الملك الحمراني ، وكل منهما محتج به، فالأول: صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، والثاني: ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، وقد ذكر في ترجمة محمد بن عبد الله الأنصاري أنه روى عنهما جميعاً، وكذلك في ترجمة الحسن أنهما رويا عنه جميعاً، وهو محتمل لهذا ولهذا، وكل منهما حجة. والمحشي يقول: إنه الأشعث بن عبد الملك الحمراني ؛ لأن المصنف أخرجه برقم (3775) من رواية ابنه عنه فاتضح أنه ابن عبد الملك الحمراني . [ عن الحسن عن أبي بكرة ]. الحسن و أبو بكرة مر ذكرهما في الإسناد السابق، وعلى هذا فالإسناد الذي مر وفيه علي بن زيد بن جدعان لا يؤثر؛ لأن هذا إسناد يغني عن الطريق الأولى.
مناسبة حديث (إن ابني هذا سيد..) للتبويب في ترك الفتن


أما مناسبة الحديث للترجمة فهو من جهة أن ما حصل من الصلح كان قبله اختلاف وفتنة، وقد انتهت بهذا الذي تم على يد الحسن رضي الله تعالى عنه، أي: أن الفتن التي حصلت قبل ذلك الصلح من الأشياء التي كان المطلوب أن يكف عن الكلام فيها وألا يتكلم فيها إلا بما هو خير وبما هو لائق في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما جرى من الاقتتال بين الصحابة لا يدخل في قوله (إذا التقى المسلمان بسيفهما..)


وهناك من يستدل بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما..) الحديث، على أن ما جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم داخل ضمن الوعيد، ولا نص يستثني الصحابة من ذلك. والحق أنه ليس من هذا القبيل؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم حصل ما حصل منهم باجتهاد، وكل منهم كان يرى أنه على حق، وأما اللذين ذكرا في الحديث فإنهما يلتقيان وكل واحد منهما يريد أن يقتل الآخر، أي: يريد أن يعتدي عليه، ولا يرى أنه على الحق.
حديث حذيفة (ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة...) وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد أخبرنا هشام عن محمد قال: قال حذيفة : (ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه، إلا محمد بن مسلمة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضرك الفتنة) ]. أورد أبو داود حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قال: (ما أحد من المسلمين إلا وأخشى عليه الفتنة ما عدا محمد بن مسلمة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: لا تضرك الفتنة) وسيأتي أنه اعتزل الفتن.. قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ]. هو الحسن بن علي الحلواني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي . [ حدثنا يزيد ]. هو يزيد بن هارون الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا هشام ]. هو هشام بن حسان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن محمد ]. هو محمد بن سيرين ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن حذيفة ]. هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً..)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلنا على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً، قال: فخرجنا فإذا فسطاط مضروب، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت ]. أورد أبو داود حديث حذيفة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله قال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة، ثم إنهم رأوا فسطاطاً منصوباً يعني: خيمة، فدخلوا وإذا فيه محمد بن مسلمة ، فسألوه عن شأنه فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت، يعني: الفتن، وهو يريد أن يعتزل الناس حتى تنتهي الفتنة وتنجلي.
تراجم رجال إسناد أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً..)


قوله: [ حدثنا عمرو بن مرزوق ]. عمرو بن مرزوق ثقة له أوهام، أخرج له البخاري و أبو داود . [ حدثنا شعبة ]. هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأشعث بن سليم ]. الأشعث بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي بردة ]. هو أبو بردة بن أبي موسى ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ثعلبة بن ضبيعة ]. ثعلبة بن ضبيعة مقبول، أخرج له أبو داود . [ عن حذيفة ]. حذيفة مر ذكره. [ فإذا فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك ]. محمد بن مسلمة صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً..) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ضبيعة بن حصين الثعلبي بمعناه ]. وهذا إسناد آخر بمعنى اللفظ المتقدم في الإسناد السابق. قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة ]. أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أشعث بن سليم عن أبي بردة عن ضبيعة بن حصين الثعلبي ]. في الإسناد المتقدم ثعلبة بن ضبيعة ، وهنا قال: ضبيعة بن حصين ، وهو هو. وهذا الحديث صحيح، ويقول في العون: هذا الحديث سكت عنه المنذري .
شرح أثر علي في سبب مسيره إلى البصرة لملاقاة أهل الجمل


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي رضي الله عنه: أخبرنا عن مسيرك هذا، أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ فقال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكنه رأي رأيته ]. أورد أبو داود هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل عن مسيره في بعض الأحوال التي التقى فيها مع من يقابله من المسلمين، وذلك في الجمل أو صفين، فقيل: هل مسيرك هذا شيء عهد إليك به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنه رأي رأيته؟ فأخبر بأنه لم يعهد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك، وإنما هو رأي رآه، واجتهاد حصل منه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
تراجم رجال إسناد أثر علي في سبب مسيره إلى البصرة لملاقاة أهل الجمل


قوله: [ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ]. إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثنا ابن علية ]. هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يونس عن الحسن ]. يونس هو ابن عبيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، و الحسن تقدم. [ عن قيس بن عباد ]. قيس بن عباد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ قلت لعلي ]. علي هو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين..)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق) ]. أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري في الخوارج أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) والمقصود من ذلك الخوارج الذين خرجوا بعدما حصل التحكيم وانحازوا في مكان يقال له: حروراء، وحصل منهم ما حصل، وقاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، وهذا يدلنا على أن علياً رضي الله عنه أولى من غيره. وقوله: (على حين فرقة من المسلمين) هو مثل الحديث الذي مر في قوله: (يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فإنه وصف المختلفين والمفترقين أنهم مسلمون، فهذا مثل ذاك، وهو يدل على أن علياً رضي الله عنه كان محقاً، وأنه أولى بالحق، و معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، وكل من المجتهدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدمون الأجر أو الأجرين، فالمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وخطؤه مغفور رضي الله تعالى عن الجميع. والخوارج هم الذين خرجوا من جيش علي رضي الله عنه بعدما حصل التحكيم، ولا يقال عن جيش معاوية : خوارج، وإنما هم مجتهدون؛ لأن معاوية رضي الله عنه رأى أن يقتص أولاً من الذين قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم يسلم الشام، و علي رضي الله عنه رأى أنه يتم تسليم الشام أولاً ثم ينظر في الأمر، وكل وقف عند رأيه، وحصل ما حصل، وكلهم كما ذكرت لا يعدمون الأجر أو الأجرين. قال في عون المعبود: أجمع العلماء على أن الخوارج مسلمون، فأقول: إن بعض العلماء كفرهم.
تراجم رجال إسناد حديث (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين..)


قوله: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم ]. مسلم بن إبراهيم مر ذكره. [ حدثنا القاسم بن الفضل ]. القاسم بن الفضل ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و مسلم وأصحاب السنن. [ عن أبي نضرة ]. هو أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة ، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن أبي سعيد ]. هو أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي.
أقوال كبار أئمة السلف في وجوب السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم

قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته. وهذا مذكور في كتاب سير أعلام النبلاء. وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: علماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. وقال الحافظ ابن عساكر : واعلم -يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول بأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختار الله منهم خلق ذميم، وقد عد أهل العلم الطعن للصحابة زندقة مفضوحة، وقرروا أنه لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين. وهذا مذكور في كتاب الإمامة لأبي نعيم الأصفهاني . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث سئل عن القتال الذي حصل بين الصحابة: تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني؟! مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها. وهذا مذكور في مناقب الشافعي للرازي . وسئل الحسن البصري عما حصل بين الصحابة فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي . وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي و معاوية ؟ قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى. من مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي . وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة ومن بعدهم: نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل، وقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ العمد قد وضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفور لهم. من الإبانة. وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، ولأن الله غفر لهم وأخبرنا بالرضا عنهم. من الجامع لأحكام القرآن. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون. من العقيدة الواسطية. ونقل الحافظ ابن حجر عن أبي المظفر السمعاني رحمه الله أنه قال: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان صاحبه، بل هو بدعة وضلاله. من فتح الباري. انتهى. وهذه فوائد عظيمة تتعلق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها يتعلق بأهل العلم، وهذا هو اللائق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب أن تكون الألسنة والقلوب سليمة ونظيفة في حقهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكون القلوب سليمة خالية من الحقد والغيظ والبغض، والألسنة سليمة خالية من السب والذم والثلب والعيب، وإذا كانت الغيبة محرمة في حق سائر المسلمين، فإن الاغتياب لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد حرمة فهم خير هذه الأمة والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نقلوا الكتاب والسنة إلى الناس؛ والغيبة لهم وقيعة في خير الناس، وفيمن ساق الله للناس الخير على أيديهم، وهو الوحي الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدوه إلى من بعدهم، فمن حسن حظ المرء أن يكون قلبه ولسانه نظيفين نزيهين سليمين في حق الصحابة، ومن علامة السوء وسوء الحظ للإنسان أن يحرك لسانه فيما لا ينبغي في حقهم، وأن يقع في قلبه شيء مما لا ينبغي في حقهم جميعاً رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وقد نقلت في آخر كتابي الانتصار للصحابة الأخيار نقولاً عديدة في هذا الأمر، ومن أعظمها وأشدها وأوضحها ما قاله أبو زرعة الرازي رحمة الله عليه: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يريدون أن يجرحوا شهودنا فيبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى، وهم زنادقة."



ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:02 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [523]
الحلقة (553)





شرح سنن أبي داود [523]

لقد اصطفى الله تعالى للنوة خيرة البشر وهم الأنبياء، وفاضل بينهم كما هو معلوم في القرآن الكريم الذي هو كلامه، وجعل سيد الخلق وأفضلهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، أما ما جاء في السنة من النهي عن التمييز أو التفضيل بين الأنبياء فله محامل قد ذكرها العلماء في مصنفاتهم.

التخيير بين الأنبياء


شرح حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أهيب حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى - عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تخيروا بين الأنبياء) ]. أورد أبو داود رحمه الله باب التخيير بين الأنبياء، والمقصود بالتخيير أن يقال: فلان خير من فلان، هذا هو التخيير، ومعلوم أن القرآن والسنة جاءا بالتفضيل، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، فالتفضيل ثابت في الكتاب وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث في جملة أحاديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، وهذا النهي المقصود به: أنهم لا يخيرون من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون مبنياً على أساس، أو أن يكون في التخيير تقليل من شأن بعضهم، وأما إذا كان التخيير مبنياً على علم ومبنياً على النصوص؛ فإن هذا أمر مطلوب، مع توقير الجميع وتعظيم الجميع ومحبة الجميع، ولكن يعتقد التفضيل الذي جاءت به النصوص؛ لأن التفضيل من أمور الغيب، وهذا من الأمور الغيبية، فلا يقال: فلان خير من فلان إلا بدليل، لأن هذا أمر غيبي، ومعناه: أنه خير عند الله، وأنه أفضل عند الله، وهذا لا يعلم إلا عن طريق الوحي، فالتخيير المنهي عنه هو الذي يكون مبنياً على غير علم ومبنياً على غير وحي، أو مبيناً على عصبية أو حمية، أو يكون في التخيير تقليل من شأن بعض الأنبياء، وأما إذا كان التخيير مبنياً على نصوص الوحي فإن هذا لا بأس به، والله تعالى قد ذكر في كتابه العزيز أنه فضل بعضهم على بعض.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)


قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا أهيب ]. هو أهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى- ]. هو عمرو بن يحيى المازني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سعيد الخدري ]. أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان الخدري ، مشهور بنسبته وكنيته، كنيته: أبو سعيد ، ونسبته: الخدري ، واسمه: سعد بن مالك بن سنان ، وهو صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و أبو سعيد و أنس و جابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، ستة رجال وامرأة واحدة، وقد ذكرهم السيوطي في ألفيته حيث قال: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والبحر-يعني ابن عباس- كالخدري وجابر وزوجة النبي
شرح حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى) ]. أورد أبو داود حديث ابن عباس مرفوعاً: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى) ويونس بن متى عليه الصلاة والسلام أحد المرسلين الذين جاء ذكرهم في القرآن في عدة مواضع، وذكره الله باسمه، وذكره بوصفه في موضعين، فقال: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87] يعني: صاحب الحوت، والنون: اسم للحوت، وجمعه: نينان، كالحوت جمعه: حيتان، وقال في وصفه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48]. والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا لما جاء في القرآن عنه من أنه لم يصبر على ما حصل من قومه؛ فذهب مغاضباً وحصل له ما حصل، والواجب توقير رسل الله عليهم الصلاة والسلام ومحبتهم والثناء عليهم وذكرهم بما يليق بهم، ولا يقال في حق يونس أي شيء وقد حصل منه ما حصل، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقال: إنه خير منه، وإنه يصبر بخلاف الذي حصل من يونس عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ومتى هو اسم أبيه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)


قوله: [ حدثنا حفص بن عمر ]. حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و النسائي . [ حدثنا شعبة ]. هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وقد مر ذكره. [ عن قتادة ]. هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي العالية ]. هو رفيع بن مهران الرياحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قال: حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى) ]. أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي الحديث السابق قال: (ما ينبغي لعبد) وهو لفظ عام، وهنا قال: (ما ينبغي لنبي)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيد ولد آدم، ومعلوم أنه خير منه وخير من جميع المرسلين، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو سيد المرسلين وأفضلهم عليه الصلاة والسلام، وأولو العزم من الرسل خمسة، وهو أفضلهم عليه الصلاة والسلام، وهم: نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه فقال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وجاء ذكرهم في سورتين: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، في سورة الأحزاب في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7]، وفي سورة الشورى في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13]... الآية، فإن هؤلاء الخمسة قد ذكروا في هاتين الآيتين، وهم أفضل الرسل وخير الرسل، وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويليه إبراهيم وهو خليل، ثم يليه موسى وهو كليم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خليل كليم، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم، والتكليم لموسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوصفان جميعاً، فهو خليل الرحمن كما هو كليم الرحمن، فقد كلمه ليلة المعراج عندما عرج به إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، وسمع كلام الله من الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ولا يعارض ما جاء من بيان تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ومنهم يونس هذا الحديث، وهو قوله: (ما ينبغي لنبي)، وقد أخبر أنه سيد الناس يوم القيامة؛ لأن الممنوع منه أن يقول: إنه خير منه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال في حقه لأنه أفضل منه وأفضل من غيره، فلا يكون هناك تعارض بين كون الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم -أو قال: سيد الناس- يوم القيامة)، وبين قوله: (ما ينبغي لنبي أن يقول.)، وهو نبي صلى الله عليه وسلم وقد قال هذه المقالة؛ لأنه مبلغ ما له من الفضل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، حتى يعتقد ذلك، وحتى يؤمن بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هناك نبي بعده يخبر بمنزلته وبفضله وبدرجته عند الله، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم أنبياء يبينون فضل من تقدمهم، ويبينون شيئاً من أحوال من تقدمهم، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعده نبي يخبر عن عظيم قدره وعن منزلته، فلذلك أخبر صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بشخصه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعتقد ذلك؛ لأنه جاء بشريعة كاملة، وقد بين ما يتعلق به وبغيره، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)


قوله: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني ]. عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثني محمد بن سلمة ]. هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة و مسلم وأصحاب السنن. [ عن محمد بن إسحاق ]. هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن إسماعيل بن أبي حكيم ]. إسماعيل بن أبي حكيم ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ عن القاسم بن محمد ]. هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن جعفر ]. هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (لا تخيروني على موسى)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حجاج بن أبي يعقوب و محمد بن يحيى بن فارس قالا: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: (قال رجل من اليهود: والذي اصطفى موسى! فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش في جانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله عز وجل) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: والذي اصطفى موسى، وفي بعض الروايات: على العالمين، فغضب المسلم الذي سمعه ولطمه؛ لأنه فضله على محمد؛ حيث قال: على العالمين، ومعناه: أنه فضله تفضيلاً مطلقاً، فلطمه المسلم، وجاء اليهودي واشتكى المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك قال: (لا تخيروني على موسى)، وقيل في الجواب عن هذا الذي ورد في الحديث من النهي عن تخييره على موسى وتفضيله على موسى وبين ما جاء من تفضيله على غيره مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وقوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة)؛ أن النهي يحمل على أنه حصل قبل أن يعلم بمنزلته وبتفضيله على غيره، أو أن النهي محمول فيما إذا كان التخيير أو التفضيل مبنياً على التعصب والعصبية، وليس مبنياً على النصوص، فيوجد في التوفيق بين الحديثين هذان الجوابان. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن شيئاً حصل لموسى وهو أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله)، وجاء في بعض الأحاديث أنه قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور)، وقيل: إن هذا الصعق الذي يحصل إنما هو يوم القيامة عندما يتجلى الله عز وجل لفصل القضاء بين الناس فإنهم يصعقون جميعاً، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق من هذه الصعقة، فيجد موسى آخذاً بقائمة العرش، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري، هل أفاق قبلي) يعني صعق وأفاق قبلي، (أم جوزي بصعقة الطور) التي حصلت في الدنيا، كما قال الله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] فحصل له الصعق مرتين: مرة في الدنيا، ومرة في يوم القيامة، هذا إن حصل له الصعق في الآخرة، وإن لم يحصل له الصعق في الآخرة، بل سلم من ذلك الصعق، فيكون جوزي بصعقة يوم الطور التي حصلت له في الدنيا، والتي ذكرها الله عز وجل في القرآن: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فيكون شأن موسى بالنسبة لهذا الصعق الذي حصل للناس إما أنه حصل له ما حصل لهم، أو أنه لم يحصل له ذلك ولكن حصل له شيء في الدنيا مثله، فجوزي عن تلك الصعقة التي في الدنيا بأنه سلم من هذه الصعقة في الآخرة، وقد جاء في هذا رواية: (أو كان ممن استثنى الله)، فإما أن يكون المقصود به أنه استثني فلم يصعق؛ لأنه قد حصل له ذلك في الدنيا كما جاء في الحديث الآخر، أو يكون المقصود منه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، لكن هذه الصعقة التي في هذه الآية المراد بها صعقة الموت لمن كان حياً في آخر الزمان، فهناك صعقة الموت، ثم صعقة البعث، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] أي: ممن لم يشأ الله أن يحصل له الموت، كالذين خلقوا في الجنة ولم يشأ الله موتهم كالحور العين، فإنهن خلقن للبقاء في الجنة، فلا يحصل لهن موت فيكن ممن استثني. وهذا نقله شارح الطحاوية عن أبي الحجاج المزي ، وقال به أيضاً ابن كثير ، فذكروا أن الصعق إنما هو في الآخرة عندما يأتي الله لفصل القضاء، وأن موسى عليه الصلاة والسلام إما أن يكون صعق مرة أخرى يوم القيامة فيفيق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لم يصعق ولكنه جوزي بصعقة الدنيا عندما تجلى الله عز وجل للجبل وخر موسى صعقاً، كما جاء ذلك مبيناً في سورة الأعراف.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروني على موسى)


قوله: [ حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ]. حجاج بن أبي يعقوب، ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود . [ و محمد بن يحيى بن فارس ]. هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ حدثنا يعقوب ]. هو يعقوب بن أبي إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا أبي ]. أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن شهاب ]. ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة ]. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. و عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً. [ قال أبو داود : وحديث ابن يحيى أتم ]. ابن يحيى هو محمد بن يحيى الذهلي .
شرح حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا زياد بن أيوب حدثنا عبد الله بن إدريس عن مختار بن فلفل يذكر عن أنس أنه قال: (قال رجل لرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا خير البرية! فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام) ]. عرفنا أن المقصود بالتخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقال: فلان خير من فلان، أو فلان أفضل من فلان، فـ(خير) هذه أفعل تفضيل تحذف الهمزة من أولها، ومثلها في ذلك كلمة شر، فإنها تحذف الهمزة من أولها، ويؤتى بها بدون همزة اختصاراً، وأصلها: أخير وأشر، فيقال: خير وشر، وهاتان اللفظتان يؤتى بهما للمفاضلة وبيان أن هذا أفضل من هذا. وأورد أبو داود هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، وهو أفضل من جميع المرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم؛ لأن إبراهيم خليل الرحمن ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، ويلي إبراهيم موسى عليه السلام؛ لأنه كليم الرحمن، وقد اجتمع في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما تفرق في غيره، فهو خليل الرحمن، وكليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليم الرحمن. قوله: (ذاك إبراهيم) أي: الذي هو خير البرية، قال ذلك مع كونه صلى الله عليه وسلم هو خير من إبراهيم وغيره، فقيل: إنه قال ذلك قبل أن يعلم بتفضيله على غيره وأنه أفضل البشر جميعاً، وقيل: إنه قال ذلك على سبيل التواضع. وفي هذا الحديث دليل على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتفضيله، لكنه لا يدل على أنه أفضل من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
تراجم رجال إسناد حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)


قوله: [ حدثنا زياد بن أيوب ]. زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا عبد الله بن إدريس ]. عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مختار بن فلفل ]. مختار بن فلفل صدوق له أوهام، أخرج له مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ عن أنس ]. هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود ، وهي أعلى الأسانيد عنده.
شرح حديث (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار عن عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه بيان جملة من فضائله وخصائصه عليه الصلاة والسلام التي اختص بها وتميز بها عن غيره، وأولها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وهذا يدل على فضله على جميع البشر عليه الصلاة والسلام، وأنه سيدهم، وقد جاء هذا الحديث في صحيح مسلم بلفظ: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وجاء في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ثم ذكر حديث الشفاعة، وهو صلى الله عليه وسلم سيد البشر في الدنيا والآخرة، ولكنه نص هنا على يوم القيامة لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يظهر فيه سؤدده على البشر من أولهم إلى آخرهم، وذلك أنهم في ذلك الموقف يموج بعضهم في بعض، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم، فيأتون إلى آدم فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، وإلى إبراهيم فيعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وإلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيتقدم للشفاعة، ويقول: أنا لها، فيشفعه الله عز وجل، وهذه هي الشفاعة العظمى، فيظهر سؤدده على الجميع في ذلك الموقف؛ لأن شفاعته حصلت للجميع واستفاد منها الجميع، وحصل أثر هذه الشفاعة وفائدتها لكل أهل الموقف، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقيل لها: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليها الأولون والآخرون. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور عن نفسه لأنه مبين عن الله كل ما يلزم الأمة أن تعتقده، وأن تأخذ به، وأن تعول عليه، ومن ذلك بيان ومعرفة قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الله، وأن له هذه الميزات وهذه الفضائل؛ ليعتقدوها وليعرفوا قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فهو عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء وليس بعده نبي، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم من الأنبياء من بين فضائلهم، وما يتميز به كل واحد منهم، فقد بين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فضائل المرسلين، وبين ما اختص به بعضهم، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فليس بعده نبي، وليس بعده وحي يأتي فيه تشريع وبيان ما يحتاج إليه الناس، فالشريعة كاملة تامة، وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ البلاغ المبين وأدى للناس كل ما يحتاجون إليه، ولم يتركهم محتاجين إلى شيء، فلا تحتاج هذه الشريعة إلى تكميل، ولا إلى إضافات، ولا إلى بدع ومحدثات. وفي هذا الحديث دليل على أنه يقال للمخلوق: سيد، ويكون ذلك لمن يستحق السيادة، ولا تقال لكل أحد، بل قد جاء النهي عن إطلاقها على من لا يستحقها كالمنافقين، فلا يقال للمنافق: سيد، ولا يقال للكافر: سيد، ولا يقال لمن لم يستحق السيادة إنه سيد، وقد جاء في السنة أيضاً إطلاق السيادة على بعض الصحابة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق سعد بن معاذ : (قوموا إلى سيدكم)، فإطلاق ذلك على المخلوق سائغ، وقد جاء ما يدل على أن السيد هو الله عز وجل، وهو من أسمائه سبحانه وتعالى، ويجمع بين هذا وهذا: بأن السؤدد الكامل الذي لا يماثله شيء هو المضاف إلى الله عز وجل، وأما المخلوق فيضاف إليه السؤدد الذي يناسبه، ولكن لا يغالى ولا يتجاوز الحد في ذلك.

ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:03 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 

اختصاص النبي بأنه أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع ومشفع


قوله: [(وأول من ينشق عنه القبر)] أي: أول من يبعث، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام. ثم قال: (وأول شافع، وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وهو أول من تجاب وتحقق شفاعته، وقد جمع بينهما في الحديث لبيان أن الأولية حاصلة له في الحالتين، وذلك أنه قد يحصل التقدم للشفاعة بأن يتقدم شخص ويتقدم شخص، ثم قد يشفع الثاني قبل الأول، لكن جاء في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت فيه الأوليتان: الأولية المتعلقة بالتقدم للشفاعة، والأولية المتعلقة بقبول الشفاعة وتحقيقها وحصولها، فهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام وميزاته، وقوله في هذا الحديث: (أول من ينشق عنه القبر) يدلنا على أن المقبورين باقون في قبورهم، وبالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم باقون في قبورهم على هيئتهم التي وضعوا فيها، فلا تأكلهم الأرض، ولا تغير الأرض شيئاً منهم؛ لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وهم يخرجون منها عند البعث، ولا يخرجون قبل البعث، فلا يقال: إن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره يخرج من قبره ويبقى القبر ليس فيه جسد، بل إن كل ميت باق في قبره، فإن كان نبياً فإنه باق على هيئته، وإن كان غير نبي فمن الناس من يبقى على هيئته، ومنهم من تأكله الأرض، كما قال الله عز وجل: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] أي: فنحن سنعيده من التراب عند البعث، والأجساد التي أكلتها الأرض هي التي ترجع ذراتها حتى يتكون منها الإنسان الذي قبر، ولا يبعث جسد جديد غير الجسد الذي دفن، بل إن الجسد الذي دفن هو الذي يبعث، وإذا كانت الأرض قد أكلته فإن الله تعالى يعلم ما أخذته الأرض فيعيده، فترجع كل ذرة من ذرات جسده إلى مكانها، ثم يبعث الله ذلك الجسد الذي كان في الدنيا ثم قبر، ولا يبعث جسداً آخر، ولا يخرج أحد من قبره قبل البعث، وأما بعض الدجالين من غلاة الصوفية فإنهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره، ويصافح بعضهم يقظة لا مناماً، فهذا من الدجل، وهو مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، فهو يخالف ما جاء في هذا الحديث: (وأول من ينشق عنه القبر)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يخرج من القبر، وقولهم مخالف للقرآن في قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16]، فالناس لا يبعثون ولا يخرجون من قبورهم قبل يوم القيامة، وإنما يكون ذلك إذا جاء البعث والنشور، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16]، وهؤلاء الضلال من الصوفية يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلع من قبره، ومد يده لبعض ممن يزعمون أن فيه الولاية! وهذا من الدجل كما ذكرنا. وكون الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية لا يعني ذلك: أنه يخاطب ويطلب منه شيء، وإنما يسلم عليه، ويدعى له فقط، فيدعى له ولا يدعى هو، والله تعالى هو الذي يدعى، والخلق كلهم يدعى لهم ولا يدعون، فلا يطلب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقول إنسان: يا رسول الله! الشفاعة، يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، بل تطلب الشفاعة من الله، فيقال: اللهم! شفع فيَّ نبيك، اللهم! اجعلني من الفائزين بشفاعته، اللهم! اجعلني ممن أكرمته بشفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، فيطلبها من الله ولا يطلبها من غيره، فالدعاء عبادة، والعبادة إنما تكون لله سبحانه وتعالى، فلا يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيء وهو في قبره، ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منه شيء وهو في قبره أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام إذا حصل جدب أو قحط فإنهم يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء، فيدعو لهم ويغيثهم الله عز وجل، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه الدعاء أن الله يغيثهم، وإنما طلبوا من بعضهم أن يدعو، كما حصل من عمر رضي الله عنه، فقد حصل في زمنه جدب وقحط فخرج بالناس للاستسقاء، وطلب من العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم ويدعو، وقال: اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس ! فادع الله، واختار العباس مع أن غير العباس أفضل منه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث عنه المال لورثه العباس ؛ لأنه أقرب القرابات إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فاختاره رضي الله عنه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر أفضل منه، وبعض الصحابة أفضل منه كعثمان و علي ، وهؤلاء موجودون في زمن عمر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يطلب منهم ذلك، وإنما طلبه من عمه؛ لأنه أقرب الناس إليه، وليس المقصود هو التوسل بشخص العباس ، وإنما المقصود قرابة العباس من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فلو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره سائغاً لما عدل عمر رضي الله عنه إلى طلب الدعاء من العباس ، ولقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا، فلما عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه إلى طلب الدعاء والسؤال من الله عز وجل عن طريق حي موجود معهم، ولم يتقدموا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم دل هذا على أنه لا يجوز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره شيء، وغيره من باب أولى. ومما يدل على ذلك أيضاً أن البخاري رحمه الله عقد في (كتاب المرضى) من صحيحه باب: قول المريض: وا رأساه! وذكر حديث عائشة لما قالت: (وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذاك وأنا حي دعوت لك، واستغفرت لك) أي: لو مت قبلي دعوت لك واستغفرت لك، فهذا يدل على أن الدعاء إنما هو في الحياة، وأنه لا يطلب منه شيء بعد وفاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولو كان الأمر سواء ولا فرق بين قبل الموت وبعده لما قال لها ذلك؛ لأن الأمر سيان، فلما قال لها ذلك دل على أن هذا إنما يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا يطلب منه شيء وهو في قبره، وأما ما ابتلي به بعض الناس من الجهل المطبق الذي حملهم على أن يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطبونه ويقولون: يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، يا رسول الله! مدد، فكل هذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى. ويستدل البعض بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) على ملازمة قوله: سيدنا كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك وهم أشد الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم، وهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرص الناس على كل خير، والدليل على هذا: هذه الأحاديث التي نقرؤها، فالكتب الستة وغيرها كلها تنتهي إلى الصحابي، والصحابي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولو كانوا يقولون: سيدنا لنقل ذلك عنهم، فقد عرفنا أن أبا داود وغيره من المصنفين في الحديث يميزون بين كلمة (النبي) وكلمة (الرسول) فيما إذا قال أحد الرواة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يميزون بين هذا وهذا، فيقولون: فلان قال: النبي، وفلان قال: رسول الله، مع أن النتيجة واحدة، فالنبي هو الرسول والرسول هو النبي، والمقصود بذلك شخص واحد، لكن كل هذا للحفاظ على اللفظ، فلو كانت كلمة (سيدنا) موجودة لحافظوا عليها وأبقوها، ولم يتركوها، فدل هذا على أن الالتزام بذلك ليس من طريقة الصحابة ولا السلف الصالح، نعم هو سيدنا صلى الله عليه وسلم، لكن كونه لا يأتي ذكره إلا ويؤتى بهذا فلم يكن الصحابة على هذا.

التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر


نقل صاحب (العون) عن النووي رحمه الله أنه قال: في الحديث دليل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، ومذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل من الآدميين وغيرهم. وقد ذكرت فيما مضى أن مسألة التفضيل بين صالحي البشر والملائكة مسألة خلافية، وذكرت أن شارح الطحاوية ذكر هذه المسألة، وذكر أدلة الفريقين، وجواب كل فريق على الآخر، وانتهى إلى الوقف وعدم الجزم، والمشهور عند أهل السنة أن صالحي البشر مفضلون على الملائكة، والمسألة خلافية بين أهل السنة، فمنهم من يقول بخلاف هذا القول. وقد ذكر بعض الإخوان أن ابن القيم رحمه الله نقل عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: إن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما في يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. ثم قال: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه. انتهى. على كل؛ لا شك أن هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام واقع من ناحية أن الملائكة الآن معصومون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وأنهم ليس لهم عمل غير العبادة، ولا يحصل منهم الخطأ والعصيان، وأما بالنسبة للآخرة فلا شك أن البشر مكرمون، لكن كونهم أفضل من الملائكة في الدار الآخرة الله تعالى أعلم. ونقل بعض الإخوان أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر في مجموع الفتاوى: أن همته لم تنبعث لتحقيق القول في هذه المسألة حتى وجدها أثرية سلفية صحابية.
تراجم رجال إسناد حديث (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض...)


قوله: [ حدثنا عمرو بن عثمان ]. عمرو بن عثمان هو الحمصي ، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود و النسائي و ابن ماجة. [ حدثنا الوليد ]. هو الوليد بن مسلم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأوزاعي ]. الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، فقيه الشام ومحدثها، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي عمار ]. أبو عمار هو شداد بن عبد الله ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) و مسلم وأصحاب السنن. [ عن عبد الله بن فروخ ]. عبد الله بن فروخ ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود . [ عن أبي هريرة ]. هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً.
شرح حديث (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني و مخلد بن خالد الشعيري المعنى، قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا) ]. ثم أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري أتبع لعين أم لا، وعزير نبي أم لا)، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم عن حاله، وقد جاء ما يدل على أنه قد أسلم فلا يكون لعيناً، وأما عزير فلم يأت شيء يدل على أنه نبي.
تراجم رجال إسناد حديث (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)


قوله: [ حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ]. محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج حديثه أبو داود . [ و مخلد بن خالد الشعيري .] مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود . [ حدثنا عبد الرزاق ]. هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا معمر ]. هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن أبي ذئب ]. هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعيد بن أبي سعيد ]. هو سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. أبو هريرة مر ذكره.
شرح حديث (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم)؛ ذلك لأنه أقربهم إليه، فليس بينه وبينه نبي. قوله: [ (والأنبياء أولاد علات) ]، أي: أن دينهم واحد وشرائعهم شتى، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وأولاد العلات في الأصل هم الإخوة لأب، وأما الأمهات فمتعددات، فهنا شيء يجمعهم وشيء يفرقهم، فالأنبياء يجمعهم أصل الدين، فهو واحد في جميع الرسالات، ويختلفون في الشرائع. ويقال للإخوة الأشقاء: أولاد أعيان، ويقال للإخوة لأم: أولاد أخياف، وإذا كانوا من أب قيل لهم: أولاد علات.
تراجم رجال إسناد حديث (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات...)


قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ]. هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري و أبو داود و الترمذي في الشمائل. [ حدثنا ابن وهب ]. ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرني يونس ]. هو يونس بن يزيد الأيلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن شهاب ]. هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سلمة ]. هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. مر ذكره.
الأسئلة



هل يقال في حق النبي: إنه أفضل الخلق؟


السؤال: ذكر بعض أهل العلم أنه لا يقال في حق النبي عليه الصلاة والسلام: أفضل الخلق، وإنما يقال: سيد ولد آدم، أو أفضل الثقلين ونحو ذلك؛ اقتصاراً على ما ورد، فهل هذا صحيح؟ الجواب: هناك خلاف مشهور بين أهل العلم في التفضيل بين الملائكة والبشر، وقد ذكر ذلك شارح الطحاوية، وذكر أدلة الفريقين على ذلك، وجواب كل فريق عن أدلة الفريق الآخر، وانتهى إلى الوقف، وأنه لا يجزم بشيء؛ لأنه لم يأت دليل يفصل في ذلك، ولكن المشهور عند أهل السنة هو تفضيل الأنبياء وصالحي البشر. وأما أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الثقفين فليس فيه إشكال. وهنا فائدة يذكرها بعض الإخوة أن الشيخ ناصر رحمه الله في أشرطة شرح (الأدب المفرد) في مسألة التفضيل بين الملائكة والبشر على سبيل الجنس، فقال: إن الملائكة أفضل، واستدل على ذلك بحديث صحيح أخرجه الطبراني : (أن الله عز وجل يقول للملائكة: اذهبوا فسلموا على عبادي هؤلاء، فيقولون: أنذهب إليهم ونحن خيرة خلقك؟..) إلى آخره، فقال الشيخ: وهذا نص على أنهم خيرة الخلق، ولم يأت في الحديث أن الله عز وجل أنكر عليهم. وهذا الحديث في (السلسلة الصحيحة) (7/رقم 3344)، فيتحقق من هذا الحديث.

نصيحة لمن وجد في قلبه وسوسة تجاه التوحيد


السؤال: بماذا تنصحون من يجد في قلبه وسوسة تجاه التوحيد؟ الجواب: لا أدري كيف تكون هذه الوسوسة، فإذا كان المقصود منها: أنه يجد في نفسه شيئاً، أو يحوك في نفسه شيء يجد أن التكلم به صعب فهذا قد جاء في الحديث ما يدل على حسنه، وأن الإنسان الذي يجد هذا الشيء ثم لا يتحدث ولا يتكلم به، وإنما يعرض عنه، أن هذا يدل على إيمان صاحبه، وقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءت الإنسان وساوس الشيطان فيما يتعلق بالتوحيد والعقيدة فإن عليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويقول: آمنت بالله، وقد جاء: (لا يزال الشيطان بالإنسان يقول له: من خلق كذا، ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فلينته، وليقل: آمنا بالله).

وصف من كان من أهل البيت بالسيد


السؤال: ما حكم تصدير الاسم بكلمة السيد للدلالة على أن الشخص ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا يفعل ذلك، فكل أحد الآن يقال له: سيد، بل صار ذلك يقال للكفار والمنافقين، وهذا يسمع في الإذاعات، فالسيادة امتهنت في هذا الزمان، وصارت تعطى لمن لا يستحقها، وصار السؤدد الآن بالمجان، والأمر كما قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم فالسؤدد لا يحصل إلا بالمشقة، وليس كل أحد يستطيع المشقة، فلولا المشقة لصار كل واحد سيداً.

حكم الإتيان بالعلماء أو طلبة العلم ليقرءوا القرآن عند نزول حاجة معينة


السؤال: عندنا عادة منتشرة وهي أن من كان له حاجة معينة فإنه يستدعي بعض أهل العلم أو طلبة العلم ليقرءوا له القرآن ويدعو له بقضاء حاجته، فيتوزع هؤلاء القرآن بينهم أجزاءً أو أحزاباً، فيقرأ كل واحد منهم ما أعطي حتى يختموا القرآن كاملاً ثم يدعون الله له عقب ذلك، وأحياناً يذبحون تقرباً إلى الله، فما حكم هذا العمل؟ الجواب: لا نعلم أساساً لهذا العمل، والإنسان إذا كان له حاجة فإنه يسأل الله تعالى حاجته، والله تعالى يجيب من دعاه، وأما هذا الفعل المذكور فلا نعلم له أساساً.

لا يقال للفاسق سيد

السؤال: هل يجوز أن يقال لمن ظاهره الفسق: سيد؟ الجواب: لا يقال له ذلك.

حكم من يتكلم فيما شجر بين الصحابة


السؤال: هل يعتبر من تكلم فيما شجر بين الصحابة بالذم من أهل البدع؟ الجواب: لا شك أن من يذم الصحابة ويعيبهم أنه من أهل البدع، أو عنده بدعة، فإذا كان من أعداء أهل السنة والجماعة ومن المنحرفين عن أهل السنة والجماعة كالروافض وغيرهم، فلا شك أنه من أهل البدع، وأما إذا حصل من بعض أهل السنة شيء من الخطأ والغلط في أمر من الأمور، أو خفي عليه أمر ولم يعلم، أو لم ينبه، فمثل هذا لا يقال في حقه ما يقال في حق المبتدعين الذين هم في واد وأهل السنة في واد آخر.

الجمع بين نهي النبي أصحابه عن دعوته بالسيد وبين قوله (إن ابني هذا سيد)

السؤال: ما الجمع بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن دعوته بالسيد، وقوله في حديث الباب: (إن ابني هذا سيد) ؟ الجواب: لم ينههم الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً مطلقاً، وإنما قال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم)، والمعنى: أنكم لا يستهوينكم الشيطان فتزيدوا في الأمر، فأراد منهم أن يكفوا عن المبالغة، وإلا فإنه قد أخبر عن نفسه بأنه سيد، فقال: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع)، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) كما جاء في حديث الشفاعة الطويل، وقوله هنا: (أنا سيد الناس يوم القيامة) مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في ذلك اليوم يظهر سؤدده على الجميع من لدن آدم إلى آخر البشر، فالناس في يوم المحشر يجتمعون في صعيد واحد، ويموج بعضهم في بعض، فيبحثون عمن يشفع لهم إلى الله ليخلصهم مما هم فيه من شدة الموقف، فيذهبون إلى آدم فيعتذر، وإلى نوح فيعتذر، وإلى إبراهيم فيعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وإلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها، ثم يتقدم ويشفع فيشفعه الله عز وجل، وهذه الشفاعة يقال لها: المقام المحمود، وسميت مقاماً محموداً لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، فظهر سؤدده فيها على الأولين والآخرين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا تبليغاً عن الله ومبيناً عظيم منزلته عند الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعده نبي يبين منزلته عند الله، فشريعته صلى الله عليه وسلم هي آخر الشرائع، وقد بين ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما يعتقد في حقه عليه الصلاة والسلام كما في هذه الأحاديث.

القول فيما شجر بين الصحابة من الاقتتال


السؤال: ما قولكم فيما شجر بين علي و معاوية من الاقتتال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار : (تقتله الفئة الباغية)؟ الجواب: جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ولكن أولئك الذين حصل منهم المقابلة لعلي كان الدافع لهم إلى ذلك هو الخلاف حول قتلة عثمان ، وكان معاوية من قبيلة عثمان ، فكلاهما من بني أمية، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقتص من القتلة، ورأى علي رضي الله عنه أن يستتب له الأمر أولاً، ثم يتتبعون القتلة، فكل مجتهد، ولا يعدم الأجر أو الأجرين."




ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:06 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [524]
الحلقة (554)





شرح سنن أبي داود [524]

الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد ظهرت فرق من أهل الإسلام تقول بالإرجاء، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس ما دام أن الكل مسلم، وهذا قول غلاة المرجئة، أما مرجئة الفقهاء فيقولون: إن الإيمان قول وتصديق ولا يلزم معه العمل، ومع ذلك فلا يخرج مرجئة الفقهاء من دائرة أهل السنة والجماعة.

ما جاء في رد الإرجاء


شرح حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة العظم عن الطريق...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في رد الإرجاء. حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ]. أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في رد الإرجاء]. والإرجاء في اللغة: هو التأخير، قال الله عز وجل: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة:106] أي: مؤخرون، وقال: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ [الأعراف:111] أي: أخره وأخاه. وأما في الاصطلاح: فهو تأخير الأعمال عن أن تكون داخلة في الإيمان. وينقسم الإرجاء إلى قسمين: إرجاء الغلاة وإرجاء الفقهاء، وإرجاء الغلاة: أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس، فما دام أن الكل مسلم فهم متساوون، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء، ولا يتفاوت الناس في الإيمان، وهذا مخالف للنصوص الكثيرة الدالة على أن الذنوب تضر أصحابها، وأن أمر صاحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وأما الطاعة مع الكفر فلا تنفع، فالكافر إذا حصلت منه طاعة فإنها تكون مردودة وغير مقبولة، كقوله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وأما مرجئة الفقهاء فهم الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأما عمل الجوارح فلا يدخل في مسمى الإيمان، والمعروف عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتكون من هذه الأمور الثلاثة: التصديق بالجنان، وقول باللسان، والعمل بالجوارح والأركان. ونورد هنا أقوال كبار أئمة السلف الدالة على موقفهم من الإرجاء: قال سفيان الثوري رحمه الله: خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: أهل السنة عندنا مؤمنون، أما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون. أي: مؤمنون كاملو الإيمان، فعندهم أن كل إنسان مسلم فهو كامل الإيمان. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب (الاعتقاد إلى سبيل الرشاد). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقالت المرجئة -على اختلاف فرقهم-: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). وهذا كلام صحيح، وهذا هو الواقع، فالناس متفاوتون في الإيمان، ففيهم من هو كامل الإيمان، وفيهم من هو ناقص الإيمان، وكلهم مؤمنون، لكن لا يقال: إن أتقى الناس وأفجر الناس سواء. وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عمن قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: هذا بريء من الإرجاء. وقال الإمام البربهاري : ومن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ فقد خرج من الإرجاء كله: أوله وآخره. وقال الإمام أحمد رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص إيمانه. وقال الإمام أحمد : قيل لابن المبارك : ترى الإرجاء؟ قال: أنا أقول: الإيمان قول وعمل، وكيف أكون مرجئاً؟! وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وأخرج الآجري من طريق أحمد بن حنبل عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه. وقال الزهري رحمه الله: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه، يعني: أهل الإرجاء. والمقصود من ذلك: أنها تؤدي إلى التسيب والانفلات من الأحكام الشرعية، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أي: أن للإنسان أن يفعل المعاصي كيف يشاء، ومع ذلك فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ففيها التسيب والانفلات، وفيها عدم الاهتمام بالتكاليف؛ لأن التكاليف عندهم تركها لا يؤثر، والمعاصي فعلها لا يؤثر، فهذا يدل على خطورتها من ناحية الانفلات من الأحكام الشرعية. وقال الحميدي : سمعت وكيعاً يقول: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، أي: التصديق. وقد ذكر البخاري رحمه الله أنه لقي أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقال الأوزاعي رحمه الله: ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله. لأن هذه أقوال المرجئة، فمؤمن مستكمل الإيمان عندهم، يعني: كل الناس مؤمنون كاملو الإيمان، ومؤمن حقاً هو بمعناه، يعني: عنده حقيقة الإيمان، وكذلك مؤمن عند الله، فهي كلها بمعنى واحد. وقال سعيد بن جبير رحمه الله: مثل المرجئة مثل الصابئين. وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن و سعيد بن جبير و عمر بن عبد العزيز و عطاء و طاوس و مجاهد و الشعبي و النخعي و الزهري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وغيرهم.. فهم لا يحصون، وقد ذكر الإمام البخاري أن أكثر من ألف شيخ لقيهم كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقال محمد بن جرير الطبري : والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل. يقول: ثم أول من تكلم بالإرجاء هو: زرقان بن غيلان ، قال: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، وهو التصديق. نقله في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي . وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والمقصود من إيراد هذا الحديث أن الإيمان له شعب، وأن الأعمال داخلة في هذه الشعب، مثل إماطة العظم عن الطريق، فهذا عمل من الأعمال وأدخله في الإيمان، وكذلك قول اللسان هو عمل اللسان، وكذلك الحياء شعبة من الإيمان، وهو عمل القلب، فكل هذه داخلة في مسمى الإيمان وهي أعمال، ولكن الشيء الذي هو عمل واضح في هذا الحديث هو إماطة العظم عن الطريق، وقد جاء في بعض الروايات: إماطة الأذى، وهو أعم من أن يكون عظماً، فقد يكون الأذى شوكاً، أو عظماً، أو زجاجاً، أو حجراً، أو شيئاً يحصل به الانزلاق كقشر الموز، وغير ذلك من الأشياء، فإزالة ذلك من الإيمان. فهذا الحديث يدل على أن هذه كلها داخلة تحت مسمى الإيمان، وأنها شعبة من شعبه، وفيها ما هو عمل.
تراجم رجال إسناد حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة العظم عن الطريق...)


قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا حماد ]. هو حماد بن سلمة بن دينار البصري ، وهو ثقة عابد تغير حفظه بأخره، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ أخبرنا سهيل بن أبي صالح ]. سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وروايته في (صحيح البخاري ) مقرونة، وأما مسلم فقد أخرج له في صحيحه في الأصول. [ عن عبد الله بن دينار ]. عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي صالح ]. أبو صالح هو ذكوان السمان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. و سهيل يروي عن أبيه مباشرة، ولكنه هنا يروي عنه بواسطة. [عن أبي هريرة]. قد مر ذكره.
شرح حديث (...أتدرون ما الإيمان بالله...؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني أبو حمزة، قال سمعت ابن عباس قال: (إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم) ]. أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن وفد عبد القيس)، وهم من ربيعة بن نزار، ويلتقي نسبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار ، و ربيعة هو أخو مضر الذي هو من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كانوا ممن تقدم إسلامه، وكانوا في البحرين، وكانوا -كما جاء في بعض طرق هذا الحديث- لا يستطيعون أن يأتوا إليه إلا في شهر حرام، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به ونبلغه من وراءنا، فقال: آمركم بالإيمان..) الحديث، ثم قال: (أتدرون ما الإيمان؟)، ففسره لهم (بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم)، وهذه كلها أعمال، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بها، فدل على أنها داخلة في مسمى الإيمان.
تراجم رجال إسناد حديث (...أتدرون ما الإيمان بالله...؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة...)


قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ]. هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا يحيى بن سعيد ]. هو يحيى بن سعيد القطان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن شعبة ]. هو شعبة بن الحجاج الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني أبو جمرة]. أبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو جمرة هذا مشهور بالرواية عن ابن عباس ، بل جاء في بعض طرق هذا الحديث في (صحيح البخاري ) أن ابن عباس قال له: ألا أجعل لك شيئاً من مالي حتى تبلغ عني الناس، فكان يأتي يسمع الحديث منه، ثم يبلغه للناس. قال الحافظ ابن حجر : وهذا حجة في اتخاذ المحدث المستملي؛ كي يبلغ الناس، أو يبلغ صوته للناس إذا كانوا كثيرين ولا يصل صوته إليهم. وهناك شخص آخر يروي عن ابن عباس يقال له: أبو حمزة القصاب ، وهو يشتبه بهذا من ناحية من قبيل المؤتلف والمختلف. و أبو حمزة القصاب هذا هو الذي روى عن ابن عباس الحديث المتعلق بمعاوية : (لا أشبع الله بطنه) كما في (صحيح مسلم )، وهذا الحديث يعتبر محمدة له وليس مذمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! من دعوت عليه دعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له زكاة وطهراً).
شرح حديث (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) ]. أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وهذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، وأن تركها كفر، والمقصود بالترك الترك تهاوناً وكسلاً وليس جحوداً، وأما الجحود فإن من جحد ما هو أقل منها فإنه يكفر به باتفاق المسلمين، وإنما الكلام في الترك كسلاً وتهاوناً. وهذا الحديث مما استدل به من قال بكفر تارك الصلاة، وأوضح ما يستدل به على كفره أيضاً الحديث الذي جاء في قتال الأمراء والخروج عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وجاء في بعض الروايات: (لا ما صلوا)، فدل هذا على أنهم إذا لم يصلوا فقد حصل الكفر الذي فيه من الله برهان. وهذا الحديث دال أيضاً على ما ذكره المصنف في هذا الباب من جهة أن الصلاة هي من جملة الأعمال وهي داخلة في مسمى الإيمان، لأن تركها يكون كفراً، والكفر مقابل للإيمان.
تراجم رجال إسناد حديث (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)


قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ]. أحمد بن حنبل مر ذكره. [ حدثنا وكيع ]. هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا سفيان ]. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي الزبير ]. هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن جابر ]. هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الأسئلة



هل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة خلاف لفظي


السؤال: هل خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء خلاف لفظي كما يقول شارح الطحاوية؟ الجواب: شارح الطحاوية يقول: إنه لفظي، وهو نفسه قد أشار إلى محاذير تتعلق بذلك، منها: أنه وسيلة إلى القول المذموم الذي هو قول غلاة المرجئة، وهو أيضاً وسيلة إلى التساهل في أمر الأعمال وتهوين شأنها.

عدم خروج مرجئة الفقهاء عن دائرة أهل السنة والجماعة


السؤال: هل مرجئة الفقهاء خارجون عن دائرة أهل السنة والجماعة؟ الجواب: لا، ليسوا بخارجين من أهل السنة والجماعة، ولكنهم أخطئوا في هذا.

حكم من ترك جميع الأعمال ولم يأت إلا بالشهادتين


السؤال: لو قال بلسانه الشهادتين، واعتقد بقلبه التوحيد، ولم يعمل خيراً طيلة حياته، فلم يقم بواجب ولم يترك محرماً، فهل هذه المقالة مقالة الإرجاء؟ الجواب: هذه المقالة لا شك أنها سيئة، وقد جاءت النصوص بأن ترك الصلاة كفر، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعتبرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، فمثل هذا القول يدل على خلاف هذا الذي جاء عن الصحابة، ولا يقال: إن المقصود من ذلك الجحود؛ لأن الجحود كفر باتفاق وإجماع المسلمين، بل حتى لو جحد ما هو دون الصلاة فإنه يكفر، والذي جاء عن الصحابة إنما هو في التهاون والكسل.

الجمع بين كون النبي صلى بالأنبياء ليلة الإسراء وبين قوله: (وأول من تنشق عنه الأرض)


السؤال: كيف الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم (وأول من تنشق عنه الأرض) وكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأنبياء ورآهم في ليلة الإسراء والمعراج؟ الجواب: هذا الذي رآه ليست هي الأجساد، فالأجساد لا تخرج من الأرض وتبقى القبور خالية، وإنما الأمر كما قال بعض أهل العلم: إن الذي رآه صلى الله عليه وسلم هو أرواحهم في صور أجسادهم، وإلا فإن الأجساد هي في الأرض إلى يوم البعث والنشور، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأرواح التي هي بصور الأجساد.

هل الأعمال شرط كمال أو شرط صحة؟


السؤال: هل الأعمال شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان؟ الجواب: هي جزء منه، ومنها ما هو شرط كمال، ومنها ما هو شرط صحة، فمنها ما يكون لا بد منه لأنه يحصل به الكمال، ومنها ما يحصل به الأساس مثل الصلاة، فإن الصلاة لا يقال: إن الإنسان إذا أتى بها حصل كمالاً وإذا لم يأت بها لم يحصل شيئاً، وهذا على القول الصحيح بأنه كفر. فالكمال بالنوافل، وأما الفرائض فهي على سبيل الوجوب واللزوم، ولا بد منها. وفي هذه الأيام أصبحنا نسمع أن من ترك جنس العمل فإنه يكفر، ومعنى ترك جنس العمل: ترك أي عمل من الأعمال، وهذا هو معتقد الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة، فعندهم أن من ترك جنس العمل -أي: ترك أي شيء من العمل- فإنه يكفر، والصواب: أن الأعمال مثلها كمثل جسد الإنسان، فهي متفاوتة، فمنها أشياء إذا ذهبت بقي الإيمان، ومنها أشياء إذا ذهبت ذهب الإيمان، فجسد الإنسان لو قطعت منه أصبعاً بقي الجسد، لكن لو قطع رأسه أو قطع منه شيء قاتل فإنه يذهب.

حكم لبس الخف في حال الإحرام لعذر


السؤال: ما حكم من لبس الخف في القدم حال الإحرام؛ لأن القدم تتعبه وهو يتألم منها؟ الجواب: إذا كان الخف يظهر منه الكعبان ولا يغطيهما فلا بأس به.


الشيخ الألباني والإرجاء

السؤال: كثر الكلام بين طلبة العلم في الآونة الأخيرة حول مسألة الإرجاء خاصة عند الشيخ الألباني رحمه الله، فنرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا: هل الشيخ الألباني وقع في الإرجاء كما يزعم البعض أم أنه بريء منه؟ الجواب: بالنسبة للشيخ الألباني فأنا لم أقرأ شيئاً من التفاصيل عنه، ولكن الذي أفهمه أن هذا الذي نسب إليه إنما هو بسبب القول بأن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً ليس كفراً، ومشهور بين أهل العلم أن ذلك لا يعتبر كفراً، فكثير من أهل العلم قال بهذا القول، فلا يعتبر من قال بذلك مرجئاً.

حكم ترك جنس العمل

السؤال: هل أجمع العلماء على أن ترك جنس العمل كفر؟ الجواب: كيف يكون ذلك والذين يقولون: إن ترك جنس العمل كفر إنما هم الخوارج؟ فهم يقولون: إن الإنسان إذا ارتكب معصية فإنه يخرج من الإيمان ويصير كافراً، ويقول المعتزلة: إنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، لكنهم يتفقون مع الخوارج في كونه خالداً في النار أبد الآباد. ويقابلهم في الجانب الآخر المرجئة، وعندهم أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، والحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة، فهم يقولون: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو هو مؤمن ناقص الإيمان، فقولهم: مؤمن، خالفوا فيه الخوارج الذين قالوا: هو كافر، وقولهم: ناقص الإيمان، خالفوا فيه المرجئة الذين قالوا: هو كامل الإيمان، وهما طرفا الإفراط والتفريط، فالمرجئة فرطوا وأهملوا وضيعوا، فقولهم فيه تحلل من الدين، وانفلات من أحكام الشريعة، ويكون مع ذلك مؤمناً كامل الإيمان، والخوارج والمعتزلة أفرطوا حتى أخرجوا المؤمن العاصي من الإيمان، فالحق وسط بين الإفراط والتفريط كما قال الخطابي : ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم يعني: طرف الإفراط وطرف التفريط. ومعنى جنس العمل: أيّ عمل من الأعمال، وأما إذا ترك العمل فيقال فيه: ترك العمل نهائياً، أو ترك كل الأعمال."



ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:12 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [525]
الحلقة (555)





شرح سنن أبي داود [525]

إن من معاني الإسلام والإيمان: أن الإسلام يدل على الشعائر الظاهرة، بينما يدل الإيمان على الشعائر الباطنة، وأنهما يفترقان عند اجتماعهما، ويجتمعان عند افتراقهما، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه يزيد وينقص خلافاً للمبتدعة الذين لا يعتد بقولهم، والأدلة على ذلك كثيرة جداً من الكتاب والسنة.

الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه



شرح حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي) ]. قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان. إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر. ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده. فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة. فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران. فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة. قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]. وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)


قوله:[ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ]. هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا ابن وهب ]. ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن بكر بن مضر ]. بكر بن مضر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ عن ابن الهاد ]. هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن دينار ]. عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن عمر ]. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هل يكتب للحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام أجر تلك الأيام؟

وقد يقال هنا: أليست الحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام يكتب لها أجر تلك الأيام مثل الرجل إذا مرض أو سافر فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم؟ فيقول: هذا الحديث يدل على أن الرجل يزيد عليها بالأعمال في مثل هذه المدة التي منعت فيها، وأما ذاك فقد جاء فيما يتعلق بالأشياء التي كانت واجبة على الجميع، فإذا حصل شيء يمنع كالسفر أو المرض فإن الله يكتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. ومعلوم أن الإيمان ينقص بالمعصية، وفي هذا الحديث ذكر أنها في هذه الحالة تكون ناقصة دين مع أنها لم تعمل معصية، وبناء على هذا فيكون نقصان دينها إنما هو بالنسبة للرجال، فهم عندهم زيادة بالصلاة، وهن ليس عندهن هذه الصلاة، إذاً ففيهن نقص عن الرجال.
شرح الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري و عثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله! فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]) ]. أورد أبو داود حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى الكعبة) أي: بعد أن كان متوجهاً إلى بيت المقدس أمر أن يستقبل البيت الحرام، وذلك أن القبلة كانت إلى بيت المقدس، فاستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة واستقبلها الناس معه، وكان ذلك بعد الهجرة بستة عشر شهراًً، عند ذلك قال جماعة من الصحابة: (ما بال إخواننا الذين كانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولم يصلوا إلى هذه القبلة؟)، أي: أنهم لم يدركوا هذا الشيء الذي حصل، (فأنزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143])، والمقصود بالإيمان هنا: الصلاة، أي: يضيع صلاتكم إلى البيت المقدس. وفي هذا إطلاق الإيمان على الصلاة، فهو يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فالصلاة هي مجموعة أعمال وقد سماها إيماناً. وأما من ناحية الزيادة فتظهر في أن الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس أولاً، وكتب الله لهم الحياة حتى أدركوا الصلاة إلى بيت الله المسجد الحرام، فإن عندهم زيادة في الأعمال على من مات قبلهم، لكن قد جاء ما يدل على أن السابقين الأولين ممن تقدم إسلامه، ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم لا يساويه الكثير ممن جاء بعد ذلك وتأخر إسلامه، كما جاء في حديث: (لا تسبوا أصحابي) وذلك عندما جرى بين خالد و عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعض الشيء، ومعلوم أن الإنسان كلما طال عمره وحسن عمله فإن ذلك زيادة خير وثواب عند الله عز وجل.
تراجم رجال إسناد الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

قوله: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ]. محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود . [ و عثمان بن أبي شيبة ]. ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة. [ حدثنا وكيع ]. هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سفيان ]. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سماك ]. سماك هو ابن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن عكرمة ]. هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عباس ]. ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجه الاستدلال بقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) على كفر تارك الصلاة


استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] على كفر تارك الصلاة، ويمكن أن يكون وجه الاستدلال أنه سمى الصلاة إيماناً، لكن هناك أدلة واضحة تدل على أن ترك الصلاة كفر، كحديث: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الأئمة الذين يجوز الخروج عليهم: (لا ما صلوا). وقد جاء في حديث آخر (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
شرح حديث (من أحب لله، وأبغض لله... فقد استكمل الإيمان)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة: (عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) ]. أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وقوله: (من أحب لله) حذف فيه المفعول وهو متعلق بمن وبما، والمعنى أحب لله من يحبه الله، وأحب لله ما يحبه الله، والمراد: من يحبه الله من الأشخاص، وما يحبه الله من الأعمال والأقوال، إذاً فالحب يكون للأشخاص وللأقوال وللأفعال التي يحبها الله ويرضى بها، (من أحب لله، وأبغض لله) أي: أبغض من يبغضه الله، وأبغض ما يبغضه الله، (وأعطى لله) أي: من أجل الله، (ومنع لله) أي: من أجل الله، فلا يريد بإعطائه الرياء ولا غير ذلك، وإنما يعطي من أجل الله، ويرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، وكذلك يمنع وفقاً لما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فيكون إعطاؤه من أجل الله، ومنعه من أجل الله، وحبه من أجل الله، وبغضه من أجل الله، فيكون بذلك قد استكمل الإيمان، ولهذا جاء في حديث أنس بن مالك الذي في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، فالحب يكون في الله ومن أجل الله، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالحب والبغض من أعمال القلوب، والإعطاء والمنع من أعمال الجوارح، وكلها من الإيمان، وهي تكون نافعة إذا كانت من أجل الله، سواءً كانت من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.
تراجم رجال إسناد حديث (من أحب لله، وأبغض لله... فقد استكمل الإيمان)

قوله: [ حدثنا مؤمل بن الفضل ]. مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ]. محمد بن شعيب بن شابور صدوق صحيح الكتاب، أخرج له أصحاب السنن. [ عن يحيى بن الحارث ]. يحيى بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب السنن. [ عن القاسم]. هو القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي ، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن. [ عن أبي أمامة ]. أبو أمامة : هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة : (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يدل على زيادة الإيمان؛ لأنه ذكر أن ذلك هو أكمل المؤمنين إيماناً، فمعنى ذلك أن الناس متفاوتون في الإيمان. قوله: [(أحسنهم خلقاً)]، وهذا يدلنا على فضل الأخلاق الحسنة، وأن صاحبها يكون بهذه المنزلة الرفيعة التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو أكمل المؤمنين إيماناً، وذلك لأنه يعاملهم بالمعاملة الطيبة، ويخالق الناس بالمخالقة الحسنة، ويعامل الناس كما يحب أن يعملوه، ومعلوم أن الإنسان يحب أن يعامله الناس معاملة طيبة، فعليه أيضاً أن يعامل غيره معاملة طيبة، فيحب لغيره ما يحب لنفسه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس).
تراجم رجال إسناد حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)


قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ]. هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا يحيى بن سعيد ]. هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن محمد بن عمرو ]. هو محمد بن عمرو بن علقمة الوقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سلمة ]. هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
شرح حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال: أو مسلم...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو مسلم، حتى أعادها سعد ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم) ]. أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جماعة فأعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، وهذا الذي لم يعط شيئاً كان أعجبهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم)، أي: أنه يلقنه ويريد منه أن يقول: مسلم، فأعاد، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين السبب وأنه قد يعطي أشخاصاً وغيرهم أحب إليه من هؤلاء الذين أعطوا؛ ذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم إنما أعطاهم تألفاً وترغيباً لهم في الإسلام، وخشية أن يحصل منهم نفور وعدم إقبال على الإيمان، فيترتب على ذلك أن يكبوا في النار على وجوههم، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين وحصلت الغنائم الكثيرة كان يعطي بعض المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا حديثاً في عام الفتح؛ تأليفاً لقلوبهم، فحصل في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم شيء؛ لكونهم لم يعطوا مثلما أعطي الناس، فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم معهم، وبين أنه إنما يعطي لغرض ويمنع لغرض، وقال: إنه لم يعطهم شيئاً لما عندهم من الإيمان، ثم قال لهم تلك الكلمات الجميلة التي هي أحسن عندهم من الدرهم والدينار ومن الإبل حتى فرحوا وسروا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت من الأنصار)، فسروا وفرحوا، فكان يعطي أناساً ولا يعطي أناساً آخرين فيعطي الذين لم يكن عندهم قوة إيمان، أو كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكان يتألفهم، فلما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (وهو مؤمن) قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم)؛ وذلك لأن الإيمان درجة كاملة عالية، والإسلام أقل من ذلك فأراد أن يرشد إلى الأصل الذي يشترك فيه جميع المسلمين وهو أصل الإسلام، وأما الإيمان فهو أعلى وأكمل من أصل الإسلام، أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فقد يكون عنده الاستسلام والانقياد، ولكن لا يكون الإيمان متمكناً من قلبه، ولهذا قال الله عز وجل عن الأعراب: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، أي: لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ومعنى ذلك أن عندهم نقصاً وضعفاً، لكن عندهم الإسلام الذي هو الأصل، وأما الإيمان فهو شيء أعلى من ذلك، ولهذا فالإيمان أخص، والإسلام أعم، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد : (أو مسلم) إشارة منه إلى الحد الذي ليس فيه تزكية، ولهذا كان الواحد من السلف إذا سئل: أنت مؤمن؟ يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ليس شكاً، ولكن بعداً عن التزكية، فهو مسلم، وأما الإيمان فهو كمال، فلا يدعيه لنفسه، ولا يزكي نفسه, ولكن يقول: أرجو، أو إن شاء الله، ولا يقول: أنا مسلم إن شاء الله، وإنما يجزم. ثم إن لفظ الإيمان ولفظ الإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل المعاني التي افترقت عند الاجتماع، فإذا أطلق الإسلام شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإيمان شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وهذه أمور ظاهرة، وسأله عن الإيمان فقال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه أمور باطنة، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، فأعطى الإيمان ما يتعلق بالباطن، وأعطى الإسلام ما يتعلق بالظاهر، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مثل قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا مثل لفظ الفقير والمسكين، فإنه إذا جمع بينهما في الذكر فسر الفقير بمعنى، والمسكين بمعنى، وإذا فصل أحدهما عن الآخر شمل معنييهما عند الاجتماع، فالله تعالى جمع بين الفقير والمسكين في آية تقسيم الصدقات: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، حيث فسر الفقير بأنه من ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، فهو أحسن حالاً من الفقير، لكن إذا جاء لفظ الفقير مستقلاً فإنه يدخل تحته من ليس عنده شيء، ومن كان عنده شيء لا يكفيه، كما في حديث معاذ بن جبل (فإن هم أجابوك لذلك -أي: إلى الصلاة- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فلفظ الفقراء هنا يشمل المساكين، وكذلك لفظ البر والتقوى، فإذا جمع بينهما فإن البر يفسر بالأوامر المطلوبة، وتفسر التقوى بالمنهيات، وأما إذا جاء لفظ البر لوحده، وجاءت التقوى لوحدها، فإن البر يشمل الأوامر والنواهي، والتقوى تشمل الأوامر والنواهي، أي: أن الإنسان يتقي الله عز وجل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك البر امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]. فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا. وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان.
تراجم رجال إسناد حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال أو مسلم...)


قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد ]. محمد بن عبيد يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب ، ويحتمل أن يكون محمد بن عبيد المحاربي ، وكل منهما محتج به، وقد مر ذكرهما. [ حدثنا محمد بن ثور ]. محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي . [ عن معمر ]. هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الزهري ]. هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عامر بن سعد ]. هو عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. أبوه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو سعد بن مالك ، فأبوه اسمه مالك، وكنية أبيه أبو وقاص مشهور بكنيته، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
النهي عن إطلاق لفظ (مؤمن) على المعين والاكتفاء بلفظ (مسلم)


قوله: [(إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)]، فهذا يدل على أن من لا يعطى ليس ذلك لكونه لا يستحق، وإنما قد يعطى من هو دونه لأنه يخشى عليه، لذلك فهو يؤلف قلبه بالإعطاء، وليس هناك مجال لإعطاء الجميع. فالأولى ألا يقال لشخص بأنه مؤمن، بل يقال له: مسلم، وإذا قال إنسان عن غيره: إنه مؤمن على اعتبار أنه عنده قوة إيمان، وأنه معروف بكثرة الأعمال الصالحة فلا بأس، لكن المحذور أن يقول الإنسان عن نفسه: إنه مؤمن، ففي هذا الحديث قال ذلك عن غيره، فالأدب والوصف الذي ليس فيه إشكال أن يقال: هو مسلم، والمشهور عند أهل السنة -كما عرفنا- هو التفريق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان أكمل من الإسلام، وأعلى درجةً منه، وبعضهم يقول: إن الإسلام هو الإيمان، واستدلوا بقوله عز وجل: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] وهذه تتعلق بقوم لوط الذين استثنوا من الهلاك، فوصفوا بأنهم مسلمون ومؤمنون، إذاً فالإسلام هو الإيمان، لكن يقول ابن كثير : إن هؤلاء المؤمنين وصفوا بأنهم مسلمون، فالإسلام يدخل في الإيمان، ومن كان مؤمناً فإنه يصدق عليه أنه مسلم، لكن ليس كل مسلم يقال عنه: مؤمن، وهذا هو الذي نهى الله عنه الأعراب حيث قال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فهؤلاء الذين نجاهم الله مع لوط هم مؤمنون ومسلمون؛ لأن كل مؤمن مسلم، فقد جمعوا بين هذين الوصفين، ولا يصح العكس فليس كل من كان مسلماً يقال عنه: مؤمن، ولهذا أنكر على الأعراب قولهم: آمنا، وأمروا أن يقولوا: أسلمنا، ولكن من كان مؤمناً فهو مسلم.

ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:13 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 

شرح أثر الزهري (الإسلام الكلمة، والإيمان العمل)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل ]. وفي الإسناد السابق قال: وأخبرني الزهري، فجاءت بالواو، والأصل والغالب أن يأتي بدون واو (أخبرني)، والمراد بالإتيان بالواو هناك أنه قد حدثه بحديث آخر، ثم حدثه بهذا الحديث، فترك المعطوف عليه وأتى بالمعطوف الذي هو المقصود وفيه محل الشاهد. وأورد أبو داود هذا الأثر عن الزهري قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل. فالإسلام: الكلمة، أي: النطق والكلام، فهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأما الإيمان فيكون بالعمل، وليس الوقوف عند كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقول الزهري رحمه الله: الإسلام: الكلمة، أي: القول، فالإنسان يدخل الإسلام بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا فيما يظهر للناس، وأما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، وأما الإيمان وهو العمل، فيدخل فيه عمل القلوب وعمل الجوارح، ومعلوم أن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، كالخشية والرجاء وما إلى ذلك، فإن الجوارح يكون فيها التنفيذ كما جاء في حديث النعمان بن بشير الذي أشرت إليه آنفاً: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وكذلك قول بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقرته القلوب، وصدقته الأعمال. قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد عن ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري ]. الزهري مر ذكره، وهذا الأثر مقطوع، وهو المتن الذي ينتهي إلى التابعي أو من دونه، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الأسانيد، وأما المقطوع فهو من صفات المتون، فالمنقطع هو سقوط في أثناء الإسناد.
كلام شيخ الإسلام في قول الزهري (الإسلام الكلمة، والإيمان العمل) والتعليق عليه


قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتاب (الإيمان) عن كلمة الزهري : إن فيها حقاً من وجه، وخطأ من وجه، فما أدري شيئاً عن كلام شيخ الإسلام ، فإذا كان المقصود بالإيمان العمل فقط دون أن يكون هناك شيء في القلوب، فنعم هو ليس بصحيح، وأما إذا قيل: إن العمل يكون في القلوب ويكون في الجوارح فهو كلام مستقيم. ولا يفهم من كلام الزهري هذا أنه لا يكفر الشخص بترك الأعمال، إذا ثبت له الإسلام الذي هو أصل الإيمان بالنطق بالشهادتين، نعم الإسلام يثبت للإنسان بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لكنه لا يعني ذلك أنه يبقى على هذا حتى يموت عليه، من غير أن يسجد لله سجدة، ولا أن يركع لله ركعة، فإذا جاء وقت الصلاة فإنه يطالب بالصلاة، وإذا تركها تهاوناً أو كسلاً فإنه يكون كافراً، وأما الجحود فقد عرفنا أن أي جحد لأمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة ولو كان دون الصلاة بكثير فإن ذلك كله يكون كفراً وردة عن الإسلام.
حديث سعد (يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال أو مسلم...) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ح وحدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان المعنى قالا: حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قسم بين الناس قسماً فقلت: أعط فلاناً فإنه مؤمن، قال: أو مسلم؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكب على وجهه) ]. وهذا من جنس الذي قبله. قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ]. عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ ح وحدثنا إبراهيم بن بشار ]. إبراهيم بن بشار حافظ له أوهام، أخرج له أبو داود و الترمذي . [ حدثنا سفيان عن معمر ]. سفيان هو ابن عيينة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه ]. قد مر ذكرهم جميعاً.
شرح حديث (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة قال: واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ]. ذكر أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا الحديث أورده المصنف في هذا الباب من أجل أن ضرب المؤمنين رقاب بعضهم يعد كفراً، والمقصود بذلك أنه كفر دون كفر، وهو يدل على أن في ذلك نقصاً للإيمان، وإن أريد به أنه كفر مخرج من الملة، فيكون المقصود أنهم لا يرتدون بعده، فيحصل مع ارتدادهم وكفرهم أن بعضهم يضرب رقاب بعض، ويكون المقصود بذلك ما حصل من بعض الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم الصديق وكان ذلك من أجل أعماله رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد بذل جهده في أن يرجع الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فسعى في إصلاح الخلل الداخلي، ثم بعد ذلك انتقل إلى جهاد الكفار وغزوهم في بلادهم بعد أن قاتل المرتدين، فرجع من رجع منهم إلى الإسلام، وقتل من قتل منهم على الردة. فإنه يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون المقصود به حصول المشابهة للكفار الذين يسهل عليهم القتل، فإن من شأنهم التقاطع وقتل بعضهم بعضاً، وشأن المسلمين بخلاف ذلك، فهم متوادون ومتراحمون ومتعاطفون. وعلى هذا فإيراد المصنف الحديث هنا في زيادة الإيمان ونقصانه على اعتبار أن هذا الفعل ليس ردة، ولا يتعلق بالمرتدين، وإنما يتعلق بالمسلمين الذين يحصل منهم التقاتل بغير حق. وقد جاء في بعض الأحاديث: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، والمقصود من ذلك أنه كفر دون كفر، فيكون ذلك: من قبيل المعاصي الكبيرة، ومعلوم أن الذنب الذي يوصف بأنه كفر يكون من أكبر الكبائر، ومن أخطر الأشياء.
تراجم رجال إسناد حديث (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)


قوله: [ حدثنا أبو الوليد الطيالسي ]. أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا شعبة ]. هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ واقد بن عبد الله أخبرني ]. هو واقد بن عبد الله بن محمد بن زيد العدوي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . وهذا فيه تأخير الصيغة عن الراوي أو المحدث؛ لأنه قال: واقد أخبرني، بدلاً من أن يقول: أخبرني واقد عن أبيه، ومعروف عن شعبة أنه كان يستعمل ذلك أحياناً. وهناك طريقة لبعض العلماء في تقديم المتن وتأخير السند، وهذا الأسلوب كان يستعمله ابن خزيمة ، وقد جاء عنه أنه قال: أنه يحرج على من يأخذ من كتابه ألا يغير الصيغة التي أتى بها، بل عليه أن يروي عنه كما روى، وكما جاء عنه، وجاء عند البخاري رحمه الله في مواضع قليلة تقديم المتن وتأخير الإسناد، وقد جاء ذلك عنه في كتابه التفسير من صحيحه، وذلك في أول تفسير سورة فصلت، فإنه ذكر أثراً طويلاً عن ابن عباس ، فأتى بالمتن أولاً ثم أتى بالإسناد في الآخر، وكذلك فعل أيضاً في أثر علي رضي الله عنه الذي فيه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) وقال الحافظ ابن حجر : إن هذا فيه إشارة إلى أن هذا ليس على شرطه، أي: مثل هذه الصيغة، ثم ذكر كلام ابن خزيمة وطريقته وأنه يمنع أن تغير طريقته عند النقل منه، بل ينبه على ما حصل منه من التقديم والتأخير. وهذا الأثر والكلام الذي ذكره الحافظ ابن حجر موجود عند تفسير سورة فصلت في الجزء الثامن من فتح الباري، وهذا الجزء مشتمل على كتاب التفسير من صحيح البخاري . وأبوه أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أنه سمع ابن عمر ]. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عباس ، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و أبو سعيد و أنس و جابر وأم المؤمنين عائشة ، فهم إذاً ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
دلالة قوله (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على حصول الفرقة بين المسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم


ولا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على ما آلت إليه القبائل العربية في الجزيرة بعد قرون من الزمان من قتال بعضهم لبعض، وسلب بعضهم لبعض، فصاروا كحالة الجاهلية الأولى لا يدل على ذلك فقط، لكن كونه يحصل شيء فيما بعد يطابق ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جزء من المراد، فالحديث أعم من ذلك، ولكن هذا المعنى ليس مطابقاً لما أورده المصنف هنا من كونه كفراً دون كفر، وأن الصديق رضي الله عنه قاتلهم، فرجع إلى الإسلام من رجع، وقتل على الردة من قتل، وهم المعنيون بما جاء في حديث الذود عن الحوض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أي: أنهم ارتدوا وقتلوا على الردة، وهؤلاء الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا من أصحابه، ولكنهم أدركهم الخذلان وارتدوا عن الإسلام، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم من قتل على الردة، ومنهم من رجع إلى الإسلام، عدد يسير. يقول الخطابي عن هذا الحديث: هذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكفار: المتكفرين بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فكفر به نفسه، أي: سترها، وأصل الكفر: الستر، ويقال: سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه، أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده. وأقول: كونه يتكفر بالسلاح أو يستتر به، أو يحمله هذا لا يكفي، ولكنه يئول أمره إلى كونه يفعل ذلك مستعداً للقتل، فيحصل منه القتل، وأما مجرد ستر نفسه بالسلاح، أو أنه يلبس السلاح، فمجرد هذا لا يكفي بأن يقال عنه: إنه ذنب، وإنه منهي عنه، فالسلاح يلبس عند الحاجة إليه ولا يصير مذموماً، ولكن إذا آل ذلك إلى أمر لا يسوغ، أو أنه فعله استعداداً لفعل أمر لا يسوغ فالعبرة بهذه النهاية، لا بمجرد اللبس فقط، وكون المعنى اللغوي للكفر أنه الستر لا يكفي في أن يكون هو المقصود.
شرح حديث (أيما رجل مسلم أكفر مسلماً فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر) ]. أورد المصنف حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر) أي: إذا كان المقول له ذلك كافراً، أي: حصل منه كفر، فإن الكلام يكون مطابقاً للواقع، ويكون صحيحاً، وأما إذا لم يكن كذلك ولم يكن كافراً فإن الكفر يعود على القائل، فيكون هو الكافر، ومعنى ذلك: أنه يرجع عليه إثمه ومغبته، لا أنه يكون كافراً خارجاً من الإسلام بمجرد أنه قال هذه الكلمة، فهذا فيه وعيد شديد، وبيان أن ذلك الأمر ليس بالهين، وأن التكفير ليس أمراً سهلاً، وإنما هو صعب وخطير، ولا ينبغي التهاون والتساهل فيه، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم فيه بغير علم. ومثل هذا مسألة الاتهام بالتبديع والتفسيق.
تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل مسلم أكفر مسلماً فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر)


قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة. [ حدثنا جرير ]. هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن فضيل بن غزوان ]. فضيل بن غزوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن نافع ]. هو نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عمر ]. ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر ذكره في الحديث الذي قبل هذا.
شرح حديث (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ]. أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وهذه الأمور كلها من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، فالنفاق الاعتقادي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وأهله في الدرك الأسفل من النار، فلما كان للإسلام قوة وصولة وشوكة لم يستطيعوا أن يظهروا ما في بواطنهم فلجئوا إلى أن يتظاهروا بالإسلام وهم يبطنون الكفر، كما ذكر الله عنهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. فهذه الأمور الواردة في هذا الحديث من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، لكن من أتى بهذه الأمور مستحلاً لها فإنه يكون كافراً بهذا الاستحلال. وقوله: [(من كن فيه كان منافقاً)، أي: أن من كانت هذه الأمور مجتمعة فيه فقد وصل إلى حد عظيم فيما يتعلق بهذا الوصف، فيكون منافقاً خالصاً في النفاق العملي وليس الاعتقادي، فلا يكون كافراً بمجرد اتصافه بهذه الصفات الذميمة، ولكن يكون عنده تمكن في النفاق، ومن وجدت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، وأما إذا اجتمعت كلها فيه فقد وصل إلى النهاية والقمة في النفاق العملي، ويكفر العبد -كما قلنا- باستحلال هذه الخصال الذميمة، فمن استحل الكذب فإنه يكفر، وهذا فيما لا يسوغ فيه الكذب وأما ما جاء فيه جواز الكذب سواءً كان صريحاً أو تلويحاً، كالإصلاح بين الناس، وبين المرأة وزوجها، فلا بأس بذلك، وأما استحلال الكذب مطلقاً فلاشك أنه كفر.
تراجم رجال إسناد حديث (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها...)

قوله: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ]. أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي ، وهو ممن أكثر عنه الإمام مسلم ، بل لم يرو عن أحد أكثر مما روى عنه، فقد قيل: إنه روى عنه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، ولهذا فالذي يقرأ في (صحيح مسلم ) لا يكاد يفتح صفحة أو صفحات إلا ويمر فيه أبو بكر بن أبي شيبة ؛ لأنه روى عنه عدداً كثيراً من الأحاديث فهو مكثر عنه، ويليه زهير بن حرب أبو خيثمة ، فإنه روى عنه أكثر من ألف ومائتي حديث. [ حدثنا عبد الله بن نمير ]. عبد الله بن نمير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا الأعمش ]. الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن مرة ]. عبد الله بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مسروق ]. هو مسروق بن الأجدع ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن عمرو ]. هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)، أي: أنه عندما يحصل منه الزنا فإنه يحصل له نقص في الإيمان؛ لوقوعه في المعصية، فيقع النقص في الإيمان من حين يبدأ بالمعصية وهي الزنا هنا إلى أن يتوب منه، وليس أنه بمجرد توبته منها يكفي ذلك، فقد يكون لتلك المعصية حد في الدنيا، وإن أقيم عليه الحد كان كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد فإن أمره إلى الله عز وجل، فإن كان تاب منها فالله تعالى يتوب على من تاب، ولهذا جاء في آخر الحديث: (والتوبة معروضة بعد) أي: بعد هذا الذي حصل من ارتكاب الفاحشة، وهذا إذا لم تصل الروح إلى الغرغرة، وإن مات على تلك المعصية والجريمة فإن أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه وأدخله النار، ولكنه إذا أدخله النار فإنه لا يخلده فيها، بل يخرجه منها ويدخله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها، سواءً كانوا كفاراً أصليين، أو مرتدين، أو منافقين نفاقاً اعتقادياً، فإن أولئك هم الذين يبقون فيها إلى غير نهاية. أما من كان مرتكباً للكبائر -سواءً كانت واحدة أو أكثر- فإن أمره إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك هو تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم يعتبرون صاحب الكبيرة فاسقاً، ولا يخرجونه من الإسلام، ولا يجزمون بعذابه، وإذا عذب فإنهم لا يقولون بتخليده، بل أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه ولم يعذبه، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه بالنار فلابد أن يخرجه من النار ومآله إلى الجنة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: أنه عند مواقعته المعصية لم يكن عنده كمال الإيمان، بل عنده نقص في الإيمان. وأما الخوارج فإنهم يقولون بكفر الزاني وغير الزاني ممن ارتكب الفواحش والمحرمات، ويقولون بتخليده في النار إلى غير نهاية، ويقول المعتزلة: إنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين منزلة الإيمان والكفر، ولكن في النهاية قولهم مطابق لقول الخوارج بأنه يخلد في النار. فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ليس معنى ذلك: أنه ينتفي عنه الإيمان حتى يكون كافراً خارجاً من الإسلام، ولكن المراد أن إيمانه ينقص، ويكون فيه ضعف، ولا يكون كاملاً، بل يكون بسبب الفاحشة أنقص مما كان عليه قبل أن يفعل الفاحشة، وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها أبو داود في زيادة الإيمان ونقصانه، فهذا فيه ينقص الإيمان، (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد)، والله تعالى يتوب على من تاب، فإن التوبة تجب ما قبلها، فالشرك وهو أعظم الظلم، وأبطل الباطل إذا تاب الكافر منه تاب الله عليه، فكذلك ما دونه.
تراجم رجال إسناد حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)


قوله: [ حدثنا أبو صالح الأنطاكي ]. أبو صالح الأنطاكي هو محبوب بن موسى، وهو صدوق، أخرج له أبو داود و النسائي . [ أخبرنا أبو إسحاق الفزاري ]. أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحارث ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأعمش ]. الأعمش مر ذكره. [ عن أبي صالح ]. أبو صالح السمان اسمه ذكوان ، ولقبه السمان ، ويلقب أيضاً بالزيات نسبة إلى بيع السمن والزيت؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت ويبيعهما، فيقال له: السمان ، ويقال له: الزيات ، وهذه نسبة إلى الحرفة، وهذا مثلما يقال: نجار وحداد وخباز. [ عن أبي هريرة ]. هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
شرح حديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة...)


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إسحاق بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد - حدثني ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا زنى المسلم خرج منه الإيمان وكان فوقه كالظلة، فإذا انقلع) أي: انتهى وفرغ من الزنا أو أقلع عن الزنا فإنه يرجع إليه، وهذا فيه وعيد شديد للزناة، فالزنا أمره خطير، وشأنه عظيم، لكن -كما هو معلوم- لا يقال: إن الزاني يكفر في حال زناه استدلالاً بهذا الحديث، فهناك أحاديث أخرى تبين أنه مرتكب كبيرة، وأن أمره إلى الله عز وجل، وأن التوبة معروضة بعد، وهذا الحديث يدل على خطورته، وأنه فاحشة عظيمة.
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة...)


قوله: [ حدثنا إسحاق بن سويد الرملي ]. إسحاق بن سويد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثنا ابن أبي مريم ]. ابن أبي مريم هو سعيد بن أبي مريم ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد ]. نافع بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثني ابن الهاد ]. ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ]. سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. أبو هريرة مر ذكره.
الأسئلة



حكم الاستثناء في الإسلام


السؤال: هل ورد الاستثناء في الإسلام؟ الجواب: لا أدري، لكن حتى الإسلام يتفاوت، فقد جاءت بعض النصوص التي تدل على أنه يتفاوت في الإطلاق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: المسلم الكامل، لكن لا نعلم أنه يستثنى في الإسلام، ويمكن أن يكون المعنى الذي جاء في قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، من جنس أنه مؤمن، لكن المعروف أن الإسلام هو الدرجة الدنيا، وهي الدرجة التي يتميز بها عن الكفار، ويكون الإنسان بها من المسلمين.
قول الخطابي (قد يكون العبد مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في
الظاهر) والتعليق عليه


السؤال: ما صحة هذه العبارة: يقول الخطابي : وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر؟ الجواب: قد يكون العبد مستسلماً في الظاهر وليس عنده الكمال في الباطن، وهذا هو الذي جاء في قول الله عز وجل: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] أي: لم يتمكن في القلوب، وإن كان الأصل موجوداً وهو الإسلام، وإذا وجد الاستسلام والانقياد في الباطن فإنه يتبعه الاستسلام في الظاهر؛ لأن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان بن بشير (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وجاء عن بعض السلف أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال).

العلاقة بين الكفر والشرك


السؤال: هل لفظ الكفر والشرك من الألفاظ التي نقول فيها: إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت؟ الجواب: لفظتا الكفر والشرك بينهما فرق ولو لم يجتمعا، فالكفر أعم من الشرك، حيث إن الشرك يطلق على ما إذا عبد مع الله غيره، وأما الكفر فإنه يطلق على أمور كثيرة يدخل فيها الشرك، فبينهما إذاً عموم وخصوص مطلق، فكل شرك كفر، وليس كل كفر شركاً؛ لأن الشرك هو دعوة غير الله معه، لكن قد لا يدعو غير الله معه ولكنه يأتي بمكفر آخر كأن يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسب الله تعالى، أو يجحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فهذا مكفر، ولكن لا يقال له: شرك.

الاكتفاء بإطلاق مسمى الإسلام لا يعني نفي أصل الإيمان


السؤال: قولهم: ليس كل مسلم مؤمناً، هل المراد أنه ليس مؤمناً أصلاً، أم أنه لابد من قدر مجزئ من الإيمان؟ الجواب: أصل الإيمان موجود، ولهذا قالوا: إن من جاء عنهم من السلف عدم الاستثناء في الإيمان فإنهم يقصدون بذلك أصل الإيمان، ولا يقصدون بذلك التزكية، وأنهم كاملو الإيمان.

حكم من ينتقد سلف الأمة بالتقصير في كتابة التاريخ


السؤال: هناك رجل عندنا ينتقد سلف الأمة بالإهمال والتقصير الكبير في تدوين التاريخ الإسلامي، فيقول: وهذا بعكس أهل الغرب الذين دونوا تاريخهم، ويطعن أيضاً في أهل السنة حيث إنهم يروون عن الضعفاء والروافض، فلم يصححوا تلك المرويات التاريخية، فأصبح للمسلمين تاريخ غير ثابت، فما نصيحتكم لنا تجاه هذا الرجل، وهو أستاذ لنا في الجامعة؟ الجواب: هذا الكلام كلام باطل وغير صحيح، ومعلوم أن العلم قد دُوِّن، والتاريخ منه ما دون بالأسانيد، ومنه ما جاء بغير أسانيد، ولكن الثبوت لا يعتبر إلا بصحة الأسانيد، والشيء الذي لم تصح به الأسانيد فلا يعتبر ثابتاً، ولكن يمكن أن يذكر على سبيل الحكاية وما إلى ذلك، وأما رواية سلف هذه الأمة عن بعض أهل البدع فإنما هي في شيء لا يؤثر، ولا يتعلق ببدعهم، أو أن غيرهم تابعهم على ذلك ولم تقبل روايتهم على سبيل الاستقلال، وأما الشيء الذي يتعلق بالبدع فإنهم يجتنبونه، وقد تكلم العلماء وبينوا أحوال هؤلاء الذين تكلم فيهم من هذه الناحية، وبينوا الاعتذار عمن روى عنهم كما ذكر آنفاً. والحاصل أن الواجب على كل مسلم أن يحفظ لسانه عن أن يتكلم في علماء أهل السنة والجماعة بما لا ينبغي، بل عليه أن يحسن الظن بهم، وأن يعرف أنهم قد بذلوا جهوداً عظيمة مضنية حفظ الله تعالى بها ما جاء عنه سبحانه وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عن الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والكلام في علماء أهل السنة ضرره كبير على المتكلم به، كما قال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. ثم هذا الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ماذا قدم للإسلام، أو ماذا سيقدم للإسلام؟! كل ما قدم أنه جنى على نفسه بأن تكلم وقدح في علماء أهل السنة والجماعة بمثل هذا القدح، وغالباً أن مثل هؤلاء الذين يتكلمون في مثل هذا الشيء يعود عليهم مضرته، ولا يأتون بشيء تعود عليهم منفعته.

حكم الخروج مع جماعة التبليغ للدعوة مع ما يرافق ذلك من تضييع الأهل والأولاد


السؤال: أود الاستفسار عما تطلبه جماعة التبليغ من النساء، وهو خروج المرأة لمدة ثلاثة أيام من منزلها مع مجموعة من النساء في بلد من البلدان داخل مصر، وأما أزواجهن فيكونون في مسجد قريب، ويقضون ثلاثة أيام في سماع ما يسمى بالبيان، وأنا زوجة لرجل من هذه الجماعة، وهو رجل فاضل، وعندي منه ثلاثة أولاد، لكن ولدي الأكبر -وهو في سن المراهقة- بدأ يسير في طريق البعد عن الله، ويفعل أشياء كثيرة مخالفة للهدى والشرع، وزوجي يلح علي أن أُخرج معي ابني في هذا الخروج؛ حتى يصلح الولد، لأنه مقتنع تماماً بهذا العمل، ويتهمني بأني أنا المسئولة عن ضياع ابني؛ لأني لا أسير معه بهذا الطريق، وأني سأضيع أولادي الآخرين بهذا السلوك، فهل طاعتي له في هذا الأمر واجبة؟ وإذا لم أطعه هل أدخل تحت من تُغضب زوجها فتلعنها الملائكة، علماً بأني دائماً أرد عليه بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد؟ الجواب: النساء مأمورات بالقرار في البيوت، والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا الخروج الذي انتهجته هذه الجماعة فهم غالباً مفتقرون إلى العلم، ومفتقرون إلى معرفة التوحيد، فهم لا يعنون بالتوحيد، ولا يعنون بالاشتغال بالعلم، ولهذا يأتون إلى العامي الذي لا يعرف شيئاً ويطلبون منه الخروج إلى الدعوة إلى الله عز وجل، وهو نفسه بحاجة إلى دعوة! والذي ينبغي عليهم وعلى غيرهم أن يتفقهوا في دين الله عز وجل، وأن يتعلموا العلم النافع، وأن يدعوا إلى الله عز وجل على بصيرة. وهذه المرأة عليها أن تناصح زوجها بأن يبقى معها وألا يخرج معهم، فيبقى هو وإياها يتعاونان على تربية الأولاد، وأما أن يخرج هو ويضيع أهله، أو يطلب من أهله أن تخرج أيضاً معه فإن هذا الخروج ليس بصحيح، وتفقه الإنسان في دين الله عز وجل، ومحافظته على أهله وعلى أولاده أفضل من أن يخرج وهو جاهل، ولا يحصل من وراء هذا الذهاب إلا أن يضيع أهله وأولاده. فالحاصل أن على هذه المرأة أن تنصح زوجها بأن يترك الخروج معهم، وأن يبقى معها، وأن يحرصوا على التفقه في دين الله عز وجل، وعلى تربية الأولاد تربية طيبة."




ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:22 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [526]
الحلقة (556)



شرح سنن أبي داود [526]

الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، فلا يصح إيمان العبد إلا بإيمانه بالقدر، ومنهج أهل السنة والجماعة في القدر وسط بين طائفتين منحرفتين عن الصواب ومجانبتين لطريق الحق، وهاتين الطائفتين هما: الجبرية المثبتة للقدر الزاعمة أن العبد مسير وليس بمخير، والقدرية النفاة الزاعمون أن العبد يخلق أفعاله.

ما جاء في القدر


الإيمان بالقدر من أركان الإيمان


قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القدر]. أورد أبو داود باباً في القدر، والقدر -كما جاء في حديث جبريل المشهور- من أصول الإيمان الستة، فقد سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وكان جبريل قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن بعض أمور الدين والصحابة يسمعون، وكان المقصود من ذلك أن يسمع الصحابة الجواب فيعلمون بذلك دينهم، ولهذا قال في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وقد جاء على صورة رجل غير معروف، والحديث سيأتي، وفيه أنه قال: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) . وهذا من أصول الإيمان، والقدر هو سر من أسرار الله عز وجل في خلقه، لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، ولهذا لا يُتعمق في الأسئلة عنه؛ لأن التعمق فيه -كما قال بعض السلف- ذريعة الخذلان. فعلى العبد أن يؤمن بما جاءت به النصوص، وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيم في قدره، وحكيم في شرعه، وأنه تعالى يقدر الأمور لحكمة، كما أنه يشرع ما يشرع لحكمة، والإنسان في باب القدر يأخذ بما هو سائغ، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ويستعين بالله عز وجل على تحصيل ما يريد من الخير، ولا يعول على الأسباب ويغفل عن مسبب الأسباب، كما أنه لا يهمل الأسباب ويزعم أنه متوكل على الله، وأن الله إذا قدّر شيئاً فإنه سيأتي إليه وإن لم يفعل السبب، فكل هذا لا يسوغ، وإنما عليه أن يأخذ بالسبب، ويسأل الله أن ينفع به، كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فأمر بهذين الشيئين، وهما: فعْل الأسباب، وأن يستعين بمسبِّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فلا يأخذ بالأسباب ويغفل عن الله عز وجل، ويزعم أن هذه أمور مادية، فإذا وجد كذا وجد بسببه كذا هذا لا يصح؛ بل الأمر بيد الله عز وجل، فإذا شاء ألا يوجد المسبَّب لم يوجد، سواء وُجد السبب أو لم يوجد، فالإنسان يزرع ليحصل الزرع والفائدة، وقد يزرع ولا يحصل المقصود؛ لأنه قد تصيبه آفة، وقد يتزوج الإنسان لتحصيل الولد، ثم بعد ذلك قد لا يأتيه ولد مع أنه قد فعل السبب. إذاً: لابد مع فعل السبب من التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وسؤاله أن ينفع بالسبب. وكذلك لا يهمل الإنسان السبب ويقعد في بيته ويقول: لا أبحث عن الرزق؛ لأنه لو كان الله قد كتب لي شيئاً فسيأتيني إلى بيتي ولو لم أخرج، فهذا أيضاً أمر لا يسوغ، بل على الإنسان أن يفعل السبب لكن لا يعتمد عليه، فليس السبب هو كل شيء، لذلك فإن التوكل الحقيقي هو الذي يكون فيه الأخذ بالأسباب، وأما التوكل بدون أخذ الأسباب فهو تواكل وليس بتوكل، وهذا مثل فعل الجماعة الذين كانوا يحجون ولا يأخذون زاداً ويقولون نحن المتوكلون، وإذا سافروا سألوا الناس، أو تحرّوا من الناس أن يحسنوا إليهم، وقد تركوا أموالهم في بلدانهم، فتصير حقيقتهم أنهم متأكلون، وليسوا بالمتوكلين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) . أي: أنها لم تجلس في أوكارها وتنتظر إلى أن يأتيها رزقها إليها، وإنما تراها إذا أصبحت خرجت من أوكارها خامصة البطون، (خماصاً) . أي: فارغة البطون، (وتروح بطاناً) أي: وترجع ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فعلى الإنسان أن يجمع بين الأمرين اللذين أرشد إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، ثم إذا فعل الإنسان ما يقدر عليه فلا يقل إذا فاته ما أراد: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن ليقل: قدر الله وما شاء فعل)، أي: أن هذا الذي وقع هو (قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) . فلو أن إنساناً دخل في مشروع تجاري فلم يربح فيه فلا يقل: لو أني لم أدخل في هذا المشروع ودخلت في مشروع آخر لكان كذا وكذا، فيقال له: هذا الذي وقع هو الذي قدره الله عز وجل، ثم ما يدريك أنك إذا دخلت في المشروع الثاني أنه كان سيصير كذا وكذا؟ فكل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب المشروعة ويستعين بالله سبحانه وتعالى.

مراتب الإيمان بالقدر


القدر -كما هو معلوم- لابد فيه من أمور أربعة، وهذه الأمور هي مراتب القدر، فيجب الإيمان بها كلها، أولها: علم الله عز وجل الأزلي، وهو أن الله علم أزلاً من قبل أن يخلق الخلق بأنه سيكون كذا وكذا وكذا، وكل شيء سيقع فالله تعالى قد علم بأنه سيقع، ولا يقع شيء في الوجود لم يكن الله تعالى قد علمه أزلاً، ولا يتجدد لله علم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل ما هو كائن فقد علمه أزلاً، فعلم الله أزلي لا بداية له. ثم أيضاً على العبد أن يؤمن بأن الله قد كتب مقادير الخلق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء ذلك في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، فمعنى ذلك: أن كل شيء سيقع فقد كتب في اللوح المحفوظ، وهذه هي المرتبة الثانية. والمرتبة الثالثة: أن من صفات الله عز وجل الإرادة والمشيئة، ومعنى ذلك: أن الله عز وجل شاء أن يحصل وأن يقع كذا، فيقع طبقاً لما شاء سبحانه وتعالى، والإرادة مثل المشيئة إلا أنها تختلف عنها بأنها قد تأتي لمعنىً شرعي، والمشيئة لا تأتي إلا لمعنىً كوني فقط، ولا تأتي لمعنى شرعي، فإطلاقاتها في الكتاب والسنة كلها تتعلق بالقدر والقضاء والمشيئة الكونية، وأما الإرادة فإنها قد تأتي لمعنى كوني فتكون مثل المشيئة، وقد تأتي لمعنىً شرعي ديني، وبذلك تخالف المشيئة، فهي تتفق معها في الكونية، وتختلف عنها بأنها تأتي لمعنى شرعي، أي: أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فيجتمعان في المعنى الكوني، وتنفرد الإرادة بأنها تأتي لمعنى شرعي لا تأتي فيه المشيئة. وهناك ألفاظ أخرى تأتي بمعنى المشيئة، أي: تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي وهي: الحكم والإذن والكتاب والكلمات والتحريم وغير ذلك، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) الذي يتعلق بالقدر فصلاً ذكر فيه ثلاثين باباً كلها تتعلق بمسائل القدر، وذكر من جملتها باباً يتعلق بالكلمات التي تأتي لمعنى كوني، أو لمعنى شرعي، مع التمثيل لها. والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية أن الإرادة الكونية لابد من وقوعها، وأما الإرادة الشرعية فقد تقع وقد لا تقع، وهي تكون فيما يحبه الله، وما لا يحبه الله، وذلك قد يحصل وقد لا يحصل، فهذا الذي شرعه وأمر الناس به -وهو محبوب له- منهم من امتثله، ومنهم من لم يمتثله. وأما الإرادة الكونية فلابد من وقوعها، فالشيء الذي قدره الله وقضاه لابد أن يقع، فمن الناس من يستجيب لشرع الله فتجتمع فيه الإرادتان الكونية والشرعية، ومنهم من لا يستجيب، فتتحقق فيه الإرادة الكونية فقط، وهي أنه شقي لم يمتثل ما يحبه الله عز وجل، فما شاء الله عز وجل كان، وما لم يشأ لم يكن. والناس يعرفون ما قدره الله وقضاه بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فكل ما وقع فإن الله قد شاءه؛ لأنه لو لم يشأه لم يقع، (ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، فالشيء المقدر لابد أن يوجد ولا يتخلف. والمرتبة الرابعة: هي الخلق والإيجاد، أي: إيجاد الله عز وجل وخلقه للشيء الذي علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وشاءه وأراده، فيقع كما علمه وكتبه وشاءه، فهذه المراتب الأربع لابد منها في القدر.

لا تنافي بين كون أفعال العباد من كسبهم وهي من خلق الله عز وجل

إن الله تعالى هو خالق كل شيء، فليس هناك أحد يخلق مع الله، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] فالكل خلقه وإيجاده، ولكن لا يقال: إن العباد ليس لهم مشيئة ولا إرادة، بل لهم مشيئة وإرادة، ولهذا كلفوا وأمروا ونُهوا، وبيِّن لهم أن هذا الطريق يوصل إلى الجنة، وأن هذا الطريق يوصل إلى النار، وأن هذه الأعمال توصل إلى الجنة، وهذه الأعمال توصل إلى النار، وعندهم عقول يدركون ويفهمون بها، فمن عمل بعمل السعادة انتهى إلى السعادة، ومن عمل بعمل الشقاوة انتهى إلى الشقاوة، وقد جاء ذلك في حديث علي وسيأتي عند المصنف -لما قالوا: (يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا- وندع العمل، قال: لا، اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة). لكن لا يجوز أن تسلب الإرادة والمشيئة من العبد كما هو قول الجبرية، ولا يجوز أن يقال: إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولم يخلقها، وإنهم هم الذين يخلقونها ويوجدونها كما هو قول القدرية النفاة (المعتزلة)، ولا يدخلون أفعال العباد في معنى الآيات العامة التي تدل على عموم خلقه، بل يدخلون تحتها ما لا يجوز أن يدخل، فيقولون: إن القرآن مخلوق، ويقولون: إذا كان الله خالق كل شيء فسيكون القرآن مخلوقاً، وأما أفعال العباد التي لا يجوز أن تخرج من خلق الله فإنهم يخرجونها، فأدخلوا ما لا يصلح دخوله، وأخرجوا ما لا يصلح خروجه، ولاشك أن كلتا الطائفتين منحرفتان عن الحق والهدى، ومجانبتان للصواب، والحق وسط بينهما. فأهل السنة والجماعة وسط في باب القدر بين الجبرية المثبتة الغلاة في الإثبات، وبين القدرية النفاة، لأن السنة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله عز وجل، وهي كسب للعباد، فقد حصلت بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، فالعباد ليسوا مستقلين بحيث إنهم يحصل منهم شيء في الوجود لم يقدره الله تعالى، ولا يقال: إنهم لا إرادة لهم ولا مشيئة، وإنهم مسيرون، وإنهم مثل الأشجار التي تحركها الرياح، ومثل حركة المرتعش، ولا يقال: إنهم مجبورون على أعمالهم، وكيف يكلفون وهم مجبورون؟! وكيف يقال لهم: افعلوا كذا وكذا وليس لديهم مشيئة ولا إرادة؟ بل لهم مشيئة وإرادة، لكن لا يقال: إن مشيئتهم وإرادتهم مستقلة، وإنهم قد يفعلون شيئاً لم يقدره الله تعالى، بل مشيئتهم تابعة لمشيئة الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، فهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وكل ذلك يكون مطابقاً لما شاءه الله وقدره وقضاه، فأعمال العباد هي كسب للعباد وخلْق الله عز وجل، فتتعلق بمشيئتهم وإرادتهم، ويحمدون على حسنها، ويذمون على سيئها، وما حصل منهم من الحسن والسيئ فإنه داخل تحت خلق الله عز وجل ومشيئته. وأما ما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك)، فليس معناه أنه ليس إلى الله خلقاً وإيجاداً، وإنما المقصود من ذلك -كما قال بعض أهل العلم- أن الله عز وجل لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، بل إنه خلق الشر لحكمة، ويترتب عليه مصلحة وفائدة، فلا يقال: إنه تعالى يخلق شراً لا فائدة من ورائه ولا حكمة، ولا يترتب عليه مصلحة، بل كل ما يخلقه لحكمة، فالشر هو خلق الله، والخير هو خلق الله، وكل شيء بخلقه وإيجاده، وبقضائه وقدره، ولهذا فإن عقيدة المسلمين تدور وتنبني على كلمتين وهما: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وهذا هو الذي شاءه الله أن يكون، فلا يمكن أن يتخلف، وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وهذا هو الذي قدر الله أنه لا يكون، فلا يمكن أن يحصل لك. ولهذا جاء في حديث ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فلا يحصل في الوجود حركة إلا بقضاء الله وقدره كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، فحتى نشاط النشيط، وحركة المتحرك، وخمول الخامل كل ذلك مقدر. وبهذا الجواب يتبين لنا أن العبد لا يكون مسيَّراً فقط أو مخيَّراً فقط، وإنما هو مسيَّر باعتبار ومخير باعتبار، فهو مخير وليس بمجبور، بمعنى أنه له مشيئة وإرادة، وقيل له: هذا يوصلك إلى الجنة، وهذا يوصلك إلى النار، فالإنسان يختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، ومسيَّر باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل ما شاءه الله فلابد أن يوجد، لكن لا يقال: إن ما شاءه الله لابد أن يوجد، وليس للإنسان مشيئة ولا إرادة. فالإنسان الذي ترتعش يده لا يكون هذا من فعله ولا من كسبه، ولا يقال له: كفّ يدك عن التحرك؛ لأنه لا يقدر على هذا، لكن إذا كان الإنسان يؤذي الناس فإنه يقال له: كف يدك عن الناس، ويؤدب حتى يكف؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك، وهذا شيء بإرادته ومشيئته، وبهذا يتبيّن الفرق بين الشيء الذي يكون تحت مشيئة الإنسان، والشيء الذي ليس تحت مشيئته، فالجبرية يقولون: إن جميع حركات العباد كحركة المرتعش، أي: أن الإنسان ليس له مشيئة ولا إرادة، وهذا باطل. وهذه المعاني التي ذكرتها الآن مما يتعلق بالقضاء والقدر، هي وغيرها ذكرتها في كتاب (شرح العقيدة القيروانية).

شرح حديث ( القدرية مجوس هذه الأمة


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني بمنى عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) ]. قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في القدر]، ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، والقدرية هم نفاة القدر، فيقولون: إن العبد خالق لفعله، وإن الله عز وجل لم يقدر عليه الشر، وإنما العبد هو الذي فعله، ويقولون: إن الله تعالى منزه عن الفحشاء فلا يريدها، ومعلوم أن الخير والشر كله من الله عز وجل، وأن كل ما يقع في الوجود من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وقد جاء في القرآن الكريم نسبة الهداية والإضلال إليه، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، فكل شيء بقضاء الله وقدره، ولا يقع في ملك الله إلا ما شاءه، فالقدرية هم نفاة القدر. قوله: [ (مجوس هذه الأمة) ] أي: أنهم يشابهون المجوس الذين جعلوا للكون خالقَين، وهما: النور والظلمة، وأن الخير يرجع إلى النور، والشر يرجع إلى الظلمة، فهؤلاء جعلوا الخير يرجع إلى الله، والشر يرجع إلى العباد، وأن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، والله عز وجل يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فهذه الآية عامة لا يخرج عنها شيء، فكل شيء مخلوق فهو من خلق الله وإيجاده، سواءً كان ذاتاً أو صفات، فالذوات مخلوقة، والصفات -وهي الأعمال- مخلوقة، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فهو خالق العباد، وخالق أفعال العباد، وهي كسب لهم، فيحمدون على حسنها، ويذمون على سيئها، ويثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، فتضاف إليهم باعتبار الكسب، وتضاف إلى الله عز وجل باعتبار الخلق والإيجاد، فلا يقع في ملك الله شيء لم يرده الله سبحانه وتعالى، ويذكر أن أعرابياً سرقت له حمارة، فجاء إلى عمرو بن عبيد يطلب منه أن يدعو الله تعالى أن يردها عليه، فقال: اللهم! إنك لم تُرد أن تُسرق فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بدعائك، لأنه قد يريد ردّها فلا ترد، فهذا الأعرابي على الفطرة لذلك أنكر عليه هذه المقولة. وهذا الحديث حسنه الألباني وفيه انقطاع، فقد قيل: إن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر ، لكن قال بعض أهل العلم: إن أبا حازم كان موجوداً مع ابن عمر في المدينة، وكان في زمانه، فيكون قد أدركه ولقيه وعاصره، فإذا روى عنه فإنه يكون مقصوراً على شروط مسلم ؛ لأن مسلم - لا يشترط العلم بالسماع، وإنما يكفي المعاصرة مع إمكان السماع، وهذا موجود في أبي حازم مع ابن عمر ، فإنه من الممكن أن يروي عنه، ولهذا حسن الحديث الشيخ الألباني . وفيه بيان ذم هذه الفرقة الضالة وأنهم مضاهئون للمجوس الذين يقولون بتعدد الخالقين، والقرآن والسنة يردان عليهم، وقد ذكرنا بعض الأدلة فيما سبق. وأما عن تكفيرهم؛ فمن أنكر منهم علم الله تعالى الأزلي فلا شك في كفره، وأما القدرية المعتزلة الذين يثبتون العلم فما أعلم شيئاً يتعلق بتكفيرهم.

تراجم رجال إسناد حديث ( القدرية مجوس هذه الأمة ... )


قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ]. عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. أبو حازم سلمة بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن عمر ]. هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث ( لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ... )


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمر بن محمد عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال) ]. وهذا في الجملة مثل الذي قبله إلا أن فيه: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة -أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- الذين يقولون لا قدر... وهم شيعة الدجال، وحقّ على الله عز وجل أن يلحقهم بالدجال). وهذا الحديث في إسناده رجل مجهول، ورجل ضعيف، فالرجل المجهول هو عمر مولى غفرة ، والرجل المبهم هو رجل من الأنصار. قوله: [ (من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم) ]. إذا كان يترتب عليه تأديبهم، ورجوعهم فهو عام في جميع أهل البدع، لكن لا يقال: كل من كان عنده بدعة فإنه يطبق عليه هذا الكلام، وإنما هو في أهل البدع، وأصحاب المذاهب المبتدعة، فمن كان منهم مسلماً وليس بكافر فتترك عيادته تأديباً وزجراً وردعاً لهم ولغيرهم، وهذا أمر مطلوب، وهو هنا نصّ في القدرية.

تراجم رجال إسناد حديث ( لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر .... )


قوله: [ حدثنا محمد بن كثير ]. هو محمد بن كثير العبدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا سفيان ]. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن عمر بن محمد ]. عمر بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ عن عمر مولى غفرة ]. هو عمر بن عبد الله مولى غفرة ، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود و الترمذي . [ عن رجل من الأنصار ]. رجل من الأنصار مبهم هنا. [ عن حذيفة ]. هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ... )


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد أن يزيد بن زريع و يحيى بن سعيد حدثاهم قالا: حدثنا عوف حدثنا قسامة بن زهير حدثنا أبو موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزْن، والخبيث والطيب). زاد في حديث يحيى : (وبين ذلك)، والإخبار في حديث يزيد ]. أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود): أي: جاءت منهم هذه الألوان والهيئات، (والسهل والحزن والخبيث والطيب) السهل الذي فيه سهولة ولين ورقة ورفق، والحزونة هي الشدة والغلظة، فالسهل والحَزْن متقابلان، والخبيث والطيب متقابلان. قوله: [ زاد في حديث يحيى (وبين ذلك) ]. أي: بين السهولة والحزونة، أي: وسط بين ذلك. قوله: [ والإخبار في حديث يزيد ]. المقصود بالإخبار هنا التحديث؛ لأن الموجود (حدثنا) وليس فيه (أخبرنا)، فيستعملون (أخبرنا) بمعنى (حدثنا)، وبعض العلماء يفرق بين حدثنا وأخبرنا، فيأتي بـ(حدثنا) إذا سمع الحديث من لفظ الشيخ، ويأتي بـ(أخبرنا) إذا قرئ على الشيخ وهو يسمع، ومن العلماء من يسوي بينهما، وهنا فيه التسوية بينهما؛ لأنه قال: والإخبار، مع أنه قال: حدثنا.

تراجم رجال إسناد حديث (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض...)


قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ أن يزيد بن زريع ]. يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و يحيى بن سعيد حدثاهم ]. هو يحيى بن سعيد القطان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عوف ]. هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا قسامة بن زهير ]. قسامة بن زهير ثقة، أخرج له أبو داود و الترمذي و النسائي عن أبي موسى . [ حدثنا أبو موسى ]. هو أبو موسى الأشعري وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث علي (اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة ... )


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: (كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من النار أو من الجنة، إلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونّن إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة؟ قال: اعملوا فكل ميسر؛ أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة، ثم قال نبي الله فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]) ]. أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في البقيع وكانوا معه، فجلس ومعه مخصرة -وهي عصا صغيرة-، فجعل ينكت بها في الأرض) أي: يخطط بها، وهذا -كما يقولون- عمل المهموم (فقال عليه الصلاة والسلام : ما من نفس منفوسة). ما من نفس منفوسة أي: مولودة، والمرأة إذا ولدت يقال لها: نفساء؛ لأنه يسيل منها الدم، ونفست يعني: خرج منها الدم، ويقال للدم: نفس، وهناك كلمة مشهورة عن إبراهيم النخعي قال فيها: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه، أي: ما لا دم له سائل، فالمراد بقوله: (منفوسة) أي: مولودة، (إلا وكتبت شقية أو سعيدة، وكتب مكانها من الجنة أو النار)، وهذا شيء قد سبق به القضاء والقدر، وقد كتب ومضى، (فقال رجل: يا رسول الله! ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) أي: ما دام أنه قد سبق القضاء والقدر بأن الشقي شقي، وأن السعيد سعيد ، وأن الذي في الجنة في الجنة، والذي في النار في النار، فما دام الأمر كذلك ألا ندع العمل، وسيصير الكل إلى مكانه: إما إلى الجنة وإما إلى النار؟ (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا) أي: إنّ هذه الغايات والنهايات التي قدرها الله عز وجل من الشقاوة والسعادة قد قدّر الله تعالى أعمالاً تؤدي وتوصل إليها، فالذي يعمل خيراً ويوفق لسلوك طريق الخير ينتهي به الحال إلى الغاية الحميدة المقدرة وهي السعادة، وإذا سلك واختار طريق الشر -وهذا بمشيئته وإرادته وعمله- فإن ذلك سيؤدي به إلى الغاية السيئة وهي الشقاوة، وبهذا تكون الغاية مقدرة، والوسيلة مقدرة، والله تعالى قد قدّر أن هذا سيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهل الجنة، وأن هذا سيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهل النار. وهذا الذي فعله الإنسان بمشيئته وإرادته لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله، فما قدره وقضاه لابد أن يكون، حيث قدر أن هذا يعمل بعمل أهل السعادة وينتهي إلى السعادة، وأن هذا يعمل بعمل أهل الشقاوة وينتهي إلى الشقاوة، فالوسيلة مقدرة والغاية مقدرة، وكل شيء يقع في الوجود فقد سبق به القضاء والقدر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب أن المطلوب هو التقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، والناس مأمورون بما يعود عليهم بالخير، ومنهيون عما يعود عليهم بالشر، وقد بين الله عز وجل لهم طريق الخير من طريق الشر كما قال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، فمن وفقه الله عز وجل فإنه يعمل الأعمال الصالحة التي تفضي به إلى السعادة، ومن خذله الله عز وجل ولم يوفقه فإنه يعمل الأعمال الخبيثة التي توصله إلى الشقاوة وإلى النار. وهذا البيان من أوضح البيان في أن المقصود هو العمل، والقدر سر من أسرار الله عز وجل في خلقه، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.


ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:22 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
تراجم رجال إسناد حديث علي (اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة ... )

قوله: [ حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر ]. المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ سمعت منصور بن المعتمر ]. هو منصور بن المعتمر الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعد بن عبيدة ]. سعد بن عبيدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن حبيب ]. عبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي ثقة مقرئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن علي رضي الله عنه ]. علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب أهل الكتب الستة.

ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نقلاً عن كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري)

وهذا الحديث سبق أن وضعته ضمن الأحاديث التي اخترتها من (صحيح البخاري )، وهو الحديث التاسع عشر، وقد ذكرت بعض النقول فيما يتعلق بشرحه، وفيما يتعلق بالقضاء والقدر، فسنقرأ منه الآن شيئاً من الفوائد التي اشتمل عليها الشرح، وأنا لما اخترت العشرين حديثاً من (صحيح البخاري ) حرصت على أن اختار لكل واحد من الخلفاء الراشدين حديثاً من أحاديثه، وأترجم له بترجمة أنقل فيها جملة من الثناء عليه، ومن بيان فضائله ومناقبه. فعلي بن أبي طالب هو: (أمير المؤمنين، وابن عم سيد الأولين والآخرين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمر إليهم شورى من بعده، أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الحافظ في التقريب: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وزوج ابنته، من السابقين الأولين، والمرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم في الأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح). أي: أنه بعد وفاة الخلفاء الذين قبله لم يكن هناك أحد أفضل منه، وليس في الصحابة أفضل منه بعد الخلفاء الراشدين الثلاثة، وهذا باتفاق أهل السنة. قال: ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجي في الخلاصة: (علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم). وعبد مناف هو اسم أبي طالب فقد كان مشهوراً بكنيته، وأبو طالب هو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وأعمام الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أدركهم الإسلام أربعة وهم: حمزة و العباس و أبو طالب و أبو لهب ، فأبو طالب اسمه عبد مناف ، و أبو لهب اسمه عبد العزى ، فوفق اثنان ودخلا في الإسلام، وتشرفا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخذل اثنان فماتا على الكفر، ولم يدخلا في الإسلام، وقد قال الحافظ ابن حجر : إن من غريب الاتفاق الذي حصل أن هؤلاء الأعمام الأربعة وفق اثنان منهما للإسلام، وأسماؤهم توافق أسماء المسلمين، ولم يوفق اثنان لذلك، وأسماؤهم تماثل أسماء الكفار، فهي معبدة لغير الله عز وجل. قال: (علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو الحسن ، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وختَنُه على ابنته، أمير المؤمنين يكنى أبا تراب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، و مسلم بخمسة عشر). وهذه من فوائد (الخلاصة) للخزرجي ، فهو إذا ذكر الصحابة ذكر جملة ما لهم من الأحاديث في الكتب الستة، وعدد الأحاديث التي اتفق عليها البخاري و مسلم ، وعدد الأحاديث التي انفرد بها البخاري ، وعدد الأحاديث الذي انفرد بها مسلم ، ومثل هذا لا يوجد في التقريب. قال: (شهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عنه أولاده: الحسن و الحسين و محمد و فاطمة و عمر ، و ابن عباس و الأحنف و أُمم، قال أبو جعفر : كان شديد الأدمة، ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعاً بين الأقوال، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ). وقد قال له هذا لما خلفه في المدينة في غزوة تبوك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استنفر الناس، وأعلن للناس أنه سيغزو الروم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، فإذا أراد أن يذهب إلى جهة الشمال فإنه يسأل -مثلاً- عن طرق في جهة الجنوب، فالذي يسمع مثل هذه الأسئلة يظن أنه سيذهب إلى جهة الجنوب؛ وفعله هذا إنما هو لإخفاء مسيره على الأعداء الذين يريد أن يغزوهم حتى لا يستعدوا له، وأما في غزوة تبوك فإنه قد أعلن لهم أنه سيغزو الروم، وأمر الناس بالاستعداد لذلك؛ لأن المسافة بعيدة وكان ذلك في الصيف، والصيف حار، والعدو كبير، فأراد أن يستعد الناس، ثم إنه خلّف علياً في المدينة ليكون قائماً بشئون أهل بيته، ومن بقي في المدينة من أهل الأعذار، ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نظر علي وإذا به وحده مع النساء والصبيان، مع أنه من أهل الشجاعة رضي الله عنه، ويريد أن يجاهد في سبيل الله ولا يريد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) أي: إني خلفتك في المدينة حتى أرجع كما خلف موسى أخاه هارون حتى يرجع، وهذا لا يدل على أنه أولى من غيره بالخلافة، وإنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف قريباً له, وأما موسى فقد خلف أخاه والفرق بين المشبه والمشبه به أن المشبه به نبي خلف نبياً، وأما المشبه فنبي خلف قريبه؛ لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي)، فهذا هو الفرق بين المشبه والمشبه به، وهو لا يعني أنه هو الخليفة من بعده؛ لأن موسى إنما خلف أخاه هارون مدة غيبته، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خلف علياً رضي الله عنه مدة غيبته، فلا يدل هذا على أنه أحق بالخلافة من غيره، ولا يدل على أنه أفضل من غيره، وإنما يدل على فضله، ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له ذلك ابتداءً، وإنما قال له ذلك تطييباً لخاطره لما قال: أتخلفني في النساء والصبيان. قال: (وفضائله كثيرة، وقد استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض. وذكر الحافظ ابن حجر في (مقدمة الفتح) أن له عند البخاري تسعة وعشرين حديثاً، وقال ابن حجر في (الإصابة) أبو الحسن أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فَرُبّي في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره بالمدينة: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟)، وزوّجه ابنته فاطمة ، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه قال له: (أنت أخي)، ومناقبه كثيرة، حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي ، وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد، وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): أبو الحسن الهاشمي ، قاضي الأئمة، وفارس الإسلام، وخَتنُ المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان ممن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حق جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعد)، وقال: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)، ومناقب هذا الإمام جمة أفردتها في مجلد وسميته بـ(فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه، وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ومن خصائص علي قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر: (لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدوا كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أين علي بن أبي طالب فقالوا: هو يشتكي عينيه، فأُتي به فبصق في عينيه، فدعا له فبرئ، فأعطاه الراية) . أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد انتهى. وقد روى هذا الحديث غير سهل أكثر من اثني عشر صحابياً ذكرهم في (تهذيب التهذيب).

شرح حديث الجنازة نقلاً عن كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري)


قال: (قوله: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض)، جاء في بعض الروايات -كما تقدم في التخريج- أن ذلك كان في بقيع الغرقد، وجاء في بعضها بيان ذلك الشيء الذي ينكت به الأرض وأنه عود، وفي بعضها: مخصرة، وهي العصا، وسميت بذلك؛ لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها، ومعنى (ينكت): أي يخط في الأرض خطاً يسيراً مرة بعد مرة، وذلك فعل المفكر المهموم. قوله: (قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟)، ورد في بعض النصوص تعيين السائل، ففي بعضها أنه سراقة بن مالك بن جعشم ، وفي بعضها: أنه شريح بن عامر الكلابي ، وفي بعضها: أنه عمر رضي الله عنه، وفي بعضها: أنه أبو بكر رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر بعد ذكرها: والجمع بينها أن تحمل على تعدد السائلين عن ذلك. قوله: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل): قال الحافظ ابن حجر والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: فإذا كان كذلك أفلا نتكل، وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا؟ وحاصل الجواب: لا مشقة؛ لأن كلاً ميسر لما خلق، وهو يسير على من يسره الله عليه. قال الطيبي : الجواب من الأسلوب الحكيم: منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعل العبادة وتركها سبباً مستقلاً لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط. انتهى. وهذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر، وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير. قال النووي : قال الإمام أبو المظفر السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. انتهى. وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقال: فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وقال: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في محض الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً. من فقه الحديث وما يستنبط منه. أولاً: مشروعية اتباع الجنازة. ثانياً: أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة، وأن يظهر عليه أثر ذلك. ثالثاً: موعظة العالم أصحابه عند القبور. رابعاً: إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. خامساً: مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل. سادساً: أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه. سابعاً: الرد على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر، فالجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له. ثامناً: الرد على القدرية؛ لأن أفعال العباد وإن صدرت عنهم فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى. تاسعاً: أن العمل الطيب أمارة على الخير، والعكس بالعكس. عاشراً: النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له. حادي عشر: أن السنة تبين القرآن، وتوضحه، وتدل عليه ).

الأسئلة



معنى الكلمات الشرعية والكونية، والفرق بينهما


السؤال: ما معنى الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، وما الفرق بينهما؟ الجواب: الكلمات الكونية هي مثل الإرادة الكونية، والكلمات الشرعية مثل الإرادة الشرعية، فالكلمات الشرعية هي الأوامر والنواهي، والقرآن من كلمات الله الشرعية، فهو أوامر ونواهٍ وأخبار، وأما الكلمات الكونية فهي الكلمات القدرية، وذلك مثل: كلمة الإرادة والمشيئة، ولهذا جاء في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، وهي الكلمات الشرعية، فالكلمات الشرعية مشتملة على أخبار وأحكام، فأخبارها صادقة، وأحكامها عادلة.


أقسام القدرية

السؤال: هل القدرية صنف واحد أو فيهم غلاة وغير غلاة؟ الجواب: القدرية هم أولاً صنفان متقابلان، ثم إن النفاة فيهم غلاة.


من نفى علم الله تعالى فهو من غلاة القدرية


السؤال: من نفى علم الله تبارك وتعالى فهل هو من غلاة القدرية؟ الجواب: قال الشافعي رحمة الله عليه: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ومن نفى ذلك فلا شك أنه من غلاة القدرية.


الإيمان قول وعمل واعتقاد

السؤال: جاء عن جماعة من السلف في تعريف الإيمان قولهم: الإيمان قول وعمل، ولم يذكروا الاعتقاد بالقلب؟ الجواب: الذين قالوا: الإيمان قول وعمل لا يريدون إخراج الاعتقاد بالقلب عن هذا؛ لأن العمل -كما هو معلوم- عمل بالقلب، وعمل باللسان، وعمل بالجوارح، فالقلوب لها أعمال، كما أن الجوارح لها أعمال.


يكون الكفر بالتكذيب وغير التكذيب


السؤال: تقول المرجئة: إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، فهل من يقول: إن الكفر كله تكذيب يكون موافقاً لقول المرجئة؟ الجواب: الكفر يكون بالتكذيب وغير التكذيب، فليس خاصاً بالتكذيب، فسب الله عز وجل مثلاً كفر، مع أنه ليس بتكذيب.


ردّ المرجئة للأدلة التي فيها التنصيص على زيادة الإيمان ونقصانه


السؤال: بماذا يجيب المرجئة عن الآيات والأحاديث التي فيها التنصيص على زيادة الإيمان ونقصانه؟ الجواب: المرجئة غلبوا جانب الوعد، وأهملوا جانب الوعيد، فأخذوا بأحاديث الوعد، وأهملوا أحاديث الوعيد، وعكْسهم الخوارج الذين غلبوا جانب الوعيد، وأهملوا جانب الوعد، وأما أهل السنة والجماعة فأعملوا النصوص جميعاً.


حكم بيع الأرض بالأرض متساوياً ومتفاضلاً


السؤال: هل يجوز بيع الأرض بالأرض؟ وهل يلحق هذا بالأصناف الربوية الستة؟ الجوانب: يجوز بيع الأرض بالأرض متساوياً ومتفاضلاً، وليس لذلك علاقة بالربا.


حكم الاحتفال باليوم العالمي للمعلم

السؤال: يحتفل الناس باليوم العالمي للمعلم، وفيه توزّع جوائز للمعلمين، فما حكم هذا العمل، وما حكم تخصيص مثل هذا اليوم بذلك؟ الجواب: هذا من الأمور المحدثة.


الخلع فسخ وليس بطلاق


السؤال: هل يعتبر الخلع طلاقاً بائناً؟ الجواب: هناك خلاف، والأظهر أنه ليس بطلاق، ولهذا لا يحتاج إلى عدة طلاق، وإنما يكتفى فيه استبراء الرحم بحيضة، فالأصح فيه أنه فسخ وليس بطلاق.


هل الخلع بينونة صغرى أو كبرى؟


السؤال: هل يعتبر الخلع بينونة صغرى أو كبرى؟ الجواب: هو بينونة، وتملك نفسها بمجرد دفعها للشيء الذي اتفق عليه من العوض ولا يملك هو رجعتها، ولكن إذا أراد أن يرجع إلى ما كان عليه فإنه يحتاج إلى عقد ومهر جديدين، وإلا فإنه ليس له حق الرجعة، فقد بانت منه بحصول الاتفاق على الفسخ، ولكنه لا يعتبر طلاقاً.


وجه قول السلف في تعريف الإيمان: قول وعمل، ولم يذكروا الاعتقاد


السؤال: بالنسبة لقول السلف في تعريف الإيمان: الإيمان قول وعمل، ألا يقال: إن السلف أدخلوا الاعتقاد في القول؛ لأن القول إذا أطلق يشمل قول القلب واللسان؟ الجواب: يمكن، ولكن من ناحية العمل، فالقلوب لها أعمال، والجوارح لها أعمال. وأما إطلاق القول على ما يقوم في القلوب فالأصل أن الكلام هو ما يسمع من المتكلم ويفهم، لكن قد يطلق القول أحياناً على ما يقوم في القلب دون أن ينطق به الإنسان إذا قيد، كما قال الله عز وجل: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فلما جاءت كلمة: ((في أنفسهم)) عُرف أن هذا يرجع إلى القلب، لكن لو لم تأت لانصرف إلى الكلام المسموع من المتكلم، وكذلك قول الصحابي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يطيل من الركوع حتى أقول في نفسي قد نسي) لكن الأصل أن القول يكون بالكلام، ولهذا جاء في الحديث: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل). ولو طلق الإنسان في قلبه فلا يعتبر مطلقاً، وكذلك لو أعتق في قلبه فلا يعتبر معتقاً حتى يوجد منه اللفظ الذي يحصل به العتق والطلاق.


حكم الموعظة عند كل قبر

السؤال: عندنا في الأردن بعض الإخوة يعملون موعظة على كل قبر بعد الدفن، فهل في هذا شيء؟ الجواب: لم يأت شيء في هذا بعد الدفن، وإنما جاء قبل الدفن، وأما بعد الدفن فيقفون على القبر ويدعون للميت ثم ينصرفون، لكن إذا حصل تذاكر أو كلام عابر قبل الدفن فلا بأس به كما جاء في الحديث.


أصل مقولة: إن القدر سر الله في خلقه


السؤال: مقولة: إن القدر سر الله في خلقه، هل هي أثر؟ الجواب: هي من كلام الطحاوي رحمه الله، ومعناه: أنه شيء خفي اختص الله تعالى به، ولا يعلم حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى، وله الحكمة البالغة في ذلك، فهو من الأسرار الخفية التي لا يبحث عنها، ولا يتعمق فيها، وأما الكلام في القدر طبقاً لما جاءت به النصوص فهذا أمر مطلوب، ولكن المحذور هو التعمق فيه، والاعتراض عليه؛ ولهذا قال الله عز وجل يقول: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، فمن حكمته أن جعل الناس فريقين، وهذا لا يعني: أنهم مجبورون بل لديهم عقول وإرادة ومشيئة، ويقدمون بأنفسهم على ما ينفعهم وما يضرهم.


حكم دعوة أهل البدع إلى حفل الزفاف من أجل دعوتهم


السؤال: هل بإمكاني دعوة بعض أهل البدع إلى حفل زفافي بغية دعوتهم إلى الحق، علماً أنهم يدعون إلى بدعهم في القرية التي أسكن فيها؟ الجواب: إذا كانت الدعوة يترتب عليها مصلحة استمالتهم والتوصل إلى هدايتهم فهذا مقصد حسن، وأمر طيب.


حكم الطبق الخيري

السؤال: تقيم مدارس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم القسم النسوي ما يسمى بالطبق الخيري، وهو أن تصنع كل طالبة شيئاً من المأكولات، ثم تباع هذه الأشياء في المدرسة لصالح الجمعية، فهل في هذا العمل شيء، خصوصاً وقد أُخبرتُ أنه من عادات النصارى؟ الجواب: أنا ما أعرف أن هذا من عادات النصارى، فمثل هذا الأمر نعتقد أنه لا بأس به؛ لأن فيه فائدة، فكل واحد يتبرع بشيء يأتي به، ثم يباع ذلك بثمن، ويكون ذلك الثمن لصالح الجمعية، فهذا من جنس التبرع، فلو أن كل واحدة تبرعت بنقود بدلاً من الطعام فلا فرق.


الجمع للمطر


السؤال: يوجد في فرنسا مسجد، وإمامه دائماً ما يجمع بين المغرب والعشاء، حتى لو كان المطر يسيراً، فهل نصلي معه إذا جمع، أو ننوي النافلة؟ الجواب: إذا كان المطر متواصلاً، ويصعب على الناس الذهاب والإياب فإنه يسوغ، وأما أن يجمع لمجرد نزول شيء من المطر، فهذا لا يصلح ولا ينبغي، ولاسيما والوضع الآن في كثير من البلاد يختلف عما كان عليه من قبل من حيث وجود الدحض في الأرض، أو وجود ما يلتصق على الناس في ثيابهم وأرجلهم، فإذا أتوا للصلاة في المسجد أتوا وهم ملوثو الأرجل، أما الآن فالطرق مسفلتة، ولا يحصل شيء مما كان موجوداً من قبل، وأما إذا كان المطر يصب، وكان في ذهابهم ورجوعهم مشقة، فهذا قد جاءت السنة بمشروعيته، لكن ينبغي أن ينبه على أنه ليس كل نزول مطر يكون معه جمع بين الصلوات، فهذا رخصة وليس بسنة.


هل يخرج النبي عن طور البشرية عند نزول الوحي عليه


السؤال: هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه خرج عن طور البشرية، ودليل ذلك: أنه عندما ينزل إليه الوحي يتصبب عرقاً؟ الجواب: لا يخرج عن طور البشرية في هذا، وإنما يتصبب عرقاً لكونه ينزل عليه أمر عظيم، فهو بشر لا يخرج عن بشريته، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يصيبه أمر عظيم، حتى أن بعض الصحابة يحكي: أن رجله تكاد ترضّ رجل من وقعت عليه ممن حوله من الصحابة من شدة الثقل الذي يحصل له صلوات الله وسلامه وبركاته عليه عند نزول الوحي.


الاعتماد على ما صح من السيرة


السؤال: إذا تم الاعتماد على الصحيح من السيرة فقط فسنضيع جزءاً كبيراً من السيرة النبوية، فكيف تريدون الاعتماد على ما صح فقط؟ الجواب: ما جاء في السيرة لا يكون ثابتاً إلا إذا صح إسناده، وأما غير ذلك فلا يقال له: إنه ثابت، ولا يؤخذ به حتى يصح إسناده.


حكم استضافة الداعية عمرو خالد


السؤال: نريد استضافة الداعية المعروف عمرو خالد فما رأيكم؟ الجواب: لا تستضيفوه أبداً.


حكم فتح باب الجرح والتعديل لكل أحد من الناس


السؤال: هل يصح أن يقال: إن باب الجرح لأهل البدع مفتوح لكل أحد من أهل السنة حتى الفساق؟ الجواب: فساق أهل السنة أنفسهم بحاجة إلى سلامة من الجرح.


الليل والنهار في الجنة


السؤال: هل في الجنة ليل ونهار؟ الجواب: معلوم أن الليل والنهار إنما يكونان بالشمس والقمر وجريانهما، وقد جعلهما الله تعالى في الدنيا من أجل أن ينام الناس وينتشروا، فيستريحون بالليل، وينتشرون بالنهار لابتغاء الرزق، وتحصيل المعيشة، ولو جعل الله عليهم الليل سرمداً أو النهار سرمداً لحصل لهم من المشقة ما الله به عليم كما ذكره الله تعالى في القرآن، وأما الجنة فليس فيها إلا الضياء والنور، وليس فيها ليل ولا نهار.


ذكر التفويض في لمعة الاعتقاد


السؤال: قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في (لمعة الاعتقاد) بعد أن تكلم عن آيات الصفات ووجوب الإيمان بها من غير تأويل ولا تشبيه، قال: وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، فما صحة هذا الكلام؟ الجواب: هذا غلط وليس بصحيح، فتفويض المعنى غير مسلَّم، بل المعنى ثابت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أن السميع غير البصير، فالبصر يتعلق بالمرئيات، والسمع يتعلق بالمسموعات، فلا يقال: إننا لا نفهم معنى البصر، ولا نفهم معنى السمع، ولا نفهم معنى القدرة، بل المعنى معلوم كما قال ذلك الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه عندما سئل كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عن الكيفية، فالمعنى ثابت، ولكنه ليس كما يليق بالمخلوقين، بل كما يليق بالله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر، ونفى المشابهة، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار. وأما تفويض الكيف مع فهم المعنى فهو منهج أهل السنة والجماعة، وأما المفوضة الذين يقولون في صفات الله: الله أعلم بمراده بذلك، وإن المعنى لا يفهم، فمذهبهم باطل، وليس هذا منهج السلف ولا طريقتهم، بل طريقة السلف تفويض الكيف دون المعنى، وقد بيّن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه حيث قال: الاستواء معلوم، -أي: ليس فيه تفويض- والكيف مجهول-أي: أنه يفوّض، والتفويض ليس منهج السلف، وإنما هو طريقة أهل البدع، ولا يصح أن يقال: إن مذهب السلف من الصحابة ومن سار على منوالهم هو التفويض ومن قال ذلك فقد ارتكب ثلاثة محاذير. الأول: أنه جاهل بمذهب السلف، والثاني: أنه مجهِّل لهم، أي نسبهم إلى الجهل، وأنهم لا يعلمون معاني ما خوطبوا به، لذلك فإنهم يقولون: الله أعلم بمراده، وهذا غلط، فقد فسروا قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] بأن الاستواء هو العلو والارتفاع، ففسروها بما تقتضيه اللغة. والثالث: أنه كاذب عليهم؛ لأن مذهبهم ليس هو التفويض، بل هو إثبات المعنى، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فالسمع معناه معروف، والبصر معناه معروف، ولا يقال: الله أعلم بمعنى السمع، والله أعلم بمعنى البصر، فالسمع يتعلق بالمسموعات، والبصر يتعلق بالمرئيات والمبصَرات، وسمع الله تعالى محيط بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وكذلك بصره نافذ في كل شيء، ومحيط بكل شيء.


قول الرجل لأخيه: وجدتك صدفة


السؤال: ما حكم قول الرجل لأخيه: وجدتك صدفة؟ الجواب: إذا كان المقصود أن ذلك من غير قصد ولا إرادة فلا بأس به، وهذا هو الذي يسمونه اتفاقاً، أي: حصل اتفاقاً من غير قصد، فالإنسان كان لا يفكر فيه ثم لقيه اتفاقاً، وكل شيء بقضاء وقدره.


إذا ركع الإمام قبل أن يكمل المأموم قراءة الفاتحة فماذا يفعل؟


السؤال: بعض الأئمة يستعجلون في الصلاة، فيركع أحدهم ولم يفرغ المأموم من قراءة الفاتحة، فهل يقطع المأموم قراءة الفاتحة ويركع أم ماذا يفعل؟ الجواب: يكملها بسرعة ويلحق، وإذا كان الخلل من المأموم فإنه يتدارك الخلل، فبعض المأمومين قد يسهو، أو قد يطيل، وهو يعرف حال إمامه من الإسراع في القراءة، فعليه أن يعمل على أن ينهي الفاتحة قبل أن يركع الإمام، وإذا كان الإمام يستعجل فينبه إلى ضرورة ألا يتأخر ولا يستعجل.


جواز إنابة خطيب الجمعة من يصلي بالناس


السؤال: خطب خطيب الجمعة، ولما انتهى من الخطبة أناب شخصاً آخر يصلي بالناس، فما حكم ذلك؟ الشيخ: يجوز. ولا بأس بذلك.


حكم اتباع جنازة المبتدع

السؤال: جاء عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: من مشى في جنازة مبتدع فهو في غضب الله حتى يرجع، فهل هذا ينطبق على كل مبتدع في هذا الزمان؟ الجواب: لا أدري عن صحة نسبة هذا الكلام إلى الفضيل ، وكون من فعل ذلك فإنه يكون في غضب الله هذا من الأمور المغيبة، ولكن -كما هو معلوم- فإن هناك مبتدعة، وهناك من عنده بدعة وليس من أهل البدع، فأهل البدع مثل المعتزلة والخوارج."




ابوالوليد المسلم 04-07-2025 11:27 AM

رد: شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله
 
شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)

كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [527]
الحلقة (557)



شرح سنن أبي داود [527]

حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين حديث عظيم، وقد أورده ابن عمر بطوله من أجل إثبات الإيمان بالقدر والرد على من ينكره، وفي هذا الحديث فوائد جمة منها: أهمية الشهادتين واشتمالهما على أنواع التوحيد الثلاثة، وكذلك قدرة الملائكة على التمثل بصورة البشر.

ما جاء في القدر


شرح حديث جبريل في مراتب الدين


قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا و حميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثاً، ثم قال: يا عمر ! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ].
طريقة السلف في الاستدلال


أورد أبو داود رحمه الله هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور، وهو مشتمل على الإيمان بالقدر؛ وأنه أحد أصول الإيمان الستة، التي أجاب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عن الإيمان فذكر: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). وحديث جبريل هذا حديث عظيم، بين النبي صلى الله عليه وسلم في آخره أن جبريل جاء يعلم الدين، وكان تعليمه للدين بإلقائه السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم فأضاف إليه أنه معلم للدين؛ لأنه سأل أسئلة ويريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليها، حتى يتعلم الناس الذين عنده الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضيف التعليم إليه كما هو مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أجاب وهو الذي بيّن، وقد كان جبريل عالماً بالجواب، ولكنه أراد أن يسأل حتى يسمع الحاضرون الجواب. وقد أورد ابن عمر رضي الله عنه الحديث بطوله من أجل الاستدلال على الإيمان بالقدر، وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فقد كانوا إذا سئلوا أحياناً يجيبون، وأحياناً يأتون بالدليل، وأحياناً يأتون بالدليل دون الجواب اكتفاءً بالدليل؛ لكن ابن عمر رضي الله عنه بيّن حكم القدر وشأنه وأيضاً ساق الحديث الطويل كله من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). وفي هذا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا سئلوا عن شيء ساقوا الحديث الطويل من أجل اشتماله على جزئية معينة؛ لأنهم بهذا الجواب يعطون السائل ما سأل ويزيدونه على ذلك أموراً أخرى.
اهتمام التابعين بالعلم وسؤال الصحابة عن ذلك


وقد ذكر في الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري خرجا من العراق حاجين أو معتمرين، أي: سافرا إلى مكة في حج أو عمرة، فكان من مهمتهم بالإضافة إلى كونهم يؤدون هذا النسك أنهم يتفقهون في الدين، وأن يخبروا بما حصل عندهم من أمور منكرة، فيرجعون في ذلك إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين يرجع إليهم في معرفة الأحكام الشرعية في زمانهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل ورأوا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسمعوا حديثه. وفي هذا دليل على حرص التابعين على لقي الصحابة، وسؤالهم عن الأمور المشكلة. قوله: [ (خرجنا حاجين أو معتمرين) ]، شك أهو حج أو عمرة. قوله: [ (فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله) ]. أي لعلنا نلقى أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فنبدي هذا الذي ظهر في بلادنا. قوله: [ (فوفق الله لنا عبد الله بن عمر) ] يعني: أنه حصل أنهما لقيا عبد الله بن عمر وهو داخل المسجد فاكتنفاه عن يمينه وعن شماله، قال يحيى بن يعمر : (فظننت أن صاحبي سيكل الحديث إلي)، أي أنه فهم من صاحبه حميد بن عبد الرحمن الحميري أنه واكل الحديث إليه ليبدأ بالكلام ويسأل، وكانا قد اكتنفاه حتى كان كل واحد منهما على تمكن من سماع كلامه، وما يجيب به، واستيعابه، بحيث لا يفوته منه شيء، ثم أيضاً هذا الاكتناف يدل على حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة.
كلام القدرية في خلق أفعال العباد


فسأله يحيى بن يعمر وقال: (إنه ظهر قبلنا). يعني: في بلدنا (أناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم). يعني: عندهم اشتغال بالعبادة واشتغال بالعلم، وهم يقرءون القرآن ويشتغلون به، ويتقفرون العلم أي يجتهدون في تحصيله، وفي معرفته والبحث عنه، ولكن الشيء الذي ينكر والشيء الذي ظهر منهم أنهم يقولون لا قدر، وأن الأمر أنف، أي أنه مستأنف وليس هناك علم سابق، بمعنى أن العباد يوجدون أفعالهم ويخلقونها، وأن الله تعالى لم يقدر عليهم شيئاً، فقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: (إذا لقيتموهم فأخبروهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، ثم ساق الحديث عن أبيه من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). وفي هذا الكلام من ابن عمر دليل على أن من لا يؤمن بالقدر فعمله مردود، وذلك لأنه أتى بشيء لا يقبل معه عمل، وهو عدم الإيمان بالقدر، الذي هو أصل من أصول الدين. وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن هؤلاء أنهم يقولون: إنه ما تقدم قدر ولا علم، وإن الله تعالى لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وهؤلاء هم الغلاة في نفي القدر؛ لأنهم ينفون العلم الأزلي بكل شيء، وعلى هذا فقول الله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231] وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] لا تدخل فيه أفعال العباد التي يدعي هؤلاء أنهم يخلقونها وأن الله تعالى لا يعلمها ولا يقدرها، وهؤلاء كفرهم العلماء. قال: وأما الذين لا ينكرون العلم فقد جاء عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا، وقال: إن في تكفيرهم خلافاً بين العلماء.
قدرة الملائكة على التمثل بهيئة البشر


ثم ساق ابن عمر الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم يستفيدون منه ويتفقهون ويتحملون عنه السنن، فذكر أنه طلع عليهم رجل غريب، لا يعرفه أحد منهم، ومع ذلك لا يظهر عليه أثر السفر؛ لأن شعره شديد السواد، ولباسه شديد البياض، والمعروف أن المعتاد من حال المسافر أنه يصير شعره أشعث وعليه غبار السفر، ولكن هذا على خلاف ما اعتادوه وما ألفوه، فكان موضع استغراب منهم. وهذا الذي جاء هو جبريل، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صوره غير معروفة كما في هذا الحديث، وكان يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه. وفي هذا بيان أن الملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحول أحدهم من هيئته التي هو عليها إلى هيئة إنسان، وذلك مثلما جاء ضيوف إبراهيم عليه السلام إليه وإلى لوط في صور رجال، وكذلك أتى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة رجل. وجبريل عليه السلام خلقه عظيم، وله ستمائة جناح كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته مرتين: مرة ليلة المعراج فوق السماوات، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق. ومعلوم أن أصل الملائكة غير أصل البشر، فإن الملائكة خلقوا من نور والبشر خلقوا من تراب، وقد جاء في القرآن أن آدم عليه الصلاة والسلام خلق من تراب، والجان خلق مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم) . فهذا المخلوق العظيم من نور يتحول إلى هيئة إنسان. فلما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إليه (أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه)، وبدأ يسأل الأسئلة التي يريد من ورائها أن يسمع الحاضرون الجواب عليها، ليتعلموا الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وفي هذا دليل على أن السائل يمكن أن يسأل ليعلم الجواب لكونه جاهلاً به، ويمكن أن يسأل وهو عالم بالجواب، والمقصود من ذلك أن يسمع الحاضرون الجواب، فيريد أن يشاركه غيره بمعرفة الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه.
أهمية الشهادتين في أركان الإسلام


ثم بدأ بالأسئلة فقال: (يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه)؛ لأن من شأن السائل أنه إذا أعطي الجواب أنه يأخذه، وأما إذا قال: صدقت! فمعناه أن الجواب معروف عنده؛ لأن الذي يقول: صدقت هو العالم بالجواب، حيث حصل الجواب طبقاً لما عنده فقال: صدقت! والرسول صلى الله عليه وسلم أجاب ببيان الإسلام بأمور ظاهرة، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها كما جاء في حديث ابن عمر : (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) ، ومعنى ذلك: أن هذه الخمس هي الأسس التي يقوم عليها الإسلام، وأولها الشهادتان. والشهادتان هي الأساس لبقية الأركان، ولكل عمل من الأعمال، فهما أصل من الأصول الخمسة ولكنهما الركن الركين والأساس المتين الذي تقوم عليه بقية الأركان؛ لأن الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل عمل من الأعمال لابد أن يكون مبنياً على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فإن العمل لا عبرة به، كما قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].
تلازم الشهادتين


ثم إن الشهادتين متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولا تقبل إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تنفعه شهادته، فأهل الكتاب إذا شهدوا أن لا إله إلا الله ولم يشهدوا أن محمداً رسول الله لا ينفعهم ذلك، بل لابد من الشهادة، بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، فهم مكلفون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا لم يحصل منهم ذلك فإنهم لا يكونون من أهل الإسلام، ولا يقال: إنهم يتبعون الأنبياء السابقين، لأن الأنبياء أمروا أتباعهم باتباعه إذا بعث، لأن الرسالات ختمت ببعثته ونسخت، ومن تمسك بها وأعرض عما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإنه كافر ومآله إلى النار خالداً فيها أبد الآباد. ومما يدل على ذلك أنه قد جاء في حق موسى عليه السلام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) . فالرسول الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه لو كان حياً لم يسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أما عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، فإنه قد رفع إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان ويقتل الدجال، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزل عليه؛ لأن الإنجيل قد نسخ ولم يبق في الأرض إلا شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التي هي خالدة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
معنى شهادة أن لا إله إلا الله


ثم لابد من معرفة معنى الشهادتين: فالشهادة الأولى معناها: الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، فهو واحد في ربوبيته، وواحد في ألوهيته، وواحد في أسمائه وصفاته. واحد في ربوبيته فلا شريك له في خلق السماوات والأرض ولا في خلق غيرهما، وهو رب العالمين -والعالمون كل من سوى الله- والله تعالى هو الخالق وكل من سواه مخلوق، فالخلق خلقه، وكل شيء إنما وجد بخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فهو الذي يحيي ويميت ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله تعالى بأفعاله، أي أن الله واحد في أفعاله، وهي الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون. وهو واحد في ألوهيته: أي أنه المعبود وحده الذي لا تصرف العبادة لغيره، بل يجب أن تكون خالصة له عز وجل، هذا هو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والإنابة والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغيرها من أفعال العباد، التي يجب أن تكون كلها لله عز وجل، أي أنه يخص بها ويعبد بها ولا يعبد بها غيره، ولا يشرك معه أحد في العبادة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وكيف تصرف العبادة لمن كان عدماً فأوجده الله؟! وكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟! فإذن العبادة لا تكون إلا للخالق الموجد الذي خلق الخلق كلهم، ولم يشاركه في الخلق أحد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة، ولا يشاركه فيها أحد. ومعنى أشهد أن لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، أو: لا معبود حق إلا الله. فالنفي إنما هو للألوهية الحقة، وإلا فإن الألوهية الباطلة موجودة وكثيرة، وقد قال الكفار لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] فالنفي ليس للوجود، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله، لأن هناك آلهة موجودة ولكنها باطلة، فعلم أن خبر (لا إله) هو: حق، أو: بحق، وبهذا تخرج الآلهة الأخرى؛ لأنها بباطل أو أنها باطل. فلا يصح ولا يجوز أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الآلهة التي تعبد مع الله وتعبد من دون الله موجودة، ولكن الذي يختص به الله ويخرج به من سواه أن نقول: لا إله حق أو لا إله بحق إلا الله. فشهادة أن لا إله إلا الله تقوم على ركنين: النفي والإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، فالنفي في (لا إله) والإثبات في (إلا الله) والنفي عام حيث تنفي الألوهية عن كل من سوى الله، والإثبات الخاص هو أن تثبتها لله وحده. والتوحيد الأول الذي هو توحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين بهذا التوحيد، وقد جاء في القرآن آيات تدل على إقرارهم كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية


ويأتي في القرآن كثيراً توحيد الربوبية لا لأن الكفار أنكروه، ولكن لينتقل منه إلى توحيد الألوهية، وليلزم من أقر به أن يقر بالألوهية، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية بمعنى أن من أقر بالأول يلزمه أن يقر بالثاني، فإذا اعترف بأن الله الخالق وحده.. الرازق وحده.. المحيي وحده.. المتصرف بالكون وحده، لزمه أن يقر بأن الله هو المعبود وحده، فلا يعبد مع الله مخلوقاً، وإنما يعبد الخالق وحده، فكما أنه متفرد بالخلق والإيجاد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له. ويأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية للانتقال لتوحيد الألوهية والإلزام به، كما قال الله عز وجل في سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60]. هذا تقرير توحيد الربوبية، والمقصود من هذا السياق: أإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60]، استفهام إنكار معناه أن الذي انفرد بالخلق والإعجاز، لماذا لا يفرد بالعبادة؟ فإذاً هذا التقرير ليس لأنهم منكرون له فيلزمون به، بل هم مقرون؛ لكن المقصود من ذلك الانتقال إلى الإلزام بالألوهية، أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60] أي: يسوون بين الله وغيره. ثم قال: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:61]. وهكذا يأتي في القرآن تقرير توحيد الربوبية من أجل الانتقال منه إلى الإلزام بالألوهية. وكذلك العكس، فإنهم يقولون: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أي: أن من أقر بالألوهية فقد أقر بالربوبية ضمناً، لأنه لا يصلح أن يثبت الألوهية وينكر الربوبية، فمن يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة لا يقول: إن لله شريكاً في خلق السماوات والأرض، ولكن من أقر بالربوبية قد ينكر الألوهية كما حصل من الكفار الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الإلزام لهم بالألوهية كما تقدم.


الساعة الآن : 10:42 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 267.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 267.03 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.19%)]