ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 20-10-2025 07:17 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله
ومن أعظم ما تكون هذه المصائب إذا كانت على سبيل التهكم والاستهزاء، فليس هناك أعظم من الاستهزاء بالدين، ولذلك كان الأئمة والعلماء يقولون: لا يؤمن على المستهزئ أن تسوء خاتمته والعياذ بالله.
وقل أن تجد إنسانا كثير الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بشرع الله عز وجل وأحكامه، والاستخفاف بها؛ إلا وجدته مستدرجا من الله عز وجل، فإن أهل الشرك وعبدة المسيح وغيرهم، يقول الله عز وجل لهم: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38] ، وأما الذين استهزءوا بقراء الصحابة، وتهكموا بأهل الخير والدين، فقال الله لهم: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة [التوبة:66] ، فجعل الله الأمر فيهم أشد، والعقوبة أسوأ، وسنة الله عز وجل معلومة ماضية، فلله عز وجل سطوات على الظالمين إذا نزلت بالظالم لم يفلت منه، وإذا حلت به نقمة الله عز وجل فعندها: (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227] .
ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف عواقب الشر الوخيمة، وعواقب التعرض لدين الله وأولياء الله إلا إذا نظر في خواتم هؤلاء، ولا يمكن للإنسان أن يجد ذلك جليا ظاهرا إلا إذا قرأ التاريخ، ونظر إلى عظمة هذا الرب الذي: {أهلك عادا الأولى * وثمود فما أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى} [النجم:50 - 53] ، فمن قرأ عبر الزمان، واستفاد من التاريخ، يعلم أن أهل الشبهات وأهل التوهين دابرهم مقطوع، وكما أخبر الله عز وجل أن الباطل: {كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم:26] ، فهذه شهادة الله عز وجل الذي وصف نفسه بصفتين عظيمتين: العليم، والحكيم، فأخبر أن هذا الباطل وأن هذا الغثاء كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
وكلما سمعت من الشبهات التي تدار على الإسلام، وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين التي تضاد شرع الله عز وجل، فاعلم أنه: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور:39] ، ولذلك جعل الله عز وجل أمرهم كالسراب، فهم في الأمر ينظرون كأنهم يجدون شيئا، فيستدرجون، كمن يرى السراب فيلهث وراءه، (يحسبه الظمآن) فوصفهم الله بأنهم ظمآنين، فالشخص الذي يرى السراب يلهث يريد الماء، (حتى إذا جاءه) أي: عندما تأتي نهايته، تأتيه قاصمة الظهر من جبار السماوات والأرض، (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) فيؤخذ بجريمته وجنايته شر أخذ من عزيز منتقم سبحانه وتعالى، ولا يحسب أحد أن الدين عبث، ولا يحسب أحد أن كلمة الله سبحانه وتعالى عبث، والحق يستمد قوته من ذاته، والله عز وجل ليس محتاجا إلى أحد أن يدافع عنه أو يقول عنه، فالله سبحانه وتعالى له عظمته وجبروته، وهو أعلم وأقدر، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فلا يحزن المؤمن.
وأهم شيء ينبغي أن يعتمد عليه المسلم: ألا يحزن، ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه: {ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل:127] ، فلا تحزن أبدا؛ مهما سمعت فإن هذه أمور منتهية، والباطل له جذور قديمة، قطعت وبترت وأخذت أخذ عزيز مقتدر.
لكن لا يكون هذا له أثر على القلب؛ لأنهم يريدون هذا، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء:76] ، فقال: (إن) وهو أسلوب التوكيد، وجاء بكلمة الكيد التي هي غاية المكر والعبث، وجاء بالاسم الظاهر (الشيطان) ؛ لأنه لا أخبث من الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يجد مسلكا إلا دخل منه، ولأنه هو الذي أمر وسول هذا وزينه، وأتى بـ (كان) التي تفيد الدوام والاستمرار.
فالباطل والشبهات ضد الإسلام وبلاد المسلمين وأهل الإسلام مهما ترى لها من عجعجة وصخب ولغط، فإنها منتهية، مقطوع دابرها ودابر أرض أهلها، ودابر من أعانها وسول بها وقال بها، شاء أو أبى؛ إن عاجلا أو آجلا؛ لأنه أبدا لا يمكن أن يبقى.
فلابد على المسلم أن يدرك أن الحق باق ما بقي الزمان، وتعاقب المنوان، وليعلم المسلم حقيقة أنه ليس هناك أصدق من التاريخ شاهدا على صدق الصادق، وكذب الكاذب، فإن هذه الشريعة حكمت العالم من المحيط إلى المحيط، ومع ذلك كانت العدالة الاجتماعية والسمو والرقي الاجتماعي في أبهى صوره، وأجمل حلله، وقادت العالم من المحيط إلى المحيط، وما كانت تقوده بالموازين المختلة، ولا كانت تقوده بالشعارات الطنانة، والكلمات المعسولة، والحقوق المكذوبة الملفقة، ما كانت تقوده إلا بالحق: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء:105] ، وحيثما حل قضاء الشرع، وحكم الشرع، لقد حكم العالم والأمم والشعوب على اختلاف ألوانها وأحسابها وأعرافها وتقاليدها، وإذا قرأت التاريخ تكاد تصاب بالوله من عظمة هذا الدين وجماله ماذا تريد بعد هذا كله؟! متى وقفت الشريعة أمام قضية من القضايا لم تفصل فيها؟! ومتى وقفت أمام مسألة من المسائل ففصلت فيها فخرج الخصمان غير راضين عن حكم الله عز وجل؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بشيء يكمل به نقصا يزعمه في دين الله وشرع الله عز وجل؟ إذا: عندنا حقائق واضحة تجعل المسلم كما قال الله عز وجل: {قل إني على بينة من ربي} [الأنعام:57] ، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما هو لكل مسلم علم الشريعة؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
فالشريعة ليس فيها خلط، وليس فيها أهواء؛ بل إنها واضحة المعالم: {قل إني على بينة من ربي} [الأنعام:57] ، فهذا هو الحق الذي كان عليه الرسل والأنبياء، وسيبقى ما بقي المنوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز، أو بذل ذليل، فكلمة الله ماضية، وشرع الله عز وجل ماض، فلا يحزن الإنسان من هذا الكيد، ومن هذه الأراجيف، ومن هذا التوهين؛ بل عليه أن يزداد استمساكا بالحق؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} [الزخرف:43] ، وانظر إلى الأسلوب العربي؛ ففي أسلوب العرب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فما قال الله: فأمسك الذي أوحي إليك، وإنما قال: (فاستمسك) ، ومعناه: أن هناك أمورا تزلزل وتقلق وتزعج، فكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكا بالحق، وكلما جاء ران من الباطل وزيف من الباطل انكشف به بهاء الحق ونصوعه، كما قيل: إن الذهب كلما احتك ازداد لمعانا، وشرع الله أعز وأنفس وأطهر وأقدس من الذهب وغيره، لأنه نور من الله سبحانه وتعالى.
أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه
إذا: يجب على المسلم أن يعلم هذه الحقائق: أولا: العناية بضبط الشريعة، والاشتغال جل الوقت بمعرفة المسائل والأحكام، وتصورها، ومعرفة أدلتها، وعندها سيقف أمام أي شبهة.
ثانيا: إذا رفع أهل الباطل عقيرتهم، كشف زيغهم وعوارهم، ولكن بقدر، فلا يضيع الوقت؛ بل يشتغل بأبناء المسلمين؛ توجيها، وتعليما، وتأصيلا على مدرسة الحق والهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة من بعده، ثم من بعد ذلك يزداد رسوخا بقراءة التاريخ، ومن هنا قالوا: من قرأ التاريخ ازداد عقلا إلى عقله، وحكمة إلى حكمته، ومن قرأ التاريخ كانت له عقول بدل عقل واحد؛ لأنه تظهر له سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، ولهذا لما قال الله عز وجل: {سنة الله التي قد خلت في عباده} [غافر:85] ، لما بين الله عز وجل أنها سننه، وبين أنها لا تتبدل: {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر:43] ، فأخبر أنها لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن كل من عرفها وكل من علم بها فسيكون على الحق الذي لا يتغير ولا يتحول.
فليعلم طالب العلم، وليعلم كل إنسان متخصص في الفقه، أنه لا يمكن أن يكون طالب علم بحق إلا إذا كان عن قناعة تامة، واستفاد من العلم بالشريعة، ومن معرفة سنن الله عز وجل في خلقه من بقاء الحق، وبطلان الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضره كيد الكائدين: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) ، وهو سبحانه أعلى وأجل من هذا كله، وكما قلنا أن الإنسان لا يمنع أن يكون عنده إلمام بقدر.
ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها
وأنبه على أننا لا نمنع من رد الشبهات بقدر؛ فقد يقف طالب العلم موقفا واحدا يرد فيه شبهة؛ يرضى الله عنه رضى لا يسخط بعده أبدا، وقد يأتي إنسان يريد أن يلبس الحق بالباطل، فتقف في وجهه فتخرس لسانه، وتكتم بيانه، وتظهر عواره، وتكشف عيبه، فيكتب الله عز وجل بذلك لك من الأجر ما لم يخطر لك على بال.
فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله شكر لك قولك: جاءت سكينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب) .
فانظر: إن الله شكر لك؛ جبار السماوات والأرض يشكر لـ حسان بيتا من الشعر قاله، فجاءه الشكر من رب العالمين.
فمن قال كلمات، فكشف للأمة بها عوار أهل العوار، وزيفهم، فهو على خير.
ومن هنا أنبه أيضا على قضية: أن هناك أناسا فضلاء، وأناسا لهم جهود طيبة في كشف الباطل، والوقوف أمام أهل الزيغ والباطل، تذكر فتشكر، فينبغي أن نشد على أزرهم، ودائما نشعر أننا يكمل بعضنا بعضا، ولا ننظر إلى غيرنا بالنقص، فلن تستطيع أن تجد جمال هذا الإسلام وعظمته إلا إذا أحسست أن الذي يقف في خندقه -يذود وينافح عن الإسلام- أنه أخوك، وأنه ينفح عن الدين، وعن إسلامك؛ فتحبه، وتدعو له بالخير، وترجو له الخير، وما وجدت منه من نقص كملته، وما وجدت من عيب سترته، وحرصت على أن تكون معه، كما يكون الأخ مع أخيه، فإن هذا أمر مهم جدا، ونحن والله نحب أناسا تفرغوا للفكر والدعوة، وسطعوا بكلمات نتمنى أن نلقى الله بهذه الكلمات، وأناسا لهم ردود على الشبهات، وعلى أهل البدع والأهواء والشكوك والزيف، نتمنى أن نلقى الله بأقوالهم وأعمالهم.
فلا يحتقر أحد مهمة أحد، إنما أردنا أن ننبه إلى أنه لا يشتغل بهذه الأشياء أكثر من اللازم، وأما من تصدى عن علم ودراية، وغار على الحق، وتفطر قلبه، وتمعر وجهه من أجل الحق، فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يكثر من أمثاله، وأن يثبت أهل الحق على الحق، وأن يسدد ألسنتهم، وأن يصوب آراءهم، وأن يجمع شملهم، وأن يجمع بين قلوبهم، وأن يصلح بينهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


الأسئلة




حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه
السؤال من فرط في حفظ نفسه، كمن سافر في أرض بها أخطار، أو قصر في تعاطي أمور السلامة، فهل هو مؤاخذ شرعا؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن النصوص واضحة في عدم جواز إلقاء الإنسان بنفسه في التهلكة، وتعاطي الأسباب التي تضر به، وتضر بغيره، ولذلك قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المخاطرة بالأنفس والأرواح.
ومن أمثلة ذلك: أن يركب البحر-كما ذكروا في القديم- عند هيجانه، أو تكون السفينة التي يركبها، أو المركب الذي يركبه به عوار، ولا يؤمن غرقه، ونحو ذلك في زماننا، وقد كانوا في القديم ينهون عن السفر في الأراضي المسبعة -أي: ذات السباع- والأراضي التي فيها هوام، مثل الحيات والعقارب، فإذا نام فيها، أو -مثلا- نام في بطون الأودية بالليل، وتعاطى أسباب الإهمال؛ فهذه موجبة لمسئولية الآخرة، لكن القاضي لو اطلع على شخص فعل هذا الفعل فإنه يعزره.
ومن هنا فإن الألعاب الخطيرة التي لا يؤمن معها إزهاق الأنفس محرمة شرعا، فإذا جاء مثلا يعبث بسيارته، أو يعبث بدراجته، أو يعبث بنفسه بألاعيب قد يدق بها عنقه، أو تنكسر بها رجله، واطلع القاضي على هذا؛ فإنه يعزره شرعا، وهذا معروف في الفقه الإسلامي: أن التلاعب بالأنفس بتعريض نفسه أو نفس غيره لهلاك، هذا فيه التعزير، فإن مات فإنه مسئول أمام الله عز وجل، وحينئذ تنتقل الحكومة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأن هذه الأخطاء من الجنايات، والأخطاء المتعلقة بالشخص نفسه لا ينتقل فيها إلى ورثته، ولا يتحمل ورثته شيئا، ولذلك يتحمل الإنسان فيها مسئولية نفسه، ويلقى الله عز وجل بتبعة ذلك.
والله تعالى أعلم.

متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك ... )

السؤال قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هل تكون بعد الانتهاء من الصلاة، أو عقب التشهد الأخير؟

الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه اللفظة وهذا الذكر ثابت في حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! والله إني أحبك؛ فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .
فقوله: (تقولهن دبر كل صلاة) .
فيه وجهان للعلماء: فبعض أهل العلم يقول: دبر الشيء منه، وبناء على ذلك يقولها بعد انتهائه من التشهد في الأدعية التي تقال.
وقال طائفة من أهل العلم: المراد دبر كل صلاة؛ أي: بعد أن تنتهي من الصلاة، فجعلها من مقول القول الذي يحكى، والصلاة في أصلها عمل، فجعلها تبعا للعمل، فجعلها من الجنسين: جنس المقابلة، أي: إذا صليت وفعلت الصلاة فقل، فجمع له بين عبادة القول والعمل، فقالوا: يقولها، ويكون مقصوده بدبر كل صلاة؛ أي: أنه يجعلها عقيب السلام، بعد الاستغفار وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) .
وعلى كل حال: فالأشبه أنها تقال بعد السلام، وإن قالها داخل الصلاة يتأول قول من قال أنها من الصلاة؛ فلا بأس، لكن الأقوى والأشبه -كما ذكرنا- أنها تقال دبر الصلاة؛ أي: بعد الانتهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين دبر كل صلاة، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فقال: دبر كل صلاة، وهذه بالإجماع لا تقال داخل الصلاة، فدل على أنه من تنويع الطاعة، أي: بعد فراغك من عمل الصلاة.
والله تعالى أعلم.
حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف
السؤال إذا غاب العامل عن العمل دون عذر، وقد أخبره صاحب العمل أنه إذا غاب فالجزاء خصم راتب يومين مقابل كل يوم، فهل يجوز لصاحب العمل هذا الفعل؟
الجواب لا يجوز إلا إذا أراد أن يأكل أموال الناس، ويظلم الناس حقوقهم -نسأل الله السلامة والعافية- يقول الله في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره) ، والوفاء: أن تعطيه أجرته تامة كاملة.
وبناء على ذلك فإن نصوص الكتاب والسنة واضحة في تحريم هذا الأمر؛ لأننا إذا قلنا: إن العامل قد عمل شهرا إلا يوما واحدا، فجاء -بناء على غيابه في اليوم- وأنقص منه أجرة ذلك اليوم مضاعفا بيومين مثلا، فأخذ قط يومين عقوبة، ففي هذه الحالة لم يوفه أجره؛ لأن أجره أجرة تسعة وعشرين يوما، وهذا أعطاه أجرة ثمانية وعشرين يوما، وإذا قال: اليوم بثلاثة أيام؛ فقد أعطاه أجرة سبعة وعشرين يوما، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلم يوفه أجره) >فإن قال قائل: هذا من باب العقوبة بالمال.
فنقول: في هذه الحال تصبح إجارة فيها شبهة الربا؛ لأنه قال: إذا عملت العمل فلك عشرة، وإذا ما عملته فسآخذ منك عشرين، وهذا أمر واضح جلي، فليس له مدخل، ثم هذا لا يملك أموال الناس حتى يعاقبه في ماله، فأموال الناس محترمة، وحقوق العامل تسعة وعشرين يوما، أن يعطى أجرة تسعة وعشرين يوما، وإذا ضيع من أجرته ساعة واحدة، بل دقيقة واحدة؛ فسيقف بين يدي الله ويسأله عنها، شاء أم أبى، فيسأل عن هذه الأجرة، فلابد وأن يوفيها تامة كاملة (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته) ، فدل على أنه باطل وظلم.
وبعضهم يقول: إن هذا جائز ولا بأس به؛ وهو من باب التعزير بالمال، فنقول: التعزير يكون في مسائل خاصة، أما التعزير بالمال ففيه شبهة، وجمهور العلماء على تحريم التعزير بالأموال؛ لأن النصوص واضحة: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم) ، {ولا تأكلوا أموالكم بينكم} [البقرة:188] ، فكلهم يحرمون العقوبة بالمال، لكن على القول بجوازها: إنما ذلك لولي الأمر، والتعزير مسلك قضائي تشريعي خاص، ولا يتوسع فيه على مستوى الأفراد.
فعلى مستوى الأفراد هناك معاملات وحقوق بين الشركة وبين العامل بين المؤسسة وبين العامل بين الأجير والمستأجر، وهذا الأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، لا يظلم ولا يظلم، فإن غاب يوما يخصم منه غياب يوم، وكان غاب يومين يخصم منه غياب يومين.
وقد يقول: إنه متكاسل فلابد من تأديبه سبحان الله! انظر إلى نفسك متى صليت صلاة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام؟ كم تتخلف عن الصلاة؟ وكم يذهب عنك من حقوق الله عز وجل؟ ومع هذا تذهب وتدقق مع عباد الله والله ما شدد عبد على عباد الله إلا شدد الله عليه، ومن عامل الناس بهذه الأذية والإضرار؛ عامله الله بها في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن من يدخل هذه المداخل يظلم الناس، ويجر على نفسه ويلات لا تحمد عقباها، فأوصي السائل، وأوصي من يعمل هذا العمل، وأوصي من يطلع على من يعمل هذا العمل؛ أن يحذره العقوبة من الله عز وجل، والعمال لهم حقوقهم، فإذا عملوا أيامهم فيجب إعطاؤهم أجورهم كاملة تامة بدون منة، وأما بالنسبة للعقوبة؛ فإذا أعجبك عمله وانضباطه أبقيته، وإذا لم يعجبك ولم يناسبك فابحث عن غيره، أما أن تتسلط على ماله، أو تتسلط على عرضه بالسب والشتم والتوبيخ، أو يكتب له خطابا يؤنبه ويؤذيه ويضره، فهذا مما ليس في شرع الله عز وجل، فلا يجوز هذا العمل، لا في الأمور الخاصة، ولا في الأمور العامة.
والله تعالى أعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)

السؤال نرجو منكم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب) ؟
الجواب هذا الحديث أسلوبه أسلوب تحذير، ومحقرات الذنوب: هي الذنوب الصغيرة التي يحتقرها الإنسان، فإذا فعلها واحتقرها ألفها، فلا تزال به حتى تتعاظم فتهلكه-نسأل الله السلامة والعافية- ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت) .
فالإنسان ينظر إلى عظمة الله جل جلاله، ويستعظم كل ذنب في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدعوه إلى الإحسان، وإلى الندم، وإلى التوبة النصوح، وقد قالوا في الحكمة: إن الجبال من دقائق الحصى، فالجبل كما تراه هو من دقائق الحصى، وقد ترى الكوم من الرمال متناهي العظمة، ولكنه من ذرات يسيرة، فإذا أحاطت الخطيئة بالإنسان أوبقته-والعياذ بالله- وأهلكته.
والله تعالى أعلم.
حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة
السؤال هل الزيادة في عمر الزوجة عما أخبر به الزوج تعد عيبا من عيوب النكاح؟
الجواب هذا غش، فإذا كان عمرها أربعين أو خمسين أو ستين، فتأتي تقول: إن عمرها ثلاثون سنة، أو خمس وعشرون سنة، فإن هذا غش بلا شك، فإذا كانت كبيرة السن ولم تخبر بالحقيقة فقد غشك.
والمرأة قد تخاف من كبر السن، ولذلك يقولون في الحكمة: إذا اختصم النساء فاعلم أنهن في السن يختصمن.
وعلى كل حال: لا يجوز الإخبار بسن -لا من الرجل ولا من المرأة- خلاف الحقيقة؛ بل المنبغي أن يكون هناك صدق؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة:119] .
أما بالنسبة للحكم الشرعي: فهذا يرجع فيه إلى القضاء، والعيب المؤثر عند العلماء: هو الذي يؤثر في الجماع، ويؤثر في الحياة الزوجية، سواء من الرجل أو المرأة؛ لأن السؤال: هل هذا عيب يعطي الخيار للمرأة، أو الرجل هذا فيه نظر: فإذا كان سنه يؤثر على حياة المرأة، ويضر بها، ويؤثر على حقها في العشرة الزوجية؛ فنعم، ولذلك نرد هذا إلى القاضي، لكن الأصل في السن أنه لا يؤثر، فقد تجد الرجل مثلا وعمره أربعون سنة، ويخبر أن عمره مثلا خمسا أو ثمانيا وثلاثين، فالفارق يسير، فلا يكون نقصا يوجب الخيار، بل قد يكون عمره خمسين سنة، فيقال: إن عمره مثلا ثلاثون سنة، ولكن تكون فيه قوة الشباب، ويعطي المرأة حقها، ولا يضر بشيء من حقوقها، فالعقد قائم ولا يؤثر ذلك عليه، مادام أنه يقوم ويؤدي حقوق الزوجية.
فهذا ليس عيبا يؤثر في النكاح؛ بحيث أنه يوجب الخيار، والأصل -كما تقدم معنا في النكاح- أن العيوب المؤثرة مثل: عيوب الفرج التي تمنع من الاستمتاع، أو تمنع من الجماع أصلا كالعنين والمجبوب، فهذه كلها عيوب مؤثرة، أما بالنسبة للسن فإنه ليس بمؤثر على كل حال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






ابوالوليد المسلم 20-10-2025 07:24 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (489)

صـــــ(1) إلى صــ(22)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [2]
ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: قتل عمد، وقتل خطأ، وقتل شبه عمد، ولكل قسم شروطه وضوابطه، فيشترط في قتل العمد أن يكون القاتل قاصدا قتل آدمي معصوم الدم، وأن يقتل بما يغلب على الظن موته به، فإذا توفرت هذه الشروط وجب القصاص إلا أن يعفو ولي الدم.

أقسام القتل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد] .
تقدم معنا تعريف الجناية، وأن مراد العلماء رحمهم الله بها: الاعتداء على النفس والبدن، سواء كان ذلك بالإزهاق، أو بإتلاف الأعضاء وجرح البدن.
القتل العمد
يقول رحمه الله: (وهي عمد يختص القود بشرط القصد) .
الضمير عائد إلى الجنايات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون الجناية عمدا، وإما أن تكون الجناية خطأ، وإما أن تكون شبه عمد.
وقد بينا أن هذا التقسيم الذي ذكره العلماء رحمهم الله هو أصح مذاهب العلماء في المسألة، وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو قضاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وأئمة التابعين، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة.
قال رحمه الله: (وهي عمد) .
يقال: عمد إلى الشيء إذا قصده، ولا يكون العمد عمدا إلا إذا وجد فيه القصد، وهذا النوع من الجناية هو أعظم أنواع الجناية وأشدها.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم قتل النفس المحرمة؛ لدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، فبين أن المؤمن لا يقتل أخاه المؤمن عمدا {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93] ، فهذه أربع عقوبات، كل واحدة منها من الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) ، فالأصل أن المؤمن لا يتعمد قتل أخيه المؤمن، ولكن إذا تعمد وقتله عمدا وعدوانا فإنه قد غضب الله عليه ولعنه، وجعل جهنم جزاءه وساءت مصيرا، وأعد له العذاب العظيم فيها، وهذا من أشد ما يكون؛ فإن الله عز وجل إذا رتب العقوبة مكررة على الشيء دل على عظمه.
وقال سبحانه وتعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، قال بعض العلماء: (أنفسكم) أي: إخوانكم؛ لأن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، ولذلك قال: {فسلموا على أنفسكم} [النور:61] ، قيل: على إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد؛ ولأنه إذا قتل أخاه المسلم فقد قتل النفس المؤمنة، فلا يتورع عن قتل أي نفس مؤمنة أخرى.
وقال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فحرم الله قتل النفس المحرمة ونهى عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم كما هو معلوم.
وكذلك جاءت نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين حرمة قتل المسلم بدون حق، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات) والموبقات هي التي تهلك أصحابها -والعياذ بالله- وهي جمع موبقة، ترهنه حتى تأتي عليه وتهلكه والعياذ بالله، وذكر منها: (الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، فقتل النفس التي حرم الله بغير حق من الموبقات المهلكات، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) .
أي: لا يزال في فسحة ورحمة ما لم يقع في الدم المحرم -والعياذ بالله- لأنه موبق ومهلك لصاحبه.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اقتص من القاتل، كما في حديث اليهودي الذي قتل الأنصارية.
والإجماع منعقد على تحريم القتل، وأنه من عظيم الذنب وشديد الذنب بعد الشرك بالله عز وجل، ولذلك جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه بعض أصحاب السنن: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن) ، أي: بدون حق، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وقف على الكعبة فقال: (إنك عند الله بمكان -أي: محرمة معظمة- وإن دم المسلم أعظم عند الله منك) ، أي: أن دم المسلم المحرم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا ومن الكعبة ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم القتل بدون حق، وأنه من الإفساد في الأرض، وما من أمة ينتشر بينها القتل إلا أصابها البلاء العظيم.
ولذلك إذا أراد الله بقوم شر وبلاء وفتنة جعل بأسهم بينهم -والعياذ بالله- فقتل بعضهم بعضا وتسلط بعضهم على دماء بعض.
فالقتل العمد مجمع على تحريمه، إلا إذا وجد السبب الموجب للقتل، وأذن الله في القتل وأحل دم المقتول بالدلائل الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وجوب القصاص في القتل العمد
وقوله: (يختص القود به) أي: القصاص، يقال: قاد فلان من فلان إذا اقتص منه، والأصل أن قتل العمد هو النوع الوحيد الذي يوجب لأولياء المقتول المطالبة بدم القاتل.
فإذا توفرت شروط القتل بكونه قتل عمد وعدوان، فإنه يمكن أولياء المقتول من القود من القاتل.
كما قال تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء:33] ، وهذا السلطان هو سلطان الحق الذي بينه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لولي المقتول: أما أن تأخذ بحقك فنقتل من قتل وليك، أو تعفو وتكون لك الدية، أو تعفو عن القصاص والدية.
وهذا الأمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، وهو أن قتل العمد هو وحده الذي يوجب القصاص، وأن ما عداه -وهو قتل الخطأ وقتل شبه العمد- لا يوجب قصاصا ويوجب الدية، ويخير الولي بين الدية وبين العفو، إن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا.
ولذلك قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178] .
وقد كان في شرع من قبلنا أن القاتل يقتل، كما في شريعة اليهود، ولا عفو ولا دية، فخفف هذا الحكم ووضع هذا الإصر الذي كان على اليهود في شريعة عيسى عليه السلام، فقيل لأولياء المقتول: إما أن تقتلوا قصاصا، وإما أن تأخذوا الدية، وجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالتخفيف والرحمة، فخير بين هذه الثلاثة الأشياء: القتل الذي هو القصاص، أو أخذ الدية، أو العفو بدون قتل ولا قصاص.
فالشاهد: أن العمد يختص به القود، وقد دل على هذا القود دليل الكتاب كما ذكرنا من الآيات: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] ، وكذلك دل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، وقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، والقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه.
وقد دل على ذلك دليل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما يودى) .
فقول: (إما أن يقاد) أي: يمكن من القود والقصاص، (وإما أن يودى) أي: يعطى الدية؛ فهو بخير النظرين، إن شاء هذا، وإن شاء هذا.
أما لو أسقط حقه وعفا فله ذلك.
إذا: قوله: (يختص القود به) محل إجماع، أنه لا قود ولا قصاص في قتل الخطأ، فلو أن شخصا خرج إلى البر للصيد فرمى حيوانا، فسقط رجل بينه وبين الحيوان فقتله، فبالإجماع أنه لا يقتل به؛ لأن الخطأ لا يوجب القود، وكذلك أيضا شبه العمد لا يوجب القود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص في شبه العمد، فقد جاء في الصحيحين: (أنه اقتتلت امرأتان من هذيل) أي: اختصمتا وحصل بينهما شجار وقتال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على العاقلة) ، أي: على عاقلة المرأة، مع أنها وقعت في حالة الخصومة والشجار؛ لكنه ليس هو بقتل عمد، وإنما هو قتل شبه العمد.
وهذا يدل على أنه لا يوجب القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به.
فلا قتل الخطأ ولا قتل شبه العمد يوجب قصاصا، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وهي عمد ويختص القود به) أي فلا قصاص إلا في قتل العمد والعدوان.
وقوله: (بشرط القصد) أي: بشرط وجود قصد القتل، فلابد أن يقصد القاتل وأن تكون عنده نية للقتل، وأن يقصد قتل المقتول ولا يقصد قتل غيره، فإذا قصد القتل، والمقتول الذي قصده معصوم الدم، وتوفرت فيه الشروط المعتبرة؛ فإنه يجب القصاص.
إذا: لا يمكن أن يحكم بكون الإنسان قاتل عمد ويوجب القصاص عليه إلا إذا وجدت عنده نية للقتل -الذي يسمونه القصد- والأمر الثاني: أن يقتل بشيء يزهق، كما سيأتي -إن شاء الله- في شروطه وأن يكون قاصدا قتل المقتول نفسه، فيقول: أردت قتل فلان، والعياذ بالله!
القتل شبه العمد
قال رحمه الله: [وشبه عمد] .
شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء: شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد.
فهذه كلها من أسماء شبه العمد.
وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد.
ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها) ، وهذا الحديث فيه فوائد: أولا: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد) ، فأثبت قسما ثالثا وسيطا بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد.
ثانيا: أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد) ، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) ، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع.
وستأتينا ضوابط شبه العمد.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالا لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر) ، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها.
إذا: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسما ثالثا، وهو شبه العمد.
ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جدا بحيث أنها تقتل غالبا فلا إشكال.
وكذلك أيضا أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد.
فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالبا، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب.
فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالبا، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالبا، لكن الموضع يقتل غالبا، فهو من العمد.
وكذلك أيضا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالبا، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضا.
فإذا كان الحجر يقتل غالبا، فإنه حينئذ قتل عمد.
لكنه إذا كان حجرا لا يقتل مثله غالبا والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصا، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه.
قتل الخطأ
قال رحمه الله: [وخطأ] .
هذا هو القسم الثالث من أقسام القتل، والخطأ: ضد الصواب، وأخطأ في الشيء إذا لم يصبه، والمراد هنا: أنه لا يقصد القتل ولا يريده، وهو يقع على صور منها: أن يرمي شيئا يظنه صيدا فيصيب آدميا ويقتله، وهو معصوم الدم، أو -مثلا- يأتي بقصد الإحسان، كالطبيب يريد أن يعالج، فيهمل في بعض الأشياء بدون قصد للقتل، فيحصل به إزهاق النفس وموت المريض ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.
فهذه الثلاثة الأقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ.
أجمع العلماء رحمهم الله على أن القتل يكون عمدا ويكون خطأ، والخلاف فقط في شبه العمد هل هو قسم أو لا؟ وهناك نوع رابع يسميه بعض العلماء: (جاري مجرى الخطأ) ، وقد نتعرض له إن شاء الله في أقسام الخطأ.
ضوابط وشروط قتل العمد
قال رحمه الله: [فالعمد أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به] .
بعد أن بين المصنف أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، سيضع ضابطا لكل قسم منها، ثم بعد ذلك سيتحدث عن الصور التي يحكم فيها بقتل العمد، والصور التي يحكم فيها بقتل شبه العمد، والأمثلة أيضا والصور على قتل الخطأ، حتى يستطيع الفقيه وطالب العلم أن يميز بين هذه الثلاثة الأقسام.
فشرع رحمه الله في ضابط قتل العمد.
القصد
قال رحمه الله: (أن يقصد) هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون قاصدا للقتل -والعياذ بالله- بمعنى: أن يقتل ويزهق النفس المحرمة بنية، وإذا تخلفت النية فليس بعمد، ولذلك قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] ، فجعل قصد القلب للشيء عمدا، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن يحكم بقتل العمد إلا إذا وجد قصد ونية للقتل.
إذا: الشرط الأول أن تكون عنده نية، فلو أنه رمى ولم يقصد القتل، كأن يرمي صيدا وهو لا يقصد القتل، ومثل المعلم يعذب طالبا ثم يموت الطالب، فهذا علم يقصد القتل وإنما قصد التأديب، فإذا أردنا أن نحكم بالعمد فلا بد من وجود نية للقتل.

أن يعلم كونه آدميا معصوم الدم
ثانيا: أن يعلم كونه آدميا، فلو أنه رأى شيئا فظن أنه حيوان أو ظبي أو وعل -كأن يكون في البر- فرماه فوجد أنه آدمي، أو رأى شخصا نائما فظنه حيوانا -صيدا- فقتله، أو ظنه سبعا مفترسا فقتله، فإنه لم يقصد آدميا معصوم الدم، ولم يرد قتل الآدمي، وإنما أراد قتل السبع ليدافع عن نفسه، أو أراد قتل حيوان صيدا.
إذا يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدميا، فخرج قتل الحيوان، فإذا قتل حيوانا فلا يوجب القصاص.
وخرج بقوله: (معصوما) غير معصوم الدم، كأن يكون حربيا، ففي الجهاد إذا قتل المسلم الكافر فإنه قتل غير معصوم، فلا يوجب هذا القتل قصاصا عليه.
إذا: الشرط الأول: القصد للقتل.
والشرط الثاني: أن يكون المقصود والمقتول معصوم الدم، فخرج غير معصوم الدم.
ومن هنا فلو صال على الإنسان شخص يريد أن ينتهك عرضه، أو يريد أن يقتله، فجاء ودفعه وعلم أو غلب على ظنه أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله أو يؤذي عرضه، ولا مناص من الخروج من هذا البلاء إلا بقتله فقتله -كما سيأتينا في دفع الصائل- فإنه لا يعتبر قتل عمد وعدوان؛ لأن هذا الصائل أسقط حرمته بالاعتداء على أعراض الناس؛ لأنه أصبح غير معصوم بهذا الاعتداء، فإذا أراد شخص أن يقتل شخصا فجاءه وشهر السلاح عليه, فهذا الذي شهر عليه السلاح مظلوم، فأراد أن يدفع عن نفسه فرفع السلاح وعلم أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله، فإنه قد قتل غير المعصوم، فخرج الحربي وخرج الصائل لعدم عصمة دمهما.
إزهاق الروح
الشرط الثالث: أن يقع القتل وأن يحصل، فلو أنه نوى وقصد المعصوم ولم يحصل القتل؛ فلا يجب القصاص.
مثلا: لو جاء رجل وهجم على شخص يريد أن يقتله عمدا وعدوانا، وكان يعلم أن هذا الشخص معصوم الدم وأنه محرم النفس، فرماه بسلاحه فكسر رجله، فهو يقصد القتل والمعصوم، ولكن لم يقع القتل، فلا قصاص بالقتل، وإنما يقتص منه بمثل ما آذاه، والجروح قصاص، وينظر في الجرح هل مثله يمكن القصاص به أو لا؟ وسيأتينا في قصاص الجرح.
إذا: يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدميا معصوم الدم، وأن يقع القتل.
أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به
الشرط الرابع: أن يكون هذا القتل بواسطة، وهي الآلة أو الوسيلة أو السببية المفضية للهلاك، كما سيأتي -إن شاء الله- في ضوابط قتل العمد، فقتل العمد ينقسم إلى قسمين -سنبينهما إن شاء الله-: المباشرة والسببية.
فإذا قصد، وكان المقصود آدميا معصوم الدم، وحصل القتل، فإنه ينبغي أن يكون القتل، فإنه بآلة يغلب على ظننا أنه يقتل مثلها، فتكون الآلة جارحة، مثل السكاكين والسيوف كما سيأتينا إن شاء الله، وسنذكر ضوابط الآلات المؤثرة.
إذا: هذه الأمور لا بد من توفرها للحكم بكون القتل قتل عمد، فلو كانت الآلة التي استخدمها لا تقتل غالبا، مثل العصا الصغيرة ضربه بها في غير مقتل ومات الشخص، فهو هنا قد قصد القتل، والشخص المقصود معصوم الدم، وحصل القتل والآلة لا تقتل غالبا، فيقولون: الأشبه أنه وافق القدر فمات؛ لأن الغالب أنه لم يمت بسبب الآلة.
وبناء على ذلك لا بد أن تكون الآلة قاتلة، أي: يغلب على الظن أن تكون الآلة قاتلة كما سنذكر إن شاء الله.
هذا بالنسبة لقتل العمد، فلا يحكم بقتل العمد إلا عند وجود هذه الشروط وهذه الصفات المعتبرة للحكم بوصف القتل أنه قتل عمد.
القتل بالمباشرة والسببية
قال رحمه الله: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن] .
الآن سندخل في تفصيلات تحتاج إلى شيء من التركيز، وقبل أن ندخل فيها سنقدم بمقدمة نرجو من الله أن ييسر على طالب العلم فهم هذه الأمور، فنقول: إن قتل العمد إذا حصل فإما أن يكون بالمباشرة وإما أن يكون بالسببية.
والقتل المباشر: هو أن يباشر القاتل إزهاق النفس والروح، فيأتي تلف النفس من مباشرته لا بواسطته؛ كما لو أخذ السكين وطعن بها في مقتل، فقد باشر القتل، والقتل مسند إليه؛ لأن الفعل والآلة تحت تحكمه وفعله، فحينئذ هو القاتل، ويقال: قتل مباشرة.
وفي زماننا كما لو أخذ المسدس وأطلق العيار الناري على الشخص فأصابه وأرداه قتيلا، فحينئذ باشر القتل؛ لأن الفعل بإطلاق المسدس جاء من فعله هو، والإزهاق للروح والتلف حصل بفعله لا بواسطة أخرى؛ لأن الآلة لا يمكن أن تقتل إلا إذا حركت، والسلاح لا يمكن أن يزهق إلا إذا حرك، ومن هنا يقال: إنه مباشر.
فائدة لطيفة: حينما يقال في التصوير الفوتغرافي: إن الآلة هي التي باشرت، هذا غير صحيح، وهو من القوادح التي تقدح فيها؛ لأن ضوابط العلماء كما قالوا: إن الآلة نفسها إذا كانت لا تتحرك إلا بفعل فاعل لم يسند إليها الحكم، ومن هنا حكم العلماء بأنه لا يمكن للسلاح نفسه -المسدس- أن يعمل إلا إذا حركه الشخص، فإذا حرك الآلة وكان القتل ناشئا عما نتج عن التحريك الذي حصل بسبب القاتل، فهذا قتل مباشرة.
النوع الثاني: قتل السببية: وهو ألا يكون هو القاتل المباشر، ولكن يتسبب في القتل فيكون القتل بشيء آخر، كأن يباشر القاتل إلى شيء يكون سببا في القتل، مثال ذلك: أن يأخذ حية فيمسكها ثم يلقيها على إنسان فتكون سببا لوفاته، فالقتل لم يحصل بفعل القاتل نفسه، وإنما الحركة والنهش والسم وقع من الحية -أعاذنا الله وإياكم منها- إذا القتل مباشرة من الحية، والسببية بحمل الحية وإنهاشها وتقريبها من الشخص القاتل.
وكذلك أيضا أن يأخذه ويدفعه إلى قفص فيه أسد، أو إلى موضع لا مفر فيه، كغرفة محكمة مغلقة، فيفتح بابها ويدخله داخلها مع أسد أو نمر أو سبع مفترس، أو في فرامة لحم، لكنه ألجأه للدخول حتى فرمته وقضت عليه، فافتراس السبع هو الذي قتل، والموت نشأ من افتراس السبع وهجوم السبع على المقتول، فالحيوان والسبع هو الذي باشر القتل، والشخص الذي أدخل المقتول لم يقتل، إنما تسبب في قتله، وهذا يسمى: قتل السببية.
وكذلك أيضا لو أنه ربطه ثم رماه في بركة عميقة، أو علم أنه لا يحسن السباحة فرماه في بركة عميقة، فسقط فمات فيها، فإن الموت حصل بالغرق، وزهوق النفس -خروج الروح والهلاك- حصل بقدرة الله عز وجل، فالذي قتله هو الماء، ولكن من الذي ألقاه في الماء؟ ومن الذي أوقعه فيه؟ ذلك القاتل.
فهذا يسمى: قتل السببية، فإن المباشرة ليست من القاتل ولكنها من طرف ثان.







ابوالوليد المسلم 20-10-2025 07:32 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




اجتماع السببية والمباشرة في القتل
إذا: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد.
وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلانا وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة المباشرة بالنسبة للمكره الذي هدد، والسببية بالنسبة للمكره الذي دفع وأمر.
فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر.
فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلا مدركا، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلانا فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرها؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره.
والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكره والمكره، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنونا، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر.
إذا: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة.
والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلا إلا إذا باشر.
ومعناه: أنه سيفعل بآلة أو بوسيلة.
القتل بالمحدد
قال العلماء: والآلة التي باشر القتل بها إما أن تكون محددة وإما أن تكون غير محددة، والمحددة مثل السكاكين والسيوف والزجاج، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على الحديد المسنن والخشب المسنن، وهو الذي ضبطه المصنف رحمة الله بقوله: (أن يجرحه بما له مور) أي: نفاذ، والنفاذ يكون بقطع الجلد والجرح، ولابد من هاتين الصفتين: قطع الجلد والجرج، فإن قطع الجلد ولم يجرح فلا تكون هذه الآلة مما له مور.
وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) ، هذا الذي يجرح يستوي أن يكون من الحديد وغير الحديد.
والحديد -كما ذكرنا- مثل السيوف والسكاكين والخناجر والحديد المزجج والمسنن، ومثل رءوس الرماح والأسنة، وكذلك أيضا في زماننا المفكات التي يطعن بها أحيانا، فهي نافذة تدخل إلى جوف البدن وتجرح وتنفذ.
فهذا الجارح إما أن يكون من الحديد أو أن يكون من غير الحديد؛ كالخشب المحدد المسنن الذي يفعل كفعل الحديد الذي ينفذ في البدن، ومثل الزجاج الذي يجرح وينفذ في البدن، ومثل النحاس والرصاص والنيكل وغيرها، إذا سنن فإنه يجرح وينفذ إلى داخل البدن.
وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) هذا الذي يجرح له صورتان: الصورة الأولى: أن يجرح وينفذ في البدن ولا يخترق البدن حتى يخرج من الجهة الأخرى.
الصورةالثانية: أن ينفذ في البدن ويخرج، أي: يجرح من جهة ثم ينطلق ويخرج من الجهة الثانية.
مثال الصورة الأولى: أن يطعنه بسكين في بطنه ولا تخرج من ظهره، فهذا جارح لم ينفذ، أي: لم يخرج إلى خارج البدن.
ومثال الصورة الثانية: أن يطعنه بسيف ويخرج من ظهره، فهذا جرح دخل في البدن ونفذ.
فيستوي في الجارح هذا أن يكون نافذا -أي: يخرج- أو أن يكون غير نافذ، وغير النافذ سواء استقر كالرصاصة التي تدخل وتستقر في البدن، أو لم يستقر مثل أن يطعنه بسكينة ونحوها ثم يخرجها.
فهذا الذي له مور ونفاذ في البدن القتل به عمدا موجب للقصاص.
فلو طعنه بسكين أو بسيف، وفي زماننا كالطلق الناري، فإن الطلق الناري بالرصاص يدخل في البدن وينفذ، وقد يدخل في البدن ولا ينفذ، ولكنه يجرح وله مور في البدن، فسواء استقر في البدن أو خرج فهذا جارح وقاتل.
قال رحمه الله: (أن يجرحه بما له مور) .
هذا الجارح الذي له مور في البدن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب القصاص والقود وهو قتل عمد.
القسم الثاني: لا يوجب القصاص والقود وهو الذي ليس بقتل عمد، وفيه تفصيل.
والقسم الذي يوجب القصاص والقود شرطه أن تكون الآلة قوية تجرح مثلها وتنفذ، وذلك -كما ذكرنا- مثل: السكاكين والسيوف والرماح والرصاص، والقسم الثاني: أن يكون صغيرا مثل الإبرة، فلو أنها غرزت في الإنسان فإنها تجرح، ولها مور في البدن، لكن هل كل طعن بإبرة يوجب القصاص؟
الجواب هذا الجارح الصغير -كالإبرة والمسلة ونحوها- يفصل فيه، فإن كان على صورة تقتل غالبا فعمد، وإن كان على صورة لا تقتل غالبا فليس بعمد.
مثال الصورة التي تقتل غالبا: أن يطعنه بالإبرة في مقتل، فيغرز الإبرة في مقتل، كجهة قلبه أو جهة جوفه، فنفذت ومات من ساعته، فإن هذا عمد يوجب القود والقصاص.
ومثال الصورة الثانية: أن يغرزها في غير مقتل ومن أمثلة الصورة الأولى -وهي أن يغرزها في مقتل-: كأن يضرب بها شيخا كبيرا لا يتحمل، فهي وإن كان مثلها صغيرا، ولكن المضروب بها مثله لا يتحمل هذا، وكذلك المريض الساقط بمرضه -الذي بمجرد أن يضرب يموت- قالوا: إن الغالب موته بهذا الضرب، وحينئذ الآلة صغيرة، لكن وجد في الشخص وصف يقتضي صيرورة القتل عمدا؛ لأنه يعلم أن مثل هذا لا يتحمل، والشيخ الكبير لا يحتاج أن يوضع له علامة، فهو واضح الأمر أن مثله بأقل شيء يموت، فغرز مثل ذلك في شاب قوي جلد، ليس كغرزها في شيخ كبير أو مريض، أو غرزها في إنسان قوي لكن في مقتل.
إذا: فصل العلماء رحمهم الله والأئمة في المحدد بين أن يكون جارحا يزهق غالبا مثل السكاكين ونحوها، وبين أن يكون جارحا لا يزهق غالبا.
ففرقوا فيه بين الشخص الذي يتحمل، والشخص الذي لا يتحمل، والمطعن غير القاتل والمطعن القاتل.
القتل بالمثقل
قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه] .
هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل.
والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجرا كبيرا ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلا غالبا، وتارة لا يكون مثله يقتل غالبا.
ففرقنا بتفريق النقل والعقل.
والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهوديا كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين) ، كما فعل بالجارية.
ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافا للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد.
فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها) ، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدرا.
ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر) ، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصا وعمدا.
ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل.
والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيرا، وأما إذا كان صغيرا فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيرا وضربه في مقتل قتل به وصار قودا، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلا: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالبا أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيرا فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيرا في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفا لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير.
ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثا فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد.
والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيرا يقتل غالبا مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصا، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص.
وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكما فيه مثل الحجر.
والصورة الثانية: أن يكون مثقلا يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالسا تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالبا، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص.
صور القتل بالسببية
قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطا] .
وذلك كما ذكرنا، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله! فقد بدأ المصنف بالمحدد ثم غير المحدد، وغير المحدد قسمه إلى قسمين، فلم يأت بالحائط قبل الحجر، مع أن الحائط أكبر من الحجر، ولكن الحجر في المباشرة والتحكم أسبق من الحائط، ولذلك القتل به أقوى من القتل بالحائط، وأغلب وقوعا بين الناس من الحائط، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله وترتيبهم للأفكار، ومراعاتهم للتسلسل المنطقي فيها.
قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق] .
هنا بدأ المصنف بالقتل بالسببية، وصورته: كأن يلقيه من شاهق، فإن هذا يسمى: الإلقاء في المهلكة، وهو أن يلقيه من شاهق؛ كجبل أو عمارة كبيرة -كما في زماننا- أو طيارة في الجو وغيرها، أو يلقيه على سبع، أو يلقيه على زريبة، أو يلقيه في بحر لجي، أو يلقيه في بركة، أو يلقيه في مكان به أسد قاتل.
فهذه كلها من القتل بالسببية، ويحتاج إلى ضوابط إن شاء الله سنتعرض لها ونبينها في المجلس القادم.


الأسئلة




إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة
السؤال العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح.
عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟

الجواب من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص.
فمثلا: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيما ثالثا، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} [النساء:93] ، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسما ثالثا.
الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض.
وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأت بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين.
ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالبا، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضا الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضا عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة.
والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولا: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانيا: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها) ، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصا قتل شخصا عمدا -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد.
والله تعالى أعلم.

حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل
السؤال إذا كان القتل قتل عمد ولكن القاتل ادعى خلاف ذلك، وقال: لم أقصد قتله، وذكر أمرا خلاف القصد، فما الحكم؟
الجواب قتل العمد فيه إقرار من القاتل وفيه دلالة ظاهر.
فمثلا: شخص أخذ المسدس وجاء ووضعه في رأس المقتول وضربه وقال: أنا لم أقصد أن أقتله، فهل يصدق في هذا؟ وهذا يسمى دلالة الظاهر، ويحتاج طالب العلم دائما أن يفقه في المسائل الشرعية دلالة الظاهر، ومنها: مسألة التبديع عند بعض العلماء، فعندما يداوم الشخص على شيء ويقول: أنا ما قصدت أغير شرع الله، فيقال له: مداومتك، الذي هو دلالة الظاهر، هذه المداومة كما تدل على أنك تقصد وتعتقد في هذا الشيء، لكن هذه الدلالة لا يحكم بها كل أحد، وإنما يحكم بها العلماء الراسخون الذين يستطيعون أن يعرفوا متى يحكم بالظاهر ويلغى القصد؟ ومتى يلغى الظاهر ويلتفت إلى القصد؟ ومتى يلزم الأمران اجتماع الظاهر والباطن؟ وهذه من أدق المسائل ومن أعوصها عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
وهنا في هذه المسألة: إذا كان الظاهر ودلائل أخرى دلت على أنه يريد قتل العمد والعدوان، كأن يكون سبق منه التهديد بالكلام، كشخص جاء وقال له: أنا سوف أقتلك، وجاء وضربه بشيء غالبا يقتل، أو جاء ووضع الحبل على رقبته وخنقه، ثم قال: أنا ما قصدت قتله، فنقول: هذا الشيء مثله يقتل غالبا، وكونك تقول: ما قصدت قتله، هذا لا نقبله منك؛ لأن دلالة الظاهر واضحة على أنك تريد قتله وإزهاق روحه.
وكأن يصب أحدهم الوقود على آخر ويشعل فيه النار، ثم يقول: أنا ما قصدت قتله، بل قصدت فقط تعذيبه، فلا يقبل هذا، ولو فتح هذا الباب لذهبت دماء الناس بحجة عدم قصد القتل، فالشريعة لا تلتفت إلى مثل هذه المواقف، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: أن يجرحه بما له مور.
فدلالة الظاهر ودلالة الأحوال معتبرة، وقتل العمد لا بد فيه من النظر في هذه الأمور، وليس هناك شرع أدق من شريعة الله عز وجل وحكم الشريعة الإسلامية في ضبط الأمور، ولن تجد أحكم ولا أسلم من هذه الضوابط المستنبطة من أصول الشريعة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت القوانين الوضعية وما يسمونها بالتشريعات والنظم المعاصرة والسابقة عاجزة أمام هذه العظمة التي جعلها الله عز وجل كمالا وجمالا وجلالا لشرعه، الذي أخبر في محكم تنزيله أنه تمت كلماته فيه صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، والله تعالى أعلم.
الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي
السؤال أشكل علي التفريق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي؟
الجواب أهل الذمة: هم أهل الكتاب، وتختص الذمة بهم، وهم الذين لهم أصل من دين سماوي، فلا تكون الذمة للمشركين، ولا تكون للوثنيين، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من الكفار نظرا لأن لهم أصلا من دين سماوي، إذا فتح المسلمون بلادهم خيروهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويقرون على ما هم عليه، ويبقون في ديارهم تحت حكم المسلمين وأمانهم، فإذا اختاروا الإسلام فلا إشكال، وصارت الدار دار إسلام، وإذا اختاروا دفع الجزية وأن يكونوا تحت حكم المسلمين وأمانهم فهم أهل ذمة، لهم ذمة الله ورسوله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) ، كما في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه، فهذه الذمة لا تنقض عهدا لأحد، وقد تقدمت معنا في مسائل أحكام أهل الذمة، وبينا أحكام الشرع ونصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في معاملة أهل الذمة.
وأما النوع الثاني: وهم المستأمنون، فالمستأمن هو الحربي الكافر الذي جاء وعنده رسالة ويريد أن يدخل بلاد المسلمين لغرض معين بإذن من ولي أمر المسلمين، أو أراد أثناء الحرب أن يدخل موضعا بإذن من المسلمين، وأذنوا له بالدخول، فإن هذا مستأمن، وذلك مثل الرسل التي كانت تأتي أيام قتال الصحابة رضوان الله عليهم للروم والفرس، فقد كانت تأتي رسل الفرس فيؤمنون حتى يصلوا إلى المسلمين ويروا ماذا عندهم، فهؤلاء مستأمنون، والأمان يكون في حدود ضيقة ولأشخاص محدودين، وقد يكون الشخص مستأمنا وتقام عليه الحجة فيسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فنبلغه مأمنه، فيرد إلى الموضع الذي يكون فيه آمنا ثم ينتهي أمان المسلمين.
والذمي لا تخفر -تنقض- ذمته إلا إذا نقض العهد، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع بني النظير وبني قينقاع، وكذلك أيضا بنو قريظة لما أخلفوا وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبنو قريظة في يوم الخندق، وبنو النظير في حادثة الحضرمي.
الشاهد: أن المستأمن والذمي لها أمان الله ورسوله، فلا يجوز الاعتداء عليهما؛ لأن لهما حقا وحرمة، والأصل يقتضي أنهم يعاملون معاملة شرعية مخصوصة ومحددة، فمثلا: المستأمن تقام عليه الحجة فيسمع كلام الله عز وجل، قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6] ، فجعل له أمان الله وأمان رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها ضوابط وأحوال مختلفة تختلف بحسب الظروف، فتارة تكون لطائفة وجماعة وأمة، كأن تدخل مدينة كاملة في أمان امرأة من المسلمين فيجب تأمينها، فقد جاءت أم هانئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه عليا رضي الله عنه أنه يريد أن يقتل ابن عم لها -في يوم الفتح- والنبي صلى الله عليه وسلم يغتسل، (فقال: من؟ قالت: أم هانئ، فقال: مرحبا بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! إن ابن عمي قد أمنته وزعم ابن عمك -تعني عليا رضي الله عنه- أنه قاتله، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ، والمقصود أنه قد تؤمن المدينة بكاملها برجل واحد من المسلمين يدخلون في أمانه، وهذا كان معروفا في أزمنة المسلمين الماضية، فهذا يسمى المستأمن، سواء كان شخصا واحدا أو طائفة أو مجموعة حتى تقام عليها الحجة.
وأما المعاهد: فالعهود تقع بين المسلمين والكفار خاصة في أحوال الحرب، فتارة تكون بالهدنة لمدة معينة، كما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في أشهر محدودة، فهذه لا يجوز فيها القتال ما دام أن هناك بين المسلمين وبين الكفار عهدا، فيجب الإمساك عنهم وعدم التعرض لهم حتى تنتهي المدة، إلا إذا خشي منهم النقض وخشي منهم الخيانة فينبذ إليهم، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58] ، فلا ينقض العهد الذي بين المسلم وبين الكافر إلا بشروط وضوابط، ولذلك جاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -كما تقدم معنا- يوم بدر فأخذه المشركون قبل أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهدا ألا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فلما جاء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال أصحابه: قاتل معنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم) .
فحافظ على عهده حتى مع الكافر، ولذلك فإن العهد أمره عظيم حتى مع الكافر، فكيف إذا عاهدت مسلما، أو كان بينك وبين مسلم عهدا فالعهد أشد وأعظم، فالعهد لا ينقض، وهذه العهود التي تقع بين المسلمين والكفار تحترم، إذا كانت عن طريق ولي الأمر الذي له النظر في مصلحة المسلمين وهو مؤتمن عليها، ولا يجوز لأحد أن يتخطى هذا الحد أو يحاول أن يخفر -ينقض- ذمة المسلمين وذمة ولاتهم، فإن هذا يتحمل فيه المسئولية العظيمة، ولذلك فقتل المعاهد أمره عظيم؛ لأن هذا يسيء إلى الإسلام إساءة عظيمة -نسأل الله السلامة والعافية- ويتحمل الإنسان بذلك وزره، ولذلك حرم الله على نبيه أن ينقض العهد مع الكفار، وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بذلك، ما لم يكن الكافر المعاهد على بينة من أمره، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58] ، فليس في الإسلام خفاء، بل هو واضح أوضح من النهار وأموره مكشوفة؛ لأن الله عز وجل ينصر الحق وأهله.
وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء
السؤال ما هو الدليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وعدم وجوبهما في الوضوء؟
الجواب المضمضة تتعلق بالفم، والاستنشاق يتعلق بالأنف، وهناك طهارتان: طهارة صغرى، وهي الوضوء، وطهارة كبرى، وهي الغسل، وقد فرض الله عز وجل في الوضوء -الطهارة الصغرى- أربعة فرائض، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة:6] ، ولما جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ؟ قال له: (توضأ كما أمرك الله) ، فعلمنا أن المضمضة والاستنشاق ليست من فرائض الوضوء؛ لأنه قال له: (توضأ كما أمرك الله) ، وعلمنا أنها من النوافل والفضل، وليست من الواجبات والفرض.
وأما في الغسل فوجدنا أن الشرع أمر بغسل ظاهر البدن، فكل شيء من ظاهر البدن يجب تعميمه بالماء، قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة:6] ، أي: طهروا أبدانكم، وفصل ذلك عليه الصلاة والسلام في حديثه في الصحيحين عندما قال: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك) ، وهذا يدل على أن ظاهر الجسد لا بد من غسله، فهل الأنف والفم من ظاهر الجسد أم لا؟ إن كانا من ظاهر الجسد فهما كاليد التي يجب غسلها وتعميمها بالماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تفيضين الماء على جسدك) ، فوجدنا الشريعة جعلت الفم والأنف من ظاهر الجسد لا من باطنه، والدليل على ذلك: أن الصائم لو وضع الطعام في فمه لم يفطر، فدل على أنه من ظاهر البدن وليس من باطنه.
وبناء على ذلك لما وجدنا الشرع حكم بأن الفم والأنف من ظاهر البدن وليس من باطنه، قلنا: تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، ولا يجب واحد منهما في الوضوء، وهذا بتفريق الشرع.
وبناء على ذلك يلتفت في الغسل إلى الظاهر، والفم والأنف من الظاهر، ويلتفت في الوضوء إلى ما سمى الله عز وجل من الأعضاء، ولذلك لو أن شخصا وجد ماء لا يكفي إلا للأربعة الأعضاء في الوضوء لم يصل إلى التيمم؛ لأنه يستطيع أن يغسل ويمسح الفرائض التي أمره الله بغسلها ومسحها.
والله تعالى أعلم.
حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه
السؤال بعد دفن الميت وعند القبر يقف بعض أقاربه وينادي في الناس: أنه إذا كان لأحد في ذمة الميت شيء من الديون فإني أتحملها عنه، فهل لهذا الفعل أصل شرعي بهذه الصفة أثابكم الله؟
الجواب ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتي بالصحابي عليه دين سأل: هل ترك وفاء أم لا؟ فإن ترك وفاء -كأن كان عنده بيت أو عنده دواب يمكن بيعها وسداد دينه- صلى عليه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يترك وفاء، قال: (صلوا على صاحبكم) ، فقد جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتي برجل، فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: نعم.
فقال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا.
قال: صلوا على صاحبكم) ، وهذا من باب الترهيب والزجر للناس عن التساهل في الحقوق، فلما قال: (صلوا على صاحبكم.
قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله!) ، فانظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتراحمون! وكيف كانت محبتهم لبعضهم! وكيف كانت أخوة الإسلام تبقى حتى بعد الموت؛ فلم تكن أخوة مجاملة ولا أخوة مصالح ولا أخوة محدودة مؤقتة، ولذلك كان قول المؤمنين: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر:10] ، وتجد المؤمن يترحم على أخيه المؤمن ويصل ذريته.
فالشاهد: أنه قال: (هما علي يا رسول الله) ، فلما قال ذلك صلى عليه عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على مشروعية تحمل الدين عن الميت، وإذا كان هذا من أبي قتادة وهو غريب، فلأن يكون من القريب من باب أولى وأحرى.
أما بالنسبة للنداء بعد الدفن فإذا كان الشخص لا يتيسر له الاتصال بغرماء الميت وأصحاب الحقوق، وسهل اجتماعهم عند الدفن، فقال هذه الكلمة لأجل أن يعلم الناس، فهذا لا بأس به، وهذا مثل ما يقع في بعض القرى حيث يصعب فيها الاتصال، فيعلم الناس، حتى يعلم بعضهم بعضا؛ لأنه يصعب جمعهم وإخبارهم، والمفروض أن يبادر بذلك من بعد وفاته، فإذا توفي بادر بالاتصال بأصحاب الحقوق ومعرفة ما الذي له؛ لأنه لا يجوز التصرف بالمال إلا بعد قضاء الدين عليه، ولا تعطى حقوقهم إلا بعد سداد الدين.
فالمقصود: أنه لا داعي لذلك عند القبر، وهناك أمر مهم جدا ينبغي أن نعلمه، وهو أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفن الميت عدم شغل الناس عما هو أهم، فبعد دفن الميت هناك أمران هامان: الأمر الأول: اتعاظك بهذا الميت الذي سبقك، وأنك ستصير إلى ما صار إليه، وتنقلب إلى ما انقلب إليه، فتتعظ وتعتبر وأنت ترى هذا بأم عينك؛ فإنه ليس هناك وقت أبلغ في الاتعاظ والاعتبار من ساعة إنزال الميت في لحده وقبره ودفنه والفراغ من ذلك، فإن هذه من أعظم الساعات اتعاظا وعبرة؛ حيث ترى أقرب الناس من الميت وهو ولده ينزله إلى القبر ويسلمه إلى اللحد، ويغلق عليه القبر، ويهيل عليه التراب، فإذا رأى الإنسان ذلك انكسر قلبه وخشع فؤاده؛ لأنه سيعلم أن أقرب الناس منه سيتولى أمور فراقه لهذه الدار، وهذا من أقرب ما يكون عظة.
ولذلك لم يعظ النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، ففي حديث البراء أنه جلس ينتظر الأنصاري يحفر له قبره، ولم يعظ، والصحابة كانوا واقفين على القبر -بمعنى أنهم ينظرون إليه- والذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم كلمتان: (أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا) ، فربط الموعظة بنفس الحال؛ لأن الحال يكفي موعظة.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه هذا.
الأمر الثاني: وهو خاص بالميت، قال عليه الصلاة والسلام: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) .
هذا هو ما يأتي بعد الدفن مباشرة؛ فينصح الخطباء بتنبيه الناس على هذه السنة، حتى تحيا السنة وتموت الأمور المخالفة لها، وهو أن الميت بعد الدفن مباشرة أحوج ما يكون إلى الاستغفار وإلى الترحم، ثم إن هذا الاستغفار يرتبط كل شخص بنفسه، فلا يأتي أحد فيقول: اللهم اغفر لأخينا، فيقول الناس: آمين وهكذا لا؛ فإنه إذا ارتبط الاستغفار بالجماعة لم يكن كاستغفار الشخص لوحده؛ لأن هذا أبلغ ما يكون وأصدق ما يكون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم) ، وكان بالإمكان أن يقول: اللهم اغفر لفلان، ويقول الصحابة: آمين، لكنه قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) ، وهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالشخص بنفسه.
فإذا ترك الإنسان لوحده هو الذي ينظر وهو الذي يدعو، خرج من المقبرة بموعظة تامة كاملة، لكن إذا شغل بغيره هو الذي يدعو له وهو الذي يختار كلمات، ولربما لا يفهمها السامع بنفسه، إذا: فيقال له: السنة أن تستغفر لأخيك وتسأل له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فإذا وقف ولو كان جاهلا ولو كان لأول مرة يدخل القبر فسمع من يذكره بالسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت يقول: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) اتعظ واعتبر، وكان ذلك أبلغ ما يكون، فما أطيبها من سنة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا بفضل الله إليه.
فنسأل الله العظيم أن يجزيه عنا خير ما جزى نبيا عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






ابوالوليد المسلم 20-10-2025 07:38 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (490)

صـــــ(1) إلى صــ(15)


شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [3]
ينقسم القتل العمد إلى: قتل بالمباشرة، وقتل بالسببية، فالمباشرة بأن يباشر القتل بنفسه، فيحكم بكونه قتل عمد، ويجب فيه القصاص، أما القتل بالسببية بأن لا يباشره بنفسه، وذلك مثل إلقاء الحائط على شخص، أو إلقاؤه من شاهق، أو إلقاؤه في النار، أو إغراقه في الماء، أو خنقه بما يقتل، وكل هذه الصور لابد لها من شروط حتى يحكم بكون القتل بها قتل عمد يوجب القصاص.
القتل بالسببية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطا، أو يلقيه من شاهق] .
تقدم معنا في المجلس الماضي أن القتل يكون على صورتين، إذا كان قتل عمد يوجب القصاص والقود: الصورة الأولى: أن يكون القتل مباشرة.
والحالة الثانية: أن يكون بالسبب، بمعنى: أن يتعاطى فعل شيء يؤثر في حصول القتل، وهذا ما يسميه العلماء رحمهم الله: بقتل السببية.
وقد ذكر المصنف رحمه الله النوعين: القتل المباشر، والقتل بالسببية، والقتل المباشر ينقسم إلى قسمين أيضا: فإما أن يكون بآلة جارحة لها مور ونفوذ في البدن، مثل: السكاكين، والسيوف، والخناجر، ونحوها كما ذكرنا في المجلس الماضي.
وإما أن يكون بغير المحدد، مثل: الضرب بالآلات التي لا تجرح ولكن تقتل، كتكرار الضرب بالخشب الذي يقتل مثله غالبا إن كرر الضرب به، ومثل ما ذكر المصنف رحمه الله: الضرب والرمي بالحجر القاتل يعتبر من قتل العمد، وقد فصلنا في هذه المسألة.
ثم بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله عبارة: (أو يلقي عليه حائطا) ، وقد ذكرنا أن إلقاء الحائط على الشخص مثل الضرب بالحجر، من جهة المقاربة في القتل بهما، والمقاربة بينهما من جهة كون العلماء رحمهم الله ذكروا الصخرة الكبيرة، فقالوا: إن قتل الحجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فإما أن يكون بحجر صغير، وقد ذكرنا أنه لا يعتبر قتل عمد إلا إذا ضربه بحجر صغير في مقتل، يقتل مثله غالبا، أو كان الشخص الذي ضرب بهذا الحجر الذي لا يقتل مثله غالبا مريضا، أو طفلا صغيرا، أو شيخا كبيرا يتأثر بمثل هذا الحجر.
والحجر الكبير فيه تفصيل، فتارة يرمى، مثل حجر المنجنيق في القديم، وتارة يدحرج على الشخص، مثلما يقع في الصخرة الكبيرة التي يكون تحتها شخص، أو يكون في موضع وفوقه صخرة فيأتي شخص ويدحرجها عليه، فيكون هذا مثل إلقاء الحجر، فمن دقة المصنف رحمه الله أنه لم يقل: ودحرج عليه صخرة، ولكن قال: (أو يلقي عليه حائطا) ، وإلقاء الحائط بناء على هذا يتبع القتل المباشر، لكن العلماء في الأصل ذكروه من باب السببية؛ لأن من بنى حائطا ثم جاء الغير ودفعه على الغير، ففيه سببية ومباشرة، السببية من جهة أنه من بناء الحائط، والمباشرة بالنسبة لمن دفعه على الغير.
شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطا] .
يشترط أولا: أن يكون الحائط كبيرا يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله.
الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط.
فلو كان الحائط صغيرا لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيرا، والحائط لا يقتل مثله غالبا، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيرا كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسنه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قتل شيخا كبيرا أو مريضا يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص.
إذا: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط.
أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد.
ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولا قتلا عمدا، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذ وجود العلم وعدمه على حد سواء.
إذا: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالبا في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك.
الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعا لحكم قتل الحائط.
وبناء على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجها واحدا أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت.
لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلا في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذ يكون قتل عمد.
قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطا) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلا: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط.
وفي حكم إلقاء الحائط أيضا سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصا أو أشخاصا، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق.
وفي حكم إلقاء الحائط أيضا أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل.

حكم من بنى حائطا فجاء شخص فدفعه على آخر فمات
لقد بينا أنه لو جاء شخص ودفع الحائط على غيره فقتله فإنه قاتل، ويبقى السؤال في الشخص الذي بنى حائطا: هل عليه مسئولية؟ وهل عليه شيء؟
الجواب من العلماء من أطلق الحكم فقال: لا شيء عليه، ومن بنى حائطا فمن حقه أن يبني؛ ولا شيء عليه، صحيح أن الحائط سبب في القتل والزهوق، ولكن المباشرة لفعل الجريمة أسقط حكم السببية، فإن القاعدة المعروفة تقول: (المباشرة تسقط حكم السببية) ، وسنبين أن هذه المسألة فيها ثلاث صور، وهي اجتماع السببية والمباشرة: فتارة تقدم السببية، وتارة تقدم المباشرة، وتارة يجمع بين المتسبب والمباشر، وسيأتي -إن شاء الله- تفسيرها في صور السببية.
فالشاهد: أن من بنى الحائط إذا بناه وجاء شخص ودفعه، فإن الجريمة وقعت بالدفع ولم تقع ببناء الحائط، والقتل والزهوق حصل بالفعل المؤثر فيه وهو الدفع وليس بناء الحائط؛ لأن بناء الحوائط لا يقتل الأنفس، ولا يوجب زهوق الأرواح، ولذلك لا يؤثر.
لكن لو أنه بناه من أجل أن يقتل به الغير، فهذا فيه تفصيل في مسألة قتل الجماعة والاشتراك بتعاطي الأسباب؛ لأنه إذا اجتمع أشخاص على قتل شخص، فتارة تكون المباشرة من واحد والسببية من غيره، وتارة تكون المباشرة من اثنين وتكون السببية من أقل عددا أو من عدد مساوي، وسيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في قتل الجماعة.
وقوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطا) حائطا: نكرة، والحائط: هو الجدار يكون من اللبن، ويكون من الحجر، ويكون من الأسمنت في زماننا، فهو قال: (يلقي عليه حائطا) وعمم؛ لأن النكرة تفيد العموم، لكن التفصيل هو ما ذكرناه.
ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد
قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق] .
قوله: (أو يلقيه) أي: يلقي المقتول، (من شاهق) الشاهق: هو المكان المرتفع، والمكان المرتفع في القديم مثل: قمم الجبال العالية وأطرافها أيضا، فلا يشترط أن يصل إلى القمة، بل العبرة أن يكون المكان الذي حصل منه الدفع والرمي عاليا لو سقط منه الإنسان لهلك، وفي حكم قمم الجبال أسطح المنازل، وفي زماننا أسطح العمائر، والأدوار العالية، وأبراج الحديد، كما لو صعد به إلى برج عال فدفعه، فكل هذا يعتبر من الشواهق، لكن الشرط: أن يكون ارتفاعه يوجب الزهوق، أي: أن من سقط من هذا الارتفاع فالغالب فيه أنه يهلك، فإن كان مثله لا يقتل بأن كان قريبا لا يوجب الزهوق، وقد ينجو منه الإنسان غالبا، فيفصل فيه بالنسبة للشخص: فمن رمى طفلا رضيعا من فوق سطح غرفة، فقد يموت الرضيع؛ لأن مثله لا يتحمل هذه المسافة، بخلاف الرجل السوي لو ألقي من فوق غرفة ثلاثة أمتار قد لا يقتل ولا يموت، ومن رمى شيخا كبيرا ضعيف البنية حطمة، أو رمى مريضا به مرض وبه آفة، ولكن هذا المرض أقل شيء يحصل معه الزهوق والموت، فهذا يفصل فيه إذا كان الارتفاع غير شاهق، لكن المصنف قال: (من شاهق) وهذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأنه راعى أغلب ما يحصل به الزهوق، ولكن هذا لا يمنع في المسائل الخاصة والأحوال الخاصة أن يفصل فيها كما ذكرنا، ومحل ذلك هو كتب المطولات.
وقوله: (أو يلقيه من شاهق) سواء ألقاه بالرمي، كأن يكتفه ويربطه ثم يأتي ويرميه من شاهق، أو يلقيه بالدفع، كأن يتركه على غفلة ثم يدفعه من شاهق؛ أو يلقيه بالمغالبة، كأن يشتبكا ويتدافعا فيدفع المغلوب ويموت.
وأيضا في حكم الشواهق: ما يقع من الطائرات، فلو أنه ألقاه من طائرة وكانت على ارتفاع يقتل مثله، فحينئذ يعتبر قتل عمد، وهذه الصور كلها الشرط فيها تحقق أن يكون الارتفاع يقتل غالبا.
إذا: الشرط الأول: أن يكون الارتفاع مؤثرا.
الشرط الثاني: ألا يعلم الشخص الملقي أنه سيلقى، كأن يأخذه على غرة، أو غافله بشيء ينظر إليه ثم دفعه -والعياذ بالله- ورماه، أو كان يعلم ولكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كمن حمل مكتفا إلى سطح العمارة ثم رمي، فإنه يعلم أنه سيرمى، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه، فعلمه وجهله على حد سواء، ولا تأثير له في الحكم.
إذا: يشترط ألا يعلم، أو أن يكون عالما عاجزا عن الدفع وصرف البلاء عنه.
الشرط الثالث: أن يكون القتل والزهوق والموت حصل بالارتطام أو بالتردي من الشاهق لا بشيء آخر، وهذه ما يسمونها: مسألة الحائل، وتفصيل ذلك: أنه أخذه وصعد به إلى سطح العمارة، سواء رماه من طرف العمارة، أو رماه من داخل العمارة مثل ما يقع في المناور، فليس شرطا أن يرميه إلى الشارع من أي مكان، مادام أنه يهوي به إلى مكان يقتل مثله غالبا فلا إشكال.
فإذا رماه من الموضع العالي وارتطم بالأرض ميتا، فقتل عمد؛ لأنه تمحض زهوق الروح وخروج الروح بالارتطام على الأرض، أو بفعل التردي مثل ما يقع على الجبال الشاهقة، فلو أنه صعد به على جبل ثم غرر به ودفعه، فإنه يتردى ويتدحرج على نتوء الجبال، وهذه تقتل؛ لأنها قد تصيب مقتلا فيقتل قبل أن يصل إلى الأرض، فالقتل في تلك الصورتين حصل بالتردي، إما مآلا حينما سقط على الأرض وارتطم، وإما بالتردي نفسه قبل أن يصل إلى مآل التردي، ففي تلك الصورتين قتل عمد؛ وذلك لأن الموت والزهوق وخروج الروح حصل بالارتطام، وهذا سببه المؤثر فيه، أو حصل بالتردي والاصطدام بنتوء الجبل أو تعاريج الجبل، مثل ما يقع في الزوائد في العمائر ونحوها، إذا هشمت أعضاءه وقتلته، فهذا لا إشكال فيه أن الموت حصل بهذا التردي.
تعارض السببية والمباشرة في القتل
لكن لو أن الموت والزهوق حصل بسبب آخر، مثل ما ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله: أن يلقيه من شاهق، وقبل أن يصل إلى الأرض يتعرضه شخص بسيفه فيقده نصفين، وهذا يقع في بعض الأحيان، كأن يجعل السيف في خاصرته أو في موضع الوسط من الجسم، فينزل الساقط على السيف فيقسم، فيقال: قده بالسيف، إذا قطعه فمات، فيكون الموت والزهوق بالقد لا بالتردي ولا بالارتطام، فحينئذ القاتل هو صاحب السيف وليس المردي.
وهذه من الصور التي قدمت فيها المباشرة على السببية؛ لأن التردية سببية، والتعرض بالسلاح هو الذي حصل به الموت صحيح أنه لو وصل إلى الأرض لمات وهلك، ولكن هذا الاعتراض هو الذي أزهق الروح، وحينئذ يكون هذا من تقديم المباشرة على السببية، وقد ذكرنا أنه تارة تقدم السببية على المباشرة، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة يحكم بالاثنين، ومن تقديم المباشرة على السببية هذه المسألة، فإن الذي باشر القتل هو صاحب السيف.
وفي زماننا لو أطلق عليه نارا قبل أن يصل إلى الأرض، كشخصين أخذا شخصا يريدان قتله، وحرص كل منهما على قتله، فأما الأول فدفعه من فوق العمارة مثلا، وأما الثاني فأطلق عليه النار، فينظر: فإن كان طلق النار قد أصابه في مقتل الغالب أنه يزهق الروح قبل الوصول إلى الأرض، فالقاتل هو صاحب الطلق، وإن كان الذي أصابه من الطلق في مكان لا يقتل، فالذي قتل هو الارتطام بالأرض، وهناك مسألة وهي مسألة الجرح؛ لأنه جرحه قبل موته.
ومن هنا ينتبه إلى ترابط الفقه، فهذه المسألة في القتل مثلها في الصيد، كما لو أنه رأى شاة ساقطة من فوق الجبل، وقبل أن تصل إلى الأرض أطلق عليها النار، فإنه إذا أصابها في مقتل وقتلها فيحل أكلها، وإن أصابها في غير مقتل وارتطمت بالأرض فإنها متردية، والله قد حرم المتردية والنطيحة والميتة، فهذا راجع إلى استقرار النفس، فإذا كان استقرار النفس واقع مع حصول هذا الطلق والعيار الناري، فحينئذ يحكم بأن القتل وقع بالارتطام لا بالطلق، والعكس بالعكس، فإن كان في مقتل فإنه يكون حينئذ القاتل هو المباشر وليس الذي ألقاه من الشاهق.
والسببية والمباشرة إذا اجتمعا تقدم المباشرة على السببية، كما في مسألة القد بالسيف فيمن رمي من شاهق، وكما في مسألة من حفر بئرا وجاء شخص ودحرج الغير فيه فمات، فإن الذي حفر متسبب، والذي دفع مباشر، فتقدم المباشرة على السببية، ومن هنا قالوا في القاعدة: إن المباشرة تسقط حكم السببية، في مسألة بناء الجدار، وحفر البئر، ومسألة القد بالسيف في التردية.
ومن الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة وهي العكس: أن يشهد شهود بالزور على شخص أنه زان محصن، فيرجم فيقتل، ثم يرجعون عن شهادتهم، ويقولون: نحن تعمدنا قتله، فحينئذ الذي تسبب في القتل هم الشهود، والذي باشر القتل هو القاضي بالحكم والمنفذ لحكم القاضي، فحينئذ القاضي والمنفذ لا يتحملان مسئولية مع أنهما باشرا القتل، لكن الذي يقتل هم الشهود الذين قالوا: تعمدنا قتله؛ لأنها سببية، ولكنها أقوى من المباشرة.
ومن الصور التي تجتمع فيها السببية مع المباشرة ويكون الاثنان مسئولان وقاتلان: مثل أن يهدد شخص شخصا ويقول له: إن لم تقتل فلانا أقتلك، وهذا هو الإكراه، فحمل السلاح عليه وقال له: إن لم تقتل فلانا أقتلك، فقام المكره -المهدد- وقتل من طلب منه قتله، فحينئذ يقتل الآمر والمأمور، يقتل الآمر لأنها سببية مؤثرة موجبة للزهوق ومحصلة للزهوق، والمنفذ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه فليس بمكره؛ لأنه شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أكبر، كما سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة قتل المكره، ففي هذه الحالة اجتمعت السببية والمباشرة، فوجب القصاص على المتسبب وعلى المباشر.
إذا: الشرط الأول: أن يكون الشاهق يقتل مثله، الشرط الثاني: ألا يمكن للشخص الفرار والنجاة، الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالارتطام بالأرض لا بسبب عارض كما ذكرنا في السيف.
الشرط الرابع: أن يموت بعد الارتطام مباشرة، فيكون موته بالتردي والارتطام، فلو عاش بعد التردي فننظر: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وصار في عداد الأموات فعاش قليلا ثم مات، فإنه قتل عمد يوجب القصاص، وبقاؤه بعد التردي وبعد الارتطام وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه في حكم الميت، وأما إن بقي وعاش ثم بعد ذلك مات فننظر فإن كان من جراح تنزف، وبسبب اعتلال الجسم حتى استنفذت مقاتله وهلك، فإنه في حكم ما تقدم، وينسب لأقرب حادث، فهناك قاعدة تقول: ينسب لأقرب حادث، ولها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات.
ففي العبادات مثلا: لو أن شخصا رأى على ثيابه المني وهو لا يتذكر متى احتلم، فينسب إلى أقرب حادث، أي: إلى آخر نومة نامها، فيغتسل ويعيد الصلاة منها، فلو نام بعد العصر، ونام بعد الفجر، ونام في الليل، ووجد المني في المغرب؛ فإنه إذا نام بعد الظهر ينسب إلى نومة الظهر، فإذا نام بعد العصر ينسب إلى نومة العصر، المهم أنه ينسب إلى أقرب نومة نامها، ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها، وهذا في العبادات، وفي الجنايات فهنا ينسب لأقرب حادث، فإذا استنفذت مقاتله ومات فأقرب حادث هو الارتطام، وحينئذ يحكم بأنه مقتول قتل عمد، ويجب القصاص على قاتله.
ولما قال: (أو يلقيه من شاهق) شرع في القتل بالسببية كما ذكرنا، والصور الأولى وهي: أن يجرحه بما له مور، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطا، هذه كلها مباشرة، فلما قال: (أو يلقيه من شاهق) ، شرع في القتل بالسببية، وهذه الصورة يعتبرها العلماء من صور الإلقاء في التهلكة.
وقتل السببية يقوم على: قتل بالشرط، أو قتل بالعلة، أو قتل بالتغرير، وكلها صور لقتل عمد، وفيها تفصيل، لكن قتل السببية هنا من صوره الإلقاء في المهلكة، والإلقاء في المهلكة يشمل: الإلقاء من شاهق والإلقاء في نار تحرق ويهلك فيها، والإلقاء في ماء يغرقه، والإلقاء في زريبة أسد أو في جحر فيه أسد، أو فيه حية أو عقرب سامة قاتلة ولا يستطيع الفرار، فهذه كلها صور يصفها العلماء بالإلقاء في المهلكة، فشرع رحمة الله بأن يلقيه من شاهق.
شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد
قال رحمه الله: [أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما] .
قوله: (أو في نار) النار معروفة، والإلقاء في النار يشترط فيه: أن تكون النار قاتلة أو يقتل مثلها، وهي النار التي تزهق الروح غالبا، إما مباشرة مثل النار الشديدة والمتأججة والقوية، أو أن تقتل ببطء، وهي أشد عذابا -والعياذ بالله-، وتكون المدة التي استغرقها بقاؤه في النار تحت ضغط القاتل ومحاصرته كافية لإزهاق الروح.
إذا: يشترط في النار أن تكون قاتلة غالبا، وإذا لم يكن مثلها قاتلا غالبا بأن كانت ضعيفة نظرنا في المدة التي مكثها فيها، وهذه أمور يعرفها ما يسمى بالطب الشرعي، وعلم السموم في الطب هو علم خاص يتخصص فيه بعض الأطباء في هذه الأشياء القاتلة، فهم أهل الخبرة وهم الذين يرجع إليهم القاضي، ويرجع إليهم للقول بأنه هل هذه النار تزهق أو لا تزهق؟ درجة النار، طبيعتها، المواد المشتعلة هذا كله أمر ليس مرتجلا، إنما يكون بضوابط، ولابد من الرجوع فيه لأهل الخبرة.
إذا: يشترط في النار أن يقتل مثلها، فإن كان مثلها لا يقتل نظرنا في المدة التي حبس فيها الشخص حتى قتلته النار، وأيضا نظرنا في الشخص نفسه، فقد يكون طفلا رضيعا ألقي في نار صغيرة الغالب في مثلها أن يقتل مثل هذا الطفل، فحينئذ لا نشترط أن تكون النار كبيرة على كل حال، إنما نشترط أن تكون النار مثلها يقتل في غالب الناس، لكن لا يمنع هذا -كما ذكرنا في الحائط- في صغار السن، وفي المرضى، وفي كبار السن ونحو ذلك ممن تكون لهم ظروف معينة، وكذلك أيضا النار في الصيف والشتاء تختلف، فنار الشتاء أضعف من نار الصيف، والقتل بنار الصيف ليس كالقتل بنار الشتاء.
الشرط الثاني: ألا يستطيع الشخص الفرار أو الاستغاثة أو الخروج من النار أو المدافعة، فإذا أمكنه أن يدفع عن نفسه أو يستغيث ولم يفعل شيئا من ذلك، فهذا لا يحكم فيه بالقصاص والقود عند جمهور العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فصل تفصيلا دقيقا وقال: إن النار إذا كان الشخص يمكنه أن يستغيث أو يتعاطى سببا فننظر في الشخص نفسه: فإن كان مثله فيه دهشة وفيه ضعف، وما يحسن التصرف في الأمور، بحيث بوغت بالنار فأشكلت عليه الأمور ولم يستطع أن يتعاطى أسباب النجاة بسبب الدهش والمفاجأة، ففي هذه الحالة يكون قتل عمد؛ لأن وجود القدرة على تعاطي الأسباب زال تأثيره بنوعية الشخص؛ لأن الشخص فيه نوع من الضعف، مثلما يكون في بعض الناس من الغفلة، وبعض الناس فيهم ذعر شديد بحيث أنه إذا فوجئ بالشيء فلا يحسن التصرف، فتجعله الصدمة لا يحسن النظر في الخروج والهرب، فبعضهم يفصل بهذا التفصيل، لكن الذي جعل العلماء يجعلون القاعدة للغالب: أن من استطاع أن ينجو من النار ولم ينج فإنه يتحمل مسئولية نفسه، بغض النظر عن التفصيل الذي ذكروه.
الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالاحتراق بالنار، أو ما هو مستتبع لها مثل دخان النار نفسها، وانكتام نفسه في النار التي وضعوه فيها، فإذا حصل الزهوق بحرق النار، بأن كانت النار تشويه، وقوة الشوي أجهز عليه وقتله، أو كان الزهوق بفعل الدخان الذي كتم نفسه، وإن كانت الأعضاء التي احترقت ليست بتلك التي يزهق مثلها، فالمهم أن الزهوق حصل بالحبس في النار والإلقاء فيها، فإذا كان القتل على هذا الوجه فهو قتل عمد موجب للقصاص.
الشرط الرابع: أن يموت في النار، أو يموت بعد خروجه منها مباشرة، بحيث ينسب لها، فإن عاش وأمكن بقاؤه بحيث ينسب لسبب آخر في علاجه ونحوه، فليس بعمد في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
والإلقاء في النار يستوي فيه أن يكون بالطريقة القديمة، أو بما يوجد في زماننا -والعياذ بالله- مثل: الإلقاء في الأفران، والحبس في الشقق والغرف إذا اشتعلت فيها النار، كما يقع في بعض الجرائم بأن يسكب البنزين أو الحارق على الشقة وفيها إنسان نائم، أو إنسان محبوس في غرفة، ثم تشعل النار، فكل هذه الصور داخلة، فلا يشترط أن يلقيه إلقاء كما ذكر المصنف؛ فإن هذا فقط تأصيل تبني عليه غيره، وافرض أنه ما ألقاه، كأن يكون إنسان موجودا في داخل شقة، وجاء شخص وأشعل عليه شقته وهو نائم، وقفل عليه أبواب الشقة ولم يمكنه الهرب، فكل هذه الصور تعتبر من القتل بالنار والتحريق بالنار، وهذا من أشد ما يكون تعذيبا.
وهنا مسألة: إذا أحرق بالنار فهل يكون القصاص بحرقه بالنار أم لا؟ وإذا حرق بالنار فهل ينظر لنفس درجة النار أو تكون أضعف أو تكون أعلى؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء سيأتي في مسألة استيفاء القصاص بالمماثلة، وظاهر النصوص أنه يعاقب بمثل ما عاقب به، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة.
شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد
وقوله: [أو ماء يغرقه] .
كأن يلقي المقتول في ماء يغرق مثله غالبا، سواء كان بحرا أو نهرا أو سيلا أو بركة أو مسبحا أو نحو ذلك، كأن أدخله فوطأ رأسه وغالبه حتى لا يرفع رأسه حتى مات، فلا يشترط الإلقاء كما ذكرنا، إنما المهم أن يحصل زهوق الروح وخروجها بالتغريق.
فالشرط الأول: ألا يمكنه الفرار والنجاة.
الشرط الثاني: أن تكون المدة التي حبسه فيها في الماء كافية لزهوق النفس وخروج الروح.
الشرط الثالث: أن يحصل الموت بالتغريق، بحيث لو أنه خرج فإنه ينظر، ففي بعض الأحيان يخرج وقد امتلأت أحشاؤه بالماء ثم يستنفذ ويهلك، وهذا عند بعض العلماء -كما ذكرنا- ينسب لأقرب حادث.
لكن من أهل العلم من قال: إنه إذا خرج وعلمنا أنه لم يقتل بالغرق فليس بعمد ولا قود فيه؛ لأنه من المعلوم في مسألة الغرق أنها راجعة إلى النفس مثل الخنق، والصحيح في مسألة الخنق -كما سيأتينا إن شاء الله- أنه لو بقي بعد الخنق مدة ومرض فيها بفعل ما فعل به، واستتبعت الأمراض أو الأثر، استتبع أثر الجناية حتى أجهز على الروح، فهو قتل عمد، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة، أنه حتى ولو خرج وأخرج من البحر، أو أخرج من النهر، أو أخرج من البركة التي غرق فيها، واستنزفه الإعياء والجهد حتى مات بفعل هذا التغريق؛ فإنه يحكم بأنه قتل عمد، ويوجب القصاص، ويشترط ألا يتمكن من الفرار كما ذكرنا والدفع.
ثم فصل العلماء إذا كان يمكنه السباحة، فإذا ألقاه في ماء وأمكنه أن يسبح نظر: فإن كان الماء الذي ألقاه فيه يعيي السباح، كأن يلقيه في بحر فإلى متى يسبح؟ فلا شك أنه سيهلك، ومما يذكر أن أبا قلابة رحمه الله التابعي الجليل طلب للقضاء، فامتنع من ورعه، وهذا من مواقفه، فقيل له: أنت العالم والإمام وتمتنع من القضاء، وعندك العلم بالسنة الفقه؟ فقال: أرأيتم سباحا ألقي في بحر لجي إلى متى؟ أي: أنه سيسبح ويسبح وأخيرا سوف تعييه السباحة فيهلك.
فلا شك أن الإلقاء في البحر والمكان الواسع الكبير، أو الإلقاء في السيل القوي في حال تضعف فيه المغالبة والسباحة، فإنه يضعف فيها تأثير السباحة، ولا يؤثر في الحكم كون الشخص قادرا على السباحة، ولو كان سباحا ومنعه من السباحة مثل أن يلقيه مكتفا، فإذا ألقاه مكتفا في بحر أو نهر، أو ألقاه -والعياذ بالله- في بركة، وهي فاضية ليس فيها ماء ثم سلط الماء عليها، فإنه ولو كان سباحا فكونه مكتوفا فإنه سيغرق لا محالة.
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فإذا غرقه سواء ألقاه كما ذكر المصنف، كأن ألقاه مربوطا، أو ألقاه مطلقا في مكان لا يستطيع فيه أن ينجو، أو ألقاه في بركة ثم فتح الماء عليه، أو وضعه في موضع وسلط الماء عليه، فإن هذا كله من التغريق، ويوجب القصاص والقود، والقتل به -والعياذ بالله- يعتبر من قتل العمد.
وفي حكم التغريق ما يجري مثلا في الجرائم، فلو أنه اعتدى على سفينة فثقبها أو ضربها بآلة أو طلق ناري حتى غرقت في بحر أو في نهر، فهذا قتل عمد، فلا يشترط أن يلقيه، فقد يكون على مركب فيصيبه بشيء ويغرق المركب، أو يصدم مركبه حتى ينقلب، ففي هذه الحالة يكون كالإلقاء؛ لأن المهم أن يزهق الروح بفعل مؤثر في هذا الإزهاق بحيث تكون السببية موجبة للحكم بالعمدية كما ذكرنا، فلا يشترط أن يلقيه كما ذكرنا، إنما العبرة بحصول الزهوق عن طريق التغريق، سواء باشره كما لو جاء به فوضعه في حوض ثم طأطأ رأسه حتى خرجت روحه، أو ألقاه مكتوفا، أو ألقاه في مكان واسع لا يمكنه أن يسبح فيه، فهذه كلها تعتبر من صور العمدية الموجبة للقصاص والقود.
ويشترط أن يكون الزهوق -كما ذكرنا- بالتغريق كالحال في القتل بالنار.
قال رحمه الله: [ولا يمكنه التخلص منهما] .
قوله: (ولا يمكنه) الضمير عائد إلى المقتول، أي: ليس في إمكانه وقدرته التخلص، ويستوي في ذلك أن يكون التخلص بنفسه أو بمعين بعد الله عز وجل يستغيث به، فإذا أمكنه أن يصرخ، أو أمكنه أن يتصل أو يستغيث بأحد بعد الله عز وجل ولم يفعل ذلك تحمل مسئولية نفسه.
شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يخنقه] .
الخنق: حبس النفس، والخنق يأتي على صورتين: الصورة الأول: الخنق المباشر، والصورة الثانية: الخنق بآلة، والخنق بالآلة يشمل الخنق بالحبل، والخنق بالسلك، وبالنايلو، مثل الليات ونحوها، فهذا كله يعتبر من صور القتل العمد، إذا خنقه ومنع النفس عنه بآلة أو بدون آلة.
ونبدأ بالآلة: فيشترط في الآلة التي يخنقه بها أن تكون مانعة للنسم، مثل الحبل القوي، فلو ربط على عنقه حبلا قويا وشده، سواء شده بنفسه أو شده إلى عال كما ذكر العلماء، مثلما يحصل في الشنق -والعياذ بالله-، فإذا ربطه في شيء ثم شده حتى حبس نفسه فمات؛ فقتل عمد موجب للقصاص، ويشترط أن يكون الحبل -كما قلنا- قويا.
ومن ذلك أيضا لو وضع عليه وسادة، كأن يكون نائما، فدخل عليه ووضع الوسادة عليه فمنع نسمه حتى مات، فهذا قتل عمد، وقد حدث هذا في قصة أم ورقة الشهيدة رضي الله عنها وأرضاها وهي صحابية جليلة، وقد كانت من النساء اللاتي جاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فجاءت تسأله أن تكون معه في الغزو حتى تنال الشهادة، فقال لها: (ستأتيك الشهادة) ، وفي رواية: (أنت شهيدة) ، فمكثت رضي الله عنها وأرضاها إلى زمان عثمان، وكان عندها عبدان، فتركاها حتى إذا نامت أخذا القطيفة وجلسا عليها حتى فارقت الحياة، فكان يقال لها: شهيدة، وهي حية، فتحققت فيها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت رضي الله عنها شهيدة، ولكنه نوع من أنواع الشهادة.
فهذا الخنق بالمخدات والوسائد، والآلات الكاتمة، وفي زماننا يستوي أن يكون الخنق بالمواد المؤثرة، مثل رش المواد السامة التي تمنع النسم وتقتل، أو وضع الآلات المخدرة بكمية قاتلة على المنديل ونحوه وخنق الشخص به، فكل هذا من صور الخنق.
فالخنق بالآلة إذا كان باللي أو كان بالحبل، يشترط أن تكون قاتلة، وهكذا لو أخذ المنديل فهو قاتل إذا حبس النسم، فإذا خنقه ومنع النسم منه فيشترط ألا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كما ذكرنا فيما تقدم في السببية، فإذا أمكنه الدفع والمنع عن نفسه ولم يدفع فلا قصاص.
وكذلك أيضا يشترط أن يكون الزهوق بالخنق، فلو أنه خنقه ومات بعد الخنق بوقت نظرنا: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وأصبح نبضه ضعيفا جدا حتى مات، علمنا أنه مات بفعل الخنق، وحينئذ يجب القصاص.
إذا: لابد من تحقق هذه الشروط: تأثير الآلة الخانقة، وألا يستطيع الدفع، وأن يحصل الموت بالخنق لا بسبب آخر.
والخنق بالسلك فيه بعض التفصيل من جهة أن السلك في بعض الأحيان يوحي بقطع الرقبة، فإن بعض الأسلاك إذا شدت جرحت، وقد يكون الموت بسبب النزيف لا بسبب الشد، فمثلا: لو أنه شد شدا لا يحبس كل النسم بل يبقي بعض النسم، فسيبقى الميت فترة طويلة؛ لأن النسم موجود، لكن النزيف يكون سبب وفاته، فالنزيف مستتبع لحكم الخنق، وحينئذ لا نقول: إن الموت لم يحصل بالخنق، لما قلنا: إنه وقع، لكنه أشبه فيه أن يكون بالجرح لا بالخنق، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الاقتصاص بالمثل.
فالشاهد: أن الخنق من قتل السببية ويوجب القصاص.






ابوالوليد المسلم 20-10-2025 07:42 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه
السؤال إذا كانت حياة المريض ميئوسة وطلب من الطبيب أن يقتله، فهل يجوز طلب ذلك؟ وهل يلحق الطبيب شيء من التبعية إن فعل ما طلب منه؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير، خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه مسألة خطيرة جدا، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} [العنكبوت:38] ، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] .
وهذا القتل الذي يسمونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوسا من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلا، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفسا محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص، كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات، في مسألة: إذا طلب من الغير أن يقتله.
وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلفين عقليا، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: {إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] ، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبدا: الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد.
الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإن فعل الطبيب أي فعل في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب.
فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: {قل أتعلمون الله بدينكم} [الحجرات:16] ، فلست أنت الذي تعلم الله من هو الذي يرحم والذي لا يرحم.
ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: (اطعني فوعزتك وجلالك إني لأتلذذ بما يصيبني منك) ، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل.
فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدودا قاصرا، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلا أمام عزة الله جل جلاله، مهانا أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء:85] ، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك) .
هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون.
وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبدا، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئا مألوفا، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسدا، وكم قومت من شخص كان معوجا، وكم سددت من شخص كان تائها بعيدا عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل.
فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .
المقصود: أن هناك حدودا ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء) ، وقال في الحديث الآخر: (علمه من علمه وجهله من جهله) .
فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوسا منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يحله الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم.


حكم من أرسل غلاما لمنفعة فلدغته حية فمات

السؤال إذا أرسل رجل ولدا صغيرا يشتري شيئا، وفي الطريق نهشته حية فمات، فماذا يترتب على هذا الرجل من الأحكام، أثابكم الله؟

الجواب هذا فيه تفصيل: فإذا كان الموضع الذي أرسله إليه فيه حيات وفيه هوام، فلا شك أنه غرر به، وتكون سببية قوية مفضية للهلاك، وأما إذا كان الموضع لا توجد فيه الحيات، فهذا صادف قدرا وسببية ضعيفة، والمباشرة هي القاتلة، ومن أهل العلم من قوى السببية.
وبناء على ذلك فإن قال: تعمدت، ففي الصورة الأولى حينما كان الموضع فيه حيات، فعند العلماء تفصيل في مسألة الحية، إذا أرسل شخصا إلى موضع فيه حية أو عقرب سام أو سبع قاتل، والحية والعقرب يشترط أن تكون سامة، يقتل سمها، فإذا أرسله إلى هذا الموضع فينظر في الموضع: فإذا كان الموضع يمكنه فيه الفرار، فهذا لا قصاص فيه ولا قود في مذهب طائفة، كما يختاره أئمة الشافعية.
لكن بعض العلماء -كما هو في مذهب الحنابلة- يفصلون، ففي بعض الأحيان إذا كان مثل الصبي هذا يندهش ولا يحسن النظر لنفسه، فمسألة التفصيل في قتل الحية بين أن يكون الموضع يمكن فيه الفرار، يقولون: إن الحية تفر من الآدمي، فبعض العلماء يقول: إن القتل بها ليس بقتل عمد، كما لو جمع بينه وبين حية في مكان، فقالوا: لو قتلته فليس بقتل عمد؛ لأن الحية تفر من الآدمي، وإذا رآها فر منها، وإذا فر منها تشجعت، حتى إنهم يقولون: إن السبع يتشجع حينما يرى الشخص يفر، ولذلك إذا ثبت ووقف فإنه لا يصاب بأذى، وأما إذا كان الفرار ممكنا فلا إشكال، لكن المشكلة أنه في بعض الأحيان يكون عاجزا، كأن تكون الأرض أرض طين ووحل، فالفرار لا يفيد، فالأفضل أنه يقف، وهو سيقع سيقع، فالأفضل أن يكون مقبلا غير مدبر.
وعلى كل حال: في هذه المسألة إذا كان قد غرر بالطفل فهذا قتل تغرير، وقتل التغرير إذا قال: قصدت قتله، فهذا شيء، وإذا قال: ما علمت أنه يقتل، فإنه يكون نوعا من الإهمال، وبعض العلماء يوجب فيه الدية؛ لأنه عرضه إلى القتل بسببية قوية التأثير في زهوق الروح، والله تعالى أعلم.
حكم من سقط من علو على سيارة واقفة فمات
السؤال رجل كان واقفا بسيارته في أحد الشوارع، فسقط رجل على سيارته فمات، فهل يكون صاحب السيارة سببا في القتل، وتكون عليه الدية، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسائل أصلا مردها إلى القضاء، لكن طالب العلم ينبغي أن يعلم حكم هذه المسائل، فإذا سقط شخص من مكان عال على سيارة شخص، فإنه يجب الضمان على صاحب السيارة، والسبب في هذا: أن الارتطام وقع على السيارة، ومن دقة الشريعة أن أي شيء تملكه فلك غنمه وعليك غرمه، فإن هذا الشيء لو أصبحت قيمته مليونا فإن ربحه لك، ولو تسبب في ضرر أحد فأنت المسئول عنه.
وفي هذه المسألة: لو أن السيارة حركت عن موضعها لكان القتل بسبب الارتطام على الأرض، ويحتمل أنه يرتطم على الأرض ولا يموت، ولكنه ارتطم بسيارته فمات، فجميع ما يحصل للسيارة ويكون من السيارة غنما وغرما فأنت المتحمل له، فكما أنك تأخذ غنمها فعليك غرمها، ولذلك المعمول به والذي عليه العمل عند مشايخنا، وينقل هذا عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، أنه يعتبر قتل خطأ، ويجب عليه ضمانه، فتجب الدية على صاحب السيارة.
لكن هناك تفصيل في مسألة إذا دفعه شخص؟ فإن هذه فيها تفصيل قد نتعرض له -إن شاء الله- في مسألة الاشتراك، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الوتر بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر
السؤال هل يجوز للإنسان إذا أذن المؤذن ولم يصل الوتر، فهل يجوز له أن يصليها بعد فراغ المؤذن من الأذان في صلاة الفجر، أثابكم الله؟
الجواب الوتر ينتهي وقته بأذان الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) ، فهذه النصوص تدل على أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ، فإذا أذن المؤذن فجمهور العلماء على أنه قد انتهى وقت الوتر ولا قضاء بين الأذان والإقامة، ويكون القضاء بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته) .
لكن لو أنك ركعت ورفعت رأسك من الركوع ثم أذن المؤذن، فقد تم لك الوتر، فتستمر في الدعاء، ولا بأس أن تدعو بين الأذان والإقامة، وهو وقت إجابة، ولا بأس لو طولت في الدعاء، أما إذا أذن المؤذن قبل أن تركع وقبل أن تكبر تكبيرة الركوع وتنتهي منها، فقد انتهى وقت الوتر، فتقلبها شفعا وتتمها شفعا، والله تعالى أعلم.
نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة
السؤال أنا شخص مبتلى بالوسوسة ولا أنام الليل أفكر في الموت، وأصبحت حياتي كلها هم، وأصبحت أنظر للحياة نظرة يائس منها، علما أن هذا الداء لم يكن في إلا أنه أصابني منذ شهرين، وقد بلغ بي البلاء ما لا أستطيع وصفه، وأرغب في توجيه منكم عل كلماتكم تكون لي بلسما، وأرجو منكم الدعاء لي، وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء؟
الجواب أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همك، وأن يكشف غمك، وأن يشفيك، وأن يعافيك، وأن يعافي كل مسلم.
أخي في الله! الشكوى إلى الله الذي هو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، سبحانه لا إله إلا هو، وهذا البلاء قد يكون بسبب ذنب، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والرحم، وحقوق المسلمين خاصة العلماء والصالحين والدعاة، فقد تكون آذيت أحدا منهم؛ لأن الإنسان قد يبتلى بالبلايا العظيمة بسبب الذنوب فيحذر من هذا، ولذلك يحذر طالب العلم من التعرض لأولياء الله، وكذلك قد يجعل الله لك هذا البلاء لحكمة يريدها الله عز وجل، كي يرفع به درجتك ويعظم به أجرك، فأحسن الظن بالله عز وجل.
أما العلاج: فأول شيء كثرة الدعاء، وإذا جئت تدعو الله عز وجل فاستشعر في قلبك عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة في رحمته، وأنه أرحم بك من والديك، ثم تأمل لو أن والدك ووالدتك اللذين هما أرحم الناس بك، لو نظرا إلى حالك وبيدهما بعد الله شفاؤك لتقدما بشفائك، وما بالك بالله عز وجل الذي هو أرحم بك من والديك، فإذا شعرت هذا الشعور اعتمدت على الله، وارتاح قلبك؛ لأنه ليس عند الله إلا كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب) ، وهو سبحانه غاية في الكرم والإحسان والبر.
فتقوي صلتك بالله عز وجل؛ لتدفع عنك هذه الوساوس، فيضعف سلطان الشيطان على قلبك، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا اشتكى إليه الموسوس والمهموم يوصيه بكثرة التفكر في عظمة الله؛ لأن ذكر الله عز وجل يضعف سلطان الشيطان على القلب، فإذا تفكر في عظمة الله وملكوت الله عز وجل ذكر الله، والله يذكر من ذكره، وحينئذ يضعف سلطان الشيطان على القلب؛ لأنه لا يمكن أن يتسلط على قلب معمور بتوحيد الله والإيمان بالله، فأوصيك أن تأخذ بهذا الشعور: رحمة الله عز وجل بعباده، ولا تظن بربك إلا كل خير، واسأل الله المسألتين، فقل: اللهم إن كان لي الخير في هذا البلاء وأن يبقى في والخير أن أصبر، فأفرغ علي صبرا يرضيك عني، فإذا بلغت هذا المبلغ نعمت عينك وقرت وجعل الله العاقبة لك، والأمور بعواقبها.
فلو عاش الإنسان في هذه الدنيا وقد فرشت له الأرض ذهبا عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته فلا خير فيها إن لم تحسن العاقبة، فهذا فرعون الطاغية كان في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان:25] {وكنوز ومقام كريم} [الشعراء:58] {ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان:27] ، و (كم) للتعظيم والتكثير، فقد كانوا بهذه الحالة، ولكن كانت غايتها أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} [النازعات:25] {فأخذناه أخذا وبيلا} [المزمل:16] فماذا نفعه ذلك كله؟ إذا: ضيق الدنيا وسعتها لا عبرة به ما لم تحسن العاقبة، وكم من شخص يعيش في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن سلم من العناء في نفسه جاءته بنته تشتكي، وجاءته زوجته تشتكي، وجاءته أخته تشتكي، وجاءه أخوه يشتكي، وجاءته الدنيا من كل حدب وصوب، فلا يسلم من هم حتى يقع فيما هو أكبر منه، أو أعظم بلاء منه، ولكن ما هي العاقبة؟ إذا كانت هذه الهموم تجر العبد إلى ربه جرا، وتستوجب الرحمات وسحائب المغفرات، وتكفر الذنوب والخطيئات، فيا له من مقام، ينعم به عيشه ويرغد به حاله! قال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة: (إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله) وهذه هي العاقبة، فلا تفكر فيما فيك، بل فكر في العاقبة، وفكر أن لك ربا، وأنه هو الذي ابتلاك، وأنه هو الذي أنزل الداء ومنه الشفاء والدواء سبحانه لا إله إلا هو، فاستسلم، وما من عبد ينزل به البلاء فيسلم لله ويستسلم لله إلا تأذن الله له بالفرج.
ولذلك قال الله عز وجل: {فلما أسلما وتله للجبين} [الصافات:103] أي: استسلم لله، {وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا} [الصافات:104 - 105] ، فجاء الفرج من الله عز وجل، وهي لحظة قتل وموت وفراق لهذه الدنيا، ومع ذلك قتل من؟ من يحبه ويهواه وفلذة كبده، وحينما أسلم واستسلم لله قال العلماء: هنا جاء الفرج من الله؛ لأن إبراهيم استسلم لله استسلاما كاملا، ولذلك مدحه الله في الموحدين المخلصين الموقنين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، بالإخلاص واليقين والشعور بالرضا عن الله عز وجل.
فالعبرة بالعواقب، والإنسان إذا تفكر في العاقبة هان عليه كل شيء، ولذلك لما قال لها: (إن شئت صبرت ولك الجنة) ، فلما كانت عاقلة حكيمة نظرت للعاقبة فقالت: (أصبر يا رسول الله) !، أفوض الأمر لله عز وجل، وكم من عبد يسلط الله عليه البلاء بالهم والغم والنكد؛ لأن الله يعلم أنه لو كان في عافية لطغى وبغى، فيلطف الله به من حيث لا يشعر، ويقاد إلى الجنة بالسلاسل، بالهموم، بالغموم، بالنكبات، بالفجائع: (إن من عبادي من لو أغنيته أطغيته) يطغى لكن الله يحبه في الصالحين ولا يحبه في الطغاة المجرمين.
ولذلك مما يسلي العبد: استشعار ما له من الأجر والمثوبة عند الرحمن، فكل زمن مر عليك وأنت مبتلى صابر كتبت لك ثوانيه ولحظاته ودقائقه وساعاته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلمها رب لا تخفى عليه خافية، سمع فيها شكواك وبثك وحزنك، وأنت تبث حزنك إليه سبحانه، وتشتكي إليه سمعك متضرعا سائلا متوجعا متفجعا قلقا، ومع ذلك لم يستجب لك الدعوة عاجلا، فكتب لك بها درجات، أو صرف عنك مثلها من البلاء، فلا تدري كم لك في هذه الدعوات من خيرات وبركات وعواقب صالحات لا يعلمها إلا فاطر الأرض والسماوات.
ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله يوم القيامة، لتمنوا أن حياتهم كلها كانت بلاء، ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله عز وجل من الأجر والمثوبة لتمنوا أنهم منذ نعومة أظفارهم وهم في البلاء، لعظيم ما يجدون عند الله عز وجل، ويكفي المبتلى قول الله جل وعلا: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] ، تمضي الليلة على أخيك مثلما مضت عليك، لكن يكتب لك في ميزان حسناتك ما الله به عليم، وعلى ذلك الشقي الذي أغوي بالمال والجمال والشباب والصحة والعافية الشقاء، فينغمس في معصية الله عز وجل، فنجوت وهلك غيرك، شهران لم يقر قرارك ولم تهنأ نفسك، ولكن ربك ليس بغافل عنك، فأبشر بكل خير، وأحسن الظن بالله، وارج من الله الفرج.
ومما أدعوك إليه كثرة الاستغفار؛ لأنه سبب الرحمة، وكذلك أيضا عليك بكثرة قراءة القرآن؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ودفع للوساوس والقلق، ومما أدعوك إليه أن تتفكر في أن الموت ليس بهم ولا غم، وإنما الهم والغم أن يكون الله غاضبا عليك، فإذا كان الله غاضبا على عبده فويل له إذا لقي ربه، وويل له من ساعة موته وفراقه لدنياه، وأما إذا كان ربه راضيا عنه فما أسعدها من ساعة وما أسعدها من لحظة! قال صلى الله عليه وسلم حينما قالت فاطمة: (واكرب أبتاه! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم) .
ولذلك قال الله عن أهل الجنة: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] أذهب عنا الحزن؛ لأنهم عاشوا حياتهم كلها حزن، وأهل الإيمان من حزن إلى حزن، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدم عبد الله الصالح الجنة، فينسى كل هم مر به أبدا، وفي الحديث الصحيح: (أنه يؤتى بأبأس أهل الدنيا ثم يغمس في نعيم الجنة غمسة ويقال: عبدي! هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا وعزتك ما مر بي بؤس ولا مر بي هم ولا مر بي غم) ، مما رأى من نعمة الله عز وجل ومن كرامة الله سبحانه وتعالى ومن حسن العاقبة.
فليبشر كل مبتلى، وليحسن الظن بالله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همومنا وغمومنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يفرج عن كل مسلم مهموم مغموم همه وغمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.






ابوالوليد المسلم 21-10-2025 04:26 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (491)

صـــــ(1) إلى صــ(15)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [4]
من أنواع القتل العمد: القتل بالسببية، وهو أن يتسبب الشخص في قتل الغير دون أن يباشر القتل بنفسه، وللقتل بالسببية صور كثيرة: كأن يحبسه ويمنعه من الطعام والشراب حتى يموت، أن يقتله بالسحر، أو يقتله بالسم، أو يشهد جماعة زورا على رجل بما يوجب القتل فيقتل وكل هذه الصور لابد فيها من شروط حتى يحكم بكون القتل عمدا يجب فيه القصاص.
من صور القتل العمد بالسببية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا] .
شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد
ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالبا، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس.
والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعام وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالبا، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوما واحدا ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوما ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسبب آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب.
ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص.
إذا: هذه الصورة يشترط فيها أولا: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلا لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتل لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلا لنفسه والعياذ بالله! كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثرا، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطا اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمد من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها.
ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب.
إذا: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة.
الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود.
أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوما، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه.
وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالبا) ، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا.
ويبقى
السؤال لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟ هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء:30] ، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمد على أصح قولي العلماء.
ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوما يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعم وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم) ، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه.
وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس.
ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافيا في الحكم، وهكذا لو رماه في بئر فإن هذا يعتبر قتلا، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمد موجب للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، فدل على أن هذا يعتبر قتلا، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقا للروح، وقتل عمد موجب لثبوت القود والقصاص.
القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يقتله بسحر] .
سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شرا في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.
ليكون في ذلك سلوانا لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختبارا وامتحانا لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال.
والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتل بأسباب خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسم يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذ يحكم به.
وتأتي المسألة التي معنا أولا: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانيا: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب) .
والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائما تريد الشر لبني آدم {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر:6] {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} [الكهف:50] ، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلانا سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلا سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلانا سحر فلانا لا نعرف من هو أصلا، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلانا يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلان سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جدا، وفيه أمور حساسة جدا تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم.
فينبغي أن يكون القارئ محافظا على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أمورا تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة.
فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـ أبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئا إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر) ، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب) ، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة.
فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريص عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلانا قد سحر فلانا، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلانا سحر فلانا بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلانا، وأن سحره الذي سحر به قاتل.
وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناء على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحرا يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحرا يمنعه من النوم بتاتا حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحرا يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص.
القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد
قال رحمه الله: [أو بسم] أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم.
والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبيا أنها قاتلة.
وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون موادا نباتية، أو موادا كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة.
وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولا: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلا، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطا، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود.
لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعا خاصا، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله: فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح.
فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور: الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهرا أو خفيا، فإن كان ظاهرا وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة.
الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل.
الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئا يؤكل فأكله، فحينئذ هذا قتل عمد يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة.
الصور التي تكون عليها المادة السامة
وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور: الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها.
الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة.
الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت.
فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطا بغيره فليس بقتل عمد، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالبا، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمد.
وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله.
ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلا: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر.
وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن.
وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلا- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جدا، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذ يكون قتل عمد.
فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية: فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئا يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناء على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية.
الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم
والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريبا من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضا: الكتف بعيد عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة) ، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصا بـ بشر، وبناء على ذلك صار أصلا، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله) ، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة:87] ، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: {وفريقا تقتلون} [البقرة:87] ، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالسم، وصار أصلا عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون
الجواب أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمرا، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جدا، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمان به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود.
فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه.
ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعم أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزم بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلا، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه.
القتل بشهادة الزور وما يجب فيه
قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك] قوله: [أو شهدت عليه بينة] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلا لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى أضاعت فلم تغفر لها خلواتها فلاقت بيانا عند آخر معهد دما عند شلو تحجل الطير حوله وبضع لحام في إهاب مقدد يصف غزالا ريما فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بيانا) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بيانا عند آخر معهد) ، أي: وجدت علامة ودليلا عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دما عند شلو) : الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه.
فقوله: (فلاقت بيانا) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق.
وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالبا، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تعرف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب.
وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام.
فإذا شهد شهود على شخص وكانوا شهود زور -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سببا لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلا موجبا للقصاص والقود.
أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلانا وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهود عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأ، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان.
وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلما، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل.
والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلا، أو الناس الذين رجموه إن مات رجما في حد الزنا، والشهود سبب في القتل؟
و الجواب أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.
ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زور واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى.







ابوالوليد المسلم 21-10-2025 04:29 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 



الأسئلة




حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان
السؤال إذا اعترف الساحر أنه قتل فلانا بالسحر، وأنه قد جاءه رجل وطلب منه ذلك، فهل يقع الحكم على الساحر ومن استأجره أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإغراء الساحر بالمال حتى يقتل سبب، ولكنه ليس بسبب قوي في حصول الإزهاق والقتل، فلا أحد أكره الساحر على فعل السحر، إنما هو الإغراء بالمال فقط، لكن لو أنه جاء إلى الساحر ووضع سلاحه على الساحر وقال: إن لم تقتل فلانا أقتلك، فهذه المسألة سنذكرها في باب الإكراه، ويكون تهديد وإكراه الساحر وتخويفه مؤثرا، أما في مسألتنا فإن القاضي يعزر هذا الشخص الذي أغرى الساحر بالمال، ولذلك لو جاء شخص إلى شخص وقال له: خذ هذه المائة ألف واقتل فلانا، فذهب وقتله، لم يجب القصاص على من دفع المال؛ لأن الذي باشر القتل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة الإكراه.
والأصل عند العلماء أنه إذا دفع الشخص للقتل فإما أن يدفع بقوة مؤثرة، فحينئذ تكون السببية فاعلة ومؤثرة، وإما أن يدفع دفعا ليس هو المؤثر حقيقة، فتكون سببية قاصرة، مثل الإغراء بالمال، بمعنى: أن نفس الساحر هي الخبيثة وهي القاصدة للشر، وهي المريدة له، فما فتأت منذ أن وجدت إغراء أن تتقدم لهذا الشيء، وهذا لو كان القاتل عنده شهوة للقتل وشهوة لإزهاق الأرواح بمجرد ما يأتيه إغراء قام وقتل.
إذا: هذه المباشرة تعتبر هي المؤثرة، وهي التي يحكم بالقصاص فيها، وأما بالنسبة لهذا الشخص فإذا عزره القاضي فيعزر تعزيرا بليغا يليق بجنايته وما ترتب على إغرائه للساحر حتى قتل بسحره، والله تعالى أعلم.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)

السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟

الجواب لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المكره وتسقط القصاص عن المكره، فلا قصاص عندنا لا على المكره ولا على المكره، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاض مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماما، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة.
فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدرا، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوما لوليه سلطانا، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدرا.
فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جدا توجب التأثير في الحيلولة دون القتل.
ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحيانا شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم) ، مثلا: لو أن شخصا كان مسافرا مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا.
وكذلك في مسائل الخمر، فمثلا: لو أن شخصا معروفا بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شرابا وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيرا فشربته فإذا به خمر، فحينئذ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضا الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جدا.
ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟
السؤال أشكل علي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر مع أنه عليه الصلاة والسلام محافظ على الأذكار التي تقي من الشرور عموما، أثابكم الله؟
الجواب مما لا شك فيه أن المعوذات نزلت بعد قضية السحر، ولذلك اقتضت حكمة الله أن المعوذات لم تنزل قرآنا يتلى إلا بعد قضية سحره عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال لا يشكل ولا يلتبس عليك الأمر، ودع وساوس الشيطان عنك، فإذا جاء شيء في الشرع وحكم الله عز وجل به فسلم به واترك عنك كل شيء يشوش عليك في هذا الباب.
والأهم من ذلك أنه لم يحصل لهذا السحر تأثير على الوحي، فإذا جاء عقلاني يريد أن يناقشك فقل له: أثبت لي أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له من هذا السحر تأثير على الوحي، أو أنه قال أو قرأ آية أو ادعى وحيا وهو مسحور هذا أمر.
الأمر الثاني: إذا قال لك: كيف يسحر وهو يوحى إليه؟ فقل له: الأمر بسيط، فإن المسحور يسحر مع زوجته، لكنه مع الناس رجل طبيعي، فإن المسحور إذا سحر لبغض زوجته فتجده طبيعيا في جميع الأمور إلا إذا دخل بيته، فإذا كان السحر محدودا في شيء معين فما الذي جعلك أنت تتصوره عموما؟ وإنما أشكل عليهم هذا لأنهم لم يفهموا ما هي حقيقة السحر، وجلسوا يخوضون ويتكلمون في شيء لم يفقهوه، فظنوا أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر فيصبح -أجارنا الله وإياكم- كالمجنون، مع أن السحر جاء محدودا، وقد بينته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعل) ، هذا ما ورد في الرواية الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا التأثير المحدود ليس له سلطان على الوحي، لكن البعض يريد أن يدخل في المغيبات ويسأل: كيف يتأثر الجسد بالسحر؟ فنقول له: إذا جئت تخوض في هذه المسألة فأعطنا من عندك علما بالأسحار كيف تؤثر بالأبدان؟ وكيف هي طبيعتها؟ حتى نعلم أن هذا السحر يستحيل أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر على وجه يتعارض مع الوحي ويتعارض مع الرسالة، فلابد من إثبات القضيتين، والواقع أنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يخوض في ذلك.
وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات أنه سحر، فنقول: سحر عليه الصلاة والسلام، فسيقول لك: كيف يسحر وهو نبي الأمة؟ فنقول: لا يمنع أن الله يسلط الشياطين عليه لحكمة، ألم تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام؟ ألم يشج بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فقد سلط عليه -عليه الصلاة والسلام- الألم النفسي، والألم البدني، والألم الروحي، وهذا كله لحكمة، ابتلي بالألم الروحي حتى إن زوجته تتهم بالزنا، ويمكث النبي عليه الصلاة والسلام مدة وهو لا يعلم هل هذا صحيح أو لا، وقد جاء في الصحيح أنه جاء إلى عائشة وجلس عندها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) ، فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟! هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقف بين الأمة وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يقول لها: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) ، فما استطاعت رضي الله عنها أن تجيبه حتى بكت.
فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحد، فكان من أعظم الأيام التي مرت عليه، وهذا كله من الأذى، وما من مكروب ولا منكوب ولا مهموم ولا مغموم من أمته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- يأتيه هم إلا ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بأضعافه وأشد منه، فيسلو ويقول: إذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ابتلي فأين أنا من هذا كله! وأنبياء الله عز وجل من قبل أوذوا وابتلوا، فهذا موسى عليه السلام يؤذى في كل شيء، حتى جعل الله وجاهته في الدنيا والآخرة بهذه الأذية {لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} [الأحزاب:69] ، سبحان الله! الوجاهة والإنعام على الأنبياء لا يكون لهم ذلك إلا بعد البلاء، وهذا أيوب قال الله عنه: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} [ص:44] الله أكبر! إذا قيل للإنسان: نعم العبد، كيف بالعبد إذا أثنى عليه والده أو شيخه أو أي إنسان له مكانة ووجاهة، فما بالك إذا قالها أصدق القائلين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى يقول: {نعم العبد إنه أواب} [ص:44] لكن متى؟ لما قدم الثمن، لما قدم الدليل، لما جاء بالصبر {إنا وجدناه صابرا} [ص:44] ، فما جاءت هذه الكلمة ولا جاءت هذه الشهادة من رب العالمين من فراغ، وما جاءت بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة أن يقول الإنسان: إنه موحد، أو أنه صاحب عقيدة، أو إنه صاحب إيمان، أو إنه من الصابرين، أو إنه من المحسنين {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران:179] إذا لا بد أن تأتي فتن ومحن وبلايا.
ثم أيضا: إذا جئت ونظرت إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم في حياته كلها طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة، لا يخرج من هم إلا ابتلي بما هو أكثر وأعظم منه صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءته سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، فخرج من الدنيا بسكرات الموت، فلو جاء شخص من الناس في يوم من الأيام قد ابتلي بالسحر فقال له شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوذي وفعل به، فيقول: لكن الذي جاءني من السحر ما أظن أحدا ابتلي بما ابتليت به، لكن إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بهذا الأمر سلت نفسه وسلت روحه، وعلم أن هذا لا ينقص قدره.
ومن العجيب أن تسلط الشياطين على الإنسان في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشك في مكانته عند الله؛ لأنه من المعلوم أن الله يسلط الشياطين عادة على أوليائهم، لكن أهل الطاعة إذا سلط عليهم الشياطين فقد يظن الواحد منهم أن هذا لنقص عنده، أو غضب من الله عز وجل عليه، أو سخط، لكن حينما يعلم أن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد أوذي وسلط عليه وابتلي صلوات الله وسلامه عليه، عندها تسمو نفسه، ويطمئن قلبه، ويثق بالله عز وجل.
أيضا: بسبب هذا السحر وهذا الابتلاء أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، وهي من أعظم ما يكون، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل بالتعاويذ الشرعية، فلما نزلت عليه المعوذتان لزمهما وترك ما سواهما) ، من عظيم ما فيها من الحرز للعبد.
{قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} [الفلق:1 - 2] فما تركت شيئا في هذا الوجود من الشر إلا وقد استعذت بالله منه، {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} [الفلق:1 - 2] أي: من أي مخلوق شر، كلمتان وجملتان ما تركتا شيئا، لكن متى جاءت؟ جاءت لما ابتليت الأمة وابتلي نبيها عليه الصلاة والسلام، إذا فقد صار السحر خيرا على هذه الأمة؟ والله يقول في القذف: {لا تحسبوه شرا لكم} [النور:11] في قذف عائشة رضي الله عنها، القذف الذي فيه انتهاك للعرض، وفيه بلاء، يقول الله: {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور:11] ، فهي أمة مبتلاة؛ ولكن هذا البلاء رحمة، ولا يمكن أن يظهر فضل أهل الفضل وصبر الصابرين ورباط المرابطين، إلا إذا احتكت قلوبهم بالبلاء من رب العالمين، وعندها: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} [إبراهيم:27] ، وعندها ينعم الله على عباده فيسلهم من ذلك البلاء كما تسل الشعرة من العجين، وسلم من ذلك كله لطفا من أرحم الراحمين وكان ربك خبيرا بصيرا، فالله أعلم بخلقه، وأعلم بعباده، ومن يقرأ قصة أيوب عليه السلام وابتلاءه وتسليط الله عز وجل للشيطان عليه؛ يدرك كيف أن الله عز وجل يمتحن عباده هذا الامتحان العظيم، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
وعلى كل حال: أعود وأكرر أن المسلم دائما يلتزم بالتسليم، فلا تدخل في هذه المتاهات، وأوصي أن مثل هذه المسائل الدقيقة لا تقبل من كل أحد، وما يثيره بعض العقلانيين من رد السنن الصحيحة والطعن فيها والتشكيك فيها بناء على أن عقولهم لا تتحمل، فوالله ليست عقولهم التي تتحمل، وليست نفوسهم التي تتحمل، ولكنها قلوب ران عليها المرض فاستغلقت فما قبلت وما أسلمت وما استسلمت -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك عجز منهم -والعياذ بالله- التصديق لهؤلاء العدول الثقات الذين أجمعت الأمة على قبول رواياتهم فيما صح في الصحيحين وغيره من الأحاديث الصحيحة، فضربوا بها عرض الحائط؛ بل لم يقتصروا على ذلك حتى قالوا بالتشكيك والشبهات؛ لأجل أن يبطلوا حقا، ويحقوا باطلا، نسأل الله بعزته وجلاله أن يقطع دابرهم، وأن يخرس ألسنتهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفرا أو عاد منه لمن كان مقيما بمكة

السؤال أنا من سكان مكة واعتدت عند خروجي منها للسفر أن أطوف بالبيت وحين وصولي إليها كذلك، فهل عملي هذا صحيح، وذلك اعتقادا مني بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم من السفر أن يبدأ بالمسجد أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالحديث صحيح وثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من السفر أنه يبدأ بالمسجد قبل بيته عليه الصلاة والسلام، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وفعلك لا بأس به ولا حرج، ما لم تعتقده تشريعا، بمعنى أنك تقول: إنه لا يسافر أحد حتى يطوف، أو لا يدخل مكة حتى يطوف، فهذا فيه الزيادة والحدث، وأما بالنسبة لما تفعله فليس فيه من بأس، وليس فيه من حرج؛ بل هو عمل خير وبر نسأل الله العظيم أن يثبتك فيه، وأن يكتب لك الأجر فيه، والله تعالى أعلم.
حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر
السؤال هل يبدع من داوم على صلاة الراتبة في السفر؟
الجواب لا شك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الراتبة في السفر، وإذا اعتقدها فلا شك أنها بدعة؛ لأنها أولا: العدد مخصوص، والزمان مخصوص، أن يصليها قبل الصلاة، وبعد الصلاة، فيصلي أربعا قبلية، ويصلي البعدية، ركعتين للمغرب بعدية، وركعتين للعشاء بعدية، وهذا كله توقيت، وضوابط البدعة منطبقة عليه، ولذلك إذا اعتقدها سنة راتبة في السفر فإنه لا شك أنه قد ابتدع، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم سافر ولم يصل راتبة في السفر إلا راتبة الفجر، وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل) ، تعظيما لشأن ركعتي الفجر، فإذا صلى الراتبة في السفر فإنه قد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعارضه وأحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن الذي في دين الله ألا تصلى هذه الصلاة في السفر، وهو أحدثها وصلاها في السفر، ولو صلاها نافلة عامة فلا بأس، لكن يصليها وهو يعتقدها راتبة، فلا شك أنه مبتدع، ولذلك عليه أن يقلع عن ذلك ويتوب، والله تعالى أعلم.
حكم تأجير الوقف للاستفادة منه
السؤال إذا كان الوقف لا يستفاد منه، فرأى الناظر على الوقف أن يؤجر عينه، ويستفيد من ثمن الإجارة في وقف آخر، فهل تجوز إجارة الوقف في مثل هذه الحالة أثابكم الله؟
الجواب مسائل الأوقاف مسائل دقيقة، والمسئولية عنها أمام الله عظيمة، ولذلك تلاعب الناس -خاصة في هذا الزمان- في الأوقاف، حتى إنك تجد بعض الأوقاف مسبلة على مصالح يستحدث فيها دكاكين للإيجار، ويستحدث فيها عمارات للاستغلال، وتخرج كثير من الأوقاف عن مقصودها الأساسي من رحمة الضعفاء والرفق بالأيتام والمساكين إلى هذه الأشياء الدنيوية التي لم يردها أهلها يوما من الأيام.
شخص يأتي ويبني رباطا لأيتام لأرامل، نظر إلى الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، وماله بين يديه، فأحب أن يقدمه لآخرته، فجاء واشترى له أرضا وبنى فيها رباطا، وأدخل فيه العجزة والمساكين، وقال للناظر: قم على هؤلاء وانظر في مصالحهم، فيأتي الناظر في يوم من الأيام ويريد أن يهدم هذا الرباط ويجدده، ويحدث دكاكين في البناية الجديدة، ويأتي ويبحث له عمن يفتيه بهدم الرباط الأول، ويستدين مبلغا من المال من أجل أن يبني رباط جديدا.
كذلك إحداث مرافق مالية تدر أموالا، حتى يسدد الذي على الوقف، ثم يبدأ يستدرجه الشيطان -والعياذ بالله- وشيئا فشيئا، فبدلا من أن تكون المسألة محدودة بسداد الدين، يبدأ يتوسع قليلا حتى يصل الأمر إلى أنك تنظر للأيتام والأرامل والمساكين فلا تجد لهم حظا في هذه البناية بعد بنائها إلا ما ندر.
ويصبح الميت في قبره معدوما من كثير من الأجر، ولو تركت العمارة على ما هي عليه لدرت عليه من الحسنات والأجور ما الله به عليم، ولكن سيقف ويرهن ويحاسب بين يدي الله، وسيكون خصمه لجرأته على تغيير وتبديل ما لا يجوز له تغييره، فهذه أمور لا ينبغي التلاعب فيها والتساهل، ومن قرأ الفقه وقرأ فتاوى العلماء، يجد كيف كانوا يشددون في مسائل الوقف، حتى الخلاف في المسجد الذي يكون في جزء من أجزائه خلل هل يهدم ذلك الجزء أو لا يهدم؟ وتجدهم يختلفون تعظيما لحرمة الوقف؛ لأن الوقف ليس بالسهل، وليس بالأمر الهين، بل هو يحتاج إلى نظر، ويحتاج إلى تقوى لله عز وجل وورع وصيانة، فهذه أمور ترتبط بها حقوق الموتى، وترتبط بها حقوق أناس آثروا الآخرة على الدنيا.
فيبحث المفتي والفقيه في المسألة حتى يعرف كيف يقف بين يدي الله ويفتي في هذا الأمر، ولقد عهدنا علماء أمثال الجبال علما وعملا ما تضيق عليهم الدنيا إلا إذا جاءت مسألة الوقف، والله إنك تجد وجه الواحد منهم يحمر ويرد السائل، ويحاول جهده ألا يبت في هذه المسألة؛ كل ذلك خوفا من الله عز وجل، فلا يحسب أحد أن هذا الأمر سهل، ولذلك تجد كثيرا من مشاريع الخير وأربطة الخير غير موجودة، أين ذهبت؟ بحكم الفتاوى، فتجدهم يقولون: نبني عمارة ونستغلها وبدلا من أن نسكنهم نعطيهم أموالا من الذي جعلك تغير إرادة الواقف، مع أن الذي أوقف قال: يدخلون فيها ويسكنون هذا المسكن؟ ما الذي جعلك تغير؟ يقولون: المصلحة، وهذا أفضل إلخ.
فلذلك هذه المداخل التي يدخل بها والمصلحة التي تدعى، هذه أمور ينبغي أن تعرض على علماء ربانيين، ولا يفتى في مسائل الوقف إلا من عنده بصيرة، وعنده نور ورع، وعنده محافظة على هذه الأمور التي ينبغي المحافظة عليها.
وقد نص العلماء على أن الوقف لا يملكه أحد، بل هو مال أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل؛ ولذلك لو أردنا بيع الوقف فلا نستطيع أن نصحح بيع الوقف إلا إذا قضى به القاضي؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مستندة مبنية على الولاية العامة لولي الأمر العام فيبيع ما لا مالك له، وحينئذ لا يمكن، فلو أفتى أي مفت فلا يصح البيع؛ لأنه لابد من حكم قاض، وهذا كله تعظيما لأمر الوقف، ولئلا يحسب أحد أن الأوقاف أمرها سهل، خاصة إذا تعلقت بها مصالح لأموات ونحوهم.
وعلى كل حال: الأمر مثلما ذكرنا أنه ينبغي التورع ما أمكن في مسائل الوقف وعدم التساهل فيها.
والخلاصة في الجواب: أنه لا يستفاد منه، فهذا أمر مبهم، فإن الخطأ أن يأتي المفتي ويفتي في هذه المسألة حتى يقرأ صك الوقفية، ويعرف ما هو هذا الوقف، والدعوة التي ادعاها الناظر أن مصلحته تعطلت، كأن يأتيك ناظر ويقول لك: تعطلت مصلحة الوقف، فيأتي إلى عمارة مبنية من عشر سنوات، ويرى فيها أيتاما وضعافا ساكنين فيها، وبمجرد ما يجد كهرباءها تعطلت أو ماءها يقول لك: لقد تعطل الوقف.
فلا يعتبر عنده الوقف إلا إذا كان جميلا جيدا كاملا من كل النواحي، هذا هو الوقف عنده، لكن إذا حصل أي خلل يقول لك: تعطلت مسألة الوقف، ولذلك هذه الأمور لا تقبل فيها الدعاوى المبهمة غير الواضحة.
وعند العلماء إذا كان -مثلا- بنى بناية للمسجد، وتعطل المسجد وأمكن أن تصبح مدرسة؛ صرفت إلى أقرب شيء، وقد تتعطل تعطلا تاما، فيمكن صرف عين الوقف لما هو من جنسه؛ لأنك لو بعت الوقف أو أجرته أخرجته عن أصل الوقفية؛ لأن أصل الوقفية ليس فيها استثمار، وإنما فيها حسنات وأجور، فينبغي أن تكون إلى الأقرب، ومن هنا قالوا: اختلف العلماء إذا أوقف على بدعة، أي على شيء خاطئ لا يجوز الوقف عليه، كبدعة مثلا يظن أنها سنة، فأوقف عليها، فمن العلماء من قال: يبطل الوقف.
ومنهم من قال: يصرف لطلبة العلم.
وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء والمحققين، يصرف لطلبة العلم؛ لأنه حينما أوقفه على الذكر، أو على أمور غير مشروعة، أراد أن يستغل المكان لطاعة الله وذكره، فبدلا من أن نحكم بالنقض والإبطال من الأصل وعندنا مجال للتصحيح فنصحح بالأقرب، فهو إذا قال لك: تعطلت مصلحة الوقف، فهل تعطلت تعطلا كليا أو تعطلت على وجه يمكن صرفه إلى الأقرب؟ وعلى كل حال: أحب أن أنبه إلى أن من عادتنا مع طلاب العلم أن نفصل في بعض الفتاوى، فنحن نريد المنهج، نريد أن يقعد لطلاب العلم؛ لأننا نجد اليوم من السهولة بمكان أن تسمع أحدهم يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، بيع الوقف يجوز أو لا يجوز، وهذا ليس هو المهم، إن الأهم هو رسم المنهج، ولذلك قد نفصل في بعض الأسئلة ونتوسع فيها، والمقصود من هذا: رسم المنهج، حتى يكون طالب العلم على بينة وبصيرة.
وهذا السؤال لا يجاب عنه بالإجمال؛ لعدم وضوح السبب الموجب للحكم بتعطل الوقف، ولم يبين وجه هذا التعطيل، وهل بالإمكان المعاوضة والمناقلة في الوقف أو لا يمكن ذلك؟ وكل هذا أصل في الفتوى في هذه المسألة، لذلك ينبغي على السائل إذا أراد أن يسأل عن حكم هذا الوقف أن يحضر صك الوقفية وننظر فيه إن شاء الله، أو يعرضه على أهل العلم، أو يرفعه إلى القاضي، وهذا هو الذي أوصي به، وما يحكم به القاضي يقوم بتنفيذه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.






ابوالوليد المسلم 21-10-2025 04:33 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (492)

صـــــ(1) إلى صــ(9)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [5]
من أنواع القتل: قتل شبه العمد، وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالبا فقتل بها، ومن صوره: أن يضرب بسوط أو عصا، أو يلكزه بيده، فيموت بذلك، وفيه خلاف، والصحيح وجوده.
ومن أنواع القتل: قتل الخطأ، وهو أن يرمي شيئا فيصيب إنسانا لم يقصده فيقتله، ويندرج تحت القتل الخطأ: عمد الصبي والمجنون.
قتل شبه العمد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالبا] .
خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به
شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطا بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) .
وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصا، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يقتص منه، فلا يوجب قودا، ويوجب الدية إجماعا، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعا عند من يقول بهذا النوع.
وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد.
وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.
والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا) ، وكذلك أيضا يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصا، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.
وقد سمي شرعا بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطا بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصا، وصار وسيطا بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.
فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالبا، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدرا فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.
ضابط قتل شبه العمد
قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالبا] فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالبا، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالبا- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد.
إذا: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملا لآلة تقتل غالبا.
وقوله: [ولم يجرحه بها] .
لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك.
صور قتل شبه العمد
قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل] .
فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيدا عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالبا، فترجح أن موته قدرا، وليس بفعل الجناية.
وقوله: [بسوط] .
أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا) ، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله.
فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتا، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالبا، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معينا على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالا تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضربا مكررا مفضيا إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط! وبناء على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعا للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالبا؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص.
وقوله: [أو عصا صغيرة] .
إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبيا أو صغيرا وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالبا؛ فإنه قتل عمد.
وقوله: [أو لكزه] .
أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيرا؛ كما لو أخذ طفلا في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد.
إذا: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم بعضا، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالبا، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص:15] ، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطا بين ما لا يقتل غالبا وما يقتل غالبا، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام.
وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفا، أو مريضا، أو شيخا هرما، أو طفلا صغيرا؛ تقتله اللكزة غالبا، أو كان شابا قويا جلدا، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالبا مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص.
وقوله: [ونحوه] .
أي: شبهه.
قتل الخطأ
قال المصنف رحمه الله: [والخطأ أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيدا، أو غرضا، أو شخصا، فيصيب آدميا لم يقصده] .
قوله: (ما له فعله) أي: ماله أن يفعله عمدا، وهذا النوع من أنواع القتل، وهو قتل الخطأ، والغالب في المسلم، بل الأصل في المسلم ألا يقتل أخاه إلا خطأ، ومن هنا قال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] .
مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ
وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأ أن يضمن النفس، فصار حقا للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل.
والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأ لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأ إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناء على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيرا كثيرا للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيما لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] .
ومن قتل خطأ لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلا ساقها، فصدم شخصا فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضا إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية.
وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالا وظنه صيدا، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصا يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضا، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالبا من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزا، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جليا.
وقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم} [الأحزاب:5] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وليس عليكم جناح) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأ لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي.
وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأ الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناويا للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات) ، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصدا للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية) .
ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصدا أو غير قاصد.
فمثلا: قالت الشريعة: من أتلف شيئا رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية.
ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلا: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلا فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصدا أو غير قاصد.
وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناء على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها.
صور القتل الخطأ
قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يرمي ما يظنه صيدا] .
الآلة التي رمى بها وهي: السلاح تفعل فعل العمد، فتوجب زهوق النفس، لكن في شبه العمد الآلة لا تقتل غالبا، ومن هنا فإن الخطأ يكون برمي شيء بشيء قاتل يظنه غير معصوم؛ فبان معصوما، كأن رمى بهيمة فأصاب إنسانا، ونحو ذلك، فالآلة قاتلة، والمرمي مقتول، ولكن الرامي لم يقصد المقتول، ولم يرده.
وقوله: [أو غرضا] .
مثلا: وضع هدف فرمى الناس على هذا الهدف، فلما رموا الهدف، مر شخص بينهم وبين الهدف، فهذا إذا قتلوه فهو قتل خطأ.
وقوله: [أو شخصا] .
كأن رمى كافرا مهدر الدم -حربيا- فجاء مسلم بينه وبين الكافر فقتله، ومن رمى مسلما يظنه حربيا، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، لكنه عند بعض أهل العلم يدخل في هذا؛ لأنه ظنه كافرا فبان مسلما، فليس بقتل عمد.
وقوله: [فيصيب آدميا لم يقصده] .
أي: لم يقصده بالقتل.
حكم عمد الصبي والمجنون
قال رحمه الله: [وعمد الصبي والمجنون] أي: وعمد الصبي والمجنون خطأ؛ لأن الصبي غير مكلف، فلو تقاتل صبيان، فأخذ صبي منهما السلاح فطعن الآخر وقتله، فإنه لا يقتص من الصبي القاتل؛ لأنه غير مكلف، وغير مؤاخذ؛ لعدم وجود العقل الذي هو مناط التكليف، ولكن تجب عليه الدية، فإن كان للصبي مال؛ وجبت في ماله، والأصل عند العلماء رحمهم الله أن عمد الصبي والمجنون خطأ؛ لعدم التكليف، فإن كان للصبي عاقلة ضمنت عنه الدية، وإلا كانت من بيت مال المسلمين، على الأصل المعروف في باب الديات.
فالشاهد: أن الصبي إذا تعمد القتل فعمده خطأ، وإذا تعمد الإتلاف فعمده خطأ.
ولو جاء صبي وكسر سيارة شخص، وجب ضمان هذا الشيء المكسور، ويجري عليه مجرى الخطأ، ولا يجري عليه مجرى العمد؛ فإذا تعمد شخص إتلاف شيء، ولا تضمن عاقلته إذا كان فوق ثلث الدية؛ لأن العاقلة تعقل -وسيأتينا إن شاء الله- وهذا نظام شرع في الإسلام، نظام العاقلة: وهم القرابة والعصبة، وهم يتحملون الدية في الخطأ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأتين من هذيل بالدية على عاقلة المرأة القاتلة، فهذا يدل على أن الصبي إذا قلنا: إن قتله خطأ؛ فعاقلته تعقل، وإن قلنا: عمده خطأ، فمما ينبني على ذلك ضمان الجناية، سواء أتلف مالا أو نفسا، فإنها تأخذ حكم القتل بالخطأ.
ولو أن مجنونا -والعياذ بالله- أخذ سلاحا وقتل شخصا، فإنه لا يقتص من المجنون؛ لأنه غير مكلف، ويجب أن يضمن أولياء المجنون وعاقلته الدية، ولو أنه جنى جناية؛ فقطع يد شخص، أو أتلف مال شخص، فهذا كله يعتبر من الخطأ؛ لعدم التكليف في المجنون والصبي.






ابوالوليد المسلم 21-10-2025 04:38 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (493)

صـــــ(1) إلى صــ(11)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [6]
من المعلوم أنه يجب أن نعرف نوعية القتل حتى نزل الحكم في منزله، فالعمد له حكمه والخطأ له حكمه والخطأ له حكمه وشبه العمد له حكمه، وقتل الخطأ لا يكون فيه قصاص بل تجب فيه الدية والكفارة.
قتل الجماعة بالواحد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تقتل الجماعة بالواحد] .
بعد أن بين المصنف رحمه الله أنواع القتل، ومتى يحكم بقتل العمد، ومتى يحكم بقتل الخطأ، ومتى يحكم بالوسيط بينهما؛ وهو قتل شبه العمد؛ شرع في مسائل القتل بالاشتراك؛ وهذه المسألة -وهي قتل الجماعة الواحد- تكون غدرا، وفتكا، ومجاهدة، ومغالبة.
االقائلون بقتل الجماعة بالواحد
فإذا اشتركت الجماعة في قتل الواحد؛ فالأصل أنهم إذا اجتمعوا وفعلوا به فعلا، لو انفرد كل واحد منهم بفعله لقتله؛ فكلهم قاتل، وبناء على ذلك فإن هذه الصورة لا خلاف فيها عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد.
فنبدأ بالمجمع عليه عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد: الجماعة: اثنان فأكثر، والأصل أن الجمع ثلاثة، لكن هنا مرادهم: أن يشترك اثنان فأكثر، فلو اتفق اثنان على شخص أن يقتلاه؛ فجاء أحدهم وبقر بطنه، وجاء الآخر وطعنه في قلبه، فكلا الفعلين وقعا في زمان واحد، أو ضربتان قاتلتان وقعتا في زمان واحد، وكلا الفعلين مزهق، وكل منهما قاتل، فجمهور العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم على أنه يقتل هذان الشخصان بالواحد، وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة، وقد نفذ هذا الحكم أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوا جماعة بواحد، فأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فارتفعت إليه قضية من اليمن: أن جماعة تمالئوا على رجل، وقتلوه غيلة، استدرجوه وقتلوه، وهذا ما يسمى: بقتل الغيلة، كأن يخدع ويستدرج ويخرج من المدينة، أو يقولون له: نريدك في نزهة، أو نريدك في غرض ما، أو نريد أو نرى بستانك، أن نريد أن نريك شيئا، أو نريد أن تذهب معنا في السفر، فيستدرجونه حتى يخرج، ثم بعد ذلك يغتالونه ويقتلونه، فهذا من قتل الغيلة، فيؤخذ على غرة-على حسن نية- فيقتل، وهذا من أخبث ما يكون من أنواع القتل، والغالب أنه لا يقع إلا من الأنفس الشريرة، حيث تكون هناك عصابات تقوم بمثل هذا، الفعل فقال عمر رضي الله عنه: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به.
فقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنهم كانوا سبعة، وقيل: تسعة أشخاص، كانوا متمالئين عليه حتى قتلوه.
أما علي رضي الله عنه فقتل أربعة بواحد، وأيضا له قصة ثانية في قصة عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، حين كان عاملا له على النهروان، فقتله أهل النهروان، فكتب إليهم أن ادفعوا إلي من قتله، فأخذتهم العزة، فقالوا: كلنا قتلناه، فقال: إذن سلموا أنفسكم لأقتلكم جميعا به، وإلا آذنتكم بحرب، فامتنعوا، فركب إليهم فقتل منهم قتلا ذريعا، رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك أيضا عبد الله بن عباس قضى بهذا، أما الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة فقد قتل في إبان ولايته وإمارته؛ وقد كان أميرا لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه على الكوفة، فقتل ثلاثة بواحد، وقيل: أربعة بواحد.
فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أثنان مأمور باتباع سنتهما، والعمل بها؛ وهما: الخليفتان الراشدان: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وأرضاهم.
وقد وقعت هذه الحوادث ونفذ فيها الحكم من هذين الراشدين أمام الناس، وعمل به الناس، وتوافرت الدواعي لنقله، ولم ينقل إلينا إنكار أحد من الصحابة على هذين الصحابيين.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه حكم متفق عليه بين الصحابة، وهذا ما يميل إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ويقرره غير واحد من العلماء؛ أن هذا الحكم صدر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدينة مليئة بفقهاء وأئمة الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج للجهاد؛ لأنه كان يحتاجهم للفتاوى، ومن هنا قالوا: إن المدينة كانت عامرة بأهل الفتوى والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أحد هذا الحكم وهذا القضاء.
وكذلك أيضا قال بهذا الحكم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن عون -التابعي المشهور- وكذلك الحسن البصري، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور؛ على أنه تقتل الجماعة بالواحد.
واتفقوا على أنه إذا كان كل واحد منهم انفرد فعله بقتل، فإنهم يقتلون به، والذين قالوا بقتل الجماعة بالواحد اتفقوا على الصورة التي ذكرناها، لكنهم فصلوا، واختلفوا في بقية الصور.
القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد
وهناك قول ثان: أنه لا تقتل الجماعة بالواحد؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، وقول ابن المنذر، وطائفة من متأخري السلف رحمة الله على الجميع، حتى قال بعض العلماء: إن هذا القول أسبق، وقد حكي هذا القول عن عبد الله بن الزبير، وعن معاذ بن جبل، ولكن لم يوثق، ولم يحرر بالرواية الصحيحة، ولذلك فإن حكاية الخلاف عن الصحابة لا تقدح في الإجماع ما لم تكن موثقة؛ لأن هناك قولا للصحابي حكاية أو قولا للصحابي رواية، وهنا جاء من باب الحكاية، ولم أطلع على رواية صحيحة عن هذين الصحابيين أنهما قالا: لا تقتل الجماعة بالواحد.
وكذلك أيضا قال به محمد بن سيرين من التابعين.
وهناك قول ثالث: قالوا: إذا قتلت الجماعة واحدا، فيقتل واحد بالمقتول، ثم يؤمر البقية بدفع ما بقي على حسب حصصهم من الدية، فمثلا: لو اشترك ثلاثة في قتل واحد يقتل واحد منهم، ثم الاثنان الباقيان يدفع كل واحد منهما ثلث الدية، ولو اشترك عشرة في القتل فنقتل واحدا، ويدفع التسعة تسعة أعشار الدية، وقس على ذلك.
وهذا القول ضعيف.
أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد
أما الدليل على أن الجماعة تقتل بالواحد: فقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمرنا أن نقتص من القاتل، وكل واحد من هؤلاء العشرة، أو الخمسة، أو الثلاثة، أو الاثنان، كل واحد منهم قاتل؛ لأنه لو انفرد فعله لقتل، وقد أتى كل واحد منهم بفعل قاتل فهو قاتل؛ لأن النفس أزهقت بهذه الأفعال القاتلة، فهو قاتل.
وكذلك أيضا عموم الأدلة التي دلت على أن من قتل له مقتول فله الحق في الأخذ ممن قتله والقصاص، كقوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء:33] ، فجعل الله لوليه السلطان في أن يقتل من قتله، وكل واحد من هؤلاء قاتل.
الدليل الثالث: الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقا، ووصله غيره، والسند صحيح عن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا الجماعة بالواحد، وسنة الخلفاء الراشدين مأمور باتباعها.
الدليل الرابع: أننا لو قلنا: إن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لانفتح باب الشر والفساد والبلاء، فكل شخص يريد أن يقتل، يعلم أنه لو قتل سيقتل، فيطلب من شخص آخر أن يعينه على القتل؛ وحينئذ تسلم العصابات من القتل، ويسلم أهل البغي من القتل، ويذهب المقصود الشرعي من استتباب الأمن، وحفظ أنفس الناس، فما على أهل الفساد إلا أن يجتمعوا، ويتواطأ بعضهم مع بعض، فيقول أحدهم: أنا أريد أن أقتل فلانا، فشاركني حتى أشاركك لتقتل فلانا، وحينئذ تذهب الحكمة من شرعية القصاص، ويسترسل أهل الشر في دماء المسلمين، وقد قال الله عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، فقوله: (النفس) : جنس، فالنفس المقتولة بالنفس القاتلة جنس، سواء اتحدت أو تعددت.
أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها
أما الذين قالوا: إنه لا تقتل الجماعة بالواحد، فقالوا: إن الله تعالى أمر بالمساواة في القصاص، فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، وأجيب: بأن الآية المراد بها: جنس النفس، بغض النظر عن العدد، وأيضا نقول: إن كل نفس من هذه الأنفس متهمة بالقتل لا على شك، ولا على مرية؛ لأن الفعل الذي فعلته قتل، وموجب للزهوق، فحينئذ يجب القصاص منها.
وقالوا: إن النفس التي قتلت واحدة، والذين يقتص منهم أكثر، والله عز وجل يقول: {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} [الإسراء:33] قالوا: فحينئذ أسرفنا؛ لأننا قتلنا عشرة بواحد، وقتلنا ثلاثة بواحد.
ونجيب عن هذا: بأن هذا الكلام ضعيف؛ لأننا نسألهم: هل الذين قتلناهم قتلة أو برآء لم يقتلوا ولم يفعلوا القتل؟ فإن قالوا: برآء، فإن الواقع يخالفهم، وإن قالوا: قتلة، فإن الله أمرنا أن نقتل القاتل.
فنقول: قوله تعالى: (فلا يسرف) ، أي: لا يقتل من لم يقتل، أما قتل من قتل فلا يعتبر من الإسراف، وتوضيح ذلك: أن الإنسان إذا أخذ حقه لم يسرف، فإذا زاد عن حقه فقد أسرف، وأساء وظلم، فهذا الذي قتل الاثنين بالواحد قتل من قتل وليه، وإذا قتل من قتل وليه لم يسرف؛ لأنه قتل بحدود حقه، وحده: أن الاثنين قد قتلا، وأن الثلاثة اشتركا في القتل.
ثانيا: نقول لهم: هؤلاء العشرة، أو هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، كل منهم فعل فعلا قاتلا، فإذا لم نقتله، فماذا نفعل؟ وإذا لم نقتلهم جميعا حصل الفساد والشر، كما بينا، فيشترك أهل الفساد فيقتلون المسلمين.
وإن قلتم: نقتل واحدا، فنسألكم: هل الواحد قاتل؟ فإن الظاهرية يقولون: نقتل واحدا ونترك البقية، فنسألهم: لماذا قتلتم هذا الواحد؟ فإما أن تثبتوا أنه قاتل، مع أن الصفة التي فيه موجودة في غيره؛ لأن الكل منهم فعل فعلا موجبا للقتل، وما الذي جعل هذا يقتل وهذا لا يقتل؟ ثالثا: نقول لهم: أنتم تقولون: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون ما بقي من الدية، فجمعتم بين القصاص والدية! والله جعل الدية عوضا عن القصاص، وبناء على ذلك فلا يصح أن تجمع بين الأصل وبديله؛ لأن الشريعة جعلت الأصل، فإن لم يستطع فبديله.
فإذا جئت تقول: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون تسعة أعشار الدية، فإنك في هذه الحالة خالفت، فإما أن تقتلهم جميعا، أو توجب الدية عليهم جميعا، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وعلى كل حال: هنا قاعدة: أن خلاف العلماء وأقوالهم ما تعددت من فراغ، ولا اختلفت من هوى، ولكن حصل لكل منهم شبهة أو دليل، والحق أقوى دلالة، فقد تجد القول المخالف له وجه، لكن الأوجه والأقوى هو الصحيح، وإن وجدت حسنا عند المرجوح، فالأحسن عند الراجح؛ لأنك إذا نظرت إلى هدي السلف الصالح، وأصول الشريعة العامة، وعموم الأدلة التي أمرت بقتل من قتل، لاطمأنت النفس برجحان مذهب جمهور السلف رحمهم الله.
صور قتل الجماعة بالواحد
بقي في مسألة قتل الجماعة بالواحد: هناك اشتراك بالفعل، وهناك اشتراك بالفعل مع غير الفعل، فإذا كانوا قد اشتركوا في الفعل ففيهم تفصيل، وإن اشتركوا بفعل ورأي، فبعضهم دبر المكيدة، وبين الطريقة التي يتم بها اغتياله وقتله، وبعضهم نفذ وقام بالعمل، فهذا يحتاج إلى تفصيل.
فعند بعض العلماء: أن الاشتراك بالرأي لا يوجب القصاص؛ لأنه يصبح سببية ومباشرة، وبعض العلماء يقول: إذا كان الذي خطط وقال الرأي عن طريق رأيه توصل إلى القتل، أصبحت سببية قوية التأثير في الزهوق، فيقتل مع من نفذ.
ومن هنا احترز بعض العلماء خروجا من هذا الخلاف؛ لأنه لا يرى مسألة الرأي، فقال: تقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهما موجبا للزهوق لو انفرد، كما ذكرنا في الصورة المتفق عليها.
ومنهم من قال بوجوب القصاص على المدبر إذا كان الشخص المنفذ لا يستيطع أن يعرف الطريقة التي يدخل بها، ولا يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى قتل هذا الشخص وجاءه هذا الشخص، وبين له الطريقة والوسيلة، ومكنه على وجه لولا الله ثم هذا التمكين لما حصل الإزهاق؛ فقالوا: إنه يكون شريكا له في القتل بسببية مؤثرة؛ لأنها سببية مفضية للقتل بقوة، فليست سببية ضعيفة، وقد بينا أن السببية تارة يقتل المتسبب والمباشر، وتارة يقتل المتسبب دون المباشر، وتارة العكس، فهنا بعض العلماء يرى أنه إذا كان الرأي والتخطيط من الشخص قوي التأثير في الزهوق، فيقتل أيضا، فمثلا قال له: افعل كذا، فدخل القاتل على المقتول، ولم يعرف كيف يقتله، فقال له: افعل به كذا وكذا، ففعل؛ فقتله، وفي زماننا الآن توجد أجهزة، وقد تحتاج الجريمة إلى تنظيم وترتيب، فلا يمكن أن تقع بواحد، ولا يمكن أن تغفل الأسباب والمشتركين مع المنفذ بحال، وحينما تنظر تجد الذين تسببوا وأعانوا المنفذ ودلوه سببيتهم قوية التاثير، بحيث يصعب إغفالها أو إسقاطها من القصاص.
ولو رد هذا الأمر أيضا إلى القاضي فقد يكون أضبط للمسائل، وله نظر فيما اشتركوا فيه.
لكن إذا اتفق اثنان على قتل شخص، فجاءا وفعلا فعلا أزهق روحه، فإن كان الفعل الذي أزهق الروح صدر منهما معا؛ فهما قاتلان بلا إشكال، فمثلا: لو أن الاثنين أمسكا السلاح مع بعضهما وأطلقاه، فهما قاتلان، ولو أن الاثنين أمسكا بالسيف وبقرا به بطن المقتول، فهما قاتلان هذه صورة.
الصورة الثانية: أن ينفرد كل منهما بفعل، فإذا انفرد كل منهما بفعل، فإما أن يكون فعل كل منهما مزهقا، وإما أن يكون فعل أحدهما مزهقا والآخر لا يزهق، فإن كان فعل كل منهما مزهقا؛ فصورتان: إما أن يكون وقوع الفعلان مع بعضهما، فواحد منهما طعنه في بطنه، والآخر طعنه في قلبه، وحصلت الطعنتان مع بعضهما، فالإزهاق حصل بالطعنتين، فكلاهما قاتل، وإما أن يتأخر أحدهما عن الآخر، فإن تأخر أحدهما عن الآخر؛ فننظر: فإن كان الأول قد فعل الفعل، فاندمل جرحه، أو ضعف عن القتل، أو برئ، ثم جاء الآخر وأزهق، أو فعل الفعل القاتل، فالقاتل هو الثاني دون الأول، وإن كان الأول قد ضرب مقتلا، وأصاب المقتل، ثم جاء الثاني بعده وضرب مقتلا بعد المقتل الأول، فالقاتل هو الأول دون الثاني؛ لأن الإزهاق وقع بالأول دون الثاني، لكن يشترط في هذه الصورة الأخيرة: أن يتأخر فعل الثاني تأخرا يقوى به الإزهاق بالفعل الأول، فإن لم يتأخر، ولم يتراخ، انتقل للمسألة الأولى التي ذكرناها، وهي أن يشترك الاثنان بفعل موجب للزهوق.
إذا: إذا كان فعل كل منهما قاتلا: إما أن يقعا في وقت واحد؛ فكلاهما قاتل، وإما أن يختلفا؛ فإن اخلتفا فتأخر أحدهما عن الآخر، فإما أن يتأخر تأخرا مؤثرا، ومثاله: اثنان يريدان قتل شخص، فجاء أحدهما وطعنه بالسكين، فنقل المطعون إلى المستشفى وعولج، حتى نجا من الموت، وغلب على الظن أنه نجا من الحالة الخطرة، فدخل عليه الثاني وهو على سرير المرض وطعنه فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول؛ لأن ضربة الثاني تأخرت تأخرا متفاحشا مؤثرا، ولا يشترط طول الزمان؛ بل يشترط ألا تكون الضربة الأولى تأتي على الروح، وفي هذه الحالة تكون الطعنة الأولى جراحا، وموجبة لضمانها بالدية، أي: بقدرها وحصتها من دية الجراحات، والضربة الثانية موجبة للقصاص، فالثاني قاتل، والأول ضامن يضمن الجرح الذي جرحه به.
مثال آخر: ضربه الأول على دماغه، ضربة مأمومة-وهي التي تكشف خريطة الدماغ وأم الدماغ- ثم عولجت هذه الضربة؛ ففيها ثلث الدية، والثاني ضربه بسكين فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول، فالأول عليه ضمان ضربة الدماغ بقدر حصتها من الديات، والثاني يضمن النفس، فيجب عليه القصاص.
وهذا كله إذا كان الفعل الذي فعلاه موجبا للزهوق.
فإذا كان أحدهما يزهق، والثاني لا يزهق، نظرنا: فإن كانت الضربة الأولى من الأول هي القاتلة المزهقة، والضربة الثانية لا تزهق، فالأولى هي القاتلة، فمثلا: شخصان دخل أحدهما فضرب شخصا بسكين في بطنه حتى أنفذت مقاتله، وغلب على الظن أنه ميت، فجاء الثاني وجرحه، أو كسر عظمه، فحينئذ إن كانت الضربة الثانية لا تزهق، فإن من العلماء رحمهم الله من حكم بكونها مضمونة، وإن كانت من الجراح ففيها أروش الجراحات، والقاتل هو الأول الذي عليه القصاص، والثاني ضامن، إلا أن بعض العلماء يقول: إذا أنفذت مقاتله، كما لو ضربه وأصبح في عداد الموتى، وجاء الآخر وخدشه، أو فعل به فعلا، فلا شيء عليه، وهذا هو ضعيف وباطل، وقد عجبت من بعض المتأخرين حين كان يفتي به! مع أنه لا أصل له؛ لأن نفس المؤمن محرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا) ، يعني: في الإثم، وهو من حديث عائشة في سنن ابن ماجة، وهو حديث حسن، وبعضهم يراه صحيحا لغيره، فهذ يدل على أنه لا تهدر هذه الضربة، وهناك قاعدة تقدمت معنا: الحياة المستقرة هل هي كالعدم أم لا؟ وهذه سيأتي تفصيلها-إن شاء الله- في باب الذبائح، كأن يهجم سبع على فريسة، وأدركتها وهي ترفس فذكيتها، فهل الذكاة تنفع أم لا؟ إن قلنا: الحياة المستقرة كالعدم، فلا تنفع الذكاة؛ لأن الفريسة ماتت بالبقر، وهو فعل السبع، فهي ميتة، وحينئذ التذكية جاءت في غير حياة مؤثرة، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم؛ فإنها تكون مؤثرة.
وبناء على ذلك: إذا ضربه ضربة أنفذت مقاتله؛ فإن قلنا: إنها حياة مستقرة كالعدم؛ فإنه لا يؤثر، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم أثرت، وظاهر السنة فيها شيء يدل على أنها ليست كالعدم -أن الحياة المستقرة ليست كالعدم- فقد ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة كانت ترعى غنمها بحذاء سلم، فجاء الذئب وعدا على شاة منها، فاستصرخت الناس، ففر الذئب وقد بقر بطن الشاة، فكسرت حجرا وذكت الشاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا منها) .
فبقر البطن يعتبر مقتلا، وبعض العلماء يشك، لكن ليس على كل حال، فقد تبقر بطن البهيمة وترد وتخاط أحشاؤها، والآن هذا ملاحظ ومعلوم، فقد يفك بطن الإنسان، وتخرج أمعاؤه وأحشاؤه، وتدبر الجراحات، ويرجع كما هو.
إذا: معنى ذلك: أن الحديث لا دليل فيه على مسألتنا، والذي يقولون: إنه لا دلالة فيه، يعارضون بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهناك مسائل كثيرة الأشبه بها كتاب الذبائح، منها: لو أصبت عصفورا وهو على البحر، على وجه الغالب أنه يموت، ثم سقط في النهر ومات، فهل هو ميت بالطلق فحلال مذكى؟ أم هو ميت بالخنق كالمنخنقة لا يحل أكلها؟ هذا كله راجع إلى مسألتنا؛ لأن طلق النار إذا أنفذ فهو قاتل، وبعد ذلك الخنق الذي وقع في النهر جاء والروح قد أنفذت، فليس له من تأثير، وكذلك: لو أصاب صياد غزالة على جبل؛ فسقطت وارتطمت بالأرض فماتت، فهل هي مذكاة؟ أم هي متردية حينما ارتطمت بالأرض فماتت؟ والأصل عند العلماء أنه إذا تعارض حاظر ومبيح؛ رجع إلى الحاظر، وكل هذا سنفصله-إن شاء الله- في كتاب الذبح.
والخلاصة: أنه إذا أنفذ مقاتله، فكانت الضربة في مقتل، وجاء الآخر وجرحه، ولا زالت النفس باقية، فالأصل يقتضي أنه يضمن، وهذا قد نص عليه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين.
فبين المصنف -رحمه الله- أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقلنا: إن هذا يشمل الغيلة، ويشمل الغدر: وهو أن يخدع الإنسان بأمان، كأن يقال له: اخرج معنا ولن نفعل بك شيئا، ويتوجس منهم، فيعطونه الأمان-والعياذ بالله- ثم يغدرونه، والفتك: هو الهجوم، فيشمل قتل الجماعة: غيلة، وغدرا، وفتكا، وصبرا؛ الذي هو الدم البارد، مثل: قتل الإنسان المأسور والسجين، يجتمعون عليه ويسجنونه في مكان أو بئر، ويمنعون عنه الطعام والشراب، ويشترك الجميع في هذه الجريمة، فهم جماعة قتلة، كل منهم قاتل، فكل هذه الصور يجب فيها القصاص، وتقتل الجماعة بالواحد، سواء كانوا اثنين، أو أكثر من اثنين، والجمع -كما ذكرنا- عند العلماء في هذه المسألة: اثنان فصاعدا.
إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة
وقوله: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] معلوم أن قتل الجماعة بالواحد مرد القصاص فيه إلى أهل الميت-أولياء المقتول- فإن قالوا: نريد القصاص؛ قتلوا الجماعة، وإن قالوا: نريد الدية، فهل يدفعون_إذا كانوا ثلاثة- ثلاث ديات؟ أم دية واحدة؟
الجواب يدفعون دية واحدة، يشتركون فيها؛ لأن الدم المضمون دم واحد لا غير.


الأسئلة




حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد
السؤال الذين لا يرون شبه العمد في القتل، ماذا يسمون القتل بالعصا والسوط؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن قال بهذا القول يضعفون الحديث الوارد في شبه العمد، وأما القتل إذا كان بآلة أزهقت؛ فعند المالكية: يوجب القصاص، وقد بينا أن مذهبهم رحمة الله عليهم من أقوى المذاهب في مسألة القتل والقصاص في القتل، أما بالنسبة للحنفية رحمة الله عليهم فهم مع الجمهور في مسألة التقسيم، وزادوا القتل الجاري مجرى الخطأ، ولكن عندهم لا يقتص في المثقل، فلا يقتصون بالسوط ولا بالعصا؛ لأنهم يرونه قتلا بالمثقل، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن القتل بالمثقل يوجب القصاص؛ لحديث أنس في الصحيحين عنه رضي الله عنه وأرضاه: (أن امرأة من الأنصار وجد رأسها مرضوضا بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهوديا؛ فأشارت برأسها: أن نعم.
فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين) .
وهذا أصل عند العلماء في القصاص بالمثقل، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، وهم -أي: الحنفية- لا يرون القتل بالسوط والعصا، ولذلك يحتجون بحديث: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا) ، على أنه لا يقتص بالمثقل، واستدلالا بقصة المرأتين من هذيل، وقد أجبنا عن هذا، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم.

مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد
السؤال ألا يمكننا أن نستدل على أنه يقتل الجماعة بالواحد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل من قتل الراعي، وسمل أعينهم؟
الجواب يا أخي! لا تستدل، اترك الأمر للعلماء الجهابذة، هذه مسائل قتلت بحثا من بداية القرن الرابع عشر، فتأتي وتستدرج على العلماء! قتل الراعي هو قتل حرابة، وقتل الحرابة شيء، وقتل القصاص شيء آخر، فقتل الحرابة لا يرجع فيه إلى أولياء المقتول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما رجع إلى أولياء الراعي، ولا استأذنهم في القتل؛ أما القصاص فلا يجوز للإمام أن ينفذه إلا بإذن أولياء المقتول، ولذلك فقتل الحرابة أدق، فلا يفتي فيه إلا العالم الفقيه المتمكن، ولا يقدم عليه إلا القاضي الورع، الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه، وليس كل شيء حرابة؛ بل يحتاج إلى نظر وتعمق؛ لأنه متى حكم بكونه حرابة فإنه يأخذ حكم الحرابة، ومتى لا يحكم فلا يلحق بالحرابة.
وهنا مسألة الراعي مسألة حرابة، والنص فيها واضح: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] ، فهذا نص جاء في المحاربة، وهم جماعة خرجت وحاربت، فهذا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ذمة المسلمين وحرمة المسلمين، فجاءوا إليه في البرية فقتلوه وسملوا عينه-والعياذ بالله- واستاقوا الإبل، فجمعوا بين الجناية على المال، والجناية على الروح، والجناية على البدن، وهي جرائم عظيمة، والجناية على الروح بالقتل؛ فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجناية على البدن بأن سملوا عينه ومثلوا حتى بجثته، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الراعي، والجناية على المال؛ لأنهم سرقوا الإبل، ومن هنا انظر كيف جاءت الآية: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} [المائدة:33] .
ومن هنا فإن مذهب بعض السلف: أنهم إن قتلوا قتلوا، وإن مثلوا مثل بهم، وصلبوا، وهذا كله نكاية بهم حتى يكون زجرا لغيرهم، والأمر الثالث: إن سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذه كلها اجتمعت فيهم.
والأقوام كانوا من عكل أو عرينة-الشك من الراوي- والحديث في الصحيحين وليس فيه إشكال، فإن هذا قتل حرابة لمن خرجوا عن جماعة المسلمين، وفي حكمهم العصابات المنظمة، كأن يجتمع خمسة أو ستة على إخافة السبل، أو الهجوم على البقالات وتكسيرها وإتلاف ما فيها، أو يهجمون على البيوت وتجمعات النساء، فهذه جريمة منظمة، يخططون ويرتبون وينشرون الرعب، فيحدثون عند الناس نوعا من الرعب، وينحازون عن جماعة المسلمين، فقد حاربوا الله ورسوله، فهذه جريمة لها حكم خاص، وفي هذه الحالة لو أن هذه العصابات والجماعات جاءوا فقطعوا الطريق، أو أوقفوا حافلة في سفر، وأشهروا السلاح عليها، وأنزلوا من فيها، فبمجرد أن يفعلوا هذا فهذه محاربة، وإن أخذوا أموالهم فلهم حكم، وإن سفكوا الدماء فلهم حكم، قال بعض العلماء: الحكم للقاضي، حتى لو أنهم أنزلوهم بالسلاح والقوة والتهديد، أخذوا مالهم أو لم يأخذوها، مجرد الرعب أو إخافة السبل، فإنه يعتبر محاربة؛ لأن المسلم لا يفعل مع أخيه المسلم هذا.
فصاروا محاربين بهذا، ولو فرضنا أنهم جاءوا وقتلوا شخصا من المجموعة التي هجموا عليها، لانطبقت عليهم المحاربة، ولو أن الشخص الذي قتلوه قريب لهم، فجاء قريبه وقال: قد عفوت، وما أريد القصاص، ففي هذه الحالة نقول: الحق ليس لك، فهذه محاربة لله ورسوله، وسواء عفوت أو لم تعف فإن هذا ليس لك، ولا يمنع من قتله، فإذا رأى القاضي قتلهم فإنه يقتلهم.
وفي هذه الحالة يفرق بين مسألة الحرابة وبين مسألة القصاص، وما نتكلم نحن فيه هو القصاص، وما تسأل عنه هو محاربة، وأوصي طالب العلم إذا قرأ المسائل فعليه أن يتدرج ويعي ويفهم ويضبط، ولن يرتقي في سلم العلم إلا بهذه الأمور، والمشكلة: أن بعض المربين والموجهين منذ الصغر في تربيته في المراكز والمدارس يحدث في الطالب نوعا من التهور، كأن يقول له: أنت ما شاء الله عندك طاقات، وهذا من باب التشجيع، فيا أخي! لا تشجعه تهورا، بل شجعه تعقلا، وقل له: أخلص لله، اضبط العلم يفتح الله عليك، خذ العلم من سبيله تكن مثل أهله، فإن التشجيع يكون بالشيء المعقول، وهل من المعقول أنه وبعد أربعة عشر قرنا من الزمان، وهذا الكم الهائل من العلماء الجهابذة المشهود لهم لم يستطع أحدهم استنباط هذا الحكم؟ الله المستعان! وأنا لا أقول هذا تهكما، أقول هذا لأن بعض العلماء في بعض القضايا المنهجية يشدد، ويريد منهجا، فعلى طالب العلم أن ينتبه، كفانا جرأة على الاجتهاد، وجرأة في استخدام النصوص في غير ما هي له، فعليك أن تقف حيث وقف العلماء، وتفهم كما فهم العلماء، وتحكم الأمر كما أحكمه الحكماء، وإلا زلت القدم، وعندها يعظم الندم، ولات حين ساعة مندم.
فمسائل الشريعة حساسة، ولو أن شخصا كان من بداية الطلب عنده هذا الذوق، أنه يستكشف و.
إلخ؛ لربما لا يوفق لعالم يبين له خطأه، وإذا به كل يوم يأتي بجديد، ومن الآفات التي ضرت الأمة اليوم مسألة الجديد، ولا يمكن أن يعترف لأحد جاء ليكتب بحثا إلا إذا جاء بجديد، وما هو الجديد؟ أن يقال: ولقد عثرت على دليل في هذه الآية.
لم يسبقني إليه أحد، وهذه الآية وإن قال العلماء: إنها تدل، فإنها لا تدل!! وهذا لا ينبغي، فينتبه الإنسان! فإن صلاح آخر هذه الأمة مقرون بما كان عليه أولها، وقديم الإسلام جديد، وجديده قديم ما تعاقب المنوان، وتتابع الزمان، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولن يمر قرن من الزمان خال من أهل الحق، فإذا جئت وقلت: الأولون ما عرفوا، فمعنى ذلك: أنه خلا قرن من معرفة الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) ، فمعنى ذلك: أن هذا الفهم الذي بقي في هذه الطائفة هو الذي تفهم به، وهو الذي تنضبط به، وهو الذي تسعد به في الدنيا والآخرة.
فعلى طالب العلم أن يكون حريصا على أن يتأدب ويفهم ويضبط، فإذا ضبطت ما معك وتفهمت، فأنت في خير وبركة، ولا تتجاوز ذلك إلى الفهم والاجتهاد، فليس وقتك وقت اجتهاد، ولم تعط آلة الاجتهاد، ولم يسغ لك شرعا أن تنظر في آية فتستنبط منها حكما، ولذلك فإن هذا الحديث ظاهره يدل على قتل الجماعة بالواحد، لكنه لا يدل، ولو قال الإنسان بدلالته لضرب النصوص بعضها ببعض، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن يكون متقيدا بحاله، فأنت في الطلب تحرص على جمع العلم وضبطه، وقراءة الأصول -علوم الآلة- التي تفهم بها كيف تستنبط، وكيف تستنتج، ثم تعرض فهمك واستنتاجك على العلماء، وبعد أن تمضي فترة طويلة تحصل بها هذا العلم المقرون بعلم السلف رحمهم الله وتنضبط بضوابطهم، سيفتح الله عليك وهو خير الفاتحين، ومن أخذ حيث أخذوا، وانتهل من حيث انتهلوا، ووضع القدم حيث وضعوا؛ فتح عليه كما فتح عليهم، وبورك له كما بورك لهم.
فالخير الذي بارك الله به هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع الله به في سلف هذه الأمة؛ سينفع الله به لخلفها، وفضل الله واسع، وليس محجرا في بعض العصور، وكما قال ابن المنير رحمه الله: فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعا.
فضل الله واسع، والله يؤتي الحكمة من يشاء، فإذا بدأت بهذه الخطوات؛ فحفظت كتاب الله، وحفظت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمت الأحكام، وجئت تطلب الفقه والأحكام، وصرت طالب علم يفهم، واستفرغت جهدك كله في حفظ ووعي ما يقال لك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى درجة المقارنة لمن خالفك، وما دليله، وما حجته، وكيف تفهم دليل المخالف، وكيف ترد عليه، وكيف تقرر دليلك، وكيف تشيده، بعد هذا يفتح الله عز وجل عليك بدرجة الاجتهاد، لكن لا تستعجل، ولا يغرك الناس حينما يقولون: إن عندك الفهم، أو الاستنباط، أو ملكة، أو عندك كذا، فكل هذا لا يغني عنك من الله شيئا، فالحق لا يعرف بطيب الكلام، ولا بلين الكلام، ولا بمدح المادحين، ولا بزخرفة المزخرفين، ولكنه حق ونور، لو أن أهل السماوات والأرض أرادوا أن يأخذوا هذا النور من حيث لم يأذن الله لم يستطيعوا إليه سبيلا، ولو تكلم من تكلم، حتى ولو كتب، ولو فعل ما فعل، ولو كان البحر له مدادا، وكتب ما شاء، فلن يستطيع أن يجد قوة الحق إلا إذا أعطاه الله إياها.
فهذا الذي ينبغي لطالب العلم؛ فلا تستطيع أن تفهم نصا، وتحكم فهمه، وتصيب الحق في فهمه، إلا إذا فهمت كفهم السلف.
وأختم كلمتي بأن نعرف من هم السلف؟ فلتعلم أن فيهم أقواما منذ نعومة أظفارهم ما اكتحلت عيونهم إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلم أن فيهم أقواما حفظوا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة وتقريرا، حتى أصبح الفهم يجري في عروقهم ودمائهم، فتجد الرجل يضبط أمره كما يضبط الواحد منا فاتحة الكتاب، فهم أناس ما كان عندهم إلا هذا الحق، وما كان عندهم إلا هذا العلم، منذ نعومة أظفارهم، أعرف علماء وأئمة شهد لهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، فما عرف اللعب ولا اللهو، وما نشأ في بطالة، بل نشأ نشأة صالحة، ومثل هذا أكثر توفيقا من الله، ولذلك يقولون: أوعى القلوب للخير الذي لم يسبق الشر إليه، ومن نشأ نشأة صالحة يفتح عليه بإذن الله عز وجل، ويعطى نور العلم، وينفح من الله عز وجل بنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى، كما قالوا: أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.
واعلم أن هذا الفقه الذي تدرسه اليوم في مجلس واحد في الأسبوع، أنهم كانوا يجلسون-وهذا معروف في كتب التراجم وطبقات الفقهاء- من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في مجلس الفقه، وهم لا يتجاوزون الثلاثة الأسطر، والأربعة الأسطر، يقرءونها، ثم يبينون معانيها، ثم يضربون الأمثلة عليها، حتى إذا استقرت وفهمت، يأتي لعبارة من العبارات تحتاج لشواهد من اللغة، وتحتاج إلى معان لغ






ابوالوليد المسلم 21-10-2025 04:42 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (494)

صـــــ(1) إلى صــ(20)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [7]
ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أكره شخص شخصا آخر على قتل رجل فقتله، فإنه يقتص من الآمر والمأمور جميعا، وهناك حالات يقتص فيها من الآمر دون المأمور، منها: أن يكون المأمور غير مكلف، وأن يكون جاهلا بحكم قتل المسلم، وأن يكون الآمر سلطانا معروفا بالعدل، ويقتص من المأمور إذا كان عالما بتحريم القتل فقتل، وإن اشترك اثنان في قتل واحد وسقط القصاص عن أحدهما وجب على الآخر، وإن عدل إلى الدية وجبت عليهما.
القتل بالإكراه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفا على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما] .
تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناء على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقا أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضيا إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك.
لكن هناك اشتراك من نوع ثان، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحا، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكما خاصا، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يقتص من المكره والمكره معا، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكره، وعلى الشخص الذي أكره فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكره على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو.

أقوال العلماء في قتل المكره

ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكره شخص على قتل معصوم فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعا أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرم كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلانا أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثرا -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك.
فالطلاق أخف من القتل، فحينئذ يكون مكرها، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات.
فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه.
فإذا قيل له: إن لم تقتل زيدا نقتلك، وإن لم تقتل فلانا -وهو معصوم الدم- نقتلك.
فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفس محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجبا للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء.
وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكره ولا على المكره؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاص على الذي هدد -المكره- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتل حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.

أدلة القائلين بأنه يقتص من المكره والمكره

والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك: أولا: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعا للإكراه.
ثانيا: أن المكره الذي أمر بالقتل يقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعا للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أكره قاتلا من هذا الوجه.
ثالثا: أننا لو قلنا: إنه لا يقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فسادا، فكل شخص يريد أن يقتل شخصا ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخص آخر ويقول له: اقتل فلانا وإلا قتلتك، وحينئذ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.
وأيضا: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قول صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلا أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيرا قويا، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصا له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.

شروط الاقتصاص من المكره والمكره

وقوله (ومن أكره مكلفا) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنونا أو صبيا وقال له: اذهب واقتل فلانا وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يقتص من الذي أمر ولا يقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفا، فلو أنه هدد صبيا وقال له: اقتل فلانا، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولا ضعيفا- أن الصبي ولو كان مميزا غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.
والعكس: فلو أن مجنونا وضع السلاح على عاقل ومكلف وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.
وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئا، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبد؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلم يكره مسلما على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافر أو على قتل عبد، وهما حران؛ فإنه لا يقتص منهما.
لكن لو أن مسلما أكره ذميا على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيقتص منهما، وفي هذه الحالة يقتل الذمي بالذمي، لكن لا يقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص في حديث علي الصحيح: (لا يقتل مسلم بكافر) ، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئا لهما، فإذا كان مكافئا لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.
وبناء على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يقتص من المسلم المكره، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذميا أكره مسلما على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المكره الذمي دون المكره المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافا للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصا، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكره؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.
وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكل منهما قاتل من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجه يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.
ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكم شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمكره على القتل.
والذي قتل وهو المأمور -المكره- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذ يقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضررا مما طلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساو لما هدد به، وحينئذ لم يكن مكرها حقيقة.
ثم أيضا: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جدا، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراها مؤثرا، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصا آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصا جريئا على أن يقتل، أو شخصا كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلانا وإلا قتلتك وهكذا.
الشروط التي يتحقق بها الإكراه
وقوله: (ومن أكره) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي: أولا: أن يكون الشخص الذي يهدد قادرا على تنفيذ ما هدد به.
ثانيا: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك.
ثالثا: أن يغلب على ظن المكره أن الشخص الذي هدده صادق في قوله، وعازم على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرها إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ.
رابعا: أن يكون الشخص الذي هدد وأكره -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير.
والحقيقة أنه في زماننا قد يكره الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلانا في حدود الساعة العاشرة -مثلا- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معا.
حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور
وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما) .
قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكره والمكره، سواء قتلا معا أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يقتص منه.
فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكره نصف الدية، والمكره النصف الثاني.
وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه.
فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة.
والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصا، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصا واحدا، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكره والمكره، وهذا من باب القتل بالسببية.
فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة.
الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور
قال المصنف رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف، أو مكلفا يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه، فقتل، فالقود أو الدية على الآمر] .
من ترتيب الأفكار ذكر المسائل المفرعة على مسائل الأصول، فقتل الجماعة بالواحد هي مسألة أصل في هذا الباب، وأمر الغير أن يقتل بالإكراه وبدون إكراه، بالإغراء، أو بالتغرير، والكل يجمعها أصل واحد وهو الاشتراك في القتل، فلما كان الاشتراك في القتل له تأثير عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد، فصدر رحمه الله بمسألة قتل الجماعة بالواحد، ثم أتبعها بمسألة السببية، وإذا جاءت مسألة السببية، فتارة تكون السببية بالأمر، وهذه يسمونها: السببية الحسية؛ لأن هناك سببية تؤثر حسا، وسببية تؤثر عرفا، وسببية تؤثر شرعا، فالسببية الحسية منها: مسألة الإكراه حسا، كشخص هدد أنه سيقتل، فهذا بالحس ندرك، أنه إذا ضغط عليه سيقتل، فهذه اشتراك للسببية في الحس.
والسببية بالعرف: مثل أن يأتي ويقدم له طعاما وهو ضيفه، وفي الطعام سم -أعاذنا الله وإياكم- فأكل السم فمات، وهذه قد تقدمت معنا، فإنه قد درج في العرف على أنه إذا قدم الطعام للضيف فإنه يأكله، فصارت سببية مؤثرة بالعرف؛ لأنه قد يقول قائل: إن الشخص الذي أتى بالطعام وقدمه للضيف ما جاء ووضع السم في بطنه، وليس هو الذي باشر قتله، وإنما الشخص هو الذي باشر وأكل، فيتحمل مسئولية نفسه، فنقول: لا، لما كان العرف يحرج هذا الضيف ويلجئه إلى أن يأخذ من هذا الطعام؛ صار العرف يثبت أن صاحب الضيافة يحتاط لضيفه ويصون له طعامه، فصار هذا موجبا لقوة التأثير في السببية؛ لأنه في بعض الأحيان تكون السببية قوية، وأحيانا تكون ضعيفة، فيقولون: إن هذه سببية مؤثرة بالعرف.
وهنا في مسألتنا بالحس مثلا: الشهود إذا شهدوا بالزور فإنهم ليسوا هم الذين قتلوا، وإنما القاضي قضى، والذي قتل هو الذي نفذ حكم القاضي، لكن سببية الشهادة شرعا تثبت القتل، والشرع يلزم بقتل هذه النفس، فهي مؤثرة استنادا إلى الشرع، وقس على هذا، ففي مسألة الشهادة، الحس يثبت أن الإكراه يدفع المكره دون اختياره، فهناك اشتراك من نوع آخر، وهو أن يأمر غير المكلف.

الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف
قال رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف] كأن دعا صبيا وقال له: اذهب واقتل فلانا، والصبي لا يعصي، كأن يكون والدا له، أو يكون شريرا يخاف منه الصبي ويفزع، فقال له: اذهب واقتل فلانا، فذهب وقتله؛ فإنه يسقط القصاص عن الصبي؛ لأنه غير مكلف، ويجب القصاص على الآمر؛ لأنها مثل مسألة الإكراه، فالصبي أو المجنون يندفع بدون شعور.
والمجنون قد يفعل بتمييز، فإن بعض المجانين عنده نوع تمييز، وبعضهم يكون فعله بدون تمييز، فمثلا: بعض المجانين -أعاذنا الله وإياكم- يقال له كلام معين فيحدث عنده رهبة أو خوف، وعندها يتصرف بتصرفات معينة تفضي إلى القتل، سواء قتلت صبيا أو امرأة أو رجلا، ما دام أنه يعلم أن هذه الإثارة لهذا الشخص غير المكلف مفضية إلى إزهاق الروح التي أزهقت وماتت؛ فإنه قاتل كفعل الإكراه في المكره؛ لأن مراده التأثير، ولذلك فالصبي قد يدفع إلى القتل بالقوة أو بالتخويف والتهديد، وعقله قاصر، ويضيق شرط الإكراه في الصبي أكثر منه في غير الصبي؛ لأن غير الصبي يكون عنده من العقل والتمييز والإدراك للأمور ما يستنجد معه بالغير، أو يستغيث به بعد الله بالغير، أو يمكر، أو يحتال، ولكن الصبي لا حيلة له غالبا، فمن هنا إذا أمر غير مكلف؛ فالحكم أنه يسقط عن غير المكلف لوجود موجب الإسقاط، كما لو قتل الصبي منفردا فإنه لا قصاص عليه، فيسقط القصاص عن غير المكلف، ويثبت القصاص على الآمر المكلف.
ويدخل في هذا أيضا المجنون، فالصبي والمجنون كل منهما إذا أمر بالقتل فقتل فإنه يقتل الآمر، إذا قال أولياء المقتول: نريد القصاص والقود.

الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل

قال المصنف رحمه الله: [أو مكلفا يجهل تحريمه] .
انظر إلى فقه المسألة؛ حيث إن المصنف رحمه الله ذكر لك أن هذا النوع من السببية إما أن يوجب القصاص على الاثنين كما في الإكراه، وإما أن يوجبه على أحدهما دون الآخر، فإذا أوجبه على أحدهما دون الآخر نوع رحمه الله في المثال، فجعل الصورة الأولى التي يسقط القصاص فيها عن المأمور الذي هو الصبي غير المكلف، والصورة الثانية يثبت القصاص على الآمر، وهنا إذا أمره السلطان أن يقتل ظلما، وهو يعرف أن السلطان عادل، أو قال له القاضي: اقتل فلانا، فإنه من جنس الأول.
فذكر رحمه الله أنه إذا وجد العذر في المأمور؛ كأن يكون صبيا أو مجنونا، فهنا العذر في ذات الشخص، وصورة أمر القاضي أو أمر الوالي يشترط فيها شروط: منها: أن يكون معروفا بالعدل، أو يكون الشخص الذي أمر بالقتل مغررا به، أو يجهل تحريم القتل، فهذه كلها صور سيذكرها المصنف رحمه الله من باب تطبيق القاعدة.
فقوله: (أو مكلفا يجهل تحريمه) يصبح العذر موجودا في المأمور، فإذا أمر مكلفا يجهل تحريمه، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فجاءه شخص وقال له: يا فلان! إذا قتلت فلانا دخلت الجنة، وهو لا يدري؛ لجهله بأحكام الشريعة، ولم يلبث أن دخل في الإسلام يريد الجنة، فجاء وقتل فلانا، فقلنا له: لم قتلت أخاك، هذا لا يجوز في الإسلام؟ فقال: أنا كنت أظنه يجوز، بل كنت أظن أنه يدخل الجنة.
وقد ذكروا في بعض العصور الإسلامية وقوع مثل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكان من عجيب ما فعله أحد قضاة المسلمين بالآمر أنه ابتدأ بتعزيره، فعذبه أشد التعذيب، ثم بعد ذلك أمر بقتله، فما اقتصر على الاقتصاص منه؛ لأنه نظر إلى الكذب على الله عز وجل - نسأل الله السلامة والعافية- والجرأة على أن يقول الإنسان: إن قتل معصوم يوجب دخول الجنة، ولا يستطيع الإنسان أن يشهد لنفسه بدخول الجنة.
فالشاهد: أن حديث العهد بالإسلام قد يغرر به وينخدع، أو يفعل فعلا كان يفعله في جاهليته وكفره، وهو يظن أنه لا بأس بفعله بعد إسلامه، فكل من خاصمه أمسك سلاحه وقتله، فلما أسلم ودخل في الإسلام لم يطمئن قلبه بعد ببيان الأحكام، فجاء وقتل مباشرة، ظنا أن مثل هذا الفعل جائز، فهذا يعذره العلماء، وهو ما يسمى: العذر بالجهل، وهي مسألة دقيقة جدا عند المحققين من أهل العلم.
أما أن يأتي شخص إلى الحج والعمرة، ويدخل في أحكام الحج على مزاجه وعلى كيفه، ثم يقول: أنا كنت أجهل الحكم، ويقال له: ليس عليك شيء؛ فإن هذا مما لا ينبغي، فالعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة مسموعة، وهذا ليس بمعذور، وعذره يعتبر إعانة على الإخلال والتقصير والعبث بالأحكام الشرعية، أما أن يكون هناك شخص يكون الجهل فيه واضح التأثير في إسقاط الحكم.
كحديث العهد بالإسلام وليس عنده وقت يتعلم لكي يدرك مقاصد الشريعة ويبين له ما حل وحرم، فمثل هذا يكون جهله مؤثرا، وكذلك الشخص في البرية البعيدة التي لا يوجد فيها علماء.
وعلى كل حال: سواء كان الجهل عذرا أو ليس بعذر أولا يحرر ما هو الجهل الذي يعذر بمثله، ومن هو الشخص الجاهل الذي يعذر مثله، ثم بعد ذلك ينظر في مسألة العذر بالجهل، كالمسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لأن العذر فيها فعلا مؤثر؛ فحديث العهد بالإسلام لم يسعه الوقت الذي يعلم فيه تحريم قتل أخيه، فيعذر لجهله، ويسقط القصاص في هذا.

الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطانا معروفا بالعدل

وقوله: (أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه) .
كالقاضي يكون عنده سياف، فقال له: خذ فلانا واقتله.
فإذا عرف الوالي أو السلطان أو القاضي بالعدل، وعرف المأمور منه العدل، وأنه لا يظلم، فهذا عذر به جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الغالب كالمحقق، فلما كان غالبه العدل والإنصاف، وعرف منه العدل؛ فإن مثله يعذر، أما لو كان معروفا بالعكس فلا يعذر، لكن الإشكال في الشخص الذي يعلم أنه أمر بقتله ظلما؛ ولذلك قال: (لا يعرف) ، فكون المأمور جاهلا بظلم الآمر، سواء كان قاضيا أو سلطانا أو غيره، فيعذر، وأما إذا كان عالما؛ فاختار طائفة من العلماء أن القصاص على المأمور دون الآمر، ما لم يكن الآمر قد أثر عليه وضغطه على وجه يرتقي به إلى الإكراه، فحينئذ القصاص على الآمر والمأمور.
قال المصنف رحمه الله: (فالقود أو الدية على الآمر) ، أي: في هذه الحالة القود أو الدية على الآمر؛ لأن المأمور جاهل بظلم الآمر، أو غير مكلف، أو يجهل تحريم القتل، وكلها أعذار موجبة لسقوط القصاص عنه.
الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر
قال المصنف رحمه الله: [وإن قتل المأمور المكلف عالما بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر] .
قوله: (وإن قتل المأمور المكلف عالما) أي: حال كونه عالما بحرمة قتل من يقتله؛ فإنه في هذه الحالة يكون القصاص على المأمور وحده.
إذا: هناك القصاص على الآمر، وهنا القصاص على المأمور، ومن هنا ندرك فائدة ترتيب المصنف لهذه المسائل بعد مسألة الإكراه، فالإكراه يقتص منهما معا، وإن حصل الخلل في المأمور اقتص من الآمر وحده، فإن كان المأمور لا خلل فيه ويعلم أنه أمر بالظلم، وأنه أمر بقتل معصوم، فأقدم على القتل، فالقصاص على المأمور دون الآمر.
فأصبحت الصور ثلاثا: يقتص من الآمر والمأمور في حالة الإكراه، إذا كان كل منهما قد استوفى شروط القصاص والقود.
ويقتص من الآمر دون المأمور إذا كان المأمور به عذر، مثل أن يكون غير مكلف، أو يكون جاهلا بحرمة القتل في الإسلام مثل حديث العهد بالإسلام، أو جاهلا جهلا معينا؛ كأن يكون الشخص الذي أمر بقتله مظلوما، وظن أنه يقتل بالحق، فحينئذ في هذه الثلاث الصور يقتص من الآمر دون المأمور؛ لأن في المأمور عذرا يمنع القصاص منه.
والصورة الأخيرة: إذا كان المأمور مكلفا عالما غير معذور، فإنه في هذه الحالة يقتص من المأمور دون الآمر، إلا في مسألة الصبي، فقد ذكرنا أن بعض العلماء قال: في مسألة الصبي يقتص من الآمر دون المأمور، لكن في الصورة الثالثة -وهي التي يقتص فيها من المأمور دون الآمر- قالوا: لأن المأمور أقدم على القتل بدون إكراه وبدون ضغط، ففي هذه الحالة يقتص منه؛ لعلمه بحرمة دم المقتول، وعلمه بحرمة القتل، فليس فيه عذر يمنع من القصاص منه.
ولو قال قائل: إنه أمر، فنقول: إنه أمر على وجه لم يكن الأمر فيه سببا مؤثرا -أي قوي التأثير - في الإزهاق، فليس هو مثل الإكراه، حيث إن أمر الإكراه سبب قوي التأثير في الإزهاق، لكن هنا الأمر ليس بسبب مؤثر في الإزهاق، إلا فيما استثنيناه في مسألة الوالي إذا أكره أو ضغط، فحينئذ تنتقل المسألة إلى مسألة المكره والمكره، فيقتص منهما، ويجب القصاص والقود عليهما.







الساعة الآن : 10:37 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 298.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 297.79 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.17%)]