ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:03 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




احد منهما النصف.




دية اليدين
قال رحمه الله: [واليدين] : نص عليهما عليه الصلاة والسلام فقال: (وفي اليدين الدية، وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن اليد إذا قطعت فيها نصف الدية، وأن اليدين إذا قطعتا فيهما الدية كاملة، وإذا قطع الكف فقد أذهب منفعة اليد، ومن هنا قالوا: تجب عليه الدية؛ لأن الله يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} [المائدة:38] ، فقالوا: وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون) فإذا قطع اليد من الزندين وجبت الدية، ولو قطعهما من المنكب ففيهما الدية، مثلما ذكرنا في الأهداب والأجفان، فهذا كله مشطر لكنه يوجب، ولو قطع الكفين ففيهما الدية، قال بعض العلماء: إذا قطع الكفين فيهما الدية، ثم الزائد عن الكفين نقدر له الزيادة، وهذا مذهب مرجوح، والصحيح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن الدية تشمل اليدين سواء قطعهما كاملة أو قطع الكفين، كما لو أخذ الأشفار والأهداب من الأجفان فإنها تجب الدية كاملة.
دية الرجلين
قال رحمه الله: [والرجلين] : وكذلك الرجلان: فلو قطع رجليه فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا بإجماع العلماء، وإذا قطع رجلا واحدة؛ فعليه نصف الدية.
دية الإليتين
قال رحمه الله: [والإليتين] : وهما في مؤخر الإنسان، وما بدا من ظهر الإنسان، وفيهما منفعة الجلوس، وهما كالوسادة للإنسان إذا جلس، وفيهما منفعة الستر للدبر بالنسبة للرجل والمرأة، فإذا قطعت الإليتان فإنه تجب الدية كاملة، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله.

دية أنثيي الرجل وإسكتي المرأة
قال رحمه الله: [والأنثيين] : بينا أن السنة نصت على اليدين والرجلين، ونصت على العينين والأذنين، فنبهت بهذه المواضع على أمثالها، فيلتحق بها ما يشابهها من كل مثنى في جسد الإنسان، فذكر المصنف رحمه الله الإليتين، وإسكتي المرأة، وهما الشفران على الفرج، فلو أنه قطع أحد الشفرين فإنه تجب عليه نصف الدية، ولو قطعهما فإنه تجب عليه الدية كاملة، وفي الشفرين منفعة للفرج، واستمتاع في الجماع، وقد يستأصل الشفرين فيضر بالبكارة، وحينئذ إذا استأصل الشفرين-وهما إسكتا المرأة- وأضر بالبكارة، وجبت الدية في الإسكتين والشفرين، ووجب ضمان البكارة على الأصل الذي تقدم معنا في النكاح.
قال: [وإسكتي المرأة ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها] : يلتحق بهذا الأنثيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي البيضتين دية) فالأنثيان وبيضتا الرجل إذا قطعهما وجبت الدية كاملة، وفي الواحدة نصف الدية، فلو أن طبيبا عالج مريضا فقطع منه الأنثيين، -استأصل البيضتين- وجب عليه الدية كاملة إذا تبين أنه أخطأ في هذه الجراحة، وأنه لم يكن يجب قطعهما.
دية المنخرين
قال رحمه الله: [وفي المنخرين ثلثا الدية] : (المنخرين) : المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والأنف فيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فهذه الثلاثة الأشياء توجب تقسيم الدية أثلاثا، فإذا اعتدى على واحد منها وجب عليه ثلث الدية.
قال: [وفي الحاجز بينهما ثلثها] : وفي الحاجز بينهما -يعني بين المنخرين- الثلث؛ لأنه قد ذكرنا أن المنخر الأيمن والأيسر في كل واحد منهما الثلث، والحاجز يجب فيه ثلث الدية.
دية الأجفان
قال رحمه الله: [وفي الأجفان الأربعة الدية] : جعل الله الأجفان لحكمة عظيمة، ورحمة منه سبحانه وتعالى بالمخلوق.
سبحان الله العظيم! عجيب أمر هذا الشرع، يعني الفقهاء رحمهم الله بحثوا في الطب، حتى إنك تجد في الجنايات علوما طبية مفيدة جدا، وهذا الذي نذكره كله باختصار، فلو أردنا أن نتوسع في ضوابط هذه المواضع، وكيفية الجناية عليها وتدقيقها، وكلام العلماء فيها لأخذ منا وقتا طويلا، لكن تتعجب كيف أن العلماء رحمهم الله مع قدمهم، وتجد الكتب القديمة الصفراء قد بحثت هذه الأشياء وتناولتها كأنك تدرس علم التشريح، واليوم يفتخرون باكتشافات في الإنسان، وهذا كان يعرفه العلماء رحمهم الله، ثم تأتي في الطب في كتاب الحج، وتأتي إلى مسائل الطيب، وكونه محظورا من محظورات الإحرام، فيبحث العلماء ما هي الشجرة، أو الثمرة التي تعد طيبا، والتي لا تعد طيبا، وهناك عالم عجيب في عالم الأعشاب وخصائصها، وأنواعها، وما الذي يعتبر منها طيبا، وما الذي لا يعتبر منها طيبا.
ثم تأتي إلى الصيد، فيتكلمون على ما أحل الله عز وجل صيده، وما حرم الله صيده، ويكشفون لك كنوز العلوم العجيبة الغريبة، وقد يعجز بعض من يدرس علم الأحياء عن اكتشاف تلك الدقائق؛ لأنها كانت تجربة واقعية مدروسة خلال قرون متعددة من أناس عاشوا هذه البيئات وعرفوها، حتى إنه في بعض الأحيان يقول: وهذا يجوز أكله، وقال فلان: لا يجوز أكله؛ لأنه يورث كذا وكذا، أي أن لحمه يورث مرضا معينا، وهذا من أغرب ما يكون، بل في بعض الأحيان يقول: وهو صيد، ولحمه ينفع من مرض كذا وكذا، فتجد فوائد عظيمة جدا، وهذا كله كتب بعض العلماء فيه في القرن الثالث الهجري، بل بعضهم في القرن الثاني الهجري، ولم يقتصروا على ذلك، بل بحثوا في الأفلاك، ومنازل القمر، وحسابات المنازل وترتيبها، ومتى يحكم بدخول الشهر، ومولد الهلال، ومتى لا يحكم.
فتعيش في علم الفلك، والكسوف، والخسوف، ثم تدخل في علم الفلك في الجهات، واستقبال القبلة، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في غيم، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في سفر، وإذا كانت القبلة في الغرب تجعل الشمس أمامك عند غروبها، ووراء ظهرك عند شروقها، هذه الأشياء المفيدة القيمة درسها العلماء ونبهوا عليها، ومنها ما نحن فيه الآن؛ الأعضاء وصفاتها، وحينما يتكلمون عن الأدلة يفصلون فيها، يقولون مثلا: الجفن فيه منفعة المحافظة على العين، فإذا استؤصل الجفن انكشفت عينه وتضرر، وفيه منفعة الجمال، ويقي ويحفظ، والشفة كذلك: تحفظ الأسنان، وتحفظ اللثة، وأيضا فيها السقيا عند السقاء، واللسان فيه منفعة الكلام، وفيه منفعة إدارة الطعام على الطواحن، وإدارته على الأسنان، وأيضا عند شربه، هذه كلها أشياء ذكرها العلماء رحمهم الله وفصلوا فيها، ثم فصلوا، وهذا ما نؤخره إلى مسألة المنافع كي يتضح أكثر؛ لأننا في الأعضاء نتكلم عن الجفن وإبانته، لكن في المنافع يتضح هذا أكثر، وهنا يبين رحمه الله ما في الإنسان منه أربع: وهي الأجفان: الجفن الأعلى، والجفن الأسفل في العين اليمنى، والجفن الأعلى والأسفل في العين اليسرى، فلو أنه جنى على الجفن الأعلى فيهما-يعني في العينين- وجبت عليه نصف الدية؛ لأن الجفن الأيمن فيه الربع، والجفن الأيسر فيه الربع، ولو جنى على جفن واحد من الأربعة الأجفان فعليه ربع الدية، كذلك أيضا بالنسبة للشعر -الرموش- الموجودة في العين: إذا أعطاه دواء أسقط رمش عينه في الجفن الأعلى وجب عليه ربع الدية، ولو أعطاه دواء أسقط الرمش والشعر الذي في العينين وجبت الدية كاملة؛ لأن كل جفن فيه ربع الدية، وحينئذ يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا أتلف الأربع، وإذا أتلف البعض فبحسابه.
قال: [وفي كل جفن ربعها] : وفي كل جفن من أجفان العين الربع، فإذا كان الأسفل ففيه الربع، وإذا كان الأعلى ففيه الربع؛ من اليمنى، أو اليسرى، مثلما ذكرنا، العين نفسها لو فقأها فيها نصف الدية، وهذا لا يمنع؛ لأن العين نفسها فيها منفعة الإبصار، ثم الجفن له منفعة تغاير منفعة العين، ومن هنا فصل العلماء في مسألة قطع اليد-كما ذكرنا- وذكروا أنه تجب فيه الدية، ونصف الدية على إبانة الكف، وهي منفعة كاملة، فإذا قطع يده من الزندين؛ أذهب منفعة كاملة، لأنه لا يستطيع أن يمسك الأشياء، ولا يستطيع أن يحمل الأشياء، ولا يستطيع أن يرتفق في كتابته، وغير ذلك من المنافع الموجودة في الكف وليست موجودة في الساعد، ومن هنا تكون مستقلة, ويجب ضمانها بحقها كاملا.

دية الأصابع
قال رحمه الله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين, وفي كل أصبع عشر الدية] : الأصابع عشرة، والدية مائة من الإبل، ففي كل أصبع عشر من الإبل بالنسبة للذكر، وخمس من الإبل بالنسبة للأنثى، فكل أصبع يعادل العشر، فنوجب عليه إذا قطع أصبعا واحدا عشر الدية، ولو قطع أصبعين، فعليه عشران، لو نظرنا إلى هذه الأصابع وجدناها مختلفة، فالسبابة ليست كالإبهام، والخنصر ليس كالبنصر، لكن الحكم واحد، تستوي هذه الأصابع كلها، فكل واحد من هذه الأصابع إذا جنى عليه وجب عليه أن يضمنه بقسطه من الدية.
ثم لو أنه جنى على جزء الأصبع، فقطع مثلا أنملة الخنصر العليا، ففيها ثلث العشر، ولو قطع الأنملة الثانية، ففيها ثلثا العشر، فالأنملة لها قسط من هذا العشر، إلا في الإبهام، ففي الإبهام ينقسم العشر إلى قسمين، فيكون نصف العشر في نصف الإبهام الأعلى، وهذا مبني على أن الله تعالى جعل الإبهام على هذه الخلقة، منقسم إلى اثنين، بخلاف بقية الأصابع، فهو الوحيد الذي يفارق جميع الأصابع عند قطع الجزء، لا عند قطع الكل، فإذا قطع الكل فهو مستو معها في وجوب عشر الدية.
قال: [وفي كل أنملة ثلث عشر الدية] : أجمع العلماء على ما ذكرنا في دية الأصبع: أن فيها عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث العشر، إلا في الإبهامين كما ذكرنا، ففي كل أنملة من الإبهام نصف العشر.
لو أنه قطع مثلا أنملة الإبهام اليمنى، وقطع أنملة الإبهام اليسرى، فإن الواجب عليه عشر الدية، لكننا هنا أعطيناه نصف العشر لنصف إبهام اليمنى، ونصف العشر لنصف إبهام اليسرى.
دية الأسنان
قال رحمه الله: [والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية كدية السن] : وهذا -كما ذكرنا- اختصار من المصنف رحمه الله.
الإنسان فيه اثنتان وثلاثون سنا وضرسا، الثابت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جعل في كل سن خمس من الإبل، ولم يفرق بين سن وأخرى، ولذلك تستوي الثنايا، والرباعيات، والنواجذ، والطواحن، وبقية الأضراس، لكل واحد منها إذا جنى عليه يجب أن يدفع خمسا من الإبل، هذه هي السنة، مع أنها على خلاف القياس؛ لأنها تقارب مائة وستين من الإبل، لكن من حيث الأصل، لو أنه أعطاه دواء أسقط جميع أسنانه وأتلفها، فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، وأما بالنسبة للأشطار -التشطير والأجزاء- ففي كل سن ما ذكرناه: خمس من الإبل، يستوي السن الطويل، والسن القصير، لكن إذا كان صغيرا فيشترط أن يكون قد أثغر، وليست السن لبنية، فإذا أثغر الصبي فإنه يجب ضمان هذه السن، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله، وهناك خلاف عن بعض الصحابة يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل في الضرس بعيرين، ويروى عنه بعير، ولكن ضعفه ابن المنذر رحمه الله، وأن السند لا يصح عنه رضي الله عنه في هذا، والسنة واضحة: أن في كل سن خمس من الإبل، وعلى هذا: لو أنه كسر نصف السن وبقي نصفها، فإنه حينئذ يجب عليه ضمان الجناية بحصتها من القدر الواجب في السن، وهو نصف الخمسة، فيقدر نصفها ويجب عليه ضمان ذلك.
لكن لو أنه اعتدى على نصف السن؛ فاختلت وسقطت كاملة؛ وجب عليه ضمان الخمس كاملة، إنما المراد إذا بقي فيها منفعة-منفعة النصف- أما إذا أتلفها ولم يبق فيها شيء، أو اسودت، أو سقطت، فإنه في هذه الحالة وجودها وعدمها على حد سواء.


الأسئلة




حكم الاعتداء على الذراع مقطوعة الكف
السؤال إذا كانت الكف مقطوعة، ثم اعتدى عليه في الذراع هل تجب عليه نصف الدية.
أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء على أنه إذا جنى على اليد بعد استئصال منافعها في الكف وفي الساعد، أنه يقدر القدر الواجب من نصف الدية، فيجب عليه ضمانه؛ وذلك لوجود المنافع في الكف دون الساعد، واختار بعض العلماء رحمهم الله أنه يجب عليه نصف الدية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (في اليدين الدية، وفي كل واحدة منهما خمسون من الإبل) ، وهذا كان يختاره بعض مشايخنا لعموم النص، وإذا كان قد جنى على يده، خاصة إذا كانت يده مقطوعة خلقة كالأكتع ونحو ذلك، قالوا: تجب عليه؛ لأنه توجد له منفعة، ولأنه يحرك اليد، ويرتفق بها في بعض مصالحه، يقولون: إن هذا أشبه من جهة النص؛ لأن النص عام، قال: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصل الذي ذكرناه من كونه يقطعها تامة كاملة، أو يقطع جزءها من مفصل الكف، بعد وجود المنفعة في الساعد، وفي العضد.
والله تعالى أعلم.

حكم إذهاب العقل عمدا أو خطأ

السؤال إذا جنى على شخص، فأذهب عقله عمدا أو خطأ، فما الحكم، أثابكم الله؟

الجواب سيأتينا-إن شاء الله- حكم الجناية على العقل، ولا شك أن فيه الضمان، وتجب الدية كاملة، فلو أنه ضربه بخشبة على رأسه ففقد عقله -والعياذ بالله- وقال الأطباء: إن هذه الضربة لا يرجى منها عود العقل إلى صاحبها، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة، والعقل منفعة كاملة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله: أن في العقل الدية كاملة، فلو أن طبيبا سقى مريضا دواء مخدرا وأذهب عقله، أو مثلا عمل له عملية في دماغه فأخطأ، فترتب على الخطأ اختلال عقل المريض، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا ثبت خطؤه، والله تعالى أعلم.
حكم ضمان التابع
السؤال كيف تكون الدية لو فقأ عينه مع إفساد جفنيه في نفس العين.
أثابكم الله؟

الجواب قلنا: هذا تبع، والتابع تابع، ولذلك لا يجب ضمان أشفار العينين، ولا الأهداب، مع أن كل واحد من الأشفار فيه ربع الدية؛ لأنه وقع تبعا، ولا يجب ضمان التابع، وهذا أصل في الشريعة: أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، ولذلك يجوز بيع البستان قبل بدو صلاحه، وتكون الثمرة تابعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع: (أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها) ، لكنها وقعت تبعا، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) ، فهنا وقعت الثمرة بعد التأبير وقبل بدو الصلاح تبعا، ولم تقع أصلا، فيجوز حينئذ إعطاء حكم التابع، ولا يجب الضمان في مسألة الأجفان، فلو أنه فقأ عينه-والعياذ بالله- قلنا: عليه نصف الدية، سواء اشتمل الفقء على إتلاف الأجفان أو لم يشتمل، والعبرة بذهاب العين، ففي كل عين نصف الدية، سواء بقيت الأجفان أو تلفت، والله تعالى أعلم.
سنن الاعتكاف وآدابه
السؤال من أراد الاعتكاف فما هي سننه وآدابه.
أثابكم الله؟

الجواب الاعتكاف من أجل العبادات وأشرف الطاعات، شرعه الله في كتابه المبين, وبهدي رسوله المبين صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187] ، وقال تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125] ، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف، وأمر أصحابه رضوان الله عليهم الذين اعتكفوا العشر الوسطى من رمضان: أن يعتكفوا العشر الباقية تحريا لليلة القدر.
والأصل عند الأئمة رحمهم الله: أن الاعتكاف جائز في كل زمان، وأنه لا يختص برمضان، ولكنه في رمضان مؤكد الاستحباب، والدليل على جوازه في سائر السنة: عموم الأدلة في كتاب الله عز وجل الواضحة في الدلالة على أن المساجد محل للمعتكفين، لم تخص رمضان عن غيره، وهذا أصل عند العلماء، وفيه شبه إجماع، وليس هناك أحد يقول: لا يجوز الاعتكاف في غير رمضان، هذا الذي يحفظ عن الأئمة رحمهم الله لثبوت النص في كتاب الله عز وجل دون تفريع.
لكن عند العلماء: ما جاء الأصل باستحبابه، يقال مثلا: يجوز الاعتكاف، ولكنه في العشر الأواخر آكد، وفي العشر الأواخر أكثر استحبابا، هذا الذي نص عليه الأئمة رحمهم الله وهو على أنه في العشر الأواخر أكثر استحبابا، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في اعتكافه حينما نذر، ولم يسأل: هل نذرت في رمضان؟ أو غير رمضان؟ وهذا يدل على أن الاعتكاف جائز في سائر السنة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما هو مقرر في الأصول.
فالمحفوظ عند العلماء رحمهم الله أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ولكنه في العشر الأواخر آكد.
المسألة الثانية: إذا ثبت أنه مشروع، والإجماع منعقد على شرعيته، فإنه يشرع في سائر المساجد، لكنه إذا نوى أن يعتكف العشر الأواخر، فلابد وأن يكون المسجد مسجد جمعة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة عليه، فلا يمكن أن يشتغل بالنافلة حتى يضيع الفرض، ولو أنه خرج للفرض لبطل اعتكافه، ومن هنا: اشترط العلماء والأئمة رحمهم الله في العشر الأواخر إذا نواها كاملة أن يكون في مسجد جمعة.
المسألة الثالثة: أن الأفضل في الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) ، وهذا نفي مسلط على حقيقة شرعية محمول على الكمال؛ لورود الدليل الذي يدل على صرفه عن ظاهره، مع أن هذا الحديث فيه ضعف عند طائفة من أئمة الحديث-رحمة الله عليهم- لكن على القول بتحسينه يحمل على الكمال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) : محمول على الكمال، وهو النفي المسلط على الحقيقة الشرعية الذي دل الأصل على صرفه عن ظاهره، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) : فإنه لا يدل على كفر من خان الأمانة، وإنما المراد نفي الكمال.
المسألة الرابعة: إذا ثبت أن الاعتكاف يكون في المساجد الثلاثة، فأفضلها وأعظمها ثوابا وأجرا المسجد الحرام؛ وذلك لأنه تجتمع فيه فضيلتان ليستا موجودة في غيره: الفضيلة الأولى: الطواف، حيث لا يشرع الطواف إلا بالبيت العتيق، وهذه العبادة لا تجوز ولا تكون إلا في هذا الموضع-أعني المسجد الحرام- ومن هنا فضل المسجد الحرام بوجود هذه المزية.
ثانيا: أن فيه مضاعفة الصلاة إلى مائة ألف، وهذه المزية يفضل بها بقية المسجدين: مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فالمدينة بألف، والأقصى بخمسمائة على اختلاف في الروايات.
إذا ثبت هذا نفهم من هنا أن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للكمال؛ لأن في الثلاثة الأشياء قرينة الوصف التي تدل على التفضيل، فدل على أنه للكمال، ولم يأخذ بظاهر هذا الحديث على النفي: (لا اعتكاف) إلا مجاهد، وقال بعض العلماء: إنه قول شاذ.
المسألة الخامسة: ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف: من العكوف على الشيء، والمراد به: لزومه، ومن هنا قال تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لها، فالمعتكف هو الملازم لبيت الله عز وجل-أعني المسجد- بقصد التقرب لله سبحانه وتعالى وطاعته، فإذن لابد من أن يلزم المسجد، وأن تكون النية: إرادة ما عند الله سبحانه وتعالى، والتقرب لله جل وعلا، فلزوم المسجد يقتضي ألا يخرج منه إلا لضرورة وحاجة، مثل: أن يقضي حاجته، ومثل أن يتعذر أن يجد طعاما داخل المسجد؛ فيخرج بقدر أن يطعم، ثم يعود.
فالأصل يقتضي أنه يلزم المسجد، وأجمع العلماء رحمهم الله: على أن من نوى الاعتكاف، أو نذر الاعتكاف، فخرج من المسجد من دون حاجة بطل اعتكافه، وعليه أن يعود ويستأنف النية، ومن هنا لابد وأن يعلم المسلم: أن الاعتكاف: هو الملازمة للمسجد، فلا يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، فلا يخرج لعيادة مريض، ولا لتشييع جنازة، ولا يخرج لغسل؛ إلا إذا كان واجبا محتما عليه كغسل يوم الجمعة على القول بوجوبه، أو غسل جنابة إذا أصابته جنابة، أما إذا لم توجد حاجة، فالأصل يقتضي عدم جواز الخروج.
إذا علم أنه يلازم المسجد، ينبغي عليه أن يعلم أنها ملازمة لذكر الله عز وجل، وأن المعتكف الصادق في اعتكافه هو من ترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقته وساعاته ولحظاته في ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى إنه يحتسب عند الله عز وجل النومة ينامها من أجل أن يتقوى بها على طاعة الله، هذه العبادة مدرسة من مدارس رمضان، وانظر إلى حكمة هذه الشريعة كيف جعلت الاعتكاف في ثلث الشهر، ولم تجعله في كل الشهر؛ لأن الإسلام دين لا رهبنة فيه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعبد واجتهد في العبادة، ينبغي أن يكون بحدود، وألا يغلو كغلو النصارى فيترهبن، ويصبح من الرهبان، فلا رهبانية في الإسلام، ومع أن الموسم موسم طاعة -شهر رمضان- لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف الكامل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك شيئا ويحب أن يفعله، لكن وقع منه اعتكافه عليه الصلاة والسلام تحريا لليلة القدر، والدليل على ذلك: أنه اعتكف العشر الوسطى، فلما نزل عليه جبريل أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وقال كما في الصحيح: (إن الذي تطلبه أمامك) ، أصبح عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه أن يعتكفوا العشر معه عليه الصلاة والسلام.
هذا الاعتكاف يقصد منه إصابة فضيلة ليلة القدر، وهو الاعتكاف المخصوص في رمضان، ويتعلم المسلم منه ذكر الله عز وجل وطاعته، فهذا الجو الإيماني الذي يهيئ العبد لمرضاة الله جل جلاله ومحبته، وبلوغ الدرجات العلا في جنته، ودار كرامته، كم من معتكف صادق في اعتكافه دخل إلى معتكفه ناقصا، فخرج منه مكملا، دخله شقيا فخرج منه سعيدا، دخله مذنبا فخرج منه مغفورا مرحوما، ودخله بعيدا عن الطاعات فخرج بالباقيات الصالحات، المعتكف الصادق في اعتكافه الذي تعلم من اعتكافه حفظ اللسان، وصيانة الجوارح والأركان، والإكثار من ذكر الله عز وجل في سائر الأوقات والأزمان، ومن الناس من خرج من اعتكافه بختم القرآن كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من اعتكافه بالبكاء عند سماع القرآن، ومنهم من خرج من اعتكافه بمحبة كل خير، وكل طاعة وبر، وهل يراد من العبد إلا أن يكون اعتكافه زيادة له في الخير، وزيادة له في البر، وكل معتكف حقيق وواجب عليه: أن يقف في آخر يوم من أيام اعتكافه فينظر إلى نفسه، وينظر إلى قلبه وعمله؛ لكي يسأل: ما الذي خرج به من هذه العبادة؟ فإن وجد أنه خرج بطاعة يحبها ويأنس بها، ويشتاق إليها، ويرتاح بالجد والاجتهاد فيها، فليحمد الله عز وجل عليها، ويسأل الله الثبات، ولذلك علينا أن ندرك أن الاعتكاف مدرسة للخير والبر، يحبس ولي الله المؤمن في بيت الله عز وجل، الذي ترى عينه فيها الراكع والساجد، فينظر إلى هذا ساجدا بين يدي الله عز وجل، وينظر إلى هذا رافعا كف الضراعة إلى الله، وينظر إلى ثالث يتلو كتاب الله، وينظر إلى رابع قد أقبل على نفسه يلومها في طاعة الله، وفي جنب الله، فعندها يطمئن قلبه، وينشرح صدره، مع رفقة إيمانية، وفي مجالس رمضانية، مليئة بذكر الله، مليئة بطاعة الله، يصبح ويمسي بوجوه مشرقة من طاعة الله سبحانه وتعالى، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصبحوا من قيام الليل تلألأت وجوههم: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29] فهذه نعمة من الله عز وجل على المعتكف، كل معتكف يريد أن يكون موفقا في اعتكافه؛ فليسأل الله، وليدع قبل أن يدخل معتكفه أن يرزقه الله عز وجل التوفيق، فالتوفيق أساس كل خير، وأساس كل بر، ومن وفق أصاب الخير؛ لأن الأمور كلها لا تكون بحول الإنسان وقوته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد مفتقرا إلى رحمة الله، وهو يقول: يارب! أسألك التوفيق، يارب! أسألك اعتكافا يرضيك عني، وأسألك ساعات ولحظات معمورة بذكرك وشكرك.
ثانيا: من الأسباب التي تعين على الاجتهاد في الاعتكاف: أن تستشعر نعمة الله عز وجل عليك، فكم من ميت تمنى هذه العشر -التي أنت فيها- فحيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مريض طريح الفراش يتمنى العافية التي أنت فيها، وكم من مشغول في تجارته وأمواله وأولاده، شغل عن المكان الذي أنت فيه، فتحمد الله عز وجل أن هيأ لك ذلك، ويسر لك ذلك، فإذا دخلت مستشعرا أن الله أنعم عليك، وأن الله اختارك من بين الناس، عندها تعرف قيمة هذا الاعتكاف.
ثالثا: إذا دخلت المعتكف فاعلم أنه ليس لك من هذا الاعتكاف إلا ما قضيت في طاعة الله عز وجل، فليكن أنسك بالله عز وجل أعظم من أنسك بالناس، أي معتكف هذا الذي ينتقل من فلان إلى فلان؟!! أي معتكف هذا الذي جعل اعتكافه زيارة الأصحاب، والجلوس مع الأحباب، والتفكه بالنك







ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:10 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (507)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [2]
الحواس جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها بين الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل، فكل حاسة أو منفعة عضو فيها الدية، وإذا اعتدى إنسان على آخر فقطع أذنه مثلا وأصبح لا يسمع، فإنه تكون عليه دية العضو -والتي هي النصف- ودية منفعة العضو أو الحاسة إن ترتب على ذلك فقدها.
دية منافع الأعضاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يرزقنا الصواب والسداد في أقوالنا وأعمالنا، وأن لا يؤخرنا إلى شر، ولا يقدمنا إلى بلاء وضر.
يقول المصنف رحمه الله تعالى [فصل: وفي كل حاسة دية كاملة] .
هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله بعد الباب الذي تقدم، ومن عادة العلماء رحمهم الله في باب الديات؛ أن يتكلموا على الأصل، وهو دية الأنفس، ثم بعد ذلك يتكلمون على دية الأعضاء ومنافعها، ثم الشجاج والكسور.
فهنا أربعة أشياء: أولها: الأعضاء.
وثانيها: منافع الأعضاء.
وثالثها: الشجاج.
ورابعها: الكسور.

بالنسبة للأعضاء، تقدم معنا فيما مضى في آخر الدروس بيان ديات أعضاء الإنسان، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القضاء والفتوى في مسائل الأعضاء.
شرع المصنف رحمه الله، فقال في قسم آخر: (فصل) ، إذا قال الفقيه: (فصل) فمعنى ذلك أن هناك اشتراكا أو رابطا بين اللاحق والسابق، فإذا: لابد من وجود ارتباط بين الفصل الذي نتكلم عليه اليوم، وبين المقطع الذي مضى معنا في آخر الدروس.
المقطع الذي مضى معنا في دية الأعضاء، بين فيه كيف تقسم الدية على ما في الإنسان منه شيء واحد، وما في الإنسان منه شيئان وأربعة كما تقدم، ثم بعد ذلك قال: (فصل) ولذلك يترجم بعض العلماء لهذا الفصل فيقولون: (فصل في دية المنافع) وبناء على ذلك سيتكلم عن القسم الثاني من الباب كله، فالباب في دية الأعضاء ومنافعها، وعليه فيكون قد قسم الباب إلى قسمين: القسم الأول: الأعضاء.

والقسم الثاني: منافع الأعضاء.

المنافع: جمع منفعة، وهي ضد المضرة، ومنفعة الشيء: مصلحته التي تقصد منه، فاليد مصلحة الإنسان فيها أن يبطش بها، ويحمل، ويضع، ويكتب، وغير ذلك مما يكون من حركات اليد وأعمالها، والرجل منفعتها المشي عليها، والاعتماد عليها ونحو ذلك، واللسان منفعته الكلام، ومنفعته الذوق، والأنف منفعته الشم، والأذن منفعتها السمع، فهذه أعضاء خلقها العزيز العليم وقدرها بتقديره، وجعل فيها هذه المنافع، وكل منفعة من هذه المنافع بحثها العلماء رحمهم الله، ومن هنا كان من سمو الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وعظم ما منحها الله عز وجل ووضع فيها من البركة والخير، أنها فصلت في أحكام الجنايات، حتى في أحكام الجنايات على الأعضاء -جملة وتفصيلا- وعلى منافعها، ولن تجد على وجه البسيطة حكما أتم من حكم الله عز وجل، ولا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى: {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] .
فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذا القسم الثاني وهو ما يتعلق بالمنافع، وبناء على ذلك سيتحدث المصنف رحمه الله في الجناية على الحواس؛ حاسة السمع، وحاسة البصر، فلو أن رجلا بطش برجل فضربه ضربة فأصبح المضروب -المجني عليه- أخرس لا يتكلم، أو أصبح أصم لا يسمع، أو ضربه ضربة أذهبت عقله -نسأل الله السلامة والعافية- أو أصبح لا يمشي، أو أصبح لا يستطيع الأكل، أو أصبح لا يستطيع الجماع، كل هذا محل سؤال، فكما بين العلماء رحمهم الله أحكام الجناية على الأعضاء وتقديرها كان من الأهمية واللازم أن يبينوا أحكام الجناية على المنافع وتقديراتها في شريعة الله عز وجل.

قوله رحمه الله: [وفي كل حاسة دية كاملة] .

الحاسة: واحدة الحواس، وأحس بالشيء: إذا شعر به، والحواس: جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) وهذا بالاستقلال؛ يعني كل حاسة ينظر إليها منفردة، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجناية على المنفعة كالجناية على العضو، والذي في كتاب الله عز وجل، الجناية على الأعضاء: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة:45] فهذه كلها أعضاء من حيث الأصل، لكنها أعضاء لها منافع، والغالب في الجناية على المنافع أن يصرف إلى الدية؛ لأنه قد يتعذر أن يفعل بالجاني فعلا يفقده ذلك المعنى الذي أفقده المجني عليه، لكن إذا أمكن أن يفعل بالجاني مثل فعله فلا إشكال، والغالب في هذه المسائل من مسائل الجناية على المنافع، وكثيرا ما تحدث في زماننا في حوادث السيارات ونحوها، وحوادث الأعمال في البناء، والمصانع، والحرف، وتحدث أيضا في الطب، فالطبيب قد يعطي دواء يتسبب في ذهاب السمع، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب البصر، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب حاسة الشم، أو حاسة الكلام، وكل هذه تترتب عليها مسئولية متعلقة بمسئولية شرعية دنيوية قبل الآخرة، وهي ضمان هذا التلف، ووجوب الدية فيه.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) أي من الحواس (دية كاملة) وبناء على ذلك نقول: إن الجناية على العضو غير الجناية على الحاسة، فلو أنه قطع أذنه، فسرت الجناية حتى أتلفت السمع، فحينئذ عليه دية ونصف، دية السمع إذا ذهب السمع من الأذنين معا، ودية الأذن التي هي نصف الدية لو قطع له أذنه اليمنى، قلنا: الأذن فيها نصف الدية، ثم سرى القطع حتى أذهب السمع فأصبح لا يسمع بالكلية بالأذنين، فحينئذ تجب عليه دية كاملة لذهاب السمع، ونصف دية لذهاب أحد العضوين المثنيين، فالأذنان في كل واحدة منهما نصف الدية، مثلما ذكرنا فيما تقدم معنا في دية الأعضاء، فنفصل بين الأعضاء وبين المنافع، وهناك فاصل بين الأعضاء والمنافع، فجعل رحمه الله الأصل أن كل حاسة لها ديتها المستقلة بها.
قوله: (في كل حاسة) الجناية على الحاسة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية موجبة لذهاب الحاسة بالكلية، فحينئذ تكون الدية كاملة، فلو أنه ضربه ضربة، أو صدمه بسيارته صدمة أخرست لسانه وأصبح لا يتكلم ألبتة، فحينئذ له الدية كاملة.
القسم الثاني: أن تكون الجناية موجبة لذهاب شيء من الحاسة، وليس كل الحاسة، فضربه ضربة أصبح بصره فيها بعدها ضعيفا، كما لو كان في السابق يبصر إبصارا تاما، فأصبح بعد الحادث يبصر إبصارا ناقصا، فأذهب بعض البصر أو بعض السمع أو بعض الكلام، كما سيأتينا في اللسان فحينئذ ننظر إلى الجزء الذي ذهب، وقدره من الأصل، فلو ذهب النصف أوجبنا عليه نصف الدية، وإذا ذهب الربع أوجبنا عليه ربع الدية، وإذا ذهب الثلثان، فالثلثان.
وهكذا.
لكن كيف نعرف هذا حتى نعلم أننا أمة لسنا متخلفين، ولسنا متحجرين، وأن قياس السمع كان يعرفه سلفنا الصالح من القرون الأولى؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: تسد الأذن المريضة التي جني عليها وتفتح الأذن السليمة، فيصيح رجل من بعد، فإذا لم يشعر بصوته اقترب حتى يسمع أول سماع من صوته، فيحد الحد عندها، ثم بعد ذلك تفتح الأذن المريضة وتغلق الصحيحة، فلا يزال يقترب ويصيح حتى يبلغ المدى، فلو بلغ نصف المسافة فإنه قد ذهب نصف سمعه من الأذن اليمنى، وإذا بلغ الربع فالربع، وإذا بلغ الثلث فالثلث، والآن لو جئت تقدر بالآلات الموجودة في قياس السمع لا تبعد، يضعون آلات فيها صوت معين لا يزال يرفع حتى يشعر به المريض أو يشعر به الذي يراد قياس سمعه.
أما في البصر، فقارن نفس الشيء، يوضع الرجل عن بعد، ويوضع له شاحصة فإذا لم يرها اقترب ثم اقترب للعين الصحيحة حتى يميزه، فإذا أثبته وميزه كفت العين الصحيحة، ثم اقترب وما زال يقترب، ثم يضع الشاخص أو العلامة على المكان الذي ميز فيه، ثم يقترب والعين المعيبة أو التي جني عليها مفتوحة حتى يميزه، فإن وصل عند ثلثه فثلث بصره بقي وضاع الثلثان، وإن وصل إلى النصف فقد أذهب نصف بصره ووجب عليه ربع الدية؛ لأن البصر للعين الواحدة فيه نصف الدية، هذا كله تفصيل لقوله: (وفي كل حاسة دية كاملة) إن أذهبها كلها وجبت الدية كاملة، وإن أذهب بعضها فبقسط ذلك البعض الذي أذهبه، سواء أذهبه في جناية عمد، وقال الرجل: لا أريد القصاص أريد الدية، أو أذهبها في خطأ كما ذكرنا، فكل ذلك يجب فيه الضمان على التفصيل الذي بيناه.
دية السمع
قال رحمه الله: [وهي السمع] قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع) ، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفا له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد} [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كليا، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملا بديته كاملة.
لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلا قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضا ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.
قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئا، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلا ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلا كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق.
، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئا من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.
يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جدا وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.
الحالة الأولى: أن يحددوا زمانا لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سننا، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهرا أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل: فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقدا لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.
أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.
دية البصر
قال رحمه الله: [والبصر] وهو الحاسة الثانية من الحواس التي إذا جني عليها وجبت فيها الدية كاملة، وهذه الحواس -السمع والبصر- قرنها الله عز وجل في كتابه لعظم أمريهما، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي العينين الدية) وكذلك صح عن الصحابة رضوان الله عليهم قضاؤهم بأن العين فيها الدية، وهذا أصل عندهم أن منفعة الإبصار فيها، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا اعتدى على رجل فأذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله -أصبح مجنونا- فأوجب فيه عمر أربع ديات، وهذا الأثر رواه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عليه، فجعل لكل حاسة دية كاملة، وهذا هو الأصل في الباب، وإن كان في حديث معاذ رضي الله عنه أيضا عند البيهقي وفي المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بالدية، وفي العقل أصل الإجماع على أنه لو ضربه فجن أن فيه دية كاملة.
فإذا جنى على بصره وأذهب البصر، ففيه الدية كاملة، ولو أذهب بصر إحدى العينين وجب قدر ما ذهب وهو النصف، ولو أذهب نصف النظر باليمنى فعليه ربع الدية، فيتقسط المال بقدر الجناية.
دية الشم
قال رحمه الله: [والشم] الشم حاسة يدرك بها الإنسان الروائح، فيميز الروائح طيبها وخبيثها، وهذه الحاسة موجودة في الأنف، ومن نظر وتأمل إلى بديع خلق الله وعظيم صنع الله فيما حار فيه الأطباء، وتعجب واستغرب منه الحكماء، مما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الحاسة؛ من الحفظ والحرز للإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، فكم من الشرور والمصائب والبلايا يحفظ الله بها عبده بفضله سبحانه، ثم بفضل هذه الحاسة، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت ولا ينجو إلا بفضل الله، ثم بوجود هذه الحاسة، وهي حاسة الشم، فبها يميز الأشياء، ويتنعم ويرتفق بالروائح الطيبة، وقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وهو من الروائح، فجعل الله عز وجل في هذه الحاسة الخير الكثير للإنسان.
وتقع الجناية لو أن طبيبا عالج مريضا وعنده حاسة الشم، فأذهب هذه الحاسة، وبعض العمليات الجراحية التي تجرى في الدماغ -نسأل الله السلامة والعافية- قد يحدث فيها خطأ فتذهب حاسة الشم، وبعض العمليات أيضا التي تحدث في الأنف قد تعطل حاسة الشم، فلو حصل هذا وجب فيه الضمان، فإذا أصبح لا يشم ولا يميز الأشياء التي يشمها، فإنه تجب له الدية كاملة، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، ولا يعرف فيه مخالف، فمن اعتدى على غيره فأذهب حاسة الشم، فإنه يجب عليه ضمان تلك الحاسة بالدية كاملة، ولو أذهب بعض الحاسة فإنه يقدر بقدر الجناية، ويجب ضمان ما أذهبه.
دية الذوق
قال رحمه الله: [والذوق] الذوق: تمييز للأشياء التي تطعم وتشرب، يميز حلوها ومرها، وحامضها وعذبها، وهذا التمييز جعله العلماء مقسط على هذه الأربعة التي ذكرناها، قالوا حاسة الذوق موجودة في اللسان، وهناك عصب موجود في اللسان يتذوق به الأشياء بقدرة الله عز وجل، وهذه الحاسة إذا عطلت كلها فلا إشكال، لكن لو أصبح لا يذوق الحلو ولا يجد له طعما، أو العكس لا يجد طعما للمر، ففي هذه الحالة يتقسط بقدر الجناية التي جني عليه فيها، كما تقدم معنا في الحواس الأخرى، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الذوق، فقال بعضهم: الذوق موجب للدية كاملة، وهذا طبعا منصوص عليه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ومشى عليه المصنف رحمه الله، وهناك وجه ثان عند العلماء رحمهم الله يقول: إن الذوق لا يبلغ مبلغ الحاسة الكاملة، وإنه إذا ذهب فيه الحكومة -والحكومة سيأتي إن شاء الله تفصيلها- فيقدر قبل الجناية عليه ثم يقدر بعد الجناية عليه، وينظر إلى الأرش بين الحالين فيجب ضمانه.
دية الكلام
قال رحمه الله: [وكذا في الكلام] هذه الحاسة الخامسة التي ذكرها هي من نعم الله عز وجل على الإنسان؛ لأنه يتكلم فيبين عن مراده ويفصح، ولذلك يعتبر من المعاني، وهذا من الجناية على المنافع والمعاني، فالكلام الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله والأئمة على أنه إذا جنى عليه جناية أخرس لسانه؛ فإنه تجب الدية كاملة، ولو ضربه ضربة على رأسه فأصبح لا يتكلم أو يتكلم فلا تعرف ماذا يقول، أو لا يخرج الحروف كما هي أبدا؛ فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، سواء أخرسه بالكلية بحيث لا يتكلم -نسأل الله السلامة والعافية- أو يصيح بدون أن يبين الحروف، ومن المعلوم أن الأصل في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفا، فإذا جنى عليه جناية وأصبح لا يتكلم بالكلية فلا إشكال، لكن لو أنه جنى عليه جناية فتكلم ببعض الحروف ولم يتكلم ببعضها، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: نقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفا التي هي أصل حروف اللغة العربية، ومن أهل العلم من قال: تقسم على ثمانية عشر حرفا؛ لأن اللسان الذي يخرج منه ثمانية عشر حرفا، والستة الحروف التي تخرج من الحلق، والأربعة التي تخرج من الشفتين هذه خارجة عن المعدود؛ لأن الجناية على اللسان وليست على الكل، ومن هنا اختلف -يعني قول العلماء رحمهم الله والأئمة في هذا- والذي نص عليه الأكثرون أنها تقسم على ثمانية وعشرين حرفا، وأن اللغات من الغير عربية تنزل منزلة العربية، فإذا كانت اللغة غير العربية نظر إلى عدد حروفها، وما أبطلت الجناية من تلك الحروف بحيث تعذر على المجني عليه أن ينطق بها، فلو أنه أفسد له نصف الحروف وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وإذا أفسد الثلثين فالثلثان وهكذا يعني تقدر بقدر الجناية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي اللسان الدية) فأثبت عليه الصلاة والسلام الدية في الجناية على اللسان وإن كان الأصل فيها العضو.
دية العقل
قال رحمه الله: [والعقل] العقل في لغة العرب: الحبس، ومنه العقال الذي يحبس البعير عن المسير، ويسمى العقل عقلا؛ لأنه يحبس الإنسان عن الأمور التي لا تليق بمثله، ولذلك سماه الله حجرا وسماه نهية فقال: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه:54] وقال سبحانه وتعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} [الفجر:5] أي لذي عقل يحجره عما لا يليق به، فالعقل به يدرك الإنسان صحيح الأشياء وفاسدها، وصوابها وخطأها، وجعله الله عز وجل في قلبه، فعقل الإنسان في قلبه، وهذا منصوص النصوص التي جاء بها الوحي من السماء، من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46] ، وقال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف:179] فنسب الفقه والفهم إلى القلوب، وهذه المسألة حصل فيها خلط وخلاف قديم مشهور إلى يومنا هذا، والأطباء يصرون على أن العقل في الدماغ، وهذا خلاف النص الذي نعتقده وندين الله عز وجل به، فإن العقل في القلب، ولا يمنع أن تكون آلة العقل في الدماغ، وهناك فرق بين الآلة وبين الروح التي هي متحكمة في مشاعر الإنسان، ألا ترى الرجل من أكمل الناس عقلا، فإذا دخل عليه الحزن في قلبه لم يعرف أن يفعل شيئا، وإذا دخل عليه الفرح في قلبه لم يعرف أن يقدم أو يؤخر شيئا، ولذلك القلب يؤثر تأثيرا عجيبا في نفس الإنسان خيرا وشرا، ونسب الله عز وجل إليه فلا يمتنع أن يكون العقل في القلب، ولكن مع وجود هذه الأجهزة يقولون: إن الشخص لو ضرب على دماغه يصبح مجنونا ولا يعقل، وهذا ليس بدليل، فقد استندوا إلى أدلة عقلية، أما نحن فنتكلم على الروح الخفية؛ لأن العقل ليس من الأشياء الملموسة، وما يوجد في خريطة الدماغ فهذه أشياء أشبه بالآلة، وهي التي تتصرف بالإنسان وتتحكم وتصدر منها الأوامر للإنسان، لكن العقل والفهم كله في قلب الإنسان، ولذلك تجد الإنسان في نفسيته يرجع إلى قلبه وفؤاده، فإن حزن أو فرح فإنك تجد الفرح والحزن كله متعلق بفؤاده وقلبه، ولذلك وجود هذه القضية، وأنه إذا ضرب على رأسه ربما فقد عقله، وبعض أهل العلم لما احتج عليه بهذا الدليل قال: إن الشخص ترض خصيتيه فيغمى عليه، فهل معنى ذلك أن عقله في خصيتيه، لما اعترض أحد الفلاسفة على أحد أهل العلم رحمة الله عليه وقال له: لقد قلت قولا عجيبا، فأجاب بهذا الجواب، قال له: الإغماء وفقد العقل لا يستلزم وجود العقل في المكان؛ لأنها آلة من الآلات، وقد تكون شدة الأذية والضرر موجبة لذلك، ولذلك الفرح الذي يكون في القلب يعمي الإنسان عن معرفة الأشياء، ونهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ومن القضاء وهو في شدة الفرح والسرور، فمعنى ذلك أن القضية ليست قضية الآلة نفسها، إنما القضية قضية روح موجودة في الإنسان، ولذلك تجد أن إدراك الأشياء يستند إلى روح أودعه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يقول أن العقل مثلا أصفر أو أحمر أو ملموس، ولا أنه ذاك الشيء الذي في الدماغ، وبالرغم من الاكتشافات التي اكتشفوها -والتي نسلم بها- إلا أنهم لا زالوا في حيرة، ولن يزالوا في حيرة ما لم يهدهم الله سبحانه وتعالى، ولا زالوا إلى الآن لا يعلمون أين أماكن السمع، ولم يعلموا إلا فيما بعد، وإن كانوا وصلوا إلى بعض الأشياء التي يثبتون بها محل السمع، ومحل الكلام، ويعملون عمليات جراحية معقدة جدا في الدماغ بأدق الأجهزة، فما إن يختل هذا الجهاز بأقل مقدار إلا ويحدث خلل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا بالرجل لا يستطيع الكلام، وإذا به لا يستطيع أن يتحكم في بوله، أو لا يستطيع أن يتحكم في مشيه، فسبحان الله العظيم {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] هذا تقدير العزيز العليم، فإذا قدره العزيز العليم فلا ينبئك مثل خبير، فإن قال لك العقل في القلب، قلت: نعم، سمعنا وأطعنا، فلو أجمع أهل الأرض كلهم على خلاف ذلك لم نسمع ولم نطع، ولا نعبأ بأحد إذا خالف نص كتاب الله، فقد نص الله عز وجل على ذلك وبين أن العقل هو فهم الأمور؛ لأن الأصل في الفهم مستند إلى العقل، ولذلك لم يوجه الخطاب إلا إلى عاقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فعلى هذا لو أنه جنى على عقله جناية أذهبت العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وأصبح مجنونا وجبت الدية كاملة، وفيه أثر مرفوع عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الجناية على العقل إذا أفسدت العقل كلا أنها توجب الدية كاملة.
لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت العقل حينا دون حين، فأصبح مثلما يقع في بعض الأحوال يجن مثلا فترة ثم يفيق فترة، ولو عمل له عملية جراحية تسببت في حصول غيبوبة للعقل فترة ثم رجع الشخص طبيعيا فترة أخرى ننظر في هذه الفترة التي يفيق فيها والفترة التي يستضر فيها، فلو كان يفيق يوما ويجن يوما، فإنه تجب نصف الدية؛ لأنه عطل عقله نصف عمره، وحينئذ كأنه عطل نصف العقل، لأنك لا تستطيع أن تقول: هذا عاقل أو هذا نصف عاقل، ولا تستطيع أن تقول: هذا ربع عاقل ولا ثلثي عاقل، إنما ينظر إلى التقدير بالزمان، وهذا ضابط كثير من أهل العلم رحمهم الله، لو أنه جنى على عقله فغاب عقله ستة أشهر ويرجع إليه ستة أشهر ففيه نصف الدية، ولو غاب عقله ثمانية أشهر ورجع إليه أربعة أشهر فعليه ثلثا الدية، وهكذا يتقسط بقسطه من العقل.
دية منفعة المشي
قال رحمه الله: [ومنفعة المشي] .
وهكذا لو جنى عليه جناية لم يستطع أن يمشي بعدها فأصبح مشلول الرجلين؛ فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه إذا عطله عن منفعة تامة -وهي منفعة المشي- أنه يجب عليه ضمان ذلك بدية كاملة، لكن لو أنه اختل مشيه فحينئذ يتقسط بقدر ما حصل من الضرر، إن كان يقوم يمشي ويحصل له ضرر ففيه الحكومة، وأما إذا كان عطله على وجه تتشطر معه الجناية فإنه يتشطر بقدرها من الدية.
دية منفعة الأكل
قال رحمه الله: [والأكل] لو جنى عليه جناية عطلت منفعة الأكل فأصبح لا يستطيع أن يأكل وإنما يؤكل، أو لا يستطيع بلع الطعام، أو يستضر في أكله، فإن الذي اختاره المصنف رحمه الله وجماعة وهو منصوص عليه في مذهب الحنابلة أنه تجب الدية كاملة، وهذا مبني على أن الأصل ملحق به نظيره، فأنت إذا نظرت إلى أن السمع حاسة، والبصر حاسة، وهي منفعة قائمة بذاتها، فالأكل منفعة قائمة بذاتها وعليها أود وقوام البدن، وبها يرتفق الإنسان، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد قضى بأن الرجل الذي ضرب الرجل فأفسد نكاحه وهي شهوة من الشهوات لا تعدل شهوة الأكل؛ لأن الأكل أعظم منها بل حياة الإنسان موقوفة على الأكل، فإذا كان هذا فيما عمل به الخلفاء رحمهم الله وقضوا به وقالوا أنه يلتحق بهما هو أولى، فإن منفعة الأكل أعظم.
دية منفعة النكاح
قال رحمه الله: [والنكاح] النكاح: الجماع، والمراد بذلك أن يعطله فلا ينتشر عضوه، ولا يستطيع أن يجامع، فإذا عطله عن الجماع فإنه في هذه الحالة تجب الدية كاملة، وإن عطل بعض المنفعة وحصل عنده ضعف وعجز عن الجماع قدر بحسب ذلك العجز، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب عمرو بن حزم أن في الذكر الدية، وقضى عليه الصلاة والسلام أيضا في البيضتين الدية، ونظر إلى هذه الأعضاء كل عضو ففصل البيضتين عن الذكر؛ فدل على الالتفات إلى المنفعة، ففي الخصيتين -أكرمكم الله- من المنفعة ما ليس في الذكر نفسه، ولذلك كان نظر الفقهاء صحيحا، وهو نظر مستنبط من الأصل المنصوص عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسل والحيوانات المنوية والتأثير في الماء والجينات الوراثية كلها موجودة في الخصيتين، وهي أشبه بالمعمل الذي يخرج وينتج هذا الشيء بقدرته سبحانه وتعالى، ولذلك كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا نوع من الإعجاز، وهذه الأمور لا يمكن أن تدرك إلا بدقائق الطب ومعرفة الأسرار الموجودة في هذه الأعضاء لكن نبأه العليم الحكيم سبحانه وتعالى، وبين له العليم الخبير جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدل على أن اعتبار المنافع في الأعضاء أصل، وثبتت به السنة واعتبرته.
دية استمساك البول والغائط
قال رحمه الله: [وعدم استمساك البول والغائط] هذا يحدث في الجنايات، فلو ضربه على خصيتيه ضربة أو على مثانته ضربة فأصبح لا يستمسك بوله، أيضا يحدث في ضرب الصلب في بعض الخصومات والنزاعات قد يجني أحد على آخر فيضربه على ظهره، فضرب الظهر في بعض الأحيان -نسأل الله السلامة والعافية- يضر بالنخاع الشوكي، وحينئذ يؤثر في استمساك البول واستمساك الغائط، فإذا ضربه على بطنه فلم يستمسك غائطه أو ضربه على خصيته فلم يستمسك بوله، أو ضربه على أي موضع بحيث أثر في استمساك البول والغائط فإنه يتضرر بذلك، وهذه منفعة موجودة في البدن ألحقها كما اختاره المصنف وغيره من بعض العلماء رحمهم الله بمسألة الجناية على المنافع التي تقدمت معنا.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:12 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 



الأسئلة




حكم تحمل العاقلة للدية في منافع الأعضاء
السؤال في حالة إتلاف حاسة بطريق الخطأ فهل تجب الدية على العاقلة، أم على الجاني، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه.
أما بعد: فإذا كانت الجناية خطأ حملتها العاقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأتين بالدية على العاقلة، فالدية تحملها العاقلة إذا كانت الجناية خطأ، والله تعالى أعلم.


تعدد الديات في الجناية على منافع الأعضاء
السؤال أشكل علي استحقاق المجني عليه لأكثر من دية إذا جني على أكثر من حاسة، بينما لو جني على النفس لم يستحق إلا دية واحدة، بينوا لنا هذا الإشكال، أثابكم الله؟
الجواب هذا لا إشكال فيه، والجواب عنه من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الأصل يقتضي تجزئة الجنايات كما هو معلوم، وجاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل الذي جني عليه بالجنايات، وأوجب فيها أربع ديات دون إنكار من الصحابة، فصار عند الفقهاء ناقلا عن الأصل، ولذلك يعتبرون أنه مستثنى، وركبوا منه مسألة الجناية على المنافع، هذا الوجه الأول، وهو أن تقول: لا تعارض بين العام والخاص، الأصل العام أن المقدم للجنايات ويعني إذا جني مثلا على العين كلها فيها دية واحدة مع أن منفعة الإبصار تابعة للعين، ومع ذلك لم تجب ديتها، لم نقل: إن الإبصار منفعة، ثم لم نجزئ مثلا الحاجب؛ الجفن الأعلى فيه ربع الدية، والجفن الأسفل فيه ربع الدية، والرموش كذلك العليا فيها الربع، والسفلى فيها الربع، ومع ذلك تجب دية واحدة، وهنا نقول: تجب أكثر من دية، والجواب أننا نقول: الأصل عندنا أنها تتداخل، لكن جاء قضاء عمر فاستثنى من الأصل، وهذا منهج أصولي لا تستطيع أن تتكلم فيه؛ لأنك لو اعترضت عليه عارضتك التخصيصات في الشريعة، لأنك تقول بها وتعتبرها، فهذا شيء مألوف في الشريعة أنه يجعل شيئا عاما ثم يستثني أشياء خاصة.
الوجه الثاني: أن يقال -وهو أقوى-: أن المستقل ليس كالتابع، فالمستقل لا يأخذ حكم التابع، والجناية المستقلة تأخذ حكم الاستقلال ولا يلتفت إليها تابعة لغيرها؛ لأن الله أعطى كل شيء حقه وقدره، {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] فالنبي صلى الله عليه وسلم أحل لـ كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه أن يحلق رأسه وأن يفتدي مع أن الأصل لو أن شخصا وقعت منه الجناية على الأعضاء سواء كان في ضمان حق الله عز وجل كما في الفدية، أو في ضمان حق المخلوق كما في الديات فإننا نوجب عليه التبعية؛ لأن التابع تابع لكن إذا جنى في الجناية فهناك منهج للشريعة وهي معاقبة الجاني، فإذا قلت: إذا أتلف هذا الشيء وجبت عليه دية واحدة، فحينئذ هذا يخالف أصل الباب؛ لأنه جنى على سمعه، فهذه جناية مستقلة، وجنى على بصره، وهذه جناية مستقلة، وجنى على عقله، وهذه جناية مستقلة، أرأيت لو أن شخصا هجم على بيت فيه ثلاثة أشخاص، فضرب أحدهم فأصمه، والثاني أخرسه، والثالث أصبح مجنونا، ألا توجب على الجاني ثلاث ديات، تقول: نعم، هذا الأصل، نقول: لماذا؟ تقول: لأن كل فعل له حقه وقسطه، نقول: ما دام أن كل فعل في شرع الله له حقه وقسطه متفرقا، كذلك أيضا له حقه وقسطه مجتمعا وهو تعظيم للأنفس، يعني منهج للشريعة في الجنايات وحينئذ لا يستشكل الإنسان، لأنه حين اعتدى على السمع نعاقبه عقوبة من اعتدى على السمع مستقلا، والسمع بذاته له حقه دية كاملة، والبصر كذلك، والعقل كذلك، وهذا لا إشكال فيه، حينئذ نقول: هذا قصد الشريعة، والشرع له أن يقول: دية الإنسان كاملة إذا جنى عليه كاملا فيكون السمع والبصر تبعا؛ لأنه ما فقأ عينه، ولو أنه جاء وفقأ عينه فأعماه، ثم ضربه على أذنه فأصمه، ثم قتله وجبت عليه ثلاث ديات، وليست دية واحدة، وهذا الذي أردنا: أن الشريعة تريد كل جناية لها حقها وقدرها، لكن لو أنه قتله فعطل جميع هذه الحواس لا نقول: إن عليه عشر ديات، هذا أمر واضح، يعني: في حالة الجناية كل شيء فعله يؤاخذ عليه، فلما قتل النفس جاء غيرها تبعا، كما لو جنى على العين فاقتلعها فأصبحت الرموش والشعر والجفن تبعا، فحينئذ لا يوجد ضمان إلا بنصف الدية مع أن كل واحد من هذه الشعور فيه ربع الدية، فالرمش الأعلى فيه الربع، والأسفل فيه الربع، ثم الجفن الأعلى فيه الربع، ثم الجفن الأسفل فيه الربع، هذه تكملة الدية، ثم العين نفسها فيها نصف الدية لكن هذا كله تبع، فإذا جنى على النفس فقتله وجبت دية كاملة؛ لأنه جنى على النفس فأصبح غيرها تبعا، لكن لو أنه قبل جنايته على النفس فقأ عينه أو قلع عينيه، أو أصمه، أو أخرسه أو -والعياذ بالله- ضربه حتى جن، أو سقاه سما حتى أصبح مجنونا ثم قتله واعتدى عليه، فجنايتان وليست بجناية، وحينئذ لا يقال بالاندراج والتبعية؛ لأنه ينبغي أن يعاقب على كل جناية وجريمة فعلها، وهذا الجواب أشبه وأقوى، وحينئذ نقول: إنه لا تعارض، ففي حالة الجناية على النفس جنى على شيء واحد وهو النفس، وحصلت الجناية على الحواس تبعا، فبتعطيل النفس تعطلت الحواس وجاء ذلك تبعا ولم يأت استقلالا، وعندنا هنا جاء استقلالا فوجب أن يعاقب على كل جناية بحقها وقدرها، والله تعالى أعلم.
حكم التنازلات التي يوقع عليها المرضى لإخلاء مسئولية الطبيب
السؤال يطلب الأطباء من بعض المرضى التوقيع على أوراق تخلي مسئوليتهم عن أي خطأ منهم، أو حالة وفاة، أو أي أمر آخر، فهل يعتبر بذلك، وما الحكم أثابكم الله؟
الجواب من حيث الأصل هناك شيء يسمى: التنازل؛ إذا الشخص قال: افعل لي هذا الأمر وأنا متنازل عن حقي، هذا من ناحية شرعية إذا كان عاقلا عنده شعوره فلا إشكال، بشرط أن يكون الذي طلبه من الفعل مأذونا به شرعا، يعني: أن تكون هذه العملية ليست بخطرة، والغالب فيها السلامة، لكن لو الغالب فيها الهلاك وقال له: افعلها لي، قال له: يا أخي! الغالب أن تهلك، فقال: افعلها لي، فهذا لا شك أنه لا يجوز له أن يقدم على هذه العملية الجراحية إذا كان غالبها الهلاك، وقدر الأطباء وعرف بالاستقراء والتجربة أنها تهلك، وقد بينا هذا في شروط جواز الجراحات الطبية أنها لا تجوز؛ لأن هذا من الإقدام على التهلكة، وقد أذن الله بالجراحة إذا كانت نفعا لا إن كانت ضرا، والظنون الفاسدة هي النسب الضعيفة المرجوحة، ولا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية، ولذلك الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، فكما حكمنا بجواز هذه الأعمال عند غالب السلامة نحكم بعدم جوازها عند غالب الهلاك، وحينئذ نقول: إذا أذن له بفعل عملية جراحية أو أمر لا محظور فيه والغالب فيه السلامة فإنه لا يضمن الطبيب، أيضا بشرط أن يكون تطبيق الطبيب للعمل الجراحي أو لطبه أو الدواء الذي صرفه للمريض موافقا للأصول المعتبرة عند الأطباء، فإن خرج الطبيب عن هذا تحمل المسئولية ولا يعتبر معفيا؛ لأن المريض إنما أذن له بالمعروف عرفا ولم يأذن له بغير المعروف، وحينئذ يكون الإذن مقتضيا للإباحة إذا سرى على وفق المتبع عند الأطباء.
إذا: المسألة تحتاج إلى تأصيل؛ وهو: أن المريض لا يجوز أن يقدم على عمل شيء بجسم الإنسان بإذن الإنسان، إذا علم أن هذا العمل مفسدة ولا يجوز شرعا، ويكون الطبيب في هذه الحالة متحملا للمسئولية، وهي مسئولية أخلاقية؛ لأن المسئولية الأخلاقية منها ما يرجع إلى إذن الشرع، ومنها ما يرجع إلى الأخلاق من خلف المواعيد والصدق ونحو ذلك، فالمسئولية الأخلاقية الراجعة إلى الشرع أنه لا يجوز له أن يقدم على هذا العمل إذا كان غالبه الهلاك، ويعلم أن المريض إنما يقتل نفسه أو يتلف عضوه أو نحو ذلك.
فهذا الإذن منه لا يسقط معاقبة الطبيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي فالقاضي يعاقبه؛ لأنه خرج عن مهمته الأصلية، وكذلك اشترط أن يكون الطبيب من أهل العلم والمعرفة، فلو قال له مثلا: اعمل لي عملية، وهي عملية جراحية صحيحة، والغالب فيها السلامة، ولكن هذا الطبيب لا يعمل هذه العملية، كأن يكون طبيب آذان وقال له: اعمل لي عملية في العيون، فهذا ليس من تخصصه وليس من مجاله، فحينئذ يكون من التطبب، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) فالشاهد من هذا أن إسقاط المسئولية ليس على كل حال.
يبقى النظر في مسألة وهي: هل يجوز للأطباء أن يحرجوا الناس ويقولوا لهم: لا تدخلون إلا بعد أن توقعوا.
هذا الأمر يحتاج إلى نظر وبحث؛ لأنه ليس من حق الطبيب؛ لأن الطبيب مأمور شرعا بإنقاذ هذه الأنفس، ولا يستغل حاجة المريض من أجل إسقاط التبعية عنه عند تقصيره، فالطبيب إذا قصر يؤاخذ بتقصيره حتى ولو وقع المريض؛ لأن المريض وقع على أن الطبيب يقوم بواجبه، والمشكلة أن البعض يظن أنه بهذا التوقيع أصبح الطبيب لا ضمان عليه والواقع أن عليه الضمان إذا خرج عن الأصول المتبعة عند الأطباء وخالف المجال الذي يعمل به أو نحو ذلك من الأمور التي كان ينبغي عليه أن يراعيها، فعلى كل حال: لا ينبغي إحراج الناس بإسقاط حقوقهم، وثانيا: لو أن قاضيا رفع إليه هذا الأمر وكان المريض محتاجا إلى هذا العمل والطبيب أحرجه بهذا التوقيع؛ فمن حقه أن يعتبره نوع من الإكراه بحيث لم يوجد إلا هذا الطبيب فقال له: لا أفعلها لك إلا إذا وقعت على هذا، فهذا نوع من الإكراه بإسقاط الحق، وحينئذ تكون هناك شبهة في تنازل المريض، ومن الشبه التي تسقط التنازل: وجود الإكراه أو شبه الإكراه، لأنه جعله بدون محض اختياره، يعني: لم يعطه اختيارا وإنما حاجته إلى النجاة، وإلى التخلص من الألم فإنه لا يخفى على أحد من الناس ما يتعرض له المريض من الأذية والضرر عند وجود العاهات والأمراض عافانا الله وإياكم منها ورزقنا وإياكم السلامة، فهذا كله يعتبر من أنواع الإكراه، كأنه محرج ومضطر، وقيل له: نجاتك في هذا العمل، فأصبح مستعدا أن يقول للطبيب: لست مسئولا، وأن يوقع له ما يشاء، لكن هذا كله يحتاج إلى نظر وإلى بحث، ومرد هذا كله إلى القضاء، والأصل الشرعي يقتضي أن التنازل معتبر إذا كان على السنن الشرعي، والله تعالى أعلم.
حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة
السؤال هل يجوز للإمام أن يكرر بعض الآيات وذلك لتفكير المصلين أو التأثير فيهم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: إذا كان الإمام يكرر الآية من شدة الحزن والتأثر والخشوع فهذا اغتفره بعض العلماء رحمهم الله.
ولكن إذا كان يكرر الآية وهو لم يتأثر ذلك التأثر، وكأنه يتهم الناس بالغفلة ويحاول أن يذكر غيره، وهو أبعد الناس عن التذكير، فهذا نبه بعض العلماء على أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن السنة أن يقرأ بدون تكرار.
أما إذا كان صادقا في خشوعه، صادقا في تأثره، وقد وصل القرآن إلى شغاف قلبه وسكن في فؤاده، وبلغت الآية مبلغها فأصبح يرددها يذوق حلاوتها ويؤثر في الناس بذلك الأثر فلا بأس، قيل: إن عثمان رضي الله عنه قام يتهجد من الليل واستفتح قوله تعالى: {عم يتساءلون} [النبأ:1] فما زال يكررها وهو يبكي حتى انبلج عليه الفجر وأصبحت وتره، وهذه أحوال بعض الناس إذا صدقوا، ولا شك أن الخاشع الصادق في خشوعه ليس بغريب عليه ذلك.
وأما التكلف والتشدد في هذه الأشياء وكل ما قرأ يحاول أن يكرر آيتين أو ثلاثا في أي سورة يقرؤها أو أي مقطع يقرؤه، فالذي أراه تحري السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة المسترسلة، وإعطاء القرآن حقه بمتابعة القراءة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح وسمع نشيجه من البكاء، وهذا من الغالب؛ لأن الخشوع غلبه، لذلك كان يبكي رضي الله عنه خاصة حينما بلغ قوله تعالى: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} [يوسف:84 - 86] فما زال رضي الله عنه يكررها حتى أبكى الناس، وهذا خشوع الصادقين، خشوع المتأثرين الذين صدقوا مع الله عز وجل في سرائرهم وزكى الله سريرتهم وعلانيتهم، وللخاشعين الصادقين في الخشوع دلائل واضحة في قلوب الناس إن خطبوا أو أموا أو صلوا أو وعظوا؛ لأن الله لا يغش عباده، فما من عبد يسر سريرة يصدق فيها مع الله إلا صدق الله معه، ولذلك تجد الصادق إذا قرأ آية وتأثر بها والله يعلم أنه خاشع فيها تبلغ هذه الآية مبلغها، وكان أئمة السلف ومن بعدهم من الخلف من الصالحين يخفون الخشوع ويخافون الرياء، ويخافون اغترار الناس بهم، وكنا نذكر بعض مشائخنا من إذا خلا في قيامه في الليل تسمعه يبكي بكاء الطفل، وإذا جلس أمام الناس وورد شيء يؤثر عليه فيحاول أن يخفي شيئا كثيرا من ذلك، وذات مرة سألت بعضهم، فقال: أخشى أن يتكلف بعض الحاضرين الخشوع فيهلك، والخشوع أمره عظيم، والله الذي يقرأ القرآن بين يديه ويقف الإمام بين يديه أجل وأحق من عبد، وينبغي على الإنسان أن يصدق مع الله، وأن يخاف الله جل جلاله، وألا يكرر القرآن إلا وهو صادق التأثر، وتكون قراءته قد خرجت من قلبه فذلك أصدق وأبلغ.
ولا شك أن الناس بحاجة إلى من يذكرهم الله، وما شرعت الصلاة الجهرية إلا وفيها الخير العظيم والبركة العظيمة من سماع كتاب الله عز وجل، فالله أعلم كم من قلوب اهتدت، وكم من قلوب خشعت وعيون دمعت، وكم من نفوس استقامت على منهج ربها وطاعة خالقها حينما سمعت آيات ربها ممن صدق في تلاوتها، الله أعلم كم من أناس خشعوا وخضعوا وصدقوا، وأرادوا وجه الله عز وجل، وابتغوا ما عند الله في تحبيب عباد الله وتقريبهم لله سبحانه وتعالى، وتعريفهم لله جل جلاله، فتلوا الآيات حق تلاوتها، وتأثروا بها، ومن الأئمة من يقرأ المقطع الذي يريد أن يقرأه على الناس، فلا تسكن له عين من دمعة ولا يفتر له قلب من خشوع خاليا فيما بينه وبين الله، فيتلوها ويتأثر فيما بينه وبين الله عز وجل، ومن الخطباء والوعاظ والمحاضرين ومن الموجهين والمعلمين من إذا أراد أن يعظ أو يحاضر أو يخطب تدبر ماذا يقول، وعرض قلبه عليه وقالبه على ذلك، وتأثر به في نفسه فرآه ربه وعلمه ربه خاشعا متخشعا صادقا في خشوعه وتذلله لربه، فلما خرج إلى الناس وخرجت كلماته موعظة للناس أسكنها الله في القلوب وهز بها المشاعر وأصغى لها الأذان، {جزاء وفاقا} [النبأ:26] {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] أولئك الذين صدقوا وأولئك الذين خشعوا فلم ينافقوا ولم يراءوا، وهان عليهم الناس أمام عظمة رب الجنة والناس، وأن الواحد منهم ليصلي بالناس فيقرأ من كتاب الله جل جلاله ما تخشع له الجبال وتهتز له المشاعر والقلوب، فإذا به يخشع ويتخشع ويبكي ويدمع صادقا لربه، ثم يتمنى بعد صلاته أن لو كان هذا بينه وبين الله لم يره أحد، فلا يفرح أن الناس اطلعت، ولا يفرح أن الناس خشعت، ولا يسأل: هل الناس تأثرت؟ على خلاف من دخله الدخن فتجده يخطب الخطبة ثم يبحث ما هو أثرها وما وقعها، ثم يدخل عليه هذا ويقول له: صار لها موقع وصار لها كذا، فلا يزال الشيطان يأخذ من قلبه الشعبة تلو الشعبة حتى ينصرف القلب كله عن الله، فعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
وعلى كل تال لكتاب الله وكل واعظ وكل إمام وخطيب وكل موجه وكل مرب وكل معلم أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يعلم أن ما عند الله أسمى وأعلى وأزكى {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:16 - 17] الله أكبر! لو أن النفوس أيقنت وتعقلت وفقهت، ولو علمت من تعامل ولمن تذل وتخضع؟ لو علمت أن اللحظة بل لربما طرفة عين من خشوع صادق لربما رضي الله عن عبده رضا لا سخط بعده أبدا، ولو علمت أن هذا الرب الكريم لربما نظر إلى عبده في مقام ذل وانكسار، فجعله في كرامة لا مهانة بعدها أبدا، فكم من عين دمعت حرمها الله على النار! وكم من قلوب خشعت تكفل الله أن يسعدها فلا تشقى أبدا.
يعامل الإنسان ربه، ويعلم أن الإمامة في الدين، وأن التقدم والتصدر والتوجيه والموعظة ليس من أجل أن يجتمع حوله الناس أو ترمقه الأبصار، أو تخطفه الأنظار، ولا أن يتحدث به الناس، إنما المراد أن يذكر في الملأ الأعلى راضيا مرضيا عنه من الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا من عباده ... ) يكون الإنسان إماما فيحبه الله في إمامته، ويكون خطيبا فيحبه في خطابته، ويكون طالب علم فيحبه في طلبه للعلم، ويكون عالما فيحبه الله في علمه، ويكون مفتيا قاضيا في أي أمر من أمور الطاعات، حتى يكون رب أسرة رحيما بأولاده رحيما بزوجه واصلا لرحمه، فتكون خصلة من الخصال الموجبة له للزلفى والوسيلة عند الله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة:35] فجعلها وسيلة إليه من الأعمال الصالحة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا من عباده ... ) اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن أحببت، اللهم اجعلنا ممن أحببته وناديت فيه جبريل (يا جبريل! إني أحب فلانا فأحبه) فإذا نادى الله عز وجل: يا جبريل! ارتجت السموات فقال (.
يا جبريل! إني أحب فلانا فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلانا فأحبوه ... ) ينادي باسم الإنسان في السموات وهذا هو الشرف، وهذه هي الكرامة والعزة، وهذه هي الرفعة، وهذا هو المجد والسؤدد، وهذه هي الغاية التي وراءها جنات عدن التي فيها النعيم المقيم (إني أحب فلانا فأحبه) لكن ليس بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالهوى ولا بالمبالغة، ولا بالتصنع للناس ولا بالتزلف، ولا بالنفاق ولا بالرياء، بل بحقائق أمور صادقة؛ لأن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا (إني أحب فلانا فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا كان إماما قبلت إمامته، ورضي الله عن إمام قبلت إمامته، فإن خشع قبل خشوعه، وإن خضع قبل خضوعه، وإن أمر وضع الله القبول لأمره ونهيه ووعظه، هكذا كان الصالحون، وهكذا يمضي بعدهم الأخيار والمتقون، هكذا وإلا فلا.
معاملة مع الله صادقة نظيفة زكية، يرى العبد ما يقدمه لربه قبل أن يكون في قوله وعمله، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يعمل، يرى ما الذي يقدم لله جل جلاله، أيقدم له شيئا مليئا بالرياء والنفاق، ومحبة المدح والثناء؟ ماذا يفيدك الناس إن غضب عليك رب الجنة والناس؟ إن العبد في منزلة لو سخط عليه أهل السموات والأرض ما استطاعوا أن ينزلوه عنها شعرة إلا بإذن الله جل جلاله، وإن العبد في منزلة إذا رضي الله عنه لو أطبق الخلائق كلهم على أن ينزلوه منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وذلك الذي عناه الله بقوله: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الجمعة:4] .
فعلى الإمام إذا أراد أن يؤثر في الناس أن يعلم أن التأثير ليس بتكرار الآيات، وليس التأثير أن نشتغل بالتأثير في الناس قبل أن نؤثر في أنفسنا، وليس التأثير في الناس بتنميق العبارات وتجميل الكلمات وتحبير الخطب، إنما التأثير أسرار بين الأبرار والواحد القهار، جن عليه الليل وأضاء عليه النهار، أسرار في القلوب لا يعلمها إلا الله جل جلاله، هكذا عاش السلف الصالح؛ بالإخلاص والإحسان واليقين وإرادة وجه الله عز وجل {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} [الإسراء:19] هذا الشرط، ولا إيمان إلا بإخلاص وتوحيد، ولا إيمان إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة من هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا عرف العبد ربه استجمع جميع ما يملك مما بين يديه وخلفه، وفوقه وتحته كله لمرضات الله سبحانه وتعالى.
فنسأل الله العظيم رب






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:17 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (508)

صـــــ(1) إلى صــ(23)



شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [3]
أنواع الشعر في الإنسان أربعة: شعر الرأس، وشعر اللحية، وشعر الحاجبين، وشعر الأهداب، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الشعور: هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة، كما جاء عن أهل العلم التفصيل في الدية إذا كان الجاني أو المجني عليه أعور العين.
دية الشعور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وفي كل واحدة من الشعور الأربعة الدية] .
شرع في بيان أحكام الاعتداء على شعر الإنسان، سواء وقع الاعتداء على شعر الرأس، أو وقع الاعتداء على شعر اللحية، أو على شعر الحاجبين، أو على شعر الأهداب؛ فهذه أربعة شعور في الإنسان يعتدى عليها فتزول ولا تعود، وتكون الجناية موجبة لذهاب الشعر، فلا ينبت شعر الرأس ولا شعر اللحية، ولا ينبت شعر الحاجبين ولا شعر الأهداب، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: إذا اعتدي على الشعر على هذا الوجه في المواضع الأربعة التي ذكرها، هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة؟ في ذلك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فاختار الحنفية والحنابلة ومن وافقهم القول بوجوب الدية، وهو محفوظ عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى بذلك، وكذلك أيضا دل عليه دليل النظر الصحيح، فإن في كل واحد من هذه الشعور الأربعة جمالا للإنسان وزينة، كما أن في ذهابه ضررا عظيما وتأذيا، ولذلك أوجب العلماء رحمهم الله في الأنف الدية، مع أن شاخص الأنف، وهما المنخران والمارن كما تقدم معنا ليس فيهما منفعة الشم، وإنما فيهما الجمال، وبذهابهما وجبت الدية، والأذن كذلك تجب فيها الدية مع أن السمع يكون بداخل الأذن وليس بالصوان الخارجي، وقد بينا وجه وجوب الدية في ذلك كله، وذكرنا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الضمان، فهذا أصل شرعي يدل على أن الديات لا تنحصر في الأعضاء التي فيها المنافع، وإنما تشمل أيضا الزينة، وقوى أصحاب هذا القول مذهبهم لهذا الوجه، وعليه فإنه لو أضر بشعر المجني عليه فسقط بسبب الجناية والاعتداء أو بسبب الخطأ فإنه يجب عليه دية كاملة في كل واحد من هذه الشعور الأربعة.
دية شعر الرأس
قال رحمه الله: [شعر الرأس] نبدأ بشعر الرأس، من أكثر ما تقع هذه الجناية في الطبيب إذا أخطأ في العلاج، أو أعطى دواء تساقط معه الشعر، وهو في هذه الحالة لا يخلو إما أن لا ينبت الشعر بالكلية، وقرر الأطباء أنه لا أمل في رجوعه، فحينئذ الدية كاملة على الوجه الذي ذكرناه من قول أهل العلم رحمهم الله وهو أشبه بالأصول وأقواه.
ثانيا: أن تكون الجناية موجبة لذهاب بعض الشعر دون البعض، فحينئذ إذا كانت مما يتشطر مثل الحاجب لكن الرأس لا يتشطر، فإذا أتلف شعر أحد الحاجبين فإن عليه نصف الدية، وكذلك إذا أتلف أحد الأهداب الأربعة وهي الرموش، الرمش الأسفل من العين اليمنى، والرمش الأعلى منها، وكلاهما من اليسرى، فلو أتلف واحدا من هذه الأربعة فعليه ربع الدية؛ لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت نصف شعر رأسه، فهل يتشطر أو لا يتشطر؟ المعمول به عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يتشطر، وتكون الدية بحصته، فإن أتلف نصف شعر رأسه قالوا: يتشطر، وهناك وجه أن فيه حكومة بتقدير الجناية؛ لأن الشعر في الأصل يتساقط من رأسه لكن هذا لا يخلو من نظر، كذلك أيضا لو أنه جنى عليه جناية وسقط شعر رأسه أو أخطأ الطبيب في العلاج فأسقط شعر الرأس، لكن نبت شعر الرأس بعد ذلك فإنه لا دية، إلا أنه في هذه الصورة لو حصل ضرر في موضع الشعر مثل ما يقع والعياذ بالله في جناية الاعتداء العمد، مثل أن يصب على رأسه حارقا أو أسيدا، وفي بعض الأحيان تكون الجناية مذهبة للشعر فلا إشكال، لكن لو أنها أذهبت الشعر ثم عاد الشعر، لكنها أحدثت ضررا في الموضع، فالشعر ليس فيه شيء، لكن موضعه فيه تشوه أو فيه ضرر، فحينئذ يقدر حكومة بمعنى أننا ننظر، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الحكم وما هو الأصل فيها.
المقصود: أن الجناية على شعر الرأس إذا أتلف الشعر كاملا ففيه الدية يتشطر لبعضه، ويبقى النظر إذا جنى عليه فنبت الشعر، وكان تشوه في الخلقة، فإنه حينئذ يقدر ذلك التشوه بحصته ويعطاه على سبيل الحكومة.
قال: [وهي شعر الرأس] .
وهي: بيان للأربعة، وهي شعر الرأس، والرأس من التراوس وهو العلو، والمراد به الشعر الذي ينبت على رأس الإنسان ذكرا كان أو أنثى، يعني هذه الدية لا تختص بالإناث وهن أكثر تضررا؛ لأن هذه الشعور الأربعة منها ما يختص بالذكور كاللحية ومنها ما يشمل الجنسين كبقية الشعور.
ففي هذه الحالة إذا جنى على شعر الرأس فإنه تجب عليه الدية، سواء كان المجني عليه ذكرا أو كان أنثى، وسواء كان الشعر طويلا أو كان قصيرا، أو كان ملفوفا مثلا، الأصل يقتضي أن عليه الدية كاملة بإتلاف هذا الشعر، وحينئذ إذا كانت الجناية عمدا فلا إشكال، وهناك أصل قررناه في مسألة القصاص، بحيث أنه لو فعل به فعلا يمكن أن يفعل به مثله، أو سقاه دواء يسقط الشعر وهذا الدواء من خاصيته أنه يسقط الشعر، فاعتدى عليه وسقاه هذا الدواء، وهذا الدواء يمكن أن يقتص بالفاعل بمثله، فإنه يسقى نفس الدواء حتى يتساقط شعره كما تساقط شعر المجني عليه.
دية شعر اللحية
قال رحمه الله: [واللحية] .
اللحي: هو العظم الذي هو فك الإنسان، ومجمع اللحيين: هو الذقن، فاللحية تنبت على هذا العظم، ولذلك مبتدؤها من طرف عظم الصدغ، الذي هو ابتداء اللحي وتقيدت به، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في الحج والعمرة إذا أراد أن يحلق رأسه أمر الحلاق أن يقف عند العظمة، وهذه العظمة تفصل بين الشعرين؛ الممسوح والمغسول، وتفصل بين المأذون بحلقه وغير المأذون بحلقه، فاللحية في الأصل ما نبت على اللحي -العظم- وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يقيدها بهذا الموضع، ولذلك يجيز أخذ ما نبت على الخد والوجنة ويقول: هذا ليس من اللحية، وإنما أمر باللحية وهي ما كان على اللحي، وقال أصحاب هذا القول: ما كان أسفل من اللحي، وهو مما يلي الرقبة يجوز أخذه وحلقه؛ لأنه ليس من اللحية، فتقيدت اللحية عندهم بما نبت على اللحي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرخاء اللحى كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح وغيره، فيقولون: إن اللحية تتقيد بهذا الموضع، ومجمع اللحية وهو الذقن: العظم أسفل الفم، ويرون أن العنفقة والمسربة لا تدخل في اللحية، وقد أثر عن بعض الصحابة أخذهم من نفس المسربة، والذي يهمنا الآن هو الشعر الذي على اللحيين.
وهناك وجه ثان يقول: إن ما قارب الشيء أخذ حكمه، واللحية تشمل في الأصل ما نبت على اللحي، وما نبت على الوجنة آخذ حكم اللحية؛ لأن ما قارب الشيء فهو آخذ حكمه، وهذا لا شك أنه أحوط وأسلم لكن لا ينكر على من أخذ من شعر وجنته أو أخذ من جهة رقبته؛ لأن له وجها، وهناك من أهل العلم ومن أجلاء أهل العلم من يقول بهذا القول، خاصة وأن ظاهر اللغة فيه وجه لهذا.
الشاهد من هذا: أن تحديد اللحية على هذا الوجه يشمل ما نبت على أسفل اللحي دون ما يلي الرقبة، فلو سقاه دواء أسقط لحيته فإنه في هذه الحالة يجب ضمان هذه اللحية بدية كاملة على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من المضمونات يختص بالرجال دون الإناث، فالمرأة اللحية ليست لها زينة، وقد قررنا أن الأصل في الضمان لهذه الأشياء إنما هو وجود الزينة، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من زين الرجال باللحى.
فهي زينة من الله سبحانه وتعالى، والأصل عدم جواز حلقها، فإذا اعتدى عليها بدواء أو اعتدى عليها عمدا فإنه لا قصاص في هذه الحالة؛ فهذا مانع شرعي؛ لأن المانع يكون مانعا حسيا من جهة كونه يوجب الزيادة فينتفي القصاص، وكونه مانعا شرعيا؛ لأنه مأمور بترك هذا الموضع، في هذه الحالة يجب عليه ضمان الدية كاملة، لكن لو أنه أسقط بعض شعر اللحية، ففيه الوجه الذي ذكرناه في التقسط؛ أنه يتقسط بقدر جنايته.
دية الحاجبين
قال رحمه الله: [والحاجبين] .
والحاجبان: مثنى حاجب، وهو في الأصل: الشعر الذي ينبت على العظم فوق العين، سواء اتصل الحاجبان أو انفصلا؛ ولذلك جاء في النمص وهو: نتف شعر الوجه الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، وأكثر ما يقع في النساء، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فلا يجوز الاعتداء على هذا الشعر، حتى ولو اتصل الحاجبان؛ لأن سر المنع وورود اللعن هو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، فإذا خلق الله الحاجب متصلا وجاءت هي تفصله فقد غيرت الخلقة ولم ترض بقسمة الله، ولذلك ورد اللعن على هذا؛ لأن هناك أفعالا قد تكون أخف، لكن لما اتصل أمر هذا الفعل بالعقيدة وهو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل والاعتداء عليها؛ ولذلك جاء في آخر والحديث: (المغيرات خلق الله) ، فرجع الأمر إلى الاعتقاد، فمن نمصت شعر حاجبها سواء فيما كان بين الحاجبين لكي تفصل الحاجبين أو كان ترقيقا للحاجب بعد أن كان عريضا ونحو ذلك فيشملها.
الحاجبان إذا اعتدي عليهما، أو مثلا وقع حادث فحصلت منه جروح وحصل منه ضرر على شعر الحاجبين حتى قلع الشعر ولم يعد ذلك الشعر وجبت الدية، وإن حصل الضرر على أحد الحاجبين، تقسطت الدية بقسط ذلك وهو النصف، وهذا يشمل الرجال والنساء؛ لأن الحاجبين زينة في الرجل وزينة في المرأة أيضا.
دية شعر أهداب العينين
قال رحمه الله: [وأهداب العينين] .
والمراد بها الشعور التي تنبت على الجسم الأعلى والأسفل من كل عين، فالعينان لكل واحدة منهما جفنان، فأصبحت الأهداب أربعة؛ وهو الذي يسمى: الرمش، فلو سقاه الطبيب دواء خطأ حتى تساقط شعر العين -الرمش- فإنه يجب عليه ضمان ذلك بالدية كاملا: إن كانت الجناية في العينين فتكون كاملة، وإن كانت الجناية في عين دون أخرى وجب عليه النصف، وإن كان في جزء العين وهو شعر الجفن الأعلى أو شعر الجفن الأسفل فبقسطه وهو ربع الدية؛ لأنها أربعة، فتتقسط الدية وتقسم على أربعة، فكل واحد من هذه الشعور الأربعة إذا جني عليه فإن فيه ربع الدية، وهذا يخالف به شعر الرأس كما قدمنا، ويشمل الرجال والنساء على حد سواء.
سقوط دية الشعر إذا نبت
قال رحمه الله: [فإن عاد فنبت سقط موجبه] .
ليس خاصا بشعر الأهداب، فليس قوله: (فإن عاد) يعود إلى آخر الكلام، وإنما المراد: إن عاد الشعر في هذه المواضع التي ذكرناها سقطت الدية، وإن عاد الشعر في حاجب سقطت نصف الدية، وإن عاد الشعر في أحد الرموش سقطت ربع الدية، فلو اعتدى على رمش منها فعاد الشعر أو قال الأطباء: سيعود.
ننتظر حتى تمضي المدة التي قرروها للعود، فإن عاد فإنه تسقط الدية، ولو أخذ الدية ثم عاد شعره وجب عليه ردها.
مقدار دية عين الأعور
قال رحمه الله: [وفي عين الأعور الدية كاملة] .
قضى بهذا عمر وعثمان وعلي من الخلفاء الراشدين، وقضى به من الصحابة أيضا عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: أن الأعور في عينه الدية كاملة؛ لأنه حينما فقد العين الأخرى قامت منافع العينين في عين واحدة، سواء كان ذلك العور خلقة أو جناية أو مرضا، فقالوا: إن الاعتداء عليها يوجب الضمان بدية كاملة، وهناك قول ثان: أن فيها نصف الدية وهو من حيث الدليل إعمالا للأصل، لكن قضاء هؤلاء الخلفاء الراشدين، لا شك أن له وجها ومعناه صحيح؛ لأنه انتقلت منافع العين الثانية إلى منافع العين الباقية، وتجده في عينه أكثر مصلحة من العين المعتادة، ومن هنا ورود هذا عن هؤلاء الصحابة الخلفاء المأمور باتباع سنتهم جعلوا كان قول الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من أئمة السلف بهذا لوروده عن هؤلاء الخلفاء ولزوم اتباع سنتهم.
حكم الأعور إذا قلع عين الصحيح
قال رحمه الله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فعليه دية كاملة ولا قصاص] .
إذا جنى الأعور على صحيح العينين فقلع عينه اليمنى عمدا فعليه الدية كاملة؛ لأنه في الخطأ تجب نصف الدية ولا إشكال، لكن لو أنه اعتدى على مثل عينه، كأن تكون العين الباقية عنده هي اليمنى فقلع عين خصمه اليمنى عمدا وعدوانا، فالأصل يقتضي أن يقتص من عينه اليمنى، على مذهب طائفة من العلماء، قالوا: لأنه اعتدى، والله أمرنا بالقصاص، فيجب أن نقلع عينه كما قلع عين غيره؛ لأنه هو الذي تسبب بالضرر على نفسه وهو الذي رغب لنفسه بهذا، وذلك بالاعتداء عمدا وعدوانا على أخيه المسلم، وقد أثر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قضيا في هذا، لكن قالوا: لو أن المجني عليه قال: لا أريد القصاص أريد الدية، يعني: أريد العوض، فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: يبقى الأصل، وهو نصف الدية؛ لأنه قلع عينا واحدة ولم يقلع عينيه، ولا يمكن أن نقول: إن عليه الدية كاملة وعينه الثانية باقية، لكن الذين أوجبوا الدية وهم الحنابلة وطائفة من أهل العلم، قالوا: لأنه فدى عينه، يعني: المفروض أن تقلع عين الأعور، فإذا عدل إلى الدية فقد فدى عينه، فيجب أن يفدي بدية كاملة، ولذلك قالوا: الغنم بالغرم، كما أسقط الضمان عنه، وهذا من فقه الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه إعمال للقاعدة التي ذكرناها: الغنم بالغرم، فهنا يغرم دية كاملة؛ لأنه نزلت عينه منزلة تلك العينين، بدليل أن عمر لم يقتص منه، فقالوا: لما سقط عنه القصاص كان واجبا عليه أن يضمن عينيه بالدية كاملة، فله الغنم بإسقاط القصاص عليه، هذه غنيمة ونعمة وخير له، وأيضا عليه الغرم إن فدى هذه العين التي أنجته من القصاص أن يفديها بدية كاملة.
هذا من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهذا مذهبهم وهو الأصل الذي اعتمدوه.
والذين قالوا: إنه لا يجب إلا نصف الدية، مذهبهم أقعد بالدليل وأعمل للأصل.
قال: [ولا قصاص] .
كما ذكرنا
دية قطع يد الأقطع
قال رحمه الله: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كعين] .
قالوا: لأنهم بقوا على الأصل فلا إشكال؛ لأن تلك فيها أقضية عن الصحابة فاستثني، والفقه أن تجري المسائل على الأصول الواردة في الشرع: وهي أن اليد الواحدة فيها نصف الدية، وأن اليدين فيهما الدية كاملة، فإذا حصل العارض من كونه أعور، فلو نظرنا لوجدنا آثارا عن الصحابة الذين أمرنا باتباع سنتهم فخرجنا عن الأصل المستثنى باتباع سنتهم، فاستثنى الإمام أحمد من هذا الوجه وأبقى ما عدا هذا على الأصل، فإذا اعترض معترض وقال: هذا أمر خرج عن الأصل لوجود قضاء عن الصحابة، وهؤلاء مأمورون باتباع سنتهم خاصة الخلفاء الراشدين، فلهم من المزية ما ليس لغيرهم، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومن هنا فإن الشافعية وطائفة الذين يخالفون يلزمونهم بهذا، فيجعلون الأمر فيه اعتراض من هذا الوجه، لكنه لا يلزمهم هذا؛ لأن الاستثناء إنما هو لورود المستثني المقتضي لذلك، فلا يرد الاعتراض به.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:24 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجته

السؤال المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجة، هل يلزمه البيات، أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: الأصل الشرعي يقتضي حقيقة التعجل، وهذا هو ظاهر القرآن: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة:203] ، واختار بعض العلماء العمل بهذا الظاهر: وهو أنه لابد وأن يكون متعجلا حقيقة، قالوا: ولو فتح هذا لتحايل الناس على الشرع، وأصبح الحكم صورة لا معنى، قالوا: بإمكان الشخص أن يخرج قبل الغروب بجسده، ثم إذا غربت الشمس رجع فأخذ متاعه ثم صدر وسافر، قالوا: وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع نص على أنه متعجل، ومن رجع إلى منى ولم يزل له بها غرض لم يتعجل حقيقة، وهذا وجه من أخذ الأصل، ولا شك دائما في المسائل أنها ينبغي أن تبقى على الأصل؛ لأنه في الأصل ملزم بالمبيت، والرخصة جاءت بشرط، وكثير من الناس يجهل هذه الرخصة حتى إن بعض السلف يقول: من تعجل -ليس كل متعجل- لابد وأن يكون متعجلا بشرطه، قالوا: وما شرطه؟ قال: أن يكون متقيا لله عز جل، يعني: ليس كارها للمبيت، ولا نافرا من المبيت، ولا متضجرا من العبادة لكن إذا كان هذا المعنى أن الشخص يخرج ويأخذ أغراضه بعد المبيت أو مثلما يقول بعض منهم، بمجرد ركوبه للسيارة: إنه تعجل.
والنص القائل: {فمن تعجل} ، لابد أن يطبق كما هو، بمعنى أنه تغرب عليه الشمس وليس في منى لا بمتاعه ولا بحوائجه، قد خرج حقيقة: {فمن تعجل} ، وانظر إلى تعبير القرآن: (تعجل) ومن كان على عجل فحاله يقتضي أن يكون مهيئا لأموره مرتبا لها، فإذا كان على هذه الصفة الشرعية مع هذا يقول الله عز وجل: {لمن اتقى} [البقرة:203] ، فإذا: لابد أن نلاحظ أن الفتوى في هذه المسائل ليست بمجرد الشكل، أي: مجرد أن الشخص يخرج ثم بعد ذلك يعود، حتى كان بعض مشايخنا رحمه الله عندما يسأل هذه المسألة يقول: أمر الناس عجيب، فمنهم من يأتيك ويقول: خرج من منى ثم عاد ثم خرج ولا يقول: عاد لمتاعه، ولا يقول: عاد لحاجته، وهذا من فقه أسئلة الفتوى: أنه ليس كل سؤال يقبله المفتي؛ فإن عاد سأله: لماذا عاد، وكيف عاد، وما الذي دعاه للعود؟ إن عاد إلى متاعه ليس بمتعجلا حقيقة، فالمفتي يقول له: قد خرجت، والعبرة بالخروج، وأنت إذا خرجت فأنت في حل المبيت، فإذا رجعت بعد ذلك لا يضر، وقد يكون خرج بجسده ولم يخرج متعجلا حقيقة، ومن هنا لابد من رعاية الأوصاف الشرعية.
الوصف الشرعي فيه أمران: أحدهما، فمن تعجل، ثانيا: أن يكون لمن اتقى، واللام للاختصاص، أي: هذا الحكم خاص بمن اتقى، والشخص الذي تحرى فامتثل أمر الله سبحانه وتعالى وخرج آخذا بسماحة الشرع، وآخذا بيسره ورفقه، أو شخص عنده مريض أو عنده ضعفة أو عنده أناس يحتاجون إليه، فهذا هو الأصل، وهذا هو الذي عليه العمل، فكونه يقول: (ثم عاد) على صورة مبهمة فلا يقتضي أن يجاب، بل لابد أن ينظر فيه ويفصل، والله تعالى أعلم.
حكم من تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق
السؤال رجل تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق بيومين فما الذي عليه؟
الجواب قال بعض العلماء: إن الهدي يتقيد كتقيد الأضحية، ولذلك يكون فواته بفوات زمانه، فيرون أن الهدي مقيد بالزمان، ومنهم من يعتد ببلوغه للبيت سواء كان في أيام التشريق أو قبل خروجه من شهر ذي الحجة فإنه يجزيه، وهذا القول يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليه ويميل إليه؛ أنه لو ذبح قبل خروج شهر ذي الحجة فلا بأس بذلك.

سبب إلزام النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بالفدية وهو مضطر

السؤال أشكل علي لماذا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بالفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل والخفين رغم الحاجة والضرورة في الكل.
أثابكم الله?

الجواب هذه هي العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو التسليم، وهذا هو الشرع، أن يجمع بين المفترق وأن يفرق بين المجتمع، حينما يأتي الشرع ويأتي بأشياء تجدها نظائر فإذا أحكامها مختلفة، وتجد أشياء متضادة وأحكامها متفقة، هنا تأتي العبادة ويأتي التسليم والرضا.
أما بالنسبة للمسألة، فالله تعالى يقول: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] ، هنا أوجب الله سبحانه وتعالى على الذي به ضرر كما أثر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى) ، يعني: ما كنت أظن القمل والضرر المترتب عليه أن يصل بك إلى هذه الحالة، من يتأمل حالنا اليوم يعلم ما نحن فيه من النعمة والرخاء، فقد كان الرجل يجلس عامه لا يحلق شعر رأسه، وكان الرجل إذا كان عنده شعر كبير لا يفتأ كلما جاء في ليلة ينام يتسلط عليه القمل ويتسلط عليه هوام الأرض، حتى إن الرجل يحمل شعر رأسه فيحمل هم إزالة هذا الشعف الذي فيه والقمل الذي بينه من شدة العناء والتعب، ينامون تحت الأشجار، بل ينامون في بيوتهم، لا يهدءون من البعوض والذباب، ولا من الحيات والعقارب، فمن يشكر نعمة الله التي نحن فيها اليوم، ومن يشكر منة الله عز وجل؟! كان الرجل يضع رأسه لكي ينام في الظهيرة فلا يستطيع أن ينام من أذية الذباب، وإذا انصرف عنه الذباب سلط الله عليه النمل، وإذا سلم من هوام الأرض وطائر السماء جاءه من الغبار والأتربة ما الله به عليم، من الذي يتفكر ويتدبر في نعمة الله عز وجل؟ الناس اليوم في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله عز وجل، فالرجل ينتقل من قاع الأرض إلى سبعين مترا إلى مائة متر في عنان السماء في ظرف دقيقة أو دقيقتين بالمصعد، وكانوا سابقا لا يبلغون ذلك إلا بشق الأنفس، لا يصعد إلى الدور العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين إلا وروحه في حلقه، واليوم يصعدون في دقائق، بل حتى في بعض الأحيان في ثوان، من الذي سخر هذا؟ هو الله، ولكن هل هناك شاكر، هل هناك ذاكر؟! السؤال يقول: لماذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على كعب الفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل؟ الفرق بينهما واضح، ولو تأملت رحمك الله لوجدت أن هناك فرقا شاسعا؛ لأن حلق الرأس إزالة لجزء من البدن ولبس السراويل ليس فيه إزالة، هنا أتلف جزءا من البدن بحلقه وهو الشعر، ولذلك الناسي لو نسي وحلق شعره يجب عليه الضمان ولو كان ناسيا، ولو نسي وغطى رأسه ثم أزال الغطاء لم يجب عليه شيء؛ لأنه ما حصل إتلاف، ولو نسي وقلم أظفاره لوجب عليه الضمان، ولو نسي وتطيب ثم أزال الطيب لم يجب عليه الضمان، والفرق واضح بين الاثنين، يعني الأول ليس فيه ضمان، والثاني فيه الضمان الأول فيه إزالة وإتلاف، والثاني لا إزالة فيه ولا إتلاف، فهذا عين الحكمة وعين التقدير، والله تعالى أعلم.

حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع البقاء
السؤال امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة وهي لا تستطيع البقاء حتى الطهر، فهل يجوز لها الطواف وهي على هذه الحال؛ لأنه قد يترتب على تأخرها ضرر، أثابكم الله?
الجواب الذي أعرف في دين الله وشرع الله: أن المرأة لا تطوف وهي حائض، وفي هذا أحاديث واضحة صحيحة صريحة مما اتفق عليها الشيخان، هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (عقرى حلقى! أحابستنا هي؟) ، يقول العلماء في شرح الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة: (أحابستنا) ما قال: أحابستني، قالوا: لأنه لو لم تطف طواف الإفاضة لتأخر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها، وهذا يثبت أنه سيتأخر، وإذا تأخر تأخر المسلمون معه، فقال: (أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذا) ، معناه: أنه لو لم تكن طافت يوم النحر للزمنا أن نبقى حتى تطهر، فأيهما أهون أن تتأخر امرأة من أجل حجز في طائرة، أو مائة ألف من الصحابة يحبسون؟ هذا دين وشرع، وهذا ركن من أركان العبادة، فليس هناك طواف أجمع العلماء على ركنيته في الحج إلا طواف الإفاضة: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29] ، وما هذا إلا لعظم أمره وعظم شأنه.
لو أن هذه المرأة حصل عندها خطأ بسيط في اسمها وجوازها لتأخرت وقعدت ولو قعد معها مليون شخص، وهذا في حكم البشر فكيف بحكم رب الجنة والناس؟ هذا دين وشرع، فإذا لابد أن تبقى حتى تطهر، ولا تدخل بيت الله؛ لأن الله منع منه الحائض، قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) .
ثانيا: عائشة رضي الله عنها وأرضاها جاءت بعمرة نسك قصدت به البيت، والله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] ، وجاءها الحيض بسرف -كما في الرواية الصحيحة- قبل الحج، فهي لا تستطيع أن تؤدي عمرتها قبل الحج، فانقلب نسكها من نسك إلى نسك كله من أجل أن لا تدخل البيت؛ تعظيما لهذا البيت.
فلو قالوا: تلبس حفاظة وتذهب تطوف، فنقول: أعطونا دليلا من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! لسنا نحن الذين نرخص ما دام أن الشرع شدد في هذا، وهذا ليس بتشديد، كل من أفتى بفتوى له دليل من أدلة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو المشدد، ومن وصفه بالتشديد فقد جار وظلم؛ لأنه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليأتين على الناس زمان تصبح الواجبات أشبه بالسنن، وليأتين على الناس زمان لا يعرفون واجبا ولا يعرفون سنة! فهذا من غربة الشرع والدين.
تجد أنك إذا جئت قلت لها: تتأخر، قالوا: هذا والله تشدد، وهذا والله التضييق على الناس، وهذا خلاف شرع الله، الدين يسر ورحمة، جاء بها من آلاف الكيلومترات من أجل أن تحج، هذا يسر: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) نحن نيسر إذا يسر الله سبحانه وتعالى، أما ديننا وأركان شريعتنا وواجباتها وفرائضها فنبقيها كما أبقاها النص، لا نتقدم ولا نتأخر، سواء أرضي الناس أو كرهوا، المهم عندنا حكم الشرع، قال: (أحابستنا هي -ثم يدعو ويقول:- عقرى عقرها الله، وحلقى حلقها الله) ، بمعنى: أن تأتيها مصيبة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأنه إذا دعا، قال: (أيما مسلم دعوت عليه أو سببته فاجعلها له رحمة) ، فهذا من مناقب أم المؤمنين أنها عادت عليها رحمة، لكن انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة تعظيما للأمر، مع أن العذر ليس بيدها.
فالمقصود نقول: تتأخر، فإذا كان لا يمكنها التأخر لها أن تسافر، ولكن لا يقربها زوجها وترجع وتؤدي فرض الله كما أوجب الله عليها، فتطوف بالبيت معظمة لشعائر الله عز وجل وهي طاهرة، أما أن نقول: تلبس حفاظة تتلجم من عنده دليل فليأتنا به، أما أن نوسع للناس أمرا ضيقه الله، أو نضيق على الناس أمرا وسعه الله فلا، الذي عندنا من النص أنه لا يجوز لها أن تطوف ببيت الله ولا أن تدخل بيت الله وهي حائض، هذا نص واضح، فينبغي أن نلتزم به.
فالذي ظهر لي: أنه يجب عليها أن تبقى حتى تطوف طواف الإفاضة، إما إن كان هناك عليها ضرر وتريد أن تسافر فلتسافر، وأجمع العلماء على أنه لو صدر الحاج قبل أن يطوف طواف الإفاضة أنه عليه الرجوع من أجل أن يطوف طواف الإفاضة ويلزمه ما يلزم من التحلل الأصغر، ولم يتم التحلل، فتمتنع من الموانع التي منها: الجماع، والمباشرة، وعقد النكاح، ومقدمات الوطء ودواعيه، واختلف في قتل الصيد: هل يبقى محظورا على الطواف أو لا؟ على وجهين مشهورين للعلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.
الواجب على الصبي إذا تمتع في النسك
السؤال لو تمتع الصبي فهل يلزمه الدم أم لا؟ وإذا لم يستطع الدم فهل يصوم، أثابكم الله؟
الجواب إذا تمتع الصبي لزمه الدم، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة البالغ من حيث صحة الحج، وهذا مذهب جمهور العلماء من حيث الأصل، أن الصبي يعامل معاملة الكبير على تفصيل في كونه: هل أحرم هو أو أحرم وليه، فالشاهد من هذا: أنه إذا كان وليه هو الذي لبى عنه مثل أن يكون صغيرا لا يعرف التلبية فتكون حينئذ في مال الولي وليس في مال الصبي، ولكن إذا لبى الصبي نفسه وتمتع بعمرته إلى الحج فإن الضمان يكون في ماله، والله تعالى أعلم.
حكم من ترك المبيت بمنى أيام التشريق
السؤال هل يكفي دم واحد لمن ترك المبيت بمنى أيام التشريق كلها، أثابكم الله؟
بالنسبة للمبيت في منى فيه وجهان: بعض العلماء يرى أن لكل ليلة نسكا تاما، وهذا هو الذي يظهر والأصول تقويه، ومنهم من يرى أن مبيت الليالي كلها نسك واحد، وعليه دار الخلاف: هل عليه دم أو ثلاثة دماء؟ والصحيح: أن المبيت كل ليلة يعتبر نسكا تاما مستقلا يجب ضمانه بحقه، والله تعالى أعلم.
مكان إحرام المكي لنسك القران
السؤال لو أراد المكي نسك القران فمن أين يحرم للعمرة، أثابكم الله؟
الجواب الصحيح أنه يصح القران من أهل مكة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] ، فجعل التمتع عاما شاملا للمكي وغير المكي، والتمتع؛ تمتع القران والتمتع المعروف بالعمرة، فلما عبرت الآية على سبيل العموم فقال الله: {فمن تمتع بالعمرة} [البقرة:196] ، دل على أن أهل مكة يتمتعون تمتع القران وتمتع العمرة المعروف، وبناء على ذلك: فإنه في هذه الحالة إذا أحرم أهل مكة بالعمرة مع الحج، فإن مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أنهم يخرجون إلى أدنى الحل تغليبا للأصل في العمرة؛ لأنه إذا وجد ما يوجب الخروج وما لا يوجبه وهما مجتمعان قدم الذي يوجب؛ لأنه شغل للذمة يوجب الخروج عن الأصل، فيقدم، ومن هنا قالوا: إنه يخرج إلى أدنى الحل ويحرم بمكان العمرة، ومنهم من يقول: إنه مغتفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحج والعمرة بمثابة النسك الواحد، فيكون مخففا عليه في ذلك، والأول هو الأحوط، والله تعالى أعلم.
حكم من رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ومات قبل أن يطوف
السؤال رجل سافر إلى بلده وبقي عليه طواف الإفاضة ثم لم يتمكن من الرجوع حتى توفاه الله، فهل يحج عنه، أثابكم الله؟
الجواب إذا توفي الشخص قبل أن يتم حجه فأصح قولي العلماء أنه لا يتم الحج عنه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته دابته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة فوقف معه هذا الرجل، فجنحت دابته فأسقطته فاندقت عنقه، فمات رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب) ، قالوا: ولم يأمر بإتمام الحج عنه، مع أنه حاج وقف بعرفة وبقيت عليه بقية الأركان، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بالحج عنه، وهذا وقت الحاجة ووقت البيان، قالوا: فلما سكت عليه الصلاة والسلام عن ذلك دل على الإجزاء، وهذا أصل؛ لأنه أدى ما عليه، وجاء إلى الحج وبذل ما يستطيع والله لا يكلفه فوق طاقته، وورثته ليسوا ملزمين؛ لأن ذمته لم تشغل، ولما تعذر عليه الإتمام تعذر بعارض من الله سبحانه وتعالى، وحينئذ لا يلزم بالإتمام ولا يلزم ورثته أيضا بالإتمام على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.
أسباب استجابة الدعاء
السؤال ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علما نافعا وعملا صالحا، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب في هذا السؤال جوانب: الجانب الأول: من ألح على الله في الدعاء فحري به ألا يقنط وألا ييئس، بل عليه أن يتخذ من كثرة الإلحاح ما يدعوه إلى الزيادة؛ لأن الله يحب من عبده الإلحاح وكثرة الدعاء، فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة سبحانه وتعالى، فالله يحب من عبده كثرة الإلحاح، ثم إن كثرة الإلحاح توحيد لله عز وجل؛ لأنه إذا دعا المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة، ثم ما زال يدعو، وما زال مؤمنا موقنا أن الله يسمع دعاءه، وأن الله أحكم وأعلم، وأن الله أعلم بحاله، فقد يكون من الحكمة من الله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو أعطاه العلم الآن فتن في دينه، فيؤخر عنه تلك العطية، فلذلك يرضى عن الله سبحانه وتعالى، وسعادة الدنيا وسرورها وبهجتها في الرضا عن الله سبحانه وتعالى، أي شيء تسأله الله عز وجل فيؤخره عنك، فارض عن ربك فهو أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأرحم بك من والديك، وأرحم بك من الناس جميعا، فهو الحليم الرحيم، إذا لا يقنط الإنسان ولا يسئ الظن بالله مهما ألح.
ثانيا: عليه أن ينظر إلى حاله بما يدعوه بحسن الظن بالله عز وجل، فمثلا: المبتلى يبتلى بمرض أو يبتلى في دينه فيجد أنه لا زال على نفس المعصية أو لا زال على نفس البلاء في جسده، والله لو لم يدع لكان حاله أسوأ، ولكن الله عز وجل يلطف به بهذا الدعاء.
ثالثا: أنه ما من عبد يدعو الله عز وجل مخلصا موقنا إلا أعطاه الله سؤله، أو صرف عنه من البلاء مثل ما دعاه، أو ادخرها له يوم القيامة.
فإذا: قد يدعو الإنسان فيؤخر الله عز وجل عنه الإجابة، فلا يزال يكسب خيرا كثيرا، وما يدريك ما الذي سيعود على الإنسان الملح إن أكثر في سؤال الله عز وجل والله يؤخر عنه الإجابة، فكم من درجات تنتظره يوم القيامة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ادخرها الله له يوم القيامة، فإذا يدعو الإنسان، قالوا: (نكثر يا رسول الله! قال: الله أكثر) ، يعني أكثر كرما وأكثر جودا، {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة:186] ، فأكثر من الإلحاح واستمر في دعاء الله عز وجل، لكن إذا سألت الله فكن في سؤالك على بصيرة، من سأل الله العلم فليسأله العمل، ومن سأله العلم والعمل فليسأله الإخلاص، ومن سأله العلم والعمل والإخلاص، فليسأله القبول، وإذا رزق الله العبد العلم والعمل والإخلاص والقبول؛ احتاج إلى الثبات وحسن الخاتمة، فيسأل الله أن يثبت ذلك في صدره، وأن يثبته على الحق حتى يلقاه سبحانه وتعالى راضيا عنه، ثم بعد ذلك يسأله من خير المسائل مما يعين على هذه المنزلة الشريفة الكريمة؛ وهي حسن الخلق، فيسأل الله هذه المسائل الجامعة للخير؛ علم وعمل وإخلاص وقبول، وثبات على الحق، في بر وحسن خلق، ومن رزقه ذلك فبخ بخ، أي تجارة رابحة وأي منزلة رابحة فاز بها من الله جل جلاله، أن يسأل الله هذه المسائل العظيمة وأن يكون على بصيرة.
كيف يسأل الله عز وجل، ذكروا عن الإمام أبي بكر بن العربي الفقيه المشهور المالكي في مسألة: (زمزم لما شرب له) يقول: إني شربته فسألت الله العلم فرزقنيه، فندمت أني لم أسأله مع العلم العمل، فانظر إلى فقه الدعاء؛ وهو أنه كان ينبغي أن يسأل مع العلم العمل.
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن وتسأل الله البركة؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون الإنسان من أعلم الناس في زمانه، لكنه ممحوق البركة من علمه، وقد ترى الرجل حافظا للسورة والسورتين من كتاب الله عز وجل، وضع الله له فيهما البركة بما لم يخطر لك على بال، فهو يردد هذه السورة على لسانه، فينال ملايين الحسنات، ثم إذا جلس لا يرى شخصا لا يحفظها إلا حفظه إياها، فكم له من الأجور والحسنات والخيرات والبركات، وكم له من قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) >فالمقصود: أن الإنسان يبحث عن الأمور المهمة في الدعاء، نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل ما وهبنا من العلوم نافعا شافعا: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88 - 89] ، والله تعالى أعلم.
حكم تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة
السؤال من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة أو آخره؛ وذلك بسبب الزحام، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب ما شاء الله تبارك الله! الزحام مستمر إلى آخر ذي الحجة! إذا كان الذي ليس عليه حج يزاحم، فمن باب أولى الذي عليه باقي حج أنه يذهب يزاحم.
على كل حال: ليس كل ما قاله الناس في أسئلتهم يكون صحيحا، المطاف يخلو خاصة في الليل، ويخلو في أوقات مثل ساعات الظهيرة، والأصل يقتضي أن من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد أيام التشريق فيه وجهان: بعض العلماء يقول: العبرة بأيام التشريق، ومن أخر لغير عذر فعليه دم، وبعضهم يرى أن الدم لا يجب إلا بخروج ذي الحجة، وهذا هو الذي أميل إليه، أن الدم لا يجب على من أخر طواف الإفاضة إلا إذا خرج عليه شهر ذي الحجة، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
وينسب للجمهور أنهم يرون أنه إذا خرج عن ذي الحجة، وهذا هو الذي عني بقوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة:197] ، قالوا: تمام الأشهر في ذكر الآية مراعاة للانتهاء، فنهاية الحج بنهاية طواف الإفاضة، وآخر أمده بغروب شمس آخر يوم من شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم.

أحكام صيام العاشر من محرم
السؤال أيهما أفضل: صيام يوم قبل العاشر من محرم أم بعده مع صيام العاشر؟ وهل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت، أثابكم الله؟
الجواب أما بالنسبة للمسألة الأولى: الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو السنة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل أن يصوم يوما قبله ويوما بعده، ولكن شهر محرم الأفضل صيامه والإكثار من صيامه، لما سئل عليه الصلاة والسلام: (ما أفضل الصيام بعد شهر رمضان؟ قال: شهر الله المحرم) ، يعني كل شهر محرم مرغب فيه الإكثار من صيامه، لكن في هذا اليوم يوم عاشوراء سنة المخالفة أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) والتاسع محمول على الحقيقة، والعاشر محمول على الحقيقة، وأما بأن العاشر المراد به: تاسوعاء فهذا فيه ما فيه، وتكلم العلماء على هذا، لكن الأصل أن الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر.
فلو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) ، ولم يقل: والعاشر، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن الأصل مستصحبا له؛ لأنه هو قالها: (نحن أولى بموسى منكم) ، يعني في شكر نعمة الله بنجاة موسى صوم هذا اليوم، فإذا: الشعيرة باقية؛ لأن سببها بخصوص اليوم، وهو شكر الله عز وجل على نجاة هذا النبي، حمدا لله عز وجل بنصرة أهل التوحيد على أهل الشرك، وأهل الإيمان على أهل الوثنية، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم) ، لأنه على التوحيد والإخلاص، وأنتم غيرتم وبدلتم، فإذا: الموجب للصوم باق لا يتغير، فلما كان ثابتا سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معمول على القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ثانيا: نقول: من منع من صيام يوم عاشوراء خالف الأصل؛ لأن الأصل إذا ثبت الصوم بدليل شرعي يدل على الفضيلة، لا ينقل عنه إلا بدليل مثله، والدليل المثبت صريح، والدليل النافي الذي يدعونه محتمل؛ لأنه لما قال: (لأصومن التاسع) ، سكت عن العاشر، هل يصومه أو لا يصومه، وليس إثبات أحد النقيضين بأولى من الآخر كمسلك جدلي، فلا يستقيم لهم الاستدلال بقوله:: (لأصومن التاسع) ، وهذا ما أحببنا أن ننبه عليه حول من يقول: إنه يصوم التاسع فقط، وهذا شذوذ، يعني: مذهب من أضعف المذاهب، ومخالف للأصل الذي ذكرناه، ويفوت مقصود الشرع بتعظيم نعمة الله عز وجل بهذا، فصوم يوم التاسع والعاشر هو الأفضل في صوم عاشوراء على ما ذكرناه.
أما الجانب الآخر من السؤال والذي يقول: هل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت؟ الجواب: إفراد العاشر بالصوم هو خلاف السنة، والسنة أن يخالف اليهود، فيصوم يوما قبله أو يوما بعده، وأما بالنسبة لإفراد عاشوراء، إذا وافق السبت وصام السبت، فإن النهي عن صوم يوم السبت حديثه متكلم في إسناده، وإثبات هذا الحديث مبني على القول بتحسينه مع أن فيه ما فيه، إذا قيل بتحسين هذا الحديث، فإن الحديث الحسن لا يعارض الحديث الصحيح، ولذلك: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح ثانيا: الذي عليه العمل عند أهل العلم رحمهم الله: أن المنع من صوم يوم السبت المراد به من قصد يوم السبت تعظيما للسبت، وهذا أصل في جميع ما ورد، مثل يوم عرفة لو وافق يوم سبت ونحو ذلك من الأيام المفردة، فإنه يشرع صيامها، ولا بأس في ذلك، ولا حرج أن يصومه؛ لأنه يصومه لسبب شرعي، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ثم قال: (إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه) ، فهذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما كان معتادا لصيام ذلك اليوم والشريعة منعت من صوم يوم قبل رمضان حتى لا يزيد في العدد فيغلو في العبادة أذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فات المعنى الشرعي.
فالمعنى الشرعي في إفراد يوم السبت، هو تعظيمه؛ لأنه شعار اليهود، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب، ومن هنا لا بأس ولا حرج إذا وافق يوما، لأن الشرع ندب إلى صيامه، والله تعالى أعلم.
أمور تعين على استجابة الدعاء
السؤال ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علما نافعا وعملا صالحا، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا شك أن من توفيق الله عز وجل لك: أن ألهمك أن تدعو الله عز وجل بهذا الأمر، وإذا وقف الإنسان في يوم عرفة أو وقف في ساعات يرجى فيها إجابة الدعاء فاختار أفضل المسائل وأحبها وأكرمها وأعظمها ثوابا وخيرا للعبد في الدنيا والآخرة، فليعلم أن هذا من توفيق الله عز وجل له، فالدعاء إذا وفق العبد فيه نال خير الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: في قولك (علما نافعا وعملا صالحا) أعظم الأسباب التي تعين على بلوغ العلم النافع: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وهو أساس النفع في كل عمل صالح، فلا يمكن أن يكون العمل نافعا إلا إذا أراد طالب العلم به وجه الله سبحانه وتعالى، فينطلق في طلبه للعلم، والجنة والنار بين عينيه، وكل يوم يجدد إخلاصه، بل كل ساعة بل كل لحظة إذا أمكنه ذلك، كلما جلس في مجلس علم ينظر ماذا في قلبه، وكان السلف إذا سئلوا عن حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أثر عن سفيان رحمه الله يمتنع من الحديث ويتأخر قليلا فيقولون: ما بك؟ يقول: حتى أنظر ما في قلبي، يعني: هل أريد أن أحدث لله أو أريد أن أحدث لغير الله عز وجل، وكان يقول قولته المشهورة: ما رأيت مثل نيتي، إنها تتقلب علي، يعني أشد ما جاهدت النية لإرادة وجه الله عز وجل، يمشي الإنسان إلى مجلس من مجالس العلم وهو يريد وجه الله، ولا يريد قضاء الأوقات، ولا إضاعة الوقت، ولا من أجل التفكه في المجلس أو التندر فيه، وإنما يريد وجه الله سبحانه وتعالى، يستشعر هذا الإخلاص حينما يشعر بالمسئولية، فوالله ثم والله ما جلست في مجلس علم ولا سمعت علما ولا نظرت عيناك إلى علم إلا حوسبت بين يدي الله عليها.
ما من مجلس تجلسه فتسمع قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هذا حلال أو هذا حرام؛ شيء من دينك وشرعك إلا سئلت أمام الله عز وجل عن هذا العلم الذي بلغك، إن هذه الكلمات وهذه الأحكام وهذه المسائل حجج يلقيها العلماء من على أكتافهم ويلقونها على ورثة العلماء وهم طلاب العلم، وهذا يحتم عليك كطالب علم أن تعرف ماذا يراد بك، وماذا ينتظر منك، كم من عالم تمضي عليه عشرات السنين، وقل أن يجد طالب علم يملأ عينيه، كم من عالم يضحي ويتعب ويكدح، فقل أن يجد طالب علم جمع فأوعى، وهذا بسبب عدم الاستشعار، يصحب أناس أهل العلم وكأن الأمر نوع من التفكه والتندر، ويقفون لمسائلهم والأسئلة التي تنهال عليهم وتكرر الأسئلة عشرات المرات، ثم يفاجأ ذلك العالم والشيخ وإذا بنفس الطالب يأتي بنفس الأسئلة، وقد كان أهل العلم يضبطون العلم من أول مسألة، فإذا سمع المرة لم تعد عليه، يحفظ كلام الشيخ حتى إن طالب كان يحفظ الفتوى من العالم ثم يمكث العلم يجلس الأربع سنوات والخمس سنوات وإذا به يجدها عند العالم كما هي فيطمئن على أن قلبه لا يزال بخير حيث حفظ ووجد العلم كما هو لم يتغير.
أما أن يأتي هكذا تفكها وتندرا، والله ما اقترب أحد من أهل العلم إلا حوسب بين يدي الله عز وجل وسئل أمام الله عز وجل.
إذا: استشعار المسئولية بعد الإخلاص، هذا الاستشعار يلهب القلب، ويلهب الضمير والإحساس، حتى إنك تجد طالب العلم إذا جلس مع العالم لا يفرط في ثانية أو دقيقة فضلا عن ساعة، ولذلك تجد العلماء يجلسون مع الناس ويحضرون، فقل أن تجد سائلا يسأل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا سئل العالم أسئلة مكررة وأسئلة فيها خلاف بين العلماء ليرى هل هذا العالم أخذ ذات اليمين أو أخذ ذات الشمال، أو يميل إلى قول فلان أو علان؟ ما لهذا كان العلم، ولن يكون العلم من أجل هذا، العلم رفعة لهذه الأمة ومجد لها، ولن يكون مجدا ورفعة لهذه الأمة إلا إذا كان حملته أصحاب مبادئ، وأصحاب أسس صحيحة، أهل الدنيا يتنافسون في علومهم ويكدحون ويتعبون، وكل واحد يستشعر ما الذي يتعلمه، ودين الله عز وجل قل أن تجد من يرعى حرمته، فالشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، لا يعني هذا أنه لا يوجد طلاب العلم، إنما نتكلم على الصفة الغالبة، فإذا: الاستشعار أمر مهم جدا بعد الإخلاص.
ثالثا: يصحب هذا الاستشعار الثقة بالله عز وجل، والثقة بالله سبحانه وتعالى هي التي تفتح لطالب العلم آفاق العلم ورحابه الواسعة بمجرد أن يضع قدمه في أي منهج أو طريق أو سبيل يقوده إلى العلم، يضع قلبه في السماء وإن كان قالبه في الأرض؛ لأنه من أولياء الله سبحانه وتعالى وتولى الله سبحانه وتعالى، يريد أن يحمل شرعه ودينه ويكون أمينا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في منزلة شريفة كريمة.
كيف تكون الثقة بالله عز وجل؟ يبدأ طالب العلم وكله أمل في أن الله سبحانه وتعالى ينفحه برحماته: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء:79] ، {وعلم آدم الأسماء} [البقرة:31] ، من الذي علم آدم؟ ومن الذي فهم داود وسليمان؟ الله سبحانه وتعالى، الثقة بالله عز وجل، الصدر المنشرح، القلب المطمئن، النفس القوية، قوية صادقة؛ لأنها توقن أن الله سبحانه وتعالى لا يخيب من سلك هذا السبيل، وتكفل الله بالجنة لأهله لما أعد لهم من النعيم، كيف تثق بالله؟ تثق بالله أنه سيعلمك، والله ثم والله لو تعلمون كيف كان أهل العلم ممن أدركنا وعرفنا، ومما رأينا من ألطاف الله في أنفسنا يحار عقل الإنسان، العالم حينما تنظر كيف يجمع هذا العلم، وكيف يفهم هذا العلم، وكيف يرتب مسائل العلم تثق ثقة تامة أنه لا حول له ولا قوة، وأن وراءه قوة إلهية، وحفظا إلهيا فوق ما يخطر للإنسان على بال، والله إن الإنسان يكون متعبا منهكا مريضا لا يفتر أن يجلس في مجلس العلم، وكأن لسانه يقاد فيما يقول وفيما يتكلم؛ لأن هذا دين الله عز وجل، وإن لم يكن العلماء أولياء الله عز وجل فمن؟ فيا طالب العلم! إذا كنت تريد أن تسلك سبيل الله عز وجل فلابد أن يكون عندك ثقة أن الله يفهمك؛ ولذلك كل طالب علم يأتي الشيطان ويقول له: أنت لا تستطيع أن تحفظ، أنت إنسان كسول خمول، ابحث عن شيء آخر غير العلم، فيثبطه عن طاعة الله عز وجل ويجعل الأمر راجع إلى ملكته، وليس راجعا إلى فتوح الله جل جلاله الفتاح العليم الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، لكن حينما يقول: أنا الضعيف، أنا المسكين، أنا الجاهل، أنا المقصر، وربي هو الكريم، وهو الحليم الرحيم، وأملي في الله كبير، فتح الله له أبواب رحمته: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، إخلاص واستشعار وثقة بالله سبحانه وتعالى، كنا جاهلين فعلمنا الله، وكنا ضلالا فهدانا الله، والله عز وجل يقول لنبيه: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى:7] ، {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا} [الشورى:52] ، يقولها لخير الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، يا طالب العلم! حينما تطلب العلم وصدرك منشرح أن الله يكرمك ويعلمك، وأن الله يرحمك، وأن الأمة في حاجة إلى من يعلمها ويفهمها، فتطرح بين يدي الله عز وجل، وكان بعض العلماء يصغي بخده، ويقول: يا معلم آدم! علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيكون فتوح من الله سبحانه وتعالى، ولعل العبد في ساعة من الساعات يحتقر نفسه فيسمو إلى درجات الكمال، فإذا كان هناك إخلاص واستشعار بالمسئولية وثقة أخذت بالأسباب؛ من ضبط العلم وإتقانه فلا تفوتك الكلمة فضلا عن الجملة والعبارة، وتحس أنك ستسد ثغرا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء العلماء لا يبقون ولا يدومون، وأن سنة الله ماضية ومضت في خيرهم وخير خلق الله عز وجل وأحب رسل الله إلى الله: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30] ، فإذا علم الإنسان أنهم سيزولون وأنهم سيذهبون ويرتحلون، وأن الأماكن التي استنارت بعلومهم ستخلو يوما من الأيام، وتخبو فيها شموسهم وتطفأ فيها أنوارهم، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما خلفوه من ثقات أهل العلم الذين صحبوهم، وينبغي ألا نكون مقصرين نائمين لا نستشعر أين نحن ولا نحس أين يجب أن نكون، بل على كل إنسان أن يستنهض الهمة في نفسه.
كذلك أيضا من الأمور التي تعين على ضبط هذا العلم وإتقانه: كثرة التكرار والترداد، طالب العلم الصادق في طلبه قد نزع الله من قلبه الدنيا وملأ قلبه بالآخرة، وثق ثقة تامة أنه لا طالب علم ولا عالم إلا بمبدأ، العلم ليس بالمظاهر وليس بالألقاب، وليس بكثرة الكتب ولا بكثرة الزينة والتعالي، وإنما هو مبادئ قيمة، وما سما العلماء إلا بمبادئهم وبصدقهم مع الله وقولهم للحق، وصدعهم بالحق، وتبليغهم لرسالة الله عز وجل، وتفانيهم في نصح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على تعليم الجاهل وتنبيه الغافل ودلالة الحائر وإرشاد التائه، كل هذه المبادئ كانت من أسس صحيحة وهو استشعار المسئولية والتفاني فيها بالجد والاجتهاد، وإذا أراد طالب العلم أن يطلب العلم فعليه أن يتعب وأن ينصب، وأن يعلم أنه على قدر تعبه اليوم يبوأ غدا من الله سبحانه وتعالى، فمن كانت له بداية مليئة بالمصاعب والمتاعب ستكون له النهاية التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، العلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، وهنا أنبه على مسألة مهمة جدا ينبغي على كل طالب علم أن يستشعرها، فإذا صحب العلماء أو صحب عالما فوجد العالم يعطيه ألقابا أكثر مما يستحق أو وجد العالم يزكيه وكأنه أخرجه من النار وأدخله الجنة، وكأنه أصبح مزكى فليعلم أن هذا هلاك للعبد، ولذلك على الإنسان أن يصحب العلماء محتقرا لنفسه مقبلا على آخرته مجدا مجتهدا في تحصيله وضبطه وإتقانه، لا يفتر ولا ينصب في حفظ هذه الأمانة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله كم من عيون للعلماء بكت، وكم من قلوب انكس






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:31 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (509)

صـــــ(1) إلى صــ(30)



شرح زاد المستقنع - باب الشجاج وكسر العظام
إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الحدود، حتى لا يتساهل الإنسان بدم أخيه، فلم يهمل حتى الشجة، وجعل منها ما قدر ديتها ومنها ما جعل فيها حكومة، أي: يحكم القاضي فيها وبقدرها بحيث لا تزيد على المقدر شرعا، والشجاج يختص بما يكون في الرأس والوجه، بينما الكسر يختص بما يكون في العظام.
بيان الديات المتعلقة بالشجاج المقدرة وغير المقدرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشجاج وكسر العظام] هذا الباب يختص بالديات المتعلقة بالشجاج فيما ورد التقدير فيه من الشرع، وكذلك أيضا بيان حكم كسر العظام، وما يجب فيه من الحكومة والتقديرات الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.
قوله: (الشجاج) جمع شجة، تقول العرب: شج المفازة إذا قطعها، وأصل الشج في لغة العرب: القطع، والشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه، ومن هنا تختص بالجناية على الرأس والوجه، وتشمل الشجة ما كان في مقدم الرأس عند الناصية، وما كان في وسط الرأس عند الهامة، وما كان في القذال وهو آخر الرأس، وكذلك أيضا تشمل الشجة ما كان في أعراض الرأس، مثل أن تكون في العظم الذي يلي الأذن، سواء من الأذن اليمنى أو اليسرى، فكل هذا تقع الجناية عليه وتسمى: بالشجة، فتارة تكون جرحا للجلدة، وتارة تنفذ من الجلدة إلى اللحم، وتارة تنفذ من اللحم إلى العظم، وتارة تكسر العظم وتهشمه، وتارة تكسره وتهشمه وتنقله، وتارة تصل إلى خريطة الدماغ، كما إذا كانت الضربة في جهة الدماغ، هذا بالنسبة للشجاج في الرأس.
كذلك في الوجه، والوجه يشمل اللحيين، والخدين، والوجنتين، وكذلك أيضا الجبهة، واستظهر طائفة من العلماء الأنف بطرفيه، فكل هذه المواضع الجناية عليها تكون على الترتيب الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وفيه المقدرات الواردة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في سنة الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وأما العظام فجمع عظم، ومراده هنا كسر العظام، أي: الجناية على العظم بكسره، فتارة تكون الجناية بهشم العظم وتارة تستفحل فتهشم العظم وتكسره، ثم ينتقل العظم بحيث ينفصل بعضه عن بعض، والعظم تارة يكون في الصدر، وتارة يكون في الذراع، وتارة يكون في الفخذ، وتارة يكون في الساق، إلى غير ذلك من المواضع التي تكون فيها العظام.
قوله: (باب الشجاج وكسر العظام) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالجناية، والاعتداء بالشجاج وكسر العظام، ثم هذه الجناية تكون عمدا وتكون خطأ، ومن أمثلتها في العمد: هي أن تحصل الخصومة بين الرجل والرجل، فيأتي والعياذ بالله! فيضربه على رأسه فيشج رأسه شجة تدميه، يعني: تسيل الدم، أو شجة حارصة أو قاشرة تقشر الجلد ولا يسيل معها الدم، وتارة تكون شجة تكشف اللحم وتصيبه، وتارة تكشفه وتصيبه وتغوص فيه، وتارة تكون الشجة بالوصول إلى العظم دون قشرته حتى تحول القشرة دونه وهي السمحاق، كل هذا يقع بالعمد.
ويقع بالخطأ مثل حوادث السيارات، فلو أنه كان يقود سيارة فانقلبت به وبمن معه، فأصابت من معه شجة قشرت جلدة رأسه، أو أدمته، يعني: سال الدم منها، أو كسرت عظامه، فهذا من الخطأ، أو طبيب يعالج، فأخطأ في علاجه فترتب على الخطأ ضرر في العضو، وحصل منه جناية من هذه الجنايات، كذلك يعتبر من الخطأ أن يقوم رجل يحمل متاعا ثم أسقط المتاع على غيره فشجه، وقس على هذا من الصور في الأخطاء التي تقع بين الناس، وكل هذا له أحكام خاصة في العمد اختلف العلماء في بعضها، يقولون: في بعضها القصاص، وبعضها لا يتأتى فيه القصاص؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه بالمماثلة، فمثلا لو كانت الهاشمة: تهشم العظام، وتكسر العظام، فلا نستطيع بحال أن نضرب الجاني إذا كان متعمدا ضربة مثل ضربته بحيث تكسر نفس العظام وتصل إلى ما وصلت إليه الضربة الأولى في الجناية، ومن هنا يسقط القصاص وينتقل إلى الأرش إلى الحكومة إلى الدية، على حسب نوع الجناية، فهذه الأشياء التي سيذكرها المصنف في الشجاج تشمل عشرة أنواع، منها: الخمس التي لا تقدير فيها.
ومنها: الخمس المقدرة، فهي عشرة أنواع من الجنايات في الشجاج وما يتبعها، وهي الجائفة التي تكمل العدد العاشر، وفي بقية البدن لا تكون هذه الأشياء الخمسة التي لا تقدير فيها، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.
حقيقة الشجة وما تختص به وعددها وحكمها
قال رحمه الله: [الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة] قوله: (الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة) وهذا عليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، وأصله قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم خصوا الشجة بالوجه والرأس، وله أصل في اللغة، ومن هنا قالوا: إن الجناية بالشجاج تختص بالضربات في الرأس والضربات في الوجه، على ما سبق بيانه، يستوي في هذا أن تكون في مقدم الرأس أو في وسطه أو في آخره، أو في جوانبه، لكن اختلف في آخر الرأس، فآخر الرأس مما يلي الرقبة وهو العظم المتدلي هل يعتبر من الرأس أو يعتبر من الرقبة؟ فالرقبة لا يعتبر فيها شجاج سواء من جهة ما أقبل أو ما أدبر، فالجناية عليها لا تأخذ حكم الجناية على الرأس والوجه، وبالنسبة للوجه يشمل ما ظهر وحصلت به المواجهة، وما كان تحت الحنك، أو تحت اللحيين، أو تحت الذقن مما لا مواجهة فيه فإنه آخذ حكم الوجه، ما لم يصل إلى الرقبة، فإن وصل إلى الرقبة ففيه الحكومة على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قال: [وهي عشر] : قوله: (وهي عشر) أي: الشجات أو الشجاج، أو الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه عشر، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل، وبينا أن المراد به استحضار الذهن وتهيئته لما يذكر بعد.
هذه العشر منقسمة إلى قسمين: الخمس الأولى: التي فيها الحكومة وليس فيها مقدر ولا دية.
والخمس الثانية: التي فيها مقدر، الخمس الأولى إذا أراد طالب العلم أن يضبطها؛ ليعلم أنها مرتبة تلو بعضها، فالمصنف رحمه الله من دقته وحسن بيانه ذكرها مرتبة، فراعى ترتيب الوقوع على حسب الجنايات.
ومن العلماء من عكس فقدم الخمس المقدرة على الخمس التي لا تقدير فيها، وهذا من باب العناية بالأهم، وهو الذي فيه مقدر شرعا، لكن طريقة المصنف أنسب وأدق في البيان والتوضيح.
الحارصة حقيقتها وحكمها
قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلا ولا تدميه] .
الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يحتج بتفسيره، كـ الأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.
حقيقة الدامية وحكمها
قال رحمه الله: [ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم] قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم.
قوله: (وهي التي يسيل منها الدم) أي: أن الدم يسيل منها قليلا.
يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلا: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان.
وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.
حقيقة الباضعة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم] هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمبضع هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.
حقيقة المتلاحمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم] قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواء في الوجه أو في الرأس، وسواء في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.
حقيقة السمحاق وحكمها
قال رحمه الله: [ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم.
وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعا ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم.
قال: [فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقدير شرعي، وحينئذ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما.
ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالا، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه.
الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمسا من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدرا ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.
حقيقة الموضحة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة] الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسرا يسيرا أو كثيرا متفاحشا، منحصرا في الموضع، أو متفرقا في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.
حقيقة الهاشمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة] : الهاشمة: توضح العظم وتهشمه، والهشم الكسر للعظم، ويقال: هشم الشيء إذا فككه وكسره، ومنه هشم الثريد، ولذلك سمي جد النبي صلى الله عليه وسلم: بـ هاشم؛ لأنه هشم الثريد للناس بمكة من كرمه فكانت مفخرة له.
الشاهد أن الهاشمة هي التي تهشم العظم في الوجه والرأس، وفيها عشر من الإبل، وللعلماء في هذه العشر وجهان: الوجه الأول: أن خمسا من العشر لكونها أوضحت العظم، والخمس الثانية؛ لأنها هشمت العظم.
الوجه الثاني: أن الهاشمة فيها عشر من الإبل ولا يفصل.
فائدة الخلاف بين الوجهين: أنه لو ضربه فهشم عظمه دون أن يجرحه، يعني هشم العظم داخل الجلد دون جرح، فعلى القول الأول لا يجب عليه إلا خمس من الإبل؛ لأنه لم يقع إلا الهشم، ولم تقع الموضحة، وعلى القول الثاني يجب عليه عشر من الإبل، سواء كان هناك جرح وإيضاح للعظم، أو لم يكن هناك جرح وإيضاح للعظم.
الموضحة: فيها خمس من الإبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، وقد تقدم معنا وبينا أنه الكتاب الذي أجمعت الأمة على تلقيه وعلى قبوله، وضربه العلماء مثالا للحديث الذي أغنت شهرته عن طلب إسناده، وحسن أئمة الحديث كالإمام الترمذي وغيره إسناد هذا الحديث، والعمل عند العلماء على حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم له في الديات ومقاديرها، هذا الكتاب جاء فيه: (وفي الموضحة خمس من الإبل) ، وسكت عليه الصلاة والسلام عن الهاشمة، فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يبين حكم الهاشمة، ولكن جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، وقضى زيد بن ثابت وهو الصحابي الفقيه رضي الله عنه وأرضاه ولم يعرف له مخالف: أن الهاشمة فيها عشر من الإبل، وبناء على ذلك جرى العمل عند أئمة الإسلام سلفا وخلفا على هذا القول، هناك من خالف من العلماء رحمهم الله وقال: إن فيها حكومة، وذلك بأن يقدر المجني قبل الجناية ويقدر بعد الجناية -وسيأتي إن شاء الله بيان الحكومة- وهو مذهب مالك رحمه الله وغيره، والصحيح ما ذكرناه.

حقيقة المنقلة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المنقلة وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل] قوله: (ثم المنقلة) المنقلة والمنقلة هي التي تنقل العظم من مكانه، فيلاحظ أن الضرب في الهاشمة أخف من الضربة في المنقلة، فالمنقلة ضربة قوية تهشم العظم فتفصله عن بعض حتى ينتقل، ويعرف ذلك الآن عن طريق الأشعة، وكانوا في القديم يعرفون ذلك بالسبر، ويلاحظون العظم ويلاحظون انتقاله، ويكون ذلك من أهل الخبرة كالأطباء.
(خمس عشرة من الإبل) وذلك كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، فإذا ضربه في رأسه أو ضربه في وجهه فكسر عظمه وانتقل هذا العظم المكسور، فإنه حينئذ يلزمه خمس عشرة من الإبل؛ لأن الكسور تكون متفاوته، فإما أنه يهشم العظم ولا ينتقل، أو يهشم العظم هشما قويا يفصله عما جاوره، وحينئذ ينتقل، فإذا حصل هذا الهشم بهذه القوة ففيه خمس عشرة من الإبل، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولون الذين سبق بيان مذهبهم يقولون: المنقلة: خمس من الإبل للموضحة، وخمس من الإبل للهاشمة؛ لأنها هشمت العظم، وخمس لكون العظم انتقل، هذه خمس عشرة من الإبل يجعلونها على هذا الوجه.
حقيقة المأمومة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية] قوله: (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) أم الشيء أصله، وأم الدماغ خريطة الدماغ، فإذا ضربه -والعياذ بالله- على دماغه ضربة أوضحت عظم الدماغ، وكشفت خريطة الدماغ، فإنها في هذه الحالة يقال لها: مأمومة، وأم الدماغ، هذه جناية، فإذا لامست الدماغ ووصلت إلى الدماغ يقولون لها: دامغة، والمصنف قال: المأمومة والدامغة.
وفي الحقيقة من العلماء من يذكر المأمومة ولا يذكر الدامغة؛ لأنهم يقولون: في الغالب إذا وصل إلى الدماغ يقتله؛ لأنها في مقتل.
وغالبا ما تحدث أضرارا توجب الديات مثل أن تخرسه -والعياذ بالله- فلا يتكلم، أو يصبح أصم لا يسمع، خاصة إذا جاءت على مواضع الحواس، فالشاهد عندنا أنه إذا ضربه على دماغه ضربة كشفت خريطة الدماغ، فحينئذ يجب عليه ثلث الدية، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لـ عمرو بن حزم (أن المأمومة فيها ثلث الدية) .
الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة يستوي فيها الذكر والأنثى، يعني: من حيث تقدير الجناية، أما من حيث ما يجب على الجاني فالأنثى على النصف من الذكر، تقدر على الأصل الذي قررناه: أن الأنثى يكون لها النصف، ومن أهل العلم من يرى: أن عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث، وهذا في حديث السنن: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها) .

حقيقة الجائفة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف] الجائفة تكون في غير الرأس والوجه، تكون جائفة في البطن، وجائفة في الصدر، وتكون الجائفة في ثغرة النحر، وتكون جائفة فيما بين السبيلين، وهذه الجائفة فيها ثلث الدية، فلو طعنه بسكين ودخلت السكين إلى جوفه فأبانت أحشاءه فهي جائفة، وهكذا لو ضربه من ظهره فأظهر عظمه فهي جائفة، ولو ضربه على صدره فأبان جوف الصدر فهي جائفة، ولو ضربه بين السبيلين فنفذ إلى مجرى البول ففيه وجهان عند العلماء رحمهم الله: من أهل العلم من قال: إنها جائفة كالضرب في جهة العجان سواء بالذكر أو الأنثى.
قوله: (وهي التي تصل إلى باطن الجوف) باطن الجوف من جهة البطن ومن جهة الصدر ومن جهة الظهر، وغالبا ما تكون بالآلات الحادة، وممكن أن تكون بغير آلة حادة.
حكم كسر الضلع وإحدى الترقوتين
قال رحمه الله: [وفي الضلع وكل واحدة من الترقوتين بعير] (وفي الضلع) لو كسر ضلعا من المجني عليه ففيه بعير، وهذا في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهي سنة راشدة عمرية لا مخالف له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا باتباع سنته- حين كتب إلى عامله رضي الله عنه وأرضاه: أن الضلع فيه جمل، فإذا كسر أحد أضلع شخص فإنه يجب عليه ضمان الكسر بجمل، لكن لو أنه كسر هذا العظم أو هذا الضلع ثم برئ مستقيما فلا إشكال، وإن برئ مشوها معوجا ففيه وجهان للعلماء: منهم من قال: يأخذ فقط المقدر ولا شيء زائد.
والصحيح أن فيه حكومة في الشين، والحكومة في هذا تتبع الشين، وتتبع الضرر، وتتبع الألم، فلو أنه كسر الضلع أو مثلا الترقوة فحصل شيء مثلا في الترقوة كأن ينعقد العظم، ويصبح موضع الإصابة مثل الكرة عند الالتحام، فهذا الشين يقدر بحكومة، ينظر إليها أهل الخبرة، وسيأتي معنا الحكومة، فنقدر كم تضرر وكم نسبة هذا الضرر فيعطى حقه في ذلك.
لو حصل أيضا ألم، حيث برئ ورجع العظم على صفته، ولكن يوجد ألم في الموضع إذا قام وإذا قعد، وإذا تنفس فينظر في هذا الألم، وقدر تضرره ويقدر له حقه.
حكم كسر الذراع والعضد والفخذ
قال رحمه الله: [وفي كسر الذراع -وهو الساعد والجامع لعظمي الزند والعضد- والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران] قوله: (وفي كسر الذراع) لو كسر عظم الذراع، وهو العظم الجامع ما بين الزند والعضد، والزندان: هما عند مفصل الكف مع الساعد، الزند الأعلى والأسفل، فهذان العظمان الناتئان هما زندا اليد، يلي الزندين الساعد إلى المرفق، والمرفق هو الذي يرتفق به الإنسان والذي أمر الله بغسله في الوضوء وهو حد غسل اليد في الوضوء، هذا كله يسمى: بالساعد، فكسره فيما ذكر رحمه الله فيه بعيران، أي: في الساعد وفي الزند، وإذا كان الزندان فمعنى ذلك: أن فيهما أربعة أبعرة، وهذا له أصل من كتاب عمر رضي الله عنه أيضا، فإنه كتب إلى عامله بذلك، ومن هنا عمل به جمهور العلماء رحمهم الله على أن فيه بعيرين.
قوله: (والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بغيران) يدل على أن المصنف يرجح مذهب من يقول بالحكومة في الشين والألم والضرر بعد البرء، يعني: إذا حصلت الجناية وانكسر العظم ننتظر إلى أن يشفى ويبرأ، فإذا شفي والتحم العظم، ننظر في هذا العظم الذي التحم، هل التحم مستقيما لا اعوجاج فيه ولا ألم معه، ولا شين؟ فحينئذ لا إشكال، حكمنا بهذا المقدر، وأما إذا جبر معوجا، أو جبر وفيه شين، أو فيه ألم قدر هذا الزائد بحقه وحكومته.
ومن نص المصنف رحمه الله على قوله: (إذا جبر ذلك مستقيما) ، وعظم الفخذ والساق ذكر فيه البعيرين كله من باب الإلحاق؛ لأن عمر رضي الله عنه لم ينص على عظم الفخذ والساق، ولكن هو في حكم عظم الساعد والزندين، والمنافع فيه كالمنافع في المفصل؛ لأنه من جنس المفاصل التي يرتفق بها.
بيان وحكم الجروح التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] ذكر المصنف رحمه الله الواجبات المقدرة في الاعتداء على الأنفس والأعضاء، وبينا فيما مضى ما ثبت من النصوص ودلت عليه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدرات وأحكام الجنايات، هناك جنايات لا تقدير فيها، وهي ما عدا ما ذكر مما له أصل مقدر، فلو أنه جرحه جرحا لا تقدير فيه، أو ضربه ضربة على مكان أورمت المكان، وحصل ضرر لا تقدير فيه في الشرع، فما الحكم؟ قال رحمه الله: (وما عدا ذلك) أي: من الشجاج والكسور والجراحات.
قوله: (ففيه حكومة) الحكومة: أن يقدر هذا المجني عليه وينزل منزلة العبد، فيقدر قبل الجناية ويقدر بعد الجناية، وينظر كم أنقصته الجناية من القيمة، وهذه النسبة تكون مقدرة من دية المجني عليه، وسميت بحكومة؛ لأنها راجعة إلى الحكام وهم القضاة، فلا يقدر هذا التقدير ولا يجتهد هذا الاجتهاد ولا يبين حكم هذه المسائل إلا الحكام والقضاة، ومن هنا وصفت بكونها حكومة، وبين رحمه الله أنه يرجع فيها إلى حكومة عدل، إذ يطالب القاضي من له خبرة ومعرفة بتقدير المجني عليه على الوجه الذي ذكرناه، ثم إذا ثبت ذلك القدر حكم به، وسيبين المصنف رحمه الله ذلك بالمثال.
الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به] قوله: (لا جناية به) مثل أن يقدر بمائة ألف قبل الجناية.
قال: [ثم يقوم وهي به قد برئت] قوله: (وهي به) أي: الجناية.
قوله: (قد برئت) أي: بعد البرء فينظر ماذا حدث في الجسم أو في العضو من النقص؟! فإذا قوم قبل الجناية بمائة، ثم قوم بعد الجناية بخمس وتسعين أو بسبع وتسعين ونصف، فحينئذ يكون نصف نصف العشر، يكون قد أنقصته نصف نصف عشره، فيقدر ذلك القدر الذي أنقصته من الدية؛ لأنه لا تقدير في تلك الجناية.

شروط صحة الحكومة في الأمور التي لا تقدير فيها
ويشترط في صحة الحكومة ما يلي: الشرط الأول: أن تكون الجناية لا تقدير فيها في الشرع، فهذا محل اتفاق على أن هذا الأمر -وهو الحكومة- يختص بالجنايات التي لا تقدير لها في الشرع، هذا أول شرط.
الشرط الثاني: أن يكون من ذوي الخبرة والنظر والمعرفة، يقال لهم: قدروه قبل الجناية وقدروه بعد الجناية، وانظروا نسبة النقص هذه التي تكون من هذا الشخص المجني عليه ذكرا كان أو أنثى، يعني: يستوي في ذلك أن يكون المجني عليه ذكرا أو أنثى.
قال رحمه الله: [فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية] سيذكر هذا بالمثال.
قال: [كأن كان قيمته عبدا سليما ستين وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس ديته] أي: إذا كانت القيمة تساوي الستين، يعني: يعادل ستين ألف ريال، ثم بعد الجناية أصبح بخمسين، فمعنى ذلك: أنها أنقصته عشرة، والعشرة تعادل السدس من القيمة، فحينئذ يجب على الجاني أن يدفع له سدس ديته، وهنا بالنسبة للحكومة يكون الرقيق أصلا والحر مبنيا عليه، والعكس بالنسبة للديات، يكون في المقدرات والأعضاء المقدرة يكون الحر أصلا والرقيق مبنيا عليه.
قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر] مثلا: لو كانت الجناية على أصبع من أصابعه، وهذه الجناية ليس لها تقدير، بمعنى: أنه ما قطع الأصبع كاملا، وفي بعض الأحيان يكون الرقيق ذا صنعة، وإذا قدر قبل الجناية على أنه بمائة ألف، ثم أنقصته الجناية الربع، مثلا: أصبح بخمسة وسبعين ألفا، فحينئذ أنقصته ربع القيمة، يعني: لو حصلت فيه هذه الجناية في أصبعه، وكان قبلها كاتبا، أي: عنده صنعة الكتابة، أو عنده صنعة غيرها ينتفع بها، فأنقصته -مثلا- الربع، في هذه الحالة الأصبع لا تعادل الربع؛ لأن الأصبع لو قطعت ففيها عشر الدية، فلا تبلغ الحكومة أو مقدر الحكومة لا يبلغ دية العضو الذي فيه الجناية، وهذا أصل شرعي، وبناء على ذلك ينقص من هذه الحكومة حتى تصل إلى أقل من عشر الدية؛ لأن الأصبع موجود ولا يعقل مساواتها بعدم الوجود، فلو قطعت الأصبع كاملة لكان فيها عشر الدية، فكيف نقول له: جناية الحكومة يقدر أكثر من المقدر شرعا والأصبع موجودة؟! فهذا يخالف شرع الله عز وجل.
ومن هنا اشترط العلماء رحمهم الله شرطا في الحكومة وهو الشرط الثالث: أن لا يبلغ التقدير أكثر من قيمة العضو الذي فيه الجناية.


ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:50 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
الاسئلة

إشكال في تعبير المؤلف بالبعير لا الإبل في الهاشمة

السؤال ذكر المصنف في حد الهاشمة عشرة أبعرة، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، والمعروف عن الأبعرة هي ذكران الإبل، أما الإبل فيشمل الذكر والأنثى، فهل في ذلك فرق، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، في الحقيقة هذا أمر ملاحظ، والأصل في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التعبير بالبعير، وإنما ورد التعبير بالإبل، قال: خمس من الإبل، وعلى هذا فقد يكون هناك تسامح من المؤلف، وأنه لا يعتبر المعنى الذي ذكرته، والله تعالى أعلم.
حكم طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج

السؤال لو طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج بدلا من الدية هل يعطى ذلك؟

الجواب نعم إذا أراد أن يخالف شرع الله، ويجتهد من عنده، ويعبث بالأحكام الشرعية، هذه أحكام شرعية ما فيها تلاعب، لا ينظر لا إلى أجرة الطبيب، ولا إلى تكاليف العلاج، هذا دين وشرع جاء بهذه الصفة، ينفذ هذا الوارد كما ورد، كونه يقول: أريد تكاليف العلاج أو قيمة العلاج ليس من حقه ذلك، وليس له غير هذا الذي حكم به الشرع، حتى ولو كانت تكاليف العلاج أكثر، العبرة بالمقدر شرعا قليلا كان أو كثيرا؛ لأنه لو فتح هذا الباب قد تكون تكاليف العلاج لا تساوي شيئا، ولذلك الشريعة لا تنظر إلى تفاوت الأزمنة، وهذا من سمو منهج الشريعة أنها أعطت أحكاما تقديرية، سبحان الله العظيم! الآن لو جئت تنظر تجد في غالب الأحوال أن هذا المقدر يعادل العلاج وزيادة، وهذا نعرفه من خلال أسئلة الناس، وعلى كل حال هذا غير وارد، وتكاليف العلاج ليست بواردة، إنما الوارد أنه يعطيه حقه الشرعي سواء كان قليلا أو كثيرا، وعليه أن يرضى بحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
الصحيح في تعريف الموضحة
السؤال تعددت النسخ في قول المصنف رحمه الله في تعريف الموضحة وهي ما توضح اللحم، وفي بعض النسخ ما توضح العظم، فأيهما أصح، أثابكم الله؟

الجواب الصحيح ما توضح العظم، وهذا استدركه الشراح رحمهم الله، وقالوا: إن هذا موجود في النسخ، ولكن الصحيح أنها توضح العظم، وهذا هو الذي ذكره أئمة اللغة، والاحتجاج في هذه التفسيرات مرده إلى أئمة اللغة؛ لأن القاشرة إيضاح اللحم، والقاشرة مع ذلك ليس فيها ما في الموضحة، الموضحة هي التي توضح العظم، وعبارات النسخ توضح اللحم خطأ، ونبه على ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم من فرط في قضاء الصوم حتى عجز عنه

السؤال تبلغ أمي من العمر خمسين سنة، كانت تفطر في شبابها من التعب، وبعد زواجها أفطرت في ولادة إخوة لي، وكانت تجهل قضاء ما عليها من الأيام، وهي الآن مريضة حيث عندها القلب والضغط وتجلط في الدم، أفيدونا في قضاء هذه الأيام أثابكم الله؟

الجواب أولا: لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، والصوم إذا وجب على المسلم فهو دين، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) حق الله أحق بالوفاء، وأحق بالقضاء، ولا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، سواء كانت كفارة في الصوم أو كفارة في الحج أو كفارة في العمرة، أو كفارة في سائر الأمور التي تجب فيها الكفارات فلا يتساهل في شيء منها، حتى قالوا: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يؤدى عنه) يقولون: إن الإنسان والعياذ بالله! قد يرهن عن كثير من الخير بسبب تعطيل حقوق الله عز وجل وحقوق الناس، ولذلك تجد المديون في بعض الأحيان لا يستطيع تحصيل أشياء من الخير كان يحصلها قبل دينه وقبل انشغال ذمته للناس، تجده قبل تحمل ديون الناس مستجما ومنشرحا ومنطلقا، ولكن ما أن يقع في الدين حتى يصبح كالمرهون، وهذا مصداق قوله: (نفس المؤمن مرهونة) والرهن الحبس.
ولذلك ينبغي للمسلم أن يبادر بسداد حقوق الله عز وجل، فإذا تساهل وفرط لم يأمن أن يأتيه المرض أو يأتيه البلاء أو يتقدم به السن ويعجز عن أداء حق الله، وحينئذ تكون الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر، فيخرج من الدنيا وقد فرط في حق الله، حتى أصابه الكبر فحيل بينه وبين الوفاء، وبين رد الحقوق والقيام بالواجبات، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم موفون بعهودهم مؤدون للحقوق التي عليهم، فعلى المسلم والمسلمة أن يتقي الله عز وجل كل واحد منهما في حق الله خاصة، وفي الحقوق عامة؛ لأن حق الله أحق، الله أحق أن يعبد وأحق أن يؤدى حقه، وهو الغني عن عباده في جميع ما أوجب عليهم سبحانه وتعالى.
ثانيا: إذا بلغت هذا المبلغ وأصبحت عاجزة عن الصوم فإنها تنتقل إلى الإطعام عن كل يوم، مع الندم والاستغفار والتوبة، والله تعالى أعلم.
جواز الرد على الخطيب عند خطئه في الآية
السؤال إذا أخطأ الإمام في الآية مثلا في خطبة الجمعة هل يرد عليه أم لا؟
الجواب الصحيح أنه إذا أخطأ في الآية فإنه يرد عليه ويفتح عليه؛ لأن كتاب الله عز وجل تجب صيانته عن الخطأ، وهذا جائز في الصلاة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه في آية، ثم لما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ما منعك أن تفتح علي آنفا؟) فدل على عظمة كتاب الله عز وجل، وعظيم حقه أنه يصان من الخطأ، ومن اللحن، ومن القصور الذي يكون من بني آدم، المبني على الجهل والإساءة كما قال تعالى: {إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] فلا ينبغي التساهل في كلام الله عز وجل، بل ينبغي الرد عليه وتنبيهه على الخطأ والفتح عليه، فإذا كان هذا في الصلاة فمن باب أولى في خطبة الجمعة، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الليل جماعة في غير رمضان
السؤال أسكن ومعي زميلي في بيت وأصلي صلاة الليل فهل يجوز أن نصلي جميعا ونوتر مع بعضنا، أثابكم الله؟
الجواب يجوز اتفاقا لا قصدا، فإذا قمت تصلي بالليل وجاء أخوك وصلى معك فلا بأس، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، لكن أن يكون بالترتيب والقصد كأن تقول له: إذا صارت الساعة الثانية أقوم وتقوم معي، أو إذا صارت الساعة الواحدة من الليل فلا؛ لأن الأصل أن القيام المرتب لا يكون إلا في التراويح، وقيام رمضان خاصة، وأما في بقية السنة فإنها عبادة خفية قصد منها الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل، ولا تكونوا جماعة إلا في الوارد، والله تعالى أعلم.
كيفية تشميت من عطس أكثر من ثلاث مرات
السؤال إذا عطس الإنسان مرات عديدة خارج الصلاة هل يشرع تشميته في كل مرة يحمد فيها الله، أثابكم الله؟
الجواب نعم يشرع إذا عطس وكرر العطاس ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عطس الرجل رد عليه، ثم عطس الثانية فرد عليه، ثم عطس الثالثة فقال: إنه مصاب) فمن أهل العلم من قال: لا يرد عليه؛ لأنه مريض، وإنما يدعى له بالشفاء، فانتقل من العطاس المألوف المأمور بتشميته إلى الدعاء له بالشفاء، ومن أهل العلم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه مريضا، فبقي الأصل على ما هو عليه وهو تشميت العاطس، ولم يسقط هذا الأصل صلوات الله وسلامه عليه فهذا وصف حال.
وعلى كل حال إذا شمته فهذا أفضل، فهو إذا قال: الحمد لله فعليك أن تشمته، أما إذا عطس وسكت فهذا منه، وبعض العلماء يقول: إنه إذا كانت الثالثة والرابعة وكان مريضا فلا يقول: الحمد لله؛ لأنه أصبح مريضا والأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، لكن كل هذه اجتهادات وآراء، هذا الأصل عطس رجل عند رجل فشمته، ثم عطس الثانية فشمته، ثم عطس الثالثة فقال: يرحمك الله مائة، فعطس الرابعة فقال: اللهم من عندك، يعني أصبحت المائة دين كلما عطس قال: اللهم من عندك، هو لو نظر اللهم من عندك، أخف من أن يقول له: يرحمك الله، نسأل الله السلامة والعافية من الحرمان! هذا دعاء بخير وفيه أجر لك ولمن تدعو له، فلا يبخل الإنسان بهذا.
كم هي سعادة للمسلم أن يلهج لسانه بذكر الله عز وجل؟! هذا اللسان الذي تجده يتحدث في أمور الدنيا فلا يكل ولا يتعب، ويجلس الرجل مع ضيفه وصاحبه وحبه، يسأله عن ثوبه ومأكله وملبسه ومخبزه وبيته وعن كل صغيرة وكبيرة ولا يكل ولا يمل، ولكن لما يريد أن يكرر يرحمك الله أربع مرات خمس مرات تجد السآمة والملل، وهذا حال الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- في تقصيره في حق الله عز وجل، ولكن للآخرة أهلها، فيا حبذا المسلم أن يكون متلذذا بذكر الله عز وجل حريصا على هذا الخير، يشمت العاطس، فكلما قال: الحمد لله تشمته، فهو من ذكر الله سبحانه وتعالى، قال بعض العلماء: إلا إذا كان هناك ما يشغل، مثل: أن يكون هناك ما هو أشرف كاشتغالك بقراءة القرآن، أو اشتغالك بعلم، أو اشتغالك بشيء أوجب وأوكد، حينئذ لا مانع أن تأخذ بالسنة، وهي أن يشمت ثلاث تشميتات، ثم بعد ذلك يكون الإنسان في العفو، والله تعالى أعلم.
نصيحة عامة لمن يتكرر منه الذنب بعد التوبة منه
السؤال عندي ذنب كلما تبت منه رجعت إليه، وأدعو الله أن يبعدني عنه، ولكن كلما أردت الاستقامة لم أثبت على ذلك بم تنصحني، أثابكم الله؟
الجواب إذا كان المستقيم هو السالم من الذنب فإنا لله وإنا إليه راجعون! يعني: إذا كان المستقيم هو الذي لا ذنب له البتة فحينئذ الله المستعان، من هو هذا الذي لا ذنب له، ولا خطأ عنده؟! إن الله تعالى يقول: {إن الله يحب التوابين} [البقرة:222] ووصفهم بأنهم توابون، والتواب فعال، أي: كثير التوبة وما كثرت التوبة إلا من كثرة الذنوب.
أخي في الله! لا يتسلط الشيطان على قلبك، ولا يحولن بينك وبين ربك، فالله جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو سبحانه الحليم الرحيم، هل رأيته دفع تائبا عن بابه؟ هل رأيته خيب تائبا في رجائه؟ هل رأيته قطع تائبا من محبته وإنابته إلى ربه؟ كلا والله بل إنه فرح بتوبته وشمله بعفوه وحلمه ومنه وكرمه ورحمته.
أخي في الله! تب إلى الله، واقهر عدوك إبليس بالإنابة إلى الله ولو (مليون) مرة تكرر التوبة، صادقا منيبا إلى ربك، ولا تبال إن قال لك: أنت منافق، أنت كذاب، أنت غشاش، تبت المرة الأولى، تبت المرة الثانية ثم ترجع، ثم تبت المرة الثالثة، إذا كان الشخص يقع في الذنب وبعد فعله للذنب يكره هذا الذنب ويمقته في جنب الله، ويعقد العزم في قرارة قلبه على كراهته وعدم الرجوع إليه، فإنه مبشر بخير وهو التوبة من الله، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} [الفرقان:71] .
والله سبحانه يقول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر:53] فقوله: (قل يا عبادي) لأنه علم سبحانه أنه لا رب لنا سواه، ولا أمل ولا رجاء لنا في أحد عداه، فأخي في الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، ولا تقولن: تبت مائة مرة، أو ألف مرة.
ثم هنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أن الشيطان عليه لعائن الله تترى إلى يوم الدين، قعد للإنسان بالرصد وأعظم شيء يحرص عليه الشيطان قطع العبد عن ربه، وبالأخص إذا كان خيرا صالحا، فإنه يأتيه بالذنب ويحول بينه وبين الله، فيقول له تارة: لو كنت من الصالحين ما أوقعك الله في الذنب، ولو كنت صالحا بحق ما أوقعك في الزلة، قاتله الله عدو الله! أنى يؤفك وأنى يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل إن الله يبتلي ويمتحن ويختبر إذا كان التائب موحدا لربه؛ لأنه إذا قال: رب اغفر لي فقد علم أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب.
وينادي الله في ملائكته: (يا ملائكتي! علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي) .
فإذا كان الإنسان في هذه الصورة من الفتنة جعله يعود إلى الذنب المرة تلو المرة، ثم يقول له: أنت لا تصلح أن تكون مع الأخيار، اترك الأخيار واترك الملتزمين، واترك الصالحين, ولا تجلس معهم، لا تدنس مجالسهم، يعني: وكأن إبليس ما شاء الله! غيور على الصالحين، ومحب للصالحين.
وضع السم في العسل؛ لأنه يعلم أنه متى ابتعد عن الصالحين تخطفته الشياطين، فأعرض عن سبيل رب العالمين، فكانت الهلكة والضلال المبين نسأل الله السلامة والعافية! فيأتيه من هذا الباب.
ثم هناك صنف ثالث: إذا أذنب الواحد منهم المرة والمرتين والثلاث والأربع يأتيه بنوع من الانشراح يخلي بينه وبين الطاعة؛ لأنه يعلم أن المعصية قد استحكمت في قلبه، وأن قرناء السوء حوله، فتراه يتركه اليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين في نوع من الانشراح، ويكف عدو الله عنه حتى يأمن ويطمئن ويقول له: افعل عهدا على أنك لا تعود، واجعل عليك المواثيق بينك وبين الله أنك ما تعود، فهذا المسكين من حبه لربه، وحبه للطاعة يأتي بالعهود المغلظة ثم لا يلبث في اليوم الثاني أن يتسلط عليه عدو الله، فينهزم وينكسر وعندها يريد أن يسلخه من دينه بالكلية والعياذ بالله! فيقول له: أنت فعلت هذا فإذا لا عودة ولا رجعة، وهذا كله من الأباطيل، ومن الإرجاف من عدو الله.
ولذلك على المؤمن أن يعلم أن ربه هو الحليم الرحيم الغفور الذي يفرح بتوبته، ويشمله بعفوه وحلمه ورحمته، والذي وسعت رحمته كل شيء سبحانه وتعالى.
أخي في الله! لو تبت (ملايين) المرات، فكل مرة تتوب فيها فاعلم أن الله يعوضك خيرا مما فقدت، وكل ذنب تقع فيه فقف بعد ذنبك منكسرا إلى ربك، وقل يا رب! أسأت وأخطأت، منك الخير ومني الشر، منك الإحسان ومني الإساءة، تب علي يا خير التوابين! تب علي وارحمني وأنت أرحم الراحمين! واسأل الله عز وجل أن يجبر كسرك في دينك، فكم من شخص يقع في الذنب فيقول صادقا من قلبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي هذه واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وخلف له خيرا منها، وصفع الشيطان على وجهه، واندحر عدو الله مغاظا مهانا ذليلا، هكذا يكون ولي الله المؤمن.
ثم قضية الرجوع إلى الذنب ففي بعض الأحيان -والعياذ بالله- قد يبتلى الإنسان بالذنب تلو الذنب، قد يكون سببها غيبة الصالحين، وقد يكون سببها أذية أولياء الله المتقين؛ لأن أعظم شر ينزل على الإنسان عداوته لله أو لرسوله أو للصالحين من عباده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في صحيح البخاري وغيره يقول الله تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، لما يشتكي الشخص من كثرة الرجوع إلى الذنب يقول له: تفقد نفسك، لابد وأنك عاديت وليا من أولياء الله.
مثال ذلك: أن الشخص يأتي ويحضر الجمعة ثم يخرج من الجمعة ويقول: والله الخطيب أطال الخطبة، والله عندنا إمام مسجد يطيل بنا.
فيغتاب عبدا صالحا، وهذا العبد الصالح في كل ليلة يناجي ربه ويقول: اجعل ثأرنا على من ظلمنا، فهذا الذي اغتابه ظلمه بغيبته فلا يأمن أن ينكب، ولذلك ينبغي الحذر من التعامل مع الصالحين والأخيار؛ لأن القرب منهم خير، لكنه سلاح ذو حدين لمن لم يحفظ حرمتهم، وكنا نجد أناسا يجلسون في مجالس العلم يكثرون الاعتراض، ويكثرون الأذية للعلماء ولإخوانهم من طلاب العلم، فما وجدناهم سلكوا سبيلا -نسأل الله السلامة والعافية- في الطاعة، وغالبا ما تأتي نهايتهم سيئة، وغالبا ما يحرمون، حتى إن الواحد منهم يأتي ويشتكي ويقول: قسا قلبي، كنت على حال طيبة ثم أصبحت في حال سيئة، يعني كان الإنسان على حال صالحة حينما كان يحفظ الحقوق والذمم.
كذلك أيضا مما يبتلى الإنسان به الوقوع في الفتن بسبب أذية أولياء الله، والله تعالى يقول في الذين سبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بهم وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يكثرون عند الطمع، ويقلون عند الفزع، وفي بعض الألفاظ يجبنون عند اللقاء، فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة:65] انظروا كيف جعل الاستهزاء بالقراء استهزاء بالله والرسول؛ لأنه جاء من جهة الدين.
فكل شخص ينتسب لهذا الدين من داعية وعالم وخطيب وإمام يجب أن تحذر في التعامل معه؛ لأنه ولي لله تعالى قائم بحقه، ولما تستهزئ به من خلال أدائه لرسالته وأمانته التي يحبها الله عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله} [فصلت:33] هذا الذي أثنى عليه ربه من فوق سبع سماوات، فقال الله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا} [التوبة:65 - 66] حتى لم يقبل منهم المعذرة وقال: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:66] لأن الأمر نشأ من الاستخفاف بالدين والاحتقار للصالحين، فقد يجلس الشخص يلمز جماعة وقد يلمز منهجا لإخوان عندهم بعض الأخطاء، ثم يأتي يتهكم بهم، ويسخر بهم، ويستهزئ بأمور قد تكون من أمور الطاعة في شأنهم، فهنا تأتي الفتنة والعياذ بالله.
قال تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة:66] فجعل - والعياذ بالله- هذا البلاء والفتنة بسبب التعرض لأولياء الله عز وجل، وكانوا يقولون: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله! وقل أن تأتيه حسن خاتمة، وقل أن يتولاه الله برحمته، وهذا معروف في بعض أهل البدع نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود من هذا الحذر حتى لا يقع في الفتنة، ولذلك تجد شخصا يتوب توبة صادقة، ومع ذلك يبتلى بالوقوع في الذنب مرة ثانية، بمعنى: أن هناك أمرا بينه وبين الله عز وجل، فليقل بصادق من قلبه: اللهم! إني أستغفرك من ذنب أوقعني في هذا البلاء، اللهم أدركني برحمتك، ونحو ذلك من الدعاء الصادق.
كذلك أيضا مما يوجب الوقوع في الفتن تلو الفتن، والمعاصي تلو المعاصي، عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ولذلك قال الله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية! فالعقوبة التي جلت بهم الصمم وعمى البصيرة مع اللعنة، وكل هذا جاء بسبب قطيعة الرحم، فما بالكم بعقوق الوالدين! وهو أعظم من قطيعة الرحم! الرجل يستهزئ بأمه فيكون عاقا، ويستهزئ بأبيه فيكون عاقا، ويرفع صوته في وجه أبيه كاشحا له في وجهه فيكون عاقا، ولربما والعياذ بالله يلمز أباه في وجهه فيكون عاقا، وتبقى جرحا في قلب الأب إلى أن يموت، فيكون عاقا والعياذ بالله! كلما تذكر الأب آلامها وأحزانها تجدد البلاء على من قالها.
إذا على الإنسان أن يحذر في التعامل مع الناس: إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمو
بيان فضيلة الجماعة الأولى والفرق بينها وبين الثانية
السؤال بعض الناس يتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد ويقيمون جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى فهل يكون أجر هذه الجماعة مساويا لأجر الجماعة الأولى، أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل: الجماعة الأولى من حيث الأصل أفضل، وقد حصلت فضيلة أول الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها وما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها) الثواني بين الجماعة والجماعة خير من الدنيا وما فيها، يصلي أهل المسجد الأول في الوقت ويصلي أهل المسجد الثاني بعده ويكون الفرق بينهما يسيرا وبينهما كما بين السماء والأرض، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) يعني: على أول وقتها، فهذا أفضل الأعمال وأحب إلى الله، فالجماعة الأولى أفضل وأعظم وأزكى أجرا عند الله عز وجل.
ومن هنا كان من الخطأ قول أهل الرأي -وبعض المتأخرين اختار هذا القول-: إن الشخص إذا أتى والجماعة في التشهد فيظل واقفا حتى تأتي جماعة ثانية، نقول: أولا: دخولك مع الجماعة الأولى إدراك لفضيلة أول الوقت، وحينئذ تدرك فضيلتها، ثم بعد ذلك إذا كان بجوارك شخص فتتمان جماعة، وتحصلان على الفضيلة وإن لم تحصلا على الحكم، فهذا أمر يغفل عنه الكثير، ومن هنا ينبغي الحرص على الجماعة الأولى.
ثانيا: الجماعة الثانية تكون أقل من جهة العدد، فإن الجماعة الأولى في الغالب هي أكثر عددا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذه الفضيلة الثانية: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى) فالجماعة الأولى أزكى من هذا الوجه ومن حيث إدراك فضيلة أول الوقت.
كذلك أيضا ينبغي أن ننبه على أمر وهو: قدم الإنسان في الطاعة، فإن إمام المسجد في محافظته على الإمامة أكثر خيرا ممن هو دونه، والصلاة وراء الإمام الراتب المداوم على إمامة الناس والصلاة بهم ومعونتهم على الخير، أفضل من الصلاة وراء شخص لا يلي الإمام إلا في الأحوال الطارئة، وهذا هو الراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان فاعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان كحجة معي) فجعل للفضل مزية في الطاعة، ومن هنا قالوا بأفضلية القدم، وكانوا يفضلون في الأئمة من يكون الأخشع، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقدمهم سلما) يعني: أقدمهم إسلاما، فهذه كلها من الفضائل، فالإمام الراتب هذا أكثر فضلا وأكثر طاعة وأحض، خاصة إذا كان لا ينسى المأمومين، ويأخذ بالسنة في دعائه له ولمن وراءه، فإن بعض الأئمة يكون حريصا على الدعاء بالخير للمأمومين، فيسأل الله لهم الطاعة والخير والبر، ويكون فيهم حفظة لكتاب الله عز وجل، قائمون بحقوق الله، داعون إلى الله، فالصلاة وراء هؤلاء المتمسكين بالسنة، المتمسكين بطاعة الله عز وجل، لا شك أنها أفضل وأعظم وأقرب وأحظى منزلة، والله تعالى أعلم.
حكم رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه والجسم بعده
السؤال ما حكم رفع اليدين في التأمين، وكذا مسح الجسم بعد الفراغ من التأمين أثابكم الله؟
الجواب السؤال عام: من حيث الأصل المؤمن داع، قال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} [يونس:89] وكان هارون مؤمنا ولم يكن داعيا، ومن هنا نص العلماء على أن المؤمن داع؛ لأنه يقول: آمين.
ومعنى: آمين، اللهم! استجب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه رفع كفيه في الدعاء، وجاء عنه في ذلك أكثر من خمسين حديثا، ما بين صحيح وحسن وضعيف، مما يقبل بعضه الانجبار، فهذه السنة محفوظة ما فيها إشكال، حتى في الصحيحين عليه الصلاة والسلام أنه ذكر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء) يقول العلماء: إن هذا الحديث فيه ثلاث خصال من أسباب إجابة الدعاء، أولا: أشعث أغبر، وقد قال في الحديث الآخر: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) لأن الدنيا ولت عنه، فدفعه أهل الدنيا وأهانوه، ولكن الله لم يدفعه ولم يهنه، بل فتح له أبواب رحمته، فلم يجمع له بين هم آخرته ودنياه، بل عوضه عن دنياه بأحسن الثواب وأتمه وأكمله، فلو أقسم على الله لأبره واستجاب دعاءه.
ثانيا: قوله عليه الصلاة والسلام: (يطيل السفر) فالمسافر مستجاب الدعاء، وإذا كان سفره أبعد فإن الاستجابة أحرى، كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله ونقله عن الأئمة.
ثالثا: يمد يديه إلى السماء، وقد قال في الحديث الذي حسنه غير واحد من العلماء: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أنه رفع كفيه ودعا، إلا في بعض العبادات التوقيفية مثل: الصلاة، فلا يرفع فيها الكف إلا في المواضع التي شرع فيها رفع الكف، مثل: القنوت.
وذكر الحافظ ابن الملقن وحسن إسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رفع يديه لما قنت عليه الصلاة والسلام) ، ونص الأئمة على أنه يشرع للمأمومين أن يرفعوا أيديهم تأمينا لدعاء الإمام في القنوت، فهذا الرفع ما فيه بأس.
وأما مسح الجسد والوجه فهناك تفصيل: مسح الوجه فيه حديث عمر، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: أن له طرقا يقوي بعضها بعضا، مما يشهد أن للحديث أصلا، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) وهذا الحديث أصل في مشروعية مسح الوجه، وذكر الإمام الصنعاني رحمه الله في السبل وغيره: أن هذا من باب الفأل، كأنه من ثقته بالله وكمال توحيده وصدق ظنه في الله أصابته الرحمة، وأخذ حاجته من ربه، فكان أفضل وأشرف شيء ما عفره بالسجود لله وهو أن يمسح وجهه، هذا إذا صح الحديث، ومن العلماء والأئمة من ذكر: أن المسح للوجه يشرع في الدعاء، فلا ينكر على من فعله، لأن له أصلا وإن توقف الإنسان متحريا للسنة فلا بأس.
وأما بالنسبة لمسح الجسم كله فلا؛ لأنه لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسحه، وإذا كان في مسح الوجه إشكال فكيف بمسح الجسم كله؟! ولذلك إن كان ولابد ماسحا فإنه يقتصر على مسح الوجه، والله تعالى أعلم.
المرأة المسلمة والدعوة إلى الله
السؤال ما هو واجب المرأة المسلمة تجاه أخواتها من الأقارب والجيران في الدعوة إلى الله؟ وما هي الوسائل المعينة على ذلك؟ وهل المرأة مأجورة على دعوتها لأهلها وأقاربها، حتى وإن رفضوا وأعرضوا، أثابكم الله؟
الجواب في الحقيقة الكلام على دعوة المرأة أمر يحتاج إلى تفصيل، ويحتاج إلى تأصيل، ويحتاج إلى شرح وبيان؛ لأنه كلما عظم الشيء وجلت مرتبته ومنزلته عند الله عز وجل، كان أحق أن يوفى حقه، ولكن هناك أمور: فالمرأة الصالحة إذا أراد الله بها خيرا حبب الدين إليها، فشرح صدرها، وطمأن قلبها بذكر الله عز وجل، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها، وأن يعلي منزلتها، ألهمها طلب العلم، وألهمها أن تتبصر في أمور دينها، فتحب العلم، وتحب سماع العلم ومذاكرة العلم، فتتفقه في أمور دينها، وتعرف حلال ربها وحرامه، وشرعه ونظامه.
وتعلم كذلك ما يجب عليها فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى، من تصحيح عقيدتها، وسلامة إيمانها والتعرف على حقوق ربها، من الإخلاص وابتغاء ما عنده سبحانه وتعالى، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها أكثر هيأها إلى العمل بهذا العلم الذي تعلمته، فتجد المرأة الصالحة تبحث عن الخير، فإذا وجدته تعلمته وعلمته، ثم إذا تعلمت ذلك العلم حرصت على التطبيق والعمل، فإذا أراد الله أن يزيدها علوا في الدرجة وعظما في الأجر، شرح صدرها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحت آمرة بأمر الله، ناهية عما نهى الله عنه، تقول بقول الله، وتنهى بنهي الله، وعندها تنال الحكمة التي لا يعطاها ولا يؤتاها إلا من أراد الله له الخير الكثير: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة:269] وكثيرا من الله ليست بالهينة.
والحكمة المراد بها هنا علم القرآن والسنة؛ لأن الله أحكم بهما الأمور، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود:1] فالدين المستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محكم في ذاته، أحكمت آياته وأحكمت شريعته، فهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، وهو محكم في بيانه، ومحكم في تفصيله، {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] .
فتؤتى المرأة الحكمة، والنساء هن شقائق الرجال، فإذا أصبحت المسلمة حريصة بدأت أول ما تبدأ بفلذات كبدها، وأهل بيتها، فأمرت بطاعة ربها، بين بناتها وأبنائها، وكانت خير قدوة لهم، فكم من أبناء نشئوا على الخير والطاعة والبر حينما تربوا في أحضان أم صالحة، وكم من بنات نشأن على الخير والبر حينما كانت تتلقفهن الأيدي الأمينة، من تلك الأم التي تخاف الله عز وجل في أمانتها ورسالتها، فتبدأ بأولادها والذكور والإناث، فإذا أراد الله عز وجل أن يعلي لها الدرجة جعلها داعية في قرابتها.
فلا تجلس مجلسا إلا كانت مباركة على ذلك المجلس، كما قال الله عن نبيه يحيى عليه السلام: {وجعلني مباركا أين ما كنت ?وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم:31] فحملة العلم ودعاة العلم مباركون أينما كانوا، ما داموا يعلمون العلم وينشرون العلم، ويقولون بالحق وبه يعدلون، فالمرأة الصالحة إذا قالت بالخير ودعت إلى الخير كانت مباركة.
أما واجبها تجاه مجتمعها فإنها تأمر بما أمر الله عز وجل به، وتنهى عما نهى عنه بالموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والنصيحة الهادفة، وتأخذ بمجامع قلوب بنات المسلمين، وتحرص على أن تحببهن في الخير، وتؤلفهن في الخير، ما تكون فظة، ولا تكون غليظة، ولا تكون منفرة، وإنما تكون ميسرة لا معسرة، مبشرة لا منفرة، إذا جاءت المجلس وتكلمت كان كلامها كالغيث لتلك القلوب العطشى الظمأى التي تنتظر ماء الوحي أن يحيي مواتها بإذن الله عز وجل، فتتكلم ذلك الكلام الهادف، الكلام المختصر المفيد الجيد، وعلى كل امرأة أرادت أن تسير في هذا المسير أن تكون على بصيرة.
فالذي ينبغي أن يحذر منه الرجال والنساء في مسألة الدعوة: الحذر من فتنة الدعوة، فإن للدعوة فتنة، قل أن ينتبه لها من يتحمل مسئوليتها، وهي فتنة الغرور بالنفس، فالمرأة والرجل والداعي والداعية، يبدأ الواحد منهم في الوعظ والرقائق، ثم يفتي في المسألة الواضحة، ثم لا يلبث أن يجر إلى الفتاوى الكبرى، التي لو عرضت على أئمة السلف لجثا الواحد منهم على قدميه خوفا من الله عز وجل، ومع ذلك تجده من أجرأ الناس فيها، وهذا هو سبيل الردى؛ لأن الشيطان إذا يئس من الشر أخذ -والعياذ بالله- المفتون من جهة الخير، فعلى المرأة الحذر من هذه الفتاوى العجيبة التي يطلقها بعض النساء في الدعوة.
والعجب والأعجب من هذه الفتنة أن بعض النساء يغرر بهن، يقال لهن: من قال لكن: إن الدعوة خاصة بالرجال، ومن قال لكن: إنه لابد أن نحضر عند الرجال وعند المشايخ، ينبغي أن يكون عندنا مشايخ أيضا من النساء، ونحن شقائق الرجال، والمرأة مثل الرجل، وغيرها من الدعوات والنعرات التي تخالف شرع الله عز وجل، من الغلو في أمر المرأة.
أقول: لا حرج أن يكون هناك داعيات من النساء، لكن أن تغتر هؤلاء الداعيات، وتصبح الواحدة منهن متصدرة لكي تفتي في الحلال والحرام، يقولون: ما وجدنا شيخا إذا هذه هي التي تفتي، وهي التي تعلم، وهي التي تجتهد، وهي التي تقعد وتؤصل، هذا هو الغلو الذي ينبغي الحذر منه.
وما هو موجود في النساء موجود في الرجال أيضا، ولذلك تجد أناسا يتصدرون للدعوة بالوعظ، وما عرفوا إلا بالخطابة وترقيق القلوب، وفجأة أصبحوا يتكلمون في الأحكام، وفجأة أصبحوا يفتون، وفجأة أصبحت لهم أقوال، حتى إذا نزلت النازلة بحث عن رأيهم في المسألة، الله الله! رحم الله امرأ عرف قدر نفسه! ورد الأمر إلى أهله، وأنزل نفسه منزلتها اللائقة بها، فإذا كان واعظا وقف عند وعظه، وزم نفسه بزمام التقوى، وجلس في مجالس العلم يتعلم ويضبط العلم حتى يصل إلى الدرجة التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، ولا يغشن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
من الغش أن يأتي الإنسان ويتصدر وليس عنده علم، ولم يأذن له العلماء بالفتوى، ولم يأذن له العلماء ببيان الأحكام، وهل تشتت الأمة وتفرقت إلا حينما لمع أقوام لا حظ لهم في العلم، فأصبحوا يفتون، وأصبحوا يقعدون ويؤصلون، حتى شوشوا على أئمة العلم والهدى، فأصبح منار الحق ملبسا عليه بفتاوى عجيبة غريبة قل أن تجد الناس تصل إلى عالم يوثق بدينه وعلمه من كثرة من يفتي، فتجد الفتوى على لسان كل أحد، والأعجب من هذا أنك تجد مثل هذا في الرجال والنساء على حد سواء، فالمرأة تقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، والرجل يقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، متى كان الرأي حكما في دين الله وشرعه؟ متى كان الرأي يفتى به في الحلال والحرام؟ والله عز وجل يقول: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23] فالذي يريد الهدى من ربه، فليتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمرأة الداعية تزم نفسها بزمام التقوى، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه قالت: الله أعلم، أو قامت بسؤال العلماء ونقل المسألة إلى العلماء، لكي يفتوها ويعلموها ويرشدوها ويدلوها، كي تدل أخواتها على الخير، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله علمه، ومن اتقى الله فهمه، ومن اتقى الله جعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وجعل له نورا يمشي به، وصراطا يهتدي به إلى لقاء ربه، حتى يلقى الله غير مبدل ولا مفتون ولا مفتون به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا لهذه النعمة الكريمة، وفي الختام تعلمون ما أصاب إخوانكم في فلسطين وهم أشد ما يكونون حاجة إليكم بعد الله عز وجل، وللمسلم على أخيه المسلم حقوق ينبغي عليه أن يحفظها ولا يضيعها، والمسلم إذا أصابته النكبة فينبغي على أخيه المسلم أن يقف معه، وأن يناصره ويؤازره بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وأقل ما يكون -وليس بالقليل- كثرة الدعاء لهم، والابتهال لله سبحانه وتعالى، فكم من كف صادقة من قلب صادق كبت الله بها عدوه! وكم من كف صادقة من رجل مؤمن صادق مع الله عز وجل رفع الله دعوته! وأعلى بها منزلته! فكونوا صادقين في الدعاء لإخوانكم، وتذكروا ما يعانونه من الظلم ومن الاضطهاد، ومن الأذية والبلاء مما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، فاجتهدوا في الدعاء لهم ومناصرتهم ومؤازرتهم بالماديات والمعنويات على قدر الاستطاعة، وتذكير المسلمين بذلك.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا في فلسطين، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! أصلح أحوالهم، اللهم! نور قلوبهم، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! اجمع شملهم، اللهم! وحد صفوفهم، اللهم! سدد آراءهم، اللهم! صوب آراءهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم! عليك باليهود فإنهم طغوا وضلوا، وأشركوا وأفسدوا وأرجفوا، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يسمع الدعاء ويكشف البلاء فاطر الأرض والسماء، اللهم! إنا نستغيث بك لا إله إلا أنت لإخواننا، اللهم! عليك باليهود ومن شايعهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! فرق جمعهم، أنزل بهم لعنتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجسك ولعنتك إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اجعل أمرهم إلى سفال، وعاقبتهم إلى خزي ووبال، يا ذا العزة والجلال! يا كبير يا متعال! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت نسألك بعزتك وق




ابوالوليد المسلم 23-10-2025 03:53 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (510)

صـــــ(1) إلى صــ(35)



شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [1]
إن من رحمة الله بعباده أن فرض على العاقلة التي هي عصبة الإنسان وقرابته أن تتحمل الدية عنه في قتل الخطأ، ولقد كانت العاقلة موجودة في الجاهلية، وأقرها الإسلام؛ لما فيها من الألفة والتكاتف والترابط والمحبة بين الأقرباء بعضهم بعضا.
وللعاقلة ثلاث جهات: جهة النسب، وجهة الولاء، وجهة الحلف.
وللعاقلة أحكام كثيرة منها: الاكتفاء بالأقربين حال الغنى واليسار، وعدم وجوب العقل على غير المكلف ولا الرقيق ولا المرأة، ولا مع اختلاف الملة وغير ذلك من الأحكام.
حقيقة العاقلة وما يجب عليها وجهاتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
فقال رحمه الله تعالى: [باب العاقلة وما تحمله] العاقلة من العقل، والعقل في لغة العرب: الحبس والمنع، يقال: عقل البعير إذا ربطه ومنعه من السير، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، بمعنى: يمنعه عما لا يليق من سفاسف الأمور، والمراد بالعاقلة هنا في اللغة والاصطلاح شيء واحد: وهو العصبة، والعصبة سميت عصبة من العصابة، والمراد بهم قرابة الإنسان المتعصبون بأنفسهم، كإخوانه وبني إخوانه من جهة الأشقاء أو لأب، وكذلك أيضا بنو العمومة كأعمامه وبني أعمامه وبني بني أعمامه وإن نزلوا من جهة الأب والأشقاء، هؤلاء كلهم قرابة الإنسان، يوصفون بكونهم عصبة كما تقدم معنا في العبادات والمعاملات أكثر من مرة، وصفوا بذلك لأنهم كالعصابة تحيط بالرأس وهم يحيطون بالقريب، فإذا نزلت به نازلة أو ألمت به مصيبة -لا قدر الله- فهم الذين يتعصبون له ويحيطون به، هؤلاء يوصفون بكونهم عاقلة؛ لأنهم يعقلون قريبهم، بمعنى: يحيطون به فيمنعونه من الأعداء إذا أرادوه بسوء؛ ولأنهم إذا وجدت الدية أخذوا الإبل فعقلوها عند باب المجني عليه؛ لأنهم هم القرابة الذين يذهبون؛ ولأنهم يعقلون بمعنى: يتحملون الدية، يقال: عقلت الدية أي: تحملتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا عاقله) يعني: دافع ديته، فهذه كلها أوجه في سبب تسميه العاقلة بهذا الاسم.
المراد بالعاقلة: تشريع إسلامي كان موجودا في الجاهلية، حيث كانوا في الجاهلية تتحمل قرابة الإنسان الدية وتدفعها عن قريبهم، وأقر الإسلام هذا العمل الذي كان موجودا في الجاهلية، وهذبه وقومه، وجاءت شروط شرعية أحق الله بها الحق وأبطل بها الباطل، وبناء على ذلك لو أن شخصا أخطأ فقتل شخصا خطأ ووجبت عليه الدية، فقرابته وعصبته يدفعون هذه الدية ويتحملونها عنه، وهكذا لو أنه صدم شخصا بسيارته خطأ فوجبت عليه نصف الدية، فقرابته هؤلاء من العصبة يدفعون نصف الدية، فهم يتحملون عنه هذه الحمالة، وهذا قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قضى بالدية على عاقلة المرأة من هذيل، وذلك حينما اختصمت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فقضى عليه الصلاة والسلام بديتها على عاقلتها.


الجهة الأولى: جهة الحلف

في قصة قتيل هذيل الذي قتلته خزاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تحمله من باب الحلف؛ لأنه بين أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخزاعة حلفا في الجاهلية، وخزاعة أحلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، ولذلك كما تعلمون في صلح الحديبية أن من أسباب نقض هذا الصلح من قريش إغارة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة، حتى قال قائل خزاعة: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فناشده بالحلف الذي كان موجودا واستمر وبقي بعد الإسلام، ويدل هذا على مشروعية العاقلة بالأحلاف بين القبائل، فإذا وقع الحلف بين القبيلة والقبيلة على المناصرة والمؤازرة والتحمل، فإن هذا له أصل في الإسلام، ومحمول على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أبقى حلف آبائه وأجداده مع خزاعة، مع أنه حلف مع القبيلة، فإذا وقعت المناصرة بين قبيلة وقبيلة وبينهم حلف، فإن هذا الحلف تجب به المناصرة، وتتحمل به القبيلة عن القبيلة الأخرى إذا حصلت دماء، وحصلت ديات كثيرة لم تستطع القبيلة الأولى أن تتحملها، فإنها تنتقل إلى القبيلة الثانية بالحلف.
والعاقلة في الأصل كما سيبين المصنف رحمه الله: من جهة النسب ومن جهة الولاء، ويلتحق بذلك حلف القبائل -كما ذكرنا- لثبوت السنة به، وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء:33] على أن المراد به التعاقد باليمين، والحلف على النصرة بين القبائل بعضها مع بعض، وأما إذا انتقل شخص من قبيلته إلى قبيلة أخرى؛ بسبب دم أو فرار من حق فهذا لا حلف فيه على قول طائفة من العلماء، ولا يحصل به العقل، كما قرره غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وبينوا: أن المراد به الأحلاف الظاهرة، والحلف إذا كان على الوجه الذي ذكرناه، وكان على أمور شرعية لا جاهلية فيها فإنه مشروع؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت) وهذا الحلف: هو حلف الفضول، وحلف الفضول وقع في دار عبد الله بن جدعان في أنهم يناصرون المظلوم، ويعينون المحروم، وأنهم يعينون الحاج والمنقطع، ونحو ذلك من الأمور التي لا تخالف شرع الله عز وجل.
قوله: (باب العاقلة وما تحمله) هذا الباب في الحقيقة هو من عدل الله عز وجل، وهو باب عظيم، عدلت فيه الشريعة بين الناس، وجعلت العقل على قرابة الإنسان؛ لأن الذي يرث الإنسان هم قرابته، فكما أنهم يأخذون الإرث ويغنمون، كذلك يتحملون الخسارة، ومن يعترض على الإسلام أنه أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين أخطأ في فهم الإسلام؛ لأن الإسلام في الأصل جعل الذكر يتحمل ويعقل ويغرم، وفي النفقة يتحمل النفقة والأنثى لا تتحمل هذه التبعات، ولذلك في نظام العاقلة في الإسلام لا تتحمل الأنثى، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ لأن العقل للقرابة بالنسبة للعصبة المتعصبين بأنفسهم، وهذا من أقوى الأمور التي تدمغ بها هذه الشبهات.
والإسلام ربط بين الغنم والغرم، والقاعدة تقول: إن الغرم بالغنم والغنم بالغرم، وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن: (الخراج بالضمان) .
فالمصنف في هذا الموضع سيذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقل الديات.

الجهة الثانية: جهة العصبة من النسب

قال رحمه الله: [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب] قوله: (عاقلة الإنسان عصبته كلهم) أي: أن عاقلة الإنسان إذا جنى جناية هم عصبته، لو أنه قاد سيارة ودهس شخصا، أو كان معه في السيارة أربعة أشخاص وماتوا، وكان متسببا في موتهم، فعليه أربع ديات، من الذين يتحملون هذه الديات؟ هم العاقلة، وهم عصبته كلهم، العصبة هي الأقرب فالأقرب.
وعصبة الإنسان هم عمود النسب: أولا: آباؤه وإن علوا، أبيه وأبو أبوه الذي هو جده من جهة الذكور متمحضا بالذكور دون الإناث.
ثانيا: أولاده الذكور وفروعه من الذكور: أبناؤه وأبناء أبنائه وإن نزلوا، فالإناث لا يدخلون في هذا التعصيب.
ثالثا: فروع أبيه كإخوانه الأشقاء، ومن شاركه في والده وهم الأخوة لأب دون الأم، فالأخ لأم ليس من العصبة ولا يتحمل.
ثم رابعا: ننظر إلى من شاركه في جده الذين هو أصل أبيه، وهم أعمامه الأشقاء، وأعمامه لأب، وأبناؤهم.
خامسا: ننظر من شارك أبا الجد، ثم من شارك جد الجد، ننظر في هؤلاء الأقرباء، إن كان عندهم قدرة وعندهم مال، واستطاعوا أن يدفعوا خمسين ألفا التي هي نصف الدية، أو مائة ألف فلا إشكال، حينئذ نكتفي بالأقرباء، الأقرب فالأقرب، فإذا كانوا فقراء وضعفاء وفيهم من لا يتحمل، وظروفهم لا تساعد ننتقل إلى الأبعد فالأبعد، حتى نصل إلى جميع العشيرة، يعني: ينظر إلى الأقرب، ثم إلى العشيرة، ثم إلى القبيلة بكاملها فيتقسم عليها، فلو كانت القبيلة قليلة العدد، قليلة المال، ولا تستطيع، ولها حلف مع قبيلة أخرى، انتقلت العصبة إلى القبيلة الأخرى كما ذكرنا في العقل بالأحلاف.
هذا بالنسبة لجهة النسب والقرابة، وقد بينا تعريف النسب والقرابة وقلنا: ما سمي بذلك إلا لأن الإنسان ينسب، بمعنى: يضاف؛ لأن النسب أصله الإضافة، وسمي القريب بهذا الاسم؛ لأنه يضاف إلى قريبه.

الجهة الثالثة: جهة الولاء

قال رحمه الله: [والولاء] الولاء: نعمة المعتق على العتيق، وهناك مولى أعلى ومولى أسفل: المولى الأعلى: هو نفس المعتق، والمولى الأسفل العتيق، فإذا أعتق المولى صار بينه وبينه ولاء، ونحن بينا أن الرق ليس مختصا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، وإنما هو راجع إلى الكفر، فإذا ضرب الرق بهذا السبب وأعتق شخص مولى له صار هذا العتق موجبا للولاء، حتى ولو أعتقه في كفارة واجبة، فإذا ثبت الولاء، ففائدته: أن هذا الرقيق لو توفي يرثه موالاه عند انعدام الورثة، مثلا: لو فرضنا أنه أخذ عبدا من الروم، ثم أسلم هذا العبد وأعتقه سيده في كفارة أو أعتقه نافلة، فلما أعتقه قام هذا المعتق وباع واشترى فأصبح ذا مال كثير، فلما توفي نظرنا إلى قرابته لم نجد له قريبا يرثه، وليس عنده أولاد ولا إخوان ولا قرابة ولا زوجة، أو عنده زوجة وفاض المال، من الذي يرثه إذا انقطع من جهة النسب؟ الميراث ينتقل إلى الولاء، فالولاء سبب من أسباب الميراث، كما أن السيد يأخذ الولاء في حال الغنيمة، يتحمل أيضا مع المولى الأسفل في حال الجناية، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيح، وقال: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته) ، فجعل هذه وصلة بين المعتق والمعتق، وفي هذه الحالة يتحمل بالولاء كما ذكرنا.
الاكتفاء بالأقربين في الدية حال الغنى واليسار
قال رحمه الله: [قريبهم وبعيدهم] قوله: (قريبهم وبعيدهم) نبدأ بالأقربين، إذا اكتفوا بهم، خاصة إذا كان فيهم غنى ويسار وتحملوا الدية، وقالوا: نحن نتحمل، فمثلا: لو أن شخصا لزمته دية في قتل الخطأ، وكان له، ثلاثة أعمام أشقاء، أو ثلاثة أعمام أشقاء ولأب، وهم أغنياء أثرياء فقسموا هذه الدية بينهم، وقالوا: نتحملها، سقطت عن الأبعد، ولزمت هؤلاء، لكن لو لم نكتف بالأعمام، فحينئذ ننتقل إلى بني الأعمام وبني بني الأعمام، وإذا كان الأعمام في درجة الجد، فإنه ينتقل إلى أعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد الجد وبنيهم، يعني: لو كان لهم نسل وذرية، فهؤلاء كلهم قريبهم وبعيدهم يستوون في فرض العقل.
وهذا من نعم الله عز وجل على المسلمين، وما كانت تعجزهم هذه الحقوق، ثم انظر رحمك الله! إذا أعان القريب قريبه في حال الخطأ كيف تجتمع القلوب! وكيف تتآلف وتتكاتف وتتعاطف! ويحصل بينها المحبة والتواصل! وهذا مقصود الإسلام: أنه يحرص على ربط الناس بعضهم ببعض، فكيف إذا كانوا أقرباء؟! فلو أن إنسانا مثلا: يقود سيارته ومعه أشخاص وحصل له حادث وتوفي هؤلاء الأشخاص، ثم جاء أقرباؤه وتحملوا الديات، كيف يكون أثرها في نفس هذا الشخص؟ وكيف يحب جماعته وقرابته ويتصل بهم؟ إذا الإسلام يقوي هذه الوشائج، ويقوي هذه الصلات، ويذكر القريب بحق قريبه عليه، ولا شك أن في هذا خيرا كثيرا، مع أن فيه تحملا للمسئولية وتحملا للضرر؛ لكنه يحدث شيئا من المحبة والترابط بين أفراد المجتمع، ناهيك عن القرابة الذين هم أولى وأحق من يكون بينهم ذلك.
وجوب الدية على الحاضر والغائب من الأقرباء
قال رحمه الله: [حاضرهم وغائبهم] (حاضرهم وغائبهم) الأقرباء فيهم الذي يكون في نفس المدينة، وفيهم الذي يكون في مدينة أخرى، وفيهم الذي يكون في الحضر، وفيهم الذي يكون في البادية، فبعض العلماء يرى: أنه إذا كان الغائب غائبا بعيدا فإنه ينظر إلى الأقرباء الحاضرين ولا ينظر إلى الأقرباء البعيدين، وتفرض الدية مقسمة على الأقرباء الحاضرين.
ومن أهل العلم من قال: إن الأقارب لو كانوا في بلد بعيد، فعلى قاضي البلد الذي فيه الجناية أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه البعيد ويلزمه، والحقيقة من حيث الأصل هذا أقوى؛ لأن العبرة بوجود الموجب للتحمل والمسئولية، وهذا موجود من جهة القرابة، فيستوي قريبهم وبعيدهم، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.

حكم دخول الجاني في تحمل الدية
اختلف العلماء رحمهم الله في أخذ الدية من القاتل نفسه، لو أن شخصا قاد سيارة، وحدث له حادث وتحمل فيه ثلاث ديات، هل الدية يدفع هو فيها أم أنها تكون على العاقلة فقط؟ وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: العاقلة هي التي تحمل والقاتل لا يتحمل شيئا، وهذا له نظائر في الشريعة، ويقولون: إن العاقلة ترثه، وتأخذ الميراث من تعصبهم بأنفسهم، كما ذكرنا في القرابة من جهة الآباء والأصول، فقالوا: في هذه الحالة يتحملون، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث في الصحيحين: (قضى بديتها على عاقلتها) ما قال: عليها وعلى عاقلتها، قالوا: فخص الدية بالعاقلة، وفي الحديث الآخر: (فقضى بديته على عاقلته) وقال: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أنه يعقل، ما قال: إن على القاتل أو على قرابة القاتل أو في مال القاتل شيئا من العقل.
والوجه الثاني: أن يتحمل القاتل جزءا على قدر غناه ويسره، كما سيأتي إن شاء الله، فإن كان القاتل ما عنده مال فإنه ينتقل إلى أقربائه.
وفي الحقيقة القول الأول قوي جدا من جهة النص.
قال: [حتى عمودي النسب] في المسألة الأولى: إذا أثبتنا أن القاتل لا يتحمل بناء على ظاهر الحديث، في هذه الحالة اختلف العلماء في عمودي النسب أصوله وفروعه، قالوا: إذا امتنع فإن عليه أن يدفع فأصله آخذ حكمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) فالولد قطعة من والده، وإذا كان الفرع لا يلزمه فالأصل من باب أولى وأحرى؛ لأنه أصله، ولأنه لم يجن الجناية، قالوا: فتسقط عنه، والفرع كذلك؛ لأنه بضعة من القاتل، والأصل كذلك؛ لأن القاتل بضعة منه.
فقوله: (حتى عمودي النسب) يرد على هذا القول، ويرى بعض العلماء: أن الحكم مختص بالقاتل فقط؛ لأن الأصل أنهم يتحملون، وسقطت عن القاتل الدية على الذي ذكرناه، فيضعف جريان القياس أو جريان الأصل من هذا الوجه.

الأصناف التي لا يجب عليها العقل


عدم وجوب العقل على الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عقل على رقيق] قوله: (ولا عقل على رقيق) ؛ لأنه لا يملك المال، وملكيته ضعيفة، والدليل على ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.
عدم وجوب العقل على غير المكلف
قال رحمه الله: [وغير مكلف] قوله: (وغير مكلف) الذي هو الصبي والمجنون، فلو أن قرابته كان فيهم صبيان، كما لو كان لو كان ابن عمه صبيا دون البلوغ، وعنده مال، أو كأن يكون يتيما وورث عن أبيه مالا، فإننا لا نوجب في ماله عقلا؛ لأن العاقلة لا تثبت في غير المكلف، قالوا: لأن الأصل في العاقلة المعاضدة والنصرة، فكما أنه ينصره إذا أخطأ، كذلك يتحمل هو خطأه، الآن هذا الولد لو أنه بالغ وحصل له نفس الخطأ تحمل قريبه، والعكس مادام وقع لقريبه فإنه يتحمل، لكن حينما يكون قاصرا ودون البلوغ ولا يستطيع النصرة ولا يستطيع المعاضدة، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا عليه، وهذا الحق سقط عنه بناء على الحديث الذي ذكرناه، وقالوا: إن غير المكلف من صبي ومجنون لا عقل عليهما؛ وذلك لسقوط المعاضدة والمناصرة منهما.
عدم وجوب العقل على الفقير
قال رحمه الله: [ولا فقير] قوله: (ولا فقير) ؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] فلو كان بنو أعمامه كلهم فقراء فإنه ينتقل إلى بني أعمام الأب، وإذا كان بنو أعمام الأب كذلك فإنه ينتقل إلى بني أعمام الجد، يعني: ينتقل إلى الأقرب فالأقرب على حسب اليسار والغنى، ولا تجب على فقير، فالفقير لا يستطيع أن يعول نفسه فكيف يعول غيره؟ ولذلك قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] والإجماع على أن الفقير لا يجب عليه العقل.
عدم وجوب العقل على الأنثى
قال رحمه الله: [ولا أنثى] قوله: (ولا أنثى) لقد ذكرنا أن هذا مختص بالذكور دون الإناث، ولذلك الذكر عليه النفقة وله الميراث بالعصبة، ولذلك لو انفرد هذا الذكر لأخذ مال قريبه كله بالتعصيب، وانظر كيف يكون التفريق في الشرع بين الذكر والأنثى، في الميراث وفي المؤاخذة، ومن هنا جاء العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأنثى لا تناصر ولا تعاضد؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة والمعاضدة، ولذلك سقط الجهاد عن النساء، ومن هنا قالوا: إن الأنثى لا تتحمل ولا تعقل.
الأحوال التي لا يجب فيها العقل على العاقلة




عدم وجوب العقل على من خالفت ملته ملة الجاني
قال رحمه الله: [ولا مخالف لدين الجاني] قوله: (ولا مخالف لدين الجاني) ؛ لأنه ينقطع إذا كان على ملة غير ملة الجاني، فليس بينهما الأصل الموجب للمعاضدة والمناصرة في الدين والشرع؛ لأن العاقلة فيها المناصرة والمعاضدة بالطبع، والمناصرة والمعاضدة بالشرع، فإذا وجد ما يمنع المناصرة والمعاضدة بالطبع امتنع، وإذا وجد ما يمنع المعاضدة والمناصرة بالشرع امتنع، ومن هنا لا يقضي القاضي على قريبين من ملتين مختلفتين، وصورة هذه المسألة: كانوا في القديم -هذا بالنسبة لأهل الكتاب- إذا كانوا تحت حكم المسلمين وحكم القاضي بينهم في العقل بشريعتنا، فإن القاضي يحكم بالعاقلة، فإذا كان هناك قريب من العاقلة على ملة غير ملة الجاني لم يحمل، ولا يقضي القاضي بحمالته، فلا يقضى بين ملتين مختلفتين، ومن باب أولى بين المسلمين والكفار.
ولذلك قطع الله التوارث بين المسلم والكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، حينما قال له أسامة بن زيد -حبه وابن حبه رضي الله عنه وعن أبيه-: (أين تنزل غدا؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ -ثم قال عليه الصلاة والسلام-: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، منزلنا بخيف كنانة حيث تقاسموا على الكفر) ، فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التوارث بين المسلم والكافر.
عدم وجوب العقل على العاقلة في العمد المحض
قال رحمه الله: [ولا تحمل العاقلة عمدا محضا] قوله: (ولا تحمل العاقلة عمدا محضا) بعد أن بين حقيقة العاقلة، ومن هم العاقلة، ومن الذي يدخل في العاقلة، ومن الذي لا يدخل، شرع رحمه الله في الموجبات للعقل، وهو الخطأ دون العمد، لكن لو قتل -والعياذ بالله- عمدا فالعاقلة لا تحمل الدية، لو قال أولياء المقتول: نريد الدية، فقال القاتل لعاقلته: ادفعوا الدية، نقول: لا تلزم العاقلة الدية، إذا كان عمدا محضا.
عدم وجوب العقل على العاقلة إذا جنى الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عبدا] قوله: (ولا عبدا) كذلك لا تحمل العاقلة العقل إذا كان الجاني رقيقا مملوكا؛ لأن جنايته في قيمته.
عدم وجوب العقل على العاقلة في صلح الإنكار
قال رحمه الله: [ولا صلحا] قوله: (ولا صلحا) أي: لا تحمل العاقلة العقل في صلح الإنكار، وهذا تقدم معنا في مسألة الصلح، وبينا في مسائل الصلح أن الصلح يكون على الإقرار وعلى الإنكار، فخصه طائفة من العلماء على أن العاقلة لا تحمل في صلح الإنكار خاصة، وهذا الذي نفاه المصنف من عدم العقل في هذه الصورة، وأصله أثر ابن عباس الذي رواه البيهقي في سننه، وصحح وقفه وضعف رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزيلعي في المرفوع: إنه غريب، يعني: المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعف بعض العلماء رحمهم الله إسناد المرفوع، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله.
عدم وجوب العقل على العاقلة في اعتراف لم تصدق به
قال رحمه الله: [ولا اعترافا لم تصدقه به] لو اعترف بجناية وقال: أنا قتلت فلانا خطأ، والعاقلة لا تصدقه بهذا، قالوا: إنه لا تحمل العاقلة هذا الاعتراف الذي تنكره، إذا كان لإنكارها وجه؛ لأنه قد يتواطأ هذا الشخص مع أولياء المقتول، في أنه يضغط على جماعته وقرابته وقبيلته، ثم يقتسم ذلك بينه وبين من يدعي زورا وكذبا أنه اعتدى على صاحبهم أو سفك دمه، وهذا من باب سد الذرائع.
أقوال العلماء في القدر الذي تحمله العاقلة
قال رحمه الله: [ولا ما دون الدية التامة] قوله: (ولا ما دون الدية التامة) اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة القدر الذي تحمله العاقلة، بعض العلماء يقول: العاقلة تحمل القليل والكثير في الضمانات التي ذكرناها، ولا يتقيد هذا لا بالثلث ولا بنصف العشر من الدية، ولا بما يعادل الغرة، ومن أهل العلم من حده بالغرة كـ أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من حده بالثلث كما هو مذهب الحنابلة، والمالكية عندهم وجه في ذلك رحمة الله على الجميع، وفي الحقيقة عندهم نظر في الأدلة قد يقوى حمل القليل والكثير؛ لأن التحديد بالثلث مبني على النظر، والأصل في الحمالة بأسبابها وموجباتها أنه يتحمل جناية غيره، سواء كانت قليلة أو كثيرة.






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 03:59 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم الانتقال من القريب إلى البعيد في العقل مع الاستطاعة
السؤال هل الانتقال من القريب إلى البعيد توقيفي، أم أننا نلزم القبيلة بالدفع والمشاركة، علما بأن أقرباء الجاني يستطيعون تغطية الديات، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فعلى القاضي أن ينظر في قرابة الشخص ويفرض عليهم على حسب غناهم ويسرهم، فهناك الغني، وهناك المتوسط، فإذا اجتزأ بالأقرباء القريبين من الشخص فإن له ذلك، ولا ينتقل للأبعد، فهي تختص بالأقرب فالأقرب، فإذا سدوا لم ينتقل إلى الأبعد، والله تعالى أعلم.
حكم جمع المال للنوازل وحكم زكاته
السؤال عندنا في القبيلة يلزم كل بالغ بدفع مبلغ معين، وأحيانا تتكدس الأموال المجموعة لغرض العقل، فهل في هذه الأموال زكاة، أثابكم الله؟
الجواب بالنسبة لصندوق القبيلة، ينبغي أن يعلم أنه لا يحكم بخروج المال من ذمتي أنا الدافع إلا إذا وصل لمستحقه، فمن هنا نقول: إن الأصل أن المال لمن دفع، وإذا كان لمن دفع فلا نحكم بانتقال يده؛ بدليل أنه لو مات لوجب رده إلى ورثته شرعا، لو قالت القبيلة: ما نرده، نقول: هذا حكم خلاف شرع الله عز وجل، الأصل أنه يرد إلى صاحبه؛ لأنه دفع من أجل الطارئ، وما دفع لسبب يتقيد بذلك السبب، وإذا مات الشخص ولم يدفع ذلك المال فإنه يرد إلى قرابته وورثته، هذا مال يجب أن ينظر إلى سبب الدفع فيه، فإذا كان الذي دفعه على أنه للنوازل والعوارض، وإذا لم توجد هذه النوازل والعوارض، فهو في ملكيته حتى تحدث هذه النوازل والعوارض، إذا ثبت هذا فعليه زكاته، وإذا مات فإنه يرد إلى ورثته ولهم النظر في ذلك المال.
بعض العلماء يقول: هذا المال أصبح لا مالك له، وإذا كان لا مالك له فإنه لا تجب فيه الزكاة، وهذا محل نظر، أولا: إذا اختلف عندنا قولان نرجع إلى الأصل، هل الأصل في هذا المال أنه مملوك لدافعه أو لغيره؟ وهل الذي دفعه لسبب خرج عن يده؟ كأن يقول: إذا حدث حادث، فاخصموا منه قسمي أو نصيبي من العقل، فلو قال قائل: إن هذا مدفوع ومفروض على أفراد القبيلة، من أجل إذا طرأ طارئ، بغض النظر عن العاقلة أو غيرها، نقول: إن هذا الأصل ينبغي أن ينظر فيه؛ لأن إلزام الناس بالدفع في غير ما ألزمت به الشريعة يحتاج إلى نظر، ولا يحرج الناس ولا يؤخذ المال بسيف الحياء، وأموال الناس لها حرمة كحرمة الدماء.
ومن هنا نقول: إن هذا المال ملك لمن دفع، حتى يدل الدليل على أنه خرج عن ملكيته، فلو قال قائل: إنه تصدق به، قلنا: لم يصل إلى يد المتصدق عليه، فأصبح شيخ القبيلة وكيلا بدفعه للمحتاج، ومن دفع صدقة إلى شخص من أجل أن يعطيها إلى محتاج ولم يعطها، فالوكيل منزل منزلة الأصيل، ولا زالت يده يد أمانة، والمال واجب زكاته، فلو أعطيت رجلا مائة ألف ليتصدق بها على الفقراء، وحبسها حتى حال عليها الحول وجبت زكاتها إجماعا؛ لأنها لم تصل إلى مستحقيها، ولم تخل يدك من الموجب للزكاة إلا بعد أن يستلمها المسكين والمحتاج، فإذا كانت الأموال دفعت بسبب، والسبب لم يقع ولم يحدث، فلا زالت في ملك أهلها، ويجب ردها إلى أهلها إذا طلبوا ذلك المال، أو حدث أن توفي الشخص حينئذ يرجع المال إلى ورثته، وينظر في قول الورثة، ويجري عليها حكم التصدق بالثلث، على الأصل المعروف في الشرع إذا قصد بها الصدقة، وأما إذا قصد بها العقل فلا إشكال أنها ترجع إلى الورثة، ثم ننظر في عقل الورثة إذا نزل الموجب للعقل، والله تعالى أعلم.
حكم تحمل الدية عن الفاسق
السؤال إذا كان القول الصحيح: أن العاقلة تتحمل الدية ولا يتحملها القاتل المتسبب في الحادث، فهل إذا كان هذا القاتل معروفا عنه عدم المبالاة وعدم الاستقامة؟ فهل يدفع عنه أيضا، أثابكم الله؟
الجواب تحمل العاقلة يستوي فيها البر والفاجر، يعني: لو كان هذا السائق فاسقا يشرب الخمر أو يزني -والعياذ بالله- فهذا حق من حقوقه، فلو أنه توفي لورثته سواء كان برا أو فاجرا، ما دام أنه مسلم ولم يخرجه فسقه عن الإسلام، فالشاهد: لا ينظر فيه إلى كونه فاسقا أو صالحا، هذا لا عبرة به، العبرة بكونه قريبا له حق القرابة، وما بينه وبين الله من الأخطاء والذنوب هذا شيء بين العبد وربه وليس بيننا وبينه، فنحن لسنا مكلفين بهذا الأمر.
إذا يستوي في ذلك برهم وفاجرهم، وعليه فيعقل عن الفاسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت تقية، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت صالحة، هذا حكم عام في الشرع، له سبب وهو القرابة، ومن ذلك يبقى الحكم على هذا الأصل، والله تعالى أعلم.

التوفيق بين قوله: (ولا تبطلوا أعمالكم) وقوله: (المتطوع أمير نفسه)

السؤال كيف نوفق بين قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه) ، أثابكم الله؟
الجواب لا تعارض بين عام وخاص، فقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] عام وقوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) خاص، فلا تبطلوا أعمالكم عام، يشمل الفرائض والنوافل، ويشمل جميع الأعمال الصالحة، سواء كانت في الفريضة: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] فإذا كبرت لصلاة الفريضة فعليك أن تتمها، وإذا ابتدأت صوم الفرض فعليك أن تتمه، وإذا حججت فعليك أن تتم الحج، وإذا اعتمرت فعليك أن تتم العمرة، {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] هذا في الفرائض.
أيضا قوله سبحانه: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] في النوافل، فلو أن شخصا تطوع بصلاة، فإنه لا يقطعها إلا إذا طرأ له طارئ، أو رخص له الشرع بالقطع.
لقد نهانا الله عز وجل أن نبطل أعمالنا؛ لأن إبطال الأعمال فيه مخالفة للشرع إذا كان العمل واجبا، فمن قطع صلاته وهو يصلي الظهر بدون سبب فإنه آثم شرعا؛ لأن الله أمره بإتمام صلاته وأداء حقه سبحانه، ومن أفطر في رمضان من دون عذر فإنه آثم شرعا، ولم يقضه صيام الدهر ولو صامه، ومن جاء في حج فجامع زوجته قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وأبطله، وهكذا لو جاء في عمرة فجامع قبل الطواف بالبيت فإنه قد أفسد عمرته، هذا كله منهي عنه شرعا في الفرائض وفي النوافل.
فجاء النص في النافلة: (المتطوع أمير نفسه) في مسألة الصوم، فمن صام الإثنين ثم رأى من المصلحة أن يفطر، إما جبرا لخاطر قريب، أو دعي إلى وليمة، أو أمره والده أو والدته أن يفطر فهذا خاص، قال صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه) ؛ لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع، فوسع الشرع في حقه أكثر من غيره، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، والله تعالى أعلم.
حكم التكبير لسجود التلاوة في الصلاة
السؤال سجود التلاوة إذا وقع في الصلاة هل أكبر أم أسجد بدون تكبير، أثابكم الله؟
الجواب الظاهر والصحيح وجوب التكبير على ظاهر حديث أبي داود وغيره في سجوده عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فيشمل الصلاة وغيرها، والله تعالى أعلم.

أجر النافلة في الصف الأول كأجر الفريضة عدا روضة المسجد النبوي
السؤال هل أجر النافلة في الصف الأول مثل أجر صلاة الفريضة في الصف الأول، أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل: في بعض المساجد النافلة في غير الصف الأول أفضل، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في الروضة أفضل من النافلة في سائر المسجد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه الروضة يحرص المسلم على أن يصلي فيها ويستكثر فيها من الخير، وهذا عليه عمل أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف، هذه الروضة أفضل بقعة في المسجد النبوي.
لكن في الفريضة الصف الأول أفضل على أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله جمعا بين النصوص، وقال: إذا أقيمت الصلاة فالصف الأول أفضل؛ لورود النص الخاص به؛ لأن الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في غير الروضة، وحينئذ يتقدم من أجل الصف الأول، أما في سائر النوافل فالأفضل أن يصلي في الروضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) دل على فضلها وفضل العمل الصالح فيها، وهذه مزية منصوص عليها، لا يقدم الإنسان معها ولا يؤخر، شيء ثبت به الدليل لا يعمل رأيه في رد هذه السنة الصحيحة، ولذلك الذي عليه العمل عند العلماء: أن الطاعة في هذا الموضع أفضل، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضا فهو في خرفة الجنة) وهذا دليل على عظم الأجر، فدل على فضل هذا المكان وعظم الأجر.
قال بعض العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) أي: أن الطاعة فيها موصلة لدخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وخير كبير جدا، والإنسان يحرص على أن يكون في هذا المكان؛ لأنه أفضل ما في المسجد، أما ما عدا المسجد النبوي، مثلا: الآن شخص دخل المسجد، وجاء إلى الروضة وصلى نافلة، فإذا أقيمت الصلاة يريد أن يتقدم إلى الصف الأول، نقول: الأفضل أن تأتي إلى الصف الأول وتصلي تحية المسجد فيه، وتجلس في مكانك؛ لأن الملائكة تصلي وتترحم عليك مادمت في مصلاك.
ومن هنا فلا تقطع هذا الفضل العظيم، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى مسجده لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه!) وهذا فضل عظيم يفوت بالانتقال، ومن هنا يحرص على هذا الفضل من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم استخلاف الإمام في الصلاة
السؤال كيف يتصرف الإمام إذا تذكر أنه على غير وضوء أثناء صلاته بالمأمومين، أثابكم الله؟
الجواب إذا علم أنه محدث أو حصل له الحدث أثناء الصلاة فإنه يسحب شخصا ويستخلف، وهذا يسمى: بالاستخلاف، يسحبه ويقيمه مكانه ثم ينصرف، ويسحب أولى الناس بالإمامة، فإذا كان وراءه ثلاثة أشخاص أحدهم أولى فإنه يقدمه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فهذا لأجل وجود حاجة الإمام قالوا: إن هذا الحديث نبه على قضية الاستخلاف؛ لأن الإمام يحتاج إلى أن يستخلف عند حدوث عارض له، والله تعالى أعلم.
بيان وقت النهي قبل الظهر وحكم التنفل فيه
السؤال هل هناك وقت نهي قبل صلاة الظهر؟ وإذا كان فمتى يبدأ، أثابكم الله؟
الجواب قبل صلاة الظهر إذا انتصف النهار لا يتنفل الإنسان، وانتصاف النهار عند وقوف الشمس عن الحركة، فالشمس تسير من المشرق إلى المغرب، وإذا وصلت في منتصف النهار في كبد السماء وقفت هنية، يعني: وقت يسير، وهذه الساعة ممنوع من الصلاة فيها؛ وذلك لقوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) حين يقوم قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا جاءت من المشرق فإن الظل يتقاصر حتى تقف الشمس في كبد السماء، فالظل يتحرك أثناء مسيرها من المشرق إلى منتصف كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقفت، فيقوم قائم الظهيرة الذي هو الظل، فإذا وقفت الشمس وجدت الظل لا يتحرك لا بنقص ولا بزيادة، هذه ساعة انتصاف النهار، فإذا انتصف النهار منع من صلاة النافلة؛ لأنها ساعة تسجر فيها نار جهنم والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام علم بعض الصحابة بأوقات النوافل حيث يقول: (فإذا طلعت الشمس فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة) يعني: تنفل، وقوله: حاضرة مشهودة، أي: تحضرها الملائكة وتشهدها، وقيل: مشهودة بالخير، أو مشهود لها بالخير، (فإذا قام قائم الظهيرة -يعني: انتصف النهار- فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها نار جهنم) يعني: أنها ساعة غضب وليست بساعة رحمة، هذا وقت نهي، والصحيح مذهب جمهور العلماء: أن هذا النهي يشمل حتى يوم الجمعة، والإمام الشافعي رحمه الله وبعض أئمة السلف يستثنون يوم الجمعة، وفيه حديث ضعيف وأشار إليه الحافظ ابن حجر في البلوغ، والصحيح أنه يشمل يوم الجمعة وغيره على حد سواء؛ وذلك لورود النص على العموم، والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها)

السؤال ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه) ، أثابكم الله؟

الجواب النضارة: هي الحسن والجمال، فقوله: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب فيه الأمة إلى حفظ السنة، والعناية بهذا الحفظ حتى يكون حفظا متقنا لا يرويه بالمعنى، قال: (فحفظها فأداها كما سمعها) فقوله: (نظر الله) النضارة: هي الحسن، قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة:22 - 23] فلما نظرت إلى وجه الله عز وجل ازدادت جمالا وحسنا.
النضارة التي وردت في هذا الحديث اختلف فيها العلماء على قولين: أولا: قال بعض العلماء: إنهم يحشرون يوم القيامة تتلألأ وجوههم كالشمس، وهم حفظة السنة، فمن أكثر من حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله وجهه، ونوره بالسنة، ولذلك أهل السنة على وجوههم نور، وقال بعض العلماء: إن لأهل السنة نورا في وجوههم في الدنيا، وذلك أن الله عز وجل يجعل لهم النور والنضارة، فوجوههم وجوه خير، إذا رأيت وجه الرجل منهم يطمئن قلبك، ورأيت أنه وجه رجل فيه خير وصلاح وبر؛ لأن الناصية والوجه تابعة للعمل، قال تعالى: {ناصية كاذبة خاطئة} [العلق:16] .
ولذلك تجد أهل الظلم والأذية والإضرار، لو نظرت إلى شخص منهم يقطع رحمه تجد وجهه مظلما، وانظر إلى شخص واصل للرحم أو بار بوالديه أو كثير الصدقات أو كثير الحسنات ترى نور الطاعة في وجهه، وهذا أمر جرت به العادة من الله سبحانه وتعالى، وهو معروف، وقوله: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها) يعني: سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشمل الصحابة من باب أولى؛ لأنهم الذين باشروا السماع منه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، ويشمل من بعدهم؛ لأنه قال: (سمع مقالتي) ما قال: سمع مني، يعني: سمع حديثي، وفي قوله: (مقالتي) يختص بالصحيح دون المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المكذوب لا ينسب إليه عليه الصلاة والسلام، وقوله: (سمع مقالتي فوعاها) يعني: وعى هذه المقالة، وشبه القلب الفاهم للشيء بالوعاء الذي قد حفظ ما فيه، (فأداها كما سمعها) يعني: عنده ضبط في الحفظ، وضبط في الأداء، فيأتي باللفظ كما سمعه، وهذه أعلى منازل حفظ السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تستطيع، فلك من النور والنظارة على قدر ما حفظت؛ لأن الله وعدنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل العظيم، ومن نضر الله وجهه في الدنيا نضر الله وجهه في الآخرة.
ومن هنا يبدأ الحرص على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية بما اتفق عليه الشيخان، فيبدأ المسلم بالأحاديث التي في أحكام دينه، مثل أحاديث: عمدة الأحكام؛ لأنها تتعلق بالحلال والحرام والعبادة، وكيفية القيام بحق الله، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الآداب والأخلاق ونحو ذلك، ويتوسع في الحفظ، فالأصل أن هذا الفضل خاص بمن حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: لم يكتم هذا العلم بل أداه وبلغه، فمن بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فحفظه كان له مثل أجره، ولم ينطق لسان ذلك الذي حفظته من أولادك أو من طلابك بهذا الحديث إلا كان لك مثل أجره، ولا يعلم أحدا فينطق به ذلك المعلم إلا كان لك مثل أجره، فالله أعلم كم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة والأجر؟ ولذلك فازوا بخير لا تستطيع الأمة أن تدركهم في ذلك الخير والفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) في هذا الحديث إشارة إلى أنهم تبوءوا المنزلة السامية العالية في هذا الفضل العظيم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على حفظ السنة ومحبتها، وأن يجعلنا من أهل هذا الفضل، وأن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب، والله تعالى أعلم.
صلاة المسافر خلف المقيم
السؤال مررت وأنا مسافر بأحد المساجد على الطريق، ووجدت جماعة يصلون صلاة العصر، ودخلت معهم في الركعة الرابعة، وبعد أن سلم الإمام قمت وصليت ركعة واحدة وسلمت بنية القصر، ثم سألتهم هل صليتم أربعا أم قصرتم الصلاة؟ قالوا: صلينا أربعا، فقمت فأتيت بركعتين ثم سجدت للسهو، هل عملي هذا صحيح؟ وإن كان غير ذلك فماذا أفعل، علما أنه مضى على ذلك شهر، أثابكم الله؟
الجواب الصلاة صحيحة وما فعلته صحيح سديد، وفيه خروج من خلاف العلماء رحمهم الله، أما كونك تكلمت بين الركعتين الأوليين والأخريين، فكلامك كان لعذر ولمصلحة الصلاة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر أو العصر والشك من الراوي- فسلم من ركعتين، فقام له رجل يقال له: ذو اليدين -وهو الخرباق رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك ... ) الحديث، فأنت تكلمت لمصلحة الصلاة، وصححت صلاتك، خاصة على مذهب من يقول: المسافر يتم وراء المقيم مطلقا سواء صلى الصلاة مع الإمام من أولها أو من آخرها؛ لعموم قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم) وهذا أحوط في الخروج من خلاف العلماء.
ولكن لو أنك سلمت من ركعتين واجتزيت بهما فإنه يجزيك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) فدل على أنك في السفر تصلي الركعتين، وأقرت على هذا الأصل، فلما كان المسبوق يتم النقص في صلاته، والمسافر لا نقص له في صلاته؛ لأن الله فرض عليه الركعتين، ومن هنا لو أدركه في الركعة الأخيرة فأضاف ركعة أجزأه، ولو أدركه في الركعتين الأخيرتين من الظهر فسلم معه أجزأه، ولكن الخروج من الخلاف أفضل، ولاشك أن الذي فعلته صحيح وصلاتك صحيحة، والله تعالى أعلم.
أقسام التشهدات في الصلاة وأحكامها
السؤال ما حكم التشهد في الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب التشهد تشهدان: التشهد الأول: في الثلاثية والرباعية واجب وليس بركن، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه- في الصحيحين قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في الظهر، ثم لما كان السجدة الثانية من الركعة الثانية قام عليه الصلاة والسلام ولم يجلس -يعني: لم يجلس في التشهد الأول- فسبح له القوم فأشار إليهم أن قوموا) فلم يرجع عليه الصلاة والسلام إلى التشهد، ولو كان ركنا لرجع إليه، فلما لم يرجع إليه قال رضي الله عنه: (حتى إذا كان في التشهد وانتظر الناس تسليمه كبر فسجد سجدتين عليه الصلاة والسلام جبرا للنقص) فدل على أنه من الواجبات لا من الأركان، ولذلك رجع عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين إلى الركعتين؛ لأنها أركان، ولم يرجع إلى التشهد الأول؛ لأنه واجب، ومن هنا كان تقسيم العلماء رحمهم الله للواجبات والأركان منتزع من أصول شرعية صحيحة.
فالشاهد من هذا: أن التشهد الأول واجب وليس بركن، والتشهد الثاني ركن من أركان الصلاة، ومن هنا أمر به عليه الصلاة والسلام، وبين للمسيء صلاته هذه الركنية فقال: (ثم ارفع -يعني بعد السجدة الأخيرة- حتى تستوي جالسا) فالتشهد الأخير والجلوس له ركن من أركان الصلاة على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

ثبوت الولاء للمعتق مطلقا مع عدم جواز عتق الكفار

السؤال هل الولاء يبقى مكانه لو أسلم هذا المعتق؟ أم حتى لو بقي على كفره وأعتق ثم مات فهل يرثه مولاه، أثابكم الله؟

الجواب أولا: إذا كان كافرا لا يعتق؛ لأن الدخول في الرق سببه الكفر، وتوضيح هذه المسألة أنا ذكرنا غير مرة: أنه في حال الإسلام إذا كان هناك كفار ودعوا إلى الإسلام فامتنعوا، فإن كانوا من أهل الكتاب عرضت عليهم الجزية، فإن امتنعوا وجاءوا يقاتلون المسلمين وجمعوا بين الكفر ومحاربة الإسلام، حينئذ يضرب عليهم الرق، والرق لا يضرب إلا بولي أمر المسلمين، وفي حال الجهاد الشرعي الصحيح، ولذلك لا يختص بمكان ولا بزمان ولا بلون ولا بطائفة ولا بجنس معين، بل يشمل كل من كفر بالله؛ لأن الله يقول: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] يعني: الكفار، فلما يقف في وجه الإسلام فإنه ينزل عن مستوى الآدمية إلى مستوى البهيمية، بل أضل من البهيمة، وحينئذ يباع ويشترى.
ومن هنا لا يعتق إذا كان كافرا، إذ كيف يعتق وهو إنما ضرب الرق عليه بسبب الكفر؟ إذا تفوت مصالح الشريعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي أن يعتق أمته قال: (علي بها، فلما جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) جملة (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، يعني: أعتقها؛ لأنها مؤمنة، ومفهوم ذلك: أنها لو كانت كافرة لما عتقت؛ لأنه فات مقصود الشريعة، وعلى هذا يختص العتق بهذا الوجه الذي ذكرناه، والولاء ثابت على كل حال للمعتق، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الجمعة مع عدم إتمام الخطبتين
السؤال شخص صلى في مسجده بالناس الجمعة، وخطب الخطبة الأولى ولم يتمها؛ لمرض ألم به منعه من إتمام الخطبة الأولى، ولم يخطب على ذلك الثانية، ولم يصل بالناس، وبعد ذلك قام رجل من الجماعة وصلى بالناس ولم يتم الخطبة الأولى، ولم يأت بالخطبة الثانية، هل صلاتهم صحيحة أم باطلة، أثابكم الله؟
الجواب إذا لم تقع الخطبة الثانية فإنهم يصلون ظهرا، والأصل فيهم أنهم ينظرون إذا كان فيهم أحد يحسن الخطبة ويحسن أن يعظ الناس قام وخطب، وقد بينا في باب الجمعة أنه لا تشترط للخطبة شروط معينة، وأن المدار يدور حول البشارة والنذارة، فلو وقف أمام الناس وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم بالصلاة، وأمرهم ببر الوالدين، وأمرهم بأي عمل من أعمال الخير، ونهاهم عن أي عمل من أعمال الشر، أو حذرهم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة، فقد تمت الخطبة، وكما قلنا: ليس لها شروط معينة بحيث لو أنها فقدت بطلت الجمعة، لا، إنما تقوم على البشارة والنذارة، فإذا حقق ذلك المقصود فقد تمت الخطبة وكملت وأجزأت، وبقيت الخطبة على السنة كاملة تامة.
أما الوارد في السؤال: فلا تصح الجمعة على هذا الوجه، بل كان عليهم أن يجعلوا شخصا يخطب بهم، وإذا تعذر فإنهم يصلونها ظهرا، وإذا لم يفعلوا ذلك فإنهم يعيدون الصلاة ظهرا، والله تعالى أعلم.

حكم من ترك الحلق في العمرة ناسيا

السؤال اعتمرت قبل خمس سنوات ولم أحلق ناسيا، ولبست الثياب وانشغلت ولم أتذكر إلا بعد مدة، فماذا علي، أثابكم الله؟

الجواب الله المستعان! ما أهون الدين عند الناس؟! وما أكثر الغفلة عن حقوق الله عز وجل؟! شخص يأتي في عمرة ويأتي في حج ولا يحس أنه ضيف على الله سبحانه وتعالى، ولا يفرغ قلبه من هذه الدنيا، ولا يحس أنه في أشرف المواطن وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحس بنعمة الله عز وجل، ولا يستشعر أن الله اختاره من بين (الملايين) لكي يطوف حول بيته، وقد يكون في ساعة لا يطوف فيها إلا القليل، ولا يحس بنعمة الله عز وجل الذي سلمه من المصائب والنكبات والبلايا، وقد كان بالإمكان أن تنقلب به سيارته، أو تغرق به سفينته، أو تهوي به طائرته ولكن الله سلم سبحانه وتعالى.
يا ليت الذي يعتمر أو يحج يستشعر أين هو؟ وما هو حاله؟ وفي باب من يقف؟ لو أن الإنسان بمجرد أن يلبي بالعمرة يستشعر أنه ينادي ربه، كان علي زين العابدين يقول: لبيك، فيخر مغشيا عليه، فقيل له: ما شأنك رحمك الله! يا ابن بنت رسول الله؟! قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، فعلى الإنسان أن يستشعر أنه ضيف على الله عز وجل، فإذا جاء ووطئ هذه الرحاب مؤمنا مخبتا خاشعا متخشعا متذللا لربه سبحانه يرجو رحمته، عندها تهون عليه الدنيا وما فيها، ويصبح في لذة وأنس، فالإنسان عندما يدخل -ولله المثل الأعلى- ضيفا على غني من أغنياء الدنيا يحس أنه في نشوة، بعضهم إذا زار غنيا جلس يتحدث بهذه الزيارة السنة، بل السنوات، بل عمره كله، وهو يتحدث أنه زار فلانا، لا إله إلا الله! كيف وهو في هذه الرحاب الطاهرة في زيارة لملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟! الحاج والمعتمر ضيف على الله، وهذه الغفلة من الناس سببها أن الشخص يأتي ويفعل المناسك وكأنه في سجن، إذا أهل بالحج والعمرة فهو ينتظر فقط متى ينتهي من حجه وعمرته؟! ومتى يحل إحرامه؟! ثم إذا حل من إحرامه لم يفكر مع الغفلة إلا بالرجوع إلى بلده، يريد أن يرجع إلى أهله، لا ينظر إلى نسكه هل أتمه أو لم يتمه؟ لا ينظر هل كان في نسكه على حال توافق السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على خلاف ذلك؟ لا يتفقد نفسه ولا ينظر، ولذلك يعتمر المعتمرون ويكررون، وحالهم بعد العمرة كحالهم قبل العمرة.
ومن الناس من اعتمر فزار بيت الله عز وجل، وسعى بين الصفا والمروة، فانقلبت حياته وتغيرت شئونه، ومن الناس من وقف في هذه المواقف ونزل في هذه المنازل، فرفع الله درجته وأعظم أجره وكفر خطيئته، وهو في كل لحظة وفي كل ثانية يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، فأفاض الله عليه من الرحمات والبركات والخيرات، ما لم يخطر له على بال، وما أسعد أولئك الأقوام والفئام من الناس، الذين وقفوا وابتهلوا وتضرعوا وتذللوا وتبذلوا بين يدي الله عز وجل، في عمرة ما جاوزت طوافا وسعيا، ولكنهم قاموا بحقها وحقوقها وآدابها وصفاتها على أتم الوجوه وأكملها، فدعوا الله دعوة نالوا بها سعادة لم يشقوا بعدها أبدا.
كيف بهذا الإنسان الذي يأتي ويعتمر، ولم يقصر ولم يحلق؟! بل بمجرد ما ينتهي يركب سيارته، وينسى أين كان غفلة ما بعدها غفلة؛ لأنه لو كان مستشعرا لهذه العبادة، مستجم الروح والبدن؛ لأصبح في هذه اللذة، من الناس من يعتمر ويبقى في لذة عمرته شهرا، بل منهم من يبقى في لذة عمرته سنة، بل منهم من يبقى في لذة عمرته دهرا.
أناس يأتون من مسافات بعيدة وهم يتمنون أن يعتمروا، فإذا وقفوا أمام بيت الله عز وجل خشعت قلوبهم، وذرفت من خشية الله عيونهم، والواحد منهم يتأمل الكيلو مترات وآلاف الأميال التي قطعها وجاوزها، راجيا لرحمة ربه، فيقف أمام ذلك البيت متضرعا لربه، متخشعا متذللا كل التذلل والتبذل في ذلك المقام الكريم، فيجد تلك النشوة وتلك اللذة وتلك السعادة وذلك الأنس العظيم بربه سبحانه، قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] .
ويقول تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) [النساء:5] اربط بين الآيتين، من أجل المال تقوم به الدنيا ولا تقعد، والله عز وجل يقول: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] ؛ لأن فيها قيام الدين والدنيا في هذه العبادة الجليلة؛ لأنها تذكر بالتوحيد وبالإخلاص وبالتجرد.
الإنسان يأتي إلى هذا المكان وإلى هذا البيت، الذي هو بيت ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ولذلك قل أن يأتي مكروب بكربه إلا فرج كربه عنه، أو ملأ الله قلبه من الإيمان واليقين ما يجعل كربه أنسا عليه إلى أن ينتهي، نعم! إنها المنازل التي لو علم الناس مقامها عند الله جل جلاله، لعظمها الإنسان؛ لأن تعظيمها من تقوى القلوب لله جل جلاله.
قوله: (ذلك) اسم الإشارة الذي يدل على العلو، العرب لا تقول: ذلك إلا لشيء بعيد بعيد، ما تقول ذلك لشيء قريب، (ذلك) يعني: الشيء البعيد، (ذلك ومن) يعني: من ذكر وأنثى، غني وفقير، قال تعالى: {ومن يعظم} [الحج:32] والتعظيم كلمة ليست بالسهلة، {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32] زكى الله من فوق سبع سماوات الذين يعظمون شعائره، ووصفهم بأنهم متقون، وزكاهم سبحانه وتعالى بأنه قد صلحت قلوبهم؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بالتقوى، أما من كانت فيه الغفلة نسأل الله السلامة والعافية! فهو يأتي بمناسكه ولا يلتفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحرص على أن يتحلل في مكة بعد عمرته كما هو هديه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.
وعلى الإنسان عندما يأتي بعمرته ويطوف ويرمل عند بيت الله عز وجل، أن يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل، ويتذكر أنها أماكن وأنها منازل تسكب عندها العبرات، وأنها منازل تستجاب فيها الدعوات، هنا خشع المؤمنون والمؤمنات، هنا بكى الصحابة والصحابيات، هنا رجفت القلوب، هنا أنابت إلى علام الغيوب، هنا المقامات بين يدي فاطر الأرض والسماوات، هنا السعادة التي لا شقاء بعدها أبدا، هنا الكرامة التي لا مهانة بعدها أبدا، هنا العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، فكم من رجل فقير وقف بهذا المكان فسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، فرجع غنيا بالله وحده لا شريك له، فالذي يطوف بالبيت وعنده هذه المشاعر، ويبث أشجانه وأحزانه إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويقف عند المقام يصلي ركعتين فيبتهل إلى ربه، فيسأله في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه، ثم ينطلق إلى الصفا والمروة فيقف كما وقف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يترسم خطاه وكأنه أمامه عليه الصلاة والسلام، يقف كما وقف، ويبتهل كما ابتهل، ويدعو كما دعا، ويسأل كما سأل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الصفا حتى إن أصحابه يصيبهم الملل، يقول ابن عمر: فكنا نمل ونحن شباب من طول موقفه عليه الصلاة والسلام، لماذا يقف؟ إنه يقف بين يدي الله عز وجل، وكانت له دعواته، وكان من دعائه كما روى البيهقي في سننه بسند صحيح: (اللهم! إنك قلت وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم! كما وعدتني فاستجب لي، اللهم كما أذقتني الإسلام وهديتني إليه فلا تنزعه مني حتى ألقاك مسلما) ، فسأل الله أعز مسألة.
من عاش هذه اللحظات وهذه المواقف، وجاء وسعى بين الصفا والمروة فهرول وتذكر المكروبة التي فرج الله همها في هذا المكان، لما يأتي بهذه المشاعر ويستشعر هذه المشاعر أينسى هذه العبادة؟ لما يكون متبعا للسنة ينسى الحلق والتقصير؟ أو ينسى شيئا من نسكه؟ لا ينسى؛ لأنه متبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن السنة نسأل الله السلامة والعافية! من أسباب الحرمان.
فإذا استشعر هذه المشاعر انتهى من سعيه وقلبه ونفسه يحدثانه، يريد أحب شيء وأعز شيء وهو رحمة الله عز وجل، ومن أصابته رحمة الله فلا عذاب بعدها أبدا، رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكتبها للذين يتقون ويقيمون الصلاة فأفلحوا في الدنيا والآخرة، هو ينتظر الرحمة من الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها ثلاث مرات، (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين) .
حسنا! إذا كان عنده هذا الشعور بمجرد ما ينتهي من عمرته، وقلبه يحدثه أن يبادر حتى يصيب هذه الدعوة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات يدعو له بالرحمة من نبي لا ترد دعوته، إنها رحمات مكررة سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتهل بها إلى الله جل جلاله، ثم يأتي وينتهي من عمرته وقلبه معلق بالسماء؛ لأنه في سائر عمرته يدعو الله عز وجل هذه الدعوة: اللهم ارحمني، ومن رحمه الله فلا يعذب، ومن رحمه الله سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وأصاب العز الذي لا ذل بعده أبدا؛ لأن من أصابته رحمة الله فهو في حفظ الله ورعاية الله له سبحانه وتعالى، حتى إن الجنة التي هي غاية ما يتمنى الإنسان من رحمة الله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) من تغمده الله برحمته حسنت خاتمته، وصلح قوله وعمله، وزكى ظاهره وباطنه، ومن أصابته رحمة الله أمن في قبره وسعد في حشره ونشره، ودخل جنة الله برحمته عز وجل.
نعم! أعدنا وكررنا في هذا السؤال؛ لأنه عمت به البلوى، وكثرت الشكاوى من الناس، بمجرد ما يذهب بعائلته ويركبون السيارة وينطلقون إلى جدة، وبعد أداء العمرة يقول: يا الله! انتهينا من العمرة، وكأن العمرة ثقل يلقى، وكأنها حمل يتخلص منه، ما يستشعر أين كان؟ وأين هو؟ وما هذه الرحمة التي يعيشها؟ فحينئذ ندعوه إلى أن يحرص عل






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 04:04 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (511)

صـــــ(1) إلى صــ(12)







شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [2]
لقد جعل الله عز وجل في قتل الخطأ كفارة، والحكمة من ذلك أن يحذر الناس من التساهل في هذا الأمر، ولعظم حرمة الدماء عند الله سبحانه وتعالى، والكفارة لا تكون إلا في قتل الخطأ؛ لأن قتل العمد عقوبته القصاص.
ويشترط في كفارة القتل أن يكون المقتول نفسا معصومة، كأن يدوس مسلما بسيارته خطأ.
وقتل الخطأ يدخل فيه مباشرته للفعل بنفسه أو تسببه فيه، وفي كل تلزمه الكفارة.
بيان كفارة القتل وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: من قتل نفسا محرمة خطأ مباشرة، أو تسببا بغير حق فعليه الكفارة] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان كفارة القتل، وهذه الكفارة قد دل عليها الدليل الشرعي الثابت في كتاب الله عز وجل، حيث أمر من قتل خطأ أن يكفر، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله، ومن عادة أهل العلم أنهم إذا فرغوا من بيان مسائل القتل، والأحكام المترتبة عليها من الحقوق، والواجبات، من الديات للأنفس، والأعضاء، والجروح، والشجاج، والكسور، فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان حق الله عز وجل من وجوب الكفارة، وهذا حق لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن حق الله هو أعظم الحقوق، ولكن المقاصة والمشاحة في حقوق المخلوقين أكثر، ومن هنا أمر الله عز وجل بالدية المسلمة إلى أهل القتيل إن قتل خطأ، فقال: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما} [النساء:92] فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الحق له جل جلاله، بعد أن رتبه على حق المخلوق: {فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} فابتدأ العلماء بالديات، وأحكام الديات، ثم ثنوا بعد ذلك بحق الله عز وجل، ومن هنا هذه الدية تكفر عن العبد، وأصل الكفارات: أنها تكفر الذنوب، بمعنى: أنها تسترها، وتذهب بلاءها وشقاءها عن صاحبها، فإذا كفر الله عز وجل للعبد ذنبه، فإنه قد أمن العبد من عقوبة الله عز وجل، وأمن من سوء السيئة في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، ولذلك سميت المغفرة كفارة للعبد، وقالوا: الكفر في لغة العرب أصله: الستر، يقال للباذر الذي يبذر البذر: كافر؛ لأنه إذا بذر البذر غطاه، فيقولون للمزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر، والكفر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: وفي ليلة كفر النجوم غمامها.
يعني: ستر النجوم الغمام ولما كانت توبة الله عن العبد، ومغفرة الله للعبد تمحو ذلك الذنب، فكأنها صارت غطاء لذلك الذنب، فكأنه لم يكن من العبد، فلا تراه عين، ولا يحس به أحد، فالكفر والغفر، معناهما متقارب، فلما كانت هذه الحقوق التي أوجبها الله عز وجل لقاء ذنوب معينة من العبد، سواء كانت في الجنايات بين المخلوقين بعضهم مع بعض، مثل: كفارة القتل، أو كانت الجناية والاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى: كالجماع في نهار رمضان، أو كانت جامعة بينهما: كقوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهذا جعل الله عز وجل فيه الكفارة.
والكفارات كما تقدم معنا منها ما هو مغلظ، ومنها ما هو دون ذلك، فأعظم الكفارات المغلظة: عتق رقبة، ويترتب على ذلك، وجوب صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة، وقد جعل الله ذلك في الظهار، وجعله سبحانه في قتل النفس المؤمنة المحرمة, وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك في من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، هذه الكفارة المغلظة اعتنى العلماء ببيانها، وتقدمت معنا، ولذلك المصنف رحمه الله لم يفصل كثيرا فيها في باب القتل؛ لأنه تقدم معنا ما هي الرقبة التي تجزي، وبينا هذا في كتاب الصوم، وكذلك في كفارة الظهار، ولذلك أجمل المصنف رحمه الله الكلام في تفصيلات هذه الحقوق الواجبة.
الكفارة في الشريعة منها ما هو مخير؛ أي: يخير الإنسان فيها، ومنها ما هو مرتب، فإذا كانت الكفارة تخييرية، كقوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] فهذا كله على التخيير، يختار أي نوع من هذه الثلاث، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن بأو فهو خيار للعبد-يعني: يختار أي واحدة منها فيجزيه- وما كان بثم فلا يجزي الثاني إلا إذا عجز عن الأول.
ومن هنا اختلفت كفارة القتل عن كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان: من جهة النوع الثالث وهو: إطعام ستين مسكينا بدلا من صيام شهرين متتابعين، والذي يقويه الدليل، ويختاره طائفة من أئمة العلم رحمهم الله: أنه لا إطعام في كفارة القتل، وأن الواجب هو عتق الرقبة، فإن عجز عن عتق الرقبة، أو لم يجد الرقبة، فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة من الله عز وجل على عبده، وإذا كفر بعتق الرقبة المؤمنة، أعتق الله كل عضو منه من النار، كما ورد في الخبر، وصحيح أن هذا التكفير ورد في قتل الخطأ، وجعل الله عز وجل هذه الكفارة في قتل الخطأ، ويجري مجرى الخطأ شبه العمد، وقد تقدم معنا ضابط الخطأ، وضابط شبه العمد، وبينا أن كثيرا من المسائل يشترك فيها شبه العمد مع الخطأ، ولذلك تجب الكفارة في شبه العمد كما تجب في الخطأ؛ لأن شبه العمد جرى مجرى الخطأ ولم يجر مجرى العمد، ولذلك لا يجب القصاص في شبه العمد، كما لا يجب في الخطأ، فهذه الكفارة جعلها الله سبحانه وتعالى في قتل الخطأ، ومن هنا يرد الإشكال: كيف يجب على الإنسان أن يكفر، مع أنه قد أخطأ ولم يكن متعمدا للقتل؟ هذا فيه تعظيم للدماء، وتعظيم لأرواح المسلمين، والدماء المحرمة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتساهل في تعاطي الأسباب التي تزهق أرواح الناس، كأن يتهور في أمر مثلا: يحفر لعمارته دون أن يضع حواجز تقي الناس من السقوط في هذه الحفرة، أو مثلا: يأتي إلى طريق سابل فيضع فيها شيئا يوجب هلاك الأنفس، كل هذه الأشياء في مجامع الناس، أو في الأماكن التي يوجد فيها الصيد، ولكنها عامرة بالسكان، فلا يأمن إذا صوب بندقيته أو سلاحه أن يقتل شخصا، أو يصيب شخصا، فلما وضعت الشريعة كفارة القتل زجرت الناس عن التساهل، صحيح أنها لم توجب القصاص، ولكنها أوجبت الدية فعظمت دم المسلم.
هذا الفصل فصله المصنف، وبناه على ما تقدم، وذلك لوجود الإشتراك؛ لأن العاقلة تحمل الخطأ، وكذلك أيضا الكفارة تكون في قتل الخطأ، فإذا قتل خطأ فإنه تجب عليه الدية، وأما قتل العمد فإنه لا كفارة فيه؛ لأن من قتل عمدا فقد صار الحق لأولياء المقتول، فإما أن يقتلوه، وإما أن يقبلوا بالدية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد -يعني: يأخذ بالقصاص- وإما أن يودى -يعني: يأخذ الدية) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حال العفو عن القاتل بالكفارة، والصحيح من مذهب العلماء رحمهم الله: أن قتل العمد عقوبته القصاص، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وفي كتاب الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، فإذا عفا المؤمن عن أخيه القاتل وسامحه، فقد سقط الحق في هذه الحالة، إن سامحه لبدل فحقه أن يأخذ الدية، وإن سامحه لغير بدل فقد عظم أجره وثقل ميزانه، والله عز وجل مثيبه على ذلك، حتى قال بعض العلماء: من فك الرقبة كان له أجر ما يكون فيها من صلاح وعبادة إذا بقيت، يعني: جميع ما يكون منها من طاعة وخير وبر، فهو في ميزان حسنات الذي عفا، وهذا يشمل كل من يتسبب في إنقاذ الأرواح، أو يكون مثل الأطباء ونحوهم، ويتسبب في إنقاذ إنسان من الهلاك، ناويا أن يبقى فيعمر حياته بطاعة الله ومرضاته.
فإذا تنازل عن حقه وعفا، فقد سقط الحق كله، ومن هنا قالوا: لا كفارة في قتل العمد.
أوجه الكفارة وشروط وجوبها
هذا الفصل بين المصنف رحمه الله فيه وجوه الكفارة: بقوله: (من قتل نفسا محرمة) .
من قتل نفسا محرمة -فخرج بذلك من قتل نفسا غير محرمة- مثلما يقع بين العدو وعدوه، فقد تقع عداوة وخصومة بين اثنين من المسلمين، فيقتل أحدهما الآخر، هذا ظاهره العموم، فيشمل العمد.
أو يقتلها خطأ مثل أن يدوسه بسيارته، فيقتل نفسا محرمة، إذا يشترط أن تكون نفسا معصومة، سواء كانت هذه النفس صغيرة، أو كبيرة، يعني: لو قتل طفلا صغيرا، فإنه تجب عليه الكفارة، كما لو قتل كبيرا، ولو قتل أنثى وجبت عليه الكفارة، كما لو قتل ذكرا.
فإذا لابد أن تكون النفس محرمة، وعلى هذا قالوا: لو ضرب امرأة حاملا خطأ، فألقت جنينها ميتا، وعلمت حياته قبل الضرب، قالوا: إن هذا عليه كفارة القتل، أو طبيب أعطاها دواء فأخطأ فأسقطت الجنين، فخرج ميتا، فإنه يجب عليه كفارة، أو أعطى دواء لصغير قريب الولادة، فكان سببا في موته خطأ، فإنه يجب عليه أن يكفر.
قال: (محرمة) بناء على ذلك يرد
السؤال لو أنه قتل نفسا مباحة القتل، مثلا الآن: وجب القصاص على قاتل، فجاء السياف وضرب عنق القاتل، فالسياف قاتل، لكنه قاتل لنفس يباح قتلها، فلا تجب عليه الكفارة.
إذا يشترط أن تكون النفس محرمة، كذلك أيضا لو أن شخصا كان في بيته، فهجم عليه شخص معه سلاحه يريد أن يقتله، أو يريد أن ينتهك عرضه والعياذ بالله! أو يريد أن يأخذ ماله، فقال بعض العلماء: بمشروعية المقاتلة؛ وذلك لقوله كما في الحديث: (يارسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد) ، فجعل من ذب عن عرضه، وعن نفسه، وعن ماله شهيدا، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) ، ففي هذه الحالة، لو أنه كان في بيته فهجم عليه شخص صائل، وحاول أن يدفعه بالموعظة فلم يندفع، وحاول أن يذكره بالله فلم يتذكر، أو لم يسع الوقت أن يذكره، كأن جاء شاهرا سلاحه، وعلم أنه إذا لم يقتله سيقتله، أو أنه يريد أن يقتل قريبه، أو زوجه، وكان هو متخفيا ومعه سلاحه، فعلم أنه لو تأخر سيقتله.
والشرط في دفع الصائل: هو أن لا وسيلة لدفع شره من اعتدائه على العرض بالزنا مثلا إلا بقتله، فإنه يكون هدر الدم، ففي هذه الحالة لو أطلق عليه النار وقتله، وكان مستوفي الشروط، فإنه حينئذ تكون نفسا يباح قتلها؛ لأنه باعتدائه على عرضه، وصولانه على أعراض المسلمين بدون حق، أهدر حقه وأسقطه، فإذا قتله فقد قتل نفسا مباحة القتل، بهذا الوجه، كذلك أيضا البغاة الذين يبغون، ويخرجون على إمام المسلمين، فلو قاتلهم شخص فقتل منهم، فلا يجب عليه القصاص ولا الدية.
إذا يشترط في وجوب كفارة القتل الخطأ: أن تكون النفس المقتولة معصومة محرمة، وعلى هذا لو كان حربيا، لو كان باغيا، لو كان صائلا، لو كان مباح الدم؛ بأن قتل فقتل بالدم الذي قتله، أو كان محصنا فتأول قتله، فإنه لا تجب عليه الكفارة.
قوله: (خطأ) مفهومه أنه لو قتله عمدا فلا كفارة عليه، وفي قوله: خطأ يلتحق به شبه العمد؛ لأن شبه العمد يجري مجرى الخطأ ويأخذ حكم الخطأ.
قوله: (مباشرة) مثل أن يحمل السلاح ويقتله، كما تقدم معنا في قتل المباشرة.
قوله: [أو تسببا بغير حق] مثلا: ألجأه حتى أدخله في مكان فيه أسد، وقفل عليه الباب، فالذي باشر القتل هو الأسد، أي أن الذي افترسه وقتله هو الأسد، لكن الذي تسبب وأغلق الدار، أو ربطه في حوض، وملأ عليه الحوض بالماء حتى فلتت نفسه، هو ذلك الشخص المتسبب في هذا.
وقد تقدمت معنا صور السببية والمباشرة، وفصلنا فيها، فإن كانت سببية -وهذا في العمد- فالشافعية عندهم: أن العمد يوجب الكفارة، لكن إن قلنا: إن العمد لا يوجب الكفارة، كيف يكون قتل المباشرة؟ مثلا: أخطأ وظنه كافرا، وأطلق عليه على أنه حربي أو معاد، فقتله، وتبين أنه مسلم فعليه الكفارة، كذلك أيضا في مسألة السببية: أن يتسبب في قتله، مثل الطبيب يخطئ في دواء فيعطيه لمريض خطأ، ويكون هذا الدواء قاتلا، فتناوله المريض، فالذي باشر قتل نفسه هو المريض حينما تناول الدواء؛ لأن الطبيب لم يضع الداء، لكن لو أعطى الطبيب الحقنة للمريض بنفسه فقد باشر، لكن حينما يصف له دواء فقد تسبب، هذا قتل بالسببية، وهو خطأ؛ لأن مقصود الطبيب أن يداوي ويعالج، والظن بالطبيب أنه يريد الخير للمريض، فإذا أخطأ ووقع المكروه من فوات النفس، وجبت عليه الكفارة.
قوله: (فعليه الكفارة) .
أي: تلزم القاتل الكفارة.







الساعة الآن : 05:07 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 285.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 284.83 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.17%)]