(متى وكيف اخترع الشعب اليهودي)؟!
(متى وكيف اخترع الشعب اليهودي)؟! (1/2) عيسى القدومي (متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟) عنوان كتاب للبروفسور (شلومو زاند), أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب, صادر عن دار فايار في باريس, وتقدم في قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الكيان الصهيوني, الأمر الذي لم يتوقعه المؤلف، وترجم إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية وجار ترجمته لعدة لغات. مؤلف الكتاب شلومو زاند يعلن صراحة أن غرضه هو تفنيد ادعاءات اليهود بحق تاريخي في أرض فلسطين، أما سبيله إلى تحقيق ذلك فهو البرهنة على أنهم ليسوا شعباً ذا ماضٍ مشترك أو رابطة دم وأصل واحد إضافة إلى كونهم لا ينتمون إلى هذه الأرض. ومدار كتاب (زاند) أنه لا يوجد مطلقاً شعب يهودي، نعم توجد فقط ديانة يهودية، وأنه لم يحدث نفي وبالتالي لم يكن هناك عودة، ويرفض الباحث معظم روايات تشكيل الهوية الوطنية في الكتاب المقدس. وأنه تم اختراع شعب وتلفيق تاريخ، وأن الرومان لم يطردوا اليهود من القدس، والشتات أسطورة لتشييد ذاكرة مزيفة، وأن الصهيونية لفقت أسطورة الأصل المشترك لليهود خدمة لأجندتها السياسية. فقد أنكر الباحث الحكاية الصهيونية التي أقنعوا شتات اليهود بها والتي أركانها: النفي والاضطهاد، والخلاص والعودة، وأنهم عملوا على تدعيمها بنصوص توراتية محرفة، وخدمتهم البروتستانتية الصهيونية التي حولت الأسطورة إلى عقيدة تحرك الساسة والجيوش، وتضطهد الأمم والشعوب وبالأخص الأمة الإسلامية. ولكن هذا يطرح السؤال التالي: إذا لم يتم طرد اليهود جماعياً من فلسطين - يهوذا القديمة بزعمهم - فكيف انتشر اليهود في جميع أنحاء العالم؟ للإجابة عن هذا السؤال قدم (زاند) تفسيراً للشتات اليهودي الذي تطلق عليه المراجع اليهودية مصطلح (الدياسبورا اليهودية)، مفاده أن بعض اليهود هاجروا بمحض إرادتهم، والكثير منهم من المتحولين إلى اليهودية؛ لأن اليهودية في فترة من الفترات اضطرت لأن تكون ديانة تبشيرية للحصول على أتباع جدد. ويضيف أن «اليهودية دين وليست أمة، واليهود لم يكونوا شعباً وأمة، وذلك يثير الشكوك حول مبرر بقاء دولة يهودية تجمع شتات ما تفرق من تلك الأمة الأسطورة، فليس لليهود هوية وطنية». وأكد ذلك بقوله: «إن قصة الشعب اليهودي وتحويل اليهود من مجموعة لها هوية ثقافية ودينية مشتركة إلى شعب مهزوم هو اختراع حديث العهد نسبيا، نشأ في القرن التاسع عشر بواسطة العلماء الصهاينة وتم دعمه من المؤسسة الأكاديمية في إسرائيل... لأنها مؤامرة فكرية من نوع ما، فالأمر كله خيال وأسطورة كانت ذريعة لقيام دولة إسرائيل». وذهب الباحث إلى أبعد من ذلك بقوله لصحيفة (هآرتس): «فرض أن الفلسطينيين متحدرون من الشعب اليهودي القديم هو أكبر بكثير من الفرض أنني أنا أو أنت هم أحفاد الشعب اليهودي القديم». ويؤكد أنه: «ليس جديداً القول بأن بعضا من المعتقدات الشائعة بشأن التاريخ اليهودي لا أساس لها من الصحة، فالخبراء متأكدون, مثلاً, من عدم حدوث ما يعرف بحادثة طرد اليهود من أورشليم على يد الرومان عام 70 للميلاد، كما بات من الثابت علمياً أن نسب الأغلبية العظمى من اليهود المعاصرين لا تعود إلى يهود العهد القديم إنما إلى أقوام وثنية في أوروبا وشمال أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية اعتنقت الديانة اليهودية في الألفية الميلادية الأولى وفي بداية العصور الوسطى». وفي مجال سعيه إلى تفنيد مزاعم اليهود بحق تاريخي في الأرض, يحرص (شلومو زاند) على البرهنة على أن أصول اليهود المعاصرين لا تنتهي إلى أرض فلسطين القديمة، ويستشهد بالنظرية القائلة بأن يهود وسط أوروبا وشرقها, الذين ينتسب إليهم 90٪ من اليهود الأمريكيين ينحدرون من الخزر الذين اعتنقوا الديانة اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وأقاموا إمبراطورية لهم في القوقاز. وهي نظرية ظهرت لأول مرة في القرن التاسع عشر واكتسبت مصداقية كبرى عندما تناولها الكاتب البريطاني آرثر كوستلر في كتابه الشهير (القبيلة الثالثة عشرة) الصادر عام 1976. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة (هآرتس) العبرية, أكد (شلومو زاند) دور الاعتناق في زيادة أعداد اليهود في العالم، يقول زاند: اليهود لم ينتشروا ولكن الديانة اليهودية هي التي انتشرت. وبخلاف التوجه اليهودي الحالي إلى الانغلاق على الذات, فإن اليهودية في عهودها المبكرة كانت تسعى إلى كسب المزيد من الأتباع. بالطريقة نفسها, يقول (زاند): تمكنت الأسطورة والذاكرة البديلة والتطلعات والرغبات من حياكة نسيج التاريخ اليهودي الذي لا يستند إلا إلى النزر القليل من الأدلة المتضاربة التي يعثر عليها في المدونات أو التنقيبات الأثرية، حيث شكلت البذرة التي تجسدت لدى الأجيال اللاحقة على شكل اعتقاد راسخ بأن اليهود شعب تعرض للنفي والاضطهاد على مدى الجزء الأعظم من تاريخه. ويخلص شلومو زاند من هذا الاستعراض لأوهام التاريخ اليهودي إلى اتهام المؤرخين الصهاينة منذ القرن التاسع وإلى يومنا هذا بإخفاء الحقيقة وتلفيق أسطورة الأصل المشترك لليهود المعاصرين خدمة للأجندة الصهيونية العنصرية. وهو لا يدعي لنفسه الكشف عن حقائق جديدة, لكنه يقول أنه قد رتب المعرفة بنحو مغاير، وبهذا يصدق على زاند ما قاله نيكولاس لانج في كتابه (التاريخ المصور للشعب اليهودي 1997): إن كل جيل من المؤرخين اليهود قد واجه المهمة نفسها وهي: إعادة رواية الحكاية وتكييفها لكي تلائم متطلبات الأوضاع التي يواجهها ذلك الجيل. وفي مقابلته مع صحيفة (هآرتس) يقول رداً على سؤال حول وجه الخطورة في تصور اليهود أنهم ينتمون إلى أصل واحد: هناك درجة من التشويه في الخطاب الإسرائيلي بشأن الأصول، فهو خطاب عنصري, عرقي, منغلق على ذاته. ليس هناك وجود لإسرائيل كدولة يهودية. كل من يعرف النخب الشابة من عرب إسرائيل يستطيع أن يرى أنهم لن يرضوا بالعيش في بلد يعلن أنه ليس لهم. لو كنت فلسطينياً لتمردت على دولة من هذا النوع، بل إنني أتمرد عليها مع كوني إسرائيلياً. ويضيف الكاتب أن حرب الـ 1967 سهّلت عمليات التنقيب بشكل كبير، لكن النتائج بدأت تبرز تناقضات الإيديولوجيا الصهيونية؛ لذلك كان يؤجل الإعلان عنها أمام الجمهور عشرين عاماً. عام 1970 حصل تطور في علم الآثار تحت تأثير مدرسة الحوليات التاريخية في فرنسا وارتدى الطابع الاجتماعي للبحث التاريخي أهمية أكبر من الطابع السياسي، ووصل هذا التحوّل إلى الجامعات الإسرائيلية. هكذا بدأت تناقضات الرواية الرسمية بالبروز وهو ما يزعزع الأساطير المؤسسة ليس فقط لدولة إسرائيل بل للتاريخ اليهودي عامة. وإن الرواية التوراتية التي يعتبرها جميع المؤرخين الإسرائيليين حجر الزاوية في الذاكرة الوطنية والمرحلة الأكثر إشراقاً والأكثر تأثيراً في التاريخ اليهودي, دحضتها أيضاً الاكتشافات الأثرية الجديدة، إنها مملكة داود وسليمان التي يفترض أنها عاشت في القرن العاشر قبل الميلاد. إن الحفريات التي تم القيام بها في 1970 في كل محيط المسجد الأقصى لم تثبت وجود أي أثر لهذه المملكة ولا حتى لأي أثر لسليمان الذي تجعله التوراة بمرتبة ملوك بابل وفارس. وينهي زاند هذا الفصل بالقول إن الكتب المدرسية طمست كلياً عمليات التبشير لتبيان أن كل الجماعات اليهودية خارج فلسطين هي من المنفيين مما يعطيهم الحق في العودة والأرض إضافة إلى الانتماء إلى شجرة العائلة اليهودية، بدلا من أن يكونوا نتيجة تمازج عرقي بين جماعات إنسانية مختلفة وهو ما يضعف الوحدة البيولوجية للأمة. وخلص (زاند) إلى القول إنه لا أحد له مصلحة في إحياء ذاكرة الخزر، إن الابتعاد عن التأريخ الديني لليهود وإجراء أبحاث أنثروبولوجية عن حياتهم اليومية يكشف عن غياب قاسم مشترك علماني ليهود أفريقيا وآسيا وأوروبا وبالتالي لا يسمح بالحديث عن «أمة» يهودية وهو ما تتحاشاه الرواية الرسمية لتاريخ اليهود. ويرى زاند أن الواقع قاس جدا بالنسبة للحقوقيين الصهاينة، فلم يعد هناك في العالم أي بلد يمنع اليهود من الهجرة إلى إسرائيل والهجرة المعاكسة أصبحت أقوى، وأن الأساطير التي بنيت عليها هي التي ستؤدي إلى تفجيرها من الداخل، الأسطورة الأولى: ملكية الأرض التاريخية دفعت إسرائيل إلى استعمار شعب آخر وخلقت لها مشكلة ديموغرافية هائلة والأسطورة الثانية هي إثنيتها التي تمنع أي غريب من الدخول إليها، وهو ما أدى إلى وضع غريب: كلما انخرط الفلسطينيون في الدولة الإسرائيلية ازداد استلابهم وتعزز رفضهم لأسس هذه الدولة، وذلك لاكتشافهم حقوقهم الناقصة قياساً على الإسرائيليين اليهود. لقد ساهمت ممارسات إسرائيل العنصرية في غزة والضفة في تقوية هذا الشعور إلى حد بعيد. وفي الفصل الثاني والذي هو بعنوان «أسطورة - تاريخ، في البداية خلق الله الشعب» أكد (زاند): أنه كان لا بد من الاستشهاد بإعلان استقلال دولة «إسرائيل»: «إن أرض «إسرائيل» هي المكان الذي نشأ فيه الشعب اليهودي، وهنا تشكَّلَ طابعه الروحي والديني والقومي، وهنا أنجز استقلاله وخلق ثقافة ذات حمولة قومية وكونية ومنح التوراة الخالدة للعالم بأسره». وللرد على ذلك استعرض الكاتب الكتابات التاريخية حول المسألة اليهودية، ويرى، من خلال كمّ هائل من المراجع والإحالات، أنها كانت متأخرة، أي بعد 1600 سنة من ظهور موسى عليه السلام، واستشهد على ذلك بتأكيد الفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا: «بأن أسفار موسى الخمسة الأولى لم يكتبها موسى، بل هي من تأليف كاتب جاء بعد موسى بعدة قرون». وأضاف: «لكن العديد من الدراسات والأبحاث حول المسألة اليهودية والتي كان يقوم بها مثقفون ومؤرخون يهود، خصوصا في ألمانيا، لم تكن تستهدف غير منح قيمة لهذا البحث باعتباره قنطرة إضافية تتيح دمج الجماعة اليهودية في مجتمع ألماني قادم»، أي: «يجب التذكير بأن بدايات كتابة التاريخ اليهودي في العصر الحديث لا تتميز بخطاب قومي صارم». ولكن ما يجب ألا نغفله وهو ما يشدد عليه المؤلف بقوة هو أنه «كانت توجد، منذ البداية، علاقة وثيقة ما بين تصور التوراة كوثيقة تاريخية ثابتة و المحاولة من أجل تحديد الهوية اليهودية الحديثة بتعابير قومية وغيرها. وخلص البروفسور (زاند) بعد سرد الكثير من الحقائق والشواهد إلى أن هناك تناقضات المؤرخين الصهاينةوأكاذيبهم فيقول: «على الرغم من أن معظم المؤرخين المهنيين عرفوا أنه لم يكن ثمّة أبدا طردٌ بالقوة لـ «الشعب اليهودي»، فقد أخذوا تسلسل الأسطورة المسيحية في التقليد اليهودي من أجل أن يتركوها تَشُقّ طريقَهَا بحرية على الساحة العمومية وفي الكتب البيداغوجية للذاكرة القومية، من دون أن يحاولوا كبح مسارها، بل إنهم شجعوها بصفة غير مباشرة وهم يعلمون أن هذه الأسطورة وحدها يمكن أن تؤمّن شرعيتها الأخلاقية للاستعمار من طرف «أُمّة منفية» لأرضٍ يحتلها آخرون»، ويوجه الكاتب انتقاداته للفكر الصهيوني: «ليس مصادفة أن الفكر الصهيوني يستمد مرجعياته من المصادر الاثنوتخييلية القديمة. يستولي عليها باعتبارها كنزا نادرا ويقوم بقولبتها على هواه في مختبراته الايديولوجية». وأكد أنه لم يكن المسلمون الأوائل يعادون الديانة اليهودية، كما أن مسار الأسلمة الذي قام به العرب المسلمون «لم يضع حداً للمد المتواصل من أتباع اليهودية في كل جنوب إسبانيا ومن أفريقيا الشمالية. ويدلل على ذلك بقوله: المؤرخ إسحق بايير، في كتابه المهم عن يهود إسبانيا، سجّل في حينه بإعجاب «أن إسبانيا العربية بدت كأنها تحولت إلى مكان لجوء من أجل اليهود». وهكذا استطاعت الجماعة اليهودية أن تزدهر من وجهة نظر ديموغرافية، بفضل تهويد محليّ وأيضاً بفضل موجات الفتح والهجرة حيث تفتحت الجماعة اليهودية ثقافياً، في إطار تناغُم استثنائي فيما بينها وبين التسامح العربي الذي كان يسود في مملكة الأندلس». ويقول: «ترفض إسرائيل بعد ستين سنة من نشوئها، أن تتصور نفسها كجمهورية وجدت من أجل كل مواطنيها، ما يقارب ربع سكانها لا يعتبرون يهودا، وحسب روحية قوانينها، فإن هذه الدولة ليست دولتهم. وفي المقابل تقدم «إسرائيل» نفسها باعتبارها دولة من أجل يهود العالم، على الرغم من أن الأمر لم يعد يتعلق بلاجئين مضطهدين، ولكن بمواطنين يتمتعون بكامل المساواة في الدول التي يقطنونها. بصيغةٍ ما إن عرقية مركزية من دون حدود تبرر التمييز القاسي الذي تمارسه ضد جزء من مواطنيها باستحضار أسطورة الأمة الخالدة، التي تشكلت من جديد من أجل التجمع على أرض الأجداد». ويواصل الكاتب: من الصعب كتابة تاريخ يهودي جديد، بعيداً عن القبضة الصهيونية. إن اليهود كونوا، بشكل دائم، جماعات يهودية تكونت، في معظم الأحيان، عن طريق التهويد، في مختلف مناطق العالم. إنهم لا يشكلون إثنية حاملة لنفس الأصل الأوحد والذي يكون قد انتقل على مرّ تيه امتد عشرين قرنا. وأضاف أن تطور الكتابة التاريخية، مثل مسار التحديث يمران كما نعرف عن طريق اختراع أمّة، والأمّة شغلت الملايين من البشر في القرن التاسع عشر وخلال جزء من القرن العشرين. في نهاية القرن العشرين، رأينا تكسّر بعض هذه الأحلام. وقد قام باحثون، وهم في تزايد مستمر، بتحليل وتشريح وتفكيك المحكيات القومية الكبرى، وبشكل خاص أساطير الأصل المشترك العزيز على قلوب إخباريي ومؤرخي الماضي. إن كوابيس الأمس الهوياتية ستترك مكانها، في قادم الأيام، لأحلامِ هوية أخرى. وسأكمل بمشيئة الله في العدد القادم ماهية الطرح الذي نشره الباحث والبروفسور اليهودي (شلومو زاند) ولماذا هذا الكتاب وفي هذا الوقت؟ ولماذا انتشر هذا الانتشار؟ وما علاقته بالمؤرخين اليهود الجدد؟ وما الحل الذي طرحه الباحث في آخر كتابه؟ وكيف كانت الانتقادات على ذلك الكتاب من اليهود والمستشرفين والمؤرخين الغربيين؟ وما مدى استفادتنا نحن المسلمين أصحاب الحق والأرض والمقدسات مما كتبه ذلك الباحث؟ |
رد: (متى وكيف اخترع الشعب اليهودي)؟!
(متى وكيف اخترع الشعب اليهودي)؟! (2/2) عيسى القدومي نكمل قراءاتنا لكتاب (متى وكيف اخترع الشعب اليهودي?) للبروفسور (شلومو زاند)، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب, والصادر عن دار فايار في باريس؛ حيث تقدم قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الكيان الصهيوني؛ وترجم إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية ولغات عدة. وقد أعلن فيه صراحة أن غرضه من الكتاب تفنيد ادعاءات اليهود بحقهم التاريخي في أرض فلسطين، من خلال البرهنة على أنهم ليسوا شعباً ذا ماضٍ مشترك أو رابطة دم وأصل واحد إضافة إلى كونهم لا ينتمون إلى هذه الأرض. وفي هذه الحلقة سنبحث في ماهية الطرح الذي نشره الباحث والبروفسور اليهودي (شلومو زاند) ولماذا هذا الكتاب وفي هذا الوقت؟ ولماذا انتشر هذا الانتشار؟ وما علاقته بالمؤرخين اليهود الجدد؟ وما الحل الذي طرحه الباحث في آخر كتابه؟ وكيف كانت الانتقادات على ذلك الكتاب من اليهود والمستشرقين والمؤرخين الغربيين؟ وما مدى استفادتنا نحن المسلمين أصحاب الحق والأرض والمقدسات مما كتبه ذلك الباحث؟ ولماذا الآن هذا الكتاب؟ لا شك أن الكيان الصهيوني يعيش الآن بعزلة أكبر من أي وقت مضى - بل منذ قيامه وإلى الآن - والكثير من قادة هذا الكيان العسكريين لا يجرؤون على زيارة بريطانيا وبعض الدول الأوروبية خشية الاعتقال والمساءلة، بعد أن رفعت عليهم قضايا جرائم حرب، على الرغم من وقوف الحكومات الأوروبية مع الكيان الصهيوني كوجود واستمرار. أحداث وضعت قادة اليهود في مأزق حقيقي، فمنذ سنة 2000 م – على وجه الخصوص – أخذت الاعتداءات تتوالى وبأبعاد واتجاهات مختلفة - من اقتحامات للمسجد الأقصى، وحرب تلتها مذابح في الضفة كمذبحة جنين، وتهويد في القدس، وحصار وحرب على غزة، وجرائم حرب مصورة، وأسلحة محرمة، واعتداءات على سفن الإغاثة والنصرة، وإضعاف للسلطة التي وقعوا معها اتفاقات أوسلو، حواجز واعتقالات واغتيالات واستيطان يستشري في الضفة، وتصريحات وتبريرات إعلامية يهودية لا تنطلي حتى على السفهاء من الناس. ولتدارك ما فات عقدوا المحاكم لبعض ضباط وجنود الاحتلال والذين صورتهم عدسات الكاميرات وهم يجردون عزلاً من ثيابهم ثم يعدمونهم بكل برود، محاكم شكلية طالما سمعنا بها، والجديد فيها أنها جرمت الجنود، بعدما كانت في السابق تجرم الضحية. والاعتداء على أسطول الحرية أدخلهم في مأزق جديد، ووتّر العلاقات مع الدولة الحليفة (تركيا)، وبعض الدول الأوروبية التي كان على متنها بعض رعاياهم، فشكلوا لجنة تحقيق في ملابسات هذا الاعتداء، ورفضوا تشكيل هيئة دولية محايدة تحقق فيما جرى. فلا يستطيع الكيان اليهودي أن يستمر في هذه العزلة، بعد أن ضعفت أدواته في مواجهة النشاط المضاد لممارساته، حيث علت مستويات من يتبناه من أعضاء في البرلمانات الأوروبية ونشطاء مشهود لهم بالوقوف مع القضايا العادلة في بقاع الأرض. كان لزاماً لهذا الكيان أن يخرج من مأزقه، بالانتقال لمرحلة واستراتيجية جديدة يغير فيها خطابه، ويقدم التنازلات – بزعمه – من أجل العيش بسلام!! ولا حل يعطيه الاستمرار في الوجود على الأرض المغتصبة أفضل من مصطلح (حل الدولتين)، وهذا التغيير لا بد له من تهيئة داخلية أولاً ثم عالمية ليهود الشتات. ولتوزيع الأدوار نشط اليهود في الغرب، وأطلقوا وثيقة بعنوان (نداء للعقل) وقع عليها أكثر من ثلاثة آلاف يهودي أوروبي من بينهم مفكرون مرموقون تندد بسياسات إسرائيل الاستيطانية وتحذر من خطورة دعم الحكومة الإسرائيلية دون تحفظ، وكان من بين الموقعين على العريضة الفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي، ودانيال كوهن بنديت زعيم الخضر في البرلمان الأوروبي. وهؤلاء الموقعون يعتبرون أنفسهم مدافعين عن إسرائيل ومخلصين لها، بيد أن صبرهم بدأ في النفاد, والقلق الصادق يملأ أفئدتهم؛ لأن إسرائيل تواجه خطرًا يتمثل في «الاحتلال ومواصلة سعيها لإقامة المستوطنات في الضفة الغربية والأحياء العربية من القدس الشرقية». وبدأ يشاع أن غالبية يهود بريطانيا مع حل الدولتين، حيث أظهرت دراسة مسحية أجراها معهد أبحاث السياسات اليهودية على أربعة آلاف شخص من يهود بريطانيا، أن اليهود البريطانيين يتعاطفون بقوة مع إسرائيل, ويؤيدون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها, لكنهم يرون أن عليها الآن مساعدة الفلسطينيين على إنشاء دولتهم الخاصة, حيث يؤيد أكثر من ثلاثة أرباع اليهود البريطانيين (77%) «حل الدولتين» بوصفه «الطريقة الوحيدة» لإحلال السلام بالشرق الأوسط, وقال أكثر من 52% منهم: إنهم يؤيدون إجراء الحكومة الإسرائيلية مباحثات مباشرة مع (حماس). وحسب هذه الدراسة فإن 95% من عينة قوامها نحو 4000 من يهود بريطانيا قالوا إنهم زاروا إسرائيل (مقابل 87% بدراسة 1995)، وإن 90% يرون في إسرائيل (أرض الأجداد) للشعب اليهودي. ويشعر 86% بأن على اليهود مسؤولية خاصة لبقاء هذا الشعب، ويصنف 72% أنفسهم بأنهم صهاينة، علماً بأن يهود بريطانيا أكثر تعلقاً بـ (الدولة العبرية) منهم في أمريكا، ونقلت صحيفة (ذي جويش كرونيكل أونلاين) البريطانية عن البروفسور في السياسة الاجتماعية اليهودية في نيويورك ستيفن كوهين قوله: «إن اليهودية البريطانية أكثر ارتباطاً بإسرائيل من اليهودية الأمريكية». وعلق المدير السابق لمعهد أبحاث السياسات اليهودية أنطوني ليرمان على نتائج الدراسة بقوله: «على الرغم أن بعض نتائج الدراسة توفر تطمينات للمنظمات اليهودية والجماعات الموالية لإسرائيل بشكل قوي في المملكة المتحدة وللحكومة الإسرائيلية الراهنة»، فإن أرقاما وبيانات تشير إلى وجود أقلية كبيرة، وفي بعض الأحيان أغلبية، تتبنى موقفا ناقدا بشكل قوي لإسرائيل؛ كما أن ثمة ميلا يهوديا كبيرا لرؤية الأشياء من منظور فلسطيني، وهذا يتجسد في اعتراف 55% بأن «إسرائيل قوة محتلة بالضفة الغربية»، وفي إقرار 47% بأن «معظم الفلسطينيين يرغبون في السلام». وسبق ذلك تكشف حقائق الكثير من الأمور والممارسات، مما دفع نقابة الجامعات والمعاهد ببريطانيا «(يو سي يو) كبرى نقابات التعليم العالي في بريطانيا والتي تضم في عضويتها أكثر من (120) ألف منتسب، إلى تبني قرار مقاطعة الجامعات العبرية تضامنا مع الفلسطينيين؛ بل طالب القرار الاتحاد الأوروبي بالعمل على مقاطعة المؤسسات الأكاديمية العبرية ووقف الدعم المالي لها. وتلا ذلك الدعوة لمقاطعة المنتجات التي تصنع في المغتصبات اليهودية في الضفة الغربية، وعلت أصوات الكثير من المؤسسات المدنية في الغرب المطالبة باتخاذ قرارات وإجراءات بحق هذا الكيان الظالم، وترادف مع ذلك تراجع في تأثير (اللوبي) الصهيوني متمثلاً في المؤسسات بكل قطاعاتها. تلك هي الأجواء العالمية التي تعيشها الحكومات والشعوب في الغرب، وفي خضم تلك المتغيرات صدر كتاب (زاند) ليمهد الطريق لقبول حل الدولتين. ماذا وراء الحلول؟! يرى الكاتب أن التفاهم بين الفلسطينيين و(الإسرائيليين)، مفيد وحيوي من أجل بقاء (إسرائيل) يقول نصاً: «كل شركاء السلام عليهم أن يعرفوا أن تفاهما مشتركا حول دولة فلسطينية، إن تحققت، سيسجل ليس فقط نهاية مسار طويل ومؤلم، بل يسجل بداية مسار آخر طويل وضروري». ويُخْشى على الليل الكابوسي أن يكون متبوعاً بفجر مقلق. إن القوة العسكرية الهائلة لـ (إسرائيل) وسلاحها النووي وحتى الجدار الخراساني العظيم الذي انغلقت فيه لن تساعدها على تجنب تحويل الجليل إلى (كوسوفو). فمن أجل إنقاذ (إسرائيل) من الهوة المظلمة التي تحفرها لنفسها ومن أجل تطوير علاقاتها البالغة الهشاشة مع محيطها العربي، فإنه من الضروري جدا إجراء تغيير أساسي للسياسة الهوياتية الإسرائيلية». لذا اجتهد للتدليل على أن هناك قواسم مشتركة قائمة بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب، وأن كلتا المجموعتين تدعي نفس الأرض، وكلتيهما واجهت القمع والتشريد وكلتيهما وتطالب بـ (حق العودة)!! فلماذا لا نعيش نحن الطرفين في دولة واحدة؟! لأنه يرى أن الحل الأمثل لمئة عام من الصراع هو (دولة ثنائية الهوية): «دولة ديمقراطية ثنائية القومية تمتد من البحر المتوسط إلى نهر الأردن». ولكنه يعترف بأن المسألة معقدة: «لن يكون من المعقول أن ننتظر من شعب يهودي (إسرائيلي)، بعد صراع طويل ودام، وبسبب المأساة التي عاشها عدد كبيرٌ من مؤسسيه المهاجرين في القرن العشرين، أن يقبل بأن يصبح يوماً أقلية في بلده». وبعد ذلك العرض قدم الكاتب نصيحة قاسية لليهود في فلسطين ولمن سينتقدونه: «إذا كان ماضي أمّةِ ما يتعلق جوهرياً بأسطورة حُلْميّة، فلماذا لا يُبْدأ في إعادة التفكير في المستقبل، قبل أن يتحول الحلم إلى كابوس؟». (شلومو زاند) والمؤرخون الجدد: (شلومو زاند» ينتمي إلى مجموعة المؤرخين الجدد الداعين إلى مراجعة تاريخ الصراع العربي وإعادة النظر في الروايات التي ترادفت مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، من خلال مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية، وتنقيتها من الأكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت إلى مسلمات في الطرح الصهيوني!! تلك الحركة (المؤرخون الجدد) يطلق عليهم أحيانا مدرسة (التاريخ الإسرائيلي الجديد)، ويطلق عليهم أيضا مصطلح (ما بعد الصهيونية)، وقد تبنت التكليف من حزب العمل وبرعاية خاصة من إسحق رابين للتمهيد للتسوية السلمية على أن يبدأ ذلك بالتمهيد لنشر حقيقة استحالة استمرار العداء الإسرائيلي للعرب على المستوى الذي كان عليه منذ عام 1948م وحتى اليوم. وقد عمل المؤرخون على الطعن في الرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات أو ادعاءات باطلة أو غير دقيقة على الأقل، واتفقوا على تسميتها بـ(الأساطير الصهيونية) كون الصهيونية نجحت في ربط كل كذبة من أكاذيبها بواحدة من الأساطير اليهودية؛ وذلك حتى تقنع الرواية الرسمية بالمنطوق التاريخي الموحد بأن الصهيونية قد حققت معجزة إقامة (دولة إسرائيل). والجديد في الطرح أن المؤلف بدلاً من العودة إلى عام 1948 أو إلى بداية ظهور الصهيونية - كما فعل الآخرون - يعود إلى الماضي السحيق ليثبت أن اليهود الذين يعيشون اليوم في فلسطين لا ينحدرون من نسل الشعب العتيق الذي سكن مملكة يهوذا خلال فترة الهيكل الأول والثاني؛ وإنما هم خليط متنوع من جماعات مختلفة اعتنقت في مراحل متباينة من التاريخ الديانة اليهودية. و(زاند) من خلال كتابه هو على قناعة بأن اليهود لا يستطيعون أن يستمروا في الكذب، فما كان ينطلي على الجيل السابق لا يمر على الجيل الحالي، فلا بد من وسائل جديد بطرق إقناع جديدة حتى تقبل فكرة الدولة الواحدة؛ لإيجاد الصيغة المناسبة لاستمراريتها. ولم يخرج كون هؤلاء المؤرخين - ومنهم (زاند) - يهودا يعشون على أرض مغتصبة، ويسهمون بشكل أو بآخر في استمرارية هذا الوجود على أرض فلسطين، ويعملون على أن يخضع للعقل تاريخ الكيان اليهودي منذ التأسيس، دون التصدى للأساطير الدينية ولخرافاتها التي أوجدت هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين. ولعل ما سبق يوصلنا إلى حقيقة المؤرخين الجدد الذين يمكننا وصفهم بأنهم (محاربون في إسرائيل)، (ومن أجل إسرائيل)، فهم يخدمون الكيان اليهودي في مرحلته الحالية. وقد حذر د.محمد أحمد النابلسي من الركوب في مقطورتهم، ورفض الاستجابة للدعوة إلى التدوين المشترك (عربي – إسرائيلي) للتاريخ، حيث إن الشيطان يكمن في التفاصيل، التي يجب علينا الانتباه عليها والتحذير من خطرها على مستقبل أجيالنا القادمة، والمرحلة الراهنة. حيث يصف د.محمد أحمد النابلسي في كتابه «يهود يكرهون أنفسهم» «المؤرخون الجدد» بأنهم منقبون في الوثائق المعلنة - بعد 30 سنة - من قبل المخابرات في الكيان اليهودي، ويعيدون صياغة هذه الوثائق لتسويقها وكأنها آراء ومواقف شخصية، ويقول: لذلك فأن «المؤرخ الجديد» هو مجرد نصاب - برأي المؤلف -ويحذر بشدة من الاستجابة للدعوة إلى التدوين المشترك (عربي – إسرائيلي) للتاريخ. ويرى طرف آخر من أن معرفة حقيقة «المؤرخون الجدد» لا تمنع من ترجمة مؤلفاتهم والاستفادة من مراجعاتهم التاريخية، وفضحهم للممارسات الصهيونية وأعمال القمع والقهر التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وقراءة ما يقدمه لنا المؤرخون الجدد من معلومات ووقائع ودراسات، واستثمارها في كشف أكاذيب اليهود وأساطيرهم، بنصوص ووثائق واعترافات تثبت حقنا بأرضنا ومقدساتنا. الانتقادات على الكتاب: واجه الكاتب مجموعة من الانتقادات على كتابه وأطروحاته، حيث وصف بأنه: «مظهر آخر من مظاهر الاضطراب العقلي للأكاديميين في أقصى اليسار في إسرائيل». أطرف الانتقادات ما صرح به السفير كيان الصهيوني في لندن بأن الكتاب «عمل لاسامي موّله الفلسطينيون»!! وانتقد «بارتال» عميد كلية العلوم الإنسانية في الجامعة العبرية الكتاب ومع ذلك اعترف: «أن الصهيونية قد تمكنت من الأكاديميين في دراسة التاريخ الحقيقي لليهودية من خلال الهجرة والتحول التي من شأنها أن تضفي الشرعية على السعي من أجل الدولة اليهودية». وأيد «بارتال» ما طرحه «زاند» على أن أسطورة المنفى عن وطن اليهود (فلسطين) موجودة في الثقافة الشعبية الإسرائيلية، فإنها لا تكاد تذكر في المناقشات الجادة اليهودية التاريخية. ولا احد من المؤرخين اليهود يعتقد أن الأصول العرقية اليهودية البيولوجية نقية». ويعد الكتاب للكثير من اليهود الذين قرؤوه صدمة جديدة تضاف إلى ما ذكره المؤرخون الجدد من حقائق تنفي الأكاذيب التي أشاعها اليهود ليبرروا وجودهم على تلك الأرض المباركة. ما الجديد في كتاب شلومو؟! السؤال الذي يطرح، هل يهود اليوم من ذرية إسرائيل؟ ولا شك أن في اعتقادنا أن اليهود اليوم قسمان: القسم الأول: ينحدرون في نسبهم من نبي الله إسرائيل وهم قلة قليلة لا نؤكدها ولا ننكرها. والثاني: الذين اعتنقوا اليهودية ودخلوا فيها, وهم من غير بني إسرائيل, وهؤلاء يهود ماداموا قد اعتنقوا اليهودية, ومن الخطأ أن نقول يهود اليوم ليسوا يهودا، والصواب أن نقول أن يهود اليوم ليسوا من ذرية إسرائيل. وما توصل إليه «شلومو زاند» قد أشار إليه عدد من المؤرخين المحققين وعلى رأسهم المؤرخ العربي أبو الفدا، فقد نبه إلى أن «اليهود» أعم من بني إسرائيل لأن كثيرا من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهودا ولم يكونوا من بني إسرائيل1. وغني عن البيان أن رأي «أبو الفدا» قد صدر عنه قبل قيام الصهاينة بقرون وأجيال، ولا يمكن أن يكون محل شبهة أو نزوع إلى العصبية العربية. وتلك الحقيقة العلمية كما اعترف بها عدد غير قليل من علماء اليهود ومفكريهم الأحرار، أن اليهود ليسوا شعبا ولا قوما، ولا جنسا، ولكنهم جماعات تؤمن بالديانة اليهودية منتشرة في جميع بقاع العالم وأن هذه الجموع تنتمي إلى أصول متعددة، وأجناس متباينة وأنها لا تستمد وجودها من أصول واحدة. وفي هذا المجال نشير إلى ما كتبه علامة وهو محايد، الأستاذ أوجين بيتار أستاذ علم الأنثروبولوجيا في جامعة جينف من أن «جميع اليهود بعيدون عن الانتماء إلى الجنس اليهودي، وأن اليهود يؤلفون جماعة دينية اجتماعية، ولكن العناصر التي تتألف منها متنوعة تنوعا عظيما)، وقد أضاف الأستاذ بيتار أن «الصهيونية قد قذفت إلى فلسطين بجماعات يهودية متعددة الأصول والأجناس». |
إسرائيل دولة استعمارية عنصرية
إسرائيل دولة استعمارية عنصرية (1) كتبه/ علاء بكر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد سادت أوروبا في أعقاب نهضتها الحديثة نزعتان: النزعة القومية، والنزعة الاستعمارية. والنزعة القومية: شعور بالانتماء إلى جنس يربط أفراده وحدة العِرْق أو اللغة أو التاريخ المشترك، والآمال والمصالح المشتركة، وقد ارتبط الأخذ بالعلمانية في أوروبا -بناء المدنية الحديثة فيها- على النزعات القومية، خاصة بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م. أما النزعة الاستعمارية: فسياسة -أو ممارسة- للاستيلاء على أراضي الغير بشكل مباشر بالقوة العسكرية، أو بشكل غير مباشر ببسط السيطرة السياسية أو الاقتصادية على أراضي الغير. وقد مارست أوروبا سياستها الاستعمارية المباشرة بعد الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية؛ حيث قامت كل مِن: إنجلترا، وفرنسا، وهولندا، والبرتغال، وأسبانيا ببناء مستعمرات لها في الأمريكيتين، والهند، وجزر الهند الشرقية وإفريقيا. وفي القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الحرب العالمية الأولى زاد النشاط الاستعماري الأوروبي بانضمام روسيا، وإيطاليا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، واليابان إلى قائمة الدول الاستعمارية، حيث غطى الاستعمار الأوروبي معظم أرجاء الكرة الأرضية. وقد تأثر الكاتب الصحفي "تيودور هرتزل" -مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة- في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بما ساد أوروبا في تلك الفترة مِن النزعات القومية والاستعمارية، فبنى فكرته التي روّج لها في كتابِه (الدولة اليهودية)، وسعى إلى تنفيذها على أساس: - إقامة دولة ليهود العالم، تكون وطنًا قوميًّا لهم يجمعهم، بدلاً مِن تشتتهم في أنحاء العالم. - أن يتم إنشاء هذه الدولة باستعمار أرض شاغرة يتم عليها تحقيق هذا الهدف. ولم تكن تلك الأرض عند "هرتزل" هي أرض فلسطين على وجه التحديد، ولكن تمسك أكثر مَن استجابوا لفكرته بأن تكون أرض فلسطين أرضًا لدولتهم -دون أدنى اعتبار لسكانها العرب الأصليين- لما يحييه هذا الاختيار عندهم مِن أحلام تاريخية، ورفض أكثرهم أن يكون وطنهم المرتقب خارج أرض فلسطين عندما عرض عليهم "هرتزل" غيرها؛ إلا أن تكون دولتهم فيها مؤقتة ينتقلون بعدها إلى فلسطين. يقول "هرتزل" في كتابِه "الدولة اليهودية" وهو يغري الأوروبيين بتأييد فكرته الاستعمارية بإقامة دولة لليهود الأوروبيين في فلسطين يكون اليهود فيها رأس حربة للغرب ضد شعوب المنطقة المتخلفين: "بالنسبة لأوروبا سنقيم هناك -أي في فلسطين- جزءًا مِن السور المضاد لآسيا، وسنكون -أي اليهود الذين سينتقلون إليها- حُرّاس الحضارة المتقدمي الموقع ضد البربر". وكتب "هرتزل" إلى رائد الاستعمار البريطاني في إفريقيا (سيسل رودس) وهو يعرض برنامجه الاستعماري عليه، يقول: "أرجوك أن ترسل لي نصًّا جوابيًّا تعلمني فيه أنك درست برنامجي، وأنه يحظى بموافقتك. تتساءل ربما: لماذا أتوجه إليك يا سيد رودس؟ أتوجه إليك؛ لأن برنامجي هو برنامج استعماري". ويقول "هرتزل" وهو يشرح فكرته في كتابِه "الدولة اليهودية": "هناك أرضان مأخوذتان بالاعتبار: فلسطين والأرجنتين، ولقد تمت تجارب ملفتة لإقامة مستعمرات يهودية في هاتين النقطتين"، ثم يقول: "ستأخذ الهيئة -أي الهيئة اليهودية- ما سوف يُعطى لها"، وكان البارون "دو هيرش" الصهيوني قد قام بإنشاء الجمعية الاستعمارية اليهودية بهدف توطين اليهود الروس في الأرجنتين، كما كانت هناك محاولات لإقامة مستوطنة لمهاجرين يهود في فلسطين. وقد عرض (جوزيف تشمبرلن) -وزير المستعمرات البريطاني- إعطاء الحركة الصهيونية منطقة شبه خالية مِن السكان في أوغندا، وقَبِل "هرتزل" العرض، ولما عرض "هرتزل" الأمر على المؤتمر الصهيوني السادس الذي انعقد في عام 1903م انقسم الحاضرون بيْن مؤيدين ورافضين؛ فلم يستطع "هرتزل" تمرير مشروعه الإفريقي. وبعد وفاة "هرتزل" عام 1904م تركزت الجهود الصهيونية على فلسطين، ونجح "حاييم وايزمان" الذي خلف "هرتزل" في زعامة الحركة الصهيونية في الحصول مِن بريطانيا على "وعد بلفور" بإقامة وطن لليهود في فلسطين عام 1917م. وبسبب النزعة الاستعمارية لإسرائيل فهي ترفض منذ نشأتها "وحتى الآن" أن تكون لها حدود معروفة ثابتة؛ فهي دولة استعمارية لكل اليهود، تتمدد على حساب مَن بجوارها مِن البلدان العربية كلما أمكنها ذلك، ولتبرير ذلك لنفسها روجت -كعادتها- شعارًا زعمت أنه مستمد مِن أكاذيبها التاريخية: "مِن الفرات إلى النيل، أرضك الموعودة يا إسرائيل!". وقد صرَّح زعماء إسرائيل والحركة الصهيونية بهذا النهج الاستعماري، وعليه السياسة الإسرائيلية إلى اليوم. يقول "ابن جوريون" في مذكراته "بعث إسرائيل ومصيرها - ط. نيويورك 1954م ص: 419": "أمامكم الإعلان الأمريكي للاستقلال، ليس به أي ذكر لحدود أراضيه، ولسنا ملزمين بتعيين حدود للدولة"، ويقول في موضع آخر: "لسنا مضطرين لرسم حدود الدولة". ويقول الجنرال "موشي دايان" في يوليو 1968م: "في المائة عام الماضية قام شعبنا بإنشاء هذه البلاد وهذه الأمة، وعمل على توسيع نطاقها باستقدام عددٍ متزايد مِن اليهود، وبإنشاء مزيدٍ مِن المستعمرات لتوسيع حدودنا، وليعلم كل يهودي أن هذه العملية لم تنتهِ، وأننا لم نبلغ بعد نهاية الطريق". ويقول أيضًا: "إذا كنا نعتبر أننا شعب التوراة؛ فلا بد مِن امتلاك أراضي التوراة أيضًا!". وقالت "جولدا مائير" في عام 1969م: "حيث سنقيم ستكون هناك حدودنا!". وفي 7 يوليو 1972م سُئِلت "مائير": "ما هي حدود الأراضي التي تعتبرونها ضرورية لأمن إسرائيل؟ فقالت: إذا كنت تريد أن تقول إنه يتعين علينا أن نرسم خطـًّا لحدودنا؛ فهذا أمر لم نفعله، وسننفذه عندما يجيء الوقت المناسب". وهذه كما ترى إجابة دبلوماسية؛ فقد لا يجيء هذا الوقت أبدًا. ثم تقول: "ولكن يجب أن يَعرف الناس أن مِن أساسيات سياستنا عدم النص في أي معاهدة للسلام على حدود 1967م -أي رفض العودة إلى حدود ما قبْل حرب يونيو 1967م-؛ فلا بد مِن إدخال تعديلات على الحدود -أي بإضافة أراضٍ مِن التي احتلتها إسرائيل في يونيو 1967م إلى حدود إسرائيل عام 1948م-، نريد تغييرًا في حدودنا مِن أجل أمن بلادنا!". وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: إسرائيل دولة استعمارية عنصرية
إسرائيل دولة استعمارية عنصرية (2) كتبه/ علاء بكر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ كما ارتبط الاستعمار الأوروبي بالنظرة العنصرية التي ترى أن الرجل الأوروبي الأبيض أعلى مِن غيره، وأنه هو الأحق بأن يسود؛ فقد ارتبطت النظرة الاستعمارية الصهيونية بنظرةٍ عنصرية مُستمَدة مِن ديانتهم التي حرَّفوها ترى أن اليهود دون غيرهم مِن الشعوب والأجناس هم شعب الله المختار الذي يجب أن يسود العالم كله ويحكمه "بما فيهم بالطبع العرب والفلسطينيون". - يقول روجيه جارودي في كتابه (ملف إسرائيل، ص 112-113): "والديمقراطية الإسرائيلية يشوبها تمييز عنصري أساسي كما هو الحال في كل المستعمرات، حيث يتمتع الرجل الأبيض وحده بالحكم، ويمكن مقارنة هذه الديمقراطية الإسرائيلية العجيبة بالديمقراطية الأمريكية التي نادت في تصريح الاستقلال بالمساواة بيْن الناس جميعًا، ثم أبقت الرق طيلة قرن مِن الزمان بأكمله بالنسبة للسود، وأطلقت عليهم تأدبًا منها اسم: "المؤسسة الخاصة!"، كما سمحت بمطاردة الهنود الحمر فكانوا يُذبحون ويطردون ليستولي البيض على أراضيهم؛ فإسرائيل إذن دولة ديمقراطية إلا بالنسبة لزنوجها ولهنودها التي تطلق عليهم القوانين الأساسية في إسرائيل -تأدبًا منها- "السكان غير اليهود" أي الفلسطينيون سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. - ويقول البروفيسور (إسرائيل شاهاك) الأستاذ بالجامعة العبرية بالقدس، والرئيس السابق للرابطة الإسرائيلية لحقوق الإنسان في نوفمبر 1980م: "أنشئت إسرائيل في الأصل بأيدي أناس آمنوا بأنه ليس لغير أهل الغرب حقوق؛ أناس ليس لديهم أي إحساس بأية صورة مِن صور العدل إزاء غير الغربيين... ثم إنهم يأخذون بتفسيرات للكتاب المقدس تجعلهم يقولون: إننا نستعيد الأرض التي سبق لنا أن استولينا عليها مِن الكنعانيين... وهذا موقف عنصري تمامًا يختلط فيه مركب العظمة الغربي -وكان عنيفًا في بدء هذا القرن- بالعنصرية الصهيونية، وازداد هذا الاتجاه حدة منذ عام 1974م مع تصاعد الأيدلوجية الروحانية، ومع تزايد المساندة الأمريكية بشكل لم يُسبق له مثيل... ". - ويعلـِّق "جارودي" على الحريات في إسرائيل فيقول: "ومِن الغريب أن نسمع الدعاية الصهيونية تقول: دولة إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط!"، ثم تقدم دليلاً على ذلك بقولها: "الحرية في إسرائيل متوفرة، فالمعارضة تستطيع إبداء رأيها في الصحافة، بل في الشارع!"، وإذا كان هذا صحيحًا أن بعض ذوي الشجاعة والهمة مِن المقاومين للعنصرية مثل البروفيسور "إسرائيل شاهاك"، ومثل المحامية "فيلسيا لانجر"، وعضوة الكنيست "شلميت آلوني"، أو "أوري آفنيوي"، واللواء "بليد"، والبروفيسور "لايبو فتز"، وآخرين -وهم للأسف قليلو العدد- إذا كان أمثال هؤلاء يستطيعون ببسالتهم وبطولتهم أن ينشروا آراءهم رغم ألوان التهديد والضغط عليهم؛ فلا يجدر أن ننسى أن هذه الحرية لا يُسمح بها إلا في إطار المؤسسة اليهودية". وسياسة التفرقة العنصرية تهدف إلى التفريق والتمييز بيْن الأعراق المختلفة، وترمي إلى إقامة أوطان يفصل فيها بيْن الأجناس؛ فيتم تخصيص جنس بكل الامتيازات العالية، ويحرم منها مَن سواهم في نفس الوطن... كما كان في الفصل بيْن البيض والسود الذي كان سائدًا في المستعمرات الأوروبية في إفريقيا، وأشهرها ما كان في دولة جنوب إفريقيا قبْل تخلصها مِن هذه التفرقة العنصرية. وللتمييز العنصري صور، منها: - التحيّز العنصري: بالتحيّز إلى جنسٍ ضد آخر. - الاضطهاد العنصري: يجمع بيْن التحيز لجنس واضطهاد الجنس لآخر. - الفصل العنصري: الذي يجمع إلى جانب التحيز لجنس والاضطهاد لآخر فصل الجنس المضطهد وعزله عن الجنس الآخر اجتماعيًّا. ومِن المظاهر التاريخية لهذه العنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين: - ما صدر في الخمسينيات مِن قوانين تمنع بيع أو إيجار أو زراعة ما يمتلكه الصندوق القومي اليهودي، وصندوق التعمير لغير اليهود، أي قصر ذلك على اليهود. - صدور قانون في يوليو 1950م يعطي كل يهودي ما أسموه (حق العودة) -أي الهجرة- إلى إسرائيل (فلسطين)، مع رفض حق العودة لأي لاجئ فلسطيني لفلسطين، مع تيسير حصول أي يهودي على الجنسية الإسرائيلية بمجرد وصوله لأرض فلسطين، ولا تُعطى هذه الجنسية للفلسطينيين المولودين والمقيمين في فلسطين، وذلك لمنع حصولهم على حق المواطنة إلا بشروط صعبة وبموافقة شخصية مِن وزير داخلية إسرائيل؛ لذا فإن غالبية الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين يعاملَون فيها كأجانب بلا جنسية. - إخضاع الفلسطينيين للحكم العسكري لجيش الاحتلال، وفرض القيود على حريتهم في التحرك والتنقل والعمل، وسائر مظاهر الحياة، ومنح الحكام العسكريين صلاحيات كبيرة لاضطهاد الفلسطينيين، وحملهم على ترك ديارهم. - انتزاع الأراضي الفلسطينية مِن الفلسطينيين، والاستيلاء عليها ومصادرتها بالقوة بمختلف الدعاوى والتبريرات الواهية. - التدخل في الشئون الفلسطينية الاقتصادية والتعليمية في مناطقهم للإضرار بها والتضييق عليهم، مع محاربتهم في أرزاقهم، وتقليل فرصهم في العمل، ومنحهم أدنى الوظائف وبأقل الأجور. - تقليص مساحة الأراضي الزراعية التي يمتلكها الفلسطينيون بالمصادرة منها، ومنع تطوير زراعتها، وخفض أسعار منتجاتها بالمقارنة بمثيلتها اليهودية، مع منع المساعدات والتسهيلات عنها، بل وعرقلة تسويقها لصالح المنتجات الزراعية اليهودية. - القيام بعمليات الطرد الجماعي للفلسطينيين مِن قراهم وأراضيهم بالقوة وتدمير منازلهم، ثم الاستيلاء على هذه الأراضي وبناء المستوطنات اليهودية عليها. - محاولة تهويد القدس مِن جهة وطمس معالمها العربية الإسلامية مِن جهة أخرى، مع التهديد المتصاعد بهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم المزعوم مكانه. - حرمان الفلسطينيين مِن التعبير عن أنفسهم سواء مِن خلال جمعيات أو نقابات أو تنظيمات مستقلة، وقصر ذلك على داخل الأحزاب الإسرائيلية فقط. - حصار المدن والقرى الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، والتحكم في مداخلها ومعابرها، وعزل الفلسطينيين فيها، بل وبناء جدار عازل حولهم. وقد وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار بإدانة الصهيونية واعتبارها شكلاً مِن أشكال التمييز العنصري في 11 نوفمبر 1975م، لكنها عادت وألغت قرارها بضغطٍ مِن أمريكا في عام 1993م، مع أن الواقع في فلسطين يشهد وبصورة صارخة كم أن الصهيونية حركة عنصرية متعصبة، وكانت الجمعية العامة قد أدانت في ديسمبر 1973م التحالف والتعاون الآثم بيْن الصهيونية والنظام العنصري -وقتها- في إفريقيا الجنوبية. يقول رئيس وزراء جنوب إفريقيا في حديث له في نوفمبر 1961م: "أخذ اليهود أرض إسرائيل مِن العرب الذين عاشوا عليها منذ ألف عام، وإني لأؤيدهم فيما فعلوه، وهم مثلنا بلد تسود فيه التفرقة العنصرية". |
إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة
إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة هاني مراد تكتنف العالم العربي قوتان إقليميتان ترغبان في الاستيلاء عليه تماما، بعد الاستيلاء على أجزاء كبرى منه بالفعل. والبلدان وإن كانا تابعين للمنطقة جغرافيا، فإنهما منفصلان لغويا، وحضاريا، ودينيا، وثقافيا، وينطلقان في عدائهما للمسلمين من عقيدة عنصرية، ترى العرب أقل شأنا، وترى تفوقا للجنس الفارسي واليهودي. وإذا كانت إسرائيل تحتل فلسطين رسميا، فإن إيران تحتل الأحواز، وجزر الخليج العربي الذي تسميه الخليج الفارسي. وإذا كانت إسرائيل تتغلغل بنفوذها العالمي ومخابراتها المتقدمة في العالم العربي، فإن إيران تمتد بجماعاتها المسلحة التي يصل نفوذها إلى احتلال أجزاء من العالم العربي، مثل العراق واليمن وسورية ولبنان. ومثلما تحاول إسرائيل فرض التطبيع بكل أنواعه على العالم العربي، فإن إيران تحاول فرض مذهبها الشيعي وفرض نفوذها الثقافي على بلاد المسلمين السنّة، بل لا يوجد في طهران مسجد واحد للمسلمين السنّة. ومثلما استولت إسرائيل على فلسطين بالقوة، وشنت حروب العصابات وارتكبت المذابح وأخلت مساحات هائلة من سكانها، فإن إيران شكلت جيش المهدي وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وجماعة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، وعملت على تغيير التركيبة السكانية في كل الدول التي تسيطر عليها. كما اشتهر البلدان ببناء جيوش قوية وترسانات أسلحة هائلة، والتحالف مع القوى العالمية الكبرى، لمحاربة المسلمين، منذ تحالف الشيعة مع المغول والصليبيين، لمحاربة الدولتين العباسية والعثمانية، ومنذ وعد بلفور لليهود وتأسيس دولة إسرائيل فالبلدان يسعيان إلى ابتلاع العالم العربي الإسلامي كله، بعد أن ابتلعا أجزاء كبرى منه بالفعل. |
اللورد كرومر وأصول التغريب البريطاني
اللورد كرومر وأصول التغريب البريطاني هاني مراد يقول اللورد كرومر، أول معتمد بريطاني على مصر، في كتابه مصر الحديثة "Modern Egypt" الذي يعتبر خطة عمل شاملة للقضاء على الهوية الإسلامية: "إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية على رأس هذه البلاد (مصر) هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس." عيّن كرومر القسيس "دانلوب" مستشارا لوزارة المعارف (التعليم)، حيث حرص على خفض رواتب المعلمين من خريجي الأزهر الشريف، دون غيرهم. وفي الوقت الذي كان فيه راتب مدرس اللغة العربية أربعة جنيهات فقط، كان مدرسو التخصصات الأخرى يتقاضون اثني عشر جنيها! فأدى ذلك إلى ضعف المكانة الاجتماعية لخريجي الأزهر ومدرسي اللغة العربية الذين أصبحوا مثار سخرية زملائهم! كما حرص "دانلوب" على أن تكون حصة التربية الدينية "غير الإلزامية" في نهاية الجدول الدراسي، حتى يستقبلها التلاميذ وهم في غاية التعب والضجر. وكان المنهج عبارة عن نصوص تُحفظ دون فهم! وشجع كرومر حملات التغريب وإقصاء اللغة العربية، وما كان يعرف باسم تيار التعقيل، وعلى رأسه أحمد لطفي السيد الذي استقال احتجاجا على إقاله طه حسين بعد طعنه في القرآن الكريم، حيث كان يستخدم الصحف، مثل "المقطم" و"الجريدة" و"اللطائف المصورة" كسلاح تغريبي يدعو من خلاله إلى: - نشر الشبهات عن الإسلام. - إقصاء اللغة العربية وتشجيع اللهجة المصرية العامية. - قصر التعليم على طبقة الأثرياء. - تشجيع القومية المصرية وقطع الانتماء إلى العربية أو الإسلام. - رفض مقاومة الإيطاليين الذي احتلوا ليبيا. - مواجهة السلطنة العثمانية. - نشر اللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية. لكن لم تعدم مصر الشرفاء من العلماء والأفراد الذين كانوا يواجهون هذه الحملات في كتاباتهم وصحفهم. |
رد: القدس اسلامية رغم أنف امريكا متابعة لملف القدس وفلسطين المحتلة وكل ما يستجد من اح
المسجد الأقصى في عصر سلاطين المماليك عبد الرحيم النباهين/ قصة الإسلام* https://i.imgur.com/zA0DXqy.jpg لقد حرص المسلمون الأوائل على رعاية المقدسات الإسلامية وحمايتها، ومن هذه المقدسات "المسجد الأقصى"، قبلة المسلمين الأولى الذي ما زال يئنُّ تحت الاحتلال منذ ما يقارب نصف قرن من الزمان، وممن حرص على رعاية المقدسات الإسلامية المماليك الذين ظهروا على مسرح الحياة في أعقاب سقوط الدولة الأيوبية، حاملين راية الجهاد لمواصلة المسيرة التي بدأها الأيوبيون في حربهم للصليبيين على أيدي قادة أقوياء أمثال بيبرس وقلاوون والناصر محمد. غير أنه قد ظلت تلازمهم عقدة كبيرة من ناحية أصلهم غير الحر، فضلاً عن اغتصابهم الحكم من أصحابه الشرعيين وهم الأيوبيون، ولمحو هذه الصورة من الأذهان سلك سلاطين المماليك طرقًا ثلاثًا، تركت كلها آثارًا مباشرة في أوضاع بيت المقدس. ما يعنينا في مقامنا هذا هو الطريق الثالث الذي سلكه سلاطين المماليك، والذي تمثل في العناية بالمنشآت الدينية في الأماكن المقدسة، فإن إحياء الخلافة العباسية في مصر على يد المماليك، وتفويض الخليفة لسلطان المماليك بحكم البلاد والعباد، ألقى مسئوليات كبرى على كاهل سلاطين دولة المماليك؛ مما فرض عليهم أن يضاعفوا من رعايتهم لمقدسات المسلمين. 1- الظاهر بيبرس والمسجد الأقصى: الملك الظاهر صاحب الفتوحات والأخبار والآثار، له في القدس حسنات منها بعث الصناع والآلات لعمارة قبة الصخرة بالقدس، وكانت قد وهتْ. زار بيت المقدس سنة 661هـ، وجدد كل ما كان قد تهدم من أبنية الحرم الشريف. كما أنشأ خانًا يجمع أكبر عدد ممكن من التجار، وأوقف عليه أعيانًا كثيرة يُصرف ريعها السنوي في تحضير خبز للمسافرين وتصليح نعالهم، كما يقدِّم مصروفًا للمحتاجين منهم. كما عيَّن خمسة آلاف درهم سنويًّا لتصرف على شئون الحرم الشريف. والزيارة الأخيرة التي قام بها الملك الظاهر بيبرس للقدس تمت في عام 668هـ، وجدد خلالها الفصوص التي على الرخام في مسجد الصخرة المشرفة، كما أمر في السنة نفسها بوضع "الدرابزين" حول الصخرة المشرفة، وعمل فيها منبرًا وسقّفه بالذهب، وعمَّر "الخان" الكائن بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب إلى الشمال، المعروف بخان الظاهر، وكان بناؤه في سنة 662هـ. في عهده تم إنشاء دار الحديث بجوار "التربة الجالقية" على طريق باب السلسلة، وكذلك تم إنشاء المدرسة الأباصيرية تجاه الرباط المنصوري بجوار باب الناظر. 2- المنصور قلاوون والمسجد الأقصى: السلطان الملك المنصور أول ملوك الدولة القلاوونية بمصر والشام، عمَّر سقف المسجد الأقصى من جهته القبلية مما يلي الغرب عند جامع الأنبياء، وله الرباط المنصوري المعروف بباب الناظر، وهو رباط في غاية الحسن، وبناؤه محكم. 3- العادل كتبغا المنصوري والمسجد الأقصى: من ملوك المماليك البحرية في مصر والشام، في أيامه جدد فصوص الصخرة الشريفة، وجدد عمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة في سنة خمس وتسعين وستمائة. 4- المنصور لاجين والمسجد الأقصى: من ملوك دولة المماليك البحرية بمصر والشام، جدَّد عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى الشريف. 5- الناصر محمد بن قلاوون والمسجد الأقصى: من كبار الدولة القلاوونية، وولي سلطنة مصر والشام سنة 693هـ، عمَّر في أيامه السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام، ورخَّم صدر المسجد الأقصى، وفتح الشباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله، وكان فتحهما في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وجدَّد تذهيب القبتين: قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وعمر القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن الصخرة التي إحداهما مقابل باب الدويدارية، وعمَّر باب القطانين بالبناء المحكم، وعمَّر قناة السبيل الواقعة عند بركة السلطان بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب. 6- الأشرف شعبان بن حسين والمسجد الأقصى: من ملوك الدولة القلاوونية بمصر والشام، من أعماله في المسجد الأقصى أنه عمَّر المغارة التي عند باب الأسباط، كما جدَّد الأبواب الخشبية المركبة على بوابات الجامع الأقصى، كما جُددت في عهده القناطر التي على الدرجة الغربية في صحن الصخرة المقابل لباب الناظر. كذلك جُددت في عهده المغارة التي عند باب الأسباط وباب حطة في الناحية الشمالية الشرقية من الحرم، كذلك أنشأ بعض الأورقة في الحرم من جهة الشمال. 7- السلطان الظاهر برقوق العثماني والمسجد الأقصى: أول مَن ملك مصر من الشراكسة، عُمِّرت في عهده دكة المؤذنين، تلك الدكة التي يراها الداخل أمامه إذا ما دخل المسجد الأقصى من الباب القبلي تجاه المحراب، وكذلك أنشئت في عهده المدرسة الغزية على مقربة من باب الأسباط. وكذلك تم تعمير "البركة" التي بظاهر القدس من جهة الغرب، وهي بركة السلطان، كما تم تجديد "القيسارية" الموقوفة على الحرم الشريف بالقدس. 8- الملك الأشرف برسباي والمسجد الأقصى: من مماليك الأمير دقماق المحمدي، وأهداه إلى الظاهر برقوق، فأعتقه واستخدمه في الجيش، دام ملكه ست عشرة سنة، قام بإنشاءات عديدة في القدس، نذكر منها: سبيل شعلان، ويقع هذا السبيل أسفل الدرج الشمالي من الحد الغربي لصحن الصخرة المشرفة، وهو آخر الأسبلة التي بناها الأيوبيون في القدس. وفي عهده عُمِّرت الأوقاف بالقدس الشريف، واشتريت جهات عدة للوقف من القرى والمسقفات برسم المسجد الأقصى والصخرة الشريفة، وتم إصلاح قبة الصخرة، كذلك تم في عهده إنشاء المدرسة الباسطية الكائنة شمالي الحرم بالقرب من "الباب العتم"، والمدرسة القادرية شمالي الحرم بين باب حطة ومئذنة إسرائيل، والمدرسة الحسنية بباب الناظر فوق رباط علاء الدين البصيري، والمدرسة العثمانية في الزقاق المؤدي إلى باب المطهرة على بُعد أمتار من الباب المذكور إلى الغرب. 9- الملك الأشرف قايتباي والمسجد الأقصى: من ملوك الجراكسة، كان من المماليك. وضع في سنة 872هـ الأبواب النحاسية التي في مدخل الصخرة من الغرب، وقام بحركة تعمير في المسجد الأقصى، والدليل على ذلك الكتابة الموجودة على واجهة المسجد؛ ففي عهده جُدد عمل الرصاص على ظاهر الجامع الأقصى وفك الرصاص القديم. ومن أعماله أيضًا تعمير المدرسة الأشرفية المنسوبة إليه، وذلك سنة 887هـ، وهي بالقرب من باب السلسلة، وفي الوقت نفسه أنشأ سبيل قايتباي، وهو أشهر سبل القدس وأجملها، ويقع في الساحة الكائنة بين باب السلسلة وباب القطانين، وعلى بُعد خمسين مترًا من جدار الحرم الغربي بين درج صحن الصخرة الغربي الأوسط والمدرسة العثمانية، وهو يقوم على مصطبة مكشوفة، وفيها محراب في الزاوية الشمالية الغريبة من المسطبة. * المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد (537)، جمادى الأولى 1431هـ. |
المسجد الأقصى هو "هيكل سليمان!"
المسجد الأقصى هو "هيكل سليمان!" كتبه/ عبد المنعم الشحات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيدور نقاش محموم بيْن العرب واليهود حول مَن هو صاحب الحق التاريخي في بيت المقدس؟ فبينما يتمسك العرب بأن هذا المسجد بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبقي مِن يومها في سلطان المسلمين إلى يومنا هذا - يدعي اليهود أن المسجد أقامه المسلمون على أنقاض "هيكل سليمان!". ويقومون بعمليات حفر تحت المسجد الأقصى؛ لعلهم يجدون أحجارًا تعود إلى عصر نبي الله سليمان -عليه السلام-، وبطبيعة الحال تغيب الحقائق الشرعية في خِضَم هذا الصراع بيْن القوميين العرب، وبيْن اليهود. ولذلك أردنا أن ننبِّه على الحقائق الآتية: 1- مسألة الحق التاريخي مِن المنظور الشرعي: لا يقر المسلمون أحدًا على أرض كان عليها يومًا مِن الأيام، وفتحها المسلمون (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ) (الأعراف:128)، بل إن المسلمين لا يخفون عزمهم على تحرير الأرض -كل الأرض- مِن سلطان الكافرين متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة:193). 2- المسلمون هم ورثة جميع الأنبياء: يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم مِن الأنبياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ) (متفق عليه)، وقال: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (متفق عليه). 3- المسجد الأقصى بُني مسجدًا مِن أول يوم: عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ: (ثُمَّ المَسْجِدُ الأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ) (متفق عليه). وثمة خلاف بيْن العلماء في تاريخ بناء المسجدين؛ إلا أن الراجح أن البناء المذكور هنا في الحديث هو رفع إبراهيم -عليه السلام- للقواعد مِن البيت الحرام؛ سواء قلنا أنه هو واضعها أو أنها وُضعت قبله، وأن بناء المسجد الأقصى كان بعد بناء إبراهيم -عليه السلام- للمسجد الحرام بأربعين عامًا، وبناه يعقوب -عليه السلام- مسجدًا لبني إسرائيل يصلون فيه لله، ويوحدون فيه الله. ولا ننكر أنه مِن الممكن أن يكون المسجد في لغة بني إسرائيل آنذاك يسمى هيكلاً، وإنما المقصود بيان أن حقيقته كما بيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان مسجدًا. وقد تعرَّض بنو إسرائيل عبْر تاريخهم لأزماتٍ كانوا يفرون فيها مِن الشام، تاركين المسجد الأقصى وراءهم لأعدائهم يهدمونه ويدنسونه! ثم عندما يتوبون إلى الله ويعودون إلى الجهاد في سبيله يعزهم الله -عز وجل-، وكانت أزهى عصور مُلكهم عصر نبي الله داود -عليه السلام-، ومِن هنا حصلت العناية بالمسجد الأقصى، وتم تجديده في عهد داود وسليمان -عليهما السلام- وهو المسمَّى عندهم بـ"هيكل سليمان". ومِن عجيب أمرهم: أن سليمان -عليه السلام- الذي يطالِبون بوراثة مسجده أو هيكله -على حد تعبيرهم!- عندهم أنه ارتد وعَبَدَ الأصنام في آخر حياته -حاشاه عليه السلام مِن ذلك!-، وقد ظلوا على هذه الفرية حتى أبطلها الله في القرآن المنزَّل على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (البقرة:102)؛ فمَن أولى بوراثته -عليه السلام-؟! ثم علا اليهود في الأرض مرة ثانية فقتلوا يحيى وزكريا -عليهما السلام-، وهمَّوا بقتل عيسى -عليه السلام- بمساعدة الرومان؛ فسلط الله عليهم الرومان في سنة 70 ميلادية، أي بعد نحو أربعين سنة مِن رفع عيسى -عليه السلام- "إن صحَّ أنه رُفع وعمره قريب مِن الثلاثين"، وتسلـَّط الرومان على المسجد الأقصى وجعلوه إسطبلاً للخيول حتى فتحه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأعادوا بناءه وتنظيفه. أما القول بأن عمر -رضي الله عنه- بنى مسجدًا في غير المكان التاريخي للمسجد الأقصى هربًا مِن الإقرار لليهود بحقهم التاريخي في المسجد الأقصى؛ فقد بيَّنا -بحمد الله- أنه ليس لأحدٍ حق تاريخي "بل ولا حالي" في أي بقعةٍ مِن الأرض؛ لا سيما التي تحت سلطان المسلمين. فإن قال قائل: فإن القوم لا يستطيعون أن يتكلموا بتلك اللغة التي إن وسعت الإسلاميين -لا سيما المتشددين منهم- فلا يمكن بحالٍ مِن الأحوال أن تسع القوميين والعلمانيين؛ لا سيما المحبين للسلام منهم! فنقول: أما العودة إلى القانون الدولي الذي يتحاكمون إليه؛ فلقد اعتبر القانون الدولي الحدود القائمة حال إنشاء "عصبة الأمم"، ومِن بعدها "الأمم المتحدة" هي الحدود المعتبرة، ولم يعترف القانون الدولي بحقٍّ تاريخي للهنود الحمر في أمريكا مثلاً، ولا اعترف بحق للهنود غير الحمر في أوروبا "وهم صانعو حضارتها"؛ حيث إن الرومان ورثوا حضارتهم عن اليونان الذين هم في أصلهم هنود، ولم يعترف القانون الدولي بأي حق تاريخي لأحدٍ؛ اللهم إلا لليهود في بلاد المسلمين! وإذا كان ولا بد مِن اعترافٍ بحقٍّ تاريخي؛ فإلى أي فترةٍ مِن فترات التاريخ سيرجعون؟! وقد بيَّنا أن أقرب واقع للمسجد الأقصى هو هروب اليهود منه مِن أمام الروم -الذين يساعدونهم الآن في اغتصابه- وتدنيسهم له، ثم مجاهدة المسلمين مِن أجله وتعظيمهم له؛ فمَن أحق به؟! فمِن هنا يتبيَّن لك عدم استحقاق اليهود لوراثة أنبياء بني إسرائيل مِن الناحية الشرعية، ومِن ناحية مبادئ القانون الدولي المزعوم، ولكن "القوميين" هروبًا مِن محاولة نقض ما يراه خصمهم مِن الثوابت، وهي وراثتهم لأي شيءٍ كان يخص بني إسرائيل في أي فترةٍ مِن فترات الزمان؛ لجأوا إلى حيلةٍ مضحكةٍ، وهي: ادعاء أن المسجد الأقصى الحالي مسجد بناه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، لا علاقة له بالمسجد الأقصى الذي كان في زمن أنبياء بني إسرائيل المسمَّى عند اليهود بهيكل سليمان! فهل يا ترى أفحمتْ هذه الكذبة المزعومة اليهود؛ فراحوا ينقبون عن أي بقايا تثبت وجود بناءٍ في هذا المكان قبْل دخول المسلمين إليه؟! إن الجميع يَعلم أن اليهود لا يعترفون إلا بمنطق القوة، ومِن ثَمَّ فإن الذي صرفهم عن هدم المسجد وبناء معبدهم الكفري المزمع إقامته تحت مسمَّى: "هيكل سليمان"، هو خوفهم مِن قوة الإيمان الكامنة في نفوس المسلمين لو استثيرت استثارة بالغة كهذه؛ ولذلك يلجأون إلى الحفريات، وإلى غيرها مِن أنواع الاعتداءات: "كالحرائق - والهدم لبعض أجزائه" كبالونات اختبارٍ للأمة، ومتى وجدوا أن الفرصة سانحة سينقضون على المسجد، ولن يردعهم أصوات القوميين الخافتة، وهم ينادون: "ليس هذا هو مكان هيكل سليمان!". ونسأل الله -عز وجل- ألا يأتي هذا اليوم، ونسأله -تعالى- أن يرزق أبناء الأمة إيمانًا وثباتًا، وأن يُلقي في قلوب أعدائنا الرعب؛ فلا يجترئون على حرماتنا. اللهم آمين. |
رد: القدس اسلامية رغم أنف امريكا متابعة لملف القدس وفلسطين المحتلة وكل ما يستجد من اح
المسجد الأقصى هو "هيكل سليمان!" كتبه/ عبد المنعم الشحات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيدور نقاش محموم بيْن العرب واليهود حول مَن هو صاحب الحق التاريخي في بيت المقدس؟ فبينما يتمسك العرب بأن هذا المسجد بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبقي مِن يومها في سلطان المسلمين إلى يومنا هذا - يدعي اليهود أن المسجد أقامه المسلمون على أنقاض "هيكل سليمان!". ويقومون بعمليات حفر تحت المسجد الأقصى؛ لعلهم يجدون أحجارًا تعود إلى عصر نبي الله سليمان -عليه السلام-، وبطبيعة الحال تغيب الحقائق الشرعية في خِضَم هذا الصراع بيْن القوميين العرب، وبيْن اليهود. ولذلك أردنا أن ننبِّه على الحقائق الآتية: 1- مسألة الحق التاريخي مِن المنظور الشرعي: لا يقر المسلمون أحدًا على أرض كان عليها يومًا مِن الأيام، وفتحها المسلمون (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ) (الأعراف:128)، بل إن المسلمين لا يخفون عزمهم على تحرير الأرض -كل الأرض- مِن سلطان الكافرين متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة:193). 2- المسلمون هم ورثة جميع الأنبياء: يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم مِن الأنبياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ) (متفق عليه)، وقال: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (متفق عليه). 3- المسجد الأقصى بُني مسجدًا مِن أول يوم: عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ: (ثُمَّ المَسْجِدُ الأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ) (متفق عليه). وثمة خلاف بيْن العلماء في تاريخ بناء المسجدين؛ إلا أن الراجح أن البناء المذكور هنا في الحديث هو رفع إبراهيم -عليه السلام- للقواعد مِن البيت الحرام؛ سواء قلنا أنه هو واضعها أو أنها وُضعت قبله، وأن بناء المسجد الأقصى كان بعد بناء إبراهيم -عليه السلام- للمسجد الحرام بأربعين عامًا، وبناه يعقوب -عليه السلام- مسجدًا لبني إسرائيل يصلون فيه لله، ويوحدون فيه الله. ولا ننكر أنه مِن الممكن أن يكون المسجد في لغة بني إسرائيل آنذاك يسمى هيكلاً، وإنما المقصود بيان أن حقيقته كما بيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان مسجدًا. وقد تعرَّض بنو إسرائيل عبْر تاريخهم لأزماتٍ كانوا يفرون فيها مِن الشام، تاركين المسجد الأقصى وراءهم لأعدائهم يهدمونه ويدنسونه! ثم عندما يتوبون إلى الله ويعودون إلى الجهاد في سبيله يعزهم الله -عز وجل-، وكانت أزهى عصور مُلكهم عصر نبي الله داود -عليه السلام-، ومِن هنا حصلت العناية بالمسجد الأقصى، وتم تجديده في عهد داود وسليمان -عليهما السلام- وهو المسمَّى عندهم بـ"هيكل سليمان". ومِن عجيب أمرهم: أن سليمان -عليه السلام- الذي يطالِبون بوراثة مسجده أو هيكله -على حد تعبيرهم!- عندهم أنه ارتد وعَبَدَ الأصنام في آخر حياته -حاشاه عليه السلام مِن ذلك!-، وقد ظلوا على هذه الفرية حتى أبطلها الله في القرآن المنزَّل على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (البقرة:102)؛ فمَن أولى بوراثته -عليه السلام-؟! ثم علا اليهود في الأرض مرة ثانية فقتلوا يحيى وزكريا -عليهما السلام-، وهمَّوا بقتل عيسى -عليه السلام- بمساعدة الرومان؛ فسلط الله عليهم الرومان في سنة 70 ميلادية، أي بعد نحو أربعين سنة مِن رفع عيسى -عليه السلام- "إن صحَّ أنه رُفع وعمره قريب مِن الثلاثين"، وتسلـَّط الرومان على المسجد الأقصى وجعلوه إسطبلاً للخيول حتى فتحه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأعادوا بناءه وتنظيفه. أما القول بأن عمر -رضي الله عنه- بنى مسجدًا في غير المكان التاريخي للمسجد الأقصى هربًا مِن الإقرار لليهود بحقهم التاريخي في المسجد الأقصى؛ فقد بيَّنا -بحمد الله- أنه ليس لأحدٍ حق تاريخي "بل ولا حالي" في أي بقعةٍ مِن الأرض؛ لا سيما التي تحت سلطان المسلمين. فإن قال قائل: فإن القوم لا يستطيعون أن يتكلموا بتلك اللغة التي إن وسعت الإسلاميين -لا سيما المتشددين منهم- فلا يمكن بحالٍ مِن الأحوال أن تسع القوميين والعلمانيين؛ لا سيما المحبين للسلام منهم! فنقول: أما العودة إلى القانون الدولي الذي يتحاكمون إليه؛ فلقد اعتبر القانون الدولي الحدود القائمة حال إنشاء "عصبة الأمم"، ومِن بعدها "الأمم المتحدة" هي الحدود المعتبرة، ولم يعترف القانون الدولي بحقٍّ تاريخي للهنود الحمر في أمريكا مثلاً، ولا اعترف بحق للهنود غير الحمر في أوروبا "وهم صانعو حضارتها"؛ حيث إن الرومان ورثوا حضارتهم عن اليونان الذين هم في أصلهم هنود، ولم يعترف القانون الدولي بأي حق تاريخي لأحدٍ؛ اللهم إلا لليهود في بلاد المسلمين! وإذا كان ولا بد مِن اعترافٍ بحقٍّ تاريخي؛ فإلى أي فترةٍ مِن فترات التاريخ سيرجعون؟! وقد بيَّنا أن أقرب واقع للمسجد الأقصى هو هروب اليهود منه مِن أمام الروم -الذين يساعدونهم الآن في اغتصابه- وتدنيسهم له، ثم مجاهدة المسلمين مِن أجله وتعظيمهم له؛ فمَن أحق به؟! فمِن هنا يتبيَّن لك عدم استحقاق اليهود لوراثة أنبياء بني إسرائيل مِن الناحية الشرعية، ومِن ناحية مبادئ القانون الدولي المزعوم، ولكن "القوميين" هروبًا مِن محاولة نقض ما يراه خصمهم مِن الثوابت، وهي وراثتهم لأي شيءٍ كان يخص بني إسرائيل في أي فترةٍ مِن فترات الزمان؛ لجأوا إلى حيلةٍ مضحكةٍ، وهي: ادعاء أن المسجد الأقصى الحالي مسجد بناه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، لا علاقة له بالمسجد الأقصى الذي كان في زمن أنبياء بني إسرائيل المسمَّى عند اليهود بهيكل سليمان! فهل يا ترى أفحمتْ هذه الكذبة المزعومة اليهود؛ فراحوا ينقبون عن أي بقايا تثبت وجود بناءٍ في هذا المكان قبْل دخول المسلمين إليه؟! إن الجميع يَعلم أن اليهود لا يعترفون إلا بمنطق القوة، ومِن ثَمَّ فإن الذي صرفهم عن هدم المسجد وبناء معبدهم الكفري المزمع إقامته تحت مسمَّى: "هيكل سليمان"، هو خوفهم مِن قوة الإيمان الكامنة في نفوس المسلمين لو استثيرت استثارة بالغة كهذه؛ ولذلك يلجأون إلى الحفريات، وإلى غيرها مِن أنواع الاعتداءات: "كالحرائق - والهدم لبعض أجزائه" كبالونات اختبارٍ للأمة، ومتى وجدوا أن الفرصة سانحة سينقضون على المسجد، ولن يردعهم أصوات القوميين الخافتة، وهم ينادون: "ليس هذا هو مكان هيكل سليمان!". ونسأل الله -عز وجل- ألا يأتي هذا اليوم، ونسأله -تعالى- أن يرزق أبناء الأمة إيمانًا وثباتًا، وأن يُلقي في قلوب أعدائنا الرعب؛ فلا يجترئون على حرماتنا. اللهم آمين. |
تاريخ فلسطين قبْل الإسلام كما يرويه المؤرخون
تاريخ فلسطين قبْل الإسلام كما يرويه المؤرخون كتبه/ أحمد عبد الحميد عنوز الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فحينما نتعامل مع تاريخ "فلسطين"؛ فإننا نتعامل مع مادة شديدة الثراء، ويكون مِن عدم الموضوعية الادعاء بالوصول إلى نتائج عميقة شبه قطعية دون تكلُّف النظر العميق والتحليل، وفك الأحداث وإعادة تركيبها وضمها إلى بعضها مستخلصين مجموعة مِن النتائج المفيدة في فهم القضية. لذا فإننا سنمر مرورًا سريعًا على تاريخ فلسطين كما رواه المؤرخون؛ لنعرف ما يقول القوم، ومِن أي خلفية يتحركون، وسنقف وقتًا أطول مع التاريخ الذي رواه المسلمون عن هذه البلاد، ومنه بالقطع وقائع ثابتة منقولة عن الثقات، ومنه ما ثبت بالوحي المعصوم. وسيكون كل ذلك بلا ادعاء متكلف كما يفعل البعض مِن جمع بعض القصاصات إلى بعضها، ثم التفاخر -مثلاً- بأنه توصل إلى حقائق تاريخيةٍ مِن شأنها أن تقلب الصراع العربي الإسرائيلي رأسًا على عقب! تعتمد أغلب الدارسات التاريخية على نواحٍ مادية مِن حفريات وآثار باقية، ووثائق يمكن الاستئناس بها -كما سبق وبيَّنا-، ولكن دون انتحال نتائجها كمسَلَّماتٍ قطعيةٍ لا تجوز مناقشتها. ومِن جملة ذلك: أنهم يقسِّمون التاريخ القديم إلى عصورٍ باعتبار نوع المادة التي صُنعت منها الآلات المستخدمة فيه: "كالعصر الحجري - والبرونزي - والحديدي - والنحاسي". ولا عجب أن تجد في بلاد فلسطين مجموعة مِن الآثار التي تدل وفق قواعد الدارسين الغربيين على وجود حياة في هذه البقاع فيما يسمَّى بالعصر الحجري القديم، منذ 500 ألف سنة قبْل الميلاد، والرقم كما ترى به نوع مِن المجازفة التي تُلقي عليه بظلال الشك -كما سبق وبيَّنا-؛ فلا طائل إذن مِن مجرد الوقوف مع معلومات كهذه، ولنقفز إلى تاريخ أقرب نوعًا؛ وهو بدايات الألف الثالثة قبْل الميلاد حيث تدور أغلب نتائج الدراسات حول هجرة العديد مِن القبائل والبطون العربية وغيرها إلى بلاد الشام، حيث كانت البلاد -ولا زالت- تنعم بأنواعٍ مِن الخيرات جمة. وممن يُذكر اسمهم في هذه الهجرات: "العموريون - والكنعانيون - واليبوسيون"، ويرى كثيرٌ مِن المؤرخين أنهم مِن البطون والقبائل العربية، وأن مدينة "القدس" القديمة أنشأها "اليبوسيون" وأسموها: "يبوس"، ثم حولوا اسمها إلى: "أور سالم" وهو مِن ملوكهم، وهو الاسم الذي تحول بعد ذلك إلى "أور شاليم"، أي "مدينة سالم" أو "مدينة السلام". و"كنعان" هو جد بطن مِن بطون العرب القديمة، وتشير كتب أهل الكتاب إلى أنه الابن الهالك لنوح -عليه الصلاة والسلام-، والذي يشار إليه أحيانًا باسم "يام"، وليس "كنعان". ويبدو أن القبائل الكنعانية هي أكثر مِن استوطن "فلسطين" وشكلت سكانها الأصليين؛ بحيث عُرفتْ فلسطين باسم أرض كنعان، والتي مِن مدنها القديمة المعروفة مدن: "القدس - وأريحا - وبلاطة - ونابلس - وعسقلان - وحيفا - وغيرها... "، وإلى هذا يستند مَن ينادون بعروبة فلسطين، وأن سكانها الأصليين هم العرب، وأن بني إسرائيل هم مَن طرأوا عليهم بعد ذلك؛ مما يعطي للموضوع طابعًا قوميًّا وطنيًّا، بينما يدور كلام اليهود أن الأرض وعد إلهي لشعبٍ مختارٍ؛ مما يعطي الأمر طابعًا دينيًّا ينتحله حتى العلمانيون مِن اليهود. ومما يُذكر ضمن أحداث الألف الثانية قبْل الميلاد، هو صعود وهبوط حكم الهكسوس على هذه البلاد، وانتهاء الأمر إلى حكم الفراعنة. وكذلك مِن أهم أحداثها: هجرة قبائل مِن العمالقة أقوياء الأجساد، متطوري الأدوات الحضارية والحربية، جاءتْ مِن جزيرة "كريت" في البحر المتوسط لتسكن أرض كنعان وتستقر فيها، وتترك فيها آثارًا تشير إلى أن هذه القبائل كانت تُدعى "البلست"؛ مما يشير إلى السبب في تغلب اسم "فلسطين" على هذه الأرض بعد ذلك. وهنا نبيِّن أمرًا يوضِّح لنا طبيعة هذه الدراسات حتى يمكننا القياس على هذا النموذج: إن السبب الذي دعا المؤرخين للتأكيد على وجود قبائل "البلست" هذه في أرض فلسطين، ومِن ثَمَّ استنتاج سبب التسمية بفلسطين على غير الشائع قديمًا؛ هو ما عثر عليه مِن آثار في بلاد فلسطين وتطابقها مع آثار عُثر عليها في هذه الجزر المتوسطية، كجزيرة: "كريت"، ومِن أهم هذه الآثار: "الأواني الفخارية المستخدمة"؛ مما رجح عندهم حدوث هذا الانتقال مِن جزر المتوسط إلى أرض كنعان. وبشيءٍ مِن النظر يمكنك الوصول إلى احتمالاتٍ أخرى توضِّح سبب التواجد المشترك لهذه الأدوات في الأرضين، ومنها التبادل التجاري فحسب -على سبيل المثال-، بل وبسهولةٍ شديدةٍ يمكنك أن تقلب الصورة وتدعي بأن الحضارة في أرض كنعان كانت أقوى وأكثر تقدمًا، ومِن هذه البلاد خرجت قوات غازية؛ فاحتلت جزر المتوسط، ونشرت فيها ثقافتها، ومنها صدرتها إلى بقية بلاد الرومان. وما سبق هو مجرد نموذج لما تسير عليه الخلافات التاريخية التي لا تستند إلى حقائق محترمة موثوق بها؛ لذا لا تملك أمام كثيرٍ مِن هذه المعلومات إلا أن تقول: "ربما!". ومِن أبرز أحداث هذه الفترة: قدوم إبراهيم ولوط -عليها الصلاة والسلام- إلى أرض فلسطين بعد هجرتهما لقومهما، حيث وعد الله إبراهيم -عليه السلام- أن يكثِر ذريته، وأن يملكها الأرض لتعبده عليها، ومَن كفر؛ فإن الله غني عن العالمين. وهذا هو الوعد الذي يستند إليه اليهود في أحقيتهم بالأرض بغض النظر: هل هم مستحقون له بالفعل أم أنهم ممن كفر بالله، واستغنى الله عنه؟! وكذلك مِن أبرز أحداث هذه الفترة: بناء الكعبة، وبيت المقدس على الخلاف المعروف: فيمَن يعتبر أول مَن بنى الكعبة، وبيت المقدس؟ ومَن رفعهما بعد ذلك، أو جددهما وأعاد بناءهما؟ ومتى حدث كل ذلك؟ ثم تأتي الألف الأولى قبْل الميلاد، وفيها تتضح الأحداث بعض الشيء، وتزداد الدلائل التاريخية وضوحًا مقارنة بما سبق، ومِن أبرز أحداث هذه الألف: قيادة موسى -عليه الصلاة والسلام- لبني إسرائيل للخروج مِن مصر، والدخول إلى الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، والتي كان يسكنها الجبارون "البالست"، ويقص علينا القرآن كيف امتنع اليهود عن دخول الأرض المقدسة ونكصوا عن أمر نبيهم، وقالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24). ثم الدخول الفعلي لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد موسى -عليه الصلاة والسلام-، ثم قيام مملكة داود -عليه الصلاة والسلام-، والذي يعتبره اليهود المؤسس الحقيقي لدولتهم على أرض فلسطين؛ حيث فتح "القدس"، وحررها مِن أيدي الكفرة والمرتدين، وأعد العدة ليبني "بيت المقدس" مرة أخرى، ولكنه قُضي قبْل أن يتمه؛ فعهد به إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام- ليتمه على أحسن وجه ليكون مسجدًا لله -سبحانه-، لكن مع الآلة الدعائية الصهيونية يتحول اسم المسجد إلى الهيكل أو المعبد أو خيمة الاجتماع؛ بحيث تطغى هذه المسميات على أدبيات وصف "الصراع" بيْن اليهود والمسلمين. ثم تتوالى الأحداث بعد ذلك بصورة يمكن الاقتراب منها أكثر حيث قرب العهد -ولو نسبيًّا-؛ بالإضافة إلى توفر المدونات التاريخية، والتي مِن بينها: "التوراة المحرفة" التي تداولها اليهود، والتي تعد مرجعًا لكثيرٍ ممن تصدَّى لدراسة التاريخ. وهنا -أيضًا- نموذج آخر لطبيعة خلافات دارسي التاريخ؛ حيث يميل بعضهم إلى التصديق التام لكل الأساطير المكذوبة التي وردتْ في "التوراة المحرفة" إيمانًا بها، ومحاولةً للاستدلال عليها بالأدلة المحايدة، في الوقت الذي يذهب الكثيرون إلى إنكار أكثر ما جاء فيها بما في ذلك القصص الثابت بالفعل، كقصة حبس الشمس لـ"يوشع بن نون" باعتبارها أسطورة أخرى أضافها بنو إسرائيل تمجيدًا لملوكهم وقادتهم! وأخيرًا: فبعد موت سليمان -عليه الصلاة والسلام- دخل بنو إسرائيل مرحلة الانقسامات السياسية، والردة الدينية المتكررة حتى دخلتْ فلسطين تحت حكم الآشوريين القادمين مِن العراق ثم مِن بعدهم البابليين، ومرحلة السبي البابلي، ثم الفرس، ثم اليونان، ثم السلوقيين، ثم في النهاية الرومان حوالي عام 64 ق.م؛ الذين ظل حكمهم على فلسطين ومصر، إلى أن جاء النور على أيدي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عن أصحابه؛ فأزالوا الرجس عن هذه البلاد في عام 636م. وفي هذه الفترات التي تعاقبتْ فيها الإمبراطوريات المختلفة على فلسطين تعرضت البلاد والمسجد الأقصى إلى التدمير والإحراق والتخريب أكثر مِن مرة؛ بحيث لم تسلم بقعة مِن هذه الأرض مِن تغيير معالمها وسكانها واسمها، وكان أبرز هذه التخريبات: ما وقع على يد الإمبراطور الروماني "هادريان" حوالي عام 130م حيث خرَّب مدينة "القدس" كلها، وغيـَّر اسمها إلى إيلياء، وهو مِن كلمة "إيليوس" وهو لقب عائلة هادريان. وقد أقام فيها هادريان معبدًا وثنيًّا لـ"جوبيتر" إله الرومان الرئيسي في نفس مكان المسجد، أو ما كان يسميه اليهود الهيكل الذي بناه سليمان -عليه الصلاة والسلام-. |
زيادة الصراع الدولي على أفريقيا بسبب الأزمة الأوكرانية
زيادة الصراع الدولي على أفريقيا بسبب الأزمة الأوكرانية كتبه/شريف ربيع لا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها على العالم أجمع، وتتوالى تطورات الوضع بمرور الوقت، خصوصًا في ظل موقف أوروبا الداعم لحكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتقديم مختلف أنواع الدعم من علاج وغذاء، إضافة إلى الأسلحة المتعددة، ومحاولات عزل روسيا وإخراجها من النظام المالي العالمي "سويفت"؛ ما يعد بداية حرب اقتصادية شاملة. وبطبيعة الحال فإن هذه الحرب سيكون لها تأثيرات على كثير من الأوضاع على مستوى العالم، تتمثل في الانعكاسات السياسية من خلال الاستقطاب وما يتبعه من ضغوط على بعض الدول، وخلافات كان أول مثال عليها ما حدث في مجلس الأمن منذ أيام حينما فشل في إيجاد موقف دولي موحد تجاه الأزمة الأوكرانية بعد أكثر من أسبوع على بدء العمل العسكري الروسي. وتتمثل تلك التأثيرات في الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها العالم لا سيما الدول والشعوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأوروبا نتيجة للأزمات المتوقعة بشأن توفر السلع الأساسية، خصوصًا مع التهديد الروسي باستخدام السلاح النووي ووضعه على أهبة الاستعداد؛ ما يجعل العالم كله يتوجس خيفة مما ينتظره من مصير مظلم إذا اتسع نطاق هذه الحرب. القرن الأفريقي منذ فترة طويلة وقارة أفريقيا خاصةً منطقة القرن الأفريقي –التي تشمل دول الصومال وإثيوبيا وإريتريا وجيبوتي- تمثل بؤرة كبيرة للصراع والتنافس بين الدول الغربية، ودخلت على الخط روسيا، وتعد تلك المنطقة ساحة للحرب الباردة الحديثة بين واشنطن وموسكو، وسط تبادل استهداف المصالح الاقتصادية والطرق الحيوية من كلا الطرفين؛ وهذا كله بسب موقع أفريقيا الجغرافي وما يتوافر بها من ثروات طبيعية. ولقارة أفريقيا أهمية كبرى لدى روسيا خاصةً في ظل تطورات هجومها العسكري على أوكرانيا، وبالتزامن مع التنافس الدولي على تلك القارة، والحديث عن هذه الأزمة خصوصًا ما يتعلق بمنطقة القرن الأفريقي لا بد أن يشمل التنوع السكاني والثقافي والديني بين شعوب هذه المنطقة، وتاريخ العداء بين تلك الشعوب والدول الغربية التي احتلتها سابقًا. والأزمة الأوكرانية الحالية إذا طال أمدها سينتج عنها استقطاب في أفريقيا ودول العالم الثالث كالذي حدث إبان الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا خلال القرن الماضي؛ أي أن ولاء الدول الأفريقية سوف ينقسم بين موسكو والغرب بقيادة واشنطن، والحرب الروسية الأوكرانية ستكون بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية؛ لما سوف تخلفه من آثار وتداعيات كبيرة على مستوى العالم ورغم أن أفريقيا مسرح تنافس دولي منذ القدم فإن روسيا استطاعت في الآونة الأخيرة إحداث تغييرات حقيقية؛ فقد قللت من نفوذ فرنسا وبريطانيا (قطبي العالم قديما قبل ظهور أمريكا على الساحة الدولية)، وبدأت موسكو في بناء نفوذها الحديث في شرق وغرب ووسط أفريقيا معتمدة على علاقات سابقة لها إبَّان عهد الاتحاد السوفيتي، واستفادت كذلك من التمرد الأفريقي المتصاعد ضد الدول الأوروبية التي احتلت أفريقيا لعهود طويلة، وحالة الرفض الشعبي لدى أفريقيا تجاه تلك الدول؛ ومن ثَمَّ استطاعت موسكو إيجاد موطء قدم لها في تلك القارة. زيادة التسابق الدولي وسوف تؤدي تطورات الأزمة الأوكرانية الحالية إلى زيادة التسابق الدولي على القارة الأفريقية لا سيما منطقة القرن الأفريقي؛ لأن اهتمام روسيا بتلك المنطقة لا يتوقف فقط على البعد الاقتصادي وأنها تعد سوقًا واعدة لبيع السلاح، بل يتسع اهتمامها ليشمل البعد الأمني الناجم عن حرصها على زيادة وجودها على سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب، وتقوية نفوذها في تلك المناطق؛ وبِناءً على ذلك ستشمل تحركاتها السودان وكينيا وإثيوبيا وإريتريا والصومال وغيرهم من البلدان، وسوف تسعى جاهدة لإنشاء قواع عسكرية لها في العديد من البلدان الأفريقية؛ وكل هذه التحركات تهدف موسكو من ورائها عدم محاصرتها بواسطة التحالف الأمريكي الغربي في مناطق نفوذها الجديدة والقديمة. ولا يخفى علينا أن تحركات روسيا في القارة الأفريقية تتم بالتنسيق مع الصين، وفي غيرها من المناطق أيضًا من أجل خلق تحالف قوي يقابل التحالف الغربي، هذا بالإضافة إلى أهمية منطقة القرن الأفريقي سواء في البحر الأحمر أو خليج عدن والمحيط الهندي، وتحكمها في مضيق باب المندب وأهم الممرات المائية في العالم من الناحية التجارية والعسكرية؛ وكل تلك العوامل تضع المنطقة في دوائر الاهتمام الروسي والغربي والأمريكي؛ وبالتالي تكون عرضة لأي تجاذبات وصراعات دولية. |
بين التاريخ والجغرافيا... مقدمة لابد منها
بين التاريخ والجغرافيا... مقدمة لابد منها كتبه/ أحمد عبد الحميد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فقبل الشروع في بيان بعض أهم الجوانب التاريخية حول القدس لابد من بيان بعض المقدمات الهامة لفهم طبيعة التعامل مع مثل هذه الملفات وغيرها، لاسيما مع كثرة المعلومات المتوفرة التي تنطوي على أنواع من التناقضات التي تلقي ظلال الشك عليها جميعا إلا ما كان مصدره من وحي معصوم. وقد حظيت قضية القدس وفلسطين بقدر لا بأس به من ذلك كله بطبيعة الحال. وأول هذه المقدمات عن العلم الذي لا ينفع: فيولي الدارسون للتاريخ والجغرافيا أرض الشام عناية فائقة، إذ أن هذه الأرض منذ فجر التاريخ كانت ولا تزال محط رحال الكثيرين، وقامت حولها حضارات عدة على اختلاف أجناسها وألوانها، ولا عجب في ذلك فالأرض بها بقعة مباركة وخيرات، وهي ذات موقع يعتبر محوريا بالنسبة لبقاع الدنيا. وأكثر الدارسين للتاريخ والجغرافيا عموما يعتنون بنوعية من المعلومات تعتبر غير ذات قيمة كبيرة بالنسبة لنا نحن المسلمين، شأنهم كشأن كثير من الدارسين لأنواع من العلوم لا طائل تحتها، ولا تفيد في دنيا ولا أخرى؛ إلا نوعا من التباهي بمعلومات طريفة، والتظاهر بعلم عميق هو في حقيقة أمره أشبه بفضول الأطفال. فبينما العالم تأكله المجاعات والحروب تجد أعدادا كبيرة من أصحاب القبعات يطوفون الأرض بحثا عن إناء فخاري أو قطعة من الحجر، أو نوعا من الصخور ثم إذا بهم يهتفون بانتصار علمي جديد مفاده أن ديناصورا ما قد مر من هنا، أو أن على هذه الأرض قد عاش إنسان طويل القامة نوعا، أو أن صديقا مريخيا ترك بعض الآثار هنالك، أو أي شيء من هذه السخافات التي يفترض أن يقف العالم معها مشدوها متقطع الأنفاس حامدا الله على أن ساق له هذه المعجزات العلمية لتنقذه في الوقت المناسب بعد أن كاد يهلك. والإشكال أن تنحرف صورة العلم شيئا فشيئا وتصير هذه الأمور بمثابة المسلمات التي يلحق الذم بمن أنكرها أو تشكك فيها، بل وتسن القوانين الدولية وفق هذه التصورات الساذجة. ونموذج أرض الميعاد اليهودية والحق التاريخي في الأرض واحد من هذه النماذج، حيث تجد الحجج التي تساق في مثل هذه القضية هي مجموعة من الأحجار والأواني الفخارية والتراكيب الجيولوجية التي لا تدع مجالا للشك بأن هذه الأرض كانت ملك الجنس الفلاني أو العلاني، وهذا بالطبع مع بعض الحديث عن أنواع الأشعة المتطورة المستخدمة في الأبحاث، وكذلك الكربون المشع، مما يعطي الأمر طابعا علميا مهيبا يجعلك تسلم بلا جدال. وكأنه لو سلمنا مثلا بأن هذه الأرض سكنها بنو إسرائيل منذ آلاف السنين فينبغي علينا نحن المسلمين أن نترك لهم المسجد والأرض ليفعلوا بهما ما يشاءون، بينما نقف فخورين بروحنا العلمية المحايدة، أو لو سلم اليهود لنا بأن العرب الكنعانيين هم أول من سكن الأرض فسيعاملوننا بذات الطريقة. وهذا يقودنا إلى المقدمة الثانية؛ وهي أن الأرض لمن عبد الله عليها: إن الحق الذي لا مراء فيه أن بني آدم كلهم لآدم وحواء، رجل وامرأة وتفرق أبناؤهم في الأرض بعد ذلك، وقبل أن يوجدا لم يكن هناك بشري على الأرض، ولم يكن يحق لأحد الحديث عن ملكيته لهذه البقعة أو أحقيته في تلك. أهبط آدم وذريته لعبادة الله وإعمار الأرض بذلك، وجعل الله لهم الأرض متاعا إلى حين، ثم يعودون إلى ربهم وتبدل الأرض غير الأرض (قَالَاهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه:123-124)، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(البقرة:36). فمن السخف إذاً الانشغال بمثل هذه التفاهات التي تجعل من الإنسان الضعيف العاجز سيدا للكون يتصرف فيه كما يشاء بالمنع والمنح. الحق الذي لا مراء فيه أن الأرض لمن عبد الله عليها، ومن غيـَّر أو بدل فالسنن لا تحابي أحدا (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)(الإسراء:7). وكما هو واضح من الآيات فإن الوجه الرئيسي للصراع على ظهر الأرض هو الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، بين الخير والشر كما يحلو للبعض التعبير. فلا مجال حينئذ للادعاء بأن الصراع بالأساس هو صراع اقتصادي أو اجتماعي أو جنسي وفقا للنظريات المتعددة التي صيغت بهذا الصدد. ولا شك أن البحث عن الموارد والرغبة في التملك كانا وقودا لكثير من الصراعات عبر التاريخ، ولكن المحرك الرئيسي للصراع هو الرغبة في الإفساد من قبل الشيطان وأعوانه، وما يقابل ذلك من الرغبة في الإصلاح من قبل أولياء الله. والمقدمة الثالثة هي عن منهجية التعامل مع التاريخ: يتعامل البعض مع التاريخ وكأنه رواية مسلية محبوكة متصلة الحلقات، بينما الواقع عكس ذلك، فتدوين التاريخ والاحتفاظ بالحقائق دون تشويه؛ يعد من أصعب الأمور، بل إن أغلب حلقات التاريخ غير مكتملة بالنسبة لنا، الأمر الذي يجعل طوائف كثيرة من المؤرخين تحاول سد هذه الثغرات بأنواع من الاستنتاجات يكون مردها إلى المكون الفكري للمؤرخ وطبيعة فهمه للأمور، وحتى على مستوى كل أمة بعينها فإن كتابة التاريخ تكون محكومة بالعديد من العوامل من بينها كون هذه الأمة مهزومة أو منتصرة مصونة الجوانب، وما يتبع ذلك من قدرتها على الاحتفاظ بمدوناتها دون أن تصل لها يد التحريف أو الإتلاف، وكذلك جوانب النهضة الفكرية والثقافية، ومدى أهلية من يتصدى لكتابة التاريخ، فضلا عن مدى حياديته وبعده عن لي أعناق الحقائق تحقيقا لأغراض معينة. وهذا الأمر الأخير يعد من أهم الاعتبارات التي يجب أن ينتبه لها كل دارس للتاريخ، وهو أن التاريخ في حقيقته هو سلسلة من الصراع، وإدراك طبيعة هذا الصراع يتوقف على رؤية الإنسان للحياة ومعتقداته فيها، الأمر الذي يتباين فيه الناس تباينا كبيرا. وكم من مؤلفات وبحوث صيغت وأقيمت حولها الندوات والمؤتمرات ليتضح في النهاية أن وراء هذه الأبحاث خلفية تسعى إلى تأكيد فكرة معينة بغض النظر عن مصداقيتها، أو أن هناك تمويلا ماليا يدفع نتائج هذه الأبحاث في اتجاه معين أو غير ذلك من الوسائل التي تؤثر في نتائج الأبحاث العلمية. وموضوع القدس بالذات حظي بقدر كبير جدا من التلاعب والدس في حقائق التاريخ، بل والجغرافيا كذلك، الأمر الذي يدعو الخائضين فيه من المسلمين إلى أن يتحسسوا مواطئ أقدامهم وألا ينزلقوا في التعاطي مع هذه الأمور وفق الرؤى الصهيونية التي صبغت العالم نتيجة للآلة الإعلامية اليهودية، والنفاق الأوروبي والأمريكي لليهود. فينبغي الانتباه إلى أن المنهجية الإسلامية في التعامل مع القضايا التاريخية تعتمد على قواعد وضوابط صارمة لا تتيح فرصة للأخبار المكذوبة أو الباطلة لاسيما في الأمور التي يترتب عليها أحكام شرعية، وإلا فأخبار التاريخ الغرض الأساسي منها هو الاتعاظ والاعتبار وقراءة السنن الكونية والشرعية قراءة سليمة. وبرغم ذلك فإنه لم يسلم حتى التاريخ الإسلامي من الكذب والتدليس والوضع لذا كان الواجب الانتباه لذلك حيث لم يتعامل كل المؤرخين مع التاريخ بنفس القواعد الصارمة التي وضعها علماء الحديث للحكم على المرويات، وبرغم هذا أيضا فإن التاريخ المدون لأمة الإسلام يعتبر أنقى وأفضل ما دون من تواريخ حتى على المستوى الفني للصنعة التاريخية؛ لأنه بقي في الأمة -بفضل الله- من يأتي على الأخبار فينخلها نخلا ولا يترك كذبة لتروج على الأمة فـتـُحرِف رؤيتها لأمر من الأمور. وأما عن أخبار الأمم السابقة التي اندرست معالمها فيستحيل تحصيلها بطريقة سالمة من الكذب والتضليل والدس؛ إلا إذا كانت من خلال وحي معصوم، أو نقل ثقة بطريقة منضبطة، والأمران لا يتحققان في غالب هذه الأخبار، حيث إن ما وردنا من طريق الوحي يقتصر على جوانب الاتعاظ والاعتبار، وهو العلم النافع في الدنيا والآخرة. قال -تعالى-: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(هود:120)، وقال -تعالى-: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا)(طه:99-101)، (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف:1-3). فالغرض من قصص القرآن هو التنبيه من الغفلة، وهكذا ينبغي أن يكون كل قصص، وأما ما يروى من أخبار أهل الكتاب التي لا يـُعلم صدقها أو كذبها فإنها لا تصدق ولا تكذب، ويمكن الاستئناس بها، وكذا يمكن الاستئناس بنوع من الأخبار التي ترِد عن الأمم الأخرى بحيث لا يكون بها ما يخالف الثابت من الشرع أو ما يعارض الحس السليم. وعلى كل فلا ينبغي الانشغال بأمور تاريخية درست، ويمكن تجاوزها، بل لا نبالغ حين نقول إننا دوما نملك إمكانية البدء من جديد في التعامل مع الواقع دون النظر للخلفيات التاريخية والجغرافية. |
سقوط بيت المقدس
سقوط بيت المقدس كتبه/ علاء بكر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد استطاع المسلمون تحرير بيت المقدس مِن قبضة البيزنطيين الأوروبيين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وظلت القدس بعده -ولقرونٍ عديدة- ينعم بالسلام والأمان مَن فيها مِن المسلمين وغيرهم، ولما ضعفت الدولة العباسية بضعف خلفائها وضعف قبضتهم على ما تحت أيديهم؛ ظهرتْ نزعات انفصالية أقامت دويلات وإمارات مستقلة تدين اسمًا للخلافة، وتتحكم بالفعل فيما تحت أيديها مِن البلاد، وتتقاتل فيما بينها على الحكم والإمارة، وقد ترتب على ذلك تفكك الأمة وتفرق أجزائها فطمع فيها أعداؤها. فكانت الدولة "الطولونية" ثم الدولة "الأخشيدية" في مصر حتى دخلها الفاطميون، وكانت الدولة "الحمدانية" في حلب، ودولة "السلاجقة" في بغداد، وظهرت الدولة "السامانية" في شرق فارس، ثم الدولة "البويهية" في غربها، والدولة "الغزنوية" في أفغانستان والهند، وانتهزت أوروبا الفرصة لاحتلال الشام مِن جديدٍ واغتصاب بيت المقدس. بدأت الحملات الصليبية على الشام مِن عام "490هـ -1096م"، بتحريض مِن الباباوات، واستجابة مِن ملوك أوروبا، وقد استطاع الأوربيون حشد الجموع الكبيرة والتوجه بها إلى بلاد المسلمين الذين انشغل أمراؤهم بالصراع بينهم، وعجز الخليفة العباسي عن توحيد صفوفهم. يقول المؤرخ البريطاني "مونتجمري وات": "إنه في نهاية القرن الحادي عشر لم يكن هناك حكم مسلم قوي في المناطق التي هاجمها الصليبيون، بل كان هناك عددٌ مِن الحكام المحليين الصغار الذين أنفقوا الشطر الأول مِن وقتهم وطاقتهم في قتال جيرانهم"(1)، "وقد كان المسلمون -لو تكاتفوا- قادرين على إبادة هذه الجيوش الصليبية القادمة مِن أماكن بعيدةٍ ومتفرقة، وقد انتصر المسلمون قديمًا على أضعاف هذه الأعداد، ولكن ميراث الشك والعداوة بيْن حكام المنطقة، والتي غرسته وأنبتته طوال القرن السابق حروب ودسائس ومنازعات سادت المنطقة؛ جعل المسلمين عاجزين عن مواجهة قوات الصليبيين"(2). لقد حشدت أوروبا جموعها وزحفت إلى الشام علنًا، ولم يتحرك المسلمون لذلك، ولم يعدوا له العدة اللازمة؛ فبدوا وكأنهم فوجئوا بالصليبيين الغزاة، وتركوا كل صاحب بلد يقف بمفرده أمامهم، وقد خبت روح الجهاد فيهم، وتعلقوا بما في أيديهم مِن حطام الدنيا، حتى ظهر فيهم مَن يتألف هؤلاء الصليبيين بعد ذلك، ويستعين بهم في قتال إخوانه المسلمين، ونجح الصليبيون الغزاة في تكوين إماراتٍ لهم بالشام في "الرها" و"أنطاكية" و"طرابلس"، واتخذوها مراكز ينقضون منها على بلاد المسلمين حولهم، واستطاعوا فتح بيت المقدس في عام "492هـ - 1909م"، وارتكبوا يوم فتحه فظائع وشنائع يندى لها الجبين فأبادوا أهلها؛ لم يرحموا طفلًا أو امرأة أو عجوزًا، وأصبحت دماء المسلمين أنهارًا، وظلت الجثث مطروحة في الطرقات لا تجد مَن يواريها حتى تعفنت وفاحت رائحتها، وأبيحت المدينة للسلب والنهب عدة أيام. قال ابن كثير -رحمه الله-: "لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين مِن شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة(3) أخذت الفرنج -لعنهم الله-، بيت المقدس -شرفه الله-، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد مِن ستين ألف قتيل مِن المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا"(4). ونقل عن ابن الجوزي قوله: "وذهب الناس على وجوههم هاربين مِن الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة العباسي والسلطان"(5). "فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا"(6). "وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرِّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل، وغير واحد مِن أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(7). دور الفاطميين في سقوط القدس: لم يكن ضعف خلفاء الدولة العباسية وتنافس الحكام والأمراء على الأطماع الدنيوية وإخماد روح الجهاد في النفوس فقط وراء سقوط القدس، بل كان للفاطميين دور كبير وراء هذا السقوط، والفاطميون يُنسبون أنفسهم إلى فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وذلك مِن خلال انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقد افترق الفاطميون عن الشيعة الاثنى عشرية في إسماعيل هذا، فعند الاثنى عشرية أن الإمامة كانت لموسى الكاظم بن جعفر الصادق، ويجعلها الفاطميون في أخيه إسماعيل، وقد اختلف المؤرخون في صحة نسب مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله بن الحسين بن أحمد الملقب بالمهدي. ويرى المحققون منهم أن هؤلاء العبيديين كاذبون فيما زعموا مِن النسب، وإذا كان ثمة خلاف في صحة نسب هؤلاء الفاطميين فقد اتفق الجميع مِن أهل السُّنة، بل والشيعة الاثنى عشرية على فساد المذهب الإسماعيلي وخروجه عن الإسلام، وأنهم كفار وزنادقة، وبلغ بهم الكفر ادعاء الربوبية والألوهية في بعض أئمتهم! وقد تمكن الفاطميون مِن إقامة دولة كبيرة لهم، استولت على شمال إفريقيا والمغرب العربي ومصر، وبسطت نفوذها على الشام والحجاز، واتخذت مِن القاهرة عاصمة لها، والتي بناها جوهر الصقلي للمعز لدين الله الفاطمي الذي دخل مصر وأقام بها منذ عام 362هـ، وقد سعى غلاة الشيعة الفاطميون إلى إضعاف الأمة وإفسادها، وساهموا في دخول الصليبيين الشام وبيت المقدس، وتمكينهم فيها بعدة أمور. منها: 1- حرص حكام الدولة الفاطمية على إفساد عقيدة الأمة، ومحاولة فرض المذهب الشيعي الإسماعيلي بالقوة تارة، وبالإغراء تارة، ولم يتوانوا عن قتل علماء أهل السُّنة وفقهائهم، وسب الصحابة على المنابر، وادعاء الألوهية لبعض حكامهم، ومعلوم أن الأمة تقوى بتمسكها بعقيدة سلفها الصالح، وتضعف بالبُعد عنها. 2- حرص هذه الدولة على هدم الخلافة العباسية وإضعافها باقتطاع جزءٍ كبيرٍ منها، واستعداء أعدائها عليها، ومعاداة مَن يواليها مِن الحكام والأمراء. 3- حرص هذه الدولة على عزل مصر وشمال إفريقيا عن إخوانهم في الشام خلال غزو الصليبيين للشام، فلم يجد الصليبيون المقاومة القادرة على ردهم. 4- لم يشترك الفاطميون في رد الصليبيين وقتالهم رغم شدة الخطب، قال صاحب النجوم الزاهرة: "ولم ينهض الأفضل -قائد جيوش الفاطميين- بإخراج عساكر مصر، وما أدري ما كان السبب في عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال؟!"(8). أما ابن الأثير فقال عنهم: "إن أصحاب مصر مِن العلويين -يعني الشيعة الفاطميين- لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام حتى غزة... خافوا فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها"(9). ويقول مؤلفا "الطريق إلى بيت المقدس": "إن الفاطميين كانت لهم مراسلات وسفارات مع هؤلاء الصليبيين الغزاة، حيث أرسلوا إلى معسكر الصليبيين عند أنطاكيا عام 492هـ، يعرضون عليهم اقتراحًا يتضمن اقتسام أملاك السلاجقة المسلمين، فيكون للصليبيين أنطاكيا وشمال الشام، ويكون للفاطميين فلسطين!"(10). وقد فطن المخلصون مِن هذه الأمة إلى هذه الأمور: فعالجوها، واستطاع "عماد الدين زنكي" وابنه "نور الدين محمود"، ومِن بعدهما "صلاح الدين الأيوبي" أن يبثوا روح الجهاد مِن جديدٍ، ويوحدوا مصر والشام، ويسقطوا الدولة الفاطمية، ويعيدوا ولاء المسلمين شرقًا وغربًا للخليفة العباسي في بغداد، ويعدوا الجيوش الكبيرة القادرة على صد الصليبيين ودفع شرورهم، ثم إخراجهم مِن ممالكهم، وتحرير القدس مِن أيديهم -ولله الحمد والمنة-. وما أشبه الليلة بالبارحة لو فطن لها مخلصو الأمة ومصلحوها. ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) "السلطان صلاح الدين": مركز السيرة والسُّنة -المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1425هـ - 2004م، ص:16 نقلًا عن: "800 عام على حطين صلاح الدين" ط. دار الشروق 1987م. (2) "الناصر صلاح الدين بطل حطين". أ د. حمزة النشرتي، الشيخ/ عبد الحفيظ فرغلي، أ د. عبد الحميد مصطفى - جـ1/29- 30. (3) وذلك قبْل ميلاد صلاح الدين الأيوبي بأربعين سنة. (4، 5، 6، 7) "البداية والنهاية لابن كثير" طـ. دار الغد العربي، المجلد السادس: ص:649- 650. (8) "السلطان صلاح الدين" مركز السيرة والسنة، ص:16 نقلاً عن ابن تغر بردي في النجوم الزاهرة جـ5/ ص:147. (9) المصدر السابق: ص17 نقلاً عن الكامل لابن الأثير في حوادث سنة 491هـ، وانظر الحروب الصليبية لسعيد عاشور جـ1/ ص:176. (10) "الطريق إلى بيت المقدس" د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار التوزيع والنشر الإسلامية -القاهرة- ط. الثانية جـ1/ ص:68. |
ألا إن نصر الله قريب
ألا إن نصر الله قريب إن الناظر في أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد من المصائب التي حلت بأمة الإسلام ما ينقبض له صدره، ويتفطَّر له فؤاده. وهذا الهم علامة تدل على إيمان المتحلِّي به، وصدق ولائه للمسلمين؛ إلا أن بعض أولئك الغيورين، ربما أشجاه الحُزْنُ بغُصَّته؛ لكثرة ما يسمع من هاتيك الخطوب وتلك النوازل، فساوره شيءٌ من اليأس من ظهور الدين الحق على الدين كله، وهذا موطئ منكرٌ في الدين، ومغْمَزٌ يَبْهَجُ له العدو ويفرح. وفي هذا المقال ذكرٌ لبعض ما يجب التعامل به في مثل هذه النوازل؛ فأقول: أولاً: لنعلم يقيناً لا شك فيه، أن الله - سبحانه - ناصرٌ دينه والمؤمنين، كما قال - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. لكنَّ الله - سبحانه - يؤخر النصر؛ ابتلاءً لعباده، وتمحيصاً لهم، كما قال - تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] وقال: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. أما الظن بخلاف ذلك، فهو من الظن السَّوْءِ، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرةً، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله"[1]. ويقول العلامة عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "واليوم وإن كان المسلمون مصابين بضعف شديد، والأعداء يتربصون بهم الدوائر، هذه الحالة أوجدت من بينهم أناساً ضعيفي الإيمان، ضعيفي الرأي والقوة والشجاعة، يتشاءمون بأن الأمل في رفعة الإسلام قد ضاع، وأن المسلمين إلى ذهاب واضمحلال، فهؤلاء قد غلطوا أشد غلط؛ فإن هذا الضعف عارضٌ له أسباب، وبالسعي في زوال أسبابه تعود صحة الإسلام كما كانت، وتعود إليه قوته التي فقدها منذ أجيال، وما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتنكَّبوا السنن الكونية التي جعلها الله - بحكمته - مادة حياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهَّده لهم دينهم، وإلى تعاليمه النافعة، وإرشاداته العالية؛ فإنهم لابد أن يصلوا إلى الغاية كلها، أو بعضها. وهذا المذهب المهين - مذهب التشاؤم - لا يرتضيه الإسلام؛ بل يحذر منه أشد تحذير، ويبين للناس أن النجاح مأمول، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]... فليتق الله هؤلاء المتشائمون، وليعلموا أن المسلمين أقرب الأمم إلى النجاح الحقيقي والرقي الصحيح)[2]. ثانياً: أنه ينبغي لنا أن نشيع روح التفاؤل، في مثل هذه الأوقات القاسية، وأن ننبذ اليأس عنا مكاناً قصياً، وأن نوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وهذا منهج أرشدنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهنا موقفان يبينان ذلك: الموقف الأول: حين أتى خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مكروب النفس، محزون الصدر، قلق الخاطر، من شدة ما لاقى من المشركين، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - متوسداً بُرْدَةً في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرٌّ وجهه، فقال: «لقد كان مَن قبلكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[3]. فتأمل كيف فاجأ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذا الخبر الذي تتهلل له الوجوه بشراً، وتتدفق سروراً، في ظل هذا الضغط الرهيب من المشركين، الذي جعل بعض النفوس تستبطئ النصر. الموقف الثاني: ثم شرع ابن الأثير يذكر تفاصيلها، وكان مما قال: "وهؤلاء - يعني: التتار- لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعمَّ ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح...". ثم ذكر ابن الأثير من أفعال التتار أشياء مروعة، وكان مما قال: "ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذِّب بها، من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم - أي: التتار- كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتلهم به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً، فقتله به!. و حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: ليكتِّف بعضكم بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلتُ لهم: هذا واحد، فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله أن يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير". ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى الكتاب المذكور. ثالثاً: كما ينبغي لنا إذا أردنا النصر الحقيقي - ألا نكتفي بمجرد الأماني والتخيلات، والتفاؤل غير المصحوب بالعمل؛ بل لابد أن نفعل الأسباب، ونطرق الباب، فذلك سبيل النصر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وإن أمة الإسلام لن تنتصر ما لم تأخذ بأسباب النصر، فتقيم شعائر الإسلام ظاهرة وباطنة، وتخلع رِبْقة الترف الفكري والاجتماعي من عقول أبنائها، ويكون عند أبنائها الاستعداد التام للتضحية؛ لأجل هذا الدين، كلٌّ حسب استطاعته وقدرته. ومع إيقاننا بأن البلاء حتمي؛ وأن هذه النوازل من أقدار الله؛ فإنه لا يعني هذا أن نتواكل ونستسلم للذل والهوان، كلا؛ بل ندافع أقدار الله بأقداره، ونستفيد من هذه الأحداث، بأن نعود إلى ربنا، ونجدِّد إيماننا، ونَصْدق في توبتنا؛ وهذه من حِكَم البلاء، وقد قال ربنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]. وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. حين كان المسلمون يحفرون الخندق، وهم يترقبون عدواً قادماً عليهم، يتربص بهم الدوائر، قد أوعدهم، وألَّب عليهم الناس، فلا يدرون في أي لحظة ينقض عليهم، وفي هذه الأثناء عرضت لهم - وهم يحفرون الخندق - صخرة لا تأخذ فيها المعاول،قال: فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: «بسم الله». فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب ضربةً أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»![4]. فانظر إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كيف ينقل أصحابه من هذا العناء والرَّهَق، إلى السعة والدعة، بمجرد أحرف يسيرة، فيثوب إلى أحدهم نشاطه في عمله، كأنما يتفيأ ظلال الراحة. إن الأمة بحاجة إلى أن يشاع فيها التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرُّ بها اليوم، مما يشدُّ من عَضُدها، ويثبِّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله. إن اليأس لا يصنع شيئاً سوى سقوط الهمة، وتخاذل العزم، والرضا بالتخلف والدُّون. ولقد مرَّ في تاريخ الإسلام حوادث عظيمة نكبت بها الأمة، وتجاوزتها بسلام، ولو ذهبنا نستقري التاريخ؛ لطال بنا المقام، وإليكم إحدى هذه الحوادث، نتبين من خلالها أن أمة الإسلام تمرض، لكنها لا تموت، ألا وهي غزو التتار بلاد الإسلام، وأُفسح المجال للمؤرخ الكبير أبي الحسن ابن الأثير ليحدثنا في كتابه "الكامل"[5]عن هذه الحادثة، فيقول: "لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأُؤخر أخرى، فمَنْ الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَنْ الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنتُ نسياً منسياً إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم - وإلى الآن - لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها". إن النصر مدَّخرٌ للذين يَؤمُّون معالي الأمور، فلا يرضون بالهون صاحباً، ولا يقيمون على المذلة، ولا تنحني رؤوسهم للعاصفة، وهو مدَّخرٌ لأولئك للذين لا يخامرهم ريب في نصر الله، ولا تعترضهم فيه شبهة يأس. وليس الله - سبحانه - عاجزاً عن نصرة الحق بغير فعل الأسباب، وهو الذي يقول للشيء: "كن" فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وحكمته، وهكذا تجري سنَّته. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتوكلين، كان أوعى الناس لهذه السنَّة، وهذا خبرٌ واحدٌ يدل على أخذه - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب: يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القِبْلَة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض». فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله - عزَّ وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [6][الأنفال: 9]. والشاهد منه: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم، وهو الموعود من ربه؛ إما بالنصر والغنيمة من قريش، أو الاستيلاء على عِير قريش التي تحمل تجارتهم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. [الأنفال: 7] - فعل الأسباب، وألحَّ على ربه بالدعاء؛ فجاءه النصر. رابعاً: والقلب في ذروة الشدة يتلقَّن درساً لا ينساه، ويستجلي قنواتٍ إصلاحية ربما لا تكون لولا تلك الشدة، ويكون عنده من الإقبال على الله، والتألُّه له ما لا يكون في غير تلك الشدة، قال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وعندها يأتي النصر، وتنكشف الغمَّة، كما قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ألا وإن مما يُستدفع به هذا البلاء، أن يراجع كلٌّ منا نفسه عن تقصيره في جنب الله، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30]، وقال: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41]. وتأمل رحمة الله بعباده؛ إذ قال: (بعض)، ولم يقل: (كل)!!. وقال - سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. وقد عاتب الله أصحاب نبيه عن استفسارهم عن سبب هزيمتهم في غزوة أحد، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. خامساً: كما ينبغي للمسلم عند وقوع هذه الأزمات أن يكون بعيد النظر؛ فلا يستبطئ النصر، ولا يستعجل ثمراته، متأسِّياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وهذا موقفٌ من مواقفه في ذلك: سألته عائشة - رضي الله عنها - يوماً: هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئتَ فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشَبَيْن»؟. فماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ هل قال: هذه فرصةٌ تُهْتَبل، ونصرٌ كبيرٌ بلا مؤونة؟ أو قال: هذه ساعةٌ أنتقم فيها من أعدائي؟ وأشفي فيها فؤادي؟ كلا! لم يقل ذلك كلَّه، إنما قال: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً»!![7]. سبحان الله، أيُّ صبر في سبيل الدعوة أجلُّ من هذا الصبر؟! تقرع الأحزان ساحته - صلى الله عليه وسلم - فيبددها بإيمانه، فترتد حسيرة، كأن لم تكن. إنه الإيمان الراسخ رسوخ الجبال الراسية، والجَنَان الثابت الموقن بنصر الله. فلم تكن تلك الشدائد - مع قسوتها - تحول بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين استشراف المستقبل، وإحسان الظن بالله. ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن غاية المؤمن أن يعمل، لا أن يرى النصر؛ بل قد تراه الأجيال بعده، وخير شاهد على ذلك قصة الغلام والساحر[8]؛ حيث أسلم الناس لما ضحَّى الغلام بنفسه؛ فوقع النصر بعد موته، وكان ما فعل تثبيتاً للناس في أن ما دعاهم إليه هو الحق، ووقع ما يخشاه الملك من إيمان الناس إيماناً حقيقياً؛ أُدخلوا لأجله في الأخاديد المضرمة بالنيران، فصبروا واقتحموا. وقال خَبَّاب - رضي الله عنه -: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نريد وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله، فمنَّا مَنْ مضى، لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمَيْر: قُتل يوم أحد، وترك نَمِرَةً، فكنَّا إذا غطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رِجْلَيْه شيئاً من إِذْخِر! ومنَّا مَنْ أينعت له ثمرته، فهو يَهْدِبُها"[9]. اللهم إنك تشاهدنا في سرَّائنا وضرائنا، وتطَّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلَغ بصائرنا، أسرارنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، نسألك برحمتك التي وسعت كل شيءٍ أن تهب لنا من لدنك نصراً عزيزاً، وفتحاً مبيناً، وعزّاً ظاهراً، وعيشاً نقيّاً، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] زاد المعاد: 3 / 204. [2] منقول بتصرف يسير من رسالة له بعنوان: " وجوب التعاون بين المسلمين "، ص 11. [3] أخرجه البخاري: ( 3852). [4] أخرجه أحمد 38 / 133 والنسائي في الكبرى (8858) من حديث البَرَاء بن عازب. [5] الكامل 12 / 358 - 500 - 501. [6] أخرجه مسلم: (1763). [7] أخرجه البخاري: (3059)، ومسلم: (1795). [8] أخرجها مسلم: (3005). [9] أخرجه البخاري (3897) ومسلم (940). __________________________________________________ ________ الكاتب: د. صالح بن فريح البهلال |
يوم كنا ويوم كنتم!
يوم كنا ويوم كنتم! هدى رفاعي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مَـلكْـنا فكان العَفْـو منَّا سَجـيَّـةً فـلمَّـا ملكْـتُـمْ سـالَ بالـدَّمِ أبْــطَــحُ وحَلَّلْـتُـمُ قتلَ الأسـارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح فحسْبُكُمُ هـذا التّـَفـاوتُ بيْـنَـنا وكـلُّ إِنـاءٍ بالـذي فـيـهِ يَنـْـضَــحُ من الأمور المعلومة لدى المختصين بالتاريخ، والمتتبعين لأحواله: أنه لا بد فيه من نزاعات وحروب بين الدول والأمم والشعوب، فصفحاته مُضَرَّجَةٌ بالدماء، ومساحته تتناثر فيها الأشلاء، ولا زال المشهد يتجدد إلى يومنا هذا، فيطل علينا ذلك الاجتياح الروسي لأوكرانيا؛ ذلك المشهد الذي يعيد القوة الروسية إلى الواجهة من جديد؛ ليؤكِّد تغيير ميزان القوى الدولية، ويعكس بشكل واضح نهاية الهيمنة أحادية القطبية للولايات المتحدة؛ والتي لا تختلف عن مثيلاتها من الدول التي تسعي للسيطرة على العالم، والتي تحكمها مصالحها دون الالتفات لأية قِيَم أو حقوق إنسانية، أو مبادئ ومواثيق دولية؛ هذه المواثيق الدولية والحقوق الإنسانية التي تظل حبيسة السجلات يتشدقون ويلوحون بها في المواقف التي تخدم مصالحهم! فمشهد الاعتداء على أطفال أوكرانيا ومدنها، واستخدام القنابل الفراغية؛ ما هو إلا صورة مصغَّرة من جملة الاعتداءات على المسلمين في أنحاء العالم، وهو تجسيد لبغي وعدوان هذه الدول حين امتلكت بعض القوة؛ فكيف لو ملكوا قوة كاملة، وحكموا بها العالم وحدهم دون غيرهم؟! وهذا فارق ما بينهم وبين المسلمين الذين اتهموهم بالإرهاب تارة، وبالعنف تارة أخرى، والذي نشاهده الآن برهان أكيد على أن دعاوى الإرهاب والعنف التي تُلصَق بالمسلمين ليل نهار هم منها برآء، والقوم أحق بها وأهلها! فيوم ملكوا القوة بغوا وطغوا، وجرائمهم ملأت السهل والوادي، وهم مَن أججوا الإرهاب، وصدَّروه للعالم. أما المسلمون فيوم ملكوا القوة وحكموا العالم وخاضوا حروبًا ومعارك، فلم يصنعوا صنيع هؤلاء، ولم يرتكبوا مثل جرائمهم؛ فعل المسلمون ذلك اتباعًا لدينهم، واقتداءً بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعملًا بوصايا خلفاء نبيهم وقادتهم، فقد قال الله تعالى: "*فَمَنِ *اعْتَدَى *عَلَيْكُمْ *فَاعْتَدُوا *عَلَيْهِ *بِمِثْلِ *مَا *اعْتَدَى *عَلَيْكُمْ *وَاتَّقُوا *اللَّهَ *وَاعْلَمُوا *أَنَّ *اللَّهَ *مَعَ *الْمُتَّقِينَ"، ومن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، *اغْزُوا *وَلَا *تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا"، ومن وصايا خلفاء نبيهم رضي الله عنهم: "لا تقتلن امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن، شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلًا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن". فالتاريخ الإسلامي شهد حقًّا ما يُسَمَّى بالفتح النبيل؛ تلك الفتوحات التي راعت حقوق النساء والأطفال، بل وحتى الحيوان، بل وحافظت على وجه الحياة الجميلة؛ مما دفع الناس للدخول في دين الله أفواجًا. فالحقيقة: إنه مِن الخطأ البيِّن أن توضع الفتوحات الإسلامية الراقية في مقارنة بينها وبين الحروب البربرية العدوانية ذات الأهداف الاستعلائية! |
فلسطين من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر
فلسطين من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر كتبه/ محمود عبد الحميد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإن الوجود الإسلامي في بيت المقدس وبلاد الشام بدأ مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وفي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية الشريفة، وفي خلافة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وتم الفتح بقوَّاد لم يعرف التاريخ مثلهم أمثال أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن أبي السرح، ويزيد بن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، وغيرهم من قواد المسلمين العظماء. ففي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية انطلقت أربع فرق من جيش المسلمين، إحداها بقيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، والأخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والثالثة بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والرابعة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح ووجهته حمص. ولقد استنفرت البدايات الأولى للانتصارات التي حققتها هذه الفرق القيادة البيزنطية التي أخذت تدرك أكثر فأكثر خطورة الدول الإسلامية الناشئة على وجودها في بلاد الشام. فحشد الإمبراطور هرقل جيشا كبيرا، ولَّى قيادته أخاه فردريك الذي تحرك صوب أواسط الشام، فكان على قادة الفرق الأربع أن يستشيروا القيادة المركزية في المدينة، فكان جواب أبي بكر -رضي الله عنه-: أن اجتمعوا عسكرًا واحدًا، والْقوا زحف المشركين بزحفكم فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره. وعند اليرموك، في أواسط سوريا تم اللقاء الحاسم بين الطرفين؛ وإذ طال اللقاء دون ظهور نتيجة نهايته أصدر أبو بكر -رضي الله عنه- أمره المعروف إلى خالد أن يغادر جبهة العراق، ويهرع لنجدة إخوانه في الشام، فقرر خالد اختزال الزمن ذي الأهمية الكبيرة في الحروب واجتياز الصحراء عبر خط مستقيم إلى هدفه بدلا من الطريق التقليدي الطويل. وبعد أيام قلائل لقيت فيها قوات خالد المصاعب والمتاعب وصل معسكر إخوانه في اليرموك، وتولى قيادة المعركة الحاسمة التي انتهت بسحق القوات البيزنطية وفتح الطريق أمام المسلمين لاجتياح المواقع والمدن الشامية الواحدة تلو الأخرى. وفي فلسطين تمكن عمرو بن العاص عند "أجنادين" من تحقيق انتصار لا يقل أهمية عن اليرموك، فقد فتح طريق لفتح المدن الفلسطينية وحصار القدس، ثم استسلامها أخيرا وتوقيعها شروط الصلح بحضور الخليفة عمر بن الخطاب نفسه الذي ما لبث أن عقد مع كبار قادته مؤتمرا في الجابية؛ لتحديد إستراتيجيات الفتوحات في المرحلة التالية، فانطلق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ففتح مصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس، وفتح أبو عبيدة -رضي الله عنه- دمشق واستخلف عليها يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وكانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وتم فتح المدائن، وفتحت همذان ثم الري ثم أذربيجان. وتم أول قتال بحري في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقد سمح لابن أبي سرح ومعاوية أن يبنيا أسطولا إسلاميا تمكن خلال سنوات قلائل من تحقيق عددا من الانتصارات كان أبرزها فتح قبرص ورودس، ومعركة "ذات الصواري" التي تم فيها سحق الأسطول البيزنطي المكون من خمسمائة قطعة بحرية، ولقد عاش المسلمون حياة العز في القرون الخيرية وملكوا أعظم دولة في التاريخ امتدت من الصين شرقا إلى فرنسا غربا وذلك في زمن وجيز فبعد ثلاث وثمانين سنة من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قتيبة بن مسلم قد دخل أرض الصين. ثم ما لبث أن دب الضعف في الدولة الإسلامية لانشغال الناس بالدنيا عن الآخرة، وانتشار الترف والمعاصي وظهور المناهج الفلسفية والفرق النارية، مما أدى إلى طمع الدول الكافرة في بلاد المسلمين ففي القرن الخامس الهجري كان حال الدولة الإسلامية سيء للغاية... فالخلافة في بغداد ضعيفة وليس للخليفة إلا الاسم، والعبيديون يحكمون مصر، وهم ليس عندهم أي حماس للدفاع عن الإسلام، والشام يحكمه عدد من الأمراء الضعفاء والحرب قائمة بينهم، وانتشرت البدع، فطمعت الدول المجاورة لبلاد الإسلام في دولة الإسلام فبدأت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وكانت الحملة الأولى سنة 1097م، إلى سنة 1099م، والتي انتهت بالاستيلاء على الرها وأنطاكية وبيت المقدس، وقتل آلاف المسلمين وعمل مذبحة عظيمة بالقدس قتل فيها 70 ألف مسلم. وذلك أنه في مارس سنة 1095م أرسل "ألكسيوس الأول" مرسليه إلى مجمع "بياشنزا" ليطلب من البابا "أوربانوس" المساعدة ضد الأتراك، تلقى البابا "أوربانوس" طلب الإمبراطور بكثير من الحفاوة، فكان يتمنى أن يلتئم الشرخ بين الكنيستين الذي كان عمره 40 عاما، وأراد إعادة توحيد الكنيسة تحت السلطة البابوية كرئيس أساقفة العالم، وذلك بمساعدة الكنائس الشرقية لدى استصراخها. وفي مجمع "كليرمون"، الذي عقد في وسط فرنسا في نوفمبر 1095 م، ألقى "أوربانوس" خطبة مليئة بالعواطف لحشد كبير من النبلاء ورجال الدين الفرنسيين، فدعى الحضور إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين، وقال: إن فرنسا قد اكتظت بالبشر، وأن أرض كنعان تفيض حليبا وعسلا، وتحدث حول مشاكل العنف لدى النبلاء، وأن الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب، فقال: "دعوا اللصوص يصبحون فرسانا"، وتحدث عن العطايا في الأرض كما في السماء، بينما كان محو الخطايا مقدما لكل من قد يموت أثناء محاولة السيطرة. ونشر "أوربان" الرسالة في أنحاء فرنسا، وحث أساقفته وكهنته بأن يعظوا في أسقفياتهم في بقية مناطق فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفي النهاية انضم أعداد كبيرة من الفقراء والفارين من اضطهاد حياتهم اليومية، فتحركت هذه الجموع في أغسطس 1096م، من "اللورين" بقيادة "جودفري" وانضم إليها أتباعه (أخوه الأكبر "الكونت يفتسافي" من "بولون" وأخوه الأصغر "بلدوين" من "بولون" أيضا، كما انضم إليه ابن عمه "جودفري"، و"الكونت بودوان" من "اينو" و"الكونت رينو" من "تول") على أثر الدعوة التي انطلقت لها حملة الفقراء. فمشت هذه الفصائل على طريق الراين -الدانوب التي سارت عليها قبلهم فصائل الفلاحين الفقراء- حتى وصلت القسطنطينية نهاية عام 1096. وفي مايو اجتمعت القوات الصليبية بعد عبورها مضيق "البسفور" لحصار مدينة "نيقية"، وقدم إمبراطور القسطنطينية "ألكسيوس كومينن" الإمدادات للصليبيين من المؤنة إلى آلات الحصار الذي استمر حتى 26 يونيو حيث استسلمت المدينة لقوات "ألكسيوس"، ومنع "ألكسيوس" قوات الصليبيين من دخول المدينة ونهبها، وامتصاصا لغضبهم قدم لهم الهبات والمنح للأمراء وطبقات الفرسان، وأمر بتوزيع قطع نحاسية على المشاة. بعد تسليم المدينة للقوات البيزنطية تقدمت قوات الصليبيين إلى القدس، وخلال المسير تقرر تقسيم الجيش إلى قسمين نظرا لكثرته، على أن تكون المسافة الفاصلة بينهما مسيرة يومين. وفي هذه الأثناء حشد "قلج أرسلان" حاكم "قونية" جموعه لصد الصليبيين بعدما اخذوا منه "نيقية" إلا أنه تعرض لهزيمة شديدة في معركة "ضورليوم"، ومهد هذا النصر للصليبيين الاستيلاء على مدن وحصون عديدة في الأناضول بسبب إخلاء السلاجقة لها ومعاونة الأرمن لهم. وقبل مسير الصليبيين إلى أنطاكية لحصارها انفصل "بلدوين" عن الجيش الرئيسي مصطحبا معه ثمانون فارسا بعدما طلب منه أهالي الرها القدوم إليهم لنجدتهم. وكانت الرها تحكم من قبل أمير أرمني يسمى "طوروس" الذي كان يخضع للسلاجقة الذي أراد أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا له بعدما سمع بانتصارات الصليبيين، إلا أن فكرة أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا لـ"طوروس" لم يتقبلها "بلدوين" فتقرر أن يتبنى "طوروس" "بلدوين" كابنٍ له لاسيما كون "طوروس" رجلا عقيما ومسنا. ولكن قامت بعدها ثورة في الرها أسفرت عن مقتل "طوروس" وتنصيب "بلدوين" حاكما على الرها كوريث لـ"طوروس". أما الجيش الرئيسي للصليبيين فتابع مسيرته حتى أنطاكية حيث استمر في حصارها طوال ثمانية أشهر ابتداء من 20 أكتوبر حتى 3 يوليو، حيث دخل الصليبيون أنطاكية بعد خيانة أحد المستحفظين على الأبراج، ويدعى "فيروز"، الذي مهد لهم للصعود إلى أحد الأبراج وفتح الأبواب والدخول إلى المدينة. وأسفرت الحملة الأولى عن احتلال القدس عام 1099 وقيام مملكة القدس اللاتينية بالإضافة إلى عدّة مناطق حكم صليبية أخرى ، كالرها (أديسا) وإمارة أنطاكية وطرابلس بالشام. ولعبت الخلافات بين حكام المسلمين المحليين دورا كبيرا في الهزيمة التي تعرضوا لها، كالخلافات بين الفاطميين بالقاهرة، والسلاجقة الأتراك بنيقية بالأناضول وقتها. وباءت المحاولات لطرد الصليبيين بالفشل، كمحاولة الوزير الأفضل الفاطمي الذي وصل عسقلان، ولكنه فر بعدها أمام جيوش الصليبيين التي استكملت السيطرة على غالبية الأراضي المقدسة. ثم توالت الحملات على بلاد المسلمين للسيطرة على البلاد وتحويل المسلمين عن دينهم، فكانت الحملة الصليبية الثانية 1147 إلى 1149م قادها "لويس السابع" ملك فرنسا و"كنراد الثاني" إمبراطور ألمانيا، وتصدى لهم نور الدين زنكي، وقتل عددا كثيرا منهم في آسيا الصغرى، ثم ردت الحملة على أعقابها. وفي عام 1187م وقعت موقعة حطين الشهيرة بقيادة البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، وانتهت بهزيمة الصليبيين وإعادة بيت المقدس والإمارات الأخرى التي احتلها الصليبيين في الحملة الأولى. ثم كانت الحملة الثالثة 1189 إلى 1192م التي قادها "فردريك برباروسا" إمبراطور ألمانيا و"ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا و"فيليب أغسطس" ملك فرنسا، وتصدى لها المسلمون وأفشلوا هذه الحملة وانتهت بعقد صلح "الرملة" 1192م. ثم كانت الحملة الصليبية الرابعة 1202 إلى 1204م والتي قادها أمير فرنسا، وكان من نتائجها أنها عادت أدراجها بعد الفشل الذريع التي منيت به هذه الحملة. ثم كانت الحملة الصليبية الخامسة 1218 إلى 1221م والتي قادها الملك "يوحنا دي برين" ملك الجزء المتبقي من بيت المقدس، تساعده أوروبا، وفشلت هذه الحملة، وعجزت عن الاستيلاء على مصر، ثم عقد صلح انسحبت على أثره الحملة الصليبية. ثم كانت الحملة الصليبية السادسة 1228 إلى 1229م قادها "فردريك الثاني"، وانتهت بعقد صلح بين الملك الكامل والصليبيين، سلم على أثره بيت المقدس وبيت لحم والناصرة للصليبيين عشر سنوات. وفي سنة 1244م تمكن المسلمون من إعادة بيت المقدس بقيادة الملك الصالح نجم الدين، ثم كانت الحملة الصليبية السابقة 1248 إلى 1250م والتي قادها "لويس التاسع" ملك فرنسا وانتهت بهزيمة الصليبيين وأسر لويس التاسع. وتوالت بعدها حملات صليبية أدت بعدها إلى تقسيم البلاد الإسلامية وخضوعها للبلاد الصليبية وكانت هناك جهود مخلصة من بعض قواد المسلمين وصالحيهم وبطولات وقف عندها التاريخ طويلا، كجهود عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود بن زنكي، وأسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم. نتحدث عنهم في حلقات قادمة. |
المسجد الأقصى في السيرة النبوية
المسجد الأقصى في السيرة النبوية المسجد الأقصى هو مَسْرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه عُرِجَ به إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء الآية: 1]، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربـطـته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم عـُرِجَ بي إلى السماء» (رواه مسلم). فكانت صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج دلالة واضحة على أن آخر صِبغة للمسجد الأقصى هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمة الإسلامية التي أمَّ رسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ سائر الأنبياء فيه، ولا شك كذلك أن في اقتران العروج بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات العلى بالمسجد الأقصى دليل على مدى ما لهذا البيت من مكانة عند الله تعالى، ومنزلة عالية عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته . والمسجد الأقصى قبلة الأنبياء وقبلة المسلمين الأولى، وذكر القرطبي وغيره عند تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران الآية:96] " إن أول بيت وضع في الأرض للعبادة هو بيت الله الحرام بمكة المكرمة - حرسها الله -، وبعده المسجد الأقصى بأربعين عاماً "، ثم قال: " ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أول مسجد وضع في الأرض؟، قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟، قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟، قال: «أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فحيث أدركتك الصلاة فصلِّ». وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلَّى، أو صلَّاها، صلاةَ العصرِ وصلَّى معَه قومٌ، فخرَج رجلٌ ممن كان صلَّى معَه فمرَّ على أهل المسجد وهم راكِعون، قال: أشهَدُ بالله، لقد صلَّيتُ معَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وكان الذي مات على القِبلةِ قبلَ أن تُحَوَّلَ قِبَلَ البيتِ رجالٌ قُتِلوا، لم نَدرِ ما نقول فيهِم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة من الآية:143] (رواه البخاري). والمسجد الأقصى مسجد بارك الله فيه وحوله، والصلاة فيه فضلها كبير، ولا يستطيع الدجال أن يدخله، فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثا: حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه: سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أو في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟، فقال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المُصَلَّى هو، أرض المحشر والمنشر، وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط ـ أو قال قوس الرجل ـ حيث يرى منه بيت المقدس خير له أو أحب إليه من الدنيا جميعا» (رواه الطبراني وصححه الألباني). وعن جنادة بن أبي أمية ـ رضي الله عنه ـ قال: انطلقت أنا وصاحب لي إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الدجال، ولا تحدثنا عن غيرك وإن كنت في نفسك ثبتا، فقال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنذركم الدجال» – ثلاثا - فإنه جعد، آدم (أسود)، ممسوح العين اليسرى، تمطر السماء ولا تنبت الأرض، معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار، معه جبل خبز ونهر ماء، يمكث في الأرض أربعين صباحا يبلغ فيها كل منهل، ليس أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيت المقدس، والطور، يسلط على نفس واحدة يقتلها ثم يحييها ولا يسلط على غيرها، ألا وإنه يقول: أنا ربكم، فمن شُبِّه عليه فاعلموا أن الله - عز وجل - ليس بأعور» (رواه أحمد). والمسجد الأقصى من المساجد الثلاثة التي تُشد لها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «لا تشد (وفي لفظ: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» (رواه البخاري). فائدة : المسجد الأقصى لم يُجعل حرماً كالمسجد الحرام في مكة التي حرمها إبراهيم ـ عليه السلام ـ، ولا كالمسجد النبوي في المدينة التي حرمها نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولذلك يقول العلماء أنه لا يصح وصف المسجد الأقصى بأنه حرم، وأن يقال عنه: ثالث الحرمين . قال ابن تيمية: " وأما المسجد الأقصى: فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال .. والأقصى: اسم للمسجد كله، ولا يُسمى هو ولا غيره حرماً، وإنما الحرم مكة والمدينة خاصة ". وقال الشيخ ابن عثيمين: " فإن بعض الناس يقول عن المسجد الأقصى ثالث الحرمين، وهذا يوهم أن المسجد الأقصى له حرم، والمسجد الأقصى ليس له حرم، بل هو كسائر المساجد لا حرم له .. وليس في الشرع إلا حَرَمان اثنان فقط، أحدهما وهو أشرفهما وأعظمهما: حرم المسجد الحرام في مكة المكرمة، والثاني: حرم المسجد النبوي في المدينة النبوية، وليس هناك حرما ثالث " . وفي رحلة الإسراء والمعراج وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكثيرة المتعلقة بالمسجد الأقصى ظهر فضله وأهميته، مما جعل له مساحة كبـيرة في قلوب المسلمين، وفي الـتـاريخ الإسلامي، وقد حافظ المسلمون على مفاتيح القدس منذ استلمها عـمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، حتى جاء مِنْ بعده مَنْ فرط فيها، فعلى المسلمين أن يعرفوا منزلته ومكانته، ويستشعروا مسئوليتهم نحوه، بتحريره من أيدي اليهود .. منقول |
رد: المسجد الأقصى في السيرة النبوية
حسبي الله ونعم الوكيل
|
رد: المسجد الأقصى في السيرة النبوية
فك الله أسر المسجد الأقصي
|
مدينة القدس.. الجامعة الحارسة!
مدينة القدس.. الجامعة الحارسة! مثلما جعل الله تعالى للناس زماناً شريفاً فاضلاً تتنزَّل فيه الرحمات، وتَعظم فيه النفحات، ويكون هذا الزمان بذلك التكريم محلاً لاجتهاد الصالحين، وميداناً لتسابقهم في الاغترافِ من هذا الشرف والفضل، والنَّهَلِ من تلك المكانة الممنوحة؛ فكذلك الحال في الأمكنة! فلقد فضَّل الله تعالى بعض الأمكنة على بعض، وجعلها مثابة للناس وأمناً، وخلع عليها من رحماته وأفضاله ما ميزها على ما سواها، وما جعلها ذات مكانة مميزة عند عباده الطائعين. ومدينة القدس هي من تلك الأمكنة المشرفة والمفضلة؛ بارك الله فيها وحولها، ورفع قدرها بإيجاد المسجد الأقصى فيها، ذلك المسجد الذي ربط الإسلام بينه وبين المسجد الحرام في الرحلة المعجزة، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١]، كما أنه مسجد تضاعف فيه الصلوات[1]، وكان محطاً ومَجمعاً للأنبياء والرسل، وقبلة أولى للمسلمين قبل أن يؤمروا بدوام التوجه لبيت الله الحرام بمكة المكرمة. هذه الأمكنة التي شرفها الله وفضلها من سائر الأماكن، ليست مجرد بناء من الحجارة والأخشاب، ولا تتفاضل على ما عداها بما فيها من كنوز وماديات؛ إنما هي أبنية تتجسد فيها المبادئ، وأمكنة صارت مَعْلَماً على قيم محددة، وبقدر ما تكون هذه المبادئ وتلك القيم ذات أهمية وعلو ورسوخ، تكون الأمكنة أيضاً بالضرورة ذات أهمية وعلو ورسوخ. ونستطيع أن نبرز ما لمدينة القدس من أهمية وتميز في المنظور الإسلامي وفي وجدان المسلمين، من خلال الإشارة إلى بُعْدَين مهمين توافرا لهذه المدينة، وميَّزاها من بين المدائن، وهي أنها المدينة الجامعة الحارسة. القدس.. المدينة الجامعة: لقد كانت مدينة القدس جديرة بأن توصف بأنها المدينة الجامعة؛ لأنها المدينة التي شهدت ميلاد وحياة وبطولات كثير من الأنبياء؛ بل يكفيها أن توصف بهذا الوصف لأنها شهدت اجتماع الأنبياء جميعاً في بيت المقدس، ليلة الإسراء والمعراج، حين صلى بهم إماماً خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان ذلك إيذاناً بهيمنة رسالته الخاتمة على كل الرسالات، وبانتقال بيت المقدس إلى عهدة الإسلام وأمانة المسلمين. في مدينة القدس عاش داود وسليمان عليهما السلام، وعاش عيسى وأمه عليهما السلام، وعلى مقربة منها دُفن خليل الرحمن إبراهيم[2]، ثم جُمع الأنبياء خلف خاتمهم صلى الله عليه وسلم، إنها حقاً المدينة الجامعة! إن للقدس - من دون سائر المدن - مكانة مميزة عند أصحاب الرسالات السماوية الثلاث، حتى ولو لم يرها موسى عليه السلام، ولو لم تتنزل فيها التوراة شريعة اليهود، وقد عاش فيها أصحاب الرسالات الثلاث في وئام وسلام تحت راية الإسلام قروناً عدة، قبل أن تعصف الأهواء بأصحاب المطامع والمشاريع الاستيطانية، الذين وجدوا الدعم الكامل من الغرب الاستعماري؛ فعاثوا في المدينة فساداً، وحرموها من أن تظل كما كانت مدينة جامعة لأتباع الأنبياء. فالقدس وإن كانت مدينة جامعة بحق فإنها لم تتمتع بهذه الجامعية إلا في رحاب الإسلام، الذي أتاح الأمان لكل المنضوين تحت رايته، وصان دماءهم وأعراضهم، وأمَّنهم على بِيَعهم وكنائسهم، وجعل الإيمان بكل الأنبياء دون تفرقة ركناً أساسياً لا يتم إيمان المسلم دونه: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: ٥٨٢]، لقد عاش اليهود في كنف القدس تحت راية الإسلام، قبل الحروب الصليبية وقبل الاستعمار الحديث، مواطنين متمتعين بالحقوق التي يتمتع بها المسلمون في هذه المدينة، وكذلك عاش النصارى. وكان الاستعمار الخارجي - قديماً في الحروب الصليبية، وحديثاً في غزوة نابليون بونابرت لمصر وفلسطين - حريصاً على انتزاع صفة الجامعية عن مدينة القدس، وذلك بأن يهدم التعايش الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم في صحيفة المدينة، وحرص عليه المسلمون بعده؛ حتى يسهل له النفاذ لعمق البلاد الإسلامية، وليجد مبرراً لتدخُّله تحت زعم حماية الأقليات الدينية! فقد تحالف نابليون مع اليهود، عندما غزا مصر عام 1798م، ووقف في أبريل عام 1799م أمام أبواب مدينة عكا، وأصدر نداءه الشهير إلى اليهود، والذي جاء فيه: «إن العناية الإلهية التي أرسلتني على رأس هذا الجيش إلى هنا، قد جعلت رائدي العدل، وكلفتني بالظفر، وجعلت من القدس مقري العام، وهي التي ستجعله بعد قليل في دمشق، التي لا يضير جوارها بلد داود.. يا ورثة فلسطين الشرعيين.. انهضوا، وبرهنوا على أن القوة الساحقة التي كانت لأولئك الذين اضطهدوكم، لم تفعل شيئاً بسبيل تثبيط همة أبناء هؤلاء الأبطال الذين كانت محالفة إخوانهم تشرف إسبرطة وروما»[3]. ففي عهد الإسلام وأمانه، كانت القدس مدينة جامعة، توفر الأمان والكرامة والحقوق لكل أبنائها، بينما في عهد غيره أريد لها أن تكون مدينة مفرِّقة، لا يتساوى ساكنوها في الحقوق وفي صون الدماء والأعراض ودور العبادة، بل لا تعرف إلا لوناً واحداً من الدين والفكر؛ وليذهب من يخالفون ذلك إلى خارج المدينة، أو ليبقوا فيها عبيداً أذلاء! القدس.. المدينة الحارسة: كما أشرنا، فإن مدينة القدس لها مكانة راسخة متميزة في قلوب المسلمين، لما ميزها الله تعالى وحباها من نفحات، ومن ثم كان المسلمون- وما زالوا - يتنادون لمصابهم فيها. ولأن مدينة القدس كثيراً ما كانت مرمى لسهام الأعداء، وهدفاً لأطماعهم وحملاتهم العسكرية، قديماً وحديثاً؛ فإنها صارت رمزاً لهذا التدافع الحضاري؛ الذي يجري على أسنة الرماح وعلى حد السيوف وضربات المدافع! وأصبح المسلمون يتنادون ويتناصرون كلما أصاب القدس مصاب، وحلَّ بها بلاء، بأكثر مما يتنادون ويتناصرون لأي مصاب أو بلاء آخر. وبهذا التنادي والتناصر للقدس، صار يحصل للمسلمين من استجماع الطاقات، واستنفار الهمم، وتوحيد الصفوف.. ما لا يحصل لهم بغيره. فكأن القدس - ويا للمفارقة - تحولت إلى مدينة حارسة للمسلمين ولقيمهم، ولنخوتهم وفروسيتهم، واتحادهم، لا أن المسلمين هم من يحرسونها! ولذا، فنحن نرى بأعيننا أن المسلمين يتدافعون ويتناصرون لمصاب القدس، ولمصاب فلسطين عامة، بأكثر من أي مصاب آخر، فهي - بحق - قضيتهم المركزية، التي معها يتعالون على خلافاتهم وجراحاتهم وهمومهم، ولا توجد قضية أخرى يتوحد عليها المسلمون- من جاكرتا بإندونيسيا إلى طنجة بالمغرب - مثل قضية القدس وفلسطين. ولننظر مثلاً كيف تفاعل العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، ومعه الجاليات الإسلامية في أوربا وأمريكا، ومعهم أحرار العالم؛ تجاه غلق الكيان الصهيوني بوابات المسجد الأقصى ومنع الصلاة فيه ومحاولة فرض بوابات إلكترونية على مداخله، في شهر يوليو الماضي، حتى استطاع المرابطون في الأقصى أن ينتصروا على إرادة الاحتلال، وأن يستعيدوا الأقصى كما كان قبل الأزمة. كذلك، فلننظر كيف هب المسلمون في كل قارات العالم، لرفض قرار الرئيس الأمريكي، في 6 ديسمبر الماضي، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتبار المدينة المقدسة عاصمة الكيان الصهيوني، مؤكدين مكانة القدس في الوجدان العربي والإسلامي. ولو أننا نرى مثل هذا التفاعل الحار من العالم الإسلامي - على تنامي أطرافه - تجاه قضاياه الأخرى، وهي كثيرة؛ لما كان المسلمون في هذه الحالة من الضعف والاستكانة، ولما تجرأ عليهم غيرهم واستخف بحقوقهم. فالقدس حارسة للوعي والضمير الإسلامي، الذي يجب أن يكون منتبهاً دائماً إلى ضرورة وحدته، وإلى أهمية وقوفه صفاً واحداً لمواجهة الأخطار الخارجية، وإلى أن ما يجمع العرب والمسلمين أكثر مما يفرقهم، بل إن تجمعهم هو الوسيلة لقطع الطريق على ما يمكن أن يفرقهم ويمزق صفوفهم. نعم، إن القدس هي المدينة الحارسة للعقل المسلم، وهي الكفيلة بأن تضبط البوصلة على الاتجاه الصحيح والطريق المستقيم، بعيداً عن متاهات الطرق الجانبية. [1] الصواب أن الصلاة في المسجد الأقصى بمئتين وخمسين صلاة، لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «تذاكرنا ونحن عند رسول الله أيهما أفضل؛ مسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مِثْل شَطَنِ فَرَسِهِ من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس خيراً له من الدنيا جميعاً». رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي والألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم (2902). [2] «مكانة بيت المقدس»، د. عبد الحليم عويس، ص27، 28، مركز الإعلام العربي، ط2، 2007م، باختصار. [3] «القدس الخالدة»، د. عبد الحميد زايد، ص270، تقديم د. عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 2000م. ________________________________________________ الكاتب: السنوسي محمد السنوسي |
بذور الأمل تنبت حول القدس
بذور الأمل تنبت حول القدس الحمدُ للَهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ: في القدس حيث تقف الأحجار بجانب إنسانِه تقذف مستعمريه، في القدس يكتب التاريخ حروفه بمداد من لحم ودم، في القدس شاهدٌ على أمَّة حيَّة لا تموت آمالها، لأن بذورها غرستها آيات من الرحمن تنبت كلَّ يوم. في القدس تمشي البشارات على قدمين، لا تُوهِن الآلامُ من عزم أبنائه بل تهون، وحين يُسأل عن تلك الجبال الشامخات مصدرِ ثباتِها، نقول: ذلك سرٌّ لا يعلمه إلا المستيقنون. لا هراوات المستوطنين، ولا هرولات المطبعين ولا نكوص الساقطين الراقصين على أشلاء شهدائها يقتل الحلم البريء فوق أفواه أطفالها. قرارات أممية، اتفاقات السلام، مؤتمرات أو تعهدات، صفقة القرن أيّاً كان الوصف أو المعنى أو الأهداف خفيُّها وجليُّها... وتبقى القدس أرض الأنبياء ومسرى نبيِّه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، لا تسلم نفسها للطامعين. ثمة تجربة أجريت على عجماوات تُركت في إناء تصارع الموت دون أيِّ نجدة أو مُعين، فلم تلبث إلا 15 دقيقة واستسلمت للموت. وحين أعيدت التجربة مع مجموعة أخرى أضيفت لها جرعة من أمل بأن أُنقِذت في لحظتها الأخيرة، ثم أعديت مرة أخرى إلى إناء الموت فظلت تقاوم 60 ساعة؛ ذلك أن يد المنقذ أحيت في نفوسها الأمل فقاومت وقاومت حتى إذا يئست هلكت. هذه قصة تجربةِ عجماواتٍ مع بني الإنسان. فما بالنا ونحن نفخة من روح الرحمن الذي وعد عباده أنهم لَهُم المنصورون، وأن جنده لهم الغالبون. القدس لا نرى غدها اليوم حلماً بل يقيناً إنَّا عائدون. منقول |
الشذوذ الجنسي .. أحدث انحرافات العصر
الشذوذ الجنسي .. أحدث انحرافات العصر كنت أسير منذ بضعة أشهر في اروقة "معرض بيروت الدولي للكتاب"، حين استوقفني أحد الأجنحة الفارغة من الكتب، فتوقفت أقرأ الإعلانات المعروضة في هذا الجناح، والتي تحمل عنوانا عريضا واحدا " انا مثلي"... بقيت هذه العبارة تتردد مرات ومرات في ذهني بشكل تلقائي ودون أن استوعب معانيها، فجأة مدّت الفتاة المسؤولة عن الجناح يدها لتعطيني وريقات تعريف بمحتويات الجناح، عندئذ انتفضت بسرعة وكأن حية لسعتني، وقلت للفتاة بشكل عفوي وغاضب "الموضوع لا يهمني على الاطلاق". فما كان من الفتاة إلا أن أخذت الورقة ووضعتها في مكانها بشكل لا مبالي وكأنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيه مثل هذا الموقف... بقيت هذه الحادثة عالقة في خاطري، إلى ان لفت انتباهي أحد الاعلانات لبرنامج" لا يمل" التلفازي المشهور، والذي يجسد في أحد لقطاته شخصيتي اثنين من مثليي الجنس، يتحاوران باسلوب ماجن، فاجر، ساقط، ينم عن المستوى الهابط لبعض البرامج التلفازية التي تدعي أنها تضحك الناس وترفه عنهم، بينما هي في الحقيقة تؤسس - بوعي أو بغير وعي- لقبول بعض التصرفات الشاذة التي لا يقبلها دين ولا شرع... خبر آخر استوقفني، وهو ذلك الذي نشرته صحيفة الوطن السعودية في عددها الصادر في 24_ 12_ 2008م.، ومفاده أن "قاضيا كويتياً وافق على تزويج فتاتين احداهما من جنسية عربية في سابقة تشهدها البلاد لأول مرة ". إن وجود الشذوذ الجنسي في المجتمعات العربية والإسلامية أمر ليس بالجديد ربما، وكتب التاريخ تتقل بعض القصص التي حدثت قديما، ولكن الجديد في الأمر هو اتجاه بعض الناس إلى الدفاع عن هذا الشذوذ، والترويج له، والدعوة إليه، والقبول به، كأمر طبيعي لا دخل للإنسان في إيجاده أو دفعه... ومما شجع على انتشار هذه الظاهرة أمور عدة: 1- الدعم الدولي للشاذين والشاذات، وهذا الدعم قد يكون معنوياً أو مادياً، ويأتي الدعم المعنوي عبر اضفاء الصبغة القانونية على هذا النوع من الشذوذ. ويتولى هذا الأمر المؤتمرات الدولية التي تشرع هذا العمل وعلى رأسها مؤتمر بكين 95 وتفرعاته الذي يدعم حرية الشذوذ بحجة حرية المرأة والمساواة في الجندر بمعنى إلغاء كل الفوارق بين الرجل والمرأة. كما يأتي أيضاً عن طريق المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية التي "شطبت الشذوذ الجنسي كمرض نفسي عقلي ليصير عملا سويا لا ضرر فيه". اما الدعم المادي فيأتي عن طريق التمويل المالي الذي تقدمه بعض المنظمات والجهات المانحة للجمعيات التي تمثل الشاذين، ومن بين هذه المنظمات: البنك الدولي الذي قدم" مساعدة مالية للمنظمة التركية الوحيدة التي يتجمع تحت لوائها الشاذون الأتراك وهي "كاووس ج.ل." في أكتوبر/تشرين الأول 2005 لتنظيم ورشات تتدارس مشاكلهم في تركيا ". ومن الجهات الداعمة الولايات المتحدة الأميركية التي ذكر موقع " حماسنا " على الشبكة العنكبوتية أنها تقدم دعماً ماديا كبيرا للشواذ في العالم العربي. وكذلك أعلن الموقع نفسه أن هناك علاقة بين اسرائيل وعدد من الجمعيات العربية، وأن مواقع الشذوز تدار من " تل أبيب". 2- انشاء الجمعيات التي تدعو إلى هذا الشذوذ وتنشره، وأولى هذه الجمعيات التي أنشئت في لبنان عام 2006 م. جمعية " حلم"، التي استحصلت على رخصة قانونية لها من الدولة اللبنانية، وهي تمارس نشاطها بشكل عادي، كما أنها تقوم بأنشطة في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، وهي تسعى لخلق جماعات صديقة كما يقول مؤسسها ورئيسها " جورج قزي". أن هذه الجمعية ليست الوحيدة في هذا المجال في لبنان، فللأسف، هناك جمعية أخرى خاصة بالشاذات، ولديها مجلة الكترونية ومدونة خاصة تصدر عنها، وهي تهدف كما تقول عن نفسها إلى إلغاء " الوصم والتمييز اللاحق بالنساء بسبب ميولهن الجنسية ". 3- الدعم الإعلامي لهذا النوع من الشذوذ فإضافة إلى بعض البرامج الماجنة التي تتعرض لهذا الموضوع بشكل ساخر، تظهر بعض البرامج الحوارية -التي تعتبر نفسها جادة- وتستضيف الشاذين في برامجها وتحاورهم وتدافع عنهم وتستضيف الباحثين الذين يبررون هذه تصرفاتهم ويدعون إلى تقبلهم كفئة من المجتمع لها حقوق وعليها واجبات... هذا ويأتي الدعم الاعلامي للشذوذ ايضاً عن طريق بعض الأفلام السينمائية العربية التي تسعى إلى تجسيد هذه الظاهرة في سابقة خطيرة لم تكن معروفة، بل وكانت مستنكرة، وقد حاول أحد هذه الأفلام تقديم صورة الشاذ على أنه ضحية للمجتمع. إن خطورة الشذوذ الجنسي لا يكمن في وجوده بالدرجة الأولى، ولكن خطورته تكمن في محاولة نقل التجربة الغربية إلى المجتمعات العربية، والسعي لإسقاطها على مجتمعاتنا كما هي، والدعوة إلى شرعنتها من الناحية الفقهية والقانونية، متناسين نتائج انتشار هذه الظاهرة في الدول الغربية والآثار السلبية الخطيرة التي تركتها على المجتمعات هناك، ومن بينها التفكك الأسري، والانحرافات الأخلاقية، والأمراض الجديدة التي لم تعرف سابقا، وعلى رأسها مرض الإيدز الذي يقتل سنويا حوالي ربع مليون شخص وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية... من هنا فإن الواجب على المسلمين وغير المسلمين التكاتف والعمل يد واحدة من أجل محاربة هذا الشذوذ بشتى الوسائل الفردية والجماعية، ومن هذه الوسائل: السعي لسحب التراخيص عن مثل هذه الجمعيات ومحاربتها وكشف سوءاتها للمجتمع... ومنها أيضا استصدار القوانين والتشريعات التي تحرم هذه الظاهرة وتفرض العقوبة الشديدة والمغلظة عليها، خاصة في حال الجهر بها والمباهاة بها. يقول المفتي الجوزو في الشذوذ الجنسي انها جريمة " أشد خطرا من جريمة الزنا -على قبحها- لأن الشذوذ محرم عقلاً وطبعاً وشرعاً، وحرمته لا تزول أبداً، ولذلك فكل من يبيحه يعتبر مرتداً عن شريعة الله، واقعاً في حد من أخطر حدوده". ويؤكد المفتي الجوزو أن هذا الفعل ليس مرضاً، بل هو اختيار سلوكي، "ومن هنا فالتعاطف مع هؤلاء مرفوض مطلقا". و يؤكد هذا الكلام بعض علماء النفس الذين يقولون " إن المثلية الجنسية ليست مرضاً أو تشويهاً وإنما حالة يمكن علاجها في حال......... وُجدت الرغبة في المعالجة". أما في حال الإصرار على هذه الجريمة فإن الحكم الشرعي في هذا الفعل يتراوح بين تطبيق حد الزنا على فاعله والذي هو الرجم في حال الإحصان (الزواج) والجلد في حال عدم الإحصان عند البعض، وبين القتل للفاعل والمفعول به لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). إن شدة العقوبة التي فرضها الإسلام على هذا الفعل لهو أكبر دليل على أن هذا الفعل هو مخالف للفطرة الإنسانية التي تحصر العلاقة الجنسية في إطار الزواج الشرعي الذي يتم بين المرأة والرجل، فمن أخل بهذه القاعدة يكون مخالفا للفطرة الإنسانية. ________________________________________________ الكاتب: د. نهى عدنان قاطرجي |
فضائل بيت المقدس
فضائل بيت المقدس عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر عباد الله، اتقوا الله - تعالى - فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، معاشر المؤمنين، عباد الله، يزداد ألم المسلمين وأسفهم يومًا بعد يوم على الحال التي آلَ إليها المسجد الأقصى من تسلُّط اليهود المجرمين عليه، وانتهاكهم لحُرمته، واعتدائهم على قُدْسيته ومكانته، وارتكابهم فيه ومع أهله أنواعًا كثيرة من التعديات والإجرام، والمسجد الأقصى - عباد الله - مسجد عظيم مبارك، له مكانة عالية في نفوس المؤمنين، ومنزلة رفيعة في قلوبهم، فهو مسجد خُصَّ في الكتاب والسُّنة بميزات كثيرة، وخصائص عديدة وفضائل جمَّة، تدل على رفيع مكانته وعظيم قدره، فمن فضائله - عباد الله - أنه أحد المساجد الثلاثة المفضلة التي لا يجوز شد الرحال بنية التعبُّد إلا إليها؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى»؛ (متفق عليه). ومن فضائله أنه ثان مسجد وُضع في الأرض؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أول، قال: «المسجد الحرام»، قلتُ ثم أي، قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما، قال: «أربعون سنة»، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلهْ؛ فإن الفضل فيه))؛ (متفق عليه). ومن فضائله - عباد الله - أنه قِبلة المصلين الأُولى قبل نسخ القبلة وتحويلها إلى الكعبة؛ فعن البراء - رضي الله عنه - قال: "صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه نحو القِبلة"؛ (متفق عليه). ومن فضائله أنه مسجد في أرض مباركة؛ قال الله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وقد قيل لو لم تكن لهذا المسجد إلا هذه الفضيلة، لكانت كافية. وأرضه - عباد الله - هي أرض المحشر والمنشر؛ فعن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: «أرضُ المحشر والمنشر»؛ (رواه ابن ماجه). ومن فضائله أنه مَسْرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنه عُرج به إلى السماء؛ فعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُتيت بالبراق وهو دآبة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغلة، يضع حافره عند منتهى طَرْفه، فركبتُ؛ حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليتُ فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام - بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل: اخترت الفِطرة، ثم عُرِج بنا إلى السماء»؛ (رواه مسلم). ومن فضائله - عباد الله - أن الصلاة فيه تُضاعَف؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل؛ أمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلَّى هو، وليوشكنَّ أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض، حيث يرى منه بيت المقدس، خير له من الدنيا جميعًا»، قال أو قال: «خير له من الدنيا وما فيها»؛ (رواه الحاكم، وهو حديث صحيح). وهذا - عباد الله - عَلَمٌ من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث بيَّن ما سيؤول إليه المسجد الأقصى، مع تعلُّق قلوب المسلمين به، وأن مؤامرات الأعداء على المسجد الأقصى ستزداد، حتى إنّ المؤمن ليتمنَّى أن يكون له موضع صغير يُطِل منه على المسجد الأقصى، ويكون ذلك أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها. ومن فضائله - عباد الله - ما ورد في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما فرغ سليمان بن داود - عليهما السلام - من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا؛ حُكمًا يصادف حكمه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه»، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أما اثنتان فقد أُعطيهما، وأرجو أن يكون أُعطي الثالثة»؛ (رواه النسائي، وابن ماجه). عباد الله: يجب علينا أن ندرك أن عدوان اليهود على المسجد الأقصى، وعلى أرض فلسطين، وعلى المسلمين في فلسطين، ليس مجرد نزاع على أرض، وأن ندرك أن قضية فلسطين قضيةٌ إسلامية، يجب أن يُؤرِّق أمرُها بال كل مسلم، ففلسطين بلد الأنبياء، وفيها ثالث المساجد الثلاثة المعظمة، وهي مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيها قِبلة المسلمين الأُولى، وليس لأحد فيها حقٌّ إلا الإسلام وأهله؛ {الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف : 128]، ويجب علينا - عباد الله - أن ندرك أن تغلب هذه الشرذمة المرذولة، والفئة المخذولة وتسلُّطهم على المسلمين، إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي، وإعراض كثير من المسلمين عن دينهم الذي هو سبب عِزهم وفلاحهم ورِفْعتهم في الدنيا والآخرة؛ قال الله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فلا بد - عباد الله - من عودة صادقة وأوْبَة حميدة إلى الله - جلّ وعلا - فيها تصحيح للإيمان وصلة بالرحمن، وحِفاظ على الطاعة والإحسان، وبُعد وحذر من الفسوق والعصيان؛ لينال المؤمنون بذلك العزّ والتمكين، والنصر والتأييد، وعليكم - عباد الله - بالصدق مع الله - تبارك وتعالى - في الدعاء؛ فإن المؤمن في كل أحواله وجميع شؤونه؛ في شدته ورخائه، وسرائه وضرَّائه لا مفزع له إلا الله، ولا ملجأ له إلا إلى ربِّه وسيده ومولاه، يتوجه إليه بالدعاء والأمل والرجاء. فيا إلهنا، يا إلهنا، إليك المشتكى وأنت حسيبنا، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، ويجبر الكسير إذا ناداه، ويفرِّج هَمَّ المهموم إذا ذلَّ له ورجاه، إلهنا وسيدنا ومولانا إن اليهود تسلُّطوا على أرض فلسطين، وعلى المسجد الأقصى العظيم، وعلى إخواننا المسلمين في فلسطين قتلاً وتشريدًا، وعلى مسجدنا الأقصى وبيوتهم هدمًا وتخريبًا، وعلى حرمته وحرماتهم هتكًا وإفسادًا، فكم من بيوت هُدِّمت، وكم من أعراض هتكت، وكم من نساء رُمِّلَتْ، وكم من دماء أريقتْ، وكم من أطفال يُتِّموا، لقد تفاقم من اليهود الطغيان، وتزايد السطو والإجرام، وعظم الجبروت والعدوان، إلهنا يا من النصر من عنده يُستمنح، يا من أبوابه وخزائنه لمن دعاه تُفتح، يا مزلزل عروش الظالمين، يا قاصم ظهور الجبارين، يا مُبطل كيد المجرمين. لقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامةَ ولا صفر»، وهذا حديث جاء في جملة أحاديث عظيمة أتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُبطلة خرافات أهل الجاهلية وضلالتهم التي عاشوا عليها، فجاء الإسلام بتوجيهاته العظيمة ودلالاته الكريمة مبطلاً ما كان عليه أهل الجاهلية من ضلالات عمياء، وخرافات وجهالات كثيرة، ومن ذلكم - عباد الله - ما كان يعتقده أهل الجاهلية في شهر صفر أنه شهر مشؤوم، فيعطلون فيه أنواعًا من أعمالهم، وأنواعًا من مصالحهم وتجارتهم؛ لاعتقادهم أنه شهر فيه شُؤْم، وهي خرافة مَضى عليها أهل الجاهلية، فجاء الإسلام بإبطالها وهدمها ونسْفِها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا صفر»؛ أي: لا وجود لهذه الخرافة، ولا مكانة لها؛ فإنها أمور تسكن في عقول أهل الخرافة، أما أهل الإسلام، فقد أنقذهم الله - تبارك وتعالى - بالإسلام من خرافات أهل الجاهلية وضلالتها، ولهذا - عباد الله - فمن اعتقد أو ظنَّ في شهر صفر أو في يوم من الأيام، كيوم الأربعاء، أو يوم من الأيام كاليوم الثالث عشر أو نحو ذلك، فهو امرؤ فيه جاهلية انطلت عليه خرافات أهل الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها، والواجب على المسلمين - عباد الله - أن يكونوا في كل الأيام والشهور، والأزمنة والدّهور متوكِّلين على الله، معتمدين عليه ساعين في مصالحهم على الوجه الذي يحب الله ويرضاه، بعيدين كل البعد عن خرافات أهل الجاهلية وضلالتهم. اللهم وفقنا لهداك وجنبنا سخطك يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا من المتوكلين عليك حقًّا، المؤمنين بك صدقًا يا ذا الجلال والإكرام. |
خطورة الرافضة على الإسلام وأهله
خطورة الرافضة على الإسلام وأهله محمود الدوسري إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: لم تكتف الرافضةُ بهجرهم للسُّنة، وإنكارهم لها، بل أضافوا إضافةً مُنكَرةً جعلت إجرامَهم مُضاعفاً؛ إذْ لم يكتفوا بإنكار الحديث ورفضِه، وإنما لجؤوا إلى وضع ما أسْمَوه أحاديثَ ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا بهذه الفِعلة النكراء من ألد أعداء السُّنة كيداً ومكراً، واختلاقاً للكذب والبهتان على السنة النبوية، والأئمة من آل البيت رضي الله عنهم. وعلى هذا، فإنَّ أهم مظاهر هجر الرافضة للسُّنة يتمثَّل في: أولاً: ردِّهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانياً: وضعِهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبهم عليه. أسباب نشوء التَّشيع: نشأ التشيع - في ظاهر الأمر - على الاعتقاد بأنَّ علياً رضي الله عنه وذريته هم أحقُّ الناس بالخلافة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ علياً أحقُّ بها من سائر الصحابة بوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، كما زعموا في رواياتهم التي اخترعوها، وملؤوا بها كتبهم قديماً وحديثاً. والحق أن التشيُّع أشد خطراً على الإسلام، إذ استتر به أعداء الإسلام؛ لهدمه، ولقد كان التشيُّع مأوًى يلجأ إليه كلُّ مَنْ أراد هدم الإسلام لعداوةٍ أو حقد، ومَنْ كان يريد إدخال تعاليم آبائه؛ من يهودية ونصرانية وزردشتية وهندية، كلُّ هؤلاء كانوا يتَّخِذون حُبَّ آل البيت ستاراً يضعون وراءه كلَّ ما شاءت أهواؤهم[1]. وها هو اليهودي عبد الله بن سبأ الذي أظهر الإسلام نفاقاً، وتظاهر بحبِّ عليٍّ رضي الله عنه وغلا فيه، حتى زعم أنَّ الله تعالى قد حلَّ فيه، وعمل في السرِّ؛ لبثِّ سموم دعوته في عوام الناس، وقد حاول عليٌّ رضي الله عنه القضاء على هذه الفتنة، فأحرق كثيراً منهم، ولكن الأمر استفحل والفتنة تأصَّلت جذورها، وأخذت الأفكار المسمومة موقعها في قلوب الكثير من الناس، وترسَّخت فكرة عدم قبول الأحاديث المروية من غير أشياع عليٍّ رضي الله عنه[2]. وتستَّر بعض الفرس بالتشيُّع، وحاربوا الدولة الأموية، والعباسية، وقاموا بثورات عديدة، سجَّلها علماء الفرق والتاريخ، وما في نفوسهم إلاَّ الكُره للعرب ودولتهم، والسعي لاستقلالهم وهيمنتهم، وتاريخ الشيعة في القديم والحديث شاهد صدق على أنَّ الحركات المارقة والهدامة إنَّما خرجت من تحت عباءتهم بعد أن رضعت لَبَنَهم وهُدْهِدَتْ بين ذراعيهم[3]. يقول السيوطي رحمه الله: (وأصل هذا الرأي الفاسد: أنَّ الزنادقة، وطائفةً من غلاة الرافضة، ذهبوا إلى إنكارِ الاحتجاج بالسُّنة، والاقتصارِ على القرآن، وهم في ذلك مختلفو المقاصد. فمنهم: مَنْ كان يعتقد أنَّ النبوة لعليٍّ رضي الله عنه، وأنَّ جبريلَ عليه السلام أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تعالى اللهُ عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيراً. ومنهم: مَنْ أقرَّ للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ولكن قال: إنَّ الخلافة كانت حقًّا لعليٍّ، فلمَّا عدل بها الصحابةُ عنه إلى أبي بكرٍ رضي الله عنهم أجمعين؛ قال: هؤلاء المخذولون - لعنهم الله - كَفَروا حيث جاروا، وعدلوا بالحقِّ عن مستحِقِّه، وكفَّروا - لعنهم الله – عليًّا رضي الله عنه أيضا؛ لعدم طلبه حقَّه. فبَنَوا على ذلك ردَّ الأحاديث كلها؛ لأنها عندهم - بزعمهم - من رواية قومٍ كُفَّار، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وهذه آراءٌ ما كنتُ أستحِلُّ حكايتَها، لولا ما دعت إليه الضَّرورةُ؛ من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناسُ في راحة ٍمنه من أعصار. وقد كان أهلُ هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمَنْ بعدهم، وتصدَّى الأئمةُ الأربعة وأصحابُهم في دروسِهم، ومُناظراتِهم، وتصانيفِهم، للرد عليهم)[4]. خطورة الرافضة على الإسلام وأهله: خطورة الرافضة على الإسلام وأهله (أهلِ السنة) نابع من عدة أمور[5]: 1- أصل بدعة الرافضة كان عن زندقةٍ وإلحاد، بخلاف الخوارج – مثلاً – الذين كانت بدعتهم عن جهل وضلال؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله: (الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقاً مُلحداً عدواً لدين الإسلام وأهله، ولم يكن من أهل البدع المُتأوِّلين؛ كالخوارج والقدرية)[6]. 2- استعمالهم للتقية المرادفة للكذب، وتظاهرهم بنصرة آل البيت، وانخدع بهم كثير من عوام المسلمين، بل بعض خواصهم. 3- بُغضُهم وتكفيرُهم ولَعنُهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ نفراً يسيراً، وبُغضهم وتكفيرهم لأهل السنة وتربية أتباعهم على هذا البغض. 4- التشيع كان مأوًى يلجأ إليه كلُّ مَن أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ولقد أصبح الرافضة الخندق الذي يتسلَّل منه الباطنية والملاحدة؛ لتحريف الإسلام؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله: (أصلُ الرَّفضِ إنما أحدثه زنديقٌ غَرَضُه إبطالُ دينِ الإسلام، والقدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء، وكان عبدُ الله بن سبأ شيخُ الرافضة لَمَّا أظهر الإسلام أراد أنْ يُفسد الإسلام بمكره وخُبثه؛ كما فعل بولص بدين النصارى، فأظهر النُّسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله... ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدُهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع، والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة)[7]. 5- تاريخ الشيعة – في القديم والحديث – شاهد صدق على أنَّ الحركات المارقة والهدَّامة إنما خرجت من تحت عباءتهم بعد أنْ رضعت لبنَهم وهُدهدت بين ذراعيهم. 6- الرافضة في هذا الزمن صار لهم دول يحتمون بها، ويحكمون تحت ظلها. 7- كثرة دعاة الرافضة وانتشارهم في أقطار الأرض ومحاولة جذب المسلمين إلى مذهبهم الفاسد. 8- انخداع بعض المسلمين بالرافضة وظهور مَنْ يدعو إلى التقريب بين أهل السنة والرافضة، ووجود معاهد في بعض بلاد أهل السنة لهذا الغرض، بل وُجِدَ مَنْ يزعم أنه لا فرق بين أهل السنة والرافضة في شيء من أمور الاعتقاد، بل ذلك كالخلاف بين المذاهب الأربعة! ولعل الخطر الأكبر على الإسلام وأهله من وراء الرافضة قديماً وحديثاً هو ردُّهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم لها، ونشر البدع المختلفة في كافة أقطار الأرض حتى إنه في كثير من البلدان التي هي خالصة لأهل السُّنة وُجِدَ من بدعهم الكثير؛ ومنها: زيارة القبور والتبرُّك بها والتَّوسل بصاحبها والإهداء إليها، وإقامة الموالد لأصحابها وغير ذلك من مظاهر غير خافية، فكم أماتوا من سُنَّة وأحيوا من بدعة، وهذا من هجر السُّنة النبوية. وكذا وضعُهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدخال ما ليس في الدين إلى الدين؛ فلبَّسوا على كثير من الناس دينهم وانحرفوا بهم عن طريق الحق والهدى والنور إلى طرق الضلال والظلمات والغواية. ابن تيمية رحمه الله يتصدَّى للرافضة: تكفَّل الله تعالى بحفظ هذا الدين، فكلما افترى المفترون هيأ الله مَنْ يقمعهم ويُبيِّن للمسلمين بطلان قولهم، ومن هؤلاء العلماء الذين جاهدوا في هذا الميدان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهو من العظماء الأفذاذ الذين تصدَّوا للرافضة وأفشلوا مخططاتهم وحذَّروا المسلمين من شرهم، ولا يوجد كتاب يردُّ على الرافضة، ويفضحهم، ويبيِّن قُبحَ مذهبهم مِثلَ كتابه: "منهاج السنة النبوية"، فهو يناقش الخصوم، ويدحض حججهم، ويرد على شبهاتهم، بمنهج علمي جامعاً بين العقل والنقل، وإيراد البراهين الواضحة المنضبطة بالعدل والإنصاف، وليس بالظلم والتعسف. وزماننا هذا يُشبه زمان ابن تيمية رحمه الله، من ناحية ظهور الرافضة ووجود دول تحميهم، وضعف كثير من أهل السنة أو تخاذلهم، لذا فإنَّ ما صلح أن يكون ردًّا على الروافض في ذلك الوقت فهو صالح أن يكون ردًّا عليهم في هذا الوقت[8]. [1] انظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام، د. غالب عواجي (1/ 128). [2] انظر: مكانة السنة في التشريع الإسلامي، (ص 235). [3] انظر: فجر الإسلام، د. أحمد أمين، (ص 276)؛ السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (ص 88). [4] مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، (ص 6-7). [5] انظر: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الرافضة، د. عبد الله بن إبراهيم عبد الله (1/ 5)؛ السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (1/ 87). [6] منهاج السنة النبوية، (4/ 203). [7] منهاج السنة النبوية، (8/ 339، 340). [8] انظر: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الرافضة، (1/ 5). |
الأندلس والقدس.. هل يعيد التاريخ نفسه؟
الأندلس والقدس.. هل يعيد التاريخ نفسه؟ مقدمة: تستأثر الأندلس والقدس بمكانة خاصة ومتميزة في الوجدان والعاطفة الإسلامية تحديداً. ولأنهما كذلك، فقد طُرحت (تراجيديا) الأندلس و (دراما) القدس في ملفات وأعداد خاصة ضمن المجلات والدوريات العربية بمختلف تلاوينها واهتماماتها. وإذا كانت عادة الطرح تسير في منطق الانفصال و (الأحادية)، أي دراسة كل مادة بمعزل عن الأخرى؛ فهل حدث إذن أن تساءلنا حيناً عن مدى إمكانية تعالق القضيتين فعلاً؛ فبين الأندلس والقدس تقاطعات على أكثر من صعيد (الموقع الجغرافي المغري، والحضور المتميز في الذاكرة العربية، ثم - هو الأهم - الوضع المهترئ المهزوز الذي عاشته الأندلس، وعيش القدس اليوم على الأمل). لقد كتب كثير من الكتاب - وما يزالون - حول القدس، في محاولة جادة ومستميتة لاستثارة الانتباه واستنهاض الهمم حيال الأخطار (الشاذة) التي تتهدد - يوماً بعد يوم - القدس راسمة حاضراً مؤلماً ومستقبلاً قاتماً. وإذ نحن نساهم بمقالتنا هذه، فقد رُمْنا الانزياح بها عن القراءة (التقليدية) لإشكالية القدس، وكذا تكسير نمطية العرض (المفصول) لها كما ذكرنا، وذلك وَفْقَ منهج تركيبي يجمع خلاصة التجربتين الأندلسية والمقدسية في إطار مقاربةٍ ومقارنةٍ، دون الغوص في الأحداث والتفاصيل التاريخية التي تعج بها كتب التاريخ. قد يسائلنا بعض القرَّاء: لِمَ قسوة العنوان، ألا يحمل معاني التشاؤمية والانهزامية؟ نجيب بالنفي، ونقول: إن العنوان لا يعدو تعبيراً صريحاً عن الواقع والمآل (المنتظر) ما لم يتنبه عالمنا العربي لحتمية الفعل والتصرف قبل فوات الأوان، فالخوف أحياناً يدفعنا لإحقاق المستحيل. وقد يتساءل آخر مستفهماً: أية علاقة لحدث تاريخي (ماضوي) لما يجري في القدس؟ أَوَلَيْسَ هذا زمن حقوق الإنسان، والشرعية الدولية؟ لكن سرعان ما يتبدد شبح السؤال والغموض، ويتجلى وضوح المقاربة التي نحن بصددها، حينما نطرح السؤال التالي: كيف انتهت الأندلس، هل سقطت دفعة واحدة؟ وكيف قوبلت استغاثات ونداءات الأندلسيين من لدن العالم الإسلامي آنذاك؟ وماذا لو عكسنا المعادلة بتحييدنا الأندلس وإحلال القدس مع تغيير طفيف في بنية الأسئلة؟ الأندلس بين الانقسام الداخلي والتهديد الخارجي: بعد اندثار الدولة الأموية عاشت الأندلس على إيقاع ملوك الطوائف بدايةَ نهايتها. فلم نعد نتحدث عن الأندلس كتلة واحدة متماسكةً ومتجانسةَ الأهداف والمصالح؛ بل حل ما يمكن تسميته بـ (بالمدن الدول - polis) المستقلة والمتنابذة فيما بينها، فقد أصبحت التجزئة أمراً واقعاً ميَّز مرحلة ملوك الطوائف. هذا في الوقت الذي عقدت فيه الـمَلَكية الكاثوليكيـة العـزم على ضم الإمارات الأندلسية تباعاً وسحقها، من خلال تسريع زمن (حروب الاسترداد) وتشديد الحصار على حكامها. وإذا كانت الضرورة التاريخية تحتِّم على ملوك الطوائف الاتحاد والتكتل لصد العدو (الكافر) المشترك، فإن الأنانية واستحكام الأطماع الشخصية والعداوة المضمرة فيما بينهم، حملتهم على التحالف مع ذاك العدو، والتنازل له عن قلاع وحصون مع الالتزام بدفع (الجزية)، بل تمادت زوجات وأبناء بعضهم إلى الارتماء في أحضان ملوك قشتالة والتسمي بأسماء صليبية[1]. من ناحية أخرى، لم تكن العمليات الجهادية المغربية (المرابطية والموحدية ثم المرينية) بقادرة على كبت المد الإيبيري على الديار الأندلسية، نظراً لطابعها الدفاعي والظرفي، على أنها سمحت للأندلس بالاستمرار لبرهة من الزمن، إلى أن دبَّ الوهن في الكيان المغربي على العهد المريني والوطاسي، فتداعت على إثره الدويلات الأندلسية، في حين دخلت غرناطة في حالة احتضارٍ سلامتُها معقودة ومتوقفة على المساعدة والاستغاثة بالعالم الإسلامي التي لم تأتِيها ولم تلبَّ أبداً، فكان الاستسلام والإفراغ أمراً حتمياً. هذه النهاية المأساوية التي آلت إليها غرناطة، ونجاح (حرب الاسترداد) في تحقيق أهدافها (الإستراتيجية)، تتحمل فيها الذات جانباً من المسؤولية. فقد كان لتدخُّل النساء في السياسة دور رئيسي في جملةٍ من الأحداث الخطيرة التي عصفت بغرناطة. حيث قاد التنافس والصراع بين (عائشة الحرة) و (ثريا)، إلى انشطار المجتمع إلى معسكرين متضادين: طرف يناصر (عائشة)، وحزب آخر يصطف إلى جانب (ثريا). لكن (عائشة الحرة) نجحت في التغلب على خصمها، وتمكنت من تنصيب ابنها (أبو عبد الله الصغير) ملكاً على غرناطة. وعندما خرج (أبو عبد الله الصغير) من الأسر، ألفى عمه (الزغل) متولياً كرسي الملك، فشن عليه حرباً بتأييد من النصارى، أجبرت الغرناطيين مرة أخرى على إعلان مواقفهم من الأطراف المتصارعة، فعاد الانقسام مجدداً ليفتت وحدة وتماسك المجتمع، وهو ما تسبب في إنهاك قوة غرناطة واستنزاف قوتها. وبالفعل، فقد استغل التحالف الكاثوليكي هذا الحال، وزحف على العديد من القلاع والحصون، وضرب حصاراً على غرناطة، لم يجد معه (أبو عبد الله الصغير) بُدّاً من الاستسلام وتسليم مفاتيح المدينة للكاثوليك. الأندلسيون وموجة التنصير والمعاناة: على الرغم من معاهدة الاستسلام التي بموجبها سلَّم أبو عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة عام 1492م، وهي آخر معقل إسلامي بجزيرة إيبيريا، والتي تضمنت جملة من البنود القاضية بتمتيع المسلمين بحقوقهم الكاملة كما في عهد الحكم الإسلامي بها، بَيْد أنه ما كاد يمر وقت قصير حتى أخلَّت إسبانيا بتعهداتها المذكورة، وانطلقت حملات التنصير والإدماج القسريين في الدين والثقافة الإسبانية الكاثوليكية. في هذا السياق تأتي محاكم التفتيش لملاحقة المسلمين وفصلهم عن عقيدتهم وثقافتهم الإسلامية، منتهجةً في ذلك سبيل الإكراه والقهر والاضطهاد وحظر اللغة العربية. يروي لنا المؤرخ المجهول تلك المعاناة بقوله: «... ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه... فدخلوا في دينه كرهاً وصارت الأندلس كلها نصرانية ولم يبقَ من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله جهراً... وجعلت النواقيسَ في صوامعها بعد الآذان وفي مساجدها الصور والصلبان... فكم فيها من عين باكية وكم فيها من قلب حزين وكم فيها من الضعفاء والمعدومين... قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً، وينظرون أولادَهم وبناتِهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر... فيا لها من فاجعة ما أمرَّها، ومصيبة ما أعظمها وأضرها، وطامة ما أكبرها»[2]. القدس ودراما التهويد الممنهج: في أفق تنزيل الرواية التاريخية المزعومة، وضعت السلطات الإسرائيلية خطة تهويد واسعة للقدس، يمكننا إجمالها في ثلاثة مشاريع كبرى: الأولى: مشاريع ذات بُعْد عمراني تعميري: ينطلق هذا المشروع بمصادرة منازل وأراضي الساكنة المقدسية، وتهديم المنازل بدعوى عدم وجود رُخَص للبناء، وهي رخصٌ تعلم إسرائيل - قبلاً - أنها يصعب بل يستحيل تحصيلها؛ نظراً لطبيعة المسطرة الإسرائيلية الصعبة والمعقدة في هذا الشأن[3]. وهو ما يدفع بالمقدسيين - بشكل طبيعي - إلى هجرة داخلية أو خارجية، فيصبح المجال فسيحاً للسلطة الإسرائيلية لتشييد المزيد من المستوطنات وتمددها المخيف على حساب الأحياء القديمة. الثانية: مشاريع ذات بُعد ديموغرافي: سعياً من دولة الصهاينة لتطـويق القدس، أقامت جداراً يعزل القدس عن محيطها الفلسطيني، ويمزق العلاقات العائلية والاجتماعية لساكنة القدس. إن تحقيق غلبة ديموغرافية يهودية بالقدس، حمل السلطات الإسرائيلية على تشجيع حركة الهجرة لليهود نحو السكن في القدس، وذلك بتخصيص امتيازات وتسهيلات مغرية لهم، إلى جانب نقل الثقل الاقتصادي إلى القدس الغربية، وزيادة الضغط الضريبي على المتاجر والمصانع في الشطر الشرقي للقدس. ناهيك عن خطة التهجير (اللطيفة) للمقدسيين التي أعدتها إسرائيل بناء على فقراتٍ وموادَّ قانونية، تُسْتغَل بشكل ذكي لسحب بطاقة الإقامة أو منحها[4]، وذلك في إطار شرعنة ممارساتها (انتهاكاتها) وتغليفها بغلاف قانوني. الثالثة: مشاريع ذات بعد حضاري: لم تسلم مقدسات المسلمين ومعالمهم الحضارية بالقدس من عملية التهويد الممنهج؛ فالمصادرة والمحو والاعتداء والتدنيس ينال كل أثر أو مؤشر دال على الهوية والثقافة الإسلامية[5]، التي ترنو إسرائيل إلى طمسها وإتلافها أملاً لفصل الذات عن مقوماتها الهوياتية. في مقابل ذلك، تجري أبحاث وحفريات صهيونية تجتهد في العثور على بقايا وآثار تسند الادعاءات والمزاعم التاريخية الإسرائيلية. كما يتم في الاتجاه ذاته، استبدال أسماء الأماكن والأحياء والشوارع بأخرى عبرية. ضياع الأندلس وتداعي القدس نحو بناء الصورة: لعل نظرة سريعة على حاضر القدس وواقعها وموقف عالمنا العربي من القضية، كافية لإعادة تحيين واسترجاع حلقات ضياع الأندلس، ومساءلة الذات العربية عن حقيقة إدراكنا لسيناريو الضياع وقراءتنا المتفحصة والواعية لفصوله، التي تكاد تتماهى مع المشهد المأساوي الذي ينذر بفقدان فردوس آخر أَلَا وهو (فردوس القدس). طبعاً في الحالتين كلتيهما (الأندلس والقدس) يصنَّف العدو على درجة عالية من القوة والحزم والإصرار و (الشوفينية)، والاختلاف كامن هنا في الفرق بين الطرف الأندلسي - ونقصد هنا النخبة السياسية الحاكمة وليس الشعب - المتخاذل والخَنُوع والمستسلم لرغبات وأطماع الأجنبي، وبين الجانب المقدسي المدافع باستماتة وبسالة وإيمان وطني يندر قرينه عن قضية أرض وهوية، في ظل عدم تكافؤٍ صارخٍ في موازين القوى. من المعلوم أن القضية الفلسطينية تعرضت لنكبات ونكسات، ثم لحملات تطهير وتنكيل وتدمير منذ (الوعد المشؤوم) عام 1917م؛ الذي (شرعن) الطموحات والحلم الصهيوني في إنشاء وطن قومي لليهود بالديار الفلسطينية. وإذا كان هذا الحلم قد صار واقعاً، فإن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وتطبيع العرب مع إسرائيل، يعدُّ تحولاً وتطوراً خطيراً يهدد مستقبل الوجود الإسلامي بالمدينة المقدسة، التي لطالما شكلت على مدار التاريخ الإسلامي رمزاً دينياً حافلاً بالمعاني والدلالات الراسخة في ذاكرة المسلمين كافة. إن تذكيرنا بضياع الأندلس، ومحاولتنا الدمج بين هذه التجربة الثابتة في المخيال الإسلامي، ونظيرتها المقدسية الراهنة المتهاوية، في هذه الورقة، تعد خطوة طريفة نحاول من خلالها تذكير ضمير العالم الإسلامي بحساسية اللحظة التي تشهدها القدس، والتحذير من مغبة التهوين من المسألة، حتى لا نكرر تجربةً أمرَّ فنضيع القدس، ثم نتباكى بعدها على فردوس ندعوه هو الآخر «الفردوس المفقود»! في الختام: عموماً يمكن القول: إن مسلسل (ضياع القدس) قد عُرضت أكثرُ من نصف حلقاته الدراماتيكية وشاهدناها على شاشاتنا العربية، كما سبق أن أخبرنا التاريخ عن تلاحق سقوط الإمارات الأندلسية متتالية. فليس في الأمر إذن، سوى اختلاف في الجغرافيا والأدوار والأزمنة مع الاحتفاظ بالسيناريو ذاته؛ فمن جهة الأندلس هناك القدس، ومن جهة الكاثوليكية ثمة الصهيونية. وهكذا نستمر في مشاهدة ومتابعة المسلسل منتظرين الحلقة الأخيرة منه، لنختار له اسماً جميلاً على شاكلة «الفردوس المفقود»! [1] الدعيج (أحمد)، أركستهم الذنوب، مجلة المعرفة، العدد 68، فبراير 2001م، ص30. [2] رزوق (محمد)، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 - 17، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 1998م، ص 56 - 57. [3] صالح (محسن)، معاناة القدس والمقدسات تحت الاحتلال الإسرائيلي، سلسلة أولست إنساناً 7، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات- بيروت، ص 97. [4] ينظر المرجع نفسه. [5] لمزيد من التفاصيل والصور والشواهد حول الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حق الحضارة الإسلامية والإنسانية عموماً، يراجع المرجع نفسه باعتباره يركز على هذا البعد. _________________________________________________ الكاتب: د. محمد جباري |
مسجدنا الأقصى
مسجدنا الأقصى نجلاء جبروني مَسْرى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ومِنه مِعْراجُه إلى السماء. أولى القبلتين وثاني المسجدين. عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: المسجدُ الأقصى. قلتُ: كم بينهما؟ قال أربعون سنةً[1]. إنه ميراثُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ بَنَاهُ آدمُ عليه السلام وعمَّرَه إبراهيمُ عليه السلام ثم إسحاق ويعقوب عليهما السلام من بعده وجدَّد بِناءَه وهيَّئَهُ للعبادة سليمانُ عليه السلام، وعاش في أكنافه داود وزكريَّا ويحي وعيسى عليهم السلام. والمسلمون هم ورثة جميعِ الأنبياء، يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ»[2]. وقال-صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى بنِ مريمَ في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعَلَّاتٍ. أمهاتُهم شتى، ودينُهم واحدٌ»[3]. والمعنى: أن دينَهم واحدٌ وشرائعَهم مختلفة، كما ينتسب الأخوةُ من أمهاتٍ مُختلفاتٍ لأبٍ واحدٍ. فجميعُ الأنبياءِ والرسلِ دينُهم الإسلام؛ دينُ الله -عز وجل-؛ توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]. فنوحٌ-عليه السلام-يقول لقومه: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 72]. وإبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام-يقولان في دعائهما: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [البقرة: 128]. ويعقوب -عليه السلام- يوصِي أبناءَه قائلاً: ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]. وأبناء يعقوب -عليه السلام- يجيبون أباهم: ﴿ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]. ويوسف – عليه السلام - يقول: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]. وموسى– عليه السلام - يقول لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84]. والحواريون يقولون لعيسى–عليه السلام-: ﴿ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]. وسليمان – عليه السلام - يقول في رسالته لسبأ: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين ﴾ [النمل: 30]. فالدين عند الله هو الإسلام؛ وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. والله – عز وجل - قد بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم - بأتمِّ الإسلام وأكملِه، بعثَه بالتوحيدِ وبالبراءةِ من الشرك، وبشريعةٍ كاملةٍ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكان، شاملةٍ لكل شئون الحياة، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المادة: 3]. وقد جمع الله ببيت المقدس جميعَ الأنبياءِ والرسل مِن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وصلى بهم نبيُّنا إمامًا ليَعْلَمَ الناسُ أنَّه المقدَّم والإمام المعظم، وأنه الوريث وأمَّته من بعده لهؤلاء الأنبياء. إن الوراثةَ الحقيقية لجميعِ الأنبياءِ والرسلِ مبْنِيَّةٌ على العقيدة والإيمان لا على القومية أو الأنساب. ولهذا استحق بنوا إسرائيل الأرضَ المقدسة في زمن موسى- عليه السلام - لمَّا كانوا على الإسلام والإيمان، لكنهم لمَّا بدَّلوا دينَهم وكفروا برسلِهم وقتلوا أنبياءَهم وحرَّفوا كتاب ربِّهم؛ ما عاد لهم حقٌ في المسجد الأقصى، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]. جعلَ اللهُ وراثةَ الأرضِ لعبادِهِ المؤمنين الموحِّدين، ولهذا أورثَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه أراضي يهودِ المدينة وديارهم، قال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27]. ولهذا أيضًا خرج الصحابةُ - رضي الله عنهم - فاتحين لمشارقِ الأرضِ ومغاربِها ولم يكونوا قبل ذلك مالكين لشيء منها. فالأرض كلها مآلها لأهل الإسلام، وسيحصل هذا في آخر الزمان عندما ينزل عيسى - عليه الصلاة والسلام -ويحكم الأرض كلها بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن من تبقى من أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]. وقال صلى الله عليه وسلم: «واللهِ! ليَنزِلَنَّ ابنُ مريمَ حَكَمًا عادلًا. فلَيَكسِرَنَّ الصليبَ. ولَيَقتُلَنَّ الخِنزيرَ. ولَيَضَعَنَّ الجِزيَةَ»[4]. قال صلى الله عليه وسلم: « إنَّ اللهَ زوَى لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها فإنَّ أُمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زوَى لي منها »[5]. إنَّ المسجدَ الأقصى مسجدُنا ولن ننساه ولن نتنازل عنه، هذه عقيدتُنا، هذه قضيَّتُنا ليست قضية فلسطين ولا قضية العرب ولا قضية الشرق الأوسط، إنَّها قضيةُ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ على وجه الأرض. هل سيعود لنا المسجد الأقصى الذي بَشَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفتحه قبل أن يُفتح فَقَال: « اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ »، ثم ذكر منها: « فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ »[6]؟ (نعلم أن المسجد الأقصى سيعود لأننا نؤمن بخبر الصادق المصدوق، فلقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة الإسلامية التي على منهاج النبوة ستعود للمسلمين وأن عودتها ستكون مِن بيت المقدس وأكنافه. سيعود بعد ملحمة مع اليهود، ينطق فيها الحجر والشجر وينادي: «يا مُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ ورائي، فاقْتُلْه»[7]. وأخبرنا بأن دين الله سيعم الأرض أو أكثرها، وليس بيت المقدس فحسب، فقال صلى الله عليه وسلم: « ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ »[8]. ولكن متى سيكون ذلك؟ الجواب: متى عُدْنَا إلى أسبابِ عزِّنا ومجدِنَا؛ عادَ لنَا بيتُ المقدس. فلقد تركنا أسبابَ العزِّ والنصرِ وانحرفنا عن طريق التمكين، فضللنا السبيل؟ وما هو طريق النصر والتمكين يا تُرى؟ أجاب عمر بن الخطاب عن هذا لسؤال يوم فتح بيت المقدس؛ فقال: « إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله »[9]. هذا هو السبب الحقيقي للنصر؛ التمسك بالإسلام، واتِّباع كتاب الله وسنَّة نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-عمليًّا وواقعيًّا، وليس بالكلام ولا بالادعاءات، فلنتبع الكتاب والسُّنة بفهم سلفِ الأمَّة وعلى طريقة الصحابة -رضي الله عنهم-الذين نصرهم الله، ومكَّن لهم في الأرض[10]. لن يعودَ إلينا المسجدُ الأقصى حتى نرفعَ لواءَ الشريعةِ فوقَ رؤوسِنا وندوسَ بأقدامِنَا كلَّ المناهج التي تخالف منهج الله -عز وجل-" الليبرالية، والعلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية والقومية والديمقراطية " وغيرها من مناهج المحتل. الليبرالية التي تعني الحرية المطلقة دون قيدٍ من دينٍ أو شرع، وشعارُها: " أنتَ حر ما لم تضر"، افعل ما تشاء ما لم تتعدَّ على حريَّات الآخرين! وتحت هذا الشعار رأينا حرية الكفر والإلحاد تحت مسمى الفكر والإبداع، وحرية الفسق والخلاعة تحت مسمى حرية المرأة، رأينا حرية خلع الحجاب، رأينا حرية الاختلاط في العمل والمواصلات والمدارس والجامعات وداخل البيوت والأسر، رأينا حرية العلاقات بين الشباب والبنات ونشر الفواحش والمنكرات والكلام عن الحب والغرام في المسلسلات والأفلام تحت مسمى حرية الفن والإمتاع. الليبرالية والعلمانية صناعة غربية، نادى بها الغرب نتيجة لاستبداد الكنيسة وسيطرتها على الحياة في أوربا في القرن السادس عشر، الكنيسة كانت تستولي على أموال الناس وتبيع لهم صكوك الغفران، وتحارب العلم وتقتل العلماء، تحلِّل وتحرِّم كما تشاء، الكنيسة هي من تعيِّن الحاكم الذي يحكم -كما يدَّعون- بأمر السماء (نظرية الحق الإلهي) وعلى الشعب السمع والطاعة العمياء. ثار الناس على هذا الظلم والطغيان، نادَوْا بالتحرر من سلطان الكنيسة ونبذوا الدين، نادَوْا بالعلمانية التي تعني فصل الدين عن الحياة، أن يكون الدين مجرد شعائر، أن يكون معزولا داخل جدران الكنائس والمعابد. هل نحن المسلمون نحتاج ذلك وعندنا الإسلام؟ هم نبذوا دينَهم بعد ما حرَّفوه أما نحنُ فدينُنَا دينُ الحقِّ و العدل ، دين الله الذي ارتضاه لعباده ، توحيد الله –عز و جل و إفراده بالعبادة و اتِّباع رسوله -صلى الله عليه و سلم- ليس فيه ظلمٌ ولا استبداد ولا اضطهاد ولا محاربة للعلم ولا تناقض مع العقل المهتدي بنور الشرع ، فالحاكم والمحكوم كلاهما له حقوق وعليه واجبات، وروي أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : اتق الله يا عمر، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله، فقال له عمر-رضي الله عنه- : دعه فلْيَقُلْهَا لي، نِعْمَ ما قال، ثم قال عمر :" لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم"، هذا هو الإسلام؛ دينُ العدل والمساواة، دينٌ صالحٌ لكلِّ زمانٍ و مكان ، شاملٌ لكلِّ أمورِ الحياة ، إنَّه الصراط المستقيم و الروح الحقيقية و النور الهادي، قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. هذا هو مصدر عزَّتِنا وقوَّتِنا الذي لابد أن نعرفَه جيدًا. ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]. لن يعودَ المسجدَ الأقصى حتى نعودَ إلى دِينِنَا، حتى نطهِّرَ قلوبَنا من رجسِ الشهواتِ والشُبُهات، حتى نصحِّحَ عقائدَنَا ونصلحَ عبادتَنا ونحسِّن أخلاقنا ونطهِّرَ قلوبَنَا من الرياء والغلِّ والحسد، حتى نقدِّمَ أمر الله على كل أحد، حتى نبذل لهذا الدين، حتى نعرفَ لله حقَّه ونوقِنَ بوعدِه، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]. واجبنا نحو الأقصى![11]!: هل القضية تكون بتفريغ شحنة الغضب بحرق العلم الإسرائيلي أو بهتافاتٍ وشعاراتٍ رنانة، أو مظاهرات ووقفات احتجاجية، أو استنكارات وشجب وتنديد وبيانات، أو المطالبة بطرد السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية مع العدو الصهيوني والأمريكي أو في المقاطعة الاقتصادية للمنتجات اليهودية والأمريكية، وعدم التطبيع معهم وفقط؟! هل هذا كافيًا أم أن هناك واجبًا أعظم نحو مقدساتنا وثوابتنا الدينية في وسع كل فردٍ مِن أفراد أمتنا الإسلامية؟ ومن هذه الواجبات التي في استطاعتنا: 1- إحياء القضية، ومكانة القدس والأقصى في نفوس أبنائنا وشبابنا والأجيال القادمة؛ حتى لا تُنسى، وأن نفهمها على وفق شرع الله؛ أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع دين وعقيدة وأن دفاعنا عن الأقصى ليس لأجل الأرض أو العروبة وإنما هو لإعلاء كلمة الله في الأرض. 2- الاهتمام بأمر المسلمين والتألم لآلامهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى »[12]. 3- الدعاء: قال الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر:60]، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة:186]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»[13]، فالله هو القوي القدير العزيز الذي لا يعجزه شيء. 4- التوكل على الله والافتقار والذل، والانكسار له والتضرع، وطلب العز منه، وليس مِن الشرق أو الغرب: قال الله عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، وقال: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]. 5- الطاعة والصلاة والإخلاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما يَنْصُرُ اللهُ هذه الأُمَّةَ بِضَعِيفِها؛ بِدَعْوَتِهمْ وصلاتِهِمْ وإِخْلاصِهِمْ»[14]، وقال عمر بن الخطاب t : "إننا ننتصر على عدونا بطاعتنا لله ومعصية عدونا له، فإذا استوينا في المعصية كانت لعدونا الغلبة بالعدد والعدة"، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]. 6- بث روح الأمل والرجاء والثقة في أن المستقبل للإسلام واليقين في وعد الله وعدم اليأس والإحباط ودفع روح الهزيمة النفسية: قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51]. وقال تعالى: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص:83]. 7- إحياء روح الجهاد: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم»[15]، وقال صلى الله عليه وسلم: « مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ »[16]. 8- مجاهدة النفس قبْل مجاهدة العدو، فمن خان حيَّ على الصلاة، خان حيَّ على الكفاح، خان حي على الجهاد: قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: « وأفضلُ المهاجرين من هجر ما نهى اللهُ تعالى عنه، وأفضلُ الجهادِ من جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ »[17]، هل نزعت من قلبك شهوات النفس وأهوائها وجاهدتها أولاً حتى تستطيع أن تجاهد أعداء الله في الخارج، وأخرجت من قلبك حب الدنيا وملذاتها وكراهية الموت في سبيل الله. وكما قيل: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم وفي بيوتكم، تقم على أرضكم". 9- ترك الذنوب والمعاصي: فما نزل بلاء إلا بذنبٍ، وما رفع إلاّ بتوبة، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ألا نستحيي مِن أنفسنا على ما يحدث في مجتمعنا مِن إدمان الخمر والمخدرات، والتدخين والشيشة، وسماع الموسيقى ومشاهده القنوات الإباحية، وتضييع الصلوات ومعاكسة الفتيات، والرقص والمجون... ثم نقول أين النصر؟! ونتساءل؛ لماذا يحدث للمسلمين كل ما يحدث في كل مكان؟ دماء تسفك، وبلاد تحتل، وبيوت تهدم، وأمان يضيع ؟! 10- إحياء قضية الولاء والبراء، والحب والبغض على أساس العقيدة والدين، وليس الأرض والتراب: قال الله -تعالى-: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة:120]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]. وأخيرًا لابد لنا جميعًا من الدعوة إلى الله والعمل للدين، وحمل همّ الإسلام، والبذل والتضحية بالنفس، والمال، والوقت، وترك الانشغال بالدنيا والشهوات. إن قضية العمل للدين، والبذل في سبيل الله، وعودة الخلافة، وعودة هذه الأمة لقيادة الدنيا بدين الله عز وجل، وتعبيد الناس لرب الناس عز وجل ؛ ليست مسئولية شخص بعينه، وإنما مسئولية كل مسلم على حسب طاقاته وقدرته. في الختام يبشِّرُنَا نبيُّنَا صلى الله عليه وسلم بنصرِ الله ووعدِه، وبأن القدس -بإذن الله- سوف تكون مقبرةً لليهود، وحينها يؤذن لفجر الإسلام أن يعود، كما قال الصادق المصدوق: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيُّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ»[18]. فاللهم طهِّر الأقصى مِن دنسِ اليهود، واجمعْ كلمةَ المسلمين، ووحِّد صفهم، وانصرهم على عدوِّكَ وعدوِّهِم. اللهم أقر أعينّنَا بنصرةِ دينِك وكتابِك وعبادِك المؤمنين، واحفظ مسجدَنَا الأقصى يا ربَّ العالمين. [1]صحيح البخاري (3366)، صحيح مسلم (520)، صحيح ابن حبان (6228). [2]صحيح البخاري (3397). [3]صحيح البخاري (3443)، صحيح مسلم (2365). [4]صحيح مسلم (155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5]صحيح ابن حبان (7238)، من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. [6]صحيح البخاري (3176) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. [7]رواه البخاري (3593)، ومسلم (2921) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. [8]مجمع الزوائد (6/ 17)، رجاله رجال الصحيح. [9]رواه الحاكم (1/ 130)، وصحَّحه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصَّحيحة)) (1/ 117) على شرط الشيخين. [10]هل يعود بيت المقدس للمسلمين، الشيخ سعيد محمود، بوابة الفتح الإلكترونية، (بتصرف). [11]واجبنا نحو الأقصى، د. أحمد حمدي، بوابة الفتح الإلكترونية، بتصرف وبعض إضافات. [12]صحيح مسلم (2586). [13]أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجة (3828)، وصححه الألباني. [14]صحيح الجامع (2388). [15] أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887)، والطبراني في مسند الشاميين (2417)، وصححه الألباني. [16]صحيح مسلم (1910). [17]صحيح الجامع (1129). [18]صحيح مسلم (2922). |
الصهيونية والاتجاه المتسارع نحو العنصرية
الصهيونية والاتجاه المتسارع نحو العنصرية . إياد القطراوي إن التحوُّل الصهيوني المتسارع نحو التشدُّد والتطرُّف والعنصرية، يساهم بشكل كبير في إسقاط حقوق الشعب الفلسطيني؛ كون رؤيتهم تنبع من إيمانهم بأحقيتهم في دولة «إسرائيل» الكبرى، أو ما يُعرَف توراتيًّا بأرض كنعان في استطلاعٍ نشرته القناة الصهيونية 12، بين أوساط الشباب من جيل 18 وحتى 25 سنة، كشف عن توجُّه صهيوني بشكل متسارع نحو اليمين واليمين الديني الاستيطاني المتطرف، وهو مؤشّر على توجُّه المجتمع الصهيوني نحو إسقاط حلّ الدولتين، ورفض الاعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفرض وإدامة الاحتلال والأبرتهايد والفصل العنصري. اللافت في الاستطلاع، أن هذه الشريحة، هي مَن تمثل مستقبل دولة الكيان، ويظهر أن 70% من الشباب الصهيوني يصنّف نفسه في دائرة اليمين والوسط، وتمنح شريحة المستطلعين اليمين واليمين الاستيطاني 71 مقعدًا، وحزب «الصهيونية الدينية» الذي يقوده إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتس 14 مقعدًا، متفوقًا على حزب «ييش عتيد» الذي يتزعمه يائير لبيد، وحصول الأحزاب الدينية والدينية الاستيطانية المتشددة مجتمعة (شاس، يهدوت هتوراه، الصهيونية الدينية) على ما يقارب الـ40 مقعدًا، أي ما يعادل ثُلث أعضاء الكنيست. إن هذه الصورة القاتمة التي تُمثِّل مستقبل الدولة الصهيونية القريب، تُلقي بظلالها ليس على المعسكر الليبرالي، الذي خسر نفسه وجماهيره وقواعده عندما تخلَّى عن القضية الأساس المتمثلة بالاحتلال والاستيطان وحقوق الشعب الفلسطيني، وانساق وراء التضليل الذي سوَّقته مقولة إيهود باراك حول عدم وجود شريك فلسطيني، مساهمًا بذاك في تدعيم الإجماع الصهيوني الذي يقوده اليمين المتطرف. صورة الصهيونية المظلمة هذه لها تداعياتها وإسقاطاتها على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وهي تفرض تحديات كبيرة على قياداته في الضفة وغزة والداخل والشتات؛ لأنها تغلق الباب أمام خيار التسوية الذي جعله البعض خياره الوحيد، بعد أن أسقط من حساباته أي خيارات أخرى. كما أن هذه الصورة تنذر بتوجُّه صهيوني نحو المزيد من العزل والحصار على غزة، واستمرار الفصل الجغرافي والسياسي بينها وبين الضفة الغربية؛ من خلال اللعب على وتر الانقسام الفلسطيني، ونحو تعزيز الاستيطان وقضم الأرض والضم الزاحف في الضفة، إلى جانب تخفيض مكانة السلطة الفلسطينية وحصرها في نطاق الأداء الوظيفي والتنسيق الأمني، ونحو إعادة فلسطينيي الداخل إلى الهامش السياسي ومحاصَرة مطالبهم في نطاق الحقوق المدنية الفردية، وهو مخطط تنجح دولة الكيان في فرضه على شعبنا، طالما لم ننجح نحن في تحطيم الحواجز والأقفاص السياسية التي حبستنا فيها؛ فأدمناها حتى أصبحنا نحرسها ذاتيًّا، ونسعى لبقائها وإدامتها، كما أنه مخطط تنجح دولة الكيان في فرضه على شعبنا، طالما لم ننجح في تحطيم الأقفاص والانطلاق إلى الفضاء الوطني العام بالعودة إلى فكرة الشعب الواحد والوطن الواحد والقضية الواحدة والمصير الواحد. إن هذا الاستطلاع يؤكد على تعاظم اليمين المتطرف في دولة الكيان، في مقابل خسارة الليبراليين الصهاينة معركتهم أمام المتشددين الصهاينة، والمتطرفين الدينيين العنصريين، الذين سيطروا على القرار الصهيوني، ويضع الفلسطينيين أمام خيار واحد، وهو الاقتناع بأن هذه المنظومة الصهيونية لا تريد شريكًا لها، ولا تقتنع بوجود الفلسطيني حتى تؤمن بأن هذه هي أرضه، لذلك علينا مجابهة هذا النظام العنصري بشتَّى السُّبل والوسائل المتاحة من أجل تحرير وطننا وتحطيم جدرانه المصطنعة؛ ليتسع لنا ولأجيالنا القادمة. الملاحَظ أن التوجهات الصهيونية ازدادت ميلاً نحو اليمين، ونحو التشدد الديني؛ نتيجة للتعبئة المتزايدة في هذا الجانب، فقد دخلت جماعات حريدية الساحة السياسية بعد أن كانت تحظر على أتباعها المشاركة في الانتخابات، بل وحرَّضت أتباعها على الانضمام إلى الجيش والخدمة فيه، وازدادت قوتها الانتخابية كذلك نتيجة التزايد الديموغرافي في الوسط الديني الذي يُعتَبر أكثر خصوبة من بقية الأوساط اليهودية. التحولات السياسية والاجتماعية والديمغرافية في دولة الكيان هي من أنتجت وأوجدت هذا التوجُّه الصهيوني المتطرف، الذي يسعى دومًا لعرقلة المفاوضات وإعاقة وصول عملية السلام بين الصهاينة والفلسطينيين إلى نهايتها، ووضعها أمام صعوبات كبيرة أشبه بحائط مسدود خاصة فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي، وعلى رأسها مسألة القدس التي ترى فيها الأحزاب الدينية المتشددة مسألة مصير لا يمكن الحديث عنها أو التفاوض بشأنها؛ لأنها مسألة تاريخية عقدية أيديولوجية تتعلق بمصيرهم الدينيّ ووجودهم، لذلك يسعون لطمس الملامح العربية والإسلامية فيها، والقيام بنشاطات مكثفة من أجل خلق واقع ديمغرافي جديد، وإسكان اليهود فيها وتهجير الفلسطينيين منها وإضفاء الصبغة اليهودية والصهيونية عليها. إن التحوُّل الصهيوني المتسارع نحو التشدُّد والتطرُّف والعنصرية، يساهم بشكل كبير في إسقاط حقوق الشعب الفلسطيني؛ كون رؤيتهم تنبع من إيمانهم بأحقيتهم في دولة «إسرائيل» الكبرى، أو ما يُعرَف توراتيًّا بأرض كنعان، التي وردت في أسفار العهد القديم التي يجب أن تضم شمال سيناء، بالإضافة إلى فلسطين والأردن ولبنان وأجزاء من سوريا والعراق، وأن القدس هي عاصمتهم، والاستيطان حقّ وتمدُّد طبيعيّ لدولتهم الكبرى، وأن الفلسطينيين أغيارًا لا حقَّ لهم بأرض فلسطين، ويجب طَرْدهم وترحيلهم، هذا هو الفكر الصهيوني الجديد التي تسير خلفه حكوماتهم الصهيونية المتشددة، وصولاً إلى صراع عقديّ دينيّ يُنْهِي وجودهم الذي نصَّ عليه ديننا وقرآننا. |
القدس في النظرية السياسية المملوكة
القدس في النظرية السياسية المملوكة د. أحمد عبدالرازق عبدالعزيز https://static.islamway.net/uploads/...s/12%D8%B6.png كان الاهتمام بالقدس هو أحد أهم اهتمامات الدولة الدينية، وترجع أهمية بسط السيادة والسيطرة عليها لأهميتها التاريخية؛ فمقدار قوة الدولة المملوكية بمقدار سيطرتها على هذه المدينة بما فيها من مقدسات أمام الغرب الأوروبي يمر الزمان وتتغير الأحداث التاريخية؛ وتظل القدس محور اهتمام الدول العربية والإسلامية، ربما لِـمَا تعرضت له من محن وابتلاءات على مدى تاريخها، أو لأنها كانت مطمعاً دائماً منذ قديم الزمان وحتى الآن للعديد من قوى الاستعمار باسم الدين؛ ولذا حرصت الدول الإسلامية منذ القِدم على حمل لواء حماية هذه المدينة المقدسة، ومن ضمن هذه الدول كانت دولة سلاطين المماليك في مصر، فقد ساعدت الظروف والأحداث السياسية التي أحاطت بالمنطقة الإسلامية في العصور الوسطى فرسان المماليك على حمل لواء الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية ضد الزحف الصليبي بعد أن تهاوت الدولة الأيوبية وانشغلوا فيما بينهم من خلافات. فقد ثبت لفرسان دولة سلاطين المماليك أن قوَّتهم وانتصاراتهم في موقعة المنصورة ضد الصليبين وفي عين جالوت ضد التتار[1] لم تكن لتشفع لهم في أن يحكموا الديار المصرية؛ إذ كان لزاماً عليهم أن يجدوا ما يغلِّف كل ذلك أمام المنطقة شعباً وسلطة؛ فكان لا بد من الواجهة الدينية التي كانت الإطار أمام المجتمع المصري بمختلف طبقاته، ومن ثَم كان أحد أركان الواجهة الدينية هو الاهتمام بالقدس، وكان انهيارها بمثابة أحد أسباب سقوط كيان الدولة. وكان الاهتمام بالقدس هو أحد أهم اهتمامات الدولة الدينية، وترجع أهمية بسط السيادة والسيطرة عليها لأهميتها التاريخية؛ فمقدار قوة الدولة المملوكية بمقدار سيطرتها على هذه المدينة بما فيها من مقدسات أمام الغرب الأوروبي؛ لذا حرص رجال الدولة بداية من رأس الدولة على العناية التامة بالقدس سواء بشكل مادي أو معنوي. وقد احتلت مدينة القدس أهمية خاصة عند العرب، فهم الذين أطلقوا عليها تسمية القدس (أي المقدسة)، وقد اتُّخذَت قِبلَة أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم من باب التقديس لا التقليد، وإليها كان الإسراء ومنها كان المعراج، وترجع أهميتها تاريخياً إلى أنها «كانت محل الأنبياء وقبلة الشرائع ومهبط الوحي»[2]. ويُعد أول من أيقن تلك الأهمية العتيقة هو السلطان الظاهر بيبرس، ففي عام 660هـ/1261م قام بترميم قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، وتجديد الحرم الإبراهيمي، واستمر هذا الاهتمام في عهد السلطان قلاوون والناصر محمد، ولأهمية هذه المدينة أصبحت نيابةً مستقلة تتبع السلطة المركزية في القاهرة مباشرة بعد أن كانت تتبع دمشق[3]. وربما كان ذلك بسبب إصرار الغرب الأوروبي على الاستيلاء على بيت المقدس، يشير إلى ذلك قول أحد حجاج بيت المقدس من النصارى الغربيين عند زيارته لها عام 722هـ/1322م: إن الرب لم يدع بيت المقدس ليظل تحت يد الحكام المسلمين كثيراً. ومن ذلك ما يرويه المقريزي عندما أرسل ملك فرنسا فليب السادس في طلب القدس وبلاد الساحل فأنكر السلطان الناصر محمد عليهم ذلك وأهانهم و (رسم بعودتهم إلى بلادهم) وكان ذلك في عام 730هـ/ 1329م[4]. ونظراً لتلك الأهمية التاريخية حرص سلاطين المماليك على زيارة هذه المدينة من وقت لآخر مثلما حدث عامي 668هـ/1269م، وعامي 817هـ/1414م، وفي عام 824هـ/1421م أبطل السلطان ططر ما كان يجبى لنائب القدس في كل سنة أثناء زيارته لها وعوض نائبها، وعموماً كانت الصفة الغالبة على المدينة هي حرص المماليك على تأكيد نفوذهم الديني عن طريق نشر العدل والتسامح بين طوائف السكان المختلفة من مسلمين ونصارى ويهود[5]. ونظراً لأهمية هذه المدينة فقد أضفى السلاطين رعايتهم لها من خلال بعض الأوامر التي تصدر بغلق كنيسة القيامة من وقت لآخر نتيجة للاعتداءات الصليبية على المسلمين من قِبل القراصنة أو نصارى إسبانيا والبرتغال مثلما حدث في أعوام 825هـ/1421م، 892هـ/1486م، أما في عام 916هـ/1510م كان السلطان الغوري شديد اللهجة رغم أن تلك الحقبة كان فيها غروب شمس الدولة؛ إلا أن الغوري أمر بالقبض على الرهبان في كنيسة القيامة بسبب قتل الفرنج للأمير محمد، وأخذ مراكب السلطان، وبحضور القساوسة في رجب قام بتوبيخهم وأمرهم أن يكتبوا لملوك الفرنج لردِّ ما تم أخذه من مراكب وسلاح وإلا هدمتُ كنيسة القيامة وشنقتُ الرهبان، ووسط كل أجواء الفساد التي أحاطت بالدولة في الداخل والخارج، جاء قُصَّاد ملك الحبشة في محرم922هـ/ فبراير1516م ليستأذنوا في زيارة كنيسة القيامة بالقدس فأذن لهم[6]. ولم يكن استئذان قصَّاد ملك الحبشة في زيارة كنيسة القيامة إلا دليلاً على قوة الدولة، بالإضافة لخضوع الأحباش دينيّاً لبطريرك الإسكندرية. ومع كل ذلك كانت هناك عوامل أثَّرت بطريق غير مباشرة على قلة الاهتمام بالقدس في الداخل، فقد منيت القدس بعدة أوبئة أهمها الوباء الأسود عام 749هـ/1348م، الذي استمر حتى عام 750هـ/1349م؛ بالإضافة لسوء الأحوال الاقتصادية التي عمَّت دولة سلاطين المماليك في آواخرها، وقد لعب شحُّ الأمطار دوراً حيويّاً في نزوح كثير من الناس عن هذه البلاد وهو ما أدى لزيادة الأسعار وهلاك كثير من الناس والحيوانات تحت وطأة الأوبئة والمجاعات، كما حدث في عام 829هـ/1425م، بالإضافة لمداهمة العربان القاهرة والقدس والمناطق المتاخمة لها مما يوحي بتدهور دور الدولة السياسي[7]؛ فليس هناك أدنى شك أنه وسط المشاكل الداخلية بالدولة يقل الاهتمام بتلك المدينة في ظل الظروف المصاحبة لها. وقد فقدت الدولة السيادة على القدس في عام 922هـ/1516م بشكل نهائي عندما أمضى سليم خان الشتاء في دمشق ثم تحرك بجيشه نحو غزة حتى دخل القدس فزار بها أضْرحة الأنبياء، فعلى أقل تقدير استطاع رجال الدولة الاحتفاظ بلقب «حامي الحرمين الشريفين والقبلتين» لعقود عدة[8]، وبذلك كانت نهاية سيطرة السلطنة على مدينة القدس العتيقة. فكانت مدينة القدس وما زالـت رمزاً دار حوله الصراع على مدى أجيال عدة في تاريخ المنطقة، والقدس اليوم رمز في صراع جديد قديم بين القوى العربية والإسلامية وقوى البغي والعدوان الآتية من خارج المنطقة تفرض الاستيطان العنصري برداء الدين، والقدس في ماضينا القريب كانت رمزاً لصراع بين العرب والقوى الصليبية التي وفدت إلى المنطقة تزرع فيها كياناً دخيلاً؛ فما أشبه اليوم بالبارحة! فكانت محور الدعوة الصليبية بالأمس، كما هي محور الدعاوى الصهيونية اليوم[9]، وستظل القدس ومقداستها بقلب كل عربي مهما حاولت القوى الخارجية الحالية أن تمحوَها من ذاكراتنا. [1] المقريزي، السلوك، (دار الكتب، القاهرة، 2009م)، جـ1ق2، ص350 - 359، 428 - 433. Holt.p.m ,the position and power of the mamluksultan,bulletin of the school of oriental and African studies, university of london, 1975,p.237. [2] القزويني، آثار البلاد، (دار صادر، بيروت، 1960م)، ص159، 160. إبراهيم محمود زعرور، القدس في العهد الأيوبي، (دار المنظومة، 1998م)، ص90. [3] القلقشندي، صبح الأعشى، (دار الكتب، القاهرة، 2010م)، 4/199. المقريزي، مصدر سابق، جـ 1ق2، ص725. [4] المقريزي، مصدر سابق، ج2ق2، ص319. انظر علي السيد علي، القدس في العصر المملوكي، (دار الفكر، القاهرة، 1986م)، ص35. [5] ابن الصيرفي، نزهة النفوس، (دار الكتب، القاهرة، 2010م)، 1/342، 396. ابن إياس، بدائع الزهور، (دار الكتب، القاهرة، 2008م)، ج1ق1، ص331، 449، 2/72، 73 . انظر علي السيد، مرجع سابق، ص110. [6] ابن إياس، مصدر سابق: 2/84، 3/244 - 245، 4/193 - 195، 5/ 12. [7] المقريزي ، مصدر سابق، جـ2 ق3 ، ص740 - 804، جـ4 ق2، ص609. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، (دار الكتب المصرية، القاهرة، 2006م)، 10/ 203 - 211.ابن إياس، مصدر سابق، 2/104. [8] وثيقة بيع، (تحقيق عبد اللطيف إبراهيم، ضمن كتاب المدخل إلى دراسة الوثائق العربية، دار الثقافة القاهرة، 1980م)، ص208 - 213. أوليا جلبي، سياحة نامة مصر، (دارالكتب، القاهرة، 2009م)، ص167. انظرعلي إبراهيم حسن، دراسات في تاريخ المماليك، (النهضة المصرية، القاهرة، 1944م)، ص186. [9] علي السيد علي، مرجع سابق، ص5. |
سيناريوهات الصراع على الأقصى
سيناريوهات الصراع على الأقصى . حسن الرشيدي https://i.imgur.com/OqRcMYA.jpg المتتبع لما يحدث في فلسطين يلاحظ أن الصراع قد تحوَّل من نزاع حول فلسطين كلها، ليتركز حول مدينة القدس بعد عام 1967م، بل إنه منذ أكثر من عقدين من الزمن دخل دائرة أكثر تركيزاً، وصار بالتحديد حول المسجد الأقصى، أو ما يطلق عليه اليهود وبعض طوائف النصارى (هيكل «أخشى من انهيار إسرائيل كما انهارت الدول اليهودية السابقة» هذه ليست نبوءة كتبها أو قالها دجالون من الذين ينتشرون الآن على الفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي؛ بل كتبها رئيس وزراء الكيان السابق إيهود باراك في صحيفة يديعوت أحرنوت منذ عدة أسابيع تعبيراً عن مشاعر الإحباط لدى الكيان الصهيوني، ويقول فيها بالحرف: إن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية في عقدها الثامن وهي التجربة الثالثة، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها. فالعقد الثامن لإسرائيل - كما كتب باراك - دائماً يبشِّر بحالتين: بداية تفكك السيادة، ووجود مملكة بيت داود التي انقسمت إلى يهودا وإسرائيل. وقد سبق لرئيس الوزراء السابق نتنياهو في عام 2017م، أن ردَّد تقريباً الكلام نفسه حينما صرَّح بأنه حريص على أن تبلغ إسرائيل المئوية الأولى، لكن التاريخ يخبره أنه لم تعمِّر لليهـود دولة أكثر من 80 سنة في كل تاريخها إلا مرة واحدة هي دولة الحشمونائيم. هذا التشاؤم الذي يبديه زعماء الكيان ليس ترديداً لتنبؤات عشوائية أو قديمة، بل قد يكون إستراتيجية مقصودة ربما لجذب التعاطف الدولي مع قضية اليهود في فلسطين، أو لتجميع اليهود للالتفاف حول السياسات الإسرائيلية والنخبة الحاكمة. والمتتبع لما يحدث في فلسطين يلاحظ أن الصراع قد تحوَّل من نزاع حول فلسطين كلها، ليتركز حول مدينة القدس بعد عام 1967م، بل إنه منذ أكثر من عقدين من الزمن دخل دائرة أكثر تركيزاً، وصار بالتحديد حول المسجد الأقصى، أو ما يطلق عليه اليهود وبعض طوائف النصارى (هيكل سليمان). وفي الآونة الأخيرة تسارعت وتيرة الصراع حول المسجد الأقصى نتيجة عوامل عديدة، وأصبح لا يمر أسبوع إلا وتتناقل الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي صوراً وأخبارَ الصِّدامات داخل المسجد ومحيطه، فالمتطرفون اليهود يصرُّون على الدخول إلى ساحة المسجد والصلاة فيه ورفع الأعلام الصهيونية، وعندما يتصدى لهم المصلون الفلسطينيون يتدخل الجنود الصهاينة، ويدنِّسون المسجد بأحذيتهم وينهالون على المسلمين ضرباً وسحلاً واعتقالاً، لا يفرقون بين رجل وامرأة وطفل. كل هذا كان سبباً لدخول المنظمات الفلسطينية المسلحة في غزة على خط الصراع، لتبرز معادلةٌ جديدةٌ، وتضع تلك المنظمات ما يجري في المسجد الأقصى سبباً وشرطاً من بين شروط أخرى لبدء حرب على الكيان بالصواريخ أو التوقف عنها. ومنذ أكثر من شهر دخل الصراع على الأقصى نفقاً جديداً، عندما بدأ مسلحون فلسطينيون بتنفيذ عمليات في العمق الصهيوني ضد المستوطنين في ظاهرة يطلق عليها (الذئاب المنفردة)، ردّاً على استفزازات الصهاينة في المسجد، وهو ما نتج عنه إصابة ومقتل العديد من هؤلاء المتطرفين الصهاينة. فإلى متى سيستمر هذا التوتر والصدامات حول الأقصى وداخل أروقته؟ وما هو مستقبل الصراع على المسجد؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة لما سيؤول إليه هذا النزاع؟ هناك عدة مناهج علمية لتوقع الظواهر السياسية المستقبلية، أشهرها منهج السيناريو. ويحدد علماء المستقبليات مجموعة من الطرق لبناء السيناريوهات، اخترنا إحداها في هذا المقال على النحو التالي: يتم استنباط بناء السيناريو من التعريف، فالسيناريو هو وصف لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه؛ مع توضيحٍ لملامح المسار أو المسارات التي يمكن أن ينجم عنها هذا الوضع المستقبلي؛ وذلك انطلاقاً من الوضع الراهن أو من وضع ابتدائي مفترض. فهذا التعريف يجعل السيناريو مكوناً من ثلاثة أجزاء: وضع مستقبلي، ووضع ابتدائي مفترض، ومسارات من الابتدائي إلى المستقبلي. أي أن بناء السيناريو هنا يعتمد على ثلاث خطوات: وصف الوضع المستقبلي. تحديد الوضع الراهن أو الابتدائي. تعيين المسارات التي سيسير فيها السيناريو. بحيث ننتهي إلى ثلاثة سيناريوهات نهائية يؤول إليها مستقبل الصراع: (سيناريو ممكن، وسيناريو محتمل، وسيناريو معياري). بالنسبة للنطاق الزمني لتوقع مستقبل الصراع على الأقصى، فقد أخذنا بالتقسيم الذي وضعته جامعة مينيسوتا الأمريكية للمستقبل؛ وهو أن المستقبل المتوسط يكون: من خمسة أعوام إلى عشرين عاماً، واخترنا أن يكون بالتحديد خلال السنوات العشر القادمة. وعندما نطبق هذا المنهج على الوضع الذي يجري في الأقصى نجد أن بنية الصراع على الأقصى والقوى التي تتحكم فيه تتكون أساساً من طرفين داخلي ومحلي وهما الكيان الصهيوني والفلسطينيون، وتأتي بعد ذلك الأطراف الخارجية وهي كثيرة، ولكن نستطيع أن نحدد أكثر الدول تأثيراً سواء كانت دولية كالولايات المتحدة، أم إقليمية فاعلة، سواء كانت عربية أم تركيا أم إيران. وبذلك إذا استطعنا تحديد الاتجاهات المستقبلية لهذه الأطراف وموقفها من الصراع، يمكننا تخيُّل سيناريوهات تقريبية لما ستؤول إليه الأوضاع حول الأقصى. أولاً: الكيان الصهيوني يعاني الكيان الصهيوني بالفعل من عدة أزمات، أولها تحوُّل هدفه في البقاء من دولة تمتد جغرافياً حيث تقف الدبابة الإسرائيلية كما صرح شارون، إلى دولة منغلقة على نفسها بأسوار ذات أذرع عسكرية طويلة تمتد إلى أي مكان يهدد أمنها. هذه الأزمة نتجت عمَّا يراه الكيان اختلالاً ديموغرافياً حدث نتيجة زيادة الفلسطينيين في مناطقهم الثلاث سواء في غزة أم في الضفة أم في ما يعرف بأراضي الـ (48)، بحيث أصبح - ولأول مرة - عدد الفلسطينيين يفوق عدد اليهود في فلسطين التاريخية منذ ديسمبر 2020م. ولذلك تبنَّت إسرائيل ثلاثة حلول لمشكلتها الكبرى يمكن اعتبارها بمثابة شروط تفوُّق في صراعها: أولاً: ما أُطلق عليه صفقة القرن، وهو مشروع غامض لم يُكشَف عن تفاصيله، ولكن تسربت ملامحه إلى الإعلام، ويقضي بمبادلة أراضٍ بين الكيان ومصر في سيناء والنقب ليتم تهجير جزء من الفلسطينيين إليها، كما يتم تهجير بعض آخر إلى الأردن ليقام هناك كيان فلسطيني يتم دمجه مع المملكة الأردنية. وقد تبنَّت هذا المشروع الإدارة الأمريكية السابقة بزعامة ترامب وتوقف الكلام عنه مع رحيلها. ثانياً: فك العزلة الإسرائيلية بإدماجها في المنطقة بل بقيادتها، وإعادة العلاقات مع دول تمثل ثقلاً اقتصادياً وإستراتيجياً في الشرق الأوسط. ثالثاً: يتضمن احتواء الفصائل المسلحة الفلسطينية بتفكيكها أو ضمان عدم إطلاق صواريخ وأعمال فدائية منها ضد الدولة الصهيونية، ومحاولة عزلها عن محيطها الجماهيري العربي بحملات دعائية. ثانياً: الفلسطينيون هم الطرف الثاني في معادلة الصراع حول الأقصى، وجاءت أحداث الأقصى وما صاحَبها من استفزاز صهيوني لتوقظ صحوةً في نفوس الجماهير الفلسطينية في المناطق الفلسطينية الثلاث في غزة والضفة والمناطق المحتلة عام 1948م؛ خاصة مع ظهور إحساس بأن مصيرهم أصبح واحداً. وشروط التقدم الفلسطيني ثلاثة، هي: • ظهور قيادة سواء كانت فردية أم جماعية تلتفُّ حولها الجماهير. • بلورة إستراتيجية تدير المواجهة مع إسرائيل سواء بالإعداد العسكري أم بإتقان الفعل السياسي، تهيئ مساحات للحركة السياسية وتوجه الفعل العسكري إلى مسارات لصالح القضية. • استثمار تفاعل فلسطينيي المناطق الثلاث والإحساس المشترك بأهمية التعاون، لإيجاد مظلة مناسبة ينضوي الفلسطينيون تحتها. ثالثاً: الولايات المتحدة يظل التدخل الأمريكي هو العامل الدولي الأكثر تأثيراً على الصراع في فلسطين، ولكن هذا التدخل يتأثر بعدَّة عوامل أهمها: النزاع بين اللوبي الصهيوني في أمريكا والتيار الليبرالي، وهذا النزاع تغذِّيه النبوءات التوراتية التي يحملها الإنجيليون وتيار من اليهود وما يتعلق بضرورة إقامة هيكل سليمان فوق أنقاض الأقصى شرطاً لنزول مسيحهم المزعوم، وقد دعم هذا التيار ترامب للوصول إلى الرئاسة آخذاً بنصائح زوج ابنته كوشنار مهندس صفقة القرن التي تدور حول تهجير جزء كبير من الفلسطينيين إلى سيناء والأردن لتدشين دولة في فلسطين يكون اليهود فيها أغلبية، ولكن تيار الليبراليين الأمريكيين المدعومين بجماعات ضغط قوية من الأقليات في أمريكا كالزنوج واللاتينيين والعرب الذين نجحوا في إسقاط اليمين الأمريكي سواء في الرئاسة أو الكونجرس، ليتوقف الزخم الأمريكي لهدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان مؤقتاً لحين موعد الانتخابات القادمة سواء التجديد النصفي للكونجرس أواخر هذا العام، أو الرئاسة بعد عامين ونصف. أما العامل المهم الآخر فهو الانشغال الأمريكي بالحرب في أوكرانيا، هذا الانشغال يجعل تركيز الإدارة الأمريكية منصبّاًعلى احتواء روسيا ومحاولة الحدِّ من دورها العالمي، وهذا يستتبعه تهدئة باقي الصراعات وعدم حسم القضايا الأخرى، وتنتظر الولايات المتحدة من أطراف هذه النزاعات دعمها في محاصرتها للروس، وتشير أكثر المعطيات بخصوص الحرب في أوكرانيا أنها قد تمتد لسنوات، فالأمريكان يريدون استنزاف روسيا وقصقصة أجنحتها، إلا إذا ظهر عامل غير متوقع ينهي الحرب فيها سريعاً كوفاة بوتين مثلاً. إذاً هناك شرطان يتوقف عليهما التأثير الأمريكي في قضية الأقصى، وهما وصول اليمين الأمريكي للحكم مرة أخرى، والحرب الدائرة في أوكرانيا وموعد انتهائها. رابعاً: التأثير العربي ينقسم الموقف العربي الحالي من الصراع في الأقصى، بين دول انخرطت في تطبيع علني محموم مع الكيان الصهيوني، ودول مترددة، ودول تعلن رفضها للتطبيع مطلقاً، ودول أخرى طبعت مع الكيان منذ عقود ولكنها تشعر بتضارب بعض المصالح معه حالياً. هذا النوع الأخير من الدول يتعامل مع قضية الأقصى على أنها (كارت) تفاوض به الاحتلال الصهيوني، فهي تأخذ موقفاً علنياً تندد بممارساته وربما دعمت المقاومة الفلسطينية سواء بتسهيل انتقال السلاح والمؤن إليها، وذلك للضغط على سلطات الاحتلال للتخلي عن ملفات اقتصادية وسياسية تريدها. وتأثير الدول العربية قد يقلب موازين الصراع على الأقصى بإمكانياتها الاقتصادية والديموغرافية والجيوسياسية، وكذلك بتأييد شعوب هذه الدول وتعاطفها مع الفلسطينيين باعتبار أن الأقصى قضية المسلمين الكبرى. ولكنَّ ثمة شروط لهذه الدول على خط النزاع حتى يكون دورها مؤثراً في تحديد مستقبل المسجد الأقصى، هي: أولها: استعادة إحساسها بأنها أكبر قوة إقليمية لو اجتمعت وتخلَّت عن أنانيتها، وهنا يوجد تساؤل حول المدى الذي يمكن أن يتطور فيه الصراع في فلسطين إذا حدث تغيير للنظام السياسي، أو حتى إذا انتشرت الفوضى والانتفاضات مثل ما حدث في زخم الربيع العربي داخل كيانات ما يُعرَف بدول الطوق حول فلسطين، وهي الأردن ومصر؛ خاصة أن لهاتين الدولتين تأثيراً كبيراً على مجريات ما يحدث سواء ما يتعلق بالدور الأردني في الضفة والإشراف على الأقصى، أو ما يتعلق بالدور المصري في غزة وتحكُّمها في المعابر التي تربط القطاع بالعالم الخارجي. ثانيها: توافق الدول العربية مع دول إقليمية إسلامية ذات ثقل إستراتيجي وعسكري كبير مثل تركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وإشراكها في الضغوط الجارية على الكيان الصهيوني. خامساً: التأثير التركي منذ صعود حزب العدالة التركي لسدة الحكم في تركيا في أواخر عام 2002م، حرص النظام التركي على جعل القضية الفلسطينية في مقدمة أولوياته في إطار إستراتيجيته الشاملة لاستعادة مكانة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط كقوة كبرى تتبنى قضايا المسلمين، وباعتبار أن هناك إرثاً تاريخياً تركياً يتمثل في رفض السلطان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين الأقوياء للعثمانيين بيع أراضي القدس لليهود. وقد وصل الدعم التركي حدّاً أن صممت سفينة تركية على كسر الحصار المفروض على غزة منذ عدة سنوات، ولكن تصدت لها القوات الصهيونية فقتلت عشرة أتراك، وهو ما أدى إلى وصول التوتر في العلاقات التركية الصهيونية إلى ما يشبه القطيعة. ولكن مؤخراً ومع اقتراب انتخابات الرئاسة التركية العام القادم، تغير الدعم التركي لفلسطين في ظل التراجع المخيف للاقتصاد التركي وهو القنطرة التي كان يعتمد عليها أردوغان لجذب شريحة كبيرة من الناخبين الأتراك، ومع دخول تركيا في حالة حصار مزدوج سواء من الغرب الذي بات يشعر بخطورة صعود تركيا وعدم تعاونها في حصار روسيا، أو من تحالف إقليمي رأى في الدور التركي المساند للربيع العربي تدخلاً في شؤون داخلية خاصة بالعرب. حالة الحصار تلك أدت إلى اهتزاز الاقتصاد، وهذا أيضاً أدى إلى تراجع الرئيس التركي والعودة مرة أخرى لسياسة تصفير المشاكل مع دول المنطقة لكسر هذا الحصار في محاولة تغذية شرايين الاقتصاد واستعادة ثقة الناخب التركي مرة أخرى. وهكذا بدأ قطار التراجع التركي باستعادة علاقاتها القوية مؤخراً مع الخليج وإسرائيل، وهو ما أدى إلى تراجع الدعم وخفوت الصوت التركي في تأييد فلسطين، والأسوأ من هذا أن يسقط أردوغان في الانتخابات القادمة ويجيء نظام حكم جديد تنعدم فيه أي فرصة ممكنة لحصول دعم تركي لفلسطين. ولذلك فإن شروط عودة الدور التركي مرة أخرى ليؤثر في قضية الأقصى هو إعادة انتخاب أردوغان مرة أخرى، وتزايد قوة الاقتصاد التركي، ونجاح أردوغان في خلخلة الحصار الغربي والعربي على الأتراك. سادساً: التأثير الإيراني يستخدم النظام الإيراني منذ الثورة الإيرانية عام 1979م الورقة الفلسطينية في محاولة كسب تعاطف الجماهير المسلمة وتبييض وجهه الطائفي المتطرف، وفي الوقت نفسه يستخدمها ورقة تفاوضية مع الغرب وإسرائيل للاعتراف به قوة إقليمية يجب أخذها في الحسبان عند تقاسم الكعكة في منطقة الشرق الأوسط. فالنظام الإيراني غدا متمرداً على الدور الذي كان منوطاً به إسرائيلياً وغربياً وهو كبح صعود أي قوة عربية سنية ولجمها؛ لا أن ينافس إسرائيل على زعامة المنطقة كما يحدث الآن مستغلاً الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط ليركز على التحدي الصيني والروسي. دعمت إيران المنظمات الفلسطينية بالمال والسلاح سواء مباشرة أو عن طريق وكيلها في المنطقة (حزب الله)، واضطرت حماس لقبول هذا الدعم بعد فقدان الدعم العربي الرسمي الذي لم يكتفِ بوقف الدعم بل شارك الكيان الصهيوني وتحالف معه. ولذلك فإن النظام الإيراني يمكن أن يتراجع عن دعم للمقاومة، إذا اعترفت الولايات المتحدة وإسرائيل بإيران أنها قوة إقليمية يجب أن يكون لها نصيبها من كعكة المنطقة سواء في العراق أو سوريا أو اليمن، وهذا ما يجري التفاوض عليه بين الغرب وإيران فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني حزمة واحدة. فالصراع على الأقصى قد يتأثر في حال تم الاتفاق الإيراني الأمريكي، عندها سيقلُّ الدعم الإيراني إلى حدٍّ كبير للمقاومة الفلسطينية، وستفقد حينها الداعم الرئيسي لها في المنطقة بعد تراجع الدعم التركي والعربي. سيناريوهات الصراع على الأقصى: فائدة تصور وتخيُّل السيناريوهات المبنية على حقائق موجودة على أرض الواقع ممكنة ومحتملة الحدوث؛ أنها تجعل العمل مركَّزاً على تحقيق شروط السيناريو المرغوب فيه ومحاولة تجنب بل تفكيك شروط السيناريو الأسوأ. السيناريو الممكن: يبنى هذا السيناريو على أساس أن العوامل التي تتحكم في الظاهرة لن تتغير في المستقبل الذي تتم فيه الدراسة، وقد سبق أن حددنا تلك المدة بعشر سنوات، وبناء على ذلك فهذا السيناريو يفترض أن وتيرة الصراع ستظل كما هي مع ثبات وضع القوى المحلية والدولية على حالها على النحو التالي: استمرار الحكومات الإسرائيلية بكبح جماح المستوطنين والمتطرفين اليهود عن القيام بأعمال استفزازية ضخمة، وفي الوقت نفسه بقاء قوة الردع الفلسطينية على وضعها الحالي متمثلة في صواريخ المقاومة في غزة أو في عمليات الذئاب المنفردة ضد المستوطنين، واستمرار اليسار الأمريكي في سدة الحكم في واشنطن مع الانشغال الأمريكي بالوضع في أوكرانيا الذي يبقى بلا حسم، وبقاء الوضع العربي متشرذماً ولا يتجمع على موقف موحد خاصة دول الطوق، وبقاء الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية متدفقاً في ظل مراوحة المفاوضات الإيرانية الغربية، في حين تظل تركيا حريصة على علاقتها العربية الإسرائيلية وبقاء دعمها المحدود للفلسطينيين في ظل استمرار أردوغان في الحكم. السيناريو المحتمل: يبنى على أساس دخول متغيرات جديدة تؤدي إلى التحول لمسار جديد في الصراع. والسيناريو المحتمل الأسوأ يتمثل في تمكن الصهاينة من هدم المسجد الأقصى وتشييد ما زعموا أنه هيكل سليمان وشروط نجاح هذا السيناريو، هي: وصول قيادة إسرائيلية متطرفة إلى الحكم تنجح في تطبيق صفقة القرن وتستطيع التغلب على المقاومة المسلحة وخلايا الذئاب المنفردة الفلسطينية بعد أن تكون اندمجت مع الدول العربية المؤثرة في حلف واحد يقوده الكيان الصهيوني، وهذا يتزامن مع وصول قيادة يمينية إنجيلية إلى رئاسة الولايات المتحدة تكون داعمة لهذه الخطوة الصهيونية ويترافق ذلك مع تراجع الاهتمام الأمريكي بحرب أوكرانيا حيث يتم احتواء الدب الروسي والحد من نفوذه، وفي الوقت نفسه تنخرط معظم الدول العربية في المشروع الصهيوني وتجد في هذا المشروع نجاة لها من تحديات داخلية وخارجية، وهذا في ظل فشل الفلسطينيين في إيجاد إستراتيجية تدير المواجهة مع إسرائيل وقيادة تلتفُّ حولها الجماهير ومظلة ينضوي الفلسطينيون تحتها في تكتلاتهم الثلاثة، في حين يفشل حزب العدالة التركي في الانتخابات الرئاسية وتأتي شخصية علمانية تتولى حكم تركيا وتأخذها بعيداً عن القضايا الإسلامية، في حين تتخلى إيران عن دعم المقاومة بعد أن تكون حصلت من الولايات المتحدة وإسرائيل على دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط. السيناريو المعياري أو المفضل أو المرغوب: هو وصف مستقبل مرغوب فيه للمساعدة في صنعه أو تحقيقه. في هذا السيناريو تعجز إسرائيل عن تطبيق إستراتيجيتها سواء في قيادة تحالف من دول المنطقة، أو في تفكيك بنية الفصائل المسلحة، أو السيطرة على الذئاب المنفردة الفلسطينية، وينجح الفلسطينيون في إيجاد قيادة تلتف حولها الجماهير الفلسطينية وفي الوقت نفسه يفعِّلون إستراتيجية مواجهة شاملة مع إسرائيل على جميع المستويات (السياسية والعسكرية) ويتمكنون من توفير مظلة تجمع فلسطينيي المناطق الفلسطينية الثلاث وتتعاون مع فلسطينيي المهجر لتكوين جماعات ضغطٍ مؤثرة في العالم، في حين تنشغل أمريكا بالحرب الأوكرانية التي تمتد لتشمل دولاً أخرى في أوروبا في الوقت الذي يشتعل فيه النزاع بينها وبين الصين على تايوان والتجارة العالمية وينجح اليسار الأمريكي في كبح جماح التطرف اليميني في السياسة الأمريكية، ويحدث تغيير حقيقي في الدول العربية سواء بتغيير السياسات أو النخب الحاكمة؛ بحيث تقدم تلك السياسات أولويات الأمن القومي الجماعي العربي على المصلحة الضيقة لكل دولة على حِدَة، وتنهض تركيا لتتحول إلى القوة الإقليمية الكبرى لتقود الأمة في طريق الصعود العالمي بعد أن تتحرر من مرحلة الضغوط الدولية إلى مرحلة المنافسة على قمة النظام الدولي، ويقل اعتماد الفلسطينيين على إيران بعد أن تتراجع إلى الوراء خلف القوى الإقليمية الصاعدة السنية سواء كانت عربية أم تركية. قد يظن الكثيرون أن السيناريو المأمول هو أحلام! ولكن بالجد واتباع سنن الله في التغيير ستتحول تلك الأحلام والأماني المبنية على الحقائق العلمية بإذن الله إلى صحوة تشمل المسلمين في العالم لتنبعث أمة الإسلام من جديد، وتؤدي دورها المأمول. |
الساعة الآن : 09:43 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour