رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (125) صـ449 إلى صـ 460 فصل وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم ، وهو أن منافع الرقاب ، وهى التي قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام . أحدها : ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكما ولا وجودا كثمرة الشجر قبل الخروج ، وولد الحيوان قبل الحمل ، وخدمة العبد ، ووطء قبل حصول التهيئة ، وما أشبه ذلك ، فلا خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا [ ص: 449 ] غير مستقلة في الحكم ; إذ لم تبرز إلى الوجود فضلا عن أن تستقل ، فلا قصد إليها هنا ألبتة وحكمها التبعية كما لو انفردت فيه الرقبة بالاعتبار . والثاني : ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودا وحكما ، أو حكما عاديا ، أو شرعيا كالثمرة بعد اليبس ، وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه ، ومال العبد بعد الانتزاع ، وما أشبه ذلك ، فلا خلاف أيضا أن حكم التبعية منقطع عنه ، وحكمه مع الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا لا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقا . والثالث : ما فيه الشائبتان فمباينة الأصل فيه ظاهرة ، لكن على غير الاستقلال ، فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني ، وهو ضربان : الأول : ما كان هذا المعنى فيه محسوسا كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة الأصل والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه ، وولد الحيوان قبل الاستغناء عن أمه ، ونحو ذلك . والآخر ما كان في حكم المحسوس كمنافع العروض والحيوان والعقار وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات الفعلية كاللبس والركوب والوطء والخدمة والاستصناع والازدراع والسكنى ، وأشباه ذلك فكل واحد من الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه وانفرد عنه من وجه ولكن الحكم فيهما واحد . [ ص: 450 ] فالطرفان يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم ولكن لما ثبتت التبعية على الجملة ارتفع توارد الطلبين عنه وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه ، ومن جهة أخرى لما برز التابع وصار مما يقصد تعلق الغرض في المعاوضة عليه ، أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة . ولا ينازع في هذا أيضا ; إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة ، وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال ولا العبد الكاتب كالعبد غير الكاتب فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه . [ ص: 451 ] وأيضا فليس تجاذب الطرفين فيه على حد واحد ، بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال ولا يقوى في حال أخرى ، وأنت تعلم أن الثمرة حين أبرزوها وقبل الإبار ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار ، وقبل بدو الصلاح ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح ، وقبل اليبس فإنها قبل الإبار للمشتري . فإذا أبرت ، فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له عند الأكثر . فإذا بدا صلاحها ، فقد قربت من الاستقلال ، وبعدت من التبعية فجاز بيعها بانفرادها ولكن من اعتبر الاستقلال قال : هي مبيعة على حكم الجذ كما لو يبست على رءوس الشجر ، فلا جائحة فيها ، ومن اعتبر عدم الاستقلال ، وأبقى حكم التبعية قال : حكمها على التبعية لما بقي من مقاصد الأصل فيها ، ووضع فيها الجوائح اعتبارا بأنها لما افتقرت إلى الأصل كانت كالمضمونة إليه التابعة له فكأنها على ملك صاحب الأصل ، وحين تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها ; لأن اليسير في الكثير كالتبع . [ ص: 452 ] ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح هل هو على البائع أم على المبتاع ؟ فإذا انتهى الطيب في الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه ، وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة من بقاء النضارة وحفظ المائية اختلف هل بقي فيها حكم الجائحة أم لا بناء على أنها استقلت بنفسها ، وخرجت عن تبعية الأصل مطلقا أم لا . فإذا انقطعت المائية والنضارة اتفق الجميع على حكم الاستقلال فانقطعت التبعية ، وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل تحت هذه الترجمة . فصل وعلى هذا الأصل تتركب فوائد . منها أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جار في الحكم مجرى التابع والمتبوع المتفق عليه ما لم يعارضه أصل آخر كمسألة الإجارة [ ص: 453 ] على الإمامة مع الأذان ، أو خدمة المسجد ، ومسألة اكتراء الدار تكون فيها الشجرة ، أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض اليسير ، ومسألة الصرف والبيع إذا كان أحدهما يسيرا ، وما أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس ، أو في القصد ، أو في المعنى ، ويكون بينها قلة ، وكثرة ، فإن للقليل مع [ ص: 454 ] الكثير حكم التبعية ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة ، وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدا فكان كالملغى حكما . ومنها أن كل تابع قصد فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة على الجملة لا على التفصيل أم هي مقصودة على الجملة والتفصيل ؟ والحق الذي تقتضيه التبعية أن يكون القصد جمليا لا تفصيليا ; إذ لو كان تفصيليا لصار إلى حكم الاستقلال فكان النهي واردا عليه فامتنع ، وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد ، فإن كان جمليا صح بحكم التبعية ، وإذا ثبت حكم التبعية فله جهتان . جهة زيادة الثمن لأجله وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه . فإذا فات ذلك التابع فهل يرجع بقيمته أم لا يختلف في ذلك ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط كالعبد إذا رد بعيب وقد كان أتلف ماله فهل يرجع على البائع بالثمن كله أم لا ، وكذلك ثمرة الشجرة وصوف الغنم ، وأشباه ذلك . [ ص: 455 ] ومنها قاعدة الخراج بالضمان فالخراج تابع للأصل . فإذا كان الملك حاصلا فيه شرعا فمنافعه تابعة سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أو لا ، فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك كان كانتقال الملك على الاستئناف ، وتأمل مسائل الرجوع بالغلات في الاستحقاق ، أو عدم الرجوع تجدها جارية على هذا الأصل . ومنها في تضمين الصناع ما كان تابعا للشيء المستصنع فيه هل يضمنه الصانع كجفن السيف ، ومنديل الثوب وطبق الخبز ، ونسخة الكتاب المستنسخ ، ووعاء القمح ، ونحو ذلك بناء على أنه تابع كما يضمن نفس المستصنع أم لا ، فلا يضمن لأنه وديعة عند الصانع . [ ص: 456 ] ومنها في الصرف ما كان من حلية السيف والمصحف ونحوهما تابعا وغير تابع ، ومسائل هذا الباب كثيرة . فصل ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في [ ص: 457 ] المعاوضات لا يصح العقد عليه ، وما فيه منفعة ، أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام . أحدها : أن يكون جميعها حراما أن ينتفع به ، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة . والثاني : أن يكون جميعها حلالا ، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه . وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيد أن يوجدا في الخارج ; إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب المقاصد ، فلا بد من هذا الاعتبار ، وهو ظاهر بالاستقراء فيرجع القسمان إذا إلى القسم الثالث ، وهو أن يكون بعض المنافع حلالا ، وبعضها حراما فهاهنا معظم نظر المسألة ، وهو أولا ضربان : أحدهما : أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفا والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص ، وعلى خلاف العادة ، فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف والآخر لا حكم له ; لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأجل منافعه ; لأن فيه منافع محرمة ، وهو من الأدلة على سقوط [ ص: 458 ] الطلب في جهة التابع . وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة ، وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب فكذلك هاهنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص ، فإن هذا يحتمل وجهين . الأول : اعتبار القصد الأصيل ، وإلغاء التابع ، وإن كان مقصودا فيرجع إلى الضرب الأول . والآخر : اعتبار القصد الطارئ ; إذ صار بطريانه سابقا ، أو كالسابق ، وما سواه كالتابع فيكون الحكم له . ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسبا به ، وشراء الغلام للفجور به ، وشراء العنب ليعصر خمرا والسلاح لقطع الطريق ، وبعض الأشياء للتدليس بها ، وفي أصالة [ ص: 459 ] المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع ذلك ، وشراء السرقين لتدمين المزارع ، وشراء الخمر للتخليل ، وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن ، أو يستصبح به الناس ، وما أشبه ذلك . والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر ; لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة ، [ ص: 460 ] والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل ، فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من علي الرقيق ، أو الخدمة إن كانت من الوخش ، وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم ، ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فوجه التحليل والتحريم على أنفس الأعيان ; لأن المقصود مفهوم ، وكذلك قال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء : 10 ] ، وأشباهه . وإن كان ذلك محرما في غير الأكل ; لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل ، وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع ، وما لا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له ، وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام في شحم الميتة : إنه تطلى به السفن ، ويستصبح به الناس فأورد ما دل على منع البيع ، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات ; لأن المقصود هو الأكل محرم ، وقال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وأكلوا أثمانها . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (126) صـ461 إلى صـ 470 [ ص: 461 ] وقال في الخمر : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، و إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم ، وما سواه تبع لا حكم له . ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ، ولم يكن قصده البقاء ; لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ، ولا تعتبر في أنفسها ، وإنما تعتبر من حيث هي توابع ، ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة ، بل لم يجز النكاح ; لأن الرجل إذا [ ص: 462 ] نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق ، وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق ، وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع ، وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها ، أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة ، وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر . والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ، ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة ، وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح ، وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ، ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام . فإن صار التابع غالبا في القصد ، وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى [ ص: 463 ] يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم ، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ، ولكن إن فرض اتفاقه انقلب الحكم ، والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع ، وإن لم يتفق ، ولكن القصد إلى التابع كثير فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين ، وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع ، وكثرة ذلك في ضم العقدين ، ومن لا يراها بنى على أصل القصد في انفكاك العقدين [ ص: 464 ] عرفا ، وأن القصد الأصلي خلاف ذلك . والضرب الثاني : أن لا يكون أحد الجانبين تبعا في القصد العادي ، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا ، أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي ; لأن متعلقيهما متلازمان ، فلا بد من انفراد أحدهما ، واطراح الآخر حكما . أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع . وأما على عدم اعتبارها فيصير التابع عفوا ، ويبقى التعيين فهو محل اجتهاد ، وموضع إشكال ، ويقل وقوع مثل هذا في الشريعة ، وإذا فرض وقوعه فكل أحد ، وما أداه إليه اجتهاده . وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع : ينبغي أن يلحق بالممنوع ; لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن ، [ ص: 465 ] والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة فمنع الكل لاستحالة التمييز ، وإن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولا لو قدر انفراده بالعقد هذا ما قال ، وهو متوجه . وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ها هنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع . وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا ; لأن درء المفاسد مقدم ، ولأن قاعدة التعاون هنا تقضي بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ، ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدا ، [ ص: 466 ] وشراء السلاح لقطع الطريق ، وشراء الغلام للفجور ، وأشباه ذلك ، وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع ، وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم ، وكون المعاوضة فاسدة ، أو غير فاسدة . وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد . [ ص: 467 ] المسألة التاسعة ورود الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ، ولا هما متلازمان في الوجود ، ولا في العرف الجاري إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معا في عمل واحد ، وفي غرض واحد كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة ، ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة لأن الحكم فيهما واحد ; لأن الأمر قد يكون للإباحة كقوله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . وإنما قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح والمعنى في المساق مفهوم فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض ، ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد ; لأن القصد يأباه والمقاصد معتبرة في التصرفات ، [ ص: 468 ] ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون حالة الانفراد . ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ، ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين ، أو منهيين ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن بيع وسلف ، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز . ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها ، وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، وقال إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الاجتماع مؤثرا ، وهو [ ص: 469 ] دليل ، وكان تأثيره في قطع الأرحام ، وهو رفع الاجتماع ، وهو دليل أيضا على تأثير الاجتماع . وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله ، أو ما بعده . وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم ، أو يومين ، وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا . [ ص: 470 ] ونهى عن جمع المفترق ، وتفريق المجتمع خشية الصدقة ، وذلك يقتضي أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما ليس للانفراد ، ولو في سلب الانفراد . ونهى عن الخليطين في الأشربة ; لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (127) صـ471 إلى صـ 480 [ ص: 471 ] وعن التفرقة بين الأم وولدها ، وهو في الصحيح . [ ص: 472 ] وعن التفرقة بين الأخوين ، وهو حديث حسن ، وهو كثير في الشريعة . [ ص: 473 ] وأيضا فإذا أخذ الدليل في الاجتماع أعم من هذا تكاثرت الأدلة على اعتباره في الجملة كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد كالتعاون والتظاهر ، وإظهار أبهة الإسلام وشعائره ، وإخماد كلمة الكفر ، ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد ، وشرعت المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصا ، وبين سائر أهل الإسلام عموما . وقد مدح الاجتماع ، وذم الافتراق ، وأمر بإصلاح ذات البين ، وذم ضدها ، وما يؤدي إليها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى . وأيضا فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرا زائدا لا يوجد مع الافتراق هذا وجه تأثير الاجتماع . وللافتراق أيضا تأثير من جهة أخرى فإنها إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق أيضا معان لا تزيلها حالة الاجتماع فالنهي عن [ ص: 474 ] البيع والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع ، وهو الانتفاع بكل واحد منهما ; إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع ، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ، ومثله الجمع بين الأختين ، وما في معناه مما ذكر من الأدلة . وأيضا فإن كان للاجتماع معان لا تكون في الانفراد فللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به ، فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان ، فإن مجموعها هو الإنسان ، ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد ، أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان ، بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد واليد تفيد ما لا تفيده الرجل ، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق ، وغيرها . فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات . [ ص: 475 ] فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الأفراد حالة الاجتماع فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع ، فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضا حالة الاجتماع . وأيضا فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضا فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد ، ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين . وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد ، فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ، ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر ، أو بالنهي ، أو لا ، فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة [ ص: 476 ] الصفقة تجمع بين حرام وحلال ، ووجه كل قول منهما قد ظهر . ولا يقال : إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول ، فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع ، وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد ، فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع ، فإنه صار جزءا من الجملة ، وبعض الجملة تابع للجملة ، ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ، أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل ، وسائر الأقسام التي يختلف فيها حكم الجزء مع الكل ، وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا . فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ، ووجه ما تقدم في تعليل المازري ، وما ذكر معه . لأنا نقول : إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا ، وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر ، وله معارض ، وهو اعتبار الأفراد كما مر . وأما توجيه المازري فاعتباره مختلف فيه ، وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ، ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ، ويمكن أن لا . [ ص: 477 ] المسألة العاشرة الأمران يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعها معا في عمل واحد ، وفي غرض واحد ، فقد تقدم أن للجمع تأثيرا ، وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع . ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام أخر أو لا ، فإن كان كذلك رجع في الحكم إلى اجتماع الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان قصدا ، وذلك مقتضى المسألة قبلها ، ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية تقترن به ، فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء ، وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين كان ذلك العمل عادة ، أو عبادة ، فإن اقترن عملان ، وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الاجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت للمصالح فتنافت وجوه المصالح ، وتدافعت ، وإذا تنافت [ ص: 478 ] لم تبق مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد فاستقرت الحال على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه فاستويا في تنافي الأحكام ; لأن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما مر فامتنع ما كان مثله . وأصل هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف ; لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة ، وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان ، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع فخرج السلف عن أصله ; إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة ، أو الذهب بالذهب نسيئة فرجع إلى أصله المستثنى منه من حيث كان ما استثنى منه ، وهو الصرف أصله المغابنة والمكايسة ، والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة . فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع امتنع من جهتين . إحداهما : الأجل الذي في السلف . والأخرى : طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى . وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة إذا لم يكن أحدهما تبعا للآخر ، [ ص: 479 ] وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي في الصلاة وجمع نية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معا وجمع فرضين معا في فعل واحد كظهرين ، أو عصرين ، أو ظهر وعصر ، أو صوم رمضان أداء وقضاء معا إلى أشباه ذلك . [ ص: 480 ] ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض ، وإن كان في بعضها خلاف فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع فمنع من اجتماع الصرف والبيع والنكاح والبيع والقراض والبيع والمساقاة والبيع والشركة والبيع والجعل والبيع والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع ، ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع . وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييق حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس والتقابض الذي لا تردد فيه ، ولا تأخير ، ولا بقاء علقة ، وليس البيع كذلك . والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة ، وعدم المشاحة ، ولذلك سمى الله الصداق نحلة ، وهي العطية لا في مقابلة عوض ، وأجيز فيه نكاح التفويض . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (128) صـ481 إلى صـ 490 بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة ; إذ هما مستثنيان من أصل [ ص: 481 ] ممنوع ، وهو الإجارة المجهولة فصارا كالرخصة . بخلاف البيع ، فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل ، وغير ذلك فأحكامه تنافي أحكامهما . والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين والبيع يضاد ذلك والجعل مبني على الجهالة بالعمل ، وعلى أن العامل بالخيار والبيع يأبى هذين واعتبار الكيل في المكيل قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم . والإجارة عقد على منافع لم توجد فهو على أصل الجهالة ، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة والبيع ليس كذلك . وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة ، وخيار في أخرى والمنع بناء على تضاد البت والخيار . وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما ، أو عدم تضادها كذلك اختلفوا أيضا في جمع العبادي مع العادي كالتجارة في الحج ، أو الجهاد ، وكقصد التبرد مع الوضوء ، وقصد [ ص: 482 ] الحمية مع الصوم ، وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة . وقد مر هنا ، وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة ، وبالله التوفيق . وإن كانا غير متنافي الأحكام ، فلا بد أيضا من اعتبار قصد الاجتماع . وقد تقدم الدليل عليه قبل ، فلا يخلو أن يحدث الاجتماع حكما يقتضي النهي ، أو لا . فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيا عنها واتحدت جهة الطلب ، فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء وصارت الجملة شيئا واحدا يتعلق به ، إما الأمر ، وإما النهي ، فيتعلق به الأمر إن اقتضى المصلحة ، ويتعلق به النهي إذا اقتضى مفسدة فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة ، فلا بد أن يتعلق به النهي كالجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، أو خالتها ، والجمع بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله ، وما بعده والخليطين في الأشربة ، وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه في مذهب مالك ، فإن الجمع يقتضي عدم [ ص: 483 ] اعتبار الإفراد بالقصد الأول فيؤدي ذلك إلى الجهالة في الثمن بالنسبة إلى كل واحد من البائعين ، وإن كانت الجملة معلومة فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها . وأما المجيز فيمكن أن يكون اعتبر أمرا آخر ، وهو أن صاحبي السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك معنى الشركة فيهما فكأنهما قصدا الشركة أولا ، ثم بيعهما والاشتراك في الثمن ، وإذا كانا في حكم الشريكين فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين ; لأن كل واحدة كجزء السلعة الواحدة فهو قصد تابع لقصد الجملة ، فلا أثر له ، ثم الثمن يفض على رءوس المالين إذا أرادا القسمة ، ولا امتناع في ذلك ; إذ لا جهالة فيه فلم يكن في الاجتماع حدوث فساد . وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي فالأمر متوجه ; إذ ليس إلا أمر ، أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه . [ ص: 484 ] المسألة الحادية عشرة الأمران يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما راجعا إلى الجملة والآخر راجعا إلى بعض تفاصيلها ، أو إلى بعض أوصافها ، أو إلى بعض جزئياتها فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول . والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع ، وهو الأمر الراجع إلى الجملة ، وما سواه تابع ; لأن ما يرجع إلى التفاصيل ، أو الأوصاف ، أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة لها ، وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا مطلقا ، وهذا معنى كونه تابعا . وأيضا فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون مقتضى الأمر بالجملة ، بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن إيقاع التفاصيل ; لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي ، وإذا كان كذلك فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة . ولذلك أمثلة كالصلاة بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية والخبثية ، وأخذ الزينة والخشوع والذكر والقراءة والدعاء واستقبال القبلة ، وأشباه [ ص: 485 ] ذلك ، ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب الكسب فيها وإخراجها في وقتها ، وتنويع المخرج ، ومقداره ، وكذلك الصيام مع تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، وترك الرفث ، وعدم التغرير ، وكالحج مع مطلوباته التي هي له كالتفاصيل والجزئيات والأوصاف التكميليات ، وكذلك القصاص مع العدل واعتبار الكفاءة والبيع مع توفية المكيال والميزان ، وحسن القضاء والاقتضاء والنصيحة ، وأشباه ذلك فهذه الأمور مبنية في الطلب على طلب ما رجعت [ ص: 486 ] إليه وانبنت عليه ، فلا يمكن أن تفرض إلا وهي مستندة إلى الأمور المطلوبة الجمل ، وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات . بخلاف الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع كالشجرة المثمرة قبل الطيب ، فإن النهي لم يرد على بيع الثمرة إلا على حكم الاستقلال فلو فرضنا عدم الاستقلال فيها فذلك راجع إلى صيرورة الثمرة كالجزء التابع للشجرة ، وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة ، وهو معنى القصد إلى العقد عليهما معا فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم ، وحصل من ذلك اتحاد [ ص: 487 ] الأمر ; إذ ذاك بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها ، وأوصافها . وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينيات ، فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج ، وهو الضروريات بلا شك والتحسينات مكملات ومتممات ، فلا بد أن تستلزم أمورا تكون مكملات لها ; لأن التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع ، بل قبيحا مثلا ، أو ناقصا ، أو ضيقا ، أو حرجا ، فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب فالمطلوب أن يكون تحسينا وتوسيعا ، تابع في الطلب للمحسن والموسع ، وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية ، وإذا ثبت هذا تصور في الموضع قسم آخر ، وهى . [ ص: 488 ] المسألة الثانية عشرة فنقول : الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى الجملة والآخر راجع إلى بعض أوصافها ، أو جزئياتها ، أو نحو ذلك ، فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز اجتماعهما وله صورتان إحداهما أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها ، وهذا كثير كالصلاة بحضرة الطعام والصلاة مع مدافعة الأخبثين والصلاة في الأوقات المكروهة وصيام أيام العيد والبيع المقترن بالغرر والجهالة والإسراف في القتل ، ومجاوزة الحد في العدل فيه والغش والخديعة في البيوع ، ونحوها إلى ما كان من هذا القبيل . والثانية : أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله . [ ص: 489 ] وإتباع السيئة الحسنة لقوله تعالى : ثم يتوبون من قريب [ النساء : 17 ] . وروى : من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا . [ ص: 490 ] وأشباه ذلك . فأما الأول ، فقد تكلم عليه الأصوليون ، فلا معنى لإعادته هنا . وأما الثاني : فيؤخذ الحكم فيه من معنى كلامهم في الأول فإليك النظر في التفريع والله أعلم . وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر ، وهي . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (129) صـ491 إلى صـ 500 [ ص: 491 ] المسألة الثالثة عشرة وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعا مع التابع له ، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلى رتبة ، وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل ، أو الأوصاف ، أو خصوص الجزئيات والدليل على ذلك ما تقدم من أن المتبوع بالقصد الأول ، وأن التابع مقصود بالقصد الثاني ، وما قصد بالقصد الأول آكد في الشرع والعقل مما يقصد الثاني ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في جنب المتبوع ، فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال ، أو يصير منه كالجزء ، أو كالصفة ، أو التكملة . وبالجملة فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم ، وكله دليل على قوة المتبوع في الاعتبار وضعف التابع فالأمر المتعلق بالمتبوع آكد في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع . [ ص: 492 ] وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحدا ، وأنها لا تدخل تحت قصد واحد ، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها ، بل بينهما تفاوت معلوم ، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات . والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى التمتعات المباحة التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ما له معارض كالتمتع باللذات المباحة مع استعمال القرض والسلم والمساقاة ، وأشباه ذلك ولا أيضا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق ، وكذلك التحسينيات حرفا بحرف . فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب ، أو للندب ، أو للإباحة [ ص: 493 ] أو مشترك ، أو لغير ذلك مما يعد في تقرير الخلاف في المسألة إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه فإنهم يقولون إنه للوجوب ما لم يدل دليل على خلاف ذلك فكان المعنى يرجع إلى اتباع الدليل في كل أمر ، وإذا كان كذلك [ ص: 494 ] رجع إلى ما ذكر ، لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب ، وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية وليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها . فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر : هل هو مطلوب طلب الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات ، فإذا كان من قسم الضروريات مثلا نظر هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني ، فإن كان مطلوبا بالقصد الأول فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع ، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر هل يصح إقامة أصل الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا ، فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري ، وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن ولكنه مكمل ، ومتمم ، إما من الحاجيات ، وإما من التحسينيات فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور ، أو نحوه بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها . [ ص: 495 ] المسألة الرابعة عشرة الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمر بالتوابع ، بل التوابع إذا كانت مأمورا بها مفتقرة إلى استئناف أمر آخر والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص والأمر إنما تعلق بها مطلقا لا مقيدا فيكفي فيها إيقاع مقتضى الألفاظ المطلقة ، فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه ولا على صفة دون صفة ، فلا بد من تعيين وجه ، أو صفة على الخصوص واللفظ لا يشعر به على الخصوص فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص ، وهو المطلوب . فصل وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل فإنا إذا فرضناه مأمورا بإيقاع عمل من العبادات مثلا من غير تعيين وجه مخصوص فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصا بوجه ولا بصفة ، بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق فالمأمور بالعتق مثلا أمر بالإعتاق مطلقا من غير تقييد [ ص: 496 ] مثلا بكونه ذكرا دون أنثى ولا أسود دون أبيض ولا كاتبا دون صانع ولا ما أشبه ذلك . فإذا التزم هو في الإعتاق نوعا من هذه الأنواع دون غيره احتاج في هذا الالتزام إلى دليل ، وإلا كان التزامه غير مشروع ، وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائما ، أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية ، أو غير ذلك من الالتزامات التي هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات ، فلا بد من طلب دليل على ذلك ، وإلا لم يصح في التشريع ، وهو عرضة لأن يكر على المتبوع بالإبطال . وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات ، أو الكيفيات التوابع ، فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل مطلق لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه ولا وصف دون وصف فالمخصص له بوجه دون وجه ، أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق فافتقر إلى دليل يدل على ذلك التقييد ، أو صار مخالفا لمقصود الشارع . [ ص: 497 ] وقد سئل مالك عن القراءة في المسجد فقال : لم يكن بالأمر القديم ، وإنما هو شيء أحدث ، قال : ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن ، وقال أيضا أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى ؟ قال ابن رشد : يريد أن التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات ، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما يفعل بجامع قرطبة أثر صلاة الصبح فرأى ذلك بدعة . قال : وأما القراءة على غير هذا الوجه ، فلا بأس بها في المسجد ولا وجه لكراهيتها والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر ، فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك ، وأنكر أن يكون من عمل الناس . وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء فكرهه ، فقيل له : فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه ، ويكبرون . [ ص: 498 ] قال : ينصرف ولو أقام في منزله كان خيرا له . قال ابن رشد : كره هذا ، وإن كان الدعاء حسنا ، وأفضله يوم عرفة ; لأن الاجتماع لذلك بدعة . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد القارئ مواضع السجود فقط ليسجد فيها ، وكره في المدونة أن يجلس الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلما ، [ ص: 499 ] وأنكر على من يقرأ في المساجد ، ويجتمع عليه ورأى أن يقام وفيها : ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه . وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمى إلا أني لا أحب أن أذكره ، وكان مساء يعني يساء الثناء عليه . قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى ; لأن ذلك ليس من حدود الصلاة ; إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام ، وهو من محدثات الأمور . وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء ، وفي الدعاء عند ختم القرآن ، [ ص: 500 ] وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة والتثويب للصلاة والزيادة في الذبح على التسمية المعلومة والقراءة في الطواف دائما والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب ، وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس ، يكون الأمر واردا على الإطلاق فيقيد بتقييدات تلتزم من غير دليل دل على ذلك ، وعليه أكثر البدع المحدثات . وفي الحديث : لا يجعلن أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (130) صـ501 إلى صـ 510 [ ص: 501 ] وعن ابن عمر وغيره أنه سئل عن الالتفات في الصلاة يمينا وشمالا فقال : بل نلتفت هكذا ، وهكذا ، ونفعل ما يفعل الناس . كأنه كره التزام عدم الالتفات ورآه من الأمور التي لم يرد التزامها . [ ص: 502 ] وقال عمر : واعجبا لك يا ابن العاص لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلت لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر . هذا فيما لم يظهر الدوام فيه فكيف مع الالتزام ؟ والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة ، جميعها يدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل ، وإلا كان قولا بالرأي واستنانا بغير مشروع ، وهذه الفائدة انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد . [ ص: 503 ] المسألة الخامسة عشرة المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول ، وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني : كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول . وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول . أما الأول فيتبين من أوجه : أحدها : أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه ، وهذا هو الأصل فيتناول على الوجه المشروع ، وينتفع به كذلك ولا ينسى حق الله فيه لا في [ ص: 504 ] سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه . فإذا أخذ على ذلك الوزان كان مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ، فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين ، وهو الاقتصاد فيها ، ومن هذه الجهة جعلت نعما ، وعدت مننا ، وسميت خيرا وفضلا . فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد إلى أن تكون ضررا عليه في الدنيا ، أو في الدين كانت من هذه الجهة مذمومة ; لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة ، أو عن بعضها فدخلت المفاسد بدلا عن المصالح في الدنيا ، وفي الدين ، وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله ، فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما ، أو بنوع ما ، أو بقدر ما ، وكانت مصالحه تجرى على ذلك ، ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره ، وقوته البدنية والقلبية كان مسرفا وضعفت قوته عن حمل الجميع فوقع الاختلال وظهر الفساد كالرجل يكفيه لغذائه مثلا رغيف ، وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار ; لأن تهيئته لا تقوى على غيره فزاد على الرغيف مثله فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولا من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى فصار يتكلف كلفة اثنين ، وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة ، وفي جهة تناوله ، فإنه يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار ذلك شاقا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه ، وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى ، [ ص: 505 ] وفي جهة عاقبته ، فإن أصل كل داء البردة ، وهذا قد عمل على وفق الداء فيوشك أن يقع به . [ ص: 506 ] وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة . فإذا تأملت الحالة وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم لا أنفس النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة ، وهو القصد الثاني ; لأنه مبني على قصد المكلف المذموم ، وإلا فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق ، وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق ، وإنما ذمت حين صدت من صدت عن سبيل الله ، وهو ظاهر لمن تأمله . والثاني : أن جهة الامتنان لا تزول أصلا . وقد يزول الإسراف رأسا ، وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول . بخلاف ما قد يزول ، فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد له لم يكن فيه من وجوه الذم [ ص: 507 ] شيء ، وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له صار مذموما في الوجه الذي اتبع فيه هواه ، وغير مذموم في الوجه الآخر . وأيضا فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته ، لكن غطى عليها هواه ، ومثاله أنه إذا تناول مباحا على غير الجهة المشروعة فقد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة ، وإن كانت مشوبة فبمتبوع هواه والأصل هو النعمة ، لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد ولم يهدم أصل المصلحة ، وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح ; لأن البناء إنما كان عليه فلم يزل أصل المباح ، وإن كان مغمورا تحت أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم فهذا أيضا مما يدل على أن كون المباح مذموما ، ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول . والثالث : أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى كقوله تعالى : أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون [ النحل : 72 ] ، [ ص: 508 ] وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا [ يونس : 59 ] وقوله : إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ غافر : 61 ] ، وقوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ النحل : 14 ] إلى قوله : ولعلكم تشكرون [ القصص : 73 ] فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب لا من جهة ما وضعت له أولا فإنها من الوضع الأول خالصة . فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر ، وهو جريها على ما وضعت أولا ، وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران ، ومن ثم انجرت المفاسد ، وأحاطت بالمكلف وكل بقضاء الله وقدره والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] . وفي الحديث : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا فقيل : أيأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن مما [ ص: 509 ] ينبت الربيع ما يقتل حبطا ، أو يلم الحديث . وأيضا فباب سد الذرائع من هذا القبيل ، فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض ، وهو أصل متفق عليه في الجملة ، وإن اختلف العلماء في تفاصيله فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] . وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله [ الأنعام : 108 ] . وشبه ذلك والشواهد فيه كثيرة . وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد والنهي عن الوصال ، [ ص: 510 ] وسرد الصيام والتبتل . وقد تقدم من ذلك كثير . ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشا ، وعائدا على الواجب بالنقصان كقوله : ليس من البر الصيام في السفر ، وأشباه ذلك . فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني ، وهو المطلوب . فإن قيل : هذا معارض بما يدل على خلافه ، وأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض ، وعلى ما وضع فيها من المنافع على سواء ، فإن الله عز وجل قال : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (131) صـ511 إلى صـ 521 و قال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ تبارك : 2 ] . وقوله : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] . وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب . وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، لكن بحسب ذلك الابتلاء والابتلاء إنما يكون بما له جهتان لا بما هو ذو جهة واحدة ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم ولا أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها ، وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء . فإذا عدت نعما ومصالح من حيث تصرفات المكلف ، فهي معدودة فتنا ونقما بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضا ، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ، ومهيأة للتصرفين معا . فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد ، وعلى هذا الوجه فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر حتى يعد القصد الأول هو بثها نعما فقط ، وكونها نقما وفتنا إنما هو على القصد الثاني . فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين . أحدهما : أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها ، وهو المطلوب الأول ، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك ، وهذا الثاني لا يصح ; إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد [ ص: 512 ] في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم ، وأنه امتن بها ، وجعلها حجة على الخلق ، ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ، ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ الأنبياء : 6 - 7 ] إلى آخر الآيات . وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر [ النحل : 10 ] إلى آخر ما ذكر فيها ، وفي غيرها ، أفيصح في واحدة منها أن يقال : إنها ليست كذلك بإطلاق ، أو يقال : إنها نعم بالنسبة إلى قوم ، ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين ؟ هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول . والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة ، وشفاء لما في الصدور ، وأنه النور الأعظم ، وطريقه هو الطريق المستقيم ، وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] . وأنه هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] لا لغيرهم . وأنه هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] إلى أشباه ذلك . ولا يصح أن يقال : أنزل القرآن ليكون هدى لقوم ، وضلالا لآخرين ، أو هو محتمل ; لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم . [ ص: 513 ] لا يقال : إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وأنها سلم إلى السعادة ، وجد لا هزل وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين [ الأنبياء : 16 ] . لأنا نقول : هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص كما يصح في كون القرآن هدى ، وشفاء ، ونورا كما دل عليه الإجماع ، وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم . والوجه الثاني : أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف ; لأنها لم تصر نقما في أنفسها ، بل استعمالها على غير [ ص: 514 ] الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك ، فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير ، فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حد صارت عليهم وبالا ، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي ; لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه . وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن فإنهم لما مثلت أصنامهم التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك ، وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود ، وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ المدثر : 32 ] . [ ص: 515 ] ثم استدرك البيان المنتظر بقوله : وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] نفيا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم ، أي : هو هدى كما قال أولا هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن ، كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه ، وهو الذي أنزل من أجله ، وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى فإذا تقرر هذا صارت النعم نعما بالقصد الأول ، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها ، وذلك معنى القصد الثاني والله أعلم . وأما الثاني : وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول فكذلك أيضا لأنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل صار مطلوب الترك ; لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص ، فصار الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، بل قطع الزمان به صد عما هو خادم لذلك فصار خادما لضده . ووجه ثان أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا كقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا [ الجمعة : 11 ] يعني الطبل ، أو المزمار ، أو الغناء . [ ص: 516 ] أو اللعب على حسب اختلاف المفسرين ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وهو الغناء ، وقال في معرض الذم للدنيا : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ محمد : 36 ] ، وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها ولم يجعلها باطلا . ووجه ثالث : وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول فلم يقع امتنان باللهو من حيث هو لهو ولا بالطرب ولا بسببه من جهة ما يسببه ، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة [ ص: 517 ] لخدمة ما هو مطلوب ، وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات ، فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة . ويحقق ذلك أيضا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة ولا تجد للهو ، أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق ، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة ألا ترى إلى قوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] . وقال : والأرض وضعها للأنام [ الرحمن : 10 ] إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 22 ] وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] إلى أشباه ذلك ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب . فإن قيل : إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود ولذلك كان مبثوثا في القسم الأول كلذة الطعام والشراب والوقاع ، [ ص: 518 ] والركوب ، وغير ذلك ، وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز ، وإن لم يطلب ما وراءها من خدمة الأمور ونحوها ، فليكن جائزا أيضا في اللهو واللعب بالتفرج في البساتين وسماع الغناء ، وأشباهها مما هو مقصود للشارع فعله . والدليل على ذلك أمور : منها : بثها في القسم الأول . ومنها : أنه جاء في القرآن ما يدل على القصد إليها ، كقوله تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون [ النحل : 6 ] . وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] . وقال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] . [ ص: 519 ] وما كان نحو ذلك ، وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين بها واتخاذ السكر راجع إلى معنى اللهو واللعب فينبغي أن يدخل في القسم الأول . ومنها أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل ، فهي خادمة للمأمور به أيضا ; لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير كما كان المطلوب بالكل كذلك ، فالقسمان متحدان ، فلا ينبغي أن يفرق بينهما . فالجواب أن استدعاء النشاط واللذات إن كان مبثوثا في المطلوب بالكل ، فهو فيه خادم للمطلوب الفعل . وأما إذا تجرد عن ذلك ، فلا نسلم أنه مقصود ، وهى مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري ، أو نحوه . ومما يدل على ذلك قوله في الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة . [ ص: 520 ] فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد ، وأبطل البواقي . وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا - يعنون بما ينشط النفوس - فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية [ الزمر : 23 ] . [ ص: 521 ] فذلك في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم ، وذلك ما بث فيه من الأحكام والحكم والمواعظ والتحذيرات والتبشيرات الحاملة على الاعتبار والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم ، وهذا خلاف ما طلبوه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (132) صـ531 إلى صـ 532 قال الراوي : " ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف " فيها آيات ، ومواعظ ، وتذكيرات ، وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله ، وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك فدلوا على ما تضمن قصدهم بما هو خادم للضروريات لا ما هو خادم لضد ذلك . وفي الحديث أيضا : إن لكل عابد شدة ولكل شدة فترة فإما إلى سنة ، وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك . [ ص: 523 ] وأما آيات الزينة والجمال والسكر فإنما ذكرت فيها لتبعيتها لأصول تلك النعم لا أنها هي المقصود الأول في تلك النعم . وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول ; لأنه خادم له ، ويدل عليه قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] . [ ص: 524 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : إن الله جميل يحب الجمال . إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده . وأما السكر ، فإنه قال فيه : تتخذون منه سكرا [ النحل : 67 ] فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه ، وقال : ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] فحسنه . فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف ، فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم ، بل قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا [ يونس : 59 ] الآية فتفهم هذا . [ ص: 525 ] وأما الوجه الثالث فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به ، فهي من القسم الأول كملاعبة الزوجة ، وتأديب الفرس ، وغيرهما ، وإلا فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول إذا كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة ، ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها والاستراحة من الأعمال بالنوم ، وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائما كل هذه الأشياء مباحة ; لأنها خادمة للمطلوب بالقصد الأول . أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم فهو أمر زائد على ذلك كله ، فإن جاء به من غير مداومة ، فقد أتى بأمر يتضمن ما هو خادم للمطلوب الفعل فصارت خدمته له بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول فباين القسم الأول ; إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء ، وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا لم يداوم عليه ، وهذا ظاهر لمن تأمله . فصل فإن قيل : هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه ; لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول ، فالواجب العمل على ما [ ص: 526 ] يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح ، أو ترك الاستعمال ، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء . فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية ، وأصول عملية . منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد ، وما لا يطلب الخروج عنه ، وإن اعترضت العوارض ، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته ، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته ، كانت مطلوبة بالجزء ، أو بالكل ، وهى إما مطلوب بالأصل ، وإما خادم للمطلوب بالأصل ; لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج ، أو تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن هذه الأمة ، فلا بد للإنسان من ذلك ، لكن مع الكف عما [ ص: 527 ] يستطاع الكف عنه ، وما سواه فمعفو عنه ; لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل . وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء على وجه أخص من هذا . فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد . وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه : فإن قيل : فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها ، فكيف أن يكون جائزا ؟ قلنا : الحمام موضع تداو وتطهر ، فصار بمنزلة النهر ، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات ، [ ص: 528 ] وتظاهر المنكرات . فإذا احتاج إليه المرء دخله ، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه ، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان ، فالحمام كالبلد عموما ، وكالنهر خصوصا . هذا ما قاله ، وهو ظاهر في هذا المعنى . وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها ، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج . وأما إذا لم يؤد إليه ، وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ، ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا . ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب ، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون ، وهو [ ص: 529 ] ظاهر . أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك ; إذ لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء ، وإن قلنا : إنه مباح إذا حضره منكر ، أو كان في طريقه ; لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل ، فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه ، فلا بد من تركه جملة ، وكذلك اللعب وغيره . وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص ، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها ، أو اكتسابها . فإن قيل : فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد ، وإن كان أصله مطلوبا بالكل ، أو كان خادما للمطلوب ، فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز ، وأشباهها مما هو مطلوب شرعا ، وحض كثير من الناس على ترك التزوج ، وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات . وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز ، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس ، [ ص: 530 ] وهكذا غيره ، وكانوا علماء وفقهاء ، وأولياء ، ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات ، وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله - عليه الصلاة والسلام - : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وسائر ما جاء في طلب العزلة ، وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل ، أو بالجزء ندبا ، أو وجوبا خادما لمطلوب ، أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح ؟ فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين : أحدهما : أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها ، فمن عمل على أحد الجائزين فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء ; لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه . والثاني : أن ما وقع التحذير فيه ، وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على [ ص: 531 ] معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل ، أو ما أشبه ذلك أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه ، أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال . فصل ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة ، وما لا ينقلب ، وذلك أن ما كان منها خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه ، فإن الأكل والشرب والوقاع ، وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب ، وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ ، أو من جهة الخطاب الشرعي . فإذا أخذ من جهة الحظ فهو المباح بعينه ، وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل ; لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب ، [ ص: 532 ] وطلبه بالقصد الأول ، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام . فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة ; إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ ، أو من جهة الإذن . وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل ; لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن . وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول ، وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات ، وشربها ، فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات ، وما دار بها بخلاف اللعب ، فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها ، وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة . وقد مر بيان ذلك ، وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (133) صـ533 إلى صـ 543 فإن من الناس من يقول : إنه ينقلب بالقصد طاعة ، وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء [ ص: 533 ] الله تعالى . فإن قيل : إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول ، فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني : فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة ، فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال : إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة ؟ فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب ، أو غناء ، بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول ، فإنه استوى مع النوم مثلا ، والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة ، وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة ، أو غناء تحت حكم اختيار المستريح . فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه ، فلا طلب ، وإن أخذه من جهة الطلب ، فلا طلب في هذا القسم كما تبين . ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني : لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل ; لأنه قد تضمن خدمة المطلوب الفعل فكأن [ ص: 534 ] يكون مطلوب الفعل بالكل . وقد فرضناه على خلاف ذلك ، هذا خلف ، وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه ، أو شبيها به . فصل ومنها بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له ؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب ، أو أصل الطلب ، فلا إشكال في دعائه - عليه الصلاة والسلام - له . ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : وما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقيل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث . وقال حكيم بن حزام : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني [ ص: 535 ] ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : إن هذا المال حلوة خضرة الحديث ، وقال : المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث . وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب ، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا ، أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل ; لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به ، وهو ظاهر من هذه القاعدة . والفوائد المبنية عليها كثيرة . [ ص: 536 ] المسألة السادسة عشرة . قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي ، أو التركي ، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك . وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام ، وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم . وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام ، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان . أحدهما : اقتضاء الفعل . والآخر : اقتضاء الترك . فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة ; إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما ، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك ، وعلى المكروه أنه محرم ، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص ، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين . [ ص: 537 ] أحدهما : من جهة الآمر ، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء ، وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي ، وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم ، أو عقاب ، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات ، وعد كل مخالفة كبيرة ، وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد ، فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي ، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي ، وما رآه يصح في الاعتبار . والثاني : من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات . [ ص: 538 ] أحدها : النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها ، فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب ، وبين ما هو مندوب ; لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده ; لأن الجميع يقتضي نقيض القرب ، وهو إما البعد ، وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد . والثاني : النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ، ودرء المفاسد عند الامتثال ، وضد ذلك عند المخالفة ، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ، ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب . وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ، ومكمل مخدوم ، وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت [ ص: 539 ] المندوبات كملت الواجبات ، وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد . وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها ، وأنسا بها ، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل : المعاصي بريد الكفر . [ ص: 540 ] ودل على ذلك قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ المطففين : 14 ] . وتفسيره في الحديث . وحديث الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات إلخ . [ ص: 541 ] فقوله : كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وفي قسم الامتثال قوله : وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه الحديث . والثالث : النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران من حيث كان امتثال الأوامر والنواهي شكرانا على الإطلاق ، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي ، وما دل عليه قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] . وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 32 - 34 ] وأشباه ذلك . فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك ، أو [ ص: 542 ] كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض ، وما بينهما ، وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك ، أو كانت سببا فيها كذلك أيضا . وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء ، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي ، فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق ، وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر ، وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه ; إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري ، وإنما أخذوا في نمط آخر ، وهو أنه لا يليق بمن يقال له : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود ، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه ، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة ; إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد ، بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد . فصل ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به ، أو فعل المنهي عنه ، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف [ ص: 543 ] مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر ، أو النهي ، أو من حيث ناقضت التقرب ، أو من حيث ناقضت وضع المصالح ، أو من حيث كانت كفرانا للنعمة . ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ، ومذهبهم الأخذ بالعزائم . وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه ، وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات ، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة ، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة . وبهذا التقرير يتبين معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (134) صـ544 إلى صـ 554 [ ص: 544 ] وقوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله الحديث ، ويشمله عموم قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ النور : 31 ] . ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا ، فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا ، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال والسابقين ، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين ، وقال تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين [ ص: 545 ] الآية [ الواقعة : 88 - 89 ] ، فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ، ومن لم يعمر أنفاسه بطالا . وهذا مجال لا مقال فيه ، وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة [ ص: 546 ] حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا . فإن قيل : هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال . وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها . فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق ، وإنما هو إثبات راجح ، وأرجح ، وهذا موجود . وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية ، وقال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] . وقال : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] . ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة ، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض [ ص: 547 ] المراتب مع إمكان الرقي ، وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال ، كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين ، وما أشبه ذلك . ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار ، وقال : في كل دور الأنصار خير قال سعد بن عبادة : يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا ، فقال : أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار ؟ . وفي حديث آخر : قد فضلكم على كثير . فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال ، وإن كان لها مراتب أيضا ، فلا تعارض بينهما والله أعلم . [ ص: 548 ] وقد يقال : إن قول من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى ، وهو ظاهر فيه والله أعلم . [ ص: 549 ] المسألة السابعة عشرة تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد ، وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] فلامتثاله هذا الأمر مأخذان : أحدهما : وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قدرته على قطع الطريق ، وإلى زاد يبلغه ، وإلى مركوب يستعين به ، وإلى الطريق إن كان مخوفا ، أو مأمونا ، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها ، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية ، أو بالمفسدة . فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال ، [ ص: 550 ] وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه . والثاني : أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ، ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية ، وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه ، أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام . وهكذا سائر الأوامر والنواهي . فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد ; لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها . [ ص: 551 ] وأما الثاني : فجار على إسقاط اعتبارها . وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ، ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء . أحدها : ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق ، وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] . وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] . فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله ، وحق العباد فالمقدم حق الله ، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد ، فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله كفاه الله مؤنة الرزق ، وإذا ثبت هذا [ ص: 552 ] في الرزق ، ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة ، وذلك لأن الله قادر على الجميع . وقال تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ يونس : 107 ] وفي الآية الأخرى : وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ الأنعام : 17 ] . وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] بعد قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] . فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه والآيات في هذا المعنى كثيرة . [ ص: 553 ] والثاني : ما جاء في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب ، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله . [ ص: 554 ] وأحاديث الرزق والأجل كقوله : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد : إن يكنه ، فلا تطيقه . وقال : جف القلم بما أنت لاق . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (135) صـ555 إلى صـ 567 وقال : لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح ، فإن لها [ ص: 555 ] ما قدر لها . وقال في العزل : ولا عليكم أن لا تفعلوا ، فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة . وفي الحديث : المعصوم من عصم الله . وقال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . [ ص: 556 ] إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب ، وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى . والثالث : ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم ، فقد قام - عليه الصلاة والسلام - حتى تفطرت قدماه . [ ص: 557 ] [ ص: 558 ] وقال : أفلا أكون عبدا شكورا . وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه ، وقال الله له : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية [ التوبة : 51 ] . وقال له : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله [ الأحزاب : 48 ] . فأمره باطراح ما يتوقاه ، فإن الله حسبه . وقال : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ الأحزاب : 39 ] . [ ص: 559 ] وقال قبل ذلك : وكان أمر الله قدرا مقدورا [ الأحزاب : 38 ] . وقال هود عليه السلام لقومه ، وهو يبلغهم الرسالة : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله الآية [ هود : 55 - 56 ] . وقال موسى وهارون عليهما السلام : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [ طه : 45 ] . فقال الله لهما : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 46 ] . وكان عبد الله ابن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] ولكنه كان بعد ذلك يقول : إني أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء ، وأقعدوني بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ، ويقدم حق الله على حق نفسه . وروي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة ، وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه : إني أجد حيلة ، فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم ، وهو يصفق يمينه على شماله ، ويقول : هذا لك ، وهذا لرسولك . الحديث . [ ص: 560 ] وعن بعض الصحابة أنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، وفي النقل من هذا النحو كثير . وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية . فإن قيل : إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد ، وهذا غير صحيح ; لأن الشارع وضعها ، وأمر بها واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والتابعون [ ص: 561 ] بعده ، وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة . وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس ، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة . ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال : إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد ، وإن كانت واجبة ؟ هذا مما لا يستقيم في النظر . وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] . وقوله : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة : 197 ] . وقوله : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية [ الأنفال : 60 ] . وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يستعد الأسباب لمعاشه ، وسائر أعماله من جهاد وغيره ، ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات ، وما تقدم لا يقتضيه ، فلا بد من صحة أحدهما ، وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم . [ ص: 562 ] فالجواب أن ما تقدم لا يدل على اطراح الأسباب ، بل يدل على تقديم بعض الأسباب خاصة ، وهى الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك ، وبين أمره - عليه الصلاة والسلام - بالأسباب واستعماله لها تعارض ، ودليل ذلك إقراره - عليه الصلاة والسلام - فعل من اطرحها عند التعارض ، وعمله - عليه الصلاة والسلام - على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة ، وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة . وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب ، هذا جواب الأول . وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت ، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب ، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم ، وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض . وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات ، وقد مر أن أصل التحسينيات خادم للضروريات ، وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات ، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد ، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر . [ ص: 563 ] وأما الثالث ، فلا معارضة فيه ، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا ، وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا ، وإلى هذا كله ، فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى ، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها ، وإدامة الحضور فيها ، أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه فلم يكن له ذلك . فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة ، بل هو الأحق على الإطلاق ، وهذا فقه في المسألة حسن جدا ، وبالله التوفيق . فصل واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره . أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى ، وقد تبين هذا في موضعه . [ ص: 564 ] المسألة الثامنة عشرة . الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل والآخر راجع إلى جهة التعاون هل يعتبر الأصل ، أو جهة التعاون ؟ أما اعتبارهما معا من جهة واحدة ، فلا يصح ولا بد من التفصيل فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل ، أو التعاون . فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع ، فإنه منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع . وقد مر ما فيه ، وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها : اعتبار الأصل ; إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد . والثاني : اعتبار جهة التعاون ، فإن اعتبار الأصل مؤد إلى المآل [ ص: 565 ] [ ص: 566 ] الممنوع والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها ولأنه فتح باب الحيل . والثالث : التفصيل ، فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة ، أو لا ، فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب ; إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة ، وهو باطل ، وإن لم تكن غالبة فالاجتهاد . وإن كان الثاني : فظاهره شنيع ; لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى [ ص: 567 ] المأمور به تعاونا ، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي ; لأنه تكميلي ، وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين ، أو يبني قنطرة ولكنه صحيح إذا نزل منزلته ، وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كالمنع من تلقي الركبان ، فإن منعه في الأصل ممنوع ; إذ هو من باب منع الارتفاق ، وأصله ضروري ، أو حاجي لأجل أهل السوق ، ومنعبيع الحاضر للبادي ; لأنه في الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق لأهل الحضر ، وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل وله نظائر كثيرة ، فإن جهة التعاون هنا أقوى . وقد أشار الصحابة على الصديق ; إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم في التعاون ، وهو القيام بمصالح المسلمين ، وعوضه من ذلك في بيت المال ، وهذا النوع صحيح كما تفسر ، والله أعلم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (136) صـ7 إلى صـ 18 الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَلَابُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هَاهُنَا ، وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا ، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِيَّةُ ، الْمُحَصِّلَةُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ ، وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النَّظَرِ وَتَحَقَّقَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ : [ ص: 8 ] المسألة الأولى إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة ; فلا تؤثر فيها معارضة : قضايا الأعيان ، ولا حكايات الأحوال ، والدليل على ذلك أمور : أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض ; لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية ، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة ، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه . والثاني : أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية ، وقضايا الأعيان محتملة ; لإمكان أن تكون على غير ظاهرها ، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل ; فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه . والثالث : أن قضايا الأعيان جزئية ، والقواعد المطردة كليات ، ولا تنهض [ ص: 9 ] الجزئيات أن تنقض الكليات ، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص ; كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف ، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص ، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني . والرابع : أنها لو عارضتها ; فإما أن يعملا معا ، أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر ، أعني في محل المعارضة ; فإعمالهما معا باطل ، وكذلك إهمالهما ; لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي ، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي ، وهو خلاف القاعدة ; فلم يبق إلا الوجه الرابع ، وهو إعمال الكلي دون الجزئي ، وهو المطلوب . فإن قيل : هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد ; فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها ; فيلزم إما بطلان ما قالوه ، وإما بطلان هذه القاعدة ، لكن ما قالوه صحيح ; فلزم إبطال هذه القاعدة . فالجواب من وجهين : أحدهما أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال ; فإن ما نحن [ ص: 10 ] فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض ; فإن القاعدة إذا كانت كلية ، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها ، مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا ; فلا إشكال في أن لا معارضة هنا ، وهو هنا محل التأويل لمن تأول ، أو محل عموم الاعتبار إن لاقى بالموضع الاطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر [ ص: 11 ] خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره ، على ما أعطته قاعدة التنزيه ; فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة ، وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب ، ثم جاء قوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ونحو ذلك ، فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل ، وأما تخصيص العموم ; فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال ; فحينئذ يعلم ويعتبر كما قاله الأصوليون ، وليس ذلك ما نحن فيه [ ص: 12 ] فصل وهذا الموضع كثير الفائدة ، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان ; فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة ; فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي ; فثبت في حقه المعارضة ، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة ، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين ; لأنه اتباع للمتشابهات ، وتشكك في القواطع المحكمات ، ولا توفيق إلا بالله . ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين . ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس ، وقد ورد على غرناطة بعض طلبة العدوة الأفريقية ; فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي ، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله : هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] وقوله : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ القصص : 16 ] [ ص: 13 ] فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها ، وما ذكر فيها من التأويلات بإخراج الآيات عن ظواهرها ، وهذا المأخذ لا يتخلص ، وربما وقع الانفصال على غير وفاق ; فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك : أن المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل ، وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام ; فيقال له : الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف ، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام ; فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة ، وإن قيل : إنهم معصومون أيضا من الصغائر ، وهو صحيح ; فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه ليس بذنب ، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ، ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات ، وكثيرا ما يبني عليه النظار ، وهو حسن ، والله أعلم . [ ص: 14 ] المسألة الثانية ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة ، وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة ، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع ; كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي ، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما . أما كون الشريعة على ذلك الوضع ; فظاهر ، ألا ترى أن وضع التكاليف عام ؟ وجعل على ذلك علامة البلوغ ، وهو مظنة لوجود العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم ; إذ لا يطرد ولا ينعكس كليا على التمام ; لوجود من يتم عقله قبل البلوغ ، ومن ينقص وإن كان بالغا ، إلا أن الغالب الاقتران . وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة ، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها ، ومع ذلك ; فلم يعتبر الشارع تلك النوادر ، بل أجرى القاعدة مجراها ، ومثله حد الغنى بالنصاب ، وتوجيه الأحكام [ ص: 15 ] بالبينات ، وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر ، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف ; فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية . وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية . وإذا ثبت ذلك ظهر أن لابد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية ، من حيث هي منضبطة بالمظنات ، إلا إذا ظهر معارض ; فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه ، كما إذا عللنا القصر بالمشقة ; فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة ، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل ; [ ص: 16 ] فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها كالتافه من البر وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته ، أو عللناه في الطعام بالاقتيات ، فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات ، كالحبة الواحدة ، وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر ; كاللوز ، والجوز ، والقثاء ، والبقول ، وشبهها ، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم ، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار . [ ص: 17 ] وكذلك نقول : إن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل ، ثم إنه أجري الحد في القليل الذي لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارا بالعادة في تناول الكثير ، وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب ; فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال ، وكثير من هذا . فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي . [ ص: 18 ] المسألة الثالثة لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية ، والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية ، وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضا ، ولكنه أكيد التقرير هاهنا ، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين : أحدهما : باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق ، وإلى هذا النظر قصد الأصوليين ; فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (137) صـ19 إلى صـ 29 والثاني : بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها ، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك . وهذا الاعتبار استعمالي ، والأول قياسي . والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي . وبيان ذلك هنا أن العرب قد تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة ، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي ; كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع ، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال ; فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره ، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم ، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع ، دون غيره من الأصناف ، كما أنه قد يقصد [ ص: 20 ] ذكر البعض في لفظ العموم ، ومراده من ذكر البعض الجميع ; كما تقول : فلان يملك المشرق والمغرب ، والمراد جميع الأرض ، وضرب زيد الظهر والبطن ، ومنه رب المشرقين ورب المغربين [ الرحمن : 17 ] وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] فكذلك إذا قال : من دخل داري أكرمته ; فليس المتكلم بمراد ، وإذا قال : أكرمت الناس ، أو قاتلت الكفار ; فإنما المقصود من لقي منهم ; فاللفظ عام فيهم خاصة ، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال . قال ابن خروف : " ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها ، فضربهم ولم يضرب نفسه ; لبر ولم يلزمه شيء ، ولو قال : اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم ; فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب قال : " فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى : خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه ، ومثله : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وإن كان عالما بنفسه وصفاته ، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات ، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر " قال : فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا ، فلا تعرض فيه لدخوله تحت [ ص: 21 ] المخبر عنه ; فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب ، وهذا معلوم من وضع اللسان فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال ، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان فإن قوله : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال ، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها ، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة ، ولذلك قال : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ الأحقاف : 25 ] وقال في الآية الأخرى : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 25 ] ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان ; فلا يقال من دخل داري أكرمته إلا نفسي أو أكرمت الناس إلا نفسي ، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم ، ولا ما كان نحو ذلك ، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار ، أو ممن لقيت من الكفار ، وهو الذي يتوهم دخوله لو لم يستثن ، هذا كلام العرب في التعميم ; فهو إذا الجاري في عمومات الشرع . [ ص: 22 ] وأيضا ; فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى ، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه ; إلا مع الجمود على مجرد اللفظ ، وأما المعنى ; فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم ; كقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر قال الغزالي : " خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد ، بل هو الغالب الواقع ، ونقيضه هو الغريب المستبعد " وكذا قال غيره أيضا ، وهو موافق لقاعدة العرب ، وعليه يحمل كلام الشارع بل لابد [ ص: 23 ] فإن قيل : إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له في الأصل حالة الإفراد ، فإذا حصل التركيب والاستعمال ; فإما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الانفراد ، أو لا ، فإن كان الأول ; فهو مقتضى وضع اللفظ ، فلا إشكال ، وإن كان الثاني ; فهو تخصيص للفظ العام ، وكل تخصيص لابد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما ، وهو مراد الأصوليين . ووجه آخر وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة ، مع أن معنى الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف ما فهموا ، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم ، بحيث صار كوضع ثان ، بل هو باق على أصل وضعه ، ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل . [ ص: 24 ] ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] الآية شق ذلك عليهم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه الصلاة والسلام " إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] وفي رواية فنزلت إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ومثل ذلك أنه لما نزلت : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ الأنبياء : 98 ] قال بعض الكفار : فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ الأنبياء : 101 ] إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عموما أخص من عموم اللفظ ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل ; لم يقع منهم فهمه . فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي ; فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى ، فإن بقيت ; فلا تخصيص ، وإن لم تبق دلالته ; فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل ، وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي ، وربما [ ص: 25 ] أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ " الحقيقة اللغوية " إذا أرادوا أصل الوضع ، ولفظ الحقيقة العرفية إذا أرادوا الوضع الاستعمالي ، والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين : أصالة قياسية ، وأصالة استعمالية ; فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التي وقع الكلام فيها ، وقام الدليل عليها في مسألتنا ; فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال . وعن الثاني أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه ، وللشريعة بهذا النظر مقصدان : أحدهما : المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه ، وقد تقدم القول فيه . والثاني : المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن [ ص: 26 ] بحسب تقرير قواعد الشريعة ، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري ; كما نقول في الصلاة : إن أصلها الدعاء لغة ، ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص ، وهي فيه حقيقة لا مجاز ; فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي : إنها إنما تعم الذكر بحسب مقصد الشارع فيها ، والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر ، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك ، مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية . فأما الأول ; فالعرب فيه شرع سواء ; لأن القرآن نزل بلسانهم . وأما الثاني : فالتفاوت في إدراكه حاصل ; إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد ، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة ، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ المجادلة : 11 ] فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره ، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه ; حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره ، واتسع في ميدانها باعه ; زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد الشرعي على الكمال ، فإذا تقرر وجه الاستعمال ; فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل ، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع [ ص: 27 ] الحقيقة الشرعية ; فإن الموضع يستمد منها ، وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في الكلام العربي ; فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضا ، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع ، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب ; فكل ما سألوا عنه فمن [ هذا ] القبيل إذا تدبرته . فصل ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول . فأما قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص ، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد ، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه ، والذي تقدم قبل الآية قصةإبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس ، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته [ الأنعام : 21 ] فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالا بالحجة ، وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة ، [ ص: 28 ] وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما ; فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى . وأيضا ; فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام ; كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم ، دق أو جل ; فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة ، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام . وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم ، بل هو كقوله : لم يأتني رجل ; فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه ، وهي كلها نفي لموجب مذكور أو مقدر ، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة ; إلا مع الإتيان بمن وما يعطي معناها ، وذلك مفقود هنا ، بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف ، وهو ظلم [ ص: 29 ] الافتراء على الله والتكذيب بآياته ; https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (138) صـ30 إلى صـ 40 فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم ، وذلك ما دلت عليه السورة ، وليس فيه تخصيص على هذا بوجه [ ص: 30 ] وأما قوله : إنكم وما تعبدون الآية [ الأنبياء : 98 ] فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها ، وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون [ ص: 31 ] [ الأنبياء : 98 ] في الأصنام التي كانوا يعبدون " وما " لما لا يعقل ; فكيف تشمل الملائكة والمسيح ؟ ! . والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ; فقوله : وما تعبدون [ الأنبياء : 98 ] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون ، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك ; فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق ، وغفلة عما قصد في الآيات . وما روي من قوله : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب ; لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يهتدي للمعنى المراد ، ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [ الأنبياء : 101 ] بيانا [ ص: 32 ] لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء ، فكتموه إياه وأخبروه بغيره ; فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم . ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ آل عمران : 187 ] كذلك حتى قوله : يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 188 ] ; فهذا من ذلك المعنى أيضا [ ص: 33 ] وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة ، وإن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لابد من تحصيله ، وبه يحصل فهمها ، وعلى طريقه يجري سائر العمومات ، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة ، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ، ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر ، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل . [ ص: 34 ] فلقائل أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق ، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل ، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى . ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة ، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام ، كما كان يلبس المرقع في خلافته ; فقيل له : لو اتخذت طعاما ألين من هذا ؟ . فقال : أخشى أن تعجل طيباتي ، يقول الله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] الحديث . وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ ص: 35 ] [ الأحقاف : 20 ] وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، ولذلك قال : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ثم قال : فاليوم تجزون عذاب الهون [ الأحقاف : 20 ] فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ، ومع ذلك ; فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا ، وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يوسع على أمتك ; فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه . فاستوى جالسا ; فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن [ ص: 36 ] معاوية قال : صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها [ هود : 15 ] إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية ، وهي في الكفار ; لقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [ هود : 16 ] إلخ ; فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا . وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن ; قال : قطع على أهل المدينة بعث ; فاكتتبت ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فأخبرته ; فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله عز وجل : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ النساء : 97 ] فهذا أيضا من ذلك ; لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم [ ص: 37 ] الآية [ الأنبياء : 284 ] دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; فأنزل الله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت الحديث إلخ ، فهموا من الآية العموم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وهي [ ص: 38 ] قاعدة مكية كلية ; ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه . وكذلك قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية ; فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة ، وأن مخالفه عاص ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم . وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه [ هود : 5 ] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله : ليستخفوا منه [ هود : 5 ] أي : من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ; فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع [ ص: 39 ] أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير ، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار ، وقالوا : كفر دون كفر [ ص: 40 ] فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب ، وفيه من الخلاف ما علم ; فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ، ولا فائدة زائدة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (139) صـ41 إلى صـ 50 والجواب : إن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية ; لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم ، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم ، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ; ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء ، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم ; فيجتهد رجاء أن يدركهم ، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم ; فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه ، وفيما يشبهه ، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم ; فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه ; لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال [ ص: 41 ] الاجتهاد لا فرق ، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي ، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ النساء : 97 ] ويظهر أيضا في قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] وما سوى ذلك ; فإما من تلك القاعدة ، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة ، لا أن المقصود التخصيص ، بل بيان جهة العموم ، وإليك النظر في التفاصيل ، والله المستعان . [ ص: 42 ] [ ص: 43 ] فصل إذا تقرر ما تقدم ; فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل . فإن كان بالمتصل ; كالاستثناء ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض ، وأشباه ذلك ; فليس في الحقيقة بإخراج لشيء ، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد ، وهو ينظر إلى قول سيبويه : " زيد الأحمر " عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه ، وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم ، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما ، وهكذا إذا قلت : " الرجل الخياط " فعرفه السامع ; فهو مرادف " لزيد " فإذا المجموع هو الدال ، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت : عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك : سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب [ ص: 44 ] وإذا كان كذلك ; فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ، ولا يصح أن يقال : إنه مجاز أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك : ما رأيت أسدا يفترس الأبطال وقولك : ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز ، والثاني حقيقة ، والرجوع في هذا إليهم ، لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام . وأما التخصيص بالمنفصل ; فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ ، حسبما تقدم في رأس المسألة ، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون . فإن قيل : وهكذا يقول الأصوليون : إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة ; فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع ، وليس بمراد الدخول تحتها ، وإلا كان التخصيص نسخا ، فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت ; فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون ؟ . فالجواب : إن الفرق بينهما ظاهر ، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي ، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص ; فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ ، وهم قالوا : إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه ، [ ص: 45 ] وبينهما فرق ; فالتفسير الواقع هنا نظير البيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه ، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز ; كقولك : رأيت أسدا يفترس الأبطال . فإن قيل : أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا ، أم لا ؟ فإن كان باطلا ; لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ ، والأمة لا تجتمع على الخطأ ، وإن كان صوابا وهو الذي يقتضيه إجماعهم ; فكل ما يعارضه خطأ ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ ، فالجواب : أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ، ولو سلم أنه ثابت ;لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي ، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام ; رجعوا إلى اعتباره : كل على اعتبار رآه ، أو تأويل ارتضاه ; فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال ، بلا [ ص: 46 ] خلاف بيننا وبينهم ; إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ، ولا يجود محصول كلامهم ، وبالله التوفيق . فصل فإن قيل : حاصل ما مر أنه بحث في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، ومثله لا ينبني عليه حكم . فالجواب أن لا ، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام : منها : أنهم اختلفوا في العام إذا خص ; هل يبقى حجة أم لا ؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين ; فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات ، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص ; صار معظم الشريعة مختلفا فيها : هل هو حجة أم لا ؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه ، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور ; لم يبق الإشكال المحظور ، وصارت العمومات حجة على كل قول [ ص: 47 ] ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى ، وهي أن عمومات [ ص: 48 ] القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم ، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص ، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية ، وإسقاط الاستدلال به جملة ; إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن ، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم ، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية ، وتضعيف الاستناد إليها ، وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس ; أنه قال : ليس في القرآن عام إلا مخصص ، إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا ، بحسب قصد العرب في اللسان ، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام . وأيضا ; فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون ، وأقرب ما يمكن في التحصيل ، ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في [ ص: 49 ] القرآن جوامع ، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر ; فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة ، وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح ; فيحتمل التأويل . فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي ، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع ; فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل ، وبالله التوفيق [ ص: 50 ] المسألة الرابعة عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها ; فليست بمخصصة لها في الحقيقة ، بل العزائم باقية على عمومها ، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها ; فإطلاق مجازي لا حقيقي . والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة ; إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق ، أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة ; إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها ، وإنما يقال هنا : إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق ; فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى ، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام ; فليس بمخاطب بالقيام ، بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر ، وهو العزيمة عليه ، وإن كان الثاني ; فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف ; فلا جناح عليه ، لا أنه سقط عنه فرض القيام . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (140) صـ51 إلى صـ 60 والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك . وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة . وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله . فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر . وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي : [ ص: 53 ] المسألة الخامسة والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال [ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم [ ص: 55 ] والموضع الثاني : إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ [ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة . ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح . فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر . [ ص: 57 ] المسألة السادسة العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول . والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع . والثاني : أن التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص [ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي [ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة [ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (141) صـ61 إلى صـ 70 فإن قيل : اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين ، من أوجه : أحدها : أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات ; لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ، ومتفقة لا تقبل الاختلاف ; فيحكم العقل [ ص: 61 ] فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا ; لأن فرض خلافه محال عنده ، بخلاف الوضعيات ; فإنها لم توضع وضع النقليات ، وإلا كانت هي هي بعينها ; فلا تكون وضعية ، هذا خلف ، وإذا لم توضع وضعها ، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله ، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه ; لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص . والثاني : أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام ، أو معاني كثيرة ، وهذا واضح في المعقول ; لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الانفراد ، أو بهما معا ; فلا يتعين متعلق الحكم ، وإذا لم يتعين ; لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل ، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل . والثالث : أن التخصيصات في الشريعة كثيرة ; فيخص محل [ ص: 62 ] بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد . ولذلك أمثلة كثيرة ; كجعل التراب طهورا كالماء ، وليس بمطهر كالماء ، بل هو بخلافه ، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما ، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة ، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها ، والمعنى واحد ، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة ، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس ، والجلد بقذف الزنى دون غيره ، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى ، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد ، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق ، وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض ، والأمة بواحدة ، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد ، وبين المرتد والقاتل ، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم ، وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ [ ص: 63 ] وأيضا ; فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما ; كالحيض ، والنفاس ، والعدة ، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة ، والاختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه . وأما الأول فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع ; كالجمعة ، والجهاد ، والإمامة ولو في النساء ، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ; ففرق بين بول الصبي والصبية ، إلى غير ذلك من المسائل ، مع فقد الفارق في القسم المشترك ، ومثل ذلك العبد ، فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا ، وإذا ثبت هذا ;لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة . فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات ، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة ، كما تقدم التنبيه عليه ، فإذا وقع مثله ; فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري ; لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع . وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا [ ص: 64 ] أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا ، وذلك باطل فما أدى إليه مثله . وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس ; فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا . ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ، ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة ، واطرد له ذلك المعنى [ ص: 65 ] لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره ; إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه ؟ ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي الذي أورده على أهل مذهب مالك ، حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا [ الأنبياء : 108 ] وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] وبحديث لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها إلخ وقوله : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين [ ص: 66 ] قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذرائع خاصة ، وهي بيوع الآجال ونحوها ; فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإلا ; فهذه لا تفيد . قال : وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس ، وهم لا يعتقدون ذلك ، بل يعتقدون أن مدركهم النصوص ، وليس كذلك ، بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها ; كحديث [ ص: 67 ] أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال . وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة . أما الشافعي ; فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها ، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة ، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة ، وذلك عند الشافعي ليس [ ص: 68 ] بحجة ، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر راجح على غيره فأعمله ; فترك سد الذريعة لأجله ، وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا في أصله وأما أبو حنيفة ، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل ; لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل ، وإذا كان كذلك فلا إشكال [ ص: 69 ] المسألة السابعة العمومات إذا اتحد معناها ، وانتشرت في أبواب الشريعة ، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص ; فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل . والدليل على ذلك الاستقراء ; فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ، ولم تستثن منه موضعا ولا حالا ; فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ، ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ، ولا توقف في مقتضاه ، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام . وأيضا قررت أن ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] ، فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه ، وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل [ ص: 70 ] وغيره وبينت بالتكرار أن لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه ، وحملوه على عمومه ، وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن من مات مسلما دخل الجنة ، ومن مات كافرا دخل النار . وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه ، وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، والبغي ، وأشباه ذلك . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (142) صـ71 إلى صـ 80 فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه ; فالتمسك بمجرده فيه نظر ; فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين ; لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف [ ص: 71 ] ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات ; فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه . وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا فإن قيل : قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا ؟ وكذلك دليل مع معارضه ; فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأيضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم . [ ص: 72 ] [ ص: 73 ] إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء [ ص: 74 ] وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك [ ص: 75 ] وقال الله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 50 ] وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله ، وقال عند ذلك : صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم إلى غير ذلك . وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره ، وهذا كله مبين في الأصول ، ولكن نصير منه إلى معنى آخر ، وهي : [ ص: 76 ] وذلك أن العالم وارث النبي ; فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح [ ص: 77 ] ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة ، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها ; فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة ، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ . والثاني : ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء ; فقد قال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [ البقرة : 42 ] ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ البقرة : 140 ] والآيات كثيرة . وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ; فسلطه على هلكته [ ص: 78 ] في الحق ورجل آتاه الله الحكمة ; فهو يقضي بها ويعلمها وقال : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل . والأحاديث في هذا كثيرة ، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء ، والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة ; فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهي :[ ص: 79 ] فنقول : إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل ; فلابد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم ، كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس ، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله ، فلا نطول به هاهنا لأنه تكرار . إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول ; فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات ، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا ; إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه ، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر . فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي ، ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته ، كما فعل [ ص: 80 ] به جبريل حين صلى به ، وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك ، وإن جاء فيها بيان بالقول ; فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (143) صـ81 إلى صـ 90 وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص ; فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها ; فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك ، وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ، ولو تركنا والنص ; لما حصل لنا منه كل ذلك ، بل أمر أقل منه ، وهكذا نجد الفعل مع [ ص: 81 ] القول أبدا ، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة ، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول ; كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال ، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط ، ووجد له نظير في المعتاد ، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فبه حصل البيان لا بمجرد القول ، وإذا كان كذلك ; لم يقم القول هنا في [ ص: 82 ] البيان مقام الفعل من كل وجه ; فالفعل أبلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى : وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص ، في الأحوال والأزمان والأشخاص ; فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها ، بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله ، وعلى زمانه ، وعلى حالته ، وليس له تعد عن محله ألبتة ، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ; لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين ، وعلى هذه الحالة المعينة . فيبقى علينا النظر : هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة ، أو يختص بهذا الزمان ، أو هو عام في جميع الأزمنة ، أو يختص به وحده ، أو يكون حكم أمته حكمه ؟ . ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله : من أي نوع هو من الأحكام الشرعية ؟ . وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل ; فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان ; فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه ، وهذا بين بأدنى تأمل ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال حين بين بفعله العبادات : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ، ونحو ذلك ; ليستمر البيان إلى أقصاه . فصل [ ص: 83 ] وإذا ثبت هذا ; لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين ; فلا يقال : أيهما أبلغ في البيان ; القول ، أم الفعل ؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق ; فيقوم أحدهما مقام الآخر ، وهنالك يقال : أيهما أبلغ ، أو أيهما أولى ؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا ; فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك [ ص: 84 ] والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله ; فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه ، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه فيختص بالقول [ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك . وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] . وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب . ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه . وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به . ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم . لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه . وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " . ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين . وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (144) صـ91 إلى صـ 100 [ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق . فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة . والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه . فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة . والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم . وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث . وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول : وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان . [ ص: 97 ] المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب ، لا في القول ولا في الفعل ، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد ، فإن سوي بينهما في القول أو الفعل ; فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد ، وبيان ذلك بأمور أحدها : أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق ، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب ، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة ، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم ، وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة ; كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته [ ص: 98 ] بقيام وقوله : " لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته " بينه حديث ابن عمر ، قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر ، فقال لي عبد الله بن عمر : ما منعك أن تنصرف عن يمينك ؟ قلت : رأيتك فانصرفت إليك قال : أصبت إن قائلا يقول : انصرف عن يمينك وأنا أقول : انصرف كيف شئت ، عن يمينك وعن يسارك . وفي بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج . [ ص: 99 ] [ ص: 100 ] وقال الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (145) صـ101 إلى صـ 110 وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب : لا حرج قال الراوي : فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر ; إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب ، لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد [ ص: 101 ] ونهى عن التبتل مع قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ونهى عن الوصال وقال : خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد . ومسلك آخر ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به ; خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ، قالت عائشة : وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها [ ص: 102 ] وقد قام ليالي من رمضان في المسجد ; فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ، ثم كثروا فترك ذلك ، وعلل بخشية الفرض . ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يفرض بالوحي ، وعلى هذا جمهور الناس . والثاني : في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب ، وهو تأويل متمكن . والثالث : أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة ، وكانوا أئمة يقتدى بهم ; فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة ; فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته ، وقال إني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ; فيقولون : هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر [ ص: 103 ] مطلوب وقال حذيفة بن أسيد : " شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة " وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ، ويقول [ ص: 104 ] لعكرمة : " من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ، وكان غنيا وقال بعضهم : إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ; مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري : " كنا نضحي عن النساء وأهلينا ; فلما تباهى الناس بذلك تركناها " ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة . وقال ابن عمر في صلاة الضحى : إنها بدعة وحمل على أحد [ ص: 105 ] وجهين : إما أنهم كانوا يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض ، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ; لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع : أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل ; فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك [ ص: 106 ] للعلة المتقدمة ، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح ; لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان . قال القرافي : " وقد وقع ذلك للعجم " وقال الشافعي في [ ص: 107 ] الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير ، وسد الذريعة أصل عنده متبع ، مطرد في العادات والعبادات ; فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا . فصل والتفرقة بينهما تحصل بأمور : منها بيان القول إن اكتفي به وإلا ; فالفعل وهو أحرى بل هو في هذا النمط مقصود ، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه ، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه . وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص ، وأما المنصوصة فلا كلام فيها ، فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى ; لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه . [ ص: 108 ] فصل وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه . ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح . وفي الحديث الحسن عن أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول [ ص: 109 ] وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة ، وهو الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي . وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره . وقال بعضهم في حديث عمر " بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب . وفي الحديث : " واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث . ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت . قال ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (146) صـ111 إلى صـ 120 ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث [ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه . وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه . وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور . وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] [ ص: 112 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس . وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " . ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا [ ص: 113 ] ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه . ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك ; فقال له مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال . [ ص: 114 ] المسألة السابعة المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات ; فإنها إن سوي بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به . وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة ; فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام ، فقال : ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك : إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال : لم ؟ قال : ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأي الأعاجم ، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك : أأترك يا أبا عبد الله ؟ قال : إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك : ولا نأمر الرجل أن لا يغسل [ ص: 115 ] يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه ; فلا ، أميتوا سنة العجم ، وأحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم . وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته ; فظهر حكمه . وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله : أحرام هو ؟ قال : لا ولكني أكرهه من أجل ريحه وفي رواية أنه قال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي [ ص: 116 ] وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ففعل ; فنزلت : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا الآية [ النساء : 128 ] فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة ; حتى يصير كالمكروه ، وليس بمكروه . والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات . [ ص: 117 ] المسألة الثامنة المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات . أما الأول ; فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات ، وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم . ولا يقال : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه ; لأنا نقول : البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ; ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني ، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له : أنكتها هكذا من غير كناية ، مع أن ذكر هذا اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع ؟ غير أن التصريح هنا آكد ، فاغتفر لما يترتب عليه ; فكذلك هنا ، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه ؟ [ ص: 118 ] وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله : إن تصدق الطير ننك لميسا مثل هذا لا حرج فيه . وأما الثاني ; فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا ، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد ، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية ، والمحاضر الجمهورية ، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات ، بل ومن المباحات ; كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك . فصل ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية ، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم [ ص: 119 ] الجاهل منها الوجوب ، إذا كان منظورا إليه مرموقا ، أو مظنة لذلك ، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة ; لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه ، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب ; فحمله على الوجوب ، ثم استمر على ذلك ; فضل . وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى ، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه ، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه ، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع . ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس ، قرأها في كرة أخرى ، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود ; فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء ; فقال : أيحب أن يذبح ؟ إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء [ ص: 120 ] ونقل عن عمر ; أنه قال : لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني : في الوضوء ، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله . ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة . ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو : لو فعلتها لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (147) صـ121 إلى صـ 130 ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال : لا ، الوضوء مرتان مرتان ، أو ثلاث ثلاث ، مع أنه [ ص: 121 ] لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ . قال اللخمي : وهذا احتياط وحماية ; لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك ، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به . والأمثلة كثيرة ، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به ; فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال : إن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة ; فلا بأس ، وكذا قال مالك في المرة الواحدة : حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء ، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به ، فلا بأس وهو جار على المذهب ; لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت . فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه ; فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس ، لأنه إن كان كذلك ; فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ، ولا يكون كذلك شرعا ; فلابد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات ، ولابد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات ، وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة [ ص: 122 ] ولا يقال : إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته لأنا نقول : كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال ، فإذا ترك في بعض الأوقات ; لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام ، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات : إنهم غير مداومين عليها ; فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا ، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية ، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة . ولما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل ، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك ، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك ، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص ; إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور ، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها ، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو [ ص: 123 ] جائز غير جائز أو مطلوبا ، أو تعريضهم لسوء القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك ، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم ; لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل ; إما لحال غالبة ، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح ، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء ، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه ، وهذا كله محظور . [ ص: 124 ] المسألة التاسعة الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة ، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام ; فلا تفعل ولا يسامح في فعلها ، وهذا ظاهر ، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر ، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي ، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ، ولا كلام في مترتبات الآخرة ; لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد . كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها . فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم ; فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر ; لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها ; فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا . ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال : إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف ; كان الحكم الشرعي فيه مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع ، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ، ووقع بيانه مخالفا ; فيصير المنتصب [ ص: 125 ] لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله ; فيجري فيه ما تقدم ، فإذا رأى الجاهل ما جرى ; توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه ، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر ; حصلت الريبة ، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه ، وكل ذلك فساد ، وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها ; في أنفسها ، وفي لواحقها ، وسوابقها ، وقرائنها ، وسائر ما يتعلق بها شرعا ; حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام ، وإلا ; كان من الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 [ ص: 126 ] المسألة العاشرة لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية ، بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع ; فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية ، لازم بيانها قولا وعملا ، فإذا قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت ; حصل بيانها للناس ، فإن قررت ، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل ، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل ، أو مع فقدانها فلم يعمل ; وافق القول الفعل ، فإن عكست القضية وقع الخلاف ; فلم ينتهض القول بيانا ، وهكذا الموانع وغيرها . وقد أعمل النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر ، وأعمل الأسباب ، ورتب الأحكام حتى في نفسه ، حين أقص من نفسه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في غيره ، والشواهد على هذا لا تحصى ، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة ، والتنبيه كاف [ ص: 127 ] المسألة الحادية عشرة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته ; لأنه لذلك بعث ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ولا خلاف فيه . وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه ; فلا إشكال في صحته أيضا ، [ ص: 128 ] كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ المائدة : 6 ] وإن لم يجمعوا عليه ; فهل يكون بيانهم حجة ، أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين : أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ; فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ; صح اعتماده من هذه الجهة . والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب . فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة ، فإن خالف بعضهم ; فالمسألة اجتهادية [ ص: 129 ] مثاله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا ; فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة ; فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء [ ص: 130 ] آخر داخل في التعمق المنهي عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار ; فندب المسلمون إلى التعجيل . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (148) صـ131 إلى صـ 140 وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد [ ص: 131 ] غروب الشمس فبين عثمان بن عفان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس . وتأمل ; فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها وما لا يعمل به ، وما يقيد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره . ومما بين كلامهم اللغة أيضا ، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] وفي معنى الإخوة أن السنة مضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم [ ص: 132 ] معاني الكتاب والسنة . لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ; لأنا نقول : نعم ، هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ; إلا لهم لما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر ; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم ، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ; انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ، ولما جاء في [ ص: 133 ] السنة من اتباعهم والجريان على سننهم ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث ; فإنها عاضدة لهذا [ ص: 134 ] المعنى في الجملة أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين ; فهم ومن سواهم فيه شرع سواء ; كمسألة العول ، والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا ; فدعوا الربا والريبة ، أو كما قال ; فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين ، وفيه خلاف بين العلماء أيضا ; فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ; كالأحاديث والاجتهادات النبوية ، وهو مذكور في كتب الأصول ; فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا [ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة . وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات . وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل . وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه . وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام . فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات . فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر . الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود . والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة . وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (149) صـ141 إلى صـ 150 [ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما ; اقتصرنا على النظر فيهما . وأيضا ; فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما ، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما ; فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي ، والاقتصار على الكتاب والسنة ، والله المستعان . فالأول أصلها ، وهو الكتاب ، وفيه مسائل : [ ص: 144 ] المسألة الأولى إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه ; لأنه معلوم من دين الأمة ، وإذا كان كذلك ; لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها ، واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا ، لا اقتصارا على أحدهما ; فيوشك أن يفوز بالبغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول ، فإن كان قادرا على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب ، وإلا فكلام الأئمة السابقين ، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف ، والمرتبة المنيفة . وأيضا ; فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله ; فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى ، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، كما تبين في كتاب الاجتهاد ; إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه ; لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ; إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله [ ص: 145 ] ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] وقال : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] وقال : قرآنا عربيا لقوم يعلمون [ فصلت : 3 ] وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وعلى أي وجه فرض إعجازه ; فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه ، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر . [ ص: 146 ] المسألة الثانية معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ; إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ; إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ; كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ; فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع . [ ص: 147 ] [ ص: 148 ] ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ; قال : خلا عمر ذات يوم ; فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ; فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره ; فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ; فعرفه فأرسل إليه ; فقال : أعد علي ما قلت فأعاده عليه ; فعرف عمر قوله وأعجبه [ ص: 149 ] وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير ; أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن . وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال : قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ ص: 150 ] إلى قوله : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 187 188 ] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان . والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ; فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ; فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح [ المائدة : 93 ] إلخ : فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (150) صـ151 إلى صـ 160 وفي رواية : فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن [ ص: 151 ] هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر [ المائدة : 90 ] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر : صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي ; قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] الآية قال : فكتب فيهم إلى عمر ، قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ; فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث . ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات . [ ص: 152 ] وجاء رجل إلى ابن مسعود ; فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال يأتي الناس يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ; فأنزل الله فارتقب يوم تأتي السماء بدخان الآية [ الدخان : 10 ] إلى آخر القصة . وهكذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ; لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود ، وقد قال في خطبة خطبها : والله ; لقد [ ص: 153 ] علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره ; ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ؟ ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن . وعن الحسن ; أنه قال : ما أنزل الله آية ; إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت ؟ وما أراد بها ؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب . وعن ابن سيرين ; قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة ; فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير . [ ص: 154 ] فصل ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه ، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك من ذلك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد ; فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام ، ولابد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما : أحدها قول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به ، لكن على تغيير بعض الشعائر ، ونقص جملة منها ; كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا ، فجاء الأمر بالإتمام لذلك ، وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة ، أم لا ؟ والثاني : قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر [ ص: 155 ] فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر ; فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه ، قال فهذا على الشرك ، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء ، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم والثالث : قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] أأمنتم من في السماء [ تبارك : 16 ] وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض ، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ; فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض ; فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ، ولذلك قال تعالى : فخر عليهم السقف من فوقهم [ النحل : 26 ] فتأمله واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث . والرابع : قوله تعالى : وأنه هو رب الشعرى [ النجم : 49 ] فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته ، وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها ; فلذلك عينت فصل وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة ; إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة [ ص: 156 ] والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فلما كان بعد ذلك ; قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويحملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية فقال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة والسلام : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم ; فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة ; فإن حديث ابن مسعود يبين أنه مختص بأهل النفاق ، بقوله : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث : الأعمال بالنيات واقع عن سبب ، وهو أنهم لما أمروا [ ص: 157 ] بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر ; فكان بعد ذلك يسمى : مهاجر أم قيس وهو كثير . [ ص: 158 ] المسألة الثالثة كل حكاية وقعت في القرآن ; فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أو لا ، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه ، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه . أما الأول ; فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] فأعقب بقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] وقال : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية [ الأنعام : 136 ] فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله : بزعمهم [ الأنعام : 138 ] وبقوله ساء ما يحكمون [ الأنعام : 136 ] ثم قال : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر [ الأنعام : 138 ] إلى تمامه ورد بقوله : سيجزيهم بما كانوا يفترون [ الأنعام : 138 ] ثم قال : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية [ الأنعام : 139 ] [ ص: 159 ] فنبه على فساده بقوله : سيجزيهم وصفهم [ الأنعام : 139 ] زيادة على ذلك . وقال تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون [ الفرقان : 4 ] فرد عليهم بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا [ الفرقان : 4 ] ثم قال : وقالوا أساطير الأولين الآية [ الفرقان : 5 ] فرد بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ الفرقان : 6 ] ثم قال : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ثم قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا [ الفرقان : 9 ] وقال تعالى : وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ ص : 4 8 ] ثم رد عليهم بقوله : بل هم في شك من ذكري [ ص : 8 ] إلى آخر ما هنالك . وقال وقالوا اتخذ الله ولدا [ البقرة : 116 ، وغيرها ] ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن ; كقوله : بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقوله : بل له ما في السماوات والأرض [ البقرة : 116 ] وقوله : سبحانه هو الغني الآية [ يونس : 68 ] [ ص: 160 ] وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [ مريم : 90 ] إلى آخره ، وأشباه ذلك . ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر . وأما الثاني ; فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (151) صـ161 إلى صـ 170 وأيضا ; فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه ; فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا ، ويمنعه قوم ، لا من جهة قدح فيه ، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك ; فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا ، ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط ، ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول ; كقوله تعالى : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه الآية [ البقرة : 75 ] وقوله : يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه [ ص: 161 ] الآية [ المائدة : 41 ] وكذلك قوله تعالى : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [ النساء : 46 ] فصار هذا من النمط الأول . ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا ; كحكايته عن الأنبياء والأولياء ، ومنه قصة ذي القرنين ، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، وقصة أصحاب الكهف ، وأشباه ذلك . فصل ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار ; فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآية [ المدثر : 43 44 ] إذ لو كان قولهم باطلا لرد عند حكايته . واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم : ثلاثة رابعهم كلبهم [ الكهف : 22 ] وأنهم خمسة سادسهم كلبهم [ الكهف : 22 ] أعقب ذلك بقوله : رجما بالغيب [ الكهف : 22 ] أي : ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ، ولما حكى قولهم : سبعة وثامنهم كلبهم [ الكهف : 22 ] لم يتبعه بإبطال بل قال : قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل [ الكهف : 22 ] ; دل المساق على صحته دون القولين الأولين [ ص: 162 ] وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم . ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] فقيل له : أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية ؟ فقال : لا ، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال : أولم تؤمن قال بلى [ البقرة : 260 ] فلو علم شكا منه لأظهر ذلك ; فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان . بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله : قالت الأعراب آمنا [ الحجرات : 14 ] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ الحجرات : 14 ] [ ص: 163 ] ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها ، وما هو منها حق مما هو باطل . فقد قال تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] إلى آخرها فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل فظاهرها حق وباطنها كذب ، من حيث كان إخبارا عن المعتقد وهو غير مطابق ; فقال تعالى : والله يعلم إنك لرسوله [ المنافقون : 1 ] تصحيحا لظاهر القول ، وقال : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ المنافقون : 1 ] إبطالا لما قصدوا به وقال تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية [ الزمر : 67 ] وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس ; قال : مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي : حدثنا يا يهودي فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ وأشار الراوي بخنصره أولا ، ثم تابع حتى بلغ الإبهام ؟ فأنزل الله : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وفي رواية أخرى : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال يا محمد ! إن الله يمسك السماوات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، [ ص: 164 ] والخلائق على أصبع ، ثم يقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وفي رواية : فضحك النبي تعجبا وتصديقا . والحديث الأول كأنه مفسر لهذا ، وبمعناه يتبين معنى قوله : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] ; فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة ، وذلك قوله : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه ; فقال : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وقال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن [ التوبة : 61 ] أي : يسمع الحق والباطل ، فرد [ ص: 165 ] الله عليهم فيما هو باطل ، وأحق الحق ; فقال : قل أذن خير لكم ، ورحمة للذين آمنوا منكم الآية [ التوبة : 61 ] ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ التوبة : 61 ] وقال تعالى : وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه [ يس : 47 ] فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء ; فرد عليهم بقوله : إن أنتم إلا في ضلال مبين [ يس : 47 ] ; لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر ، وجواب أنفقوا أن يقال : نعم أو لا ، وهو الامتثال أو العصيان ، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض ; انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا ; إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة ; لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق ، فكأنهم قالوا : كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم ؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة . وقال تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 ] فقوله : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله [ ص: 166 ] الوسع قال : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه . قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين ; لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق . فصل وللسنة مدخل في هذا الأصل ; فإن القاعدة المحصلة أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت عما يسمعه أو يراه من الباطل ; حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه ، فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه ، والمسألة مذكورة في الأصول . [ ص: 167 ] المسألة الرابعة إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس ، وكذلك الترجية مع التخويف ، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله ، ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس ; لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا فهو راجع إلى الترجية والتخويف . ويدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر ; فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه ، وقد وقع فيه : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ الفاتحة : 6 7 ] إلى آخرها فجيء بذكر الفريقين ، ثم بدئت سورة البقرة بذكرها أيضا فقيل هدى للمتقين ثم قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [ البقرة : 6 ] ثم ذكر بإثرهم المنافقون ، وهو صنف من الكفار فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار ، وبعده بالترجية ; فقال : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار إلى قوله : وبشر الذين آمنوا الآية [ البقرة : 24 25 ] ثم قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا الآية [ البقرة : 26 ] [ ص: 168 ] ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا ، ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم ; قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله هم فيها خالدون [ البقرة : 62 81 ] ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [ البقرة : 102 ] وهذا تخويف . ثم قال ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة الآية [ البقرة : 103 ] وهو ترجية ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ، ثم قال : بلى من أسلم وجهه لله الآية [ البقرة : 112 ] . ثم ذكر من شأنهم الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ البقرة : 121 ] ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وبنيه ، وذكر في أثنائها التخويف والترجية ، وختمها بمثل ذلك ، ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران ; فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود ، والرجوع بعد إلى ما تقرر [ ص: 169 ] وقال تعالى في سورة الأنعام ، وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض [ الأنعام : 1 ] إلى قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام : 1 ] وذكر البراهين التامة ، ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه ، إلى أن قال : كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ الأنعام : 12 ] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف ، وذلك يعطي التخويف تصريحا ، والترجية ضمنا ثم قال : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ الأنعام : 15 ] فهذا تخويف . وقال : من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه الآية [ الأنعام : 16 ] وهذا ترجية . وكذا قوله : وإن يمسسك الله بضر الآية [ الأنعام : 17 ] ثم مضى في ذكر التخويف ، حتى قال : وللدار الآخرة خير للذين يتقون [ الأنعام : 32 ] ثم قال : إنما يستجيب الذين يسمعون [ الأنعام : 36 ] ونظيره قوله : والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات الآية [ الأنعام : 39 ] ثم جرى ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح الآية [ الأنعام : 48 ] [ ص: 170 ] واجر في النظر على هذا الترتيب ، يلح لك وجه الأصل المنبه عليه ، ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير . فصل وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال : فيرد التخويف ويتسع مجاله ، لكنه لا يخلو من الترجية ، كما في سورة الأنعام ; فإنها جاءت مقررة للخلق ، ومنكرة على من كفر بالله ، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه ، وصد عن سبيله ، وأنكر ما لا ينكر ، ولد فيه وخاصم ، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف ، وإطالة التأنيب والتعنيف ; فكثرت مقدماته ولواحقه ، ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق ، وقد تقدم الدعاء ، وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وإنذارا ، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية ; لأن درء المفاسد آكد . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (152) صـ171 إلى صـ 180 وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها ، وذلك في مواطن القنوط ومظنته ; كما في قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ الزمر : 53 ] ; فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ; فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول [ ص: 171 ] وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة ; فنزلت فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط ; فجيء فيه بالترجية غالبة ، ومثل ذلك الآية الأخرى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما . ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب ; كان جانب التخويف أغلب ، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق ; فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة [ ص: 172 ] هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا ، وقد مر لهذا المعنى بسط في كتاب المقاصد ، والحمد لله . فإن قيل : هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر ، فيأتي التخويف من غير ترجية ، وبالعكس ألا ترى قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 9 ] إلى آخرها ; فإنها كلها تخويف وقوله : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 19 ] إلى آخر السورة . وقوله : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل : 1 5 ] إلى آخر السورة . ومن الآيات قوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله : فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [ الأحزاب : 57 58 ] وفي الطرف الآخر قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 11 ] إلى آخرها وقوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 8 ] إلى آخرها ومن الآيات قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية [ النور : 22 ] . وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو ; فقال ابن عباس : أي آية أرجى في كتاب الله ؟ فقال عبد الله : قوله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [ الزمر : 53 ] فقال ابن [ ص: 173 ] عباس لكن قول الله : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ البقرة : 260 ] قال ابن عباس : فرضي منه بقوله بلى قال فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان وعن ابن مسعود ; قال : في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [ آل عمران : 135 ] إلى آخر الآية ، وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 174 ] وعن ابن مسعود : إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية [ النساء : 40 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية [ النساء : 64 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 175 ] وأشياء من هذا القبيل كثيرة ، إذا تتبعت وجدت ; فالقاعدة لا تطرد ، وإنما الذي يقال أن كل موطن له ما يناسبه ، ولكل مقام مقال ، وهو الذي يطرد في علم البيان ، أما هذا التخصيص ; فلا . فالجواب : إن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم وعنه جوابان : إجمالي ، وتفصيلي : . فالإجمالي أن يقال : إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم ; فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية ، واعتمدت في الحكم بها وعليها ، شأن الأمور العادية الجارية في الوجود ، ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل ، يدل على الاستقراء ; فليس بقادح فيما تأصل . وأما التفصيلي ; فإن قوله : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 ] قضية [ ص: 176 ] عين في رجل معين من الكفار بسبب أمر معين ، من همزه النبي عليه الصلاة والسلام وعيبه إياه ; فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح ، لا أنه أجري مجرى التخويف ; فليس مما نحن فيه ، وهذا الوجه جار في قوله : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 7 ] وقوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله [ الأحزاب : 57 58 ] الآيتين جار على ما ذكر . وكذلك سورة والضحى ، وقوله : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] غير ما نحن فيه ، بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح . وقوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] قضية عين لأبي بكر الصديق ، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبة المتصف بالمسكنة والهجرة ، ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ، ولكن أحب الله له معالي الأخلاق وقوله : لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه بل النظر في معاني آيات على استقلالها ، ألا ترى أن قوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] أعقب بقوله وأنيبوا إلى ربكم الآية [ الزمر : 54 ] وفي هذا تخويف عظيم [ ص: 177 ] مهيج للفرار من وقوعه ، وما تقدم من السبب من نزول الآية يبين المراد ، وأن قوله لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف . وقوله : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] نظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها ، وإلا ; فقوله : أولم تؤمن [ البقرة : 260 ] تقرير فيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنا ، فلما قال بلى حصل المقصود وقوله : والذين إذا فعلوا فاحشة [ آل عمران : 135 ] كقوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ النساء : 110 ] داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله : ولا تكن للخائنين خصيما [ النساء : 105 ] ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [ النساء : 107 109 ] وقوله : إن تجتنبوا آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك ; كأكل مال اليتيم ، والحيف في الوصية ، وغيرهما ; فذلك مما يرجى به بعد تقدم التخويف . وأما قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] فقد أعقب بقوله : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الآية [ النساء : 42 ] ، وتقدم قبلها قوله : الذين يبخلون إلى قوله : عذابا مهينا [ النساء : 37 ] بل قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] جمع التخويف مع الترجية [ ص: 178 ] وكذلك قوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية [ النساء : 64 ] تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم ; فهو مما نحن فيه . وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة ، ولم يرد ابن مسعود بقوله : ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها أنها آيات ترجية خاصة ، بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات ، قد احتوت على علم كثير ، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين ، ولذلك قال : ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها ، وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن إجراؤه على البشارة والنذارة ، وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب ، وبالله التوفيق . فصل ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء ; لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما ، وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص ; فقال : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ المؤمنون : 57 60 ] وقال : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله [ البقرة : 218 ] [ ص: 179 ] وقال : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [ الإسراء : 57 ] وهذا على الجملة ، فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة ، فجانب الخوف عليه أقرب ، وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط ; فجانب الرجاء إليه أقرب ، وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه ، ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [ الزمر : 53 ] وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور ; فخوفوا وعوتبوا كقوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة الآية [ الأحزاب : 57 ] فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته ، فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب [ ص: 180 ] المسألة الخامسة تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي ، وحيث جاء جزئيا ; فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار ، أو بمعنى الأصل ; إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان ; فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب ، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى ، وقد قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (153) صـ181 إلى صـ 190 وفي الحديث : ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ; فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة [ ص: 181 ] وإنما الذي أعطي القرآن وأما السنة ; فبيان له ، وإذا كان كذلك ; فالقرآن على اختصاره جامع ، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات ; لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] . وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن ، إنما بينتها السنة ، وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها [ ص: 182 ] وأيضا ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية ; وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال ، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها ، وهذا كله ظاهر أيضا ; فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس ، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن ، وقد عد الناس قوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله [ النساء : 105 ] متضمنا للقياس ، وقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] متضمنا للسنة ، وقوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] متضمنا للإجماع ، وهذا أهم ما يكون . وفي الصحيح عن ابن مسعود ; قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات إلخ ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد ، يقال لها أم يعقوب ، [ ص: 183 ] وكانت تقرأ القرآن ; فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا ؟ فذكرته فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] الحديث وعبد الله من العالمين بالقرآن فصل فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة ; لأنه إذا كان كليا وفيه أمور جملية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها ; فلا محيص عن النظر في بيانه ، وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة ; فإنهم أعرف به من غيرهم ، وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك ، والله أعلم . [ ص: 184 ] المسألة السادسة القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم ; فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ، والدليل على ذلك أمور : منها النصوص القرآنية ، من قوله : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] وقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ الإسراء : 9 ] يعني : الطريق المستقيمة ، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها ; لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة . وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء . ومنها : ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك ; كقوله عليه الصلاة والسلام : إن هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة [ ص: 185 ] لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد إلخ ; فكونه حبل الله بإطلاق ، والشفاء النافع إلى تمامه دليل على كمال الأمر فيه ونحو هذا في حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام [ ص: 186 ] وعن ابن مسعود إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه ، وإن أدب الله القرآن . وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، وصدق ذلك قوله : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] وعن قتادة : ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان ، ثم قرأ : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ الإسراء : 82 ] وعن محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى : إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان [ آل عمران : 193 ] قال : هو القرآن ، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 187 ] وفي الحديث : يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله ، وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله ; فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة . وعن عائشة : أن من قرأ القرآن ; فليس فوقه أحد . وعن عبد الله ; قال إذا أردتم العلم ; فأثيروا القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين [ ص: 188 ] وعن عبد الله بن عمرو قال : من جمع القرآن ; فقد حمل أمرا عظيما ، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه ; إلا أنه لا يوحى إليه [ ص: 189 ] وفي رواية عنه : من قرأ القرآن ; فقد اضطربت النبوة بين جنبيه وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة ، وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى . ومنها : التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا ، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس ، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل ، وقال ابن حزم الظاهري : كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة ، نعلمه والحمد لله ، حاش القراض ; فما وجدنا له أصلا فيهما ألبتة إلى آخر ما قال ، وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة ، وأصل الإجارة في القرآن ثابت ، وبين ذلك إقراره عليه الصلاة [ ص: 190 ] والسلام وعمل الصحابة به ولقائل أن يقول : إن هذا غير صحيح لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن ، وإنما وجدت في السنة ، ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدرى ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ، وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (154) صـ191 إلى صـ 200 ويصححه قول الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] . قال ميمون بن مهران : الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إذا كان حيا فلما قبضه الله ; فالرد إلى سنته . ومثله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الآية [ الأحزاب : 36 ] [ ص: 192 ] ولا يقال : إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله لقوله : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول : إن كانت السنة بيانا للكتاب ; ففي أحد قسميها ، فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب ; كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو على خالتها وتحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع . وقيل لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر [ ص: 193 ] وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ; ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله ، وهو خلاف ما أصلت . والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني ، وهو السنة بحول الله . ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن علي أن أقل الحمل ستة أشهر انتزاعا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] [ ص: 194 ] واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء من قوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ الحشر : 10 ] [ ص: 195 ] وقول من قال : الولد لا يملك وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقول ابن العربي : إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا من قوله خلق الإنسان من علق [ العلق : 2 ] واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ النحل : 78 ] وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرءوس إلى جانب عند الإباية ، والإيماء بها سفلا عند الإجابة أولى مما يفعله [ ص: 196 ] المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى : لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون الآية [ المنافقون : 5 ] . وكان أبو بكر الشبلي الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا ; فقال له ابن مجاهد : أين في العلم إفساد ما ينتفع به ؟ فقال فطفق مسحا بالسوق والأعناق [ ص : 33 ] ثم قال الشبلي : أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فسكت ابن مجاهد وقال له : قل : قال قوله وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ المائدة : 18 ] . واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه الآية [ الأعراف : 143 ] [ ص: 197 ] وفي بعض هذه الاستدلالات نظر فصل وعلى هذا لابد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن ، فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها ; فذاك ، وإلا فمراتب النظر فيها متعددة ، لعلها تذكر بعد في موضعها إن شاء الله تعالى . وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي ; فإما مقطوع به ، أو راجع إلى مقطوع به ، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم ; فهو أول مرجوع إليه ، أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة ، فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد ، كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد ، وهو أضعف ، وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه ، أو دينا يدان الله به ; فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم . [ ص: 198 ] المسألة السابعة العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام : قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه ; كعلوم اللغة العربية التي لابد منها وعلم القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وقواعد أصول الفقه ، وما أشبه ذلك ; فهذا لا نظر فيه هنا . ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن ، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة ; فإن علم العربية ، أو علم الناسخ والمنسوخ ، وعلم الأسباب ، وعلم المكي والمدني ، وعلم القراءات ، وعلم أصول الفقه ، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن ، وأما غير ذلك ; فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك ، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة ; إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ، ولو قال قائل : إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة . وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم ، هل كانوا آخذين فيها ، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها ؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن ، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير ; فلينظر امرؤ أين يضع قدمه [ ص: 199 ] وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ، ولا ينبئك مثل خبير ; فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة ، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه . وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام ، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما ، بل من جهة ما هو هو ، وذلك ما فيه من دلالة النبوة ، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية ; إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما ، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله ، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ، ولا سورة دون سورة ، ولا نمط منه دون آخر ، بل ماهيته هي المعجزة له ، حسبما نبه عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ; فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ; فهو بهيئته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفيها عجز الفصحاء اللسن ، والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه ، ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع ، لأنه كيفما تصور الإعجاز به ; فماهيته هي الدالة على ذلك ; فإلى أي نحو منه ملت دلك ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا ، وموضعه كتب الكلام [ ص: 200 ] وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله ، وخطاب الخلق به ، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم ، مع أنه المنزه القديم ، وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به ، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات ، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد ، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله . ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية ، والمحاسن الأدبية ; فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد : فمن ذلك : عدم المؤاخذة قبل الإنذار ، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] ولكل جزاء مثله . ومنها : الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق ; فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه ، وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (155) صـ201 إلى صـ 210 ومنها : ترك الأخذ من أول مرة بالذنب ، والحلم عن تعجيل المعاندين [ ص: 201 ] بالعذاب ، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان ، وإن استعجلوا به ومنها : تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا ; كقوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ، والمائدة 6 ] ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ التحريم : 12 ] وقوله : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق ، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به ; فلابد منه ، وإليه الإشارة بقوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] والله لا يستحيي من الحق [ الأحزاب : 53 ] ومنها : التأني في الأمور ، والجري على مجرى التثبت ، والأخذ بالاحتياط ، وهو المعهود في حقنا ; فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة ; حتى قال الكفار : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة [ الفرقان : 32 ] فقال الله : كذلك لنثبت به فؤادك [ الفرقان : 32 ] وقال : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ الإسراء : 106 ] وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف ، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل [ ص: 202 ] وجهة وإلى كل محتاج إليه ، وحين أبى من أبى الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا بالتغليظ بالدعاء ; فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا ، حكمة بالغة ، وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان ، حتى إذا كمل الدين ، ودخل الناس فيه أفواجا ، ولم يبق لقائل ما يقول ; قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة ، ووضحت المحجة ، واشتد أس الدين ، وقوي عضده بأنصار الله ; فلله الحمد كثيرا على ذلك . ومنها : كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء ; فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه ، وإن لم ينص عليها بالعبارة ; فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير ، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا ب ( يا ) المشيرة إلى بعد المنادي لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد ، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء ، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة : منها : إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى ، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه ; فدل على استشعار الراغب هذا المعنى ; إذ لم يأت في الغالب إلا ربنا ربنا كقوله : ربنا لا تؤاخذنا [ البقرة : 286 ] ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] [ ص: 203 ] رب إني نذرت لك ما في بطني [ آل عمران : 35 ] رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] ومنها : كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد وإصلاحها ; فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان ، قائلا : يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا ، وهو مقتضى ما يدعو به ، وإنما أتى اللهم في مواضع قليلة ، ولمعان اقتضتها الأحوال ومنها : تقديم الوسيلة بين يدي الطلب ; كقوله : إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم الآية [ الفاتحة : 5 6 ] ربنا إننا آمنا [ آل عمران : 16 ] ربنا آمنا بما أنزلت [ آل عمران : 53 ] ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك [ آل عمران : 191 ] ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة الآية [ يونس : 88 ] رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده إلى قوله : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ نوح : 21 28 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير . ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال ، والتخلق [ ص: 204 ] بالصفات ، تضاف إلى ما هنا ، وقد تقدم أيضا منه جملة في كتاب المقاصد والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ، ويصححها نصوص الآيات والأخبار . وقسم هو المقصود الأول بالذكر ، وهو الذي نبه عليه العلماء ، وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها ، على حسب ما أداه اللسان العربي فيه ، وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول : أحدها : معرفة المتوجه إليه ، وهو الله المعبود سبحانه والثاني : معرفة كيفية التوجه إليه والثالث : : معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود ، عبر عنه قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] فالعبادة هي المطلوب الأول غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود ; إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها ، فإذا عرف - ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه توجه الطلب ; إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد ; فجيء بالجنس الثاني [ ص: 205 ] ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات ، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين ، بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية ، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف ، وأن الدنيا ليست بدار إقامة ، وإنما الإقامة في الدار الآخرة . فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال ، ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات ; لأنها الوسائط بين المعبود والعباد ، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا ، ويتكمل بتقرير البراهين ، والمحاجة لمن جادل خصما من المبطلين . والثاني : يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات ، وما يتبع كل واحد منها من المكملات ، وهي أنواع فروض الكفايات ، وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به . والثالث : يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن : الموت وما يليه ، ويوم القيامة وما يحويه ، والمنزل الذي يستقر فيه ، ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب ، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم ، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم [ ص: 206 ] وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما ، وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام : ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة ، وثلاثة هي توابع ومتممة . فأما الثلاثة الأول ; فهي تعريف المدعو إليه ، وهو شرح معرفة الله تعالى ، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال ، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم ، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة ، والتزكية عن الأخلاق الذميمة ، وتعريف الحال عند الوصول إليه ، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب ، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة . وأما الثلاثة الأخر ; فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة ، وذلك قصص الأنبياء والأولياء ، وسره الترغيب ، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله ، وسره الترهيب ، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة ، وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه ، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام بما لا يليق به ، وادكار عاقبة الطاعة والمعصية وسره في جنبة الباطل التحذير والإفضاح ، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح والتعريف بعمارة منازل الطريق ، وكيفية أخذ [ ص: 207 ] الأهبة والزاد ، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة ، وهي : ذكر الذات ، والصفات ، والأفعال ، والمعاد ، والصراط المستقيم ، وهو جانب التحلية والتزكية ، وأحوال الأنبياء ، والأولياء ، والأعداء ، ومحاجة الكفار ، وحدود الأحكام . [ ص: 208 ] المسألة الثامنة من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار ; فعن الحسن مما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن ، وكل حرف حد ، وكل حد مطلع . وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والباطن هو الفهم عن الله لمراده ; لأن الله تعالى قال : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ النساء : 78 ] والمعنى : لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، كيف وهو منزل بلسانهم ؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام ، وكأن هذا هو معنى ما روي عن علي أنه سئل : هل عندكم كتاب ؟ [ ص: 209 ] فقال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة الحديث ، وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث ; إذ قال : الظهر هو الظاهر والباطن هو السر . وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فظاهر المعنى شيء ، وهم عارفون به ; لأنهم عرب والمراد شيء آخر ، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله ، وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة ; فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه ، ولما قالوا في الحسنة : هذه من عند الله [ النساء : 78 ] وفي السيئة : هذا من عند رسول الله ، بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا ، ولكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله الآية [ النساء : 79 ] . وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ محمد : 24 ] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ; فلم يحصل منهم تدبر ، قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين : [ ص: 210 ] أحدهما : يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل والآخر : يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (156) صـ211 إلى صـ 220 وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ; فصحيح ولا نزاع فيه ، وإن أرادوا غير ذلك ; فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم ; فلابد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب ، فلا يكون ظنيا ، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل ، وإذا تقرر هذا ; فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله . وله أمثلة تبين معناه بإطلاق ; فعن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية : إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، وقرأ [ ص: 211 ] السورة إلى آخرها فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ، فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه ، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه . ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] فرح الصحابة وبكى عمر ، وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فما عاش بعدها إلا إحدى وثمانين يوما [ ص: 212 ] وقال تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا الآية [ العنكبوت : 41 ] قال الكفار : ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ؟ ما هذا الإله ; فنزل إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] فأخذوا بمجرد الظاهر ، ولم ينظروا في المراد فقال تعالى : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية [ البقرة : 26 ] ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا ، واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل ، وترك ما هو مقصود منها ، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى ، وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير . ولما قال تعالى : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] نظر الكفار إلى ظاهر العدد ; فقال أبو جهل فيما روي لا يعجز كل عشرة منكم أن [ ص: 213 ] يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله : وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] وقال : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية [ لقمان : 6 ] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ، ناظره الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله . وقال تعالى في المنافقين : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله [ الحشر : 13 ] ، [ ص: 214 ] وهذا عدم فقه منهم ; لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وأنه هو مصرف الأمور ; فهو الفقيه ، ولذلك قال تعالى : ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [ الحشر : 13 ] وكذلك قوله تعالى : صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون [ التوبة : 127 ] لأنهم نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم ; فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر ، وعدم اعتبارهم للمراد منه ، وإذا أثبت ذلك ; فهو لفهمهم مراد الله من خطابه ، وهو باطنه . فصل فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها ; فهو داخل تحت الظاهر . فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ الأنعام : 125 ] وبين ضائق في قوله : وضائق به صدرك [ هود : 12 ] [ ص: 215 ] والفرق بين النداء ب يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء ب يا أيها الناس أو ب يا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم [ البقرة : 6 ] والعطف في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله : ما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 154 ] وبين الآية الأخرى : وما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 186 ] [ ص: 216 ] والفرق بين الرفع في قوله : قال سلام [ هود : 69 ] والنصب فيما قبله من قوله قالوا سلاما [ هود : 069 ] والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا [ الأعراف : 201 ] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله : فإذا هم مبصرون [ الأعراف : 201 ] أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ الأعراف : 131 ] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن [ ص: 217 ] وكذلك قوله وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ الروم : 36 ] مع إتيانه بقوله : فرحوا بعد إذا ويقنطون بعد إن ، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان ، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي ; فقد حصل فهم ظاهر القرآن . ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة ; فقال الله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ البقرة : 23 ] . وقال تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله [ هود : 13 ] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها ; إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ، ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله ، فإذا عرفوا عجزهم عنه ; عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى [ ص: 218 ] وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية ، والإقرار لله بالربوبية ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله . ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ، ومن ذلك أنه لما نزل : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] قال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء [ آل عمران : 181 ] ففهم أبي الدحداح هو الفقه ، وهو الباطن المراد ، وفي رواية : قال أبو الدحداح : يستقرضنا وهو غني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ليدخلكم الجنة ، وفي الحديث قصة ، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر ، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير ، عافانا الله من ذلك . [ ص: 219 ] [ ص: 220 ] ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه ألا ترى قوله : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وفي الأخرى : قليلا ما تشكرون [ السجدة : 9 ] والشكر ضد الكفر ; فالإيمان وفروعه هو الشكر ، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد ; فهو الذي فهم المراد من الخطاب ، وحصل باطنه على التمام ، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط ; فهذا خارج عن المقصود ، وواقف مع ظاهر الخطاب ; فإن الله قال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ التوبة : 5 ] ثم قال : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (157) صـ221 إلى صـ 230 [ ص: 221 ] المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا ، وتركوا المقصود من ذلك ، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة ، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره ; فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن ؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول ; فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير ، عودا عليه بالمزيد ; فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك ، كيف يكون شاكرا للنعمة ؟ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] حتى يجري على معنى قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [ النساء : 4 ] وتجري هاهنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى ; لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود ; اقتحم هذه المتاهات البعيدة . وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا ، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ; كما قال الخوارج لعلي : إنه حكم [ ص: 222 ] الخلق في دين الله ، والله يقول : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ، ويوسف : 40 ، 67 ] وقالوا : إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين ; فهو إذا أمير الكافرين [ ص: 223 ] وقالوا لابن عباس : لا تناظروه ; فإنه ممن قال الله فيهم : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله : تجري بأعيننا [ القمر : 14 ] مما عملت أيدينا [ يس : 71 ] وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ] والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [ الزمر : 67 ] وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين ; فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة : 95 ] وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] لعلموا أن قوله : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ] غير مناف لما فعله علي ، وأنه من جملة حكم الله ; فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده ، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي . ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده ; لما قالوا : إنه أمير الكافرين ، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها ، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين . وعلى الجملة ; فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم ; فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما ، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب ; فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه . [ ص: 224 ] المسألة التاسعة كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه ; لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وقال سبحانه : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ النحل : 103 ] ثم رد الحكاية عليهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل ; لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم ، والبشر هنا حبر ، وكان نصرانيا فأسلم ، أو سلمان ، وقد كان فارسيا فأسلم ، أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم ، وقال تعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك ; فدل على أنه عندهم عربي ، وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه ; فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربي . فإذا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي ; فليس من علوم القرآن في شيء ، لا مما يستفاد منه ، ولا مما يستفاد به ، ومن ادعى فيه [ ص: 225 ] ذلك فهو في دعواه مبطل ، وقد مر في كتاب المقاصد بيان هذا المعنى والحمد لله . ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى : هذا بيان للناس الآية [ آل عمران : 138 ] وهو من الترهات بمكان مكين ، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد ، ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم ، ولكنه كشف عوار نفسه من كل وجه ، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه . وإذا كان بيان في الآية علما له ; فأي معنى لقوله : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] كما يقال : هذا زيد للناس ، ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا الآية [ الطور : 44 ] فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد ؟ كما تقول : وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا [ ص: 226 ] وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسب إليه البيانية من الفرق ، وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن ، والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية . وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك [ ص: 227 ] إفريقية واستولى عليها ; كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره ، وكان أحدهما يسمى بنصر الله ، والآخر بالفتح ; فكان يقول لهما : أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] قالوا وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى ; فبدل قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] بقوله : كتامة خير أمة أخرجت للناس ، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا ; لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير المعنى : إذا مت يا محمد ثم خلق هذان ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح الآية [ النصر : 2 ] فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله ؟ . ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [ النساء : 3 ] ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع [ ص: 228 ] ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا ; لأن الله قال : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير [ المائدة : 3 ] فلم يحرم شيئا غير لحمه ، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس [ ص: 229 ] ومنهم من فسر الكرسي في قوله : وسع كرسيه السماوات والأرض [ البقرة : 255 ] بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو : . . . . . . . . . . . . . . ولا يكرسئ علم الله مخلوق كأنه عندهم : ولا يعلم علمه ، ويكرسئ مهموز ، والكرسي غير مهموز ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] أنه تخم من أكل الشجرة من قول العرب غوي الفصيل يغوي غوى [ ص: 230 ] إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد ; لأن غوي الفصيل فعل والذي في القرآن على وزن فعل . ومنهم من قال في قوله ولقد ذرأنا لجهنم [ الأعراف : 179 ] أي ألقينا فيها كأنه عندهم من قول الناس : ذرته الريح وذرأ مهموز وذرا غير مهموز وفي قوله : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] أي فقيرا إلى رحمته ، من الخلة بفتح الخاء محتجين على ذلك بقول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسألة https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (158) صـ231 إلى صـ 240 [ ص: 231 ] قال ابن قتيبة : أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول ؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله ؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل : موسى كليم الله ، وعيسى روح الله ؟ ويشهد له الحديث : لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، إن صاحبكم خليل الله ، وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي ، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت ، وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية ، والمعنى على ما علمت لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها فصل وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ، ولكن يشترط فيه شرطان : [ ص: 232 ] أحدهما : أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ، ويجري على المقاصد العربية . والثاني : أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض . فأما الأول ; فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا ; فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب ; لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك ; فلا يصح أن ينسب إليه أصلا ; إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ، ولا مرجح يدل على أحدهما ; فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم ، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا . وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن ، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء . وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن ; لأنهما موفران فيه ، بخلاف ما فسر به الباطنية ; فإنه ليس من علم الباطن ، كما أنه ليس من علم الظاهر ; فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود [ النمل : 16 ] إنه [ ص: 233 ] الإمام ورث النبي علمه ، وقالوا في الجنابة : إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام ، والصيام الإمساك عن كشف السر ، والكعبة النبي ، والباب علي ، والصفا هو النبي ، والمروة علي ، والتلبية إجابة الداعي ، والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة ، والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ، ونار إبراهيم هو غضب نمرود لا النار الحقيقية ، وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه ، وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة ، وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم ، والبحر هو العالم ، وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم ، والمن علم نزل من السماء ، والسلوى داع من الدعاة ، والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزماته التي تسلطت عليهم ، وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين ، والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان ، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة ، إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال ، وضحكة السامع ، نعوذ بالله من الخذلان [ ص: 234 ] قال القتبي : وكان بعض أهل الأدب يقول : ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر ; فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل : بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل إنه في رجل منهم قيل له : فما تقول أنت فيه ؟ قال البيت بيت الله ، وزرارة الحجر قيل : فمجاشع ؟ قال : زمزم جشعت بالماء قيل : فأبو الفوارس ؟ قال : أبو قبيس قيل فنهشل ؟ قال : نهشل أشده وصمت ساعة ، ثم قال : نعم نهشل مصباح الكعبة ; لأنه طويل أسود ، فذلك نهشل انتهى ما حكاه .فصل وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ، ولكن يشترط فيه شرطان : [ ص: 232 ] أحدهما : أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ، ويجري على المقاصد العربية . والثاني : أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض . فأما الأول ; فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا ; فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب ; لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك ; فلا يصح أن ينسب إليه أصلا ; إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ، ولا مرجح يدل على أحدهما ; فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم ، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا . وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن ، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء . وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن ; لأنهما موفران فيه ، بخلاف ما فسر به الباطنية ; فإنه ليس من علم الباطن ، كما أنه ليس من علم الظاهر ; فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود [ النمل : 16 ] إنه [ ص: 233 ] الإمام ورث النبي علمه ، وقالوا في الجنابة : إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام ، والصيام الإمساك عن كشف السر ، والكعبة النبي ، والباب علي ، والصفا هو النبي ، والمروة علي ، والتلبية إجابة الداعي ، والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة ، والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ، ونار إبراهيم هو غضب نمرود لا النار الحقيقية ، وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه ، وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة ، وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم ، والبحر هو العالم ، وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم ، والمن علم نزل من السماء ، والسلوى داع من الدعاة ، والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزماته التي تسلطت عليهم ، وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين ، والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان ، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة ، إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال ، وضحكة السامع ، نعوذ بالله من الخذلان [ ص: 234 ] قال القتبي : وكان بعض أهل الأدب يقول : ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر ; فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل : بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل إنه في رجل منهم قيل له : فما تقول أنت فيه ؟ قال البيت بيت الله ، وزرارة الحجر قيل : فمجاشع ؟ قال : زمزم جشعت بالماء قيل : فأبو الفوارس ؟ قال : أبو قبيس قيل فنهشل ؟ قال : نهشل أشده وصمت ساعة ، ثم قال : نعم نهشل مصباح الكعبة ; لأنه طويل أسود ، فذلك نهشل انتهى ما حكاه .[ ص: 235 ] فصل وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل ، أو من قبيل الباطن الصحيح ، وهي منسوبة لأناس من أهل العلم ، وربما نسب منها إلى السلف الصالح . فمن ذلك فواتح السور نحو الم و المص و حم ونحوها فسرت بأشياء ، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ، ومنها ما ليس كذلك ، فينقلون عن ابن عباس في الم أن ( ألف ) الله ، و ( لام ) جبريل ، وميم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا إن صح في النقل ; فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت [ ص: 236 ] في كلام العرب هكذا مطلقا ، وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي ; كما قال : قلت لها قفي فقالت قاف وقال : [ ص: 237 ] قالوا جميعا كلهم بلافا وقال : ولا أريد الشر إلا أن تا والقول في الم ليس هكذا ، وأيضا ; فلا دليل من خارج يدل عليه ; إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه ، ولما لم يثبت شيء من ذلك ; دل على أنه من قبيل المتشابهات ، فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه . وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء ، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية ، وهو أقرب من الأول ، كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله ، وهو أظهر الأقوال ; فهي من قبيل [ ص: 238 ] المتشابهات ، وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيها على مدة هذه الملة ، وفي السير ما يدل على هذا المعنى ، وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها ، وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة ، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير [ ص: 239 ] [ ص: 240 ] فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم ، وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم ، https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (159) صـ241 إلى صـ 250 ومع إشكالها ; فقد [ ص: 241 ] اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم ، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور ، حججا في دعاو ادعوها على القرآن ، وربما نسبوا شيئا من ذلك إلى علي بن أبي طالب ، وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة ، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك ، وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة ; فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه ، وضرب بعضها ببعض ، ونسبتها إلى الطبائع الأربع ، وإلى أنها الفاعلة في الوجود ، وأنها مجمل كل مفصل ، وعنصر كل موجود ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعاو محالة على الكشف والاطلاع ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال كما أنه لا يعد دليلا في غيرها كما سيأتي بحول الله . [ ص: 242 ] فصل ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه ; فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] أي أضدادا قال : وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء الطواعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد ، حتى لو فصل لكان المعنى : فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا وهذا مشكل الظاهر جدا ; إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا [ ص: 243 ] يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين : إحداهما : أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار ; [ ص: 244 ] فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ، لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته ، والنفس الأمارة هذا شأنها ; لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها ، وهذا هو الذي يعني به الند في نده ; لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه ، وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] وهم لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان ; فما حرموا عليهم حرموه ، وما أباحوا لهم حللوه ; فقال الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] وهذا شأن المتبع لهوى نفسه والثانية : أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام ; فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما [ ص: 245 ] أنزلت في الكفار لقوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية [ الأحقاف : 20 ] ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص ، فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] والله أعلم . فصل ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة [ البقرة : 35 ] قال : لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي : لا تهتم بشيء هو غيري قال : فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ; لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست [ ص: 246 ] به نفسه ; فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به . وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول ، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأكل تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به . وأيضا ; فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب ، وهو إما التناول والأكل ، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمة ; فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه ; فهذا التفسير له وجه ظاهر ، فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ; إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده ، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان ، وذلك الخلد المدعى ; أضاف الله إليه لفظ العصيان ، ثم تاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم [ ص: 247 ] ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس الآية [ آل عمران : 96 ] باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته . وهذا التفسير يحتاج إلى بيان ; فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ، ولا يلائمه مساق بحال ; فكيف هذا ؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن ; فزال الإشكال إذا ، وبقي النظر في هذه الدعوى ، ولا بد إن شاء الله من بيانها ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى : يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] [ ص: 248 ] قال " رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية " وهو أيضا من قبيل ما قبله ، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] وقال في قوله تعالى : والجار ذي القربى الآية [ النساء : 36 ] أما باطنها فهو القلب والجار الجنب [ النساء : 36 ] : النفس الطبيعي والصاحب بالجنب [ النساء : 36 ] العقل المقتدي بعمل الشرع وابن السبيل [ النساء : 36 ] الجوراح المطيعة لله عز وجل . وهو من المواضع المشكلة في كلامه ، ولغيره مثل ذلك أيضا ، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء ، وغير ذلك لا يعرفه العرب ، لا من آمن منهم ولا من كفر ، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ، ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، ولا هم أعرف بالشريعة منهم ، ولا أيضا [ ص: 249 ] ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ، لا من مساق الآية ; فإنه ينافيه ولا من خارج ; إذ لا دليل عليه كذلك ، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم . وقال في قوله : صرح ممرد من قوارير [ النمل : 44 ] الصرح نفس الطبع ، والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى ، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده . وفي قوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] أي : قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون ، والبيوت القلوب ; فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر . وفي قوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ الروم : 50 ] قال : حياة القلوب بالذكر وقال في قوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر الآية [ الروم : 41 ] مثل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبر ، ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات ، هذا باطنه . وقد حمل بعضهم قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه [ البقرة : 114 ] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله . [ ص: 250 ] ونقل في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] أن باطن النعلين هو الكونان : الدنيا ، والآخرة ; فذكر عن الشبلي أن معنى فاخلع نعليك [ طه : 12 ] اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية ، وعن ابن عطاء : فاخلع نعليك عن الكون ; فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النعل النفس ، والوادي المقدس دين المرء ، أي : حان وقت خلوك من نفسك ، والقيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف . وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال الصديق : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (160) صـ251 إلى صـ 260 وفي الخبر : من قال في القرآن برأيه فأصاب ; فقد أخطأ . وما أشبه ذلك من التحذيرات ، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء ، وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره ، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم ; فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين : منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه ; فربما كذب به أو أشكل عليه ، ومنهم من يكذب به على الإطلاق ، ويرى أنه تقول وبهتان ، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم ، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم ، يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي : [ ص: 253 ] المسألة العاشرة فنقول : الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر ، إذا صحت على كمال شروطها ; فهي على ضربين : أحدهما : ما يكون أصل انفجاره من القرآن ، ويتبعه سائر الموجودات ; فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف ، فإن توقف ; فهو غير صحيح أو غير كامل ، حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك . والثاني : ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها ويتبعه الاعتبار في القرآن . فإن كان الأول ; فذلك الاعتبار صحيح ، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن ، وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها ، لا بإطلاق ، وإذا كانت كذلك ; فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم ، ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد ; فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده ، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده ، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه ، ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به لجريانه على مجاريه ، والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه ; فإنه كله جار على ما تقضي به العربية ، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل . وإن كان الثاني ; فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم ، وأخذه [ ص: 254 ] على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول ; فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن ; فنقول : إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة ; فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا ; فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص ; فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه به المربي ، وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله ، فكون القلب جارا ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي ، إلى سائر ما ذكر ; يصح تنزيله اعتباريا مطلقا ، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه ، غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ . وأيضا ; فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد ، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد ; فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي ، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك ، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه ، ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم [ ص: 255 ] وللغزالي في مشكاة الأنوار وفي كتاب الشكر من الإحياء ، وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة ; فتأملها هناك والله الموفق للصواب . فصل وللسنة في هذا النمط مدخل ، فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد ، وقابل أيضا للاعتبار الوجودي ; فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة والسلام : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلى غير ذلك من الأحاديث ، ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب . [ ص: 256 ] المسألة الحادية عشرة المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي ، وكذلك المكي بعضه مع بعض ، والمدني بعضه مع بعض ، على حسب ترتيبه في التنزيل ، وإلا لم يصح ، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي ; كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه ، دل على ذلك الاستقراء ، وذلك إنما يكون ببيان مجمل ، أو تخصيص عموم ، أو تقييد مطلق ، أو تفصيل ما لم يفصل ، أو تكميل ما لم يظهر تكميله وأول شاهد على هذا أصل الشريعة ; فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ، ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام ، ويليه تنزيل سورة الأنعام ; فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين ، وقد خرج [ ص: 257 ] العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة هذا ما قالوا . وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب ; تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية ، التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة أو نقص منها أصل كلي . ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة ، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام ; فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها ، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها ، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها . وأيضا ; فإن حفظ الدين فيها ، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها ، وما خرج عن المقرر فيها ; فبحكم التكميل ، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها ، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها ، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب ; وجدتها [ ص: 258 ] كذلك ، حذو القذة بالقذة ; فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير ، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه . فصل وللسنة هنا مدخل ; لأنها مبينة للكتاب ; فلا تقع في التفسير إلا على وفقه ، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث ، كما يتبين ذلك في القرآن أيضا ، ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات ; فتأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ، ففهم منها يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات ; كحديث : من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله ; دخل الجنة . أو حديث : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه ; إلا حرمه الله على النار [ ص: 259 ] وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين ; فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق ، وكان ما عارضها مئولا عند هؤلاء ، وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه ، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر . ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا : إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين ، وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي ، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلا وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه ; لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد ، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا ، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم ; فلا حرج عليه [ ص: 260 ] لقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية [ المائدة : 93 ] ، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه ، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
الساعة الآن : 03:26 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour