ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:48 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (516)

صـــــ(1) إلى صــ(13)



شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [2]

الزنا من أعظم المحرمات، وقد شرع الله الحد فيه ليزجر العباد عن الوقوع في هذه الفاحشة، ويختلف الحد بحسب اختلاف حال الزاني: فإن كان محصنا فعقوبته الجلد ثم الرجم، وإن كان غير محصن فعقوبته الجلد ثم التغريب عاما.
واللواط من أعظم الفواحش، وقد اختلف العلماء في عقوبة من فعل ذلك.
حد الزاني غير المحصن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا زنى الحر غير المحصن، جلد مائة جلدة، وغرب عاما] شرع المصنف رحمه الله في بيان عقوبة الزاني غير المحصن، وهو الذي وصف في السنة بالبكر، فبعد أن بين أعلى الحدين في الزنا -وهو حد الرجم- شرع في بيان عقوبة الزاني البكر، وهي عقوبتان دل عليهما الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما العقوبة الأولى فهي الجلد، وأما العقوبة الثانية فهي التغريب.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، واختلفوا في تغريبه، وسنبين إن شاء الله تعالى أقوال العلماء وأدلتهم والراجح منها.
عقوبة الجلد
أما بالنسبة لعقوبة الجلد فقد نص الله عز وجل عليها في كتابه، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من سنته، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله سلفا وخلفا.
فأما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] ، وهذه الآية الكريمة -كما يقول علماء الأصول- نص في وجوب الجلد على الزاني، وإذا قيل: إن الآية نص أو الحديث نص؛ فهذا أقوى أنواع الدلالة؛ لأن الدلالة على مراتب أعلاها وأقواها -كما بينا غير مرة- هو النص، والنص هو: الذي لا يحتمل معنى غيره، مثل: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] ما فيها احتمال، ولا تتردد بين معنيين فأكثر، فالآية المذكورة نص في ثبوت حد الجلد مائة جلدة على من زنى، والقاعدة عند علماء الأصول: أن الحكم إذا جاء مرتبا على وصف مشتق دل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم أو الوصف هو علة الحكم، فالله عز وجل يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، جاء الحكم في قوله: (فاجلدوا) مرتبا على اسم مشتق وهو اسم الفاعل: (الزانية والزاني) فدل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم وهو الزنا علة الحكم، فكأن الله يقول: أمرتكم بجلدهما من أجل الزنا، وعلى هذا فإن الآية الكريمة نص على ثبوت هذا الحد.
أيضا الآية نص من وجه آخر وهو: أن الله جعل الحد مائة جلدة، والإجماع على أنه لا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ لأن الله يقول: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، وعند العلماء لفظة (المائة) لا تحتمل معنى آخر، فالحكم نص، والعقوبة التي تضمنها ذلك الحكم نص أيضا.
وفي الصحيحين في قصة العسيف -وهو الأجير- الذي زنى بامرأة صاحب الغنم، فلما ترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: (إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام -الذي هو البكر-، وعلى امرأة هذا الرجم، واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، فهذا يدل على أن الجلد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث عبادة في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) .
فثبت نص الكتاب والسنة على عقوبة الجلد، وأجمع العلماء سلفا وخلفا على أن الزاني غير المحصن الحر يجلد مائة جلدة، هذه هي العقوبة الأولى.
عقوبة التغريب
والعقوبة الثانية في حده: التغريب، والتغريب في لغة العرب: مأخوذ من (غرب الشيء) : إذا توارى وغاب عن الأنظار، ولذلك يقولون: غربت الشمس، إذا توارت عن الأنظار، وهذه المادة تطلق على الشيء البعيد، ومنه سمي الغريب غريبا؛ لأنه بعيد عن أهله، وقد غاب عن وطنه وبلده ومسكنه، فالتغريب: عقوبة شرعية تقع في الحدود وفي التعزيرات، فأما في حدود الله عز وجل فيقع في حد الزنا وحد الحرابة، ونص الله عز وجل عليه في حد الحرابة {أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] بلفظ: النفي، والنفي هو: التغريب، ونصت السنة عليه في حد الزنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (وتغريب عام) في حديث العسيف، وفي حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم.
فثبت بهذا أن عقوبة التغريب تقع في الحدود الشرعية، في حد الزنا وفي حد الحرابة، لكنها قد تقع في غير الحدود على سبيل التعزير، كما أثر عن عمر في نفي شارب الخمر، وهذه العقوبة قد يستخدمها الإمام إذا رأى المصلحة في نفي رجل فاسد، وعليه حمل ما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفى المخنثين، فهذا يدل على مشروعية هذه العقوبة في التعزير للإمام، فإذا رأى المصلحة في إبعاد شخص أو أشخاص عن مكان ما أو موضع ما؛ فإنه لا بأس بذلك ولا حرج، وقد يستخدمه المفتي في فتاويه تنبيها على استصلاح الأنفس كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فاستفتى أعلم أهل زمانه -وهو آخر الرجلين قولا في المسألة- فدل على هذا العالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، آخرها نفس عابد، فهل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك من التوبة؟ ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون، فارتحل إليها، فهذا يستخدمه أهل العلم في الفتوى، ويستخدمه الإمام، ويستخدمه القاضي للمصلحة، وهذا التغريب يسمى (التعزير) ، وبابه باب التعزير.
فالزاني المحصن -رجلا كان أو امرأة- يغرب سنة كاملة إلى مسافة القصر فأكثر، وما كان دون مسافة القصر -وهو مسافة السفر- فليس بتغريب، وهذا التغريب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين السابقين، وثبت عن أبي بكر وعمر كما في رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا وغربا، وأثر عن علي رضي الله عنه أنه غرب إلى البصرة، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن غرب إلى خيبر، وإلى البصرة، وكل ذلك مسافة قصر فأكثر.
مسألة: هل يشرع التغريب في عقوبة الزنا؟ وهل هو واجب لازم من تمام العقوبة والحد؟ قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع أنه يجب تغريب الزاني الحر غير المحصن سنة كاملة، وهذا من حيث الجملة، وعندهم خلاف في مسألة: هل يشمل التغريب الرجال والنساء؟ فالجمهور متفقون على أن التغريب عقوبة في الزنا من حيث الجملة، وإذا قلنا: من حيث الجملة فمعنى هذا أن الجمهور عندهم خلاف عند التفصيل، من الذي يغرب؟ ومن الذي لا يغرب؟ دائما إذا قلنا: في الجملة؛ فمعناه أن التفصيل فيه خلاف، وقد تكون هناك شروط عند بعضهم، لا يعتبرها آخرون.
القول الثاني: لا يجب التغريب، وهو إلى الإمام إن رأى المصلحة أن يغرب غرب، لكنه ليس من الحد، وليس بلازم ولا واجب، وهذا مذهب الحنفية.
أما الذين قالوا بوجوب التغريب في حد الزنا فقد استدلوا بصحيح السنة في حديثي عبادة بن الصامت وأبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عن الجميع، ووجه الدلالة منهما أن في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قال صلى الله عليه وسلم: (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام) ، وفي لفظ: (جلد مائة، ونفي سنة) ، وقال في حديث عبادة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام) ، قال الجمهور: نص هذان الحديثان على ثبوت هذه العقوبة، والإلزام بها، فدل هذا على وجوبه، وأنه من تمام الحد، وأن حد الزاني البكر غير المحصن أن يجلد، ويغرب سنة كاملة.
واستدلوا أيضا بقضاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، وحكي عن عثمان أيضا رضي الله عن الجميع، فإنهم غربوا في حد الزنا، قالوا: فهذا كله يدل على أن التغريب سنة كاملة من الحد والعقوبة.
أصحاب القول الثاني قالوا: لا يجب التغريب، وللإمام التغريب إن رأى المصلحة، لكن من حيث الأصل ليس بواجب، وليس من تمام الحد، واستدلوا بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، قالوا: إن الله عز وجل أمر بجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولم يأمر بشيء زائد عن ذلك، وعند الحنفية قاعدة وهي: الزيادة على النص نسخ، فإن قيل لهم: إذا كانت الزيادة على النص نسخ فهذه زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله وعليه وسلم، قالوا: هي جاءت في خبر الآحاد، والقرآن قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني، فعندهم أصلان: الأول: أن الزيادة على النص نسخ، والثاني: أنه لا يجوز نسخ القطعي بالظني، قالوا: إن الظني -وهو خبر الآحاد- يمكن أن يخطئ فيه الراوي، وتدخل عليه الاحتمالات، والخبر القطعي لا مجال فيه لذلك، فلا يمكننا أن نترك اليقين بالشك، هذا وجه قولهم من ناحية نظرية، والمسألة مبسوطة في الأصول.
وقالوا أيضا: التغريب فيه عقوبة من لم يذنب.
واستدلوا أيضا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نفى شارب الخمر إلى خيبر، فلحق بـ هرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب أحدا بعد اليوم، هذا حاصل ما استدلوا به.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب التغريب في الحد؛ لما يلي: أولا: لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وبهذا قال الجمهور، وهو مذهب صحيح وثابت، ولا إشكال فيه من حيث الدليل.
ثانيا: استدلالهم بالآية الكريمة لا يصح، ونقول: إن الزيادة على النص ليست بنسخ، ولا نسلم لهم أنها نسخ؛ لأن النسخ فيه رفع، والزيادة على النسخ ليس فيها رفع، بل فيها إثبات، وقد تكلم الجمهور على هذه المسألة، وبينوا أن الزيادة على النص ليست نسخا.
ولو سلمنا جدلا أنها نسخ، فما المانع أن تنسخ السنة القرآن إذا ثبتت بنص صحيح، ولقد صلى الصحابة رضوان الله عليهم بقباء، فأتاهم رجل فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر وقد وجه إلى الكعبة، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، وكان عندهم نص قطعي أن يستقبلوا بيت المقدس، وقد رءوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم فيه شك، ثم جاءهم النسخ بخبر الآحاد، وخرجوا عن قطعي ما شاهدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ من الدلالات المحتملة- ورجعوا إلى خبر الآحاد، والقول بأنه لا ينسخ خبر الآحاد النصوص القطعية قول مردود، فالصحابة ما قالوا: كيف نترك اليقين بهذا الخبر؟ هناك يقين، وهناك شك، وهناك درجة بين اليقين والشك ملحقة باليقين، وهي غالب الظن، فإذا جاءنا الخبر من رجل معروف بالصدق ثقة عدل؛ فإنه يغلب على ظننا أنه صادق، ولذلك أباحت الشريعة دماء الناس وأعراضهم، وأوجبت الحدود بشهادة العدلين، فالقصاص يثبت بغلبة الظن بشهادة العدلين، فالشريعة نزلت الظن الغالب منزلة اليقين، وبهذا يبطل ما استدل به الأحناف.
حكم تغريب المرأة الزانية
إذا ثبت أن التغريب عقوبة شرعية ف
السؤال هل تغرب المرأة مع الرجل أم أن التغريب يختص بالزاني دون الزانية؟ وجهان عند الجمهور الذين قالوا بثبوت التغريب: فجمهور الجمهور -وهم: الشافعية والحنابلة والظاهرية- يرون أن التغريب يشمل الرجال والنساء، وخالف المالكية رحمهم الله فقالوا: يغرب الرجل، ولا تغرب المرأة.
استدل الجمهور بعموم قوله عليه الصلاة والسلام (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام) ، وهذا شامل للذكر والأنثى.
واستدل المالكية بقوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث ابن عمر في الصحيحين-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) ، قالوا: أنتم تقولون: إن التغريب إلى مسافة القصر، ومعنى ذلك أن المرأة إن غربناها ستسافر بدون محرم، وهذا خلاف النص، وإن غربناها مع المحرم فسنظلم المحرم الذي لا ذنب له، هذا وجه استدلالهم بالحديث.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بثبوت التغريب للرجال والنساء على حد سواء لما يلي: أولا: لصحة دلالة السنة على ذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام) ، ولم يفرق بين الرجل والمرأة.
ثانيا: أن ما ذكروه من الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) ، جوابه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أننا ظلمنا المحرم، وهذا من أقوى الأجوبة، قال بعض العلماء: لأنه لا تزني المرأة إلا بتقصير من أهلها ومحارمها، وإذا علم المحرم أن زناها ووقوعها في الحرام سيجره إلى العقوبة معها، وسيتحمل شيئا من العقوبة؛ حفظ الناس أعراضهم، فمن هنا نقول: ما ظلمنا المحرم؛ لأنه لا يقع زنا المرأة إلا بنوع من تفريط أهلها، وهذا أبلغ في تعظيم حدود الله، وزجر الناس عن التساهل فيها، وحينئذ لا يمتنع أن الشريعة تشرك المحرم في عقوبة التغريب.
الوجه الثاني: نقول: لا مانع أنه يذهب بها، ثم يقفل راجعا؛ لأن الأصل أن الإمام إذا غرب الزانية أن يضعها في مكان يؤمن فيه الفساد، كما لو سافرت لحاجتها في بلد، فتركها المحرم في البلد عند قرابتها أو نحوهم ممن يصونها، ففي حال السفر يشترط المحرم، أما إذا بقيت واستقرت في موضعها بدون محرم فرخص فيه غير واحد من العلماء، وبهذا يبطل ما ذكروه، وناظر الإمام الشافعي رحمه الله في هذه المسألة مناظرة طويلة نفيسة، مليئة بالعلم، وقوية في الحجة في كتابه النفيس (الأم) ، وبين أن نصوص الشرع على هذا، وأنها دالة على ثبوت التغريب واعتباره.
إذا ثبت هذا، فيغرب سنة كاملة، وهذا -كما ذكر العلماء- فيه حكم عظيمة، قالوا: إن الزاني لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يكون فاسدا في نفسه.
والحالة الثانية: أن يكون الفساد من غيره.
فإن كان فساده من نفسه فالمائة جلدة على ظهره أبلغ في زجره ومنعه من الزنا مرة أخرى، وإن كان زناه بسبب قرناء سوء أو نحو ذلك، قطع عنهم سنة كاملة، ويهيئ له ما يعينه على الصلاح بعد العقوبة، فتغريبه عن موضعه الذي هو فيه أبلغ في حصول التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
حكم حبس الزاني عند تغريبه
مسأله: إذا غرب سنة كاملة، ينقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى أخرى، ولا يبقى في المدينة التي فعل فيها الزنا، وإذا كانت المدينة التي فعل فيها الزنا هي مدينته التي هو فيها، فلا إشكال أنه يغرب عنها إلى أي موضع على مسافة القصر، وإذا غرب هل يحبس أو يترك؟ وجهان للعلماء: جمهور العلماء رحمهم الله أنه يغرب إلى غير مدينته ولا يحبس، بل يترك يقضي مصالحه، ويفعل مصالحه، ويراقب فلا يرجع إلى بلده التي غرب منها، وهذا مذهب الجمهور الذين قالوا بالتغريب.
ومن أهل العلم من قال: إذا غرب فإنه يسجن في مكان تغريبه سنة فيمنع من الناس، خشية أن يفر أو يرجع إلى البلد الذي زنى فيه، والأول أقوى وأظهر.
وقول المصنف رحمه الله: (الحر) أخرج العبد والرقيق، والجمهور على أن الرقيق لا يغرب، وبعض العلماء يقول بالتشطير في الجلد وفي التغريب لقوله تعالى: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، وستأتي هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [ولو امرأة] .
سبق أن قلنا: إن المصنف إذا جاء بلفظ (لو) فإنه يشير إلى خلاف مذهبي، وذكرنا أن من العلماء من يقول: إن المرأة لا تغرب، وعلى هذا فإن قوله: ولو، يشير به إلى أن في المسألة خلاف، والذي اختاره جماعة الأصحاب عن الإمام أحمد رحمه الله أن التغريب يشمل الرجال والنساء على حد سواء، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
حكم الرقيق الزاني
قال المصنف رحمه الله: [والرقيق خمسين جلدة ولا يغرب] هذا القول الذي أشرنا إليه؛ لأن الرقيق مرتبط بخدمة سيده، فالقول بأنه لا يغرب هو الأقوى، وقال بعضهم: بالتغريب، وبعض المتأخرين يقول: بالتشطير، والذي عليه الأكثرون أنه لا يغرب الرقيق سواء كان ذكرا أو أنثى، والدليل على أنه لا يغرب: ما ثبت في الصحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت في الثانية؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الرابعة؛ فليجلدها الحد وليبعها ولو بظفير) ، ولم يذكر التغريب، وهذا يدل على أن عقوبة التغريب ساقطة، فأصح القولين سقوطه خلافا لمن قال: إنه يغرب، وأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه غرب أمة من إمائه.
حد اللوطي
قال المصنف رحمه الله: [وحد لوطي كزان] اللواط من الفواحش العظيمة، وهي من كبائر الذنوب -أعاذنا الله وإياكم منها- وهي: إتيان الرجل الرجل، وقد عاقب الله عز وجل من فعلها -وهم قوم لوط- فرفعهم إلى السماء ثم جعل عالي القرية سافلها، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل، وهذا أبلغ ما يكون من العقوبة، وذكر بعض أئمة التفسير أنه رفعت القرية حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الدواب، وهذا من أبلغ وأشد ما يكون عقوبة نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك شنع الله عز وجل هذه الفاحشة، ووصفها بالخبث، ووصفها بالفسق وبالسوء قال: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} [الأنبياء:74] ، فوصفهم بهذه الأوصاف، ووصفهم بالجهل، ووصفهم بالاعتداء {بل أنتم قوم تجهلون} [النمل:55] ، فهذا كله يدل على حرمة هذا الذنب.
وأجمع العلماء على التحريم، وأنه من كبائر الذنوب، لكن اختلفوا في عقوبة من فعل هذه الجريمة، والذي عليه الحنابلة والشافعية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أصحاب الإمام مالك أن حد اللواط كحد الزنا، سواء بسواء، يجلد ويغرب إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا.
ومذهب الحنفية أن يحبس حتى يتوب أو يموت.
وقال بعضهم: يقتل، وهو اختيار بعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، واختلفوا في قتله، فقال بعضهم: ينظر إلى أعلى دار فيرمى منها منكسا، كما أثر ذلك عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، واستدلوا بأن الله عز وجل عاقب قوم لوط بهذه العقوبة، ولكن هذا ضعيف، ووجه ضعفه أننا لو قلنا بأنه يرمى من أعلى دار أو يحرق بالنار كما أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ للزم من هذا أن التاجر إذا طفف الكيل أخذ بعقوبة قوم شعيب المذكورة في القرآن، والذي يظهر أن قوم لوط كان عندهم جريمة أشد من اللواط وهي كفرهم بالأنبياء، فكفروا بنبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، واجترءوا على حرمته، وعقوبتهم كانت جماعية، وجاءت بسبب ذنوب الجماعة، وليست كعقوبة الفرد، فالاستدلال بمثل هذا يحتاج إلى نظر؛ لأنه لو درج على هذا لانتقضت كثير من الأحكام، وما أثر عن بعض الصحابة فلا يمنع أن يكون ذلك منهم على سبيل التعزير والزجر؛ لأنه إذا وقع الشيء كأول حدث فإن الفاعل قد يعاقب بأشد العقوبة حتى لا يتتابع الناس عليه، فيكون فيه معنى زائد عن الجرائم المعتادة المألوفة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن إلحاق النظير بنظيره أقوى من إلحاقه بعقوبة الله عز وجل لقوم لوط؛ لأن قوم لوط كفروا بنبي الله عز وجل، وكذبوه، وردوا ما جاء به، ولم يقبلوا أمره لهم بالطهارة، ولم يقبلوا أمره لهم بالعفة، فهذا يضعف جعل هذه العقوبة أصلا، وأما ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أصل، فيلتحق اللوطي بالزاني، ويأخذ حكمه محصنا كان أو غير محصن، هذا هو الأشبه والأقعد والأقرب والأقوى دليلا إن شاء الله تعالى.
وقد بين المصنف رحمه الله تعالى أن حده كالزاني، وقد تقدم حد الزاني سواء كان رجلا أو امرأة، فإن كان اللوطي محصنا جلد ثم رجم، وإن كان غير محصن فإنه يجلد ويغرب سنة.
مسألة: السحاق هو: استمتاع المرأة بالمرأة، وهو محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وهل يأخذ حكم الزنا أو لا يأخذه؟ الصحيح: أنه لا يأخذ حكم الزنا؛ لأنه لم يحصل فيه الإيلاج الذي يترتب عليه الحكم، كما سيأتينا في حد الزنا، ومن هنا تكون عقوبة السحاق قاصرة، والأشبه أنه يرجع فيها إلى نظر الإمام، فيعزر بما يراه زاجرا ومانعا عن السحاق.
لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللواط شيء، فيه أحاديث فيها الأمر بالقتل لكن في سندها ضعف، والأشبه ما ذكره أهل العلم.
وهنا مسألة نحب أن ننبه عليها: المبالغة في فهم بعض النصوص أمر صعب جدا على طالب العلم وعلى من يريد أن يؤصل تأصيلا شرعيا صحيحا، فبعض العلماء يقول: إن من فعل جريمة اللواط لا تقبل له توبة ولا يختم له بخير، ولا يدخل الجنة!! وقد وردت كثير من الأسئلة فيها استشكال هذا، سبحان الله العظيم!! من هذا الذي يستطيع أن يقول: إن اللواط فاق الشرك، وأصبح أعظم من الشرك والكفر بالله عز وجل!! نعم هو جريمة ممقوتة، وملعون من فعلها، لكن لا نقول: إن الله لا يقبل توبته، وإنه لو تاب لا تحسن خاتمته، وإنه لا يمكن أن يدخل الجنة، من هذا الذي يستطيع أن يذكر هذه الأمور ويقطع بها على الله عز وجل، والنصوص جاءت بخلافها!! والله تعالى يقول في محكم كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48] ، وقد مر بنا في بعض الأسئلة أن رجلا وقع في هذا البلاء، فقال: إنه لا يريد أن يسلم، ولا يريد أن يطيع الله عز وجل بعد سماعه هذا الكلام، يأس من رحمة الله عز وجل نهائيا، حتى فهم وبين له بالدليل الشرعي: أن هذه المعصية من تاب منها توبة نصوحا تاب الله عز وجل عليه، وليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل، وقد تاب الله عز وجل على المشرك إذا تاب وصدق في الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
فننبه على هذا، خاصة وأن بعض الوعاظ ينقل من بعض هذه الكتب، وهذا الشخص الذي يأس -والعياذ بالله- من رحمة الله، وكاد أن يهلك، قال: سمعت خطيبا قالها في خطبته، وبعضهم يقولها في المحاضرات المسجلة على الأشرطة، وهذا من ضعف الفقه في وعظ الناس، ليس كل وعظ يقال ينقل للناس، بل ينبغي أن يضبط بالضوابط الشرعية.
وننبه أيضا على الأصل العام، وهو أن الوعظ فيه دخن، وينبغي الحذر منه، وكتب العلماء التي في الوعظ والرقائق وذكر العباد والصالحين وما كانوا عليه من الصلاح؛ قد يدخل فيها أمور تخالف النصوص الواضحة من الكتاب والسنة، والعلماء لم ينبهوا عليها؛ لأن هذه الكتب أصلا كانت تنسخ باليد، وما كانت تقع إلا في يد عالم، وليس كزماننا الآن الكتاب يقع في يد كل شخص، كان في القديم الكتاب عزيز، ولا تجد منه في العالم كله إلا نسخة أو نسختين، فما كان يقع إلا لعالم يأتي ويقول: أريد هذا الكتاب تنسخه لي، ويجلس الناسخ سنة كاملة أو سنتين وهو ينسخ الكتاب، هذا كله لعزة الكتب، فكانت هذه الكتب لا يقرؤها إلا العلماء، وهم يعرفون غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، ومن هنا يعرف الجواب على من يستشكل أن هذه الكتب كانت منشورة وتنسب لأهل العلم، فنقول: إنها كانت منشورة بين أهل العلم الذين يعرفون صحيحها من ضعيفها، وهذا الذي جعل بعض الغيورين ينبهون على بعض ما فيها من الأخطاء، مثل قولهم عن الإمام فلان: كان يصلي ثلاثة آلاف ركعة، وآخر كان يسبح ثلاثين ألف تسبيحة في اليوم، كيف ثلاثين ألف تسبيحة؟!! كيف يكون هذا؟!! في الثانية كم سيسبح؟!! هذا من المبالغات، إلا إذا كان كما يقول بعضهم: من وصل إلى مقام رفيع فإنه إذا جر سبحة فيها ألف حبه تحسب له ألف تسبيحة، سبحان الله!! قول على الله بدون علم، وجرأة، انظروا كيف الشيطان يستزل الإنسان؟ إذا يئس منه بالمعصية جاءه من باب الطاعة، فليحذر من مثل هذه الأمور، والتحذير منها مهم جدا، ومثل ذلك أيضا ما قيل عن الإمام أبي حنيفة أنه مكث أربعين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء، أستغفر الله! كيف وزوجته عنده؟ لا تستطيع أن تقطع أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، من هذا الذي جلس مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله يراقبه أربعين سنة أو عشرين سنة كما يذكر بعضهم؟ هذه أشياء العاقل المنضبط الذي يعرف أصول الشرع لا يمكن أن تنطلي عليه.
قال بعض العلماء: يعرف ضعف الرواية والخبر بضعف متنها، وهذا من ضعف المتن، فوجود الغرائب في المواعظ، وفي أخبار العلماء أو في الأحكام الشرعية يدل على ضعفها، فينبغي للخطيب وللواعظ وللمحاضر وللمعلم أن يحذر من نقلها، ويحذر منها نصيحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرة على هذا الدين، وبعدا عن أن يكون الإنسان حاطب ليل، ينقل ما صفا وما كدر، وعلى طلاب العلم واجب كبير في هذا الأمر.
انظروا كيف الوعظ بمثل هذه الأمور أوصل الشخص إلى درجة اليأس من رحمة الله! حتى كاد -والعياذ بالله- أن يبقى على البعد عن الله عز وجل إلى أن يموت! ما فكر أن يرجع إلى الله لأنه سمع من قال له: إنه لا توبة لك، وإن تبت فإنه لا تحسن خاتمتك، وإذا تبت وندمت لا تدخل الجنة! فهذا من أبلغ ما يكون من القول على الله بدون علم.
وعلى طالب العلم أن يحذر، وأن ينتبه من مثل هذه الأشياء، وأن يحذر منها، وأن يبقي الأمر على السنن الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامتها وخاصتها.




ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:56 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
الأسئلة




حكم جمع المرأة والرجل إذا زنيا أثناء الرجم أو الجلد
السؤال رجم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة اليهوديين اللذين زنيا، فهل يفهم منه أنه ينبغي أن يقام الرجم عليهما مجتمعين وكذا الجلد أم لا حرج أن يكونا منفردين؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيشرع أن يرجما معا، ويشرع أن يرجم كلا على حده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم الزاني منفردا، ورجم الزاني والزانية جميعا، ولا يجب الجمع بينهما في العقوبة؛ لأنه قد تختلف الجناية منهما كبكر مع ثيب، وثيبة مع بكر، فالجمع بينهما ليس بواجب، وليس بصفة معتبرة في الحد، ويرجع الأمر إلى القاضي، وإلى الوالي، فإذا نظر أن المصلحة أن يفرق بينهما فرق، وإذا رأى أن المصلحة أن يجمع بينهما جمع، لما فيه من زجر للناس، وما يكون أبلغ في تحقيق المقصود الشرعي، والله تعالى أعلم.


حكم المبعض إذا زنا
السؤال إذا زنى المبعض فهل يقام عليه حد الرجم؟
الجواب المبعض فيه شبهة، وهي شبهة الرق، ولا يقام عليه حد الرجم سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأنه فيه شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، وأما قدر العقوبة فينظر إلى قسط الحرية وقسط الرق، ثم يشطر الحد بحسبهما، والله تعالى أعلم.
حكم سفر المرأة من غير محرم
السؤال إذا كان هناك بعض الأقوال على منع تغريب المرأة واختصاصه بالرجال، فما توجيهكم حفظكم الله لبعض النساء اللاتي يسافرن بالطائرات في الإجازات أو مع السائقين للعمل لمسافات أكثر من مسافة القصر؟
الجواب هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، وإذا كان أحد من أهل العلم أفتى هؤلاء النسوة بأن يسافرن بلا محرم فهو الذي يتحمل مسئوليتهن، وهن إذا كن -فيما بينهن وبين الله عز وجل- يعتقدن علم هذا العالم، وأنه حجة لهن بين يدي الله، وعملن بقوله؛ فلا ينكر عليهن، وهذا قول طائفة من السلف رحمهم الله، إذا كانت الرفقة مأمونة، وفيها حديث عدي بن حاتم المشهور في الصحيح، ولا إنكار في المختلف فيه، هذا إذا كن يتأولن هذا القول، وأما القول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز خروج المرأة مسافة القصر بدون محرم، وفي هذا نص واضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) ، فوجب البقاء على هذا النص، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (أنه جاءه رجل، وقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك) ، وما قال له: هل الرفقة مأمونة أو غير مأمونة؟ وكانت في رفقة حج، وهم صحابة رضوان الله عنهم وأرضاهم، ومع ذلك يقول: (انطلق فحج مع امرأتك) والقاعدة الأصولية أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
قال بعض العلماء: في قوله: اكتتبت، مسألة فقهية؛ لأنه حينما اكتتب في الغزوة، تعين عليه الغزو والجهاد، ومع ذلك أسقط عنه الواجب والفرض؛ لأنه إذا اكتتب الشخص وعينه الإمام، أو جاء متطوعا وقبله الإمام؛ فقد تعين عليه الخروج، وهذا حدده الإمام، قال: إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) فلا يسقط هذا الواجب إلا بواجب أعظم منه؛ لأنه من باب تقديم الفرض على الفرض، فدل على أن أمره هذا فيه صيانة للعرض، وهو أعظم، وهو نوع جهاد، فإن سفر الرجل مع زوجته ليحافظ عليها، وسفر الأخ مع أخته كذلك؛ نوع جهاد.
ولكن هنا ننبه على مسألة وهي: أن على كل واحد منا أن يتقي الله في قرابته ونسائه وعرضه، وألا يقصر في مساعدتهن، فإذا احتاجت أن تخرج وقالت له: أريدك أن تكون معي، أن تسافر معي، وبإمكانه ذلك؛ فليحتسب عند الله عز وجل ذلك، وهذا من صلة الرحم، ما دام أنها في غير معصية، وأنها في غير غضب الله عز وجل، وأنها لا تفعل الحرام، تكون خارجة لأمر مباح، أو مصلحة من مصالحها الدنيوية أو الأخروية، المصالح الدنيوية مثل: التجارة والعمل، والمصالح الدينية مثل: الحج والعمرة وبرها بوالديها، مثل أن تسافر بوالديها، فعلى الرجال أن يضحوا، أما أن يقول لها: ما يجوز لك أن تخرجي، ثم هو لا يوصلها، ويجلس المحرم يقول لها: ما يجوز لكي أن تفعلي هذا، ثم لا يفعل شيئا، ولا يقدم شيئا، فهذا من الصعوبة بمكان، ولذلك من يريد السنة أن تقبل، والحق أن يقبل، والخير أن ينتشر؛ فليضح وليقدم الثمن، ومن أبلغ ما يكون من مرضات الله عز وجل بر الوالدين وصلة الرحم، فهذان الأمران خيرهما عاجل وآجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي: يزاد له في عمره- فليصل رحمه) ، وأقرب الناس منك رحما أختك وأخوك، فالأخت والأخ هم أحق القرابة -بعد الوالدين والولد- بالصلة والبر والإحسان.
فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن ننظر للأمر بهذه النظرة، وأن يحرص الإنسان على القيام على عرضه وأهله، بعض الأخيار تحتاج أخته أن تذهب لشراء بعض الأمور التي تحتاجها أو يحتاجها أولادها، فتقول له: أريدك أن تذهب معي إلى السوق، فيقول: لا، ما تذهبي إلى السوق، وما تذهبي إلى السوق إلا مرة واحدة، جزاك الله خيرا على الغيرة، ولكن حينما تكون حكيما لبيبا محافظا على حدود الله محسنا إلى خلق الله؛ فهذا أكمل وأفضل، قل لها: اختاري وقتا مناسبا أبعد عن الفتنة، فيذهب بها مثلا في الصباح الباكر، ويقضي لها حوائجها، وينتظرها حتى تشتري ما تريد، فيكون أمر ونهي؛ وهي تحس أنه يريد الخير لها، لكن يأتي ويقفل أمامها الباب، لا تخرج ولا تدخل، ولا يقضي لها حوائجها، وإن قضى لها حوائجها جاءها بكل هم وغم، وتكلم عليها، وأساء إليها، ويحاسبها، وهذا أمر ينبغي لكل إنسان منصف أن ينظر إليه في نفسه.
والله! إننا لنعيب من غيرنا ما لو عبناه على أنفسنا لأهلكنا أنفسنا بأنفسنا، يشهد الإنسان على نفسه من حيث لا يشعر، فالواحد منا إذا قال له أخوه: أريد أن أذهب إلى السوق، يقول له: ماذا تفعل؟ وماذا تشتري؟ وكم تشتري؟ ما هذا التدقيق الذي يدققه مع أخيه؟ ولو نظر إلى نفسه لوجد أنه يذهب إلى السوق عشرات المرات، وأن الذي اشتراه أخوه مرة؛ يشتريه هو مئات المرات، هناك أمور ندقق فيها، وكأن الشيطان يتسلط علينا، ولذلك من سنن الله عز وجل أنه يجازي المخلوق بما يعامل إخوانه، ومن شدد على الناس؛ شدد الله عليه، ومن يسر على الناس؛ يسر الله عليه، وأولى الناس بتيسيرك أقرب الناس منك، جرب وانظر، فما من زوج ولا أخ يحسن إلى أهله وولده ورحمه وقرابته، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم؛ إلا كانوا أسمع ما يكون له إذا أمر أو نهى، وهذا هو الذي تؤخذ به الحجز عن النار، فلا بد للإنسان أن ينظر للأمر نظرة عامة كاملة شاملة، وألا يحرجهم لهذا الأمر، وإذا جاء في مسألة فيها شبهة، سأل بالأفضل والأكمل، وجاء به على أحسن الأوجه وأتمها.
كان بعض العلماء والفضلاء إذا احتاج أهله إلى لباس، نظر إلى أهله قبل أن يسألوه، وجاءهم بما يحتاجون إليه، ما يأتيهم بالشيء الواحد، يأتي بأربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أصناف، من أجود وأحسن ما يكون، ويضعها بين يدي زوجته، ويقول: اختاري ما شئت، فإذا بها تحار! لو نزلت هي إلى السوق لا تجد مثل هذا، فمن يريد أن يحفظ أهله؛ فليضح.
عليك أن تنظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام مع أمهات المؤمنين ومع ولده، وإذا أردت أن تكون مثل ما كان عليه، وتأمرهم، وتنهاهم، وتلزمهم بالسنة؛ فانظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام في إحسانه وبره لهم، تنظر إليه زوجا يقف لزوجته من أجل أن تنظر، وتنفس عن نفسها، وتنظر إليه عليه الصلاة والسلام أبا يدخل السرور على بنته زينب رضوان الله عنها بحمل ابنتها أمامة في الصلاة التي جعلت قرة عينه، المسألة كلها مشاعر، فقد ملك عليه الصلاة والسلام القلوب ببره وإحسانه، وكان عليه الصلاة والسلام يفتح القلوب قبل أن يفتح الأسماع، فمن ينظر إلى سيرته وهديه عليه الصلاة والسلام عندما يريد أن يقيم بيتا قائما على السنة فينبغي أن يتفقد مداخل الشيطان على أهله وولده.
بعضهم إذا أرادت زوجته أن تذهب أو تسافر يقفل أمامها الباب: لا تذهبي، ولماذا تذهبين؟ وكم تذهبين؟! جزاك الله خيرا على الغيرة، ولكن عليك أن تفكر في الأصلح والأكمل، حتى لا تجعل للشيطان عليها سبيلا، إذا فعلت ذلك؛ اتقيت الله، وكنت أحسن ما يكون حالا، وأمنت من الفتنة، فقل أن يجد الشيطان سبيلا على أمثال هذه النفوس الكريمة الأبية السوية الرضية الهنية التي تبحث عن سعادة أهلها وأولادها.
والعكس بالعكس، فإذا شدد الإنسان شدد الله عليه، وهكذا تجد من يكون عنيفا في أسلوبه، ونعرف هذا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، فبعضهم يأتي بمسائل معقدة تماما حتى تتعارض عنده نصوص الشرع؛ لأنه أوصل نفسه إلى حرج وضيق بطريقته التي يسير عليها، فلما تسأل عن أمور ترتبت عليها هذه المسائل؛ تجد أنه لا يتتبع السنة، ولا يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الأكمل والأفضل.
فهذه وصية عامة: أن يحرص الإنسان كل الحرص على أن يحفظ عرضه، ولكن يقفل الوسائل أو الطرق التي تفضي إلى وقوعهن في الفتنة، وعماد الخير في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا من المتقين، وأن يحفظ أعراضنا وأعراض المؤمنين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.
أفضلية الستر والتوبة على الاعتراف بالذنب
السؤال عدة أسئلة فيها: رجل فعل فعلا يوجب الحد وقد تاب، ولا زالت نفسه تؤنبه، فهل له أن يذهب إلى شخص من أصدقائه ليقيم عليه الحد وترتاح نفسه؟ ويقول سائل آخر: كلما قرأت قصة ماعز رضي الله عنه أصبح عندي شعور أنه لا يطهرني إلا الحد، ويقول آخر: إن كان الزاني يستغفر ويتوب فعلى من يطبق حد الزنا؟ نرجو من فضيلتكم التوجيه.
الجواب هذه الأسئلة فيها جانبان: الجانب الأول: جانب الاعتراف بالذنب، والإجماع منعقد على أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، ويحسن الظن بربه عز وجل (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ لغفرتها لك ولا أبالي) يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء -يعني: ما من ذنب إلا وفعله- ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ، من عظم ذنبه وعظم رجاؤه في الله؛ كان أكمل توحيدا لله عز وجل؛ لأن الذي يتوب مع عظم الذنب ما يتوب إلا عن عقيدة، فهو يعلم أن الله غفور رحيم، ولا يتوب إلا عن إيمان بأن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .
الله سبحانه وتعالى فتح أبواب التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، فمن هذا الذي يقفل رحمة الله عز وجل عليه؟! الإجماع منعقد أنه يستتر، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) ، وهذا أمر من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فالشيطان يأتي إلى أمثال هؤلاء ويقول لهم: إن الله لا يقبل منكم التوبة، وييأسه من رحمة الله، ويشككه في توبته إلى الله، والله عز وجل قال قولا -وهو أصدق القائلين، ووعد وعدا ولن يخلف وعده، وهو رب العالمين- فقال سبحانه وتعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه:82] ، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا أذنب بذنب فقال: رب اغفرلي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي) ، فالشاهد من هذا كله؛ أن الأصل يقتضي أن على الإنسان أن يستر نفسه، وأما اعترافه عند القاضي فهذا خلاف الأولى، وخلاف الأفضل والأكمل، وبقاؤه في الدنيا مطيعا لله؛ أعظم لأجره، وأثقل في ميزانه، وأرضى لربه، وفي الحديث أن رجلا توفي بعد أخيه بأربعين يوما، وكانا صحابيين، فتوفي أحدهما، وبقي الآخر بعده أربعين يوما، وهو أقل منه صلاحا وإحسانا، فلما توفي الثاني اختصم الصحابة: أيهما أفضل؟ فخرج صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (وما يدريكم ما الذي تبلغه صلاة أربعين يوما) ، فطول العمر في طاعة الله عز وجل غنيمة للعبد، وكم من ذنب أصلح الله به حال العبد! كم من أناس لم يتلبسوا بالذنوب فاغتروا بصلاحهم فزلت أقدامهم! وكم من أناس عرفوا السيئات فهجروها! فكلما جاءتهم لذة السيئات؛ كرهوها ومقتوها، فرفع الله درجاتهم بهذا البلاء إلى ما لم يخطر لهم على بال! حتى أن بعض العلماء يقول: من ابتلي بالذنب فتاب؛ أعظم مقاما من الذي لم يبتل به؛ لأن الذي ابتلي بالمعصية وذاق لذة الشهوة وحلاوتها ثم أعرض عنها فهذا لا يكون إلا بقوة إيمان، وقوة وازع من الله عز وجل، ومع هذا كله فإن الأصول كلها دالة على هذا الأصل ولزومه.
الجانب الثاني: مسألة من يقول: أذهب إلى زميلي ليقيم علي الحد، هذا لا يغنيه شيئا؛ لأن الحدود لا تقام إلا بوالي، ويقيمها السلطان على الوجه المعتبر بعد ثبوتها شرعا، حتى لو أقر في غير مجلس القضاء لم يؤاخذ بإقراره؛ لأن الحد لا يثبت حتى يقر به في مجلس القضاء، وهذا له أصول شرعية، فلو ذهب إلى شخص وقال له: اجلدني مائة جلدة، ما ينفعه ذلك، ولو أحضر جميع الناس لينظروا إليه، إذا لم يكن على وجهه الشرعي بقضاء شرعي، فلابد أن يكون هناك قاض يستمد قضاءه من ولاية شرعية، فإذا فعل الحد غير القاضي؛ فإن هذا لا يسقط الحد، ولو قال له: ارجمني، فرجمه، فإنه لا يعتبر حدا شرعيا من حيث الأصل.
القضية الأخيرة: وهي قول البعض: إذا كان من يتوب يستتر فمن الذي يقام عليه الحد؟ نقول: من الذي قال لك: لا بد أن تقام الحدود؟ ومن قال: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يقام فيها حد إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم؟ يقام الحد إذا ثبت، لكن لا نقول للناس: لا بد كل شهر يطلع لنا واحد يعترف بذنب من أجل أن نقيم عليه الحد! رحمة الله واسعة فلا نضيقها، لو أن الأمة عاشت الدهر كله والقرون كلها وما ثبت فيها حد زنا واحد؛ فالحمد لله، ستر من الله ستر به عباده، هل تريد أن تهتك ستر الله على عباده؟ ما تستطيع؛ لأن هذه رحمة من الله عز وجل، ولا عجب أن تكون هذه الرحمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كم من أناس زنوا ثم صلحت أمورهم واستقاموا إلى ربهم! ومنهم عباد صالحون من أئمة السلف، لهم قدم راسخة في العلم والعمل والصلاح وهداية الناس، تابوا وتاب الله عليهم، وهل هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل؟ وهل رأيت مثل عمر يحمل السيف يريد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يجعله الله إماما من أئمة المسلمين؟ من أنت حتى تدخل بين العبد وربه؟ لا يستطيع أحد أن يدخل بين الله وبين عباده، هو ربهم، وهذا حكمه، وهذا شرعه، قال لنا: نستتر، فنستتر، لو قال لنا: نكشف أنفسنا، كشفنا أنفسنا، ونعمت أعيننا بحكم ربنا، والله! لا نقدم ولا نؤخر، رضيت أنفسنا بذلك، فهذا حكم الله، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك قال سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا رحمة مهداة) ، فهذه من سمات الرحمة في الشريعة.
الشريعة وضعت الحد لمن فعل الجريمة أمام الناس، وشهد عليه الشهود، وهتك ستر نفسه، وفعل الزنا أمام أربعة شهود وشهدوا عليه؛ فهذا يقام عليه الحد حتى ولو قال: تبت، حتى ولو كان من أصلح الصالحين، وبهذا أقفلت الشريعة على الناس أبواب الفساد، لكن من وقع في الفاحشة في ستر، أو شرب الخمر في ستر، فالأفضل أن تستره.
أذكر بعض الأخيار أنه جلس معنا مجلسا ذات يوم فذكرنا مسألة الستر، فقال: أعرف رجلا كان مسرفا في الخمر، وكان شريرا كثير الفساد، فشاء الله أن أراه يوما سكران، قال: وبإمكاني أن أفضحه، فأخذته إلى بيتي حتى أفاق ثم كشفت له الأمر، وقلت له: والله! إني كنت قادرا على أن أوصلك للقضاء، ولكن صن نفسك، واتق الله في نفسك، وذكره بالله عز وجل، فانصرف ثم رجع له بعد نصف شهر وقد تغير حاله، وتلألأ وجهه، وقد كان من أشر عباد الله وأفسقهم فقال له: سترتني، أسأل الله أن يسترك في الدنيا والآخرة، واعلم أنني في تلك الساعة -التي كلمتني فيها بأنك كنت قادرا على فضيحتي ولم تفضحني- تفطر قلبي وتألم، حتى كرهت هذه المعصية تماما، وتاب وصلح حاله، ثم حفظ القرآن وأصبح من خيار الدعاة إلى الخير.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يعفو عنا وعن المسلمين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 12:00 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (517)

صـــــ(1) إلى صــ(13)





شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [3]
الشريعة الإسلامية كاملة، وقد جعلت لكل حكم شرعي قدرا، ومن الأحكام التي قيدت فيها الشريعة تقييدا شديدا إثبات الزنا، إذ لابد لإثباته من توافر عدد من الشروط، حتى لا تكون أ'راض المسلمين غرضا لأصحاب الأغراض والنوايا السيئة.
شروط وجوب حد الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط] .
بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد.
قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج:36] ، وكذلك أيضا يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجب عليك، ومنه الواجبات الشرعية.
وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.

الشرط الأول: تغييب الحشفة

قال المصنف رحمه الله: [أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها] .
لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيب رأس الذكر، وعبر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلا إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولا من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.
يبقى
السؤال متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلا؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟ كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبين رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.
قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية) ، فإذا كان رأس الذكر مقطوعا، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.
وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعا.
قال المصنف رحمه الله: [في قبل أو دبر أصليين] .
قوله: (في قبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطا -والعياذ بالله-.
وقوله: (أصليين) أخرج مثلا الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانيا، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانيا، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.
قال المصنف رحمه الله: [حراما محضا] .
قوله: (حراما) أي: هذا الفرج حراما، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضا) : أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصنا، وهذا تصحيف، والصواب: محضا، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.
والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المعارج:29 - 30] ، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:7] ، إذا لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعا، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

الشرط الثاني: انتفاء الشبهة

قال المصنف رحمه الله: [الثاني: انتفاء الشبهة] .
أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالا، ووقع فيه وهو يظن أنه مباح له شرعا؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته.
وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريبا منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالا؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلا: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظانا حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده.
إذا: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله.
قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك] .
لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظن أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناء على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناء على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها.
قال المصنف رحمه الله: [أو لولده] .
لو وطئ الجارية التي فيها شرك لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالا له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعا لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكا محضا لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركا للغير؛ فإن الشبهة أيضا مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو.
قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته] .
هذا يسمى بشبهة المحل، مثلا: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأة يظنها زوجة له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالما بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا.
ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهرا، فإنه في الباطن يظنه حلالا له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات.
قال المصنف رحمه الله: [أو سريته] .
ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالا له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالا، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته.
قال المصنف رحمه الله: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته] .
هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غلبوا أخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلو أن شخصا لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقد باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد.
كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه.
فلو أن شخصا عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقد غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) ، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبرا لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية:32] ؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصا قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعة من الله على عباده.
على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها.
أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولا؟ قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولا.
وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقا وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟ وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟ كل هذه المسائل لها وجه من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولا شاذا لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلا: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علما فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص

الشرط الثالث: ثبوت الزنا

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا] .
هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين] .
ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل.
قال المصنف رحمه الله: [أحدهما: أن يقر به أربع مرات] .
أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحد عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذبا وزورا، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه.
بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاة للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر) ، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟ أولا: أن يكون بالغا، فلو أن صبيا أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف.
ثانيا: أن يكون عاقلا، فلو أن مجنونا أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟) ، وفي لفظ مسلم: (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون) ، فقوله: (أبك جنون) ، (أبه جنون) ، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به.
إذا: يشترط أن يكون المقر بالغا عاقلا.
وأيضا أن يكون مختارا، فلا يكون مكرها على الإقرار، فلو أن شخصا هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجه فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام.
واشتراط العقل يخرج أيضا السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهودا شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح) ، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواء كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعا لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر.
يشترط أيضا أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب ماعزا أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزا قال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلا: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني) ، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي.
انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملا، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار.
اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره.
استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ماعزا أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حدا فطهرني) ، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضا: الأصل في هذه الجريمة إثباتا ونفيا التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4] ، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد.
أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها) ، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز: إني أصبت حدا فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار.
وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصا ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله.
إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة.
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس] .
بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلانا جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟ بعض العلماء يقول: إن ماعزا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم





ابوالوليد المسلم 24-10-2025 12:03 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


الأسئلة




الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا
السؤال لقد أشكل علي كيف أن المرأة المكرهة على الزنا لا يقام عليها حد الزنا بينما يقام الحد على من قتل وهو مكره؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: لا إشكال في هذا إن شاء الله تعالى، وتوضيح ذلك: أن الإكراه شرطه أن يكون ما طلب من الشخص أقل مما يهدد به، فلو هددت المرأة أن تقتل أو تزني؛ فاختارت التوسع وزنت، فإن زناها أقل من القتل، ولو أن بعض الناس يستحب القتل على الزنا، لكن من حيث الأصل؛ جعل الله عز وجل جريمة القتل أعظم من الزنا، لكن حينما يهدد أحد ويقال له: اقتل فلانا وإلا قتلناك، استوى الأمران؛ لأنه في هذه الحالة لو قتل فلانا فقد قتله من أجل أن يعيش، فيكون استبقى نفسه بنفس أخيه، والنفس مع النفس حرمتهما واحدة، لكن الزنا مع القتل حرمتهما ليست بواحدة، ومرتبة الاثنان مختلفة، و {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، ولذلك تسقط المؤاخذة بالزنا عند الإكراه، ولا تسقط في القتل، والله تعالى أعلم.

من هو العسيف؟
السؤال قول الصحابي رضي الله عنه: (إن ابني كان عسيفا) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على البكر جلد مائة، وتغريب عام) ، فهل يقوي هذا قول من قال بتغريب الرقيق؟
الجواب العسيف ليس له علاقة بالرقيق، من قال لك: إن العسيف هو الرقيق! العسيف هو: الأجير، فهذا حر، كان عسيفا أي: أجيرا، وليس المراد أنه مملوك، فطالب العلم لا يفسر العبارات من عنده ثم يركب الإشكالات!
حكم المطلق إذا زنى
السؤال هل الرجل المطلق يعتبر محصنا يقام عليه حد الزنا بالرجم أم يعتبر بكرا ويجلد، وكذلك المرأة المطلقة؟
الجواب كل من تزوج امرأة ووطئها ولو مرة واحدة، على الصفة المعتبرة في الوطء؛ فهو محصن إلى يوم القيامة، فإذا زنى بعد ذلك يطبق عليه حد المحصن.
إذا: لا يشترط أن تبقى عنده المرأة، ولا يشترط في المرأة أن يكون زوجها معها أثناء الزنا، فمن يثبت إحصانه بالوطء في نكاح صحيح على الشروط التي ذكرناها في الإحصان؛ فلا يشترط بقاء زوجته عنده، ولا أيضا أن تكون الزوجة معها زوجها، والله تعالى أعلم.
حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله
السؤال ما قولكم فيمن قال: إن حكم الله بالرجم للزاني يرجع إلى أن هذا الزاني هدم بيتا، ولذلك يرجم بحجارة هذا البيت؟
الجواب نقول: إنه قال على الله بدون علم، هذه والله الجرأة، هل نهدم بيوت الناس من أجل أن نرجم الزناة؟ من قال: إن من زنت أو زنى نهدم بيت من زنى بها، ونأخذ حجارة البيوت للرجم؟ من قال بهذا الكلام؟ هذا قول على الله بدون علم، قوله: إنه هدم بيتا فيرجم بحجارة البيت الذي هدمه، ما هذا؟ هل هذا علم؟ علينا أن نحذر من بعض الوعاظ والقصاص الذين ينمقون ويرقعون، ويحاولون أن يتفيهقوا، وليس عندهم علم ولا فقه، تجد الواحد منهم يتحذلق، ويأتي بالكلمات العجيبة، وسنبين هذا في الجزئية الثانية، والجزئية الأولى أن هذا كذب، وليس له علاقة، وليس بأمر صحيح؛ لأن رجم الزاني يكون بحجارة من الأرض وليس من حجارة البيت.
ورجم الزاني عقوبة من الله سبحانه وتعالى، أمر بها من فوق سبع سماوات، وهي: تعبدية، جعل الله عز وجل عقوبة من زنى وهو محصن قد استوفى الشروط المعتبرة للإحصان؛ أن يرجم حتى يموت، ألا يقتصر هذا الحد في ردع الناس من فعله؟ بلى، بل يردع الأمة التي فعل فيها أو الجماعة أو القبيلة، فهي عبرة من أشد العبر، حتى إن الشخص لو حمل حجرا يريد أن يرجم زانيا فلا يرجمه إلا وقد أخذ من العبر والعظات ما الله به عليم، يهتز قلبه، ويرجف فؤاده، ويعرف عندها ما هي جريمة الزنا، وكيف يكون عقاب من دمر بيوت المسلمين؛ لأنه أحصن وزوج ثم بعد ذلك لم يرض بحلال الله، بل ذهب يسعى إلى نساء المسلمين ليفسد أعراضهم ويهتكها عليهم؛ فهذه عقوبته من الله عز وجل، وتكون بالرجم ولا تكون بالسيف، بل تكون بما أمر الله عز وجل به، وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
الجزئية الثانية: الشخص قد يأتي لحد من حدود الله عز وجل يريد أن يبين لماذا كان هذا؟ فيقول: من أجل كذا، بلا علم، فهذا من أخطر الأشياء، لا يجوز لأحد أن يقول: إن الحكم الشرعي لعلة كذا، أو لسبب كذا، إلا بطرق معروفة عند علماء الشريعة، تعرف بطرق التعليل، ومسالك التعليل، وهي طرق شابت فيها رءوس العلماء، وحارت فيها ألباب الحكماء، ألف فيها بعض العلماء خمسمائة صفحة في منزع العلة، وبيان ما هو علة، وما هو شبه علة؛ وما هو تخييل، ككتاب: شفاء الغليل وبيان مسالك التعليل، وبيان أوجه الشبه والتعليل.
هذه أمور ليست فالتة لكل أحد، وليست نهبا لكل متحذلق يأتي ويتكلم، المصيبة الآن كثرة المتعالمين، الذين يحاولون أحيانا أن يتكلموا عن محاسن الشريعة فيخوضون في شيء لم يعلموه ولم يعوه، ولا يجوز لإنسان أن يصدقهم في هذا، وإذا كان الزاني المحصن هدم البيت ليرجم الزاني المحصن بحجارته، فلو أن بكرا زنى بامرأة متزوجة وهدم البيت، لكنه ما يرجم، انظر كيف التعارض؟ هذه ما انطبقت علته، هو يقول: من هدم البيوت يرجم، هذا خطأ، لو كان عنده علم ما قال هذا؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكر لرجم البكر؛ لأنه لو جاء إلى امرأة وأغراها وزنى بها وهي متزوجة فقد هدم بيتها، ولولا أنه زنى ما انهدم البيت، فتعبيره خاطئ، ومثل هذا لا يصدق، ولا يكشف عوارهم إلا العلماء، وينبغي على الإنسان ألا يأخذ علم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يوثق بعلمه، والحذر من القصاص والوعاظ الذين يحاولون أن يحسنوا وهم مسيئون، زين لهم سوء عملهم، تجد الشخص منهم عجب الناس من بلاغته وفصاحته وتأثيره، فخاض في علم التعليلات، وليس عنده مسلك للعلم، وليس عنده ورع يمنعه عن القول على الله بدون علم، فالحذر من أمثال هؤلاء، والحذر من الخوض في التعليلات، علينا دائما أن نراعي جانبا يقال له: جانب التسليم، وهذا هو أساس الإيمان والعقيدة، ما سمي الإسلام إسلاما إلا من الاستسلام، التعليلات إذا لم تأت عن طريق عالم متمكن بصير لا تقبل.
العلة تعرف بطريقين: الطريق الأول: يسمى الطريق النقلي، والطريق الثاني: الطريق العقلي.
أما الطريق النقلي فهي: العلة المستنبطة بنص الكتاب أو السنة، وهو أن ينص الكتاب أو السنة على العلة، وهذه العلة المنصوصة مجمع عليها، والإجماع له مستند، وأما العلة المستنبطة بالعقل فهذه فيها كلام للعلماء رحمهم الله، ولها ضوابط وقيود.
وعلى كل حال؛ أعود إلى أساس الأمر، وهو الرضا والتسليم، وعلينا دائما أن ننتبه لمن يحاول تعليل الأحكام بلا علم، وأن نكون في الأصل مسلمين قبل أن نكون معلمين، علينا أن نكون مسلمين مستسلمين قبل أن نكون من أهل الرأي والعقلانيين الذين يقول أحدهم متبجحا: إذا لم أعرف شيئا أو لم أعقل شيئا في دين الله فلا أقبله! يعني لو جاءه نص من أصح النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يبلغه عقله؛ يقول لك: لا، أنا ما أقبله! نسأل الله السلامة، ونعوذ بالله من انطماس البصائر، ونسأل الله بعزته وجلاله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا! وعلى المسلم أن يحذر وأن يحذر غيره من هذا، والخطباء والوعاظ عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وألا يقولوا على الله بدون علم، وأن يحذروا مسائل التعليل، ويحذروا الكتب التي فيها وعظ وترقيق، وبيان لمحاسن الشريعة التي كتبها أناس لم يضبطوا الفقه وأصوله، وهذا أمر نعرفه عنهم بالخبرة، فهم يقعون في أخطاء شنيعة، لو أن هذه العلل أخذت على ظاهرها، لكانت هدما لأمور من الشريعة مستقرة، فالحذر من مثل هذه الأمور، الحذر منها ما أمكن.
وعلى كل حال؛ جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن تقوى الله ألا يقبل العلم إلا من أهله، ومن أخذ العلم عن أهله؛ استنارت بصيرته، وحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، من كان علمه على أيدي العلماء من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، يأخذ علمه وفهمه للنصوص عن سلف وأثارة وطريق بين واضح؛ فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن كان علمه تتبع العبارات، وتنميق الكلمات، وتحسينها خداعا للمؤمنين والمؤمنات؛ فليبك على نفسه، فإنه قد قال على الله بدون علم، وليقفن بين يدي الله ويسأل عما قال، فعلينا أن نحذر من ذلك، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.
زكاة الرطب
السؤال هل في الرطب زكاة أم أن الزكاة خاصة بالتمر؟
الجواب الرطب فيه زكاة، ولكن لا تخرج الزكاة رطبا، وإنما تخرج تمرا بعد الحصاد والجذاذ، بعد أن ييبس يقدر ما في البستان وما في النخل بالخرص عند بدو الصلاح كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، فيأتي الخارص وينظر في النخل عند بدو صلاحه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص النخل عند بدو الصلاح قبل أن يصير رطبا، وقبل أن يصير تمرا، ثم يطرح منه الربع؛ لأن هناك ما تسقطه الرياح، وهناك ما يأكله سابلة الطريق، وهناك المنيحة ونحوها، فهذا يسقط، ثم ينظر لو كانت مثلا أربعة آلاف صاع، يسقط ألف صاع، ويقول: هناك ثلاثة آلاف صاع، هذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه (وصى الخارص أن يسقط الثلث أو الربع) مراعاة لذلك، وإذا كنا مثلا خرصنا أربعة آلاف صاع، وأسقطنا الثلث وحددنا القدر الواجب العشر أو نصف العشر -على حسب السقي-؛ فإن الواجب أن نخرجه تمرا، فلو أنه أخرج الثلاثمائة صاع الواجبة عليه رطبا؛ لم يجزه، لا بد أن يخرجها تمرا، والله تعالى أعلم.
حكم بيع المعيب
السؤال اشتريت سيارة فوجدتها معيبة، فهل يجوز لي بيعها بهذا العيب أم ماذا أفعل؟
الجواب العيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة؛ إن كانت عيوبا مؤثرة، وهي عيوب الزكاة المؤثرة، وضابطها: ما يوجب نقصان المالية نقصانا مؤثرا، مثلا: السيارة فيها عيب يؤثر في مشيها ويضر، وقد يقلب صاحبها أو يحدث له ضررا، فهذا العيب مؤثر، أول شيء يشترط في العيب أن يكون مؤثرا.
ثانيا: أن يكون موجودا في السلعة أثناء العقد، أو قبل العقد، فلو طرأ في السلعة بعد العقد؛ فإنه طرأ على ملكي، ولا يجوز لي أن أرد في هذه الحالة، أي: في حالة إذا كان العيب مؤثرا وطرأ أثناء العقد أو بعده.
والشرط الثالث: أن يكون المشتري لا علم له بهذا العيب، البائع لم يبين له العيب، أما لو قال له: في سيارتي عيب كذا وكذا وأعلمه به؛ فقد سقط حق المشتري، هذه الشروط لا بد من وجودها للرد بالعيب: أن يكون العيب مؤثرا، وأن يكون موجودا في السلعة أثناء العقد أو قبل العقد؛ وإذا قلنا: أثناء العقد فمن باب أولى قبل العقد، وأن يكون المشتري لا علم له بذلك العيب، إذا ثبتت هذه الشروط؛ فمن حقك الرد، والأصل في هذا حديث أبي هريرة في الصحيح عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها) ، وفي اللفظ الآخر (فمن اشترى شاة مصراة ثم حلبها؛ فهو بخير النظرين: إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر) ، فالشاهد قوله: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها) ، والصاع من التمر عوضا عن الحليب الذي حلبه، وهنا السيارة إذا وجدت فيها عيبا، نقول لك: أنت بالخيار، إن شئت تبقي السيارة في ملكك، وإن شئت تردها على البائع، ولا يجوز أن تغش بها المسلمين، فإذا أردت أن تبيعها على غيرك، فإنك تقول له: فيها عيب كذا وكذا، نصيحة وبراءة من العيب، وإلا كان بيع غش، وأنت المسئول عن ذلك العيب، والله تعالى أعلم.
وصايا لطلاب العلم
السؤال أنا فتاة من الله علي بالاستقامة ولله الحمد والمنة، ولي أكثر من ثلاث سنوات وأنا أحضر هذا الدرس المبارك دون انقطاع، والحمد لله، والمشكلة أني حتى الآن لا أجد نفسي طالبة للعلم كما ينبغي! وسؤالي: كيف أكون طالبة علم مستفيدة؟
الجواب في هذا السؤال جانبان: الجانب الأول: أوصيك أختي في الله، وأوصي كل طالب علم، وكل من حضر أي مجلس فيه ذكر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله؛ أن يلهج لسانه بالثناء على الله، وأن يحمد الله على نعمته، فلا يدري كم حاز من الأجر والثواب والدرجات العلى في جنة الله بما تعلمه! لأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وليس درجة، قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ، قال بعض العلماء: من جلس مجلسا فتعلم علما لوجه الله، وضبطه وأتقنه؛ رفع الله درجته، قال الله: (درجات) ، وما قال: درجة واحدة، وقرن الله العلم بأعز الأشياء وأحبها إليه على الإطلاق وهو: الإيمان والتوحيد، فانظر إلى أي شرف وإلى أي مكان بلغ العلم وبلغ أهله! ثانيا: أن تعلمي أن العلم نعمة من الله سبحانه وتعالى يؤتيها من يشاء، وعلى الإنسان أن يدرك أنه متى جلس في مجالس العلماء وهو يريد أن يتعلم، ويريد أن يضبط العلم؛ فأجره على الله سبحانه وتعالى، قد يقوم من ذلك المجلس وقد بدلت سيئاته حسنات، وهذا من أعلى الدرجات، وقد يقوم من ذلك المجلس كيوم ولدته أمه، وقد يقوم من ذلك المجلس برحمة من الله عز وجل لا يعذب بعدها أبدا، عطايا وهبات، يقال لهم: قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات، وقد يقوم من ذلك المجلس بشيء نذر المسلمون والصالحون والأخيار والأبرار وصفوة الله عز وجل أرواحهم في سبيل الله من أجل أن يفوزوا به ألا وهو محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في) ، فالذين جلسوا في ذكر الله لله وفي الله، فقد وجبت وثبتت لهم محبة الله عز وجل، فأي شيء ثلاث سنوات! كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا واحدا يبارك له فيه، ليس من شرط النفحات والخيرات والبركات التي تكون في مجالس العلم أن الإنسان يصير عالما، قد يحفظ الإنسان في دينه فلا تضره فتنة، قد يحب العلماء ويحرص على مجالسهم فيعصمه الله عز وجل من البلايا في نفسه وفي عقله، يحفظ له عقله ونور قلبه، وقد يحفظه الله عز وجل في ولده، وقد يحفظه الله عز وجل في قرابته وأسرته، وقد يحفظ الله عليه ماله؛ لأن الله عز وجل لا أوفى منه لعباده، ما أحد يحب العلماء إلا نال خيرا، ولا غشي مجالسهم إلا عن محبة، ولا استمع إليهم إلا عن محبة، ولا جاء زحفا على الركب إلا عن محبة، يترك مصالحه ويترك دنياه وراء ظهره، ويترك اللهو واللعب وهو في عز شبابه، وقد يكون عنده المال والتجارة ويترك ذلك كله من أجل أن يسمع كلمة تذكره بالله عز وجل، أو يجلس مجلسا تتنزل عليه السكينة وتغشى فيه الرحمة، ثلاث سنوات وأنت تطلبين العلم! فالهجي بحمد الله والثناء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها في هذه المجالس المباركة، وفي هذا الذكر، وفي هذا الخير، وفي هذه البركة، واحمدي الله سبحانه وتعالى على منه وكرمه، بل إني حينما أسمع ذلك والله! إن القلب يتفطر ألما وأقول: سبحان ربي! الذي سخر لي أن أجلس للناس سنة وليس سنتين أو ثلاثا أو أربعا أو عشرا، والله! إن الإنسان لو جلس محاضرة واحدة حفظه الله عز وجل بها، يمشي مسافة الكيلو والكيلوين والعشرة والمائة حتى يصل إلى المكان الذي يلقى فيه كلام يرضي الله ورسوله، فحري به أن يبكي فرحا بنعمة الله عز وجل عليه، وحري بنا ذلك ونحن في نعم قليل من يتذكرها، كم من دروس مرت علينا إلى الآن ونحن في عافية؟ قد لا يشعر إلا القليل منا كيف أن الله فرغه؟ والله قادر قبل الدرس بدقائق أو أثناء الدرس أن يسلط عليه صداعا لا يستطيع أن يفهم معه شيئا، والله قادر أن يسلط عليه حصى في بوله، أو يسلط عليه شغلا في أهله وماله وولده، من الذي فرغك؟ ومن الذي أمدك بالحول والقوة ويسر لك ذلك؟ ثم لما جلس، من الذي فرغ لك هذا، وصفى لك هذه الحواس؟ ومن الذي أعطاك السمع والبصر لعلك أن تعقل ولعلك أن تشكر الله عز وجل؟ {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} [السجدة:9] ، قليلا ما تشكرون إي وربي! فالإنسان يوصى أول شيء بهذا، ولقد كنا أيام طلب العلم نزدري أنفسنا ونقول: ما استفدنا شيئا، ومن يقول: جلسنا ثلاث سنوات وما شعرنا أنا طلاب علم؟ لا، بل أنت طالبة علم، وأنت طالب علم، إذا ما غدوت إلى مجلس علم وأنت تريد وجه الله لا رياء ولا سمعة؛ فأنت طالب علم على قدر ما حصلت، هذا الجانب الأول.
الجانب الثاني في السؤال: كيف تصير طالب علم؟ أولا: الإخلاص لله عز وجل.
ثانيا: ليس العيب في الدرس وفي العلم، العيب فينا، وليس العيب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشا- بل العيب فينا، كل الأمور مسهلة ميسرة، طالب العلم قبل أن يأتي إلى الدرس المفروض أن يقرأ الدرس المرة والمرتين والثلاث والأربع، فمن منا يقرأ الدرس؟ من منا يراجع قبل جلوسه في مجالس العلماء؟ ومن منا إذا راجع حرص أن تكون مراجعته في أعلى الدرجات حتى إنه ليحفظ الكلمات كما هي؟ قليل من يراجع! ثالثا: إذا جلست في مجلس العلم، وطن نفسك على الإخلاص، واحرص كل الحرص على أن تكون كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأفضل ما يكون عليه طالب العلم من الإنصات والوعي عن الله ورسوله، ولا يمكن لأحد أن يكون بالمرتبة الطيبة في الوعي عن الله ورسوله إلا إذا قدر الوحي عن الله ورسوله حق قدره، والآية الواحدة من كتاب الله إذا فسرت له أو ذكر له الحكم الشرعي من كتاب الله عز وجل؛ طار بها فرحا، كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثا واحدا يضع الله له به البركة فيبلغ الآفاق، وتسير به الركبان، ويبلغ به من النفع ما الله به عليم، بورك لهم في علمهم، فلما تأتي إلى مجالس العلم عليك أن تحس أن كل كلمة لها قيمة، وكل كلمة لها معنى، وكل كلمة لها أثر؛ فيبارك الله لك في علمك.
إذا: الإخلاص ثم قراءة الدرس قبل الجلوس، ثم الانتباه أثناء الشرح والضبط لما يقال، وأي إشكال يسجله ويكتبه.
رابعا: إذا انتهى مجلس العلم يحرص ألا يشغل نفسه بعد مجلس العلم بشيء عن ذكر الله عز وجل وحمده، أي مجلس تجلسه بمجرد ما تقوم تحمد الله أولا: {أن اشكر لي} [لقمان:14] ، أمر الله بشكره، {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة:152] ، فأي نعمة لا تشكر فإن الله ينزع منها البركة، وقرن الله العبادة بالشكر، فمن شكر زاده الله عز وجل، فأوصيك بالشكر، ولا تستطيع أن تشكر شكرا على أحسن ما يكون عليه طالب العلم في الشكر إلا إذا عرفت فضل الله عز وجل عليك أولا، ثم فضل هذه الصفوة من علماء السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فترحمت على علماء المسلمين، وقلت: جزاهم الله عنا خير الجزاء، هذا كتاب الإمام العالم الحجاوي رحمه الله وأصله للإمام ابن قدامة، من منا لما قام قال: رحمة الله عليه، اللهم اجزه عن الإسلام خير الجزاء؟ من منا إذا جاء وجلس مجلس العلم وتعلم من هذا العالم الذي يقرأ كتابه ورأى فضله عليه ترحم عليه؟ ينبغي أن يكون الناس أوفياء لعلمائهم ولسلفهم وأن يتربوا على حب العلماء، فلما نسينا الدعاء لعلمائنا، والترحم على أمواتهم، وحفظ جميل أحيائهم؛ نزع الله شيئا يقال له: البركة، وإذا نزعت البركة -أجارنا الله وإياكم- من الشيء فكلا شيء، والله! لو أن الشخص ملئ علما من أخمص قدمه إلى شعر رأسه ولم يضع الله البركة في علمه؛ فكأنه لم يعلم شيئا! البركة في العلم تكون بالشكر، ومعرفة فضل من له فضل، ولا يبارك للإنسان إلا بهذا، وجرب ذلك، كن وفيا لعلماء السلف والخلف والتابعين لهم بإحسان، وترحم على أمواتهم، واعتقد حبهم وفضلهم، وانظر كيف يبارك لك في علمك، وكيف تجلس المجلس في الأسبوع -ليس الشهر وليس السنة- وترى بركة العلم؟ قد نجلس في مجالس العلماء ولا نعرف قدر ذلك العلم الذي نتعلمه! ونقوم من تلك المجالس وقل أن يشعر الإنسان بنعمة الله عز وجل عليه! ثم تترك هذه النصوص دون مراجعة! فكيف نضبط العلم وكيف نراجع العلم؟! والوصية الأخيرة: إذا قرأ طالب العلم وضبط الدرس قبل مجلس العلم ثم راجع بعد مجلس العلم؛ أعد نفسه للسؤال، وهذه الوصية الأخيرة التي أختم بها، أن تهيئ نفسك أنك ستسأل عن هذا العلم، وكان من وصايا بعض مشايخنا -نسأل الله بعزته وجلاله أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء- أنه كان يقول: يا بني! احرص على أي شيء تتعلمه أن تضع في نفسك أنك ستسأل عنه.
كانت بعض الفوائد بسيطة نادرة ما كنت أظن أن أحدا يسأل عنها، والله سئلنا عنها على رءوس الأشهاد، فمن وضع نفسه أنه سيسأل عن هذا، وأنه سيبتلى بقضاء أو فتوى أو بتعليم أو تدريس؛ فتح الله عليه، وبارك في علمه، وحفظ هذا العلم وحافظ عليه، وحينما يقوم طالب العلم من مجالس العلم أو يتعلم العلم ولا يستشعر أنه سيسأل عن ذلك؛ فإنه لا يغبط بذلك ولا يبارك له، فإذا كان الإنسان لا يحس أنه مسئول في الدنيا، أو نظر إلى الناس وقد زهدوا في العلم والعلماء وغفلوا عن مكانة الحكمة والحكماء، وقال: من يأتي يسأل عن هذه الأنوار الربانية، والحكم الإلهية، وهذه النصوص التي شرفني الله عز وجل بالعلم بها؟ إذا ظن ذلك الظن؛ فعليه أن يتذكر أنه سيسأل بين يدي الله عن هذا العلم، إذا لم يسأله الخلق فسيسأله الخالق، فاضبط هذا العلم وراجعه وأتقنه لوجه الله، فإن الله يبلغك أجر من علم الناس، وحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها وشرعها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، اللهم! اجعله خالصا لوجهك الكريم، ونسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا ذ








ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:13 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [4]

جريمة الزنا لا تثبت إلا ببينة شرعية، كشهادة الشهود، ولابد فيهم من صفات يجب توافرها حتى تصح شهادتهم، وقد بينها العلماء رحمهم الله بأدلتها، وفصلوا الأحكام الشرعية التي تتعلق بالشهادة، وإذا لم تصح شهادة الشهود فيجب أن يقام عليهم حد القذف، وللقذف أحكام بينها العلماء رحمهم الله.
إثبات حد الزنا بشهادة الشهود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه لله تعالى: [الثاني: أن يشهد عليه] .
تقدم معنا أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأدلة شرعية معينة، منها الإقرار، وهو سيد الأدلة كما يقول العلماء رحمهم الله، وهو أقوى الحجج؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، ثم بعد ذلك شهادة الشهود، وهو أن يشهد الشهود المعتبرون في حد الزنا على هذه الجريمة بالصفة المعتبرة شرعا.
فبعد أن بين المصنف رحمه الله النوع الأول من الأدلة ووسائل الإثبات وهو الإقرار، شرع في الشهادة، وهذا من باب التدرج من الأقوى إلى ما هو دونه، فالإقرار أقوى ثم يليه بينة الشهادة، وقد نص الله عز وجل على هذه البينة كما قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، فنص سبحانه وتعالى على اعتبار هذا النوع من وسائل الإثبات وهو الشهادة، وقال: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15] ، فنص أيضا في هذا الموضع على اعتبار هذه البينة، وهي شهادة الشهود، وبين تعالى أن هؤلاء الشهود لا بد أن تتوافر فيهم صفات من جهة العدد، والمصنف رحمه الله في هذا الموضع سيذكر جانبين: الجانب الأول: يتعلق بصفات الشهود.
والجانب الثاني: يتعلق بمضمون الشهادة.
وهذان الجانبان -عند العلماء- مهمان جدا في البينات، جانب صفة البينة التي ينبغي أن تكون عليها سواء كانت شهادة أو إقرارا أو كتابة أو غيرها من الحجج في عموم الأشياء والإثباتات، خاصة في قضايا غير الحدود والقصاص، ثم بعد ذلك جانب مضمون البينة.
وينبغي التنبيه على أمر مهم جدا، وهو أن مسألة الشهود والشهادة الأصل فيها أن تذكر في باب القضاء، وشروط الشاهد التي ينبغي توافرها فيه للحكم بشهادته في الحقوق سواء كانت لله عز وجل أو كانت لعباده؛ محله باب الدعاوى والبينات، وأفرده العلماء رحمهم الله بالكلام والتفصيل في ذلك الموضع، لكن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يقدمون الشهادات الخاصة التي تتميز ببعض الصفات أو ببعض الشروط الخاصة، لقوتها وأهميتها ثم ينبهون على جملة من مسائلها في مواضعها، فالأصل أننا نؤخر الكلام على هذه البينة إلى باب البينات والدعاوى، ولكن هنا الشهود لابد أن تتوافر فيهم صفات معتبرة.
وقبل ذكر صفات الشهود، اعلم أن الله تعالى رضي بالمسلمين بعضهم شهودا على بعض، فدين الإسلام ووشيجة الإسلام التي بين المسلم وأخيه المسلم تفرض عليه أن يتقي الله في أخيه المسلم، وأن يقول فيه الحق، ولا يقول فيه الكذب، ولا يزور في قوله، ولا يغير ولا يبدل في شهادته، ولا يبني على التهم ولا على الظنون ولا على الأراجيف، وإنما يبني قوله على علم، وأشار الله إلى هذه الأسس في قوله: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فبين أن الشهادة الحقة المبنية على العدل والإنصاف لا تكون إلا بعلم، ونهى عن الزور ظلما فقال: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام:152] ، وهذا يقتضي أن المسلم ينصف أخاه المسلم، ويعدل ولا يظلم، فرضي الله بالمسلم أن يكون حكما على أخيه المسلم في الشهادة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم مؤكدا لما دل عليه الكتاب: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، فمن كانت شهادته قائمة على العدل والإنصاف الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ فهو مؤمن مسلم حقا، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا توافرت فيه الشروط المعتبرة.
الشروط المنبغي توافرها في الشهود
الشرط الأول: الإسلام؛ لأن الإسلام سلامة واستقامة على دين الله ومنهج الله، (فالمسلم -كما قال صلى الله عليه وسلم- من سلم المسلمون من يده ولسانه) ، بمعنى أنه لا يظلم، فالإسلام شرط معتبر لقبول شهادة الشاهد على المسلم، فلا يشهد على مسلم إلا مسلم، فلا تقبل شهادة الكافر، سواء كان ذميا، أو كان وثنيا، أو كان مشركا، أو كان ملحدا لا دينيا، أو كان مرتدا، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ لأن الكافر عدو للمسلم، والعدو تحمله العداوة على الأذية والكذب والضرر، وبعض الناس يرضى ديانة أن يؤذي من عاداه في الدين، ولذلك قالوا: عداوة الدين أعظم ضررا من عداوة الدنيا؛ لأن عداوة الدين تأتي عن عقيدة، فقد يشهد اليهودي والنصراني والملحد والشيوعي والوثني على المسلم زورا؛ لأنه يحب له الضرر، بل ربما يدعي أنه يتقرب إلى الله بأذيته.
إذا: لابد من الإسلام، ولا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأن هذا علو على المسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، ولو قبلنا شهادة الكافر بالزنا على المسلم؛ فقد جعلنا للكافر على المسلم سبيلا، والآية خبر بمعنى الإنشاء، وقد بين تعالى عداوتهم بقوله: {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} [النساء:101] ، فهذه الآيات كلها تدل -بشهادة الله عز وجل- أن الكافر لا تقبل شهادته، إلا ما استثناه الله عز وجل في مسألة واحدة تقبل فيها شهادة الكافر على المسلم، وهي: الشهادة على وصية المسافر المسلم إذا لم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته، وبشروط معينة: أن يكونوا من أهل الكتاب، وأن يشهدوا شهادة الحق على الصفة التي بينتها آية المائدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانها.
إذا ثبت هذا، فالأصل أنه لابد أن يكون الشاهد مسلما، لكن تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهذا في مسألة أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، وقد وقع هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما زنى اليهوديان ورفعت القضية إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فدعا ابن صوريا وسأله فقال: نجد في التوراة أنه إذا شهد أربعة أنهم رءوه.
الحديث، (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا) ، فهذا يدل على أنه تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهل هذا يختص باتحاد الملة أم نقبل شهادة الكفار إذا اختلفت مللهم؟ هذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب الشهادات.
الشرط الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون بالزنا؛ لأن المجنون مرفوع عنه القلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ، ولأن المجنون لا يوثق بقوله، ولا يوثق بخبره، فسقط اعتبار شهادته؛ ولأن المجنون لا يتكلم عن علم، والأصل في الشهادة أن تكون عن علم.
الشرط الثالث: أن يكون بالغا، فلا تقبل شهادة الصبي، فلو شهد الصبي -مميزا كان أو غير مميز- لا تقبل شهادته؛ لأنه في حكم المجنون، وليس عنده عقل يردعه ويمنعه؛ ولأنه مرفوع القلم ولا يؤاخذ، فيمكن منه الكذب لذلك.
الشرط الرابع: أن يكون عدلا، فلا تقبل شهادة الفاسق، ولذلك قال الله تعالى فيمن فسق بالقول: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، فالفاسق ساقط القول، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، ونبأ نكرة، أي نبأ وأي خبر {فتبينوا} [الحجرات:6] ، فلو كان الفاسق مقبول القول والشهادة لما توقفنا في قبول خبره، فأمرنا الله أن ننتظر حتى نعلم صدقه من كذبه، فدل على أن قوله المجرد ليس بحجة، وأن شهادته ليست موجبة للحكم، والفاسق لا يوصف بالفسق إلا إذا أخل بما يجب، فإذا علم منه الإخلال في حق الله وحق عباده؛ لم يؤمن منه أن يخل في شهادته، ومن هو العدل؟ العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فلا تقبل شهادة الفساق سواء كان فسقهم من جهة الاعتقاد أو من جهة الجوارح أو من جهة الأقوال.
الشرط الخامس: أن يكون معروفا بالضبط وعدم الغفلة، فالمغفل قد يظن شيئا ويتوهم شيئا ويشهد به، وخفيف الضبط قد ينسى أشياء تضر بشهادته مع الغير؛ لأن الشهود على الزنا قد يسألون عن أشياء مهمة، فمن حق القاضي إذا شهدوا عنده أن يسألهم عن أشياء يعرف بها صدقهم من كذبهم، فمثلا لو قال: في أي ثوب رأيته يزني؟ فلربما قال الثلاثة الشهود، مثلا: كان ثوبه أبيض أو رأيناه بقميص، فإذا كانت عنده غفلة حرف شهادته وغير في الشهادة ووهم، فيضر بنفسه ويضر بغيره، وخفيف الضبط ليس عنده علم يوثق به، والله تعالى يقول في الشاهد المقبول الشهادة: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فهي شهادة عن علم، وخفيف الضبط لا يعلم علما تاما؛ لأنه لا يضبط ضبطا تاما.
الشرط السادس: ألا يكون عدوا للمشهود عليه، فإذا ثبت أن أحد الشهود الذين شهدوا على المتهم بالزنا بينه وبين المتهم خصومة، أو عداوة قديمة، أو بينه وبينه ثارات، أو بين بيته وبيته ثارات، أو بين أسرته وأسرته ثارات، ويغلب على الظن أنها تحمل على الضرر والأذية؛ فإنها لا تقبل الشهادة في هذه الحالة، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الحاكم وصححه غير واحد-: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) ، الخصم معروف من الخصومة، والضنين هو المتهم كما قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] أي: بمتهم، فالضنين هو المتهم على أحد الأقوال في تفسير الآية، فالشاهد أن الحديث أسقط شهادة الخصوم بعضهم على بعض؛ لأن العداوة تحمل على الحقد والأذية والضرر، ولذلك لا تقبل شهادة الأعداء، فإذا ثبت أن أحد الشهود أو كل الشهود بينهم وبين المتهم عداوة؛ فإنها لا تقبل شهادتهم عليه.
قد نتعرض -إن شاء الله في باب الشهادات- لشهادة الديانة، وذلك إذا اختلفت الطوائف وكانت هناك عداوة بينها؛ فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله.
حكم الشهادة في غير مجلس القضاء والحكم
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس واحد] هو مجلس الحكم والقضاء، فلابد في الشهادة أن تكون في مجلس القضاء، فلا يحكم بشهادة في غير مجلس القضاء، وعلى هذا؛ إذا شهد الشهود الأربعة فإنهم يأتون القاضي في مجلسه ويشهدون هذه الشهادة، وإن شهد اثنان؟ وبقي اثنان، قال بعض العلماء: إذا قال المدعون: أمهلنا يوما حتى نأتي بالشهود الباقين، يعطون المهلة التي يتمكنون في مثلها من إحضار الشهود دفعا للضرر عنهم؛ لأنهم ربما كانوا صادقين، فيمكنون ويمهلون، وهذه من مسائل القضاء التي تحصل فيها النظرة والإمهال، ويمكن فيها القاضي المدعي والشاهد وصاحب القضية من استيفاء أدلته وجمع أدلته، بشرط ألا يكون هناك تلاعب أو ضرر.
وقوله: (في مجلس واحد) قالوا: لأن الأصل أن يكون في مجلس واحد، فلو شهد ثلاثة في مجلس، أو جاء أربعة فشهد ثلاثة منهم، وامتنع الرابع؛ فحينئذ يقام عليهم حد القذف، وتسقط شهادتهم؛ لأنها لم تستتم العدد المعتبر، لابد أن يكونوا أربعة، ولا نفتح الباب ونقول: ننتظر يمكن يأتي رابع بدون طلب، وبدون أن يكون هناك ما يدل عليه، فهذا لا تقبل شهادته، لكن لو قالوا: عندنا من تقبل شهادته وهو فلان وسنحضره فلا بأس، لكن لو قالوا: هذا شهد وردت شهادته، فنحن يمكن أن نجد رابعا، فحينئذ يقام عليهم الحد، ولا نظرة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب من يشهدون بالزنا ويقولون: والله! يمكن أن يأتي رابع يشهد معنا، فالأصل أن تكون الشهادة في مجلس واحد؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة يهود في مجلس واحد، وكذلك عمر رضي الله عنه في قصة المغيرة المشهورة حينما جاء الشهود وشهدوا في مجلس واحد.
مضمون الشهادة
قال المصنف رحمه الله: [بزنا واحد] دخل المصنف رحمه الله في مسألة مضمون الشهادة، فلابد أن يشهدوا بفعل زنا واحد لا متعدد، فلو قال اثنان: رأيناه يزني العصر بالأمس، وقال اثنان: رأيناه يزني الصبح، فحينئذ شهادة الصبح غير شهادة العصر، فإما أن تكمل بينة أحد الموضعين وإلا جلد الجميع؛ لأن الشهادة ليست بزنا واحد، قد يقول قائل: هذا زان لأنه لو جئنا بالشهادتين ولفقناهما فمعناه أنه زان، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله أمر أن يشهد أربعة بأنهم رءوه يزني بفعل واحد، وليس بفعل للزنا متعدد، فإذا شهدوا بفعل متعدد فلا تلفق الشهادة، وهذا يسميه العلماء: اتفاق مضمون الشهادة، وهي: أن يتفق مضمون الشهادة زمانا ومكانا وصفة، والصفة تكون بأمور قد يضطر القاضي إلى الاستبيان منها.
لكن هنا مسألة وهي أن الأصل أن الشاهد لا يعنت، ولا يبالغ القاضي في التضييق عليه: كيف رأيته؟ وكيف كذا؟ ويدخل على الشاهد الأسئلة المحرجة؛ لأنه ربما التبس عليه الأمر، وأدخل عليه الغلط، وهذا معنى قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] ، وهذه المسألة فيها إشكال في بعض الجوانب عند الأئمة، وهي متى يحق للقاضي أن يتدخل في مضمون شهادة الشاهد فيسأله عن أمور، ويستوضح ويستبين، إبراء للذمة وإحقاقا للحق وصيانة للقضاء عن شهادة الزور والكذب؟ بعض العلماء يقول: من حقه أن يتدخل، وأعطوه صلاحية أكثر من غيرهم، ويقولون: نحن عندنا متهم، وعندنا مظلوم، حتى يثبت أنه ظالم وأنه مسيء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتحري والضبط، فلابد أن نراعي جانب المشهود عليه، وبعضهم قال: إن الله تعالى نهانا عن أذية الشهود، وقال: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] فلا ينبغي للقاضي أن يتدخل إلا في أحوال مخصوصة.
من حيث الأصل العام نفرق بين قضيتين، فنقول: الأصل أننا نطالب الشهود أن يبينوا شهادتهم على وجه تتفق به الحادثة، هذا شيء، ومن حق القاضي أن يعرف، هل شهدوا بحادثة واحدة أو متعددة؟ وأن يسأل عن بعض الأمور المهمة لإثبات الشهادة وإثبات الجريمة، يبقى الجانب الثاني الذي شدد فيه أصحاب القول الأول وقالوا: من حقه أن يشدد على الشهود حتى يثبت ويعلم على وجه يصون به القضاء عن شهادة الزور والكذب والخطأ، وبعض المحققين من العلماء يقول: من حقه أن يفعله عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ فإن من حقه أن يتدخل وأن يراعي حال المشهود عليه، وهل يقدم حال المشهود عليه أو الشاهد؟ المنبغي العدل، وأن تكون الأمور على السنن، وإن كان عمر رضي الله عنه أثر عنه أنه قدم حق المشهود عليه، ولكن هذا قد يكون خاصا في قضية المغيرة بن شعبة، حينما شهد عليه أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد بأنه زنى، فأحظر الشهود، وشهد أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد، ولما أتي بـ زياد قال له عمر رضي الله عنه -كما في الرواية-: ما وراءك يا أبا عفان؟! إني لأرجو ألا يفضح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد أبو بكرة أولا، فقال: ذهب ربعك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثاني فقال: ذهب نصفك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثالث فقال: ذهب ثلاثة أرباعك يا مغيرة! ثم رجا الله عز وجل ألا تتم الشهادة؛ لأن مغيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت فراسته، فلم يأت الشاهد الرابع -وهو زياد - بمضمون الشهادة على السنن، ووصف وصفا لم يثبت فيه الإيلاج، وقال: إنه رآه على صفة -سنذكر القصة إن شاء الله- ولم ير الإيلاج، فكبر عمر رضي الله عنه وحمد الله، قال بعض العلماء: إن عمر نبه الشاهد الرابع أن يرجع عن شهادته، تعظيما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستشكله بعض العلماء وقالوا: كيف هذا فإنه في هذه الحالة سيجلد الثلاثة ويحكم بفسقهم؟ وأجيب بأن هذا أهون من قتله، فإنه إذا شهد عليه وهو محصن؛ فسيقتل، قال بعض العلماء: إن عمر ورى ولم يقل له: ارجع عن شهادتك، لكن جعل له الخيار أن يشهد أو يمتنع، والأصل يقتضي أنه يجب عليه أن يشهد، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: القضية على ما جرت عليه، وعمر رضي الله عنه لم يقصد التورية ولا التنبيه له، وإنما رجا الله عز وجل، وحقق الله رجاءه، وكان رضي الله عنه محدثا ملهما، فما يقول لشيء أراه وأظنه إلا وافق الحق.
فالشاهد من هذا: أنه بالإمكان أن يدقق القاضي في الشهادة عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ ففي هذه الحالة من حقه أن يدقق حتى ننصف المشهود عليه، خاصة إذا كان محصنا والأمر سيفضي إلى قتله ورجمه.
قال المصنف رحمه الله: [يصفه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه] يصف الزنا أربعة وصفا خاليا من الاحتمال، خاليا من اللبس، والشريعة تراعي الأدب والكمالات والمروءة، ومن ذلك ألا يتحدث صراحة بالأمور المستبشعة مما يحدث بين الرجل وامرأته، ومما يوصف به الفرج، ونحو ذلك، والله عز وجل يقول في كتابه: {أو لامستم النساء} [النساء:43] ، {طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يكني، وهذا من أدب القرآن، حيث أن الله علم عباده الأدب، ولكن انظر إلى كمال هذه الشريعة ودقتها، فإذا جاءت الأحكام الشرعية والمسائل الشرعية، واحتاج العالم أو الفقيه أو القاضي أو المفتي أو المعلم أن يصرح بهذه الأشياء؛ فيأتي بها صريحة ولا يأتي بها محتملة؛ لأنه إذا جاء بها محتملة ربما ضاعت حقوق الناس، ولذلك لابد أن يسأله عن الجماع وعن الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أدخل ذلك منك في ذلك منها؟) ، (أنكتها؟) لا يكني صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا حتى لا تذهب حقوق الناس، ولو كانت على الكنايات والاحتمالات لربما شهد الشاهد كناية حتى يخدع القاضي، ولذلك في هذا الموضع لابد من التصريح، وأن يقول: إنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، ولا يشترط أن يقول: كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، فإذا قال: رأيت ذكره في فرجها والجا أو داخلا، فهذا يكفي، لكن بالنسبة للأصل كما جاء في قصة اليهوديين، أنه صلى الله عليه وسلم سأل ابن صوريا (ما الذي يجدونه في التوراة؟) فذكر أن فيها أن يشهد منا أربعة أنهم رءوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا يدل على حصول الدخول والإيلاج، وأنه لا يكفي أن يرى امرأة تضاجع رجلا، أو يرى امرأة مع رجل متجردين، فهذا لا يكفي؛ لأنه ربما حصل التجرد ولا يحصل الإيلاج، ولربما كان بصفة دون الوطء، فإذا لابد أن يصفوا الزنا.
ومن هنا قيل في قصة المغيرة رضي الله عنه أنه هو الذي أفحم الشاهد، وهذا قول من يقول: إن عمر لم يكن، وذلك أنه لما شهد الثلاثة وجاء الرابع، وأراد أن يصف قال له: يا أمير المؤمنين! سله أرآني مقبلا أو مدبرا؟ يعني: رآني من جهة الأقدام أو من جهة الوجه، فقال: رأيته مدبرا، وهذا قيل في قضية شبل فقال: يا أمير المؤمنين! هي امرأتي وكنت أجامعها، فهذا من الأشياء التي يحصل بها التأكد من الزنا؛ لأنه ربما وطئ زوجته، وربما كان مجامعا لأهله، وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقبل الشهادة هكذا، يقول: فلان رأيناه يزني، بل لابد أن يصرح بالزنا، ويصفه وصفا خاليا من الاحتمالات.
قال المصنف رحمه الله: [سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين] عندنا مسألتان: المسألة الأولى: إتيان الشهود، والمسألة الثانية: مجلس الحكم، فالقاضي إذا جلس في الصباح مجلسا واحدا وأتاه الأول: الساعة الثامنة، والثاني: الثامنة والنصف، والثالث: جاءه التاسعة، والرابع: جاءه العاشرة، فهذه شهادة واحدة في مجلس واحد، لكنهم أتوا متفرقين، فالتفرق مع اتحاد المجلس لا يضر؛ لأن هذا لا يشكل مع ما تقدم؛ لأن الشرط اتحاد المجلس، واتحاد المجلس تكون معه شهادة المتفرقين والمجتمعين، قالوا: الشهادة المتفرقة كقضية المغيرة، وشهادة المجتمعين هي الأصل، والله عز وجل لم يفرق بين الشهود متفرقين أو مجتمعين.
ولكن إذا جاءوا مجتمعين فإن أسئلة القاضي تنكشف أكثر مما لو فرقهم، فإذا جاءوا مجتمعين فللقاضي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم على حدة، ويقول للأول مثلا: متى وقع الزنا؟ قال: رأيته يزني في الصباح، فيقول: داخل المدينة أو خارج المدينة؟ قال: داخل المدينة، يقول: هل كانا متجردين أو على بعضهما بعض الثياب؟ صف ذلك، ويكون هذا الكلام بغيبة البقية، ثم يأذن للثاني ويسأله، ثم يأذن للثالث ويسأله، والرابع ويسأله، حتى يستبين من الشهادة؛ لأنه لو سألهم أمام بعضهم البعض لاتفقت كلمتهم، ولقن بعضهم بعضا الجواب، فله إذا جاءوا مجتمعين أن يفرقهم للاستبيان والتأكد.
حكم من حملت ولا زوج لها ولا سيد
قال المصنف رحمه الله: [وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] الأصل الشرعي أن المرأة إذا كانت منكوحة وذات زوج فإن الولد للفراش، ولا يجوز اتهامها بأن هذا الولد ليس بولدها، وإن كان المتهم زوجها فيلاعن أو يقام عليه الحد، وإن كان غيره فيثبت ذلك أو يقام عليه الحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) ، فأثبت أن المرأة إذا كانت فراشا لرجل أنه يلحق الولد به، وهكذا إذا كانت أمة؛ لأن أصل الحديث في قصة عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في يوم الفتح، والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) ، فجعل الأمة التي كانت لـ زمعة تابعة للفراش، ولذلك قالوا: إذا كانت أمة يطؤها سيدها؛ فالولد لذلك السيد، وكذلك إذا كانت زوجة، فالولد لذلك الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) .
لكن لو حملت وهي بكر، أو طلقت وبانت من زوجها ومضت مدة أكثر الحمل، يعني بعد أربع سنوات من الطلاق؛ لأنه تقدم معنا في الطلاق ومسائل الإلحاق أنها تمضي إلى أكثر مدة الحمل، فمضت إلى أكثر مدة الحمل، ثم فوجئ بها وهي حامل، فهل مجرد حمل المرأة دليل على زناها إذا لم تكن ذات زوج وثيب؟ للعلماء والأئمة رحمهم الله في ذلك قولان: القول الأول: إن الحمل ليس دليلا على الزنا، ولا تحد المرأة بمجرد الحمل، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث، وهو مروي عن عمر بن الخطاب في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: إن حمل المرأة غير ذات الزوج والثيب دليل على زناها، فيقام عليها الحد، فترجم إن كانت محصنة بأن طلقت ثم حملت على هذا الوجه، وتجلد وتغرب إن كانت بكرا، وهذا مذهب المالكية وطائفة من السلف رحمة الله على الجميع، وهو رواية أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روي عن عمر القولان: القول الأول: في خطبته عندما ذكر حد المرأة إذا زنت وقرأ آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكم) وقال: إذا كانت البينة أو الحبل، فجعل الحمل دليلا من أدلة الإثبات في المرأة إذا لم يكن لها زوج ولا سيد.
القول الثاني: في قضية امرأة كانت بمكة، وكان عمر في الموسم أو في عمرة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، فأتي بامرأة كانت بكرا وهي حامل، والناس يريدون جلدها، فسأل عن حالها، فأخبر أنها من بيت صالح، وأنها امرأة صالحة مستقيمة، فدعا بها وسألها وقال: ما بك؟ قالت: إنني كنت أصلي من الليل ما شاء الله، ثم غلبتني عيناي فلم أشعر إلا وقد اعتلاني رجل وقذف في كالكوكب أو كالشهاب، فعلم عمر رضي الله عنها غفلتها مع أنها معروفة ببيت صالح وبيئة صالحة، فأسقط عنها الحد، ولم يقم عليها الحد، وكتب إلى الآفاق ألا يقتل بمجرد الحمل حتى يكتب إليه.
ولكن هل هذا رجوع من عمر عن قوله الأول، أو تخصيص من عموم الأصل؟ للمسألة وجهان: إن قلنا: إن عمر رضي الله عنه ذكر البينة والحمل كدليل ما لم توجد شبهة تدرأ الحد، فحينئذ يبقى الحمل من أصله دليلا وحجة، لكن إذا وجدت قرائن تدل على إسقاط الحد، مثل أن تدعي المرأة أنها غلبت أو أكرهت أو سقيت منوما أو نحو ذلك؛ قبل قولها وسقط الحد عنها؛ لأن الله تعالى قال: {فإذ لم يأتوا بالشهداء} [النور:13] ، فجعل الأصل قائما على البينة، وهي الشهادة، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمت هذه) فجعل البينة في الأصل الشهود، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف خلافا لبعض العلماء الذين يرون عمومها، ولكن الأصل في البينة هذا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء: (البينة أو حد في ظهرك) وقد أجمع العلماء أنه لا بينة في الزنا إلا الشهود، وهذا يدل على أن الشريعة تطلق البينة عموما وتريد الخصوص وهو شهادة الشهود.
وعلى كل حال الأشبه أنه لا يقام الحد إلا بالبينة على ظاهر النص، ويقال: إذا وجدت الشبهة اندرأ الحد، وعلى هذا فقول الجمهور الذين يقولون بالبقاء على الأصل أولى وأحرى؛ لأنه لم يرد نص في الكتاب والسنة باعتبار الحمل دليلا على ثبوت الزنا.
الأسئلة




الشهادة على الزنا بآلات التصوير
السؤال هل تقوم آلات التصوير الحديث مقام الشهود في إثبات الزنا، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه وسيلة ناقصة، ولا تعتبر موجبة لثبوت الحد، فهذه الأشرطة وهذه الصور لا يعمل بها ولا يعول عليها، ولا تعتبر دليلا يثبت الجريمة، التشابه موجود، وربما يكون فعل هذه الفعلة من زمان قديم ثم تاب بعدها وأصلح، وكذلك الآلة ليس فيها تكليف يمكن أن يبنى عليه الحكم الشرعي، ومن أقوى الأدلة على رد مثل هذه القرائن ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة في اللعان التي تلكأت، شهدت المرأة وشهد الرجل ثم قال عليه الصلاة والسلام: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ثم قال: (انظروا إليه -يعني: الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين وكذا وكذا) وذكر صفة، فهو للرجل الذي اتهمت به، وهي كاذبة، وزوجها صادق، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لزوجها، وهو كاذب، فجاءت به على صفة الزاني فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة -يعني: من غير الشهود- لرجمتها) فقطع كل الأدلة، هذا دليل واضح ما فيه إشكال؛ لأنه حتى القافة يستطيعون أن يقولوا: هذا ولد هذا، وينسبوه لأبيه، لكن الشريعة جعلت الأمر تعبديا، وجعلته للشهود، وجعله للشهود فيه حكم عظيمة، وحتى الشاهد نفسه يندب له الستر وألا يفضح، فهناك أمور تعبدية وأحكام شرعية منبنية على وجود الشهادة، فهذا الحكم هو الأصل الشرعي.
ممكن شخص يأتي ويرفع السلاح ويقول له: ازن بالمرأة، ولما يزني يصوره معها، ليس قضية وجود الجريمة وحدها كافيا، ممكن أن يهدد الرجل ويهدد المرأة، وممكن أن يأتي بامرأة على صفة المرأة، ويأتي برجل على صفة الرجل، ما يمتنع هذا، هذا سهل، الوسائل هذه ليست كالشهود الذين يدخلون على الرجل في حالة لا إكراه له فيها، ولا شبهة له تمنع من إقامة الحد عليه، وإذا امتنع من الاعتراف يشهدون عليه، فهذا كله على وجه واضح بين، وفيه أمر التعبد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

الفرق بين شهادة الشهود والإقرار بالزنا في اعتبار المجلس الواحد
السؤال أشكل علي لماذا اشترط المصنف رحمه الله في شهادة الشهود بالزنا أن تكون في مجلس واحد، ولم يشترط ذلك في الإقرار بالزنا، مع أن كلا الأمرين يثبت بهما الزنا، أثابكم الله؟

الجواب لأنه إذا أقر على نفسه في مجلس أو مجالس متعددة، فهو قد أثبت أنه زنى، وبعبارة واضحة الشهادة كبينة تتجزأ، لكن الإقرار من الشخص نفسه ما يتجزأ، توضيح ذلك: إذا شهد شاهدان أنه زنى بعد العصر أمس، وشهد شاهدان أنه زنى الصبح أول أمس، فالزنا الأول غير الزنا الثاني، لابد أن تكتمل بينة الأول، وتكتمل بينة الثاني.
إذا: إذا أقر في مجلس واحد أو أقر في مجالس متعددة فقد شهد على نفسه بالزنا؛ لأن المرة الواحدة منه في الزنا كافية بإقراره، وهو يقصد تلك المرة، وأما إذا تعددت المجالس وفتح باب التعدد؛ لما استطعنا أن نقيم الحد على شهود نقصت شهادتهم أو ردت؛ لأنهم يقولون: سيأتي واحد، أو سنبحث عن من يعضد شهادتنا؛ لأن المجالس متعددة، ولذلك لا يعطون مهلة إلا لمجلس واحد، فإذا تيسر ذلك أو أقيم عليهم الحد فلا إشكال.
وعلى هذا نقول: إن المجلس الواحد في الشهادة غير المجلس الواحد في الإقرار؛ لأنه إذا أقر على نفسه بالزنا ولو تكرر منه الزنا مائة مرة فإقراره بالمرة الواحدة صادق على أي زنية، ولكن إذا تعدد المجلس في الشهادة فإنه يكون لأكثر من زنية ولأحوال متعددة، ولذلك لا يثبت به الحد كثبوته في الإقرار، والله تعالى أعلم.
حكم إعطاء الأم من الزكاة
السؤال أريد إخراج الزكاة، فهل يجوز أن أعطيها لأمي وهي في أمس الحاجة إلى المال، أثابكم الله؟
الجواب الأم لا تعطى الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الولد مع والديه كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) فجعل فاطمة بضعة منه عليه الصلاة والسلام؛ أي: أن الولد قطعة من الوالد، فإذا أعطيت الزكاة لأمك؛ فكأنك أعطيتها لنفسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ولذلك لا تعطى الزكاة لا للوالدين ولا للأولاد.
ولكن -أخي في الله- عليك أن تتقي الله في أمك، وأن تحسن إلى والدتك، وأن تحاول أن تتفقد مواطن النقص فيها فتكملها، وأن تجبر كسرها، وأن تكون معها كما أمرك الله {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] كيف تكون ابنا بارا بها وعندك المال الذي تزكيه ووالدتك في أمس الحاجة إلى مال قليل لا يساوي إلا اثنين ونصف من مائة من مالك؟ اتق الله في نفسك، واتق الله في والدتك، وعلى هذا لا تعطها الزكاة، ولكن أنفق عليها بالمعروف حتى تغنيها، عل الله أن يرد عليك بأضعاف، ويجزل لك الخير في مالك، والله تعالى أعلم.
توجيهات تتعلق بدروس الشيخ في شرحه لعمدة الأحكام بجدة والمدينة
السؤال هل تنصحنا أن نأخذ مذكرات عمدة الأحكام القديمة التي في جدة، أو مذكرات عمدة الأحكام التي -حفظكم الله- تشرحونها في المدينة، أثابكم الله؟
الجواب عمدة الأحكام التي في جدة تكمل التي في المدينة، والتي في المدينة تكمل التي في جدة، عمدة الأحكام شرح الحديث، لكن عمدة الفقه فهو في الفقه، ودرس عمدة الفقه القديم الذي في المدينة لم أسمح للتسجيلات أن تبيعه، وأحب من طلاب العلم أن ينبهوها على ذلك، ومن باع تلك الأشرطة فقد آلمني بذلك؛ لأنها قديمة، وهناك مسائل رجعت عنها، والحرم يغني عنها، فأحب أن تنبهوا التسجيلات على هذا، درس المدينة القديم هذا لم أسمح به، ونبهت أكثر من مرة على أنه لا ينشر؛ لأن هناك شرحا ثان أوسع وأكثر توضيحا للمسائل التي رجعنا عنها، ووجه الرجوع، فينبه على ذلك، ويستغنى بدرس عمدة الفقه الموجود في الحرم، نسأل الله أن يجعله خالصا لوجه، وأن يعين على إتمامه.
أما عمدة الأحكام في المدينة وفي جدة، فأنا عندي منهج أسأل الله أن يعينني عليه، وهو أنني لا أحب تكرار المسائل أو المنهج في كتاب واحد أشرحه مرتين أو أكثر، ولا أريد طالب العلم أن يقتصر بكتاب على آخر، وأرجو من الله أن يفتح علي في جدة، ويفتح علي في المدينة، فالذي يريد أن يستغني بدرس المدينة أظن أنه لا يستغني عن درس جدة، في درس جدة فوائد كثيرة، وأيضا الذي يصبح جداوي: سيفوته خير كثير من الشرح المدني، وعلى كل حال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وهما عينان في الرأس، لكن أظن اليمنى الذي في المدينة، وإن شاء الله يكون في كلا الشرحين خير، في درس جدة بعض المسائل توسعت فيها وأسهبت، وفيه بعض الجوانب التربوية، ودرس المدينة أيضا فيه جوانب طيبة، وعلى كل حال: المعول كله على القبول من الله عز وجل، والمعول كله على ما خلص وأريد به ما عند الله، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، والله تعالى أعلم.
تحية المسجد لا تنقض الوتر
السؤال هل تحية المسجد تنقض الوتر، أثابكم الله؟
الجواب لا تنقض تحية المسجد الوتر، ولا تنقضه ركعتا الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ثم صلى ركعتين بعد الوتر، والسنة أن تجعل الوتر آخر صلاتك بالليل، ولكن إذا دخلت المسجد بعد وترك فصل ركعتين، أو توضأت فصل ركعتين، وهذا لا ينقض الوتر، والله تعالى أعلم.
حكم الاستفتاح في صلاة الجنازة
السؤال هل أستفتح في صلاة الجنازة؟
الجواب السنة عدم الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأنه ورد في حديث علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح فيها، وأنه اقتصر على الفاتحة، ولم يذكر دعاء الاستفتاح، وبعض العلماء قال بدعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة ولكنه قول ضعيف، واستدل بالعموم، (كان إذا استفتح الصلاة) ولكن الأقوى والأشبه أن المبين مقدم على المجمل، والمفصل مقدم على المجمل، فنأخذ بحديث ابن عباس وعلي رضي الله عنه لما اختلفت صورة الصلاتين، وهنا لا يعترض المعترض بالنافلة والفريضة بأننا دائما نأخذ عمومات النافلة ونجعلها أصلا للفريضة؛ لأن صورة صلاة الجنائز مختلفة عن صورة الصلاة الأصلية، ومن هنا قوي أن تخص بأحكامها، وألا يعمل بالعموم على هذا الوجه في هذه المسألة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.







ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:16 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (519)

صـــــ(1) إلى صــ(4)



شرح زاد المستقنع-باب حد القذف [1]
من أعظم الفتن النازلة في زماننا، التكلم في أعراض العلماء والدعاة بلا علم باسم الدين، وهذه محنة عظيمة، عواقبها وخيمة، وشرورها كثيرة، وقد حرم الله ورسوله أن تنتهك الأعراض، وأعراض العلماء والدعاة والصالحين أشد حرمة، فوجب الحذر والتحذير من هتك أعراضهم.
معنى القذف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] القذف في لغة العرب: الرمي، يقال: قذف بالشيء إذا رماه، والمراد به في الشريعة المعنى الخاص وهو الرمي بالفاحشة، وقولنا: بالفاحشة، المراد بها الزنا أو اللواط، وعلى هذا إذا اتهم شخص شخصا وقذفه بالفاحشة زنا أو لواطا؛ فإنه قاذف، والعرب تجعل هذا المعنى الخاص من معاني الرمي، ويقال: رماه، إذا اتهمه، فالرمي هو التهمة: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني والقذف باب عظيم، وهو حد من حدود الله عز وجل، اجتمع فيه دليل الكتاب والسنة، تعظيما لشأنه، وتحذيرا للعباد منه، ومن أعظم الورطات التي تهلك الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته؛ أن يكون طليق اللسان في اتهام عباد الله عز وجل، وإذا أرادت عيناك أن ترى رجلا يتقحم نار الله على بصيرة؛ فانظر إلى ذلك الذي لا يتورع عن اتهام الناس، والوقوع في أعراضهم، ويسهل عليه القبائح والأمور التي لا تليق بالمؤمنين والمؤمنات، فإذا وجدته كذلك، وسهل عليه أن يلفق التهم في الدين والعرض؛ فاعلم أنه من أعداء الله ورسوله، ولو تقمص في ذلك ثوب النصيحة وثوب الإحسان، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى، وما من مؤمن يقرأ نصوص الكتاب والسنة متجردا إلا أورثه ذلك الخوف من الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وعلم أن اللسان يقوده إلى النار شاء أو أبى إذا لم يردعه بالخوف من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك حذر الله عباده وإماءه من الخوض في أعراض المؤمنين، وجعل المسلم الحق على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من عرف كيف يزم لسانه، فسلم المسلمون من ذلك اللسان، فلا يتهم مؤمنا أو مؤمنة بالزور والباطل، وكان السلف الصالح رحمهم الله يشددون في هذا الأمر أيما تشديد، فإذا أرادت عيناك أن ترى إنسانا مؤتسيا بالسلف؛ فانظر إلى ذلك الورع الذي يخاف الله في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وإذا أرادت عيناك أن ترى عالما بحق يلتزم منهج السلف في الخوف من الله ومن أعراض المؤمنين والمؤمنات؛ فانظر إلى ذلك العفيف اللسان، الذي يربي طلابه وأتباعه على ذلك.
أنواع القذف
القذف قذفان: قذف في الأعراض، اعتنى القرآن ببيانه؛ لأنه يقع بين العوام كثيرا، وهناك قذف أعظم منه وأشد منه، وهو حديثنا في هذه اللحظات، ونمهد به لهذا الباب العظيم، ألا وهو قذف العلماء، خاصة سلف هذه الأمة، وقذف الصلحاء، وقذف الدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الخير وأهل الاستقامة، والتهكم والسخرية بهم، والحط من أقدارهم وحرماتهم، وانتقاصهم، وسهولة ذلك على اللسان، حتى يصبح الإنسان صفيق الوجه -والعياذ بالله- لا يرعوي، ويأتي أمام الناس يشهر بهم، فلا عقل يردعه، ولا دين يمنعه، وعندها فليقل عن نفسه ما شاء، وليأخذ بمفاتيح الجنة مزكيا ومثنيا على نفسه، وليجعل نفسه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه حفيظ عليها ومسيطر عليها، يبدع من شاء، ويفسق من شاء، ويضلل من شاء، ما كنا نعرف هذا بين أهل العلم رحمهم الله، ووالله! لقد رأينا علماء أجلاء، تحمر وجوههم وتصفر ألوانهم؛ إذا ذكر عوام المسلمين فضلا عن صالحيهم، فضلا عن علمائهم، فضلا عن خيارهم، فضلا عن سلفهم الصالح الذين زكتهم الأمة، علماء أجلاء أطبقت الأمة على جلالة قدرهم، وحفظ مكانتهم كالإمام أبي حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، تجد من لا علم عنده، ولا فضل لديه، يتطاول على أمثال هؤلاء العلماء، وكأنهم سوق للألسنة!! نقول هذا؛ لأننا نعلم أن الله سيسألنا ويحاسبنا عن عدم التنبيه على ذلك، وسنلقيها من على ظهورنا أمانة لكم ولغيركم أن تحذروا أمثال هؤلاء، من يوم مشهود ولقاء موعود ترهن فيه الألسنة بما قالت، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] .
كان السلف الصالح رحمهم الله يجرحون، لكن متى؟ إذا بلغت الحلقوم، وما كانوا يرون التجريح إلا عند الحاجة الماسة، وكان الرجل منهم يرعد قلبه من الخوف من الله عز وجل، جلس أحد أئمة الحديث فتكلم في الرجال، فمر عليه أحد العلماء الصالحين -والقصة مشهورة- وقال له: لعلك تجرح في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سبعين عاما، فخر مغشيا عليه، ما قال: هذا عدو للسنة، هذا عدو للحديث، أبدا؛ لأنهم كانوا يتهمون أنفسهم بالخطأ، وكان الرجل إذا تكلم في أحد بما يجرحه؛ يتكلم بعبارات شديدة ولكن عند الحاجة الماسة، ولا يتكلم إلا في حدود ضيقة، وبأساليب محدودة محسوبة؛ لأنه يعلم أنه سيسأل بين يدي الله عز وجل عن قوله.
إن أعراض المسلمين ليست رخيصة، وما كانت أفكارهم ولا عقائدهم مكشوفة أمام الناس حتى أن الشخص يشق عن قلب الرجل، انظر في السنة تجد فيها أدب في كف الألسنة عن الأعراض، تجد فيها وعيد شديد عن الدخول في قلوب الناس واتهام عقائدهم، قال: (يا رسول الله! ما قالها إلا فرقا من السيف) ، هذا حديث واضح، ما قال: (لا إله إلا الله) إلا لما علاه الصحابي رضي الله عنه بالسيف، وما قالها قبل ذلك، التهمة واضحة، وبساط المجلس دال على أنه قالها فرقا من السيف، فقتله، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم -مع هذه الدلائل كلها-: (أشققت عن قلبه؟) وهو رجل كافر أسلم، فيقول له: (أشققت عن قلبه؟) فما زال يرددها عليه، قتله ثم قال: إنه قالها فرقا من السيف، وهكذا كل من قال هذه الكلمة في حق إنسان دون أن يستبين أو يخبره عن مكنون قلبه؛ فنقول له: أشققت عن قلبه؟ ولذلك قل أن تجد إنسانا يتهم الناس إلا ويقول لك: هو يقصد كذا، وهو يعني كذا، وإذا أراد الإنسان أن يعلم حقيقة الإسلام والالتزام فليتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) .
التحذير من الخوض في أعراض العلماء والدعاة
إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون أمام الله بعرض مؤمن أو مؤمنة، إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون بعالم من علماء المسلمين أو إمام من أئمة الدين؛ فافعل ذلك، ما لم تكن محتاجا للجرح، لكن من الذي يحتاج؟ هل هم البسطاء وطويلبي العلم أم الأئمة والعلماء الذين يكشفون ويبينون؟ ثم إذا كشف العلماء، فكم من أخطاء كشفت وما قامت الدنيا ولا قعدت؟ فالجرح لا يلقن لعوام المسلمين الذين يحتاجون بدهيات المسائل لسلوكهم وأخلاقهم ودينهم وعقيدتهم، فقد تجد الواحد منهم لا يحسن أحكام صلاته، ولا مسائل السهو في عبادته، ولا حجه ولا عمرته؛ ومع ذلك يلوك لسانه في أعراض المسلمين: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف:103 - 104] ، منهم من ظل يلفق الأخطأ بالدعاوي العريضة والتضخيم دون أن تجد عنده ورعا، أئمة الجرح والتعديل عرفوا بالورع، قال الإمام النووي رحمه الله وغيره من الأئمة: إن من يتكلم في الجرح والتعديل ينبغي عليه أن يصون نفسه صيانة عظيمة خوفا من أن يسترسل فينتقل من الجرح لله والتعديل لله إلى الجرح لهوى النفس؛ لأن النفس ضعيفة، والله يقول: {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء:28] .
نقول هذا؛ لأنه من أعظم الفتن، والله عز وجل يحذر عباده من العرض، وما من أحد يرمي مسلما أو مسلمة فيقذف المحصنات المؤمنات الغافلات إلا لعنه الله في الدنيا والآخرة، فإذا رمى مؤمنة أو مؤمنا لعنه الله في الدنيا والآخرة، وأعد له عذابا عظيما، وفضحه على رءوس الأشهاد، ثم يفضحه بأن يتكلم لسانه بأنه كذاب، وتتكلم عليه جوارحه، حتى رجله ويده تنطق بأنه من أهل الزور لا من أهل الصدق، ومن أهل الخيانة لا من أهل الأمانة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجعل هذا النص أمام عينيه، وهو هذه الآية الكريمة: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور:23] ، وهذا عظيم والله! ما هو بالسهل، والله إذا وعد لا يخلف الميعاد، والله يعفو عن حقه لكن لا يعفو عن حقوق عباده، عجبت من رسول الهدى يمر على مقبورين يشتعل عليهما القبر نارا وعذابا، وهو رسول الهدى يشفع فيشفع، فقال: (أما هذا فقد كان يمشي بالنميمة!) وأذن له أن يضع الجريد حتى ييبس فقط، ولا يمكن أن يرفع العذاب عنه؛ لأنه وقع في إخوانه المؤمنين وأفسد ما بين المؤمنين.
وهنا تجد من ينقل الأحاديث للجرح والتعديل، في العلماء، وفي الصلحاء، وفي الأتقياء، هل نسكت ولا ننبه على هؤلاء؟ وإذا جاء من ينبه قال: والله! هذا عدو للكتاب والسنة، حشفا وسوء كيلة؛ لأن اللسان إذا زل زلت توابعه، فتجده لا يرعوي، وتحذره ولا يحذر، ثم بعد ذلك يتهم من يحذره ومن ينبهه، والله الموعد، فإذا قلب الإنسان إلى قبره ووضع في لحده قال الله: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق:22] ، في تلك الساعة تنجلي الغشاوة، وينجلي الكذب، وتنجلي التزكية للنفس، ويجازى على التهكم في حدود الله عز وجل ومحارمه.
على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله يتولى عباده المؤمنين، {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج:38] ، {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف:196] ، تصور يوما من الأيام، جاءك شخص وقال لك: والله! سمعنا في المجلس من يقول عنك: إنك تستعجل، تقوم الدنيا عليك ولا تقعد، وتذهب إلى فراشك لكي تنام، فتجد أن مضجعك قد تغير عليك، وأن الليل القصير صار ليلا طويلا بكلمة: إنك عجول، فكيف إذا قيل: والله سمعت أن الداعية فلانا يقولون عنه كذا، والداعية الفلاني يقولون عنه كذا؟ {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور:15] ، إذا كان منامك لم يطب لك عندما يقال لك: عجول، ويقال لك: مستعجل في الأمور، فكيف يطيب لأولياء الله وقد اتهموا في عقائدهم، وقد اتهموا فيما بينهم وبين ربهم؟ إلى أي حد بلغت الغفلة بالإنسان أن يصل إلى درجة -والعياذ بالله- لا يعرف قيمة الكلام في عقيدة الناس؟ إلى متى يبقى الإنسان غافلا عن أعظم الأشياء للناس فيما بينهم وبين ربهم؟ والله يقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: {لست عليهم بمصيطر} [الغاشية:22] ، {وما أنت عليهم بوكيل} [الأنعام:107] ، وهذا يقيم نفسه وكيلا على من؟ إذا كان رسول الهدى على كفار يخاطبه الله بذلك! فكيف بمن أقام نفسه على أولياء الله وعباد الله؟ ويل لمن جرح عالما صلى الفجر في جماعة فكان في ذمة الله، فطلبه الله بذمته، فعندها: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] .
وقل أن تجد قلبا خاشعا، أو لسانا ذاكرا موفقا مسددا وهو جريء على أعراض المسلمين، ومن هذا المجلس اعرف ما الذي لك وما الذي عليك، واعرف من هم علماء الأمة وسلف الأمة، واعتقد فضلهم، واعتقد مكانتهم، علماء أجلاء سقطوا من أعين الناس، وعلماء عظم بلاؤهم، وقادوا هذه الأمة سنينا وقرونا، ومع ذلك ذهبوا أدراج الرياح عند الذين انطمست بصائرهم -والعياذ بالله- وزلت أقدامهم.
شيخ الإسلام له كتاب: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكلمة الأعلام من شيخ الإسلام ليست سهلة، وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، فيذكر أولهم الإمام أبا حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، ثم ذكر الإمام مالكا والشافعي وأحمد، ما عاش علماء الأمة إلا على المحبة، ما عاشوا إلا على التقدير، ما عاشوا إلا على معرفة منازل أهل الفضل، وهل يعرف الفضل إلا أهله؟ وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في جلالة قدره وعلو شأنه إمام عظيم، نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبره، وأن يقدس روحه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ولنقولنها وسنقولها إلى أن نلقى الله، بأننا وجدنا له القبول الذي وضعه الله له بين المسلمين، وإن كانت عنده مسائل اجتهد فيها وأخطأ رحمه الله، فغيره اجتهد كما اجتهد والله الموعد، سيجزي الذي أصاب بالأجرين، ويجزي الذي أخطأ أجرا واحدا، ولن نستطيع أن نقفل باب رحمة فتحه الله، ومن هذا الذي ليس عنده عقل ولا تمييز ينظر إلى هذا الإمام الذي وضع له القبول بعين الازدراء! وأئمة السلف كلهم على جلالة قدره ومعرفة فضله، لا يجوز أن تؤخذ الكلمة والكلمتان الطائرة من هذا وذاك؛ فيجرح بها، فهذا الإمام مالك يقول في ابن إسحاق: دجال من الدجاجلة! وما قبلت كلمة مالك فيه، وقال ابن أبي ذئب في مالك في مسألة الخيار: يستتاب مالك وإلا قتل! هذه كلمات قد يقولها بعض العلماء ولا يلتفت إليها، ولا ندري حقيقتها، ولا يستدل بها.
والعجيب من هؤلاء أن يستدلوا بهذه الكلمة ونحوها، فإذا ذكرت لهم حجة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في مسائل وتقول لهم: قال الإمام كذا، يقول لك: هم رجال، ونحن رجال، تقولون: قال أبو بكر، وقال عمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! ما شاء الله، متى؟ إذا خالفهم، ثم يأخذون أقوال الرجال في القرن الثالث والرابع ويحتجون بها، في ماذا؟ في نقصان أهل الفضل، وتتبع عورات أهل الكمال والإحسان.
ينبغي للمؤمن أن يربي نفسه على احترام العلماء والأئمة والفضلاء، عكرمة صاحب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه حمل علم ابن عباس رضي الله عنه؛ لكن تجد الجاهل من هؤلاء المتأخرين لا يرعوي ويتكلم فيه، ويحاول أن ينقص قدره، ويتهمه بالإرجاء والبدعة، ما هذا؟! أهذه هي سوق العلم؟! وهل هذا هو سبيل المؤمنين والمحسنين؟! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت إليك المشتكى، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يقوم للحق نصابه، وأن يقطع دابر أهل الفساد، فيهدي من كان راضيا هدايته، ويأخذ من كان منهم على ضلاله، وأن يريح العباد والبلاد من شرهم وكيدهم.
سبحان الله! ينبغي أن نجرد أنفسنا لتربية أبناء الأمة على الكتاب والسنة، من هذا الذي يقول: إنه على الكتاب والسنة، وهو من أجهل الناس بأحكام القرآن والسنة؟ ومن هذا الذي يريد أن يربي الناس على الحقد على الأخيار والصالحين ثم يدعي أن ذلك هو منهج الكتاب والسنة؟ لا والله يأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى الصالحون، وما قلناه سنلقى الله به، ولكن هذا الذي نعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أدركنا عليه العلماء والصلحاء والأتقياء أنهم يحببون الناس في سلف هذه الأمة علماء وصالحين، ويعتقدون فضلهم، حتى أن بعض علماء العقيدة ذكر من عقيدة أهل السنة الترضي على علماء الأمة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، يقول الإمام الطحاوي: أهل الخير والأثر، والفقه والنظر، هؤلاء كلهم فقهاء الأمة وعلماؤها، لهم جلالة قدرهم، ومكانتهم تحفظ ولا تضيع، يكرمون ولا يهانون، ويذكرون بالجميل -كذا قال رحمه الله:- ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل؛ لأنه شاق الله ورسوله، فالسبيل الأقوم أن تحفظ فضل أهل الفضل.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وقد يل







ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:27 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (519)





شرح زاد المستقنع - باب حد القذف [2]
القذف من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات، وقد شرع الله عقوبات لهذه الجريمة، وحد القذف لا يثبت إلا بشروط يجب توافرها في القاذف والمقذوف، والقذف قد يكون بلفظ صريح وقد يكون بلفظ غير صريح، ولكل حكمه.
عظم ذنب قذف المسلمين في أعراضهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] .
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله: (حد القذف) ، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟ فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت) ، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازور عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولا خاطئا في أعراض المسلمين.
وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا أكثر من ستين بابا، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه) ، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر: (وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم) ، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} [النور:23] ، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرما والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاء على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قل أن يسلم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئا على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟) .
ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكى نفسه وزكاه من في الأرض جميعا وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئا ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطا، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد.
وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصيا للأمة مبينا لها أمورها المهمة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) .
فنظرا لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظرا لاشتمالها على جملة من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود.
يقول رحمه الله: (باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.
ما يشترط في القاذف
قال رحمه الله: [إذا قذف المكلف محصنا] .
هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف.
وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغا، فلو أن صبيا قال لرجل: يا زان، أنت زان، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم) ، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزا، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخص إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزا يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزا؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملا بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظرا لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله! فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغا.
كذلك أن يكون عاقلا، فلو أن مجنونا سب رجلا فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي.
وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرها، فلو أن شخصا هدد شخصا وقال له: إن لم تقذف فلانا، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرها، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان مكرها، فأنزل الله سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، قالوا: فإذا قذف مكرها وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجبا لاندراء الحد عنه، ومسقطا للعقوبة.
وقوله: (إذا قذف المكلف محصنا) ، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.
حكم من قذف جماعة
والأصل أنه إذا قذف محصنا واحدا يقام عليه الحد ثمانون جلدة، وهذا لا إشكال فيه، إذا كان حرا وانطبقت الشروط المعتبرة للحد، فالمصنف رحمه الله بين الحكم إذا كان القذف لمحصن سواء كان ذكرا أو كان أنثى، حتى ولو قذف خنثى مشكلا فإنه يقام عليه الحد، فالمحصن يشمل هؤلاء كلهم.
ولكن لو أنه خاطب اثنين، فقال: أنتما زانيان، أو فلان زنى بفلانة، أو فلان وفلانة زانيان، أو فلان وفلان وفلان زناة، فهل لكل واحد من هؤلاء حد، وله الحق أن يطالب بحده أم أنه إذا طالب به أحدهم أو طالبوا به جميعا أقيم عليه حد واحد؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وأصح القولين -والعلم عند الله-: أن كل واحد منهم له حق، وأن مطالبة الواحد لا تسقط حق الثاني؛ لأنه خاطب الجميع واتهم الجميع بالزنا، وعلى هذا؛ فإنه إذا قذف ثلاثة، فطالب أحدهم بحقه اليوم أقمنا عليه حده، ولو طالبوا الثلاثة مع بعض أقيم لكل واحد منهم حده، هذا هو الأصل؛ لأنه وجه التهمة لكل واحد منهم، ومما يقوي هذا القول: أنه لو كان في الثلاثة من لا يقام عليه الحد لم يسقط الحد عن الجميع، فلو أنه خاطب جماعة وقال: يا زناة، وفيهم واحد زان فعلا، ثبتت عليه تهمة الزنا، واتهمهم وفيهم هذا الزاني، فلو قلنا: إنه قذف واحد يأخذ حكم الواحد؛ لأسقط وجود الخلل في أحدهم حق الباقين، لكننا نقول: إنه قد خاطب الجميع، وكل واحد منهم له حق، فإذا امتنع البعض عن المطالبة بحقه، فمن حق الآخر أن يطالب بحقه، وإذا طالب أحدهم لم يسقط حق الباقين؛ لأنهم متهمون جميعا، وكما أقيم لهذا حقه يقام للآخر حقه.
وعلى هذا فإنه يتعدد الحد ويتكرر على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ والنظر يقوي هذا، فإنه إذا قذف ثلاثة، يكون كما لو قذف كل واحد منهم قذفا مستقلا، فلو أنه قال لمحمد وعلي وعبد الله: أنتم زناة، فحكمه كما لو انفرد بمحمد فقال له: أنت زان، وحكمه كما لو قال لعلي مباشرة: أنت زان، وكما لو قال لعبد الله: أنت زان، فكما أنه لو قذف كل واحد منهم مستقلا لا تجمع الحدود في حد واحد؛ كذلك لو قذفهم جميعا مباشرة؛ لأن الكل وقع عليه اعتداء في عرضه سواء كان مجتمعا مع غيره أو منفردا، وعلى هذا -تعظيما لحدود الله وحرماته- فإنه يقام عليه الحد لكل واحد منهم يريد أن يطالب بحقه، فيعاقب بالحد، ويكرر عليه، على ظاهر النص أن المقذوف له حق المطالبة بإقامة الحد على من قذفه.
عقوبات القاذف
قال المصنف رحمه الله: [جلد ثمانين جلدة إن كان حرا] .
أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حرا، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات: العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة.
العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلانا له عند فلان ألف ريال، أو أن فلانا قتل فلانا -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزان، فتوبته بأن يكذب نفسه.
العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة: الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة.
الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلانا كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين: بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلانا بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {إلا الذين تابوا} [النور:5] ، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب.
الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرة، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة.
ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.

الفرق بين الحر والعبد في الجلد للقذف
قال المصنف رحمه الله: [وإن كان عبدا أربعين] .
مذهب جماهير السلف والخلف -ومنهم الأئمة الأربعة- على أن العبد إذا قذف غيره يقام عليه الحد أربعين جلدة، واستدلوا -أولا- بقوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، حيث شطر الله حد الزنا الذي هو الأصل، فمن باب أولى تشطير حد القذف، وهذا من باب التنبيه بالأعلى على ما هو دونه.
واستدلوا -ثانيا- بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم أجمعين كانوا يجلدون الرقيق في القذف أربعين جلدة، قال أبو بكر بن حزم: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا والأئمة يجلدون العبد أو المولى إذا قذف أربعين جلدة، وهذا يدل على أنه سنة ثابتة، وعليها إجماع الصحابة حيث لم ينكر أحد من الصحابة تشطير عقوبة القذف على الرقيق، وعليه فإنه يجلد أربعين جلدة.
قال المصنف رحمه الله: [والمعتق بعضه بحسابه] .
للعلماء وجهان في المعتق والمبعض: فبعض العلماء يقول: إذا كان نصفه حرا ونصفه رقيقا فإنه يجلد بحسابه، وعلى هذا تكون ستين جلدة، الأربعون: تشطير أصل الحرية، مراعاة للحرية، والعشرون: تشطير الرق، فإذا كان مبعضا فإنه بحسابه على القول الذي اختاره المصنف.
والقول الثاني: إذا كان مبعضا فإنه على النصف دائما، وهم متفقون أنه لو كان نصفه حرا ونصفه رقيقا فإنه يجلد على النصف، ولكن إذا كان ثلثاه أو كان ثلثه رقيقا والآخر حرا فعلى القول الأول: يتشطر بحسابه، وعلى القول الثاني: يتشطر على النصف، سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأن الحكم واحد عند الذين لا يفصلون، وهو اختيار أصحاب الشافعي وطائفة من العلماء رحمهم الله.
حكم قذف غير المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير] .
مثلا: لو قذف صغيرا، في هذه الحالة الصغير لا يتأتى منه الزنا ولا يتضرر بقذفه، لكن يجب أن يعزر، فلو اشتكى هذا الصبي أو بعد بلوغه اشتكى -وكان القذف حال صغره- فإنه يقام عليه التعزير.
والتعزير: عقوبة لا حد لها، وهي تكون -في الأصل- في غير المقدرات شرعا، والتعزير ستأتينا إن شاء الله ضوابطه: أنه يتبع حالة المجني عليه والجاني والبيئة التي فيها الاثنان، فمثلا: يختلف التعزير لو كان الصبي يستلزم الرعاية أكثر، فقذف الصغير من القرابة ليس كقذف الصغير الغريب، وقذف الصغير من أبناء أو بنات الصالحين ليس كقذف عامة الناس؛ لأن الله جعل لكل شيء قدرا، فالناس لهم حقوق، ولهم منازل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) ، فإذا كان القذف متعلقا بمن لا يقام الحد بقذفه؛ فإنه لا بد من عقوبة للقاذف، وتكون العقوبة تعزيرية، ينظر القاضي فيها إلى حال المقذوف وحال القاذف، فيعزر كل قاذف بما يناسبه، وهذا أصل في التعزير.
الحد حق للمقذوف
قال المصنف رحمه الله: [وهو حق للمقذوف] .
قوله: (وهو) الضمير عائد إلى حد القذف (الجلد ثمانين جلدة) حق للمقذوف، وهذا قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أنه حق للمقذوف، وإذا قلنا: إنه حق للمقذوف؛ فلا يقام إلا بطلب المقذوف، ويبقى على هذا الطلب إلى إقامة الحد.
إذا: لا بد أول شيء أن يطلب المقذوف من القاضي حقه، فيقول: فلان قذفني، فيؤتى بفلان فيقر أو يأتي بالشهود ويثبتون أنه قذفه، فإذا أقر أو قامت عليه بينة بأنه قذف، وثبت عند القاضي أنه قذف، يقول له القاضي: أنت قذفت أخاك في الإسلام، فإما أن تحضر البينة أو أقيم عليك حد القذف، فإن قال: ليس عندي بينة، يأمر القاضي حينئذ بجلده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فإذا قال: لا بينة لي، أقيم عليه الحد، فإذا استمر المقذوف بالمطالبة مضى الحكم، ولو عفا عنه بعد الحكم وقبل التنفيذ، لا يقام عليه حد القذف، فلو أن القاضي حكم عليه بأنه قاذف، ثم أردنا تنفيذ الحد، فقال صاحب الحق: عفوت -ومن حقه أن يعفو- ففي هذه الحالة يسقط عنه الحد، ولا تجب العقوبة.

ما يشترط في المقذوف
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن هنا: الحر] .
أي: في باب القذف، فلا بد أن يكون المقذوف حرا كاملا، فإذا كان رقيقا فإن نقص الرق يؤثر، وجماهير السلف والخلف أن قذف العبيد فيه التعزير، وليس فيه الحد، ولهذا أصل؛ لأن أصل الرق الكفر، ومن هنا لم يسو الشرع بين المسلم والكافر، وإن كان الرقيق قد يسلم، لكن هذا في الأصل ناقص.
ومن هنا اطردت أحكام الشريعة في التفريق بين المسلم والكافر، فإذا قذف عبدا فإنه لا يقام عليه الحد كاملا، خلافا لمن شذ، وقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أن فيه التعزير، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4] ، والإحصان: يطلق بمعنى الحرية، وهذا تقييد للحكم بالعقوبة، ومن هنا فهم جماهير السلف والخلف من الآية أن الإحصان يشمل الحرية، وأنه لا إحصان بدون حرية.
قال المصنف رحمه الله: [المسلم العاقل] .
(المسلم) فلو قذف الكافر فإنه يعزر، (العاقل) فلو قذف المجنون فإنه يعزر؛ لأن المجنون -أولا- لا يستطيع أن يطالب بحقه، وثانيا: لوجود النقص فيه، وظن السلامة في الاعتداء على عرضه ليس كالعاقل؛ لأن المجنون قد يتأتى منه هذا ولا يضمن نفسه ولا يملك نفسه، ومن هنا نقص عن العاقل الذي يلتزم بشريعة الإسلام وهو على دينه واستقامته، فالمجنون لا يؤمن أن يقع منه الزنا وهو لا يدري، ولا يستطيع أن ينفي عن نفسه ذلك؛ لأنه مجنون ليس عنده عقل، ولذلك يعزر قاذفه، ولا يحكم بجلده الحد.
قال المصنف رحمه الله: [العفيف] .
فلو قذف زانيا وقال له: يا زان، فقد أصاب قوله الواقع؛ لأنه قد زنى، وحينئذ ليس بقاذف، وبعض العلماء يرى التفريق في هذا بين من أقيم عليه الحد وتاب، وبين من لم يقم عليه، ولكن حتى لو أقيم عليه الحد وتاب، وقيل له: لم قلت له: زان؟ قال: قصدت ما كان منه في السابق، فهذا يعتبر وصفا وليس بتهمة بالزنا، ومن هنا فرق بين من يصفه بالزنا وكان قد وقع منه زنا وبين الذي هو عفيف لم يقع منه فحش.
قال المصنف رحمه الله: [الملتزم] .
الملتزم بشرائع الإسلام، ومن هنا يخرج الحربي فإنه لا حرمة له، واختلف في الذمي، وإن كان شرط الإسلام في الأول قد تضمن مفهومه إخراج الذمي وإخراج الكافر عموما، وعلى هذا لو قال لحربي: يا زان، أو قذف حربية أو قال عن أهل الحرب: إنهم زناة، أو نحو ذلك من عبارات القذف، فإنه لا يقام عليه الحد، ولكن في الذمي خلاف: فبعض أهل العلم يرى أن الذمي له حرمة المسلم، فقد حرم ماله وعرضه فلا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبعض العلماء يرى أنه لا يأخذ حكم المسلم، وقاذفه يعزر ويؤدب.
القول الأول: أسقط الحد لوجود الشبهة، وهو مذهب قوي، والقول الثاني: راعى الأصل في حرمة الذمي، ولكن هل هي مساوية للمسلمين من كل وجه؟ قال المصنف رحمه الله: [الذي يجامع مثله] .
أي: الذي يتأتى منه الجماع، والسبب في هذا أن القذف تهمة، فإذا قال لصبي لا يتأتى منه الجماع: يا زان، علم الناس كذبه، وحينئذ لا يحصل ضرر على الصبي كضرره عليه إذا كان بالغا، قالوا: إذا قذف من لا يتأتى منه الجماع؛ سقط الحد عنه، وهذا لا ينفي أنه يعزر، بل إنه يعزر، ولكن القضية هل يقام عليه الحد أو لا يقام عليه الحد؟ وهذا إذا كان لا يتأتى من مثله الجماع، أو لا يجامع مثله، كما لو كان صغيرا لا يتأتى منه الجماع.
ومن كان مجبوب الذكر هل يكون قذفه قذفا؟ على وجهين عند العلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من قال: قاذف المجبوب يقام عليه الحد، واحتجوا بعموم الآية الكريمة، ولكن في الحقيقة إذا سقط القول، وظهر الدليل على كذب القاذف، ووجدت الشبهة؛ قوي القول الذي يقول: بإسقاط الحد عن القاذف، وهذا ما كان يرجحه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أنه إذا وجد ما يدل على كذب القاذف، وظهرت الدلالة على كذبه، كما لو قذف صغيرا لا يتأتى منه الجماع، أو المجبوب الذي عرف جبه؛ فإنه توجد شبهة تسقط عنه الحد، وكان بعض العلماء يقول: إن قاذف المجبوب يقام عليه الحد لاحتمال أن يقصد أنه زنى قبل جب ذكره، وقبل قطع عضوه، وهذا لا شك أنه يقوي مذهب من يقول بوقوع الحد، ولكن الشبهة لا تزال قائمة، إلا إذا فصل في تهمته له بالزنا على وجه تندرئ به الشبهة فيجب عليه الحد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشترط بلوغه] .
فالصبي قد يجامع قبل البلوغ، فإذا تأتى منه أن يجامع؛ تأتى وصفه بالزنا لاحتمال أن يقع منه الزنا، فلا يشترط أن يكون بالغا.
صريح القذف
قال المصنف رحمه الله: [وصريح القذف يا زاني، يا لوطي، ونحوه] .
بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يعاقب، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفا مؤثرا موجبا للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف.
واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحا وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفا، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفا مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح.
وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئا آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهما يطلب تفسيره، وما كان مجملا يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان.
إذا: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة.
قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولا، فإذا قال لرجل: يا زان، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقا عاريا عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زان، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد.
لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح.
وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كل منهما، وإذا قال: يا زان، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفا قذفا صريحا، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمة بالفاحشة أو تهمة بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف.
وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [ونحوه] ، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضا قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواء لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.
كنايات القذف
قال المصنف رحمه الله: [وكنايته: يا قحبة] .
وكناية قذف، أي: اللفظ المحتمل الذي نسأل من قاله عن نيته، فإذا قصد به ما يدل على الفاحشة، كأن يقول: أردت أنه زنى؛ فهو قاذف، وإذا قال: لم أرد الزنا، فهو ليس بقاذف، فإذا قال لها: يا قحبة، أو قال لرجل: يا ابن القحبة، والعياذ بالله! فإن هذا لفظ محتمل، فإنه يحتمل أنها زانية، ويحتمل أنها تتعاطى الأمور الرذيلة التي يتعاطاها أهل الفحش، وليس مراده أنها فعلت الفحش، وفي هذه الحالة يسأل عن قصده، ويحلف بالله إنه ما أراد الزنا، هذا إذا قلنا: إنه كناية، فالكناية ينوى ليبين، ينوى: يعني نسأله عن نيته، فإذا لم يوافق خصمه وقال: لا، ما أراد هذا، ولم يصدقه؛ نقول له: احلف بالله إنك لم ترد الزنا.
إذا: هناك أمران: الأمر الأول: أن يصرف اللفظ عن معناه الدال على الزنا وفعل الفاحشة.
الأمر الثاني: إذا لم يصدقه خصمه، نقول له: احلف بالله عز وجل إنك لم ترد هذا المعنى الموجب للحد.
قال المصنف رحمه الله: [يا فاجرة] .
وهكذا إذا قال للمرأة: يا فاجرة، أو قال للرجل: يا فاجر، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاجر، كل هذا -والعياذ بالله- من الألفاظ المستقبحة، ولكن يسأل عن نيته: هل قصد بالفجور فعل الزنا؟ فإذا قال: قصدت أنه زان، فهذا قذف، وإذا قال: ما قصدت الزنا، وصدقه خصمه فلا إشكال، فلو قال: ما قصدت فعل الزنا، ولكن قصدت أنه يفعل أفعال أهل الفجور من التساهل أو نحو ذلك، فحينئذ يحلف إذا كذبه خصمه، وفي حكم ذلك أن يقول له: يا ديوث، كما ذكر ذلك العلماء والأئمة، أو إذا قال للمرأة: يا قوادة، أو للرجل: يا قواد، ونحو ذلك من الألفاظ التي بسطها أهل العلم، وفي الحقيقة هذه الألفاظ تخضع للمجتمع، فقد تكون هناك ألفاظ قذف عند العامة وليس لها معنى في اللغة، وذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني- نحو ذلك من الألفاظ التي ليس لها أصل في اللغة، وقال أئمة اللغة: لا نعرف لها أصلا، لكن جرت العادة بين العامة باستخدام هذا اللفظ ومن هنا يرجع القاضي إلى من عنده معرفة، فإذا وقع هذا الكلام في بيئة، فيسأل أهل تلك البيئة: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ وماذا تقصدون من هذه الكلمة؟ فإن كانت في العرف صريحة الدلالة على التهمة بالزنا فلا إشكال، وإن كانت في العرف محتملة تطلق على معنى الزنا وعلى معنى آخر، فحكمها حكم الكنايات كما تقدم.





ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:33 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
قال المصنف رحمه الله: [يا خبيثة] .
وهكذا الوصف بالخبث، والخبث يحتمل فعل الفاحشة -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء:74] ، ويحتمل خبث اللسان، ويحتمل خبث النية، ويحتمل خبث العمل، أي: أنه غشاش، لا يحسن معاملة الناس، ونحو ذلك.
إذا قال: فلان خبيث، أو فلان من أهل الخبث، أو هذه خبيثة، أو فلانة خبيثة، فإنها إذا اشتكته إلى القاضي ورفعت أمره إلى القاضي، سأله القاضي: ماذا تريد بهذه الكلمة؟ فقال: أردت بها أنها زانية أو أنه زان -والعياذ بالله- أقيم عليه الحد، فببيانه يرتفع الإجمال، وبتفسيره يزول الإبهام، وأما إذا قال: لم أرد هذا، إنما أردت بالخبث خبث اللسان، أي: أنها تسب الناس أو أنه يسب الناس، أو أردت خبث العمل أي: أنه ليس أمينا في معاملته أو أنه يضرب الناس، أو أردت خبث النية، أي: أنني أرى فيه الحسد، وأرى فيه احتقار الناس، وأرى فيه العصبية، وأرى فيه الغمط للناس وعدم احترامهم، فإذا فسره بغير الزنا ورضي خصمه فلا إشكال، وإلا حلف له.
قال المصنف رحمه الله: [فضحت زوجك] .
وهكذا إذا قال: فضحت زوجك، الفضيحة تحتمل فضيحة العار والزنا، وتحتمل الفضيحة التي هي دون ذلك، فيسأل عن قصده كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [أو نكست رأسه] .
الرجل إذا ابتلي بالبلية في أهله أو في عرضه وجلس في مجلس أذلته، ومن هنا ينكس رأسه، وتنكيس الرأس في المجالس غالبا يكون لسبب، وقد يكون محمدة، وقد يكون مذمة؛ فيكون محمدة إذا كان على سبيل الخشية لله عز وجل والخوف منه، والبعد عن التشبه بأهل الكبر والغرور، ولذلك تجد العلماء والصلحاء إذا جلسوا في المجالس العامة أو جلسوا بين الناس، وأرادت الناس أن تفخر بهم؛ طأطئوا رءوسهم ذلة لله، والدليل على مدح ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دخل مكة في يوم الفتح طأطأ رأسه حتى كادت طرف لحيته تمس قربوس سرجه تواضعا لله عز وجل) ، فتنكيس الرأس قد يكون عزة وكرامة، فهي ذلة في موضع عزة، ومهانة في مقام كرامة، وذلك إذا كان لله وتواضعا له، إذا كان بين من يمدحه ويثني عليه وخشي على نفسه الفتنة ممن ينظر إليه أو من يهابه، فيطأطئ رأسه ذلة لله عز وجل، واعترافا بفضله، واعترافا بإحسانه سبحانه، والله هو المطلع على القلوب والضمائر، فهذا فخر للإنسان وشرف وعزة، خلاف أهل الكبر الذين إذا مدحوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا رءوسهم، وتعالوا وانتفخوا، فهذا من نفخ الشيطان فيهم والعياذ بالله! فطأطأة الرأس وتنكيس الرأس يكنى بها على أن الرجل أصيب بمصيبة، وأعظم المصيبة بعد الدين أن يصاب في عرضه، ولذلك يطأطئ رأسه، فيقال لها: نكست رأس زوجك، نكست رأس أهلك، فهذا يكنى به على أنها فعلت الفاحشة، حتى إن قريبها لا يستطيع أن يرفع رأسه في القوم، وهذه العبارات كانت موجودة، لكن قد تستبدل الناس عنها عبارات أخرى، والجنون فنون، وسب الناس -والعياذ بالله- من الجنون، والتهور فيه لا يفعله إلا إنسان انعدم عقله الذي يعقله عن سفاسف الأمور، وعن التسلط على الناس، ولذلك إذا قال لها: نكست رأس زوجك، وقال: قصدت أنها امرأة لم تعتني بإكرام زوجها، وقصدت أنها امرأة لم تحافظ على زوجها كما ينبغي، ولم تحافظ على وقته بحيث يتفرغ لأموره وشئونه، حتى إنه انشغل بأشياء ما كان ينبغي أن ينشغل بها، ولو كانت زوجته كاملة لحافظت عليه حتى يرتفع رأسه، وما قصدت الزنا؛ فيكون هذا موجبا لاندراء الحد عنه، أما لو قال: قصدت الزنا، فإنه يقام عليه الحد، وهو قاذف.
قال المصنف رحمه الله: [أو جعلت له قرونا] ، ونحوه جعلت له قرونا أو حتى شياطين! لا نتوقف عند لفظ معين، المتون الفقهية فيها كلمات غريبة، قد يكون هذا اللفظ (جعلت له قرونا) قذفا في القديم، ففي كل زمان نسأل أهل الخبرة، وقد تحاشيت ذكر ألفاظ يجوز أن أذكرها في مجالس العلم، ولكن الإنسان يجل مجالس العلم من ذكرها، ذكر العلماء رحمهم الله ما يقارب خمسين لفظا، ألفاظ بشعة جدا، تنزعج منها الآذان، وتقلق منها القلوب، ويجوز لنا أن نذكرها لأجل العلم، لكن الحمد لله ما دام أن الكتب موجودة، فمن يريد أن يتوسع في ضبطها وفهمها، فليرجع إليها، لكن الذي يهمنا هنا القاعدة والضابط، فلما كانت هذه الألفاظ التي ذكرها العلماء رحمهم الله لا يستعملها الناس كلها، وما ندري ما يستعملون الآن منها، والألفاظ القديمة المعروف منها أعداد معينة، ونحن والله! ما عندنا خبرة بهذه الألفاظ، فكثير منها نجهلها ولله الحمد، ونسأل الله أن يزيدنا بها جهلا لا يضر بعلمنا.
فهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله، وتتعجب منهم وهم أئمة فحول كيف أخذوها؟ أخذوها بالتلقي، إذا: نقول لكل قاض وكل مفتي وكل شيخ يريد معرفة هذه المسائل والأحكام: ارجع إلى الضابط والأساس، فالعبرة بقول أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا عندنا لا يستعمل إلا في الدلالة على الزنا، فإنه قذف، وإذا قالوا: يستعمل في معنيين فأكثر، سئل القاذف عن نيته، لماذا نرجع إلى أهل الخبرة؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام وخليفة راشد وكان يقول: لست بخب ولا الخب يخدعني، وكان يعرف أحوال الناس، مع هذا إذا جاء اللفظ المحتمل سأل عنه، ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وأرضاه بقوله: واقعد فأنت الطاعم الكاسي، فجاء الصحابي يشتكي إلى عمر رضي الله عنه من الحطيئة وعمر يفطن ويعرف، ولكن من باب درء الشبهة، قال: ما أرى بهذا بأسا، واستدعى حسان رضي الله عنه لأنه من أهل الشعر، وما رجع إلى غيره، بل رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، فقال له: أترى -يا حسان - في هذا هجاء؟ قال: ما هجاه، بل سلح عليه، يعني: ألعن من الهجاء فإنه قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي كان الرجل فيه بخل، فلما جاءه الحطيئة ولم يكرمه، قام وقال فيه هذه المقالة، فسأل عمر رضي الله عنه حسان فقال له حسان: ما هجاه، بل سلح عليه -أكرمكم الله- يعني: قضى حاجته عليه، وهذا أشد من الهجاء، وعمر رضي الله عنه يقول: ما أرى بهذا بأسا، يعني: ما ظهر له فيه بأس، لكن لما رجع إلى أهل الخبرة؛ قالوا له: ليس هذا بهجاء، بل ألعن وأسوأ وأشد من الهجاء، إذا: لا بد لطالب العلم ولأهل العلم أن يرجعوا إلى أهل الخبرة والمعرفة.
قوله: (ونحوه) يعني مثله.
قال المصنف رحمه الله: [وإن فسره بغير القذف قبل] .
وإن فسر هذه الكناية بغير القذف قبل، أي: قبله القاضي، فصرف عنه الحد، ودرأه عنه للشبهة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزر] .
إذا قذف الجماعة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف؛ دل الظاهر على كذبه، وذكرنا أن من الأصول التي يندرأ بها الحد أن تقوم الدلالة على كذب القاذف، كما لو قذف من لا يتأتى منه الجماع، ولا يتأتى منه الزنا، وهذا في حكمه.
سقوط حد القذف بالعفو
قال المصنف رحمه الله: [ويسقط حد القذف بالعفو] .
أي: عفو من جني عليه، وهذه من الأحكام المترتبة، فبعد أن بين رحمه الله ما يثبت به الحد، شرع في بيان من يسقط الحد، وهذا من ترتيب الأفكار.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يستوفى بدون الطلب] .
أي: لا يقام الحد بعد ثبوته، ولا يستوفى إلا إذا طلب ذلك الخصم، وقال للقاضي: أطالبه بحقي، أو أقم عليه حد الله عز وجل، أو أريد أن يقام عليه حد الله، فإذا طلب ذلك فإنه يقام عليه الحد، أما إذا لم يطلب فإنه لا يقام عليه الحد.
مسألة: هل يورث الحد؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حد القذف يورث، فلو قذف أمه الميتة أو أباه الميت، فمن حقه أن يطالب بإقامة الحد، أو قذف أباه فمات أبوه، وتقدم الورثة بطلبه فإنه يورث، وهذا يختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.

الأسئلة




حكم أخذ تعويض مالي بدلا من إقامة حد القذف

السؤال إذا طلب المقذوف تعويضا ماليا بدلا عن الجلد، فهل يعطى المقذوف التعويض؟ أثابكم الله.

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحكام الله لا تغير ولا تبدل، والعقوبات الشرعية توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فنقول له: حقك عند القاذف الجلد، وأما هذه الأحكام الجاهلية من وضع الغرامات المالية في القذف وتشويه السمعة ونحو ذلك، فهذا لا أصل له في الشرع، لكن بعض المسائل قد يقضى فيه بهذا، الذي نتكلم عنه كحكم وقضاء، لكن لو أن أهل القاذف وأهل المقذوف اتفقوا على الصلح بينهم، وجاء أهل القاذف بشيء يرضون به من صالحوه أو كافئوه على تنازله عن الحق، فهذا غير هذا، وباب الصلح ليس له علاقة بمسألة الحد، الحد الذي يحكم به القاضي حد الله عز وجل، لا يحكم بشيء آخر من العقوبات، فلا يعاقبون بالتعويضات المالية في مسائل القذف، الذي يحكم به القاضي هو شرع الله عز وجل، فإذا ثبت القذف وطالب المقذوف بالحد فإنه يقيم عليه حد الله ثمانين جلدة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، لكن لو أن أهل المقذوف وأهل القاذف اصطلحوا فيما بينهم قبل أن يأتوا إلى القاضي، أو صدر الحكم من القاضي واتفقوا فيما بينهم على أنه يعفو ويعطى شيئا، فهذا جائز من باب الصلح وتقدم معنا ذلك في مسائل الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق المالية، والله تعالى أعلم.
العلة في عدم إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي
السؤال لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على عبد الله بن أبي وقد نص القرآن بذلك ودل عليه؟ أثابكم الله.
الجواب هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله في مسألة ثبوت الجناية والجريمة، أما الثلاثة الذين هم مسطح وحسان وحمنة حصل منهم القذف، وعرفوا بين المسلمين بالكلام والخوض في هذا الأمر، والذي حركهم لذلك خفية هو عبد الله بن أبي وتولى كبر القذف، فاختار الله عز وجل له ألا يظهر منه ما يوجب ثبوت الحد عليه بالكلام في الفحش، فأرجئت عقوبته إلى الله عز وجل في الآخرة، وهي أشد وأعظم من عقوبة القذف في الدنيا وهي الجلد، ولذلك أقيم الحد على الثلاثة لأنهم كانوا من أهل الإسلام، أما هذا فإنه منافق كافر بالله عز وجل، لا يشتغل بحد القذف فيه وهو كافر بالله عز وجل، ولذلك أطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الجناية من هؤلاء الثلاثة، وأمر بعقوبتهم، ولكن عبد الله بن أبي وهو الذي تولى كبره أرجأ الله عقوبته، وتولى الله عز وجل عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، والخبيث كان يثير هذه الأشياء ويحسن التخلص منها، كان يحسن ألا يكون في الصورة، وألا يكون أمام الناس، ومن هنا قالوا: من ناحية شرعية الله عز وجل على علم بأنه من أهل الكفر والنفاق، وما هو معقول أن يجلد حد القذف وهو على ما هو أخبث منه! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قبل منه الظاهر، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الظاهر، مع أنه معلوم النفاق، ومن أهل النفاق الذين لا يألون -والعياذ بالله- جهدا في أذية الإسلام والمسلمين، وبقي امتحانا من الله لنبيه، وسنة لعباده وأوليائه في كل زمان ومكان، فإذا كان نبي الأمة يبتلى بهذا الرأس من رءوس النفاق حتى يتكلم في عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلكل عالم ولكل داعية رأس من رءوس النفاق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولكل مصلح رأس من رءوس النفاق، ولذلك تجد كل عالم من علماء السنة في كل زمان له -والعياذ بالله- من يترصد به، ويؤذيه، ويتظاهر بأنه على الحق والخير، إنها سنة ماضية، ولذلك تعزى المسلمون، وتعزى الأخيار والصالحون بمثل هذا، لو أقيم عليه الحد كان أمره ليس كما لو لم يقم عليه الحد، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، وفضوح الآخرة أعظم من فضوح الدنيا، والله سبحانه وتعالى بالمرصاد: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ، ومن كانت عقوبته إلى الآخرة فأمره إلى وبال وخسارة؛ لأن الأمور بالعواقب، ولذلك من أقيم عليه الحد طهر، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله -وكان بعض مشايخنا يختاره في التفسير-: إن العقوبة للتطهير، ومثل هذا المنافق لا يطهر، قلبه فيه البلاء، في قلبه وليس في جسده: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} [النساء:145] ، فهذا من أشد البيان على أنهم بلغوا -والعياذ بالله- الغاية في التمرد على الله عز وجل، ومشاقة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.
حكم لعن وقذف المغنيات اللاتي يظهرن في التلفاز
السؤال رجل كلما رأى المذيعات والمغنيات في التلفاز يلعنهن، ويتهمهن بالفجور والفسق، فهل يجوز هذا؟ أثابكم الله.
الجواب الذي أراه أن الإنسان يمسك لسانه، ويحذر من الوقيعة في الناس، إن رأى ضالا دعا له بالهداية والصلاح، وإن كان عنده أخطاء ويريد أن يبين أخطاءه، فليبين أخطاءه، ولا مانع من ذلك، أما أن يتهمهم بالعهر والفجور فهذا لا يجوز، إلا إذا كان الغناء فيه فجور، وفيه عهر، وفيه دعوة للفساد؛ حكم عليهم بقولهم، ولكن أن يتخذ ذلك سنة، كلما خرج إنسان أيا كان سواء مغنيا أو غيره؛ يحكم عليه بذلك، ويتجرأ على عباد الله عز وجل، وقد نبهنا على أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه ما أمكن.
إذا حرص كل من فيه خير على هداية الناس ودلالة الناس على الخير، وإذا رأى عاصيا لم ييأس من نصحه وتوجيهه؛ وفقه الله عز وجل، وعظم خيره، وكثرت بركته على الناس، انظر إلى رجلين، رجل يمر على الفاسق فيسبه ويلعنه ويشتمه، ولربما ينتقل من الغيرة على الحق ومن حدود النصح، إلى نوع من العداوة الدنيوية التي خرجت من الدينية إلى الدنيوية، والرجل الآخر لا نقول: إنه يمدح، ولكن يقول له: يا أخي! اتق الله عز وجل، وخف الله سبحانه وتعالى فيما تفعله، الله عز وجل يقول لأوليائه وأهل طاعته والملتزمين بكتابه وسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، فهل السب والشتم قول بليغ؟ هل السب والشتم يقود إلى الخير؟ (قولا بليغا) : موعظة حسنة تهز القلوب، حينما تنظر إلى العاصي الذي تسلط عليه عدوك وعدوه وهو الشيطان، وتريد أن تكثر به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد أن تهديه إلى الخير؛ فتح الله عليك، فتقول كلمات مؤثرة وقد يكون ذلك في موقف بسيط جدا، وتلهم فيه الكلمة المؤثرة ما دامت نيتك وطريقتك أنك تحرص على هداية الناس، وأهم شيء النية، انظر إلى أي شخص صالح نيته هداية الناس لا ييأس، ولو يقف أمام أفجر خلق الله يتمنى أن يهديه الله عز وجل؛ تجد أنه يوفق في كلام قد لا يوفق إليه غيره ممن يحضر الكلمات والخطب لحسن نيته ولصلاح طويته، وتجد الشخص ربما يتجرأ على الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الرجل يقول: هلك الناس فهو (أهلكهم) وفي لفظ: (أهلكهم ) ) فهو أهلكهم لأنه آيسهم من رحمة الله فهو أهلكهم؛ لأنهم وإن كانوا هالكين فقد قطع على الله عز وجل بأنهم هالكون، مع أن الأمور بالخواتم، وقيل: فهو أهلكهم، أي: أهلكهم ولكن الله لم يهلكهم؛ لأنهم ربما تابوا، وهذا رسول الأمة أصلح خلق الله عز وجل، وأهداهم سبيلا، وأقواهم طريقا، يقول الله له حينما لعن عصية التي عصت الله ورسوله ورعل وذكوان، وقنت عليهم شهرا يدعو عليهم: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران:128] ، وجاء في بعض ألفاظ السير: (يا محمد! إنا لم نبعثك صخابا ولا لعانا، وإنما بعثناك رحمة للعالمين) .
تصور أن شخصا كان في جاهليته ومعصيته وقف عليه شخص وسبه سبا إلى أن استطال فيه، ثم اهتدى بعد ذلك، كيف يكون وجه هذا من ذاك؟ كيف يلتقيان؟ كيف يكون الأمر؟ لكن لو أنه مر عليه وقال له: اتق الله، لعل الله أن يهديك، أسأل الله أن يهديك، أسأل الله أن يتوب عليك، أسأل الله أن يأخذ بيدك إلى ما فيه الخير، لا شك أنه سيؤثر فيه، في بعض الأحيان تأخذك حمية الدين وتقول قولا قويا، لا نلومك، الولاء والبراء مطلوب، لكن بشرط أن يكون دافعك الخوف والخشية من الله عز وجل، رأيت المنكر فارتعدت فرائصك، لو رأيته من أقرب الناس منك كما لو رأيته من أبعد الناس منك؛ لأنها حمية لله، وليست حمية نفس، ولا عصبية، فالولاء والبراء الصادق النابع من نفس مؤمنة استنفدت كل الأسباب لهداية الناس ودلالتهم على الخير؛ خير وبركة، ولا بد للإسلام من عزة وكرامة، لا نرى فاسقا فنمسح على رأسه ونقول: الله يهديك، ونذل له! لا يصلح هذا، هكذا سيتجرأ أهل الفساد على فسادهم، ولذلك إذا رأيتم فاسقا فمر عليه الأول ونصحه، والثاني ونصحه، والثالث ونصحه، ثم مريت عليه، وقلت له: اتق الله،* لا تأمن أن يأخذك الله بأخذه، لا تأمن أن يسلبك عافيته، وأخذته بالقول الرادع فهذا قول بليغ؛ لأنه وقع في موقعه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! أميطي عنا قرامك هذا) ، وكانت فيه التصاوير، فنسيت عائشة رضي الله عنها، فجاء من صلاته عليه الصلاة والسلام فوقف متغير الوجه وامتنع من الدخول، فقالت: يا رسول الله! أغضب الله من أغضبك، ما تدري رضي الله عنها لما رأت من شدته في الحق.
فإذا: كل شيء له مقامه وله مقاله، ولكن أن يأتي الشخص أمام المغنية أو المطرب ويقول: الله يفعل به كذا والملعونة والكذا، هل هي تسمع كلامه فتتأثر وتتوب؟ إذا: هذا نوع من إضاعة الوقت، لكن شخص حمية لدينه لم يتمالك نفسه، فقال قولا شديدا غليظا عنيفا في موقعه غيرة على الحق، لا يلام، لكن بشرط ألا يتعدى حدوده، وألا ينسى حق الإسلام إذا كان العاصي مسلما، لا ينسى حق الإسلام، ولا ينزله منزلة الكافرين، شخص ارتكب ذنبا لا يوصله إلى الكفر لا ينزل منزلة الكافرين، وكأنه خرج من ربقة الإسلام من السب واللعن والشتم، وكأنه يئس من رحمة الله، لا، هذا هو الغلو، وهذا هو التنطع، ينبغي علينا أن نضبط الأمور بضوابط الشرع، وأن يتقي الإنسان ربه، وأن يعلم أن الهدف هداية الناس إلى الخير ودلالتهم على الخير.
بعض الأحيان قد تعبر تعبيرات تؤثر على العاصي، ذات مرة رأيت شابا قارب البلوغ، وقد لبس القصير إلى أنصاف فخذه، فركب معي، فقلت له: أخي! أسألك سؤالا: هل ثوبي هذا فيه عيب؟ قال لي: ما فيه عيب، قلت: يا أخي! ما أدري أنا كأني أرى فيه عيبا، فقال: والله! ما فيه عيب يا شيخ! قلت: يا أخي! ما فهمت ما أقول، رأيتك لابسا هذا اللباس فظننت أن اللباس الذي علي لا يليق، فطأطأ رأسه من الخجل وتأثر، لو أني قلت له: فيك كذا، وأنت مثل الكفار، وأنت كذا، فعلا هذا لباس الكفار، فهم الذين يتعرون ويتبجحون بذلك، ولا نعرف هذا من عاداتنا وأخلاقنا وشمائلنا، لكن لما قلت له ذلك طأطأ رأسه خجلا، ودمعت عينه وقلت له: والله! -يا أخي- إنك بثوبك عندي أعز منه في هذا اللباس، أين أنت يا أخي؟ أي نقص فيك لتتبع غيرك؟ وأي مهانة فيك حتى تظن الكرامة في غيرك؟ ولباس التقوى والستر خير لك، قال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا ألبس هذا بعد اليوم، فلو أنني قلت له مباشرة: أنت لبست لباس الكفار، أنت كذا، لكان ربما يقول لي: أتقول: إني كافر؟! مع أنه لبس لباسا ليس من لباس المسلمين ولا من عادتهم أنهم يأتون في مجامعهم بهذا العري وهذا التفسخ.
إذا: القول البليغ أن تنصح الناس، وتوجه الناس وتأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل.
النقطة الأخيرة: ألا تيأس، فمن خبث الشيطان أنه إذا جاء الشخص أمام أي إنسان مخطئ أول عقبة يضعها أمامه، أن يقطع رجاءه من الخير، كأن المخطئ الذي أمامه ليس براجع عن خطئه، وكأن المخطئ الذي أمامه سيموت على هذا الخطأ، ولكن الله عز وجل أحيا الأمل في النفوس وقال عن المنافقين: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، فإذا: لا بد أن يحيا هذا الأمل في النفوس، وهي هداية الخلق إلى الله، ودلالتهم على الحق، لعل الله أن يأخذ بالقلوب إلى الخير.
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.
حكم الخضاب بالسواد
السؤال ما حكم الخضاب بالسواد لمن شاب وهو صغير؟ وهل النهي عنه معلل أم لا؟ أثابكم الله.
الجواب السنة تغيير الشيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب) ، وسواء كان في كبير أو صغير، فإذا ابيضت لحيته وهو في شبابه؛ فإنه يغير هذا الشيب بالحناء أو الكتم، كما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجنب السواد، هذه هي السنة، ومن قال من السلف -كما هو مذهب الحسن وطائفة من الصحابة-: إنه خاص لمن يريد الزواج أو يريد أن يغش النساء، فهذا قول مرجوح، والظاهر عموم النص، وأن المنع عام، والله تعالى أعلم.

مسألة: ضع وتعجل

السؤال اشتريت محلا، وكان الاتفاق على أن أدفع نصف ثمنه نقدا، والنصف الآخر على أقساط شهرية، كل شهر خمسة عشر ألفا، وبعد أن دفعت عددا من الأقساط وبقي علي مائة وخمسون ألفا؛ اتفقت أنا والبائع على أن أدفع له باقي المبلغ نقدا، بشرط: أن يجري لي خصما قدره عشرون ألفا، أي: أدفع مائة وثلاثين ألفا فقط، هل هذا جائز أم لا؟ وهل يعتبر بيع دين بحاضر؟ أثابكم الله.

الجواب هذه المسألة فيها شبهة كبيرة، وهي من مسائل ضع وتعجل، ولها صور بعضها جائز، كما في قضية بني النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، (وقالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، فقال: ضعوا وتعجلوا) ، وهذه الصورة المذكورة في السؤال فيها شبهة قوية، ولذلك الأشبه منعها والتورع والابتعاد عنها أي: إذا قال له: بالشرط، يعني: أنا أسددك العشرة الأقساط الباقية نقدا، وتحسب الفائدة المركبة على التأخير وتسقطها وأعطيك نقدا، هذا شبهة الربا فيه قوية، وهو الذي أمنع منه، وأرى عدم جوازه.
وأما إذا كان الإسقاط في أصل المبلغ، مثلا: شخص استدان منك عشرة آلاف ريال على أساس أن يسددها في محرم، فجاءك ظرف قبل شهر محرم وقلت له: يا فلان! أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال وظروفي ميسرة، والآن ضاقت بي الأمور، إن أعطيتني ثمانية آلاف منها؛ سامحتك في الألفين، فهذا جائز وهو إسقاط في أصل المبلغ.
فرق بين مسألتنا إسقاط زيادة مركبة على الأجل وبين الإسقاط بأصل المبلغ الذي هو محض الفضل، ومن حقك أن تتنازل عن المبلغ كاملا، ومما يفرق بين ما كان الإسقاط فيه متمحضا لقاء الأجل بالشرط أن يقول مثلا: والله! لا أسددك إلا لما تسقط عني، أو نفس الشركة تقول: إذا سددت الآن نسقط عنك، هذا كله فيه الشبهة التي ذكرنا، وأما إذا كان إسقاطا في أصل المبلغ فلا بأس، وأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس واختاره الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فمذهب طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أن الإسقاط في أصل المبلغ لا بأس به، وعليه يحمل حديث: (ضعوا وتعجلوا) ، والله تعالى أعلم.

حكم من رأى بولا في ثوبه بعد الصلاة

السؤال وجدت قطرات من البول في الثوب عندما صليت صلاة الصبح، هل أعيد الصلاة أم لا؟ أثابكم الله.

الجواب هذا فيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا كان وجدانك لهذه القطرات فيه أمارة ودلالة تدل على أنها بعد الصلاة، فصلاتك صحيحة ولا تعيد، مثلا: تجدها طرية، وبينك وبين الصلاة نصف ساعة، فإن طراوتها خلال نصف ساعة يدل على أنها بعد الصلاة، فلو أنها كانت قبل الصلاة لنشفت، لكن كونها طرية في هذه الحالة فالأغلب أنها بعد الصلاة، فهذه دلالة ظاهرة.
الحالة الثانية: أن يكون هناك دلالة عكس تدل على أنها قبل الصلاة، مثل أن تسلم من الصلاة وتقوم فتجد القطرات يابسة ناشفة، والثوب جديد لبسته بعد وضوئك، فحينئذ تعلم أنها أثناء صلاتك أو قبل الصلاة مباشرة بعد الطهارة، فحينئذ تعيد.
الحالة الثالثة: إذا لم تجد أي دلالة، ما تدري: هل هي قبل أم بعد؟ فإذا صليت ووجدت أثر البول بعد الصلاة على وجه لا يدل على السبق أو اللحوق، فالقاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، وقولهم: ينسب لأقرب حادث، أي: هناك حادثان: حادث قبل أو أثناء الصلاة يوجب الإعادة وبطلان الصلاة، وحادث بعد الصلاة لا يوجب الإعادة بل يوجب براءة الذمة وصحة الصلاة، فينسب لأقرب حادث، فإذا كان ما بعد الصلاة فصلاتك صحيحة، ولا يحكم ببطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.

علاج الطبع الحاد
السؤال أنا شاب مستقيم وطالب علم فيما أحسب، إلا أنني أعاني من مشكلة تؤلمني كثيرا وهي: الطبع الحاد، والشدة في التعامل مع الناس؛ مما يسبب لي كثيرا من المشاكل والتصرفات التي سرعان ما أندم عليها، أرجو من فضيلتكم التوجيه والنصح، أثابكم الله؟
الجواب لا يهذب أخلاق المؤمن شيء مثل كثرة الدعاء؛ لأن الأخلاق منحة من الله عز وجل، ولذلك قال: (يا رسول الله! أهو في أم شيء جبلني الله عليه؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله) .
الأخلاق بالدعاء، ونعمة عظيمة أن يلهم الإنسان كثرة الدعاء، دائما تقول في مظان الإجابة: اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال، وتسأل الله أن يهديك حسن الخلق، الدعاء أمر مهم جدا.
الأمر الثاني من الأمور التي تهذب أخلاق الإنسان وتقومه: كثرة تلاوة القرآن؛ لأن القرآن مع التأثر والاتعاظ يحكم القلب، وسلطانه على القلب قوي جدا، فالقلب إذا ارتدع بالقرآن خاف، وإذا خاف راقب الأعضاء والجوارح فزمها بزمام التقوى، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء:9] ، فهذا القرآن الذي أقام الناس على مشاهد الآخرة ومشاهد الحساب ومشاهد المسؤولية، فيصبح طبعك مع الناس بدل الشدة اللين، وبدل العنف الشفقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح عندك تروي في الأمور بفضل الله ثم بفضل القرآن، وقل أن تجد رجلا من أهل القرآن إلا وجدته معصوما بعصمة الله عز وجل في لسانه.
الأمر الثالث مما يعين على سلامة القول وسلامة الخلق وذهاب حدة الطبع: قيام الليل، فالمحافظة على قيام الليل من أعظم الأمور التي تهذب أخلاق العبد، ولذلك قال الله لنبيه: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] ، فغالبا ما تجد قائم الليل زكي الأخلاق زكي النفس، اجعل لك حظا من كتاب الله في جوف الليل الأظلم، خاصة في الثلث الأخير من الليل، وجرب بكاء الأسحار وتلاوة القرآن في الأسحار، فإن لها أثرا بليغا في تهذيب الأخلاق وتقويمها ودلالتها على التي هي أقوم، وهذا شيء معروف يعرفه من يعرفه، فالأخلاق تهذب بقيام الليل، فتنشرح الصدور وتطمئن، فيذهب القلق، وتذهب الحدة، ويذهب الانزعاج.
الأمر الرابع: التسليم لله عز وجل، إذا كان هذا الأمر طبع فيك وما تستطيع أن تخرجه من نفسك، فهذا شيء لا تملكه، ولذلك موسى عليه السلام من أنبياء الله عز وجل لما أخذ برأس أخيه هارون وبلحيته، وألقى الألواح التي فيها كلام الله عز وجل، فإن هذا من شدة الغيرة على دين الله عز وجل، والشدة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} [الأعراف:150] ، بين له عذره، فاستغفر له ولنفسه {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} [الأعراف:151] ، فهذا طبع في الإنسان، أبو بكر رضي الله عنه كان محرما مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك خادمه ويضربه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا يصنع المحرم!) ، وهو صديق الأمة وخير الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه.
يوجد أشياء لا تملكها، فإذا كان الخلق الحسن لا تملكه فأوصيك -وهذا الأمر الخامس- أول شيء بالرجوع إلى الحق، بمجرد ما تنتهي من أذية أحد ترجع إليه وتقول له: يا أخي! أنا أخطأت في حقك، والاعتذار يؤثر في نفسك، ويحرجك أن تعود المرة الثانية، فاعتذر مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى تخجل من نفسك، وأقل ما فيها -وليس بالقليل- أنك تحملت الظلم، فإذا أخطأت فعود نفسك أنك تعتذر مباشرة.
الأمر السادس: أن تبتعد عن الأمور التي تستفزك! وصية أخيرة: الحدة غالبا ما تأتي أمام الضعفاء، فدائما إذا ابتليت بضعيف في حق من حقوقك أو في أي شيء فتصور كأنك أمام إنسان عظيم، وهذا مما يعين على الأخلاق الكريمة، خاصة لو أردت أن تعرف حقيقة الرجل فانظر إليه مع الضعفاء، وكان أئمة السلف يضربون في ذلك المثل العظيم، يقول القائل: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله، فكان يعز الفقراء والضعفاء، فالحدة ما تشتد أكثر إلا على الضعفاء، لكن أمام الأقوياء تنزل السكينة، وينزل الهدوء، وينزل التعقل، ابتلاء من الله عز وجل.
فالناس بسبب ضعف الإيمان إذا وقفوا أمام الأقوياء استضعفوا، وإذا كانوا أمام الضعفاء استقووا، فإذا وقفت أمام ضعيف تصور أنه قوي، تصور أنه من أقوى الناس، وإذا تصورت ذلك التصور فاعلم أن قوته -إذا كان مظلوما وتريد أن تحتد عليه- من الله وليست من الناس، فهذا أقوى الأقوياء وهو الضعيف الذي تراه أمامك، من يكون مظلوما فالله جعل له سلطانا ونصيرا، فلا تستضعف الناس، ولا تظن أن الناس ضعفاء، فإنهم بربهم أقوياء خاصة أهل الإيمان يقول الله: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج:38] (إن) للتحقيق، وقال: (يدافع) وما قال: يدفع، وزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، أي: دفاعا عظيما، ثم كلمة دفع في لغة العرب لها قوة ولها معنى، أي: أن كل الظلم الذي سيأتيهم والأذية سيدفعها الله عز وجل، ثم قال: (عن الذين آمنوا) ، عن فقرائهم وأغنيائهم، عن ضعفائهم وأقويائهم، عن كل شخص يذل أو يهان ما دام أنه من أهل الإيمان، فقد تولى الله أمره والدفاع عنه، وإذا تولى الله الدفاع عنه ما يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فالله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فعلى كل إنسان أن يحاول قدر المستطاع أن يأخذ بهذه الأسس التي تعينه على سلامة قلبه والتحكم فيه.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:36 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (520)

صـــــ(1) إلى صــ(14)


شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [1]

لقد دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تحريم الخمر، حفاظا على الدين والعقل والبدن والمال والعرض، فالخمر أم الكبائر، ومفتاح الرذائل، وباب كل شر، تنفر عنها العقول السليمة، وتستقبحها الطباع المستقيمة والفطر الكريمة.
ضابط المسكر وتعريفه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد المسكر] ، تقدم معنا تعريف الحدود، وبينا أنها العقوبات المقدرة شرعا، وعلى هذا فإن حد المسكر هي: العقوبة التي نص عليها الشرع، إما مقدرة محددة كما اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، وإما أن تترك لنظر الإمام فيما هو أولى في ردع الناس وزجرهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه وبيانه.
أما من حيث الأصل فالجماهير على أن للسكر والخمر حدا في شريعة الله عز وجل، وعقوبة شرعية.
وقوله [المسكر] يقال: أسكر الشيء يسكر فهو مسكر، اسم فاعل، والمراد به ما خامر العقل وغطاه، سواء كان ذلك بالشراب أو بغيره، وسواء كان قليلا أو كثيرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع هذا الضابط فيما صح عنه من الأحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، هذا عام وشامل للقليل والكثير؛ ولذلك قال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام) ، وفي لفظ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، وكل هذا يدل على أن العبرة بوجود الإسكار، وأنه لا فرق في هذا الذي يتعاطاه الناس بين أن يكون قليلا أو كثيرا ما دام أنه يخامر العقل.
وفرق بعض العلماء رحمهم الله بين السكر والجنون: فجعلوا الجنون ما يذهب العقل، وجعلوا السكر ما يغطي العقل، فهم يرون أن هناك فرقا بين السكر والجنون من هذا الوجه؛ ولذلك وصف المسكر بكونه خمرا لأنه يخامر يعني: يغطي، وعلى هذا فالعقل في الأصل يكون موجودا، وتجد السكران تارة يفهم الأشياء وتارة لا يفهمها.
واختلفت ضوابط العلماء رحمهم الله في السكر، ومن هو السكران: فقال بعض العلماء رحمهم الله: هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب، لا يفهم ما تخاطبه به، ولا يحسن أن يجيبك، ويختل ذلك الكلام المعهود منه، ولذلك لما أرادوا أن يختبروا بعض العلماء -وهو علي بن داود - عندما تصدر للفتوى والعلم، سألوه: متى يكون الإنسان سكرانا؟ فقال رحمه الله: إذا اختل كلامه المنظوم، وأباح بسره المكتوم.
فهذه من دلائل السكر أن يختل نظام كلامه، فربما تكلم بأشياء لا تفهم، وربما تكلم بأشياء تفهم، ولكنه يقدم أو يؤخر أو يدخل فيها غير المفهوم.
ومن هنا قال: إذا اختل كلامه المنظوم، وأيضا أباح بسره المكتوم، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل بالعبد أنه رزقه العقل، وما سمي العقل عقلا إلا لأنه يعقل، فهو يحمل الإنسان على الحياء والخجل، ويحمل الإنسان على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويجعله ينتقي أفاضل الكلام كما ينتقى أفاضل الطعام، كل هذا بفضل الله ثم بالعقل، فإذا ذهبت هذه النعمة أو غطيت أو سترت أو حجمت أو أصابها الضرر اختلت كلها، فأباح بسره المكتوم؛ لأن العقل يمنعه أن يبيح بسره، فليس هناك إنسان عاقل يبيح بأسراره أو يكشف ستر الله عز وجل عليه، أو على خلقه، أو على من يحب وعلى من يود؛ ولكن السكران ليس له عقل، ولذلك يبيح بأسراره، ويتكلم ويهذي بما يعرف وما ينكر.
وقوله رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: بيان العقوبة الشرعية لمن شرب الخمر، أو تعاطى ما يسكر العقل سواء كان بالخمر أو كان بالمخدر الموجود في زماننا.
وذكر المصنف رحمه الله باب حد المسكر بعد باب القذف، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله لهم نظرة في العقوبات، فقدموا حد الزنا لقوة عقوبته، ولأنه أشد جلدا، ثم يليه حد القذف؛ لأنه من جنسه؛ فالأول اعتداء على العرض بالفعل، والثاني اعتداء على العرض بالقول، وعقوبته أخف؛ فكان بعده مباشرة، ثم بعده الخمر، والمناسبة واضحة في العقوبة؛ فإن عقوبة الثلاث كلها بالجلد، فاتفق العلماء رحمهم الله على أن عقوبة الزنا الجلد بإضافة التغريب والرجم على التفصيل إذا كان محصنا كما تقدم معنا، لكن في الأصل عقوبته الجلد، ولذلك قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور:2] ، ومن هنا قال بعض العلماء: يجلد الزاني سواء كان محصنا أو ثيبا، حيث يجمع للثيب بين الجلد والرجم -كما تقدم معنا- على ظاهر حديث عبادة.
إذا: الجلد في الزنا وفي القذف، ثم اتفق حد الخمر مع هاتين العقوبتين -أعني الزنا والقذف- في كونه يحد السكران بالجلد، ولذلك ناسب أن يذكره بعد هذين النوعين، بعد حد الزنا وحد القذف.
يقول رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة شارب الخمر، أو من تعاطى المخدرات، وما في حكمها، سنبينه من كلامه رحمه الله.
بعض العلماء يقول: (باب حد المسكر) وبعضهم يقول: (باب حد الشراب) وبعضهم يقول: (باب حد الخمر) ، وكلها متقاربة، وبعضهم يقول: (كتاب الأشربة) كما فعل الخرقي رحمه الله، فإنه قال: كتاب الأشربة، فيتكلم عن الخمر ثم تكلم عن أحكام الأشربة، وعادة العلماء أنهم يذكرون الأحكام في مظانها؛ فمظان أحكام الأشربة أن تذكر في باب الخمر، ولذلك يذكرون الخمر وتحريمها، ثم يفرعون على ذلك شرب السموم أو شرب الأمور المحرمة، وهذا كله من بيان الأشياء في مظانها.
قال رحمه الله تعالى: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] وهذا أصل مستنبط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة انبنت عليها فروع، وأصل انبنى عليه غيره، ومنتزع من قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، و (كل) من ألفاظ العموم والشمول عند العلماء رحمهم الله؛ ولذلك عندما تقول: (كل) حكم على المجموع، وليس حكما على فرد، ولا أفراد معينين: الكل حكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع فإذا قيل: (كل) ، فهذا من ألفاظ العموم كما نص على ذلك أئمة الأصول رحمهم الله، فهنا نص المصنف رحمه الله على هذا فقال: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام) .
قوله: (كل شراب) سواء كان من التمر، أو كان من الرطب، أو كان من البسر وهو البلح، أو كان من الزبيب، أو كان من العنب، أو كان من العسل، أو كان من التين، أو كان من الحنطة، أو كان من الشعير، أو كان من الذرة، فهذا عموم، وكانت الخمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما تتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت من خمس: فذكر هذه الخمس رضي الله عنه في خطبته المشهورة.
والذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم هو العموم والشمول، فكانوا في ذلك الزمان يتخذون الخمر من هذه الأشياء، فيأخذون التمر؛ فينقع وينتبذ في الماء حتى يشتد ويقذف بالزبد، ثم بعد ذلك إذا شرب أثر في العقل، وخامر العقل والإدراك.
وكذلك أيضا بقيت الأشياء التي ذكرت، ثم توسع الناس في هذا، وما زالت الأشربة تختلف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا) ، والنبيذ: من النبذ، وأصل النبذ في لغة العرب الطرح، وسمي هذا الشراب نبيذا لأنهم كانوا يطرحون التمر والبسر -البلح- والرطب والتين والعسل حتى يشتد ويقذف بالزبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا حرج في هذا الانتباذ إلا أن يكون مسكرا.
قال رحمه الله: (كل شراب أسكر) العلة هي الإسكار، فإذا أثر في العقل فغطى العقل والإدراك فإنه محرم أيا كان هذه الأنواع.
وقال: (كل شراب) لأن الأصل في الخمر أنها شراب، وهذا الذي كان موجودا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنص جاء في الشراب؛ لأنه كان هو الموجود، لكن النص نبه على العلة، وبين السبب الذي من أجله حرم هذا الشراب؛ لأن الله لا يحرم على عباده إلا لسبب ولأمر، فلما بين عليه الصلاة والسلام أن العلة هي الإسكار: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، وقال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، دل على أن العلة هي مخامرة العقل وإزالة الشعور، فأي شراب أذهب الشعور أو أزال الإدراك فإنه يدخل تحت هذا التحريم؛ لأن العبرة بالمعنى، وليست العبرة أن نجمد عند الألفاظ، إنما العبرة أن ننظر إلى العلة التي من أجلها حرم الله ورسوله هذا الشراب، فتتطور الأمر حتى وجدت أشياء ليست بشراب، وتؤثر في العقل، فتارة تكون من المأكولات، وتارة تكون من المشمومات كالسموم الطيارة التي تشم فتذهب الشعور، وتارة يتعاطاها الإنسان عن طريق الحقن والعياذ بالله! يحقنها في دمه حتى تؤثر على عقله وإدراكه.
أدلة الكتاب على تحريم الخمر
إذا: نحن ننظر إلى العلة، فقال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر) ، وهذا نص منه رحمه الله على تحريم الخمر، وأنها في الأصل كانت من الشراب، وهذا التحريم له دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأيضا دليل العقل: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90 - 91] ، وهذه الآية الكريمة لما نزلت صاح عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح-: (انتهينا! انتهينا! انتهينا!) .
دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه
وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] ، {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] ، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة:90] ، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (والأنصاب) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين.
فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر.
ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجسا: (( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان )) [المائدة:90] ، والرجس: النجس الخبيث.
ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيما لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} [المائدة:90] ، هي رجس، والله يقول: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج:30] ، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلا عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر.
ثالثا: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} [الإسراء:53] ، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئا من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27] ، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي.
رابعا: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: {فاجتنبوه} [المائدة:90] ، فيه أمران: الأول: كونه جاء بصيغة (افعل) ، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افعل) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب.
الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب) ، و (دع) ، و (اترك) ، و (ذر) ، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج:30] .
خامسا: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقا إلى حرام أو سبيلا إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلا إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر} [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، هذا الوجه الخامس.
الوجه السادس: {ويصدكم عن ذكر الله} [المائدة:91] ، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} [المائدة:91] ، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما، فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضا تكون الخمر طريقا إلى ترك الصلاة.
كان تحريمها تدريجيا، فنفر الله منها في قوله:: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكا متعبا فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة.
الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] ، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا) ، فإنه لما قال: {فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم.
هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلا عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر.
وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فاجتنبوه) ، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فاجتنبوه) ، فلما قال: (فاجتنبوه) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه.
وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولا مرجوحا، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين.
لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعا باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيبا بل تضر ولا تنفع.
الأدلة من السنة على تحريم الخمر
ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها.
كذلك أيضا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها) ؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاما يزينها أو يدعو إليها أو مجدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري.
فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيما لأمرها.
ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجر في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمنا على الخمر وشاربا لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة.
ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماما، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: {نور على نور} [النور:35] ، فالنور الأول نور الوحي (على نور) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما.
فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله.
واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذا اشرب من هذا الكأس قليلا وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.
الإجماع على تحريم الخمر
أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلا فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:43 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال
وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بين الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله: {رجس من عمل الشيطان} [المائدة:90] ، وقال: {يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، فنص على أن فيها أضرارا دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع {يوقع بينكم العداوة والبغضاء} ، إذا: الضرر الديني موجود فيها.
وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقينا بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضا ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث.
ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء) ، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضا في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء) ، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتا من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضا مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلا، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء.
وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاما جيدا في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبيا عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله.
إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه.
كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء إلى أن قال: فنشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء فقال: فنشربها فتتركنا ملوكا، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيدا عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندما شديدا وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبدا، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء.
تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نعم الله عز وجل أنه حرم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس.
وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل:67] ، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بين الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كف عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} ، فجعل هذه الثمرات رزقا حسنا، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيها، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائما يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر) ، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما.
ثم نزلت الآية الثانية: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيما، وإنما المراد: (وإثمهما) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] ، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها.
ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43] ، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب.
ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جدا، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهدا منهكا أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر.
ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعما؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجا فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت.
ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتا، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع) ، فأصبحت بلاء وداء وشرا، ولا منفعة فيها ولا خير.
فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى.
المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية
المخدرات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موجودة في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تكن موجودة في القرون المفضلة، كان يوجد (البانجو والشيكران) وهذا نبت معروف، يؤثر على العقل، ولذلك الإبل لو أكلت (الشكيران والبانجو) تهيم وتصبح سكرانة، لكن هل للإبل عقل حتى نقول: إنها فقدت عقلها؟ فهي تهيم، ولو تحمل عليها أي شيء، تمشي، لأنها تفقد التحكم، وهي ليس لها عقل، ولكن لها هداية من الله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فهدى الإبل لكي تخدم الإنسان وتقوم على مصالحه، فإذا أكلت هذا النبت تهيم وتصبح بدون وعي فلا تتحكم في نفسها، وتتحكم في عواطفها، فالشيكران والبنج كان موجودا، وذكره العلماء المتقدمون رحمهم الله في علاج قطع الأعضاء، كما قيل لـ عروة بن الزبير: ألا نسقيك خمرا؟ وذلك عند قطع رجله، فأبى رحمه الله برحمته الواسعة، وقيل: إنهم عرضوا عليه البنج كما ذكر الإمام أبو نعيم الحافظ في الحلية، فامتنع، وأمرهم أن يقطعوها وهو يذكر الله، قال الزهري: فوالله! ما تغير وجهه يعني: ما تغير من قوة الإيمان، وهكذا الذين يذكرون الله عز وجل بقلوب حاضرة تستشعر عظمة الله عز وجل، حتى إنها تقطع منه الرجل ولا يشعر، وقد وقع هذا لبعض الشهداء، فإنه كان في إحدى المعارك فانفجر به لغم، فقطع رجله وسقط كالمغشي عليه، ثم أفاق فجاءوا يحملونه وهو لا يشعر بقطع رجله، وهو معاق تماما، فحملوه وهو يضحك ويتحدث معهم، ويقول: والله! إني بخير أشعر بسعادة، ويحدثهم في طاعة الله وذكره عز وجل، ورجله مقطوعة ينزف منها الدم، ومكث ما بين ثلاث دقائق إلى خمس دقائق، وهو يقول لهم: أحس بانشراح وسعادة عجيبة! يقولون له: ألا تشعر بألم؟ يقول: لا، أبدا! إنما أحس بشيء بسيط مثل دبيب النمل عند ركبتي؛ لأن ساقه مبتورة تماما، حتى فاضت روحه إلى الله رحمه الله برحمته الواسعة.
فالشاهد من هذا، أن الإنسان إذا كان قوي الإيمان يذكر ربه، وهو حاضر القلب؛ لا يحتاج إلى مثل هذه الأشياء، حتى إن الوالد رحمة الله عليه حصل له حادث -وهذا نذكره لأجل الاعتبار- فانقشع جلد رأسه إلى آخر الدماغ، فجاءوا به إلى المستشفى وهو ينزف، فأرادوا أن يخيطوها، يقول من حضر: قيل له: نعطيك المخدر؟ قال: لا، فبدءوا بخياطة جلده بدون مخدر، يقول الشاهد: والله! إنه يتلو القرآن، والله! لم يتألم، ولا تغير وجهه، وهو صابر متجلد، وحدثنا الطبيب الذي أشرف على علاجه فقال: كان الحادث بعد الظهر، وأتيته عند صلاة العصر، فخيطت له الأماكن، حتى إن الممرض الذي يقوم عليه سقط مغشيا عليه، نفس الممرض الذي يداويه ما تحمل هذا الشيء، صار يعيش مع المريض بآلامه أكثر مما يتألم المريض، فسقط مغشيا عليه، ثم إنه قام رحمة الله عليه فتوضأ لصلاة العصر، وهذه القصة حكاها لي الدكتور، وحكاها لي الوالد نفسه رحمة الله عليه، وكان يحكي لي فضل الطاعة وفضل ذكر الله، وفضل القرآن، وكان سني صغيرا في تلك الفترة، كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تقريبا، فلما جئناه بعد العصر وهو في المستشفى جلس على سريره، فقال: سمعت الأذان فقمت أتوضأ، فجاء الدكتور يبحث عنه وما وجده على سريره، وهذا الخبر يحكيه لي نفس الطبيب، وما يصدق أن إنسانا فيه هذه الإصابة يقوم من مقامه قال: فوجدته يتوضأ، فقلت له: يا شيخ! والله! لولا الله ثم فضل القرآن الذي في صدرك ما تفعل هذا الفعل؛ لأنه جلس ينزف ما لا يقل عن ربع ساعة قبل أن يصل إلى المستشفى.
فالشاهد من هذا، أن السلف رحمهم الله كانوا يستخدمون هذه الأدوية من البنج ونحوه، حتى كان القرن السادس الهجري وأوائل السابع فوجدت المخدرات، وأول ما وجد منها الحشيشة، وهذا الحشيش نبت جلب إلى المسلمين حينما جاء جنكيز خان، بالتتار إلى بلاد الإسلام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: فجلبوا معهم هذه الحشيشة الملعونة، فتعاطاها فساق المسلمين، واستمرءوها حتى أصبحت داء بين المسلمين، وما كان المسلمون يعرفون هذه المخدرات ولا يتعاطونها، ثم توسع الأمر في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، فجاء الأفيون ونبت الخشخاش وغيرها من المخدرات النباتية، ثم في القرن الحادي عشر وجدت المخدرات المصنعة والمركبة كيماويا، وفتح على الناس من باب البلاء والشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) ، والأصل أن هذه المخدرات محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، وبين أن العبرة والعلة هي الإسكار وذهاب الإدراك والشعور وتغطية العقل.
وفي المخدرات من تغطية العقل والشعور ما يعدل الخمر أو قد يفوقه، ولذلك بين شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر أدلة تحريم الحشيشة أنها أشد تحريما من الخمر، وفيها أضرار أشد من الخمر من وجوه، والخمر أشد منها من وجوه أخر، وقال: إنه يصعب فطام الإنسان عن الحشيشة، وهذا من دقة فهم علمائنا المتقدمين رحمهم الله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قرأ الطب، وعرف معلومات من الطب أفاد بها أثناء فتاويه رحمة الله عليه، ولما تكلم عن الحشيشة ذكر أنها تضر الكبد، وأنها تحدث ما يسمونه بتشمع الكبد ونحوه من الأضرار، وهذا لا يعرفه إلا الأطباء في زمانه، ولكنه رحمه الله كان يلم بهذه الأشياء، ويرجع إلى أهل الخبرة في معرفتها وتقريرها.
فدليل تحريم المخدرات: أولا: عموم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) ، وهذا شامل لكل شيء يسكر العقل، ويؤثر فيه.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل مسكر ومفتر) ، والمخدرات فيها المعنيان، فهي تسكر وتفتر والعياذ بالله! وتؤثر في العقل والإدراك.
ثالثا: أن الأضرار الموجودة في المخدرات كالخمر أو أشد من الخمر من وجوه، وحينئذ يجتمع دليل النقل والعقل على تحريم المخدرات، وسنتكلم إن شاء الله على بقية المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الجملة في الدرس القادم إن شاء الله.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعافينا من هذا الداء ومن كل بلاء، وأن يرفع عن المسلمين هذا الداء، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.


الأسئلة




الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق
السؤال هل ما يعرف بالدخان يعتبر من المسكرات أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذا السؤال يحتمل أمرين: يحتمل أن السائل يسأل عن بعض المواد التي تستنشق، وتؤثر في العقل.
ويحتمل أنه يقصد الدخان المعروف أنه يأخذ حكم الخمر، ما أظن واحدا عنده عقل يجعل الدخان مثل الخمر، ينبغي على الإنسان أن يكون واقعيا، وخاصة إذا تحدثنا عن الأحكام الشرعية أن نتكلم بعقل وببيان، الدخان شيء, والخمر شيء آخر، والدخان بلاء ومصيبة، ولا يمكن أبدا أن يأخذ حكم الخمر، ولا يمكن أبدا أن نقول: إن من شرب الدخان كأنه شرب الخمر، ما يجوز هذا، هذا قول على الله بغير علم، وافتراء وكذب.
الدخان محرم لأضراره للموجودة فيه، ولو أن طعاما وشرابا تضمن ضررا وإهلاكا للصحة كما يتضمنه الدخان لحرمناه كما حرمنا الدخان، ولكن الدخان لا يؤثر في العقل ولا يذهب الشعور، ليس هناك أحد يتعاطى الدخان فيصبح كالسكران أو كالمخمور، فالله تعالى يقول: {لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8] ، لا بد من العدل، والعدل أن تقول الصواب والحق، فالخمر شيء والدخان شيء آخر، هذا إذا كان مراده أن يجعل الدخان مثل الخمر.
والخمر كبيرة والدخان ليس بكبيرة يعني: شرب السيجارة الواحدة ليس بكبيرة بحد ذاتها، لكن المداومة عليه تنقله من كونها صغيرة إلى كبيرة، ووجود الأضرار بالدخان في نفسه، وأهله، وولده، لا تقع بسيجارة واحدة يشربها.
ومن هنا ينبغي التفصيل والبيان، فالخمر شيء والدخان شيء آخر.
وإذا كان المراد الأمر الأول الذي ذكرناه وهو: أنه يسأل عن الأمور التي تؤثر تأثير الخمر، ولكنها عن طريق الشم والتدخين ثم تستنشق كما في بعض المواد المخدرة، فهذا لا إشكال أننا لا نفرق في المخدرات بين المشموم وبين المحقون بالحقن وبين المشروب وبين المأكول، كل هذا يأخذ حكم المخدرات في التحريم، والأصل يقتضي عدم جوازه؛ لأن العلة واحدة وهي وجود التأثير على العقل والإدراك، والله تعالى أعلم.
حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة
السؤال رجل فاتته من صلاة الجنازة تكبيرة، ثم سلم مع الإمام، فماذا يلزمه أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل من فاتته تكبيرات من صلاة الجنازة ولم يمكنه أن يقضي، فإنه يكبر عدد ما فاته من التكبيرات ثم يسلم.
فمثلا: لو فاتته تكبيرتان، فبعد أن يسلم إذا سلم الإمام يقول: الله أكبر، الله أكبر، ويسلم.
أن الجنازة تترك بعد تسليم الإمام ولا ترفع مباشرة حتى يتمكن الإنسان من القضاء فإنه يقضي كما نص على ذلك جمهور الأئمة رحمهم الله، فيفصل في مسألة القضاء في صلاة الجنازة بين الجنازة التي ترفع مباشرة والجنائز التي تؤخر، فإن كانت ترفع مباشرة فإنه يوالي بين التكبير، وفي هذه الحالة يسقط عنه قراءة ما فاته وصلاته صحيحة.
أما لو سلم مع الإمام مباشرة، وهو يعلم أن هناك تكبيرات قد فاتته عامدا متعمدا ولم يقض هذه التكبيرات فصلاته باطلة؛ لأنه لا بد من الإتيان بهذه التكبيرات، وهي لازمة في الصلاة، ومن تركها متعمدا وهو يعلم أنه واجب عليه قضاؤها فصلاته باطلة، والله تعالى أعلم.
حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة
السؤال ماذا يجب على رجل أحرم بالعمرة ثم طاف بالبيت وعاد إلى داره دون أن يسعى بين الصفا والمروة، ظنا منه بأن العمرة تقتصر على الطواف فقط، أثابكم الله؟
الجواب الجهل ليس بعذر، الجهل عذر في مسائل محدودة، ولأشخاص معينين، وفي فتاوى معينة، أما أن يأتي إنسان إلى بيت الله الحرام، والعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة موجودة، ويمكنه أن يعرف ما هو الواجب عليه في عمرته أو على الأقل يسأل المرشدين الموجودين، ثم يأتي ويقول: والله! أنا كنت أظن أن العمرة طواف، هذا ليس بعذر، هذا تلاعب وتقصير وإهمال، ومن قصر يتحمل مسئولية تقصيره، ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواما أقدامهم تلوح بعد الوضوء، ولم ينتبهوا للأعقاب التي في أقدامهم، فلم يغسلوها فقال: (ويل للأعقاب من النار) ، فأخبرهم عن هذا الوعيد مع أنهم ما علموا، وهم من الصحابة، وتوعدهم بهذا الويل: (ويل للأعقاب من النار) ، فويل لأصحابها من عذاب الله وعقوبته، لماذا؟ لأنهم أهملوا وقصروا في تفقد القدمين، فالله أمرهم بغسلها كاملة، وكان المنبغي أن يحتاطوا وأن يتنبهوا للفرض الذي أوجب الله عليهم.
فهؤلاء الذين يؤدون مناسك العمرة والحج وأحكام العبادات دون أن يسألوا أهل العلم، ثم يأتون ويقولون: والله ما ندري، والله ما نعلم، هذا ليس بعذر لهم، هذا إهمال وتفريط، ويتحمل المهمل تفريطه.
أما السعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان العمرة، كما هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لعمري لا أتم الله حج وعمرة من لم يسع بين الصفا والمروة) .
إذا: لا بد عليه أن يرجع، وهناك وجهان للعلماء: فبعضهم يقول: لا يصح السعي إذا وقع الفاصل بينه وبين الطواف في العمرة، وهذا ما يسمونه بشرط الموالاة وعدم الفصل، فعلى هذا القول يلزمه أن يعيد الطواف، فيطوف ثم يسعى أي: لا يسعى إلا بعد طوافه، وهذا أحوط، فيرجع فيطوف ثم يسعى بين الصفا والمروة، والله تعالى أعلم.

دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب

السؤال أخي يتعاطى الخمر، ومع ذلك لا يصلي، وهو متزوج وله أولاد، وهو في غالب وقته كذلك، وأنا أريد أن أدعوه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، وأن أدعو له وأن أضاحكه؛ لأنه مع ذلك لين القلب، أثابكم الله؟

الجواب نسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، ويتوب علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين، وأن يرفع عن كل مبتلى بلاءه.
أخي في الله! أولا: عليك بمناصحته، وواجب عليك أن تسعى في نجاة أخيك من النار، وهذا فرض عليك، والدعوة للأقارب أعظم وآكد من دعوة الغريب، دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب.
ثانيا: تحرص على بذل الأسباب التي تؤثر في أخيك، وأنت تعرف النقاط التي هي نقاط ضعف فيه، فتوجد له من يؤثر عليه فيها، فتغتنم الفرص إذا -لا قدر الله- أصيب بمصيبة، فتذكره ذكرته بالله عز وجل، وإذا حدث عنده سرور ذكرته بنعمة الله، فتحاول أن تؤثر عليه، وتأخذ بالأسباب التي يكون لها وقع كبير في نفسيته وفي قلبه لعل الله أن يهديه.
ثالثا: عليك -أخي في الله- أن تحذر مجاراة أهل المعاصي في معاصيهم، خاصة إذا نظروا إليك على أنك على خير وبر، فإذا كانت مؤاكلتك ومشاربتك ومباسطتك له تزيده جرأة على حدود الله، واستخفافا بمحارم الله فإياك إياك! لا يختمن الله على قلبك، خاصة إذا كان جلوسك معه أثناء المنكر، أو أثناء شربه للخمر، إلا أن تعظه وتذكره بالله عز وجل، فالأكل والشرب مع أهل المعاصي حال معاصيهم مشدد فيه؛ ولذلك جعل الله عز وجل من جارى أهل المعصية في معاصيهم -دون أن ينصحهم، ودون أن يعذر إلى الله فيهم حكمه حكمهم: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} [النساء:140] ، يعني: لو جاء شخص ووجد شخصا يستهزئ بالدين أو بالعلماء أو بالصالحين فلا يجوز له أن يجلس معه.
افرض يوما من الأيام أنك في مناسبة، وجاء أحد يستهزئ ويتكلم في الدين، أو يستهزئ بالعلماء، فقام له واحد في وسط الغداء فقال له: اتق الله! لا تتكلم في العلماء، أمسك لسانك أو اخرج، سيقولون لك في اليوم الأول: متشدد! اليوم الثاني: متشدد! اليوم الثالث: يمسكون هذا الذي يتكلم ويقولون له: احذر! لا تتكلم في الدين، ولا تؤذي من جلس، على الأقل حتى يجاملون أهل الحق.
فإذا سكت الإنسان عن معصية الله محاباة لقريبه أو غيره؛ فإن هذا يعين أهل الباطل على باطلهم، ولا يمكن أن تقام حجة الله على العباد بهذا التخاذل، فينبغي عليك أن تنصحه.
وهناك أمر أخير ننبه عليه: إذا أردت أن تكلمه أو تبين له الحق فإياك ثم إياك! أن يتسلط الشيطان على قلبك فتكون موعظتك من أجل العاطفة لا من أجل الله عز وجل! ولذلك كثيرا ما تضعف دعوة الأقارب؛ لأن الإنسان يأتي بها من منطلق العاطفة، فيقول: فضحتنا، نكست رءوسنا أمام الناس، الناس يقولون: أخوك يفعل إذا أصبح الإنسان يدعو لهذه الأشياء فهي ليست لله، وإنما هي حمية للنفس.
وعلى هذا عليك أن تحرص على الإخلاص، وإرادة وجه الله عز وجل وطلب الخلاص، وأن تتفكر أنك إن أخذت بحجز أحدهم عن نار الله عز وجل عظمت مثوبتك، وجل ثوابك عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإذا كان قريبا كان الأمر أعظم، وإذا كان قريبا كان الجزاء من الله أجل، فتحرص على أن تعامل الله سبحانه وتعالى، وعلى أنك تنصحه لله وتذكره بالله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.







الساعة الآن : 03:57 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 282.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 281.76 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.18%)]