ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 31-08-2020 04:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ...)

قال تعالى في الطابع الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:86] أي: البعداء الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] في الدنيا والآخرة، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] لا في الدنيا، ولا في الآخرة.وقد يقول قائل: هذه الآية في الآخرة؟ نقول: نعم في الآخرة، وفي الدنيا كذلك، وهذا الأسلوب الحكيم.قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ أي: أعطوا الآخرة بما فيها من نعيم مقيم وأخذوا الدنيا.وهل لهذا من أمثلة عندنا؟فكم من إنسان يتخبط في الربا .. في الزنا .. في القمار .. في الجرائم، قد نسي الآخرة، ويتلذذ في الدنيا فقط، فيلبس الحرير، ويتختم بالذهب، أما يقال فيه: اشترى الحياة الدنيا بالآخرة وإلا ما معنى: استبدال الدنيا بالآخرة؟!تجده يقول: دعنا يا فلان؛ فالدنيا ماضية، دعنا نتنعم، هي أيام فقط وتنتهي، فكل واشرب وغنِّ وفرفش، فيبيت هو وزوجته وأولاده على الخمر، فهؤلاء من الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.قال: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] أي: يوم القيامة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] أي: يوم القيامة، والدنيا أيضاً.وإن قلت: هاهم انتصروا. نقول: هل انتصر اليهود على إيطاليا .. على اليونان .. على سويسرا .. على من انتصروا؟ على المسلمين.لكن السؤال: كيف انتصروا على المسلمين؟الجواب: لأن الله أراد أن يري عباده آية من آياته، فلو انتصر اليهود على إيطاليا فهذا معقول، أما أن ينتصروا على ألف مليون مسلم فهذا لا يعقل؟ وليس هم الذين انتصروا بل الله تعالى هو الذي نصرهم؛ ليرينا آياته فينا علَّنا نفيق ونرجع، ولكن ما زلنا سكرى، فلا إفاقة.وكم قد دعونا إلى اجتماع يعقده رؤساء وحكماء العالم الإسلامي في الروضة، فيتعاهدون ويبايعون خليفة لهم ويطبقون شرع الله.قد يقولون: كيف لنا أن نعرف هذا؟قلنا لهم: هذه الدولة بناها الله، وجاء بـعبد العزيز فطبق شريعة الله وسادها الأمن، وسادها الطهر، والصفاء، والكتاب موجود، والسنة قائمة، فخذوا وتفضلوا.وقد قلت غير مرة: وجدت هذه الدولة في عالم مظلم؛ لتكون حجة الله على المسلمين، فلا يستطيع أن يقول قائل: كيف نعمل؟ كيف نطبق هذه الشريعة؟ لقد مضى عليها الدهر والأحاديث موضوعة وكذا وكذا، فدعونا من هذا، وخذوا القانون الذي يتلاءم مع المجتمع من فرنسا أو إيطاليا، كيف نعرف نحن؟!ولقد أراهم الله هذه الدولة؛ فأهل البادية والإبل والغنم يعيشون في أمن وطهر وصفاء لم تر الدنيا مثله إلا أيام القرون الذهبية، فلا هيدروجين، ولا ذرة، ولا ملايين الجيوش .. ولا ولا، وبدأت هذه الدولة بحفنة الشعير ورأس الماعز فلا بترول، ولا ذهب، ولا فضة، وكانت البلاد فوضى، فالنار مشتعلة: الجرائم .. القتل .. الشرك .. الباطل.. العجب، وفي سنيات معدودة أصبح الرجل يمشي من أقصى الجزيرة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله.وفي عشر سنوات .. عشرين سنة قد يقام حد الزنا مرة واحدة، وهذا نادر جداً، فكيف تحقق هذا؟ هل بالسحر أو بالقوة والمدافع؟! الجواب: والله ما تحقق هذا إلا بفضل الله وبتطبيق شرع الله، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا فعلوا؟ أقاموا الحفلات والزغاريد، وشربوا الخمر، والرقص في حفلات عيد استقلال!!أما تعرفون أعياد الاستقلال أو لا؟ كم يشرب فيها من براميل خمر؟ كم وكم، وكم تترك فيها الصلاة وكم .. هذا هو عيد الاستقلال.أما قرءوا هذه الآية؟!الآن أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وجواسيسهم وعيونهم ومسئولوهم يسمعون هذا ويعرفون، ونحن نصرخ: استقل هذا الإقليم من الاستعمار البريطاني، فيجب عليه أن يقيم دولة قرآنية أهلها مسلمون.

دعائم الدولة الإسلامية

فإن قال قائل: كيف نقيم الدولة؟نقول له: تعال نطبق آية واحدة من كتاب الله، فالله يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فإذا استقل الإقليم يقول حاكمهم: اسمعوا أيها المواطنون! خلقنا لنعبد الله، وهذا سر حياتنا، ومن اليوم لو يُشاهد أحد يترك الصلاة يعاقب بالموت، فلا فرق بين عسكري ومدني، وغني وفقير، لا بد وأن نشهد الصلاة في بيوت الله، ولا يتخلف عنها إلا مريض أو ذو عذر، وتقام الصلاة، ولو أقيمت الصلاة أربعين يوماً فقط في أقطارنا التي استقلت لتجلت الأنوار والطهارة والأمور التي هي عجب، لكنهم أماتوها، فما أقيمت الصلاة.أقول: لعلي واهم!من يقوم ويقول: نعم قد أقمنا الصلاة في ديارنا بمجرد أن استولينا على الحكم وأصبحنا حاكمين؟أقول: لا يوجد أحد.آه، يا هؤلاء! يا أهل لا إله إلا الله! إن الله تعالى يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ [الحج:41] أي: حكمناهم، فأصبحوا متمكنين من حكم البلاد، وماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، فلا يتخلف عنها عاقل بلغ سن الرشد؛ رجلاً أو امرأة، كيفما كان.أما كررنا هذه الكلمة في القرى الضائعة!كان إمام المسجد هنا يقرأ كل صباح قائمة بأسماء أهل الحي أو القرية، ويسجل من حضر ومن لم يحضر.لكن تعال معنا وادخل إلى الثكنة العسكرية وشاهد هل تقام الصلاة فيها أو لا إلى الآن؟لو دخلت إلى الثكنات العسكرية في العالم الإسلامي لوجدت خمسمائة يصلون وخمسين ألفاً لا يصلون، ولا تجد جنرالاً أو قائداً يقول: لم ما صلى فلان، أبداً.أما الزكاة في هذه البلاد فقد جبيت، ولو يحدثكم الشيوخ الكبار لقالوا: لقد كانت الزكاة تؤخذ من التمر والشعير ورءوس الغنم، وليس هناك من أموال عند هذا الشعب، فهو مقطوع عن الدنيا تماماً، ومع هذا جبيت الزكاة إيماناً بالله، وطاعة لله ورسوله، وبارك الله في ذلك الصاع، وذلك الغنم.أما دولنا الأخرى فلا زكاة جبيت، ولكن فرضت الضرائب، فأثقلوا كواهل المواطنين بالضريبة، وأما الزكاة فلم ينظروا إليها، لأنها تذكر بالله، فهي تُفهِم أن هناك ديناً وشرعاً ألا وهو الإسلام يجب أن يطبق ويعمل به من أجل إكمال الشعب وإسعاده.وأما الأمر بالمعروف فهل هناك أفراد تسند إليهم هذه المهمة فيقال: يا فلان! أنت في قريتك إذا شاهدت من يتخلف عن الصلاة .. من يغني .. من يعبث .. من يقول كذا فاستدعه إلى المكتب ويؤدب. لكن لا شيء من ذلك، بل من شاء أن يفسق علناً فليفجر كما يحب، دعه فهو مواطن، فالدولة ما منعت هذا.معشر المستمعين! هل نبكي أم نفرح ونضحك؟!أما أصابع الحاقدين والحاسدين فهي في هذه البلاد تعمل ليل نهار أن ينتهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لولا أن الحكام أولاد عبد العزيز -وفيهم هذه البقية من الخير- لانتهى هذا الأمر من عشرين سنة، فهؤلاء الحاقدون يحرضون على ترك الصلاة ويقولون: لم هذا النداء؟! ولم تغلق أبواب المتاجر؟ ولم .. ولم؟ فهم يعملون الليل والنهار.ولهذا نسأل الله أن يبقي هذه البقية، فأولاد عبد العزيز هم بركة الآباء في الأبناء، ولو يكون ما يريده الحاقدون لرأيتم ماذا سيفعل الماسونيون؛ لخرجوا في الشوارع يغنون، ولخرجن النساء كاشفات؛ عاريات.إذاً: نبكي أو نسكت؟! وماذا نعمل مع قول ربنا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] فهذا توبيخ وتقريع. فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:85-86].

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ...)

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] مَن المخبر؟ إنه الله.يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هو موسى بن عمران .. موسى الكليم .. موسى رسول الله عليه السلام، آتيناه الكتاب الفخم .. الكتاب الجليل .. الكتاب العظيم، لأن (أل) هنا تدل على هذا المعنى، ألا وهو التوراة، والتوراة مشتقة من النور، مِن: ورى الزند إذا أوقد النار وأشعلها، فهو كتاب نوراني أنزله الله للهداية، ولتبديد الظلام، فهو النور.قال: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87] أي: واحداً بعد واحد، فما يذهب رسول إلا ويأتي من بعده رسول ثانٍ، ويأتي بعد الثاني رسول ثالث وهكذا، هم سلسلة من الأنبياء والرسل من أجل ماذا؟ حتى يغني الشعب، ويرقص، ويأكل البقلاوة والبطاطس، ألهذا بعث الرسل؟ لا، إنما من أجل تطهير النفوس .. تزكية الأرواح .. إعداد الأمة إلى السمو والكمال حتى لا ترى منظر سوء، ولا تشاهد حادثة مؤلمة، فلا خيانة، ولا تلصص، ولا إجرام، ولا كذب، ولا كفر، ولا شرك، ولا باطل، كأنهم يعيشون في السماء بطهرهم وصفائهم، فيكملون ويسعدون. وهذه هي مهمة الرسل.

سبب تتابع الرسل

ولم قفّى بالرسل واحداً بعد واحد؟الجواب: لهداية الخلق .. لإصلاح الأمة .. لتطهيرها .. لإعدادها للسماء، والنزول في الملكوت الأعلى بعد نهاية هذه الحياة. فهذه منة الله، وهو المخبر بهذا الخبر، يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87]، وعدد الرسل -كما علمتم- ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء فبلغ عددهم مائة ألف وأربع وعشرون ألف نبي، فالرسول يُتابع ويُطاع، وأما النبي فيُؤمن به، وتُقبل هدايته وإرشاده، ولكنه لا يقنن، ولا يشرع، ولا ينزل عليه تشريع، بل هو يتبع الرسول الذي أرسل قبله.

سبب نسبة عيسى عليه السلام إلى أمه مريم

قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة:87] عيسى هذا هو عيسى ابن مريم. ومريم هي العذراء بنت حنة امرأة عمران .فإن قيل: لم قال: عيسى ابن مريم ولم يقل: عيسى بن سعيد أو عثمان؟ والعامة منا يقولون: الله ينادي الإنسان يوم القيامة بأمه، ولا يناديه بأبيه، ويقولون: إن منكراً ونكيراً لما يجلسان العبد يسألانه عن أمه لا عن أبيه: أنت فلان بن فلانة، أو يا فلان بن فلانة، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا * يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:70-71] يعني: بشيخهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء:71] ويقولون أيضاً: يدعو الله الناس بأمهاتهم لا بآبائهم ستراً على عيسى حتى لا يفضح في عرصات القيامة أنه ما له أب. وغير ذلك من الكلام الذي ملئوا به الكتب.الجواب: الشاهد عندنا في عيسى ابن مريم أن عيسى لم يكن له أب، فمريم لم يتزوجها فحل، ولم تنجب كما تنجب النساء بواسطة المني، وإنما عيسى كان بكلمة الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]. فجبريل روح القدس نزل ونفخ في كم مريم، أي: كم الدرع، فسرت النفخة حتى انتهت إلى رحمها، وقال الله: كن يا عيسى فكان، وفي ساعة واحدة جاءها المخاض يهزها، والطلق يدفعها إلى النخلة لتلد عندها، فلا عام ولا تسعة أشهر أبداً، بل كان بكلمة التكوين، وعيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وآخر رسلهم.قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أي: الدلائل .. البراهين .. الحجج .. المعجزات، فكل ما يبين الطريق إلى الله أعطاه الله لعيسى، فمن أراد أن يدخل دار السلام فليمش وراء عيسى، فقد أعطاه الله البينات .. المعجزات .. الحجج .. البراهين، ومنها: أنه يحيي الموتى بإذن الله.ومن الروايات في ذلك: أن ولداً مات وحمل على النعش، فكانت الأم تصرخ، والناس في طريقهم إلى المقبرة فقالت: يا روح الله! ادع الله لي أن يرد عليَّ ولدي. فدعا الله وقال: يا فلان! تعال لأمك. فقام في النعش، وأزال الغطاء، وهبط ومشى مع والدته. فقال اليهود: هذه مؤامرة. فقد تآمرت هذه العجوز مع عيسى وقالت له: تعال في الطريق، وأنا أصرخ بك، وأنت قل له: اهبط واحيا فهو يحيا.

الكفار يقلبون الحقائق

أتعرفون قلب الحقائق؟!والعرب قد بلغوا المنتهى في طريق المكر والحيل، لكن الله أخبر بنفسه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ... [المائدة:110]. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد نادى من نادى في المقبرة وأجابه حياً.والشاهد عندنا في قوله: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أن اليهود قالوا: بسحر ابن مريم، وأنه ابن زنا .. وليس له أب و.. ، مع أنهم يشاهدون الآيات. فلا تتألم يا رسولنا من كفر اليهود، وهذه هي حالهم مع نبي من آبائهم .. نبي من أهلهم .. نبي بعث فيهم، فرسول الله عيسى قالوا فيه: ساحر .. دجال .. ابن زنا، وقالوا وقالوا، فكيف يؤمنون بك يا محمد؟ وهذا كله يسلي به الله، ويسري به عن نبيه من آلامه وحزنه، وقد كان عمر وغيره من أصحاب رسول الله يعجبون: كيف أن اليهود لا يؤمنون بمحمد والإسلام؛ فهم أهل كتاب يقرءون التوراة، ويعرفون كل شيء، ويؤمنون بالله ولقائه؟! والله كانوا يعجبون. أما قرأنا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أي: فكيف تحزن أيها المؤمن من عدم إيمان هذه الأمة التي هذه صفاتها؟!وفي قوله: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ سؤال: هل بعث رسول من الله واستجاب له اليهود مع التقفية بالرسل؟الجواب: أما على عهد داود وسليمان فقد استجابوا لكن بالهراوة والحديد والنار، فالجن أخضعهم الله لداود ولسليمان. أما اليهود فكانوا يقولون: آمنا. ولكنهم في البيوت يضحكون ويسخرون، وقد قالوا في سليمان: إنه ساحر.فإن قيل لهم: إن سليمان قد أعطاه الله ما لم يعط غيره، فقد سخر الله له الجن يستخدمهم في الصناعة، وفي غوص البحر واستخراج اللآلئ .. وفي كذا وكذا، فما زالوا يقولون: ساحر، وليس برسول. وإلى الآن يقولون: سليمان ساحر، هو منا نعم، ولكنه كان يستعمل السحر، ولهذا هم الآن ينشرون السحر، ووالله لقد وصلوا إلى المدينة، وبلغنا أن بعض السحرة تحاول الهيئة أن تلقي القبض عليهم لكنهم كالشياطين يتلونون، وكل سحر في العالم لا بد أن تجد فيه أصابع اليهود، فهم الذين صنعوه، وقد برزوا في هذا الباب، حتى سحروا النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد السحر عند بئر ذروان حتى أصبح الرسول يتكلم بالكلمة ولا يفهم ما يقول، فظل يوماً .. يومين في حيرة، قد سحره لبيد ببناته الشيطانيات.إذاً: اليهود كلما جاءهم رسول كفروا به، وهكذا هم، فقط لا يريدون إلا الدينار، والدرهم، والشهوة، وهذا هو مبدؤهم وما هم عليه، فهم الذين نشروا أنواع الشر والباطل في العالم.أتعرفون أوروبا أو لا؟ لقد شاهدت بعيني امرأة الحاكم الفرنسي لما يأتي إلى القرية والله كان على وجهها هذا الخمار الخفيف الذي عندنا، وتستحي. ومن ثم انسلخت الأوروبيات، وخرجن عاهرات كاشفات! والله إن اليهود هم وراء كل خراب في العالم؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى هدف عال، وهو أن يحكموا العالم، والطريق أن يفسدوا الأديان، والأخلاق، والآداب، والكمالات الروحية؛ لتصبح البشرية لا همَّ لها إلا الفروج والرقص والطعام، ومن ثَمَّ يسوقونهم لأن المال بأيديهم.وقد نجحوا في ذلك، وما زالوا حتى تظهر أنوار الإسلام ويطأطئ العالم رأسه.

تأييد الله لعيسى بجبريل

ثم قال: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] روح القدس هو جبريل فهو إلى جنبه يسترشده .. يبين له .. يعين له ما يقول .. يشفع له عند الله، فلا يفارقه تأييداً؛ لأنه وحده، فاليهود كلهم أعداؤه، فعيسى كان يعيش مع والدته، ومجموعة من الحواريين على رءوس الأصابع، وبعد ذلك اضطروا إلى الجبال وهربوا، فأيد الله عيسى بسيد الملائكة .. بجبريل عليه السلام .. بروح القدس.كان حسان بن ثابت شاعر الدعوة .. شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون واليهود يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يدافع عن رسول الله؟! كان حسان بن ثابت يهاجم الشعراء المجرمين والرسول يقول: ( اهجهم، ومعك روح القدس ). فنبينا أيده الله بـحسان ، وحسان أيده الله بجبريل؛ روح القدس.

موقف اليهود من الرسل

وكل هذه الآيات يذكرها الله تعالى من باب كشف عورات اليهود، وإزاحة الستار عن أمراضهم وأسقامهم ومحنهم لعلهم يرجعون، وهذا هو السر، فهو لا يريد التعيير والانتقام منهم، ولو أراد أن ينتقم لمسخهم قردة وخنازير كما فعل بأسلافهم على ساحل البحر، ولكن رجاء أن يهتدوا لتقوم الحجة عليهم بهذه البينات.ثم قال لهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة:87] أي: كلما جاءهم رسول بما لا تحبه أنفسهم كأن يأمرهم بالتقوى، والصبر، والصلاة فالكبر سبيلهم، فإذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم أي: بالأمر بالصلاة، والطهر، والصفاء، والعدل، والرحمة، ففريقاً كذبوه وفريقاً يذبحونه.ولم ما قال: ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم، إنما قال: تَقْتُلُونَ [البقرة:87]؟الجواب: لأنهم ما زالوا مستعدين للقتل، فلو يبعث الله ألف رسول فإنهم يحاولون قتله، والبرهنة على هذا أنهم حاولوا قتل نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فمرة سقوه السم بالفعل، ومرة سحروه، ومرة تآمروا على قتله بأن يطلقوا عليه صخرة رحى من السطح على رأسه وهو جالس تحت الأرض، وهذا يعتبر في مقام القتل، فلهذا نحن لا ننكر أن اليهود أرادوا قتلوا نبينا، ولكن الله ما مكنهم.أما السحر فقد أخبر الرسول عنه وقال: ( هذه أكلة فلانة في خيبر، تكاد تعمل في أبهري كذا ) الحديث.والشاهد عندنا، انظر ماذا يقول تعالى عنهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ [البقرة:87] والآن العرب والمسلمون إذا جاء الحاكم بغير ما يهوون تجدهم يقومون عليه بانقلاب في الليل ويقولون: كيف يأمر بالصلاة والزكاة والمعروف؟ وقد فعلوا وإن كنا لا نسمي، فقد ظهر حاكم في يوم من الأيام ودعا إلى الإسلام والصلاة .. وما شعرنا إلا وقد قلبوا عصاه، وجعلوه بهلولاً في الشوارع، لا يعرف الحق من الباطل؛ لأنهم ألفوا الرقص، والعبث، والحرام، واللهو، فهم لا يريدون إسلاماً أبداً، وهذا طبع من يألف الشر والمنكر فيصبح وصفاً لازماً له، فلا يرضى بما يقوله العلماء، فإذا جاء العالم إلى بلدهم يأمرهم بالتوحيد يقولون: هذا وهابي، ويعلنون الحرب عليه في أي بلد إسلامي.وفي بداية الدعوة الإصلاحية كان الذي يدعو إلى التوحيد يقولون عنه: هذا وهابي ويلعنونه. لكن لما انتشرت الدعوة بوسائط جعلها الله من: ظهور الإذاعة، وانتشار الكتاب، واستقلال العرب والمسلمين، وتطور الاتصالات زالت تلك الأوهام والخرافات.وعندنا هنا العقبي مات وما زالوا يقولون عنه: إنه وهابي. والعوام يحكون فقط، يقولون: هذا مذهب وهابي خامس.وهنا حكاية: فعندما كنا أطفالاً ندرس في الكُتَّاب، ولما بدأت الدعوة جاء بعض الإخوان من الحج ومعهم كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله برحمته الذي يسمى الأصول الثلاثة، وهي رُسيلة صغيرة يفهمها العامي والطالب، فيها ثلاثة أصول ينجو بها صاحبها من الشرك والخرافة والضلالة.فأحد أقربائنا كان في العاصمة فجاء بهذه الرسالة ووزعت، بل وطبعت في مطبعة في الجزائر. فقدمتها للشيخ الذي نتعلم عنده القرآن، رحمة الله عليه، فتصفحها وقلبها ونظر فيها ثم قال: يا أبا بكر ! هذه الرسالة طيبة .. وهي حق، ولكن صاحبها يقولون عنه: إنه صاحب مذهب وهابي خامس. والله كما تسمعون!إذاً ما الفرق بيننا وبين بني إسرائيل؟ ولو كانت فيها مدائح وقصائد وأباطيل وو .. لغنينا بها، أما أن تحمل لا إله إلا الله والتوحيد فلا وألف لا.المهم نستغفر الله لنا ولهم ولسائر المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 31-08-2020 04:18 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (67)
الحلقة (74)




تفسير سورة البقرة (37)

ما أتعس الإنسان الذي يرى النور والهدى فيغطي عينيه وقلبه، وما أضلّه حين يبحث عن الأعذار الواهية، هكذا كان اليهود، يعتذرون بصمم قلوبهم، فكانت عاقبتهم اللعنة، لم لا، وهم يجدون القرآن مصدقاً لما عندهم من الحق. لم لا، وهم يعرفون رسول الله أكثر من أبنائهم. لم لا، وهم كانوا يستفتحون قتالهم بذكره ونبوته، وبدل أن يسارعوا إلى الإيمان بعد هذا كله إذا بهم يكفرون ويجحدون ويعرضون.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:88-90] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال الحديث عن بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون هذه المدينة الطيبة المباركة، والقرآن كتاب هداية وإصلاح، فلهذا إذا ذم الله عز وجل خُلق إنسان فهو مذموم في كل إنسان، وإذا أثنى الله على خُلق إنسان فهو أيضاً محمود في كل إنسان، فالقرآن كتاب هداية وإصلاح للبشرية عامة؛ لأن المنزل عليه والمبعوث به أرسله الله إلى الناس عامة كافة، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فلا يفهمن فاهم، ولا يقولن قائل: هذا نزل في بني فلان، أو نزل في فلان ونحن لا علاقة لنا بذلك، فهذه النظرية باطلة، وقد اعتنقها وقال بها من سبقنا من علمائنا ممن هبطوا وأصبحوا يقرءون القرآن كأنما يقرءون على الموتى، ولا علاقة للأحياء به، وهذا خطأ كبير، وله ظروفه وعوامله وأسبابه، والحمد لله أن فتح الله علينا، وعرفنا أن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح لكل البشرية.

معنى قوله تعالى: (قلوبنا غلف )

قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقرأ ابن عباس : (غُلُفْ). والمعنى إما أنهم قالوا: قلوبنا مملوءة بالعلم والمعرفة، قلوبنا أوعية مملوءة تفيض بالمعارف، فلسنا في حاجة إلى ما يقوله هذا الرسول. ومعنى هذا: أنهم يريدون التخلص .. التنحي .. البعد من القرآن الكريم؛ ليبقوا على كفرهم والعياذ بالله تعالى.وقطعاً أن الذين يقولون هذا هم علماؤهم .. أحبارهم .. رجال الدين عندهم والعلم، أما العوام فهم يساقون كالبهائم، لا يستطيعون أن يستقلوا برأي ولا بفهم. وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقد فسر هذا بمعنيين: إما أنها في أغطية وأغشية لا تستطيع أن تسمع ما تقول ولا تفهم، فلا تتعب نفسك يا محمد.أو أنهم يقولون: قلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف قد ورثناها عن آبائنا وأسلافنا، وهذا كتاب الله بين أيدينا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع لك أو نأخذ عنك. وعلى كلا الحالين هم لا يريدون الإسلام بل يريدون البقاء على اليهودية والبدعة التي ابتدعوها، والله ما جعل يهودية ولا نصرانية، فقد قالوا هذه القولة فرد الله تعالى عليهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] فكلمة يهودية .. نصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى، أما الله فما شرع يهودية ولا نصرانية قط.فهم يتهربون بقولهم: إن قلوبنا عليها أغطية وأغشية لا تستطيع أن تصل إليها يا محمد بكلامك، وقد يقول هذا عالم، ويقول الآخر: لسنا في حاجة إلى ما تقول، فقلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف ورثناها عن الأنبياء من بني إسرائيل، ومعنى هذا: اصرف عنا وجهك، ولا توجه إلينا هذا الكلام. وكل هذا من أجل الحفاظ على ملتهم الهابطة الباطلة، ولتبقى اليهودية اللعينة، ويبقى لهم ما ادعوه من أنهم شعب الله المختار.وقد علم المستمعون والمستمعات القضية التي ما زلت أعيدها تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: وهي أنهم مصممون على عودة مملكة بني إسرائيل، وهذه هي الحقيقة، فقالوا: إن نحن دخلنا في الإسلام ذبنا فيه، وما بقي لنا وجود، وهو كذلك؛ فالإسلام من دخل فيه انتهت عنصريته ووطنه وكل ذلك، فهو مسلم أبيض .. أسود .. طويل .. قصير .. عربي .. عجمي .. شريف .. وضيعمسلم: أي: أسلمت قلبي ووجهي لله، فإذا أمرني أن أصوم صمت، وإذا أمرني أن أفطر أفطرت، وإذا أمرني أن أسكت سكت الدهر كله، وإذا أمرني أن أتكلم تكلمت لأني عبده، فقد أسلمت له قلبي ووجهي: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] فللهروب من هذه الحقيقة أخذوا يصطنعون الدعاوى والأباطيل، وهم في حقيقة أمرهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، إذ لو قبلوا الإسلام ودخلوا فيه ما بقيت مملكة ولا ملك لبني إسرائيل.فإن قيل: هل هناك من برهنة أو تدليل على هذه الحقيقة؟الجواب: الواقع أكبر دليل، أما كونوا دولة إسرائيل، وأوجدت في قلب العالم الإسلامي .. في أرض القدس .. في المسجد الأقصى؟فإن قيل: ولم -إذاً- ما قالوا: مملكة، وقالوا: دولة إسرائيل؟قلنا: لم يقولوا: مملكة؛ حتى يتحقق لهم الأمل يوم يحكمون العرب من النيل إلى الفرات، فيومئذ يعلنون عن مملكة إسرائيل، ومنذ سنوات كان معنا طالب استشهد في الأفغان من الصالحين المربين، وبأذنه سمع موشي ديان وقد قام خطيباً في المجلس اليهودي، فلما خطب بهر السامعين من رجال اليهود، فقام أحدهم وقال: أنت الملك .. أنت .. فقال: اسكت اسكت، لم يحن الوقت بعد. لا تقل: ملك ولا مملكة. لكن ذلك يوم يحكمون من النيل إلى الفرات، وهذه خطوة أولى فقط، فمملكتهم إمبراطورية عالمية، وسليمان عليه السلام قد حكم العالم الموجود يومئذ من الشرق إلى الغرب كـالإسكندر .فهذا الأمل يعملون له الليل والنهار، وقد مشوا فيه خطوات عجيبة فتحقق لهم وجود دولة إسرائيل ولم يكتمل بعد حتى يطلق عليها مملكة بني إسرائيل، فلهذا فاوضوهم .. صالحوهم .. ادخلوا معهم في ما شئتم، فلن تنتفعوا قط لما يحملونه من أمل في إعادة مملكة بني إسرائيل.والحمد لله من عشرات السنين ونحن في الدرس نقول للعرب: تفاوضوا معهم .. صالحوهم .. خذوا فرصة على الأقل تزيلوا آلامكم وأتعابكم، ويأمن إخوانكم، فإن اليهود لن يستمروا على مصالحة، ولا عهد، ولا عقد، فكلما عاهدوا عهداً نقضوه، فخذوا فقط فرصة حتى يلتئم إخوانكم، وتعالج جراحاتهم، وإذا تقويتم، واتفقتم، وسدتم فسوف تقاتلون، لكنهم يقولون: لا، هم الذين يقاتلون. فيضحك العرب، فهم لا يفهمون هذا. وهذا شأن من يعرض عن كتاب الله عز وجل، ويصبح أجهل الخلق.

معنى قوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)

قال الله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] ليس الأمر كما يقولون، وإنما طبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فأبعدهم عن الرحمة .. أبعدهم عن ساحة الخير .. أبعدهم من أن يدخلوا في رحمة الله، ويصبحوا أولياء مع المسلمين والمسلمات، وهذا هو السر، فليس السبب أن قلوبهم غلف، بل السبب أن الله لعنهم بسبب كفرهم، وعنادهم، ومكرهم، فطبع على قلوبهم فهم لا يؤمنون.

معنى قوله تعالى: (فقليلاً ما يؤمنون)

قال: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] إما أن تقول: الإيمان القليل هو إيمانهم بالله عز وجل أو إيمانهم بالبعث الآخر، أو إيمانهم برسل الله على التخير والاختيار، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو قل: قليلاً من يؤمن بالرسل، فالذين آمنوا ودخلوا في الإسلام عدد لا يزيد عن العشرة وإن صاروا عشرين، وهم يعرفون معرفة حقيقية، ورضي الله عن عبد الله بن سلام وأخيه، فهم مجموعة قليلة وهم كذلك إلى الآن.أما النصارى فيدخلون في الإسلام، والله لو وجدوا دعاة حق وعليهم النور لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لكن اليهود تمضي مائة سنة ولا يدخل واحد في الإسلام، ومع أنهم يفهمون لغة الإسلام فإنهم لا يدخلون؛ لأنهم يريدون إعادة مملكتهم، وإعادة مجدهم، وأنى لهم ذلك، فهذا من باب المستحيل، وقد لعنهم الله، وأخزاهم، وأذلهم إلى يوم القيامة.
ظهور دولة بني إسرائيل من جديد

أما إن قال قائل: هاهم ظهروا من جديد وسادوا وحكموا في مكان ما؟فالجواب: أما قال تعالى وقوله الحق: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:163-167]، فهنا أعلم الله عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسول الله، أعلم بماذا؟ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] فمن قال: هاهم قد ارتفعوا نقول له: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].والشاهد عندنا في حبل الله أن يدخلوا في الإسلام، وحبل الناس أن يتفقوا مع دولة كبيرة كبريطانيا أو فرنسا فتؤمنهم، وهذا الذي حصل، فما أقاموا دولة إسرائيل إلا بالمعاهدات التي كانت تربطهم ببريطانيا، وفرنسا، وأوروبا وأمريكا، ولو أن الأوربيين والأمريكان يتخلون عن اليهود ساعة واحدة للصقوا بالأرض. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] والحبل هو ما به يربط العهد والميثاق: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].فإن قال قائل: إن الله تعالى يقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] أليس كذلك؟ فها هم قد حكموا وسادوا ورفعت الذلة عنهم، فما هو الجواب؟الجواب: قول الله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فلو دخلوا في الإسلام ما بقي ذل، ولا هون، ولا دون، ونجوا، لكنهم ما دخلوا في الإسلام، ومع ذلك عزوا في هذه الأيام بسبب حبل من الناس، فبريطانيا هي التي شجعتهم وقوتهم، وأتت بهم وساعدتهم، وأعطتهم دولة إسرائيل، وأوروبا الآن كلها تدين لهم، وهي خاضعة لسلطانهم، وأمريكا فوق ذلك؛ لأنهم ملكوا قلوب الرجال، وتسلطوا عليهم بالأموال، وسادوا العالم بالمال، فهذا حبل قوي، فقولوا: صدق الله العظيم، آمنا بالله .. آمنا بالله.ولو تكتشف أمريكا مؤامرة يهودية لنسفها وتدميرها فإنها سترفع يدها وتلعنهم، وتلعنهم كذلك أوروبا فوالله سيصبحون أذل الخلق، ولن يستطيعوا أن يثبتوا وجودهم وعزهم كما هم اليوم، فقط لو يتمزق هذا الحبل، ونحن ننتظر تمزقه، وذلك عندما يستقيم أمر المسلمين، ويعودون إلى الله عز وجل.فلهذا لما ترفع القضايا إلى الأمم المتحدة، وتجد العجب من الناس بمناشدتهم أمريكا .. أمريكا، والصحيح أن يقولوا: يا ألله! يا ألله! ولا يقولوا: أمريكا. فيا ألله! لو أن المسلمين عادوا إلى الطريق المستقيم، وأسلموا حق الإسلام والله لتتخلين عنهم أمريكا وأوروبا. وإنما هي أسباب، كأن يكتشفوا مؤامرة أن اليهود يريدون أن ينسفوا أوروبا، فإذا تخلت عنهم أوروبا وأمريكا فمن لهم؟! قد وقعوا بين أيدي المسلمين أذلاء، مهانين، مداسين بالنعال.هل عرفتم هذه القضية السياسية المحضة؟فالله عز وجل يخبرنا في سورة الأعراف فيقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسولنا لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] ومعنى سوم العذاب: ألوان العذاب.فإن قال قائل: ها هم أعزة، فأين وعد الله؟ لم ما نفذه الآن؟الجواب: أنسيت قوله من سورة آل عمران: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112] ووجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] فهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف ولا نقول: ناسخة، فهي مخصصة لذلك العموم وهو: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فيرفع الذل والمسكنة عليهم، وحبل الله هو وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ألا إنه الإسلام الحق، فلو دخل اليهود في الإسلام لأصبحوا أطهاراً، أصفياء .. لله أولياء .. سادة العالم، لأنهم أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين، لكن هذا الحبل رفضوه .. مزقوه .. حاربوه، وأعلنوا الحرب عليه منذ أن بعث رسول الله إلى اليوم؛ كل ذلك خشية أن يذوبوا في نور الإسلام، وينتهي أمر وجود بني إسرائيل.يا أيها المستمعون! اليهود يحاربون الإسلام خشية أن يذوبوا فيه، ويعلِّمون أطفالهم، والله لكتب اللغة عندهم ككتب اللغة عندنا، من القاموس وغيره، فيأتون بعبارات تهاجم الإسلام والمسلمين، وتحذر اليهودي واليهودية من قبول هذه الملة أو الرضا بها أو السكوت عنها، فإنها تقضي على وجود بني إسرائيل.وكتبنا مرة رسالة في هذا الباب، فكتب اللغة عندهم إذا ذكروا محمداً أو أحمد أو إسلام يأخذون في شرحها والتنكير لها، وتقبيحها، وتحذير بني إسرائيل منها.إذاً: حبل الناس موجود، وسبب وجوده: فسقنا .. فجورنا .. جهلنا .. ضلالنا .. هبوطنا .. تمزقنا فهو الذي أوجد الحبل. أرأيتم لو كنا كما كنا في القرون الذهبية أمة واحدة، فلا حزبية، ولا فرقة، ولا انقسام، ولا تشتت، فقط مسلم، وأمرنا واحد: لا إله إلا الله، ونحن على ذلك ثلاثمائة سنة، فهل يستطيعون أن يوجدوا حبلاً يربطهم أو يشد من أعصابهم؟ لا يستطيعون، لكن لما تعاونوا علينا فضللونا، وجهلونا، وأبعدونا عن نصر الله ورحمته، وأصبحنا بدل الدولة دويلات، وبدل الأمة أمما، وبدل المذهب الواحد مذاهب.ويكفي أن القرآن يقرأ على الموتى، فالروح الذي فيه الحياة صرفناه إلى الموتى، وحرمنا منه الأحياء، والسنة لا تقول: قال الرسول! اسكت، قل: قال سيدي فلان، وقال الشيخ الفلاني.فمن هم الذين أعطوا اليهود حبلاً متيناً وخنقونا به؟ إنهم نحن وبأيدينا.لكن متى يتمزق هذا الحبل؟ ومتى تتنكر أوروبا لليهود كما تنكر هتلر ؟هذا ضربنا به مثل، فهتلر غضب على اليهود وأذلهم، وقتل منهم الآلاف لما أراد الله ذلك، فلو أن المسلمين فزعوا إلى الله عز وجل ولاذوا بجنابه، وعادوا إلى طريقه المستقيم لكانت مؤامرة تظهر في العالم ضد أمريكا سببها اليهود، فيقضون على اليهود.كذلك أوروبا لو اكتشفت أن اليهود يعدون حرباً ذرية للقضاء على أوروبا، وتظهر البينات، فإن أوروبا سيطاردون اليهود ويذبحونهم، ويقلونهم في الزيت كما كانوا يفعلون معهم، وينتهي أمر اليهود، لكن لن يكون هذا حتى توجد أمة الإسلام، وتستحق ولاية الله عز وجل، فالقضية -إذاً- بأيدينا، والله أعطانا هذا، فإن شئنا قوينا اليهود وورثناهم وملكناهم، وإن شئنا أذللناهم وأهناهم، فالأمر جعله الله في أيدينا، الحمد لله.هذه نعمة الإسلام .. أنوار الإسلام .. بركة الإسلام الذي جهلناه، وحاربناه في أنفسنا وفي بيوتنا وأسرنا وفي ديارنا. وسنفيق متى يأذن الله عز وجل.قول ربنا عز وجل وهو يقول لرسوله ولنا: وَقَالُوا أي: اليهود قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال تعالى: لا، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] فليس في قلوبهم العلم الفياض الزائد عن الحاجة، وليست قلوبهم مربوطة ومغشى عليها، وإنما القضية هي أن الله لعنهم فطبع على قلوبهم حتى لا يدخلوا في رحمة الله، بل طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. قال: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وبناءً على هذا: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] أي: قليلاً ما يؤمنون بالمعنيين السابق ذكرهما: إما لا يؤمن منهم إلا أفراد قلائل وهذا هو الحق، وإما إيمانهم قليل، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، يؤمنون بالرسالات الإلهية والأنبياء والرسل، لكن كفروا بعيسى، وكفروا بمحمد، وجعلوا سليمان ساحراً، وقتلوا الأنبياء، أو يؤمنون بالبعث الآخر، والدار الآخرة، والجنة والنار، ولكن لا يؤمنون بالعمل لها، وإعداد النفوس طيبة طاهرة لتدخل الجنة وتنجو من النار، فهو إيمان جزئي، بنسبة واحد إلى ألف.


يتبع

ابوالوليد المسلم 31-08-2020 04:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ...)

مجيء القرآن مصدقاً لما مع اليهود في كتبهم

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ [البقرة:89] التنكير في كتاب للتفخيم والتعظيم، فهو كتاب لا يوزن بميزان، وكتابه هذا هو القرآن العظيم. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:89] فقد جاءهم به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، من عند الله، فقد أوحاه إليه في ثلاث وعشرين سنة، فالوحي ينزل، والقرآن يتوالى حتى كمل، وأصبح كتاب الله في الأرض كما هو في السماء، في اللوح المحفوظ، عدد سوره مائة وأربعة عشر سورة، فيها ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وأما كلماته فعشرات الآلاف، فهذا كله كلام الله، جاءهم من عند الله.قال: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:89]، ما مع اليهود؟ معهم أن الله لا إله إلا هو، ولا رب سواه .. أن الله عز وجل أعد دار النعيم لأوليائه، ودار العذاب لأعدائه، فهذا الكتاب فيه الدعوة إلى الإخاء .. إلى المودة .. إلى الصدق .. إلى العدل .. إلى الرحمة .. إلى .. وما معهم من عقائد سليمة صحيحة بقيت في التوراة إلا جاء بها القرآن، ما تنافى معها ولا أبطلها أبداً، بل صدقها، وما ابتكروه واخترعوه ولفقوا به وشرحوا به التوراة وأضافوا إليها فالقرآن بريء منه، بل كشف الباطل وأبانه للناس. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ عظيم مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أي: لما في التوراة من أصول الإيمان وحقائق الدين.

اليهود يستفتحون على العرب قبل الإسلام

قال: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل أن يأتيهم الكتاب العظيم وهو القرآن الكريم.وقوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ لماذا ( قبلُ ) مرفوعة؟ أليست (مِن) جارة؟ والأصل أن تقول: من قبلِ، فمِن حرف جر؟الجواب: هنا قاعدة خاصة في (قبل وبعد): فإذا ذكر المضاف بعدهما جرتا، فمثلاً نقول: وإن كانوا من قبلِ نزول الوحي، فلا بد أن نقول: من قبلِ، وإذا حذف المضاف، ونوي معناه دون لفظه بنيت قبل وبعد على الرفع، فنقول: وإن كانوا من قبلُ، والمعنى: من قبل وجود الرسول ونزول الوحي.قال: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] معنى يستفتحون عليهم: يخبرونهم بالنصر والفتح عليهم، وقد كان اليهود في المدينة إذا غاضبهم العرب أو دخلوا معهم في صراع ولو جدلي يقولون: اسمعوا! إن نبياً قد أظل زمانه، ولاح في الأفق تباشير وجوده، وسوف نؤمن به، وننضم إلى أمته، ونقاتلكم وننتصر عليكم، فانتظروا، ولا تستعجلونا. وكانوا يقولون هذا على علم واعتقاد؛ لأنهم ما تبين لهم أن هذا النبي سيكون من أولاد إسماعيل، وقد كانوا يحلمون أنه يكون منهم.فكان اليهود يقولون: إن نبياً قد أظلنا زمانه وقرب منا، وسوف نؤمن به ونقاتلكم، وننتقم منكم، وأنتم الآن تستضعفوننا لأنا أقلية بينكم، ومحصورين في دياركم، لكن انتظروا يوماً سيأتي يبعث فيه نبي آخر الزمان، ونقاتلكم معه قتال عاد وإرم، فهذا معنى قوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل نزول الوحي المحمدي وبعثة الرسول النبي الأمي، ومعنى يَسْتَفْتِحُونَ : يطلبون الفتح، والفتح هو النصر.وأنتم تعلمون أن فرنسا فتحت ألمانيا، ومعنى فتحتها: أنها دخلت بلادها، وانتصرت عليها.لكن يستفتحون على من؟ قال: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] أي: الذين كفروا بالله وبتوحيده، وهم المشركون من كل فئات العرب وقبائلهم، الذين كانوا يعايشونهم ويعيشون معهم قبل البعثة المحمدية.والعرب كانوا قد كفروا، فما كانوا كما كانوا على عهد إسماعيل وأحفاده وأولاده، فقد جاءتهم الأصنام والتماثيل فعبدوها، ولعنة الله على عمرو بن لحي فهو الذي جاء بها من الشام.إذاً: فهذا القرآن يسجل كفر العرب قبل الإسلام: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا .

الحسد أورد اليهود مهالك الخزي والهوان

قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] فلما جاء اليهود ما عرفوا وما كانوا ينتظرونه، ووجدوه من أولاد إسماعيل قالوا: لن نؤمن به، فلا ينتقل الشرف من أولاد إسحاق إلى أولاد إسماعيل أبداً.فإن قيل لهم: هؤلاء بنو عمكم؟قالوا: وإن كانوا بني عمنا.وهذا هو الحسد الذي مزقنا كما مزقهم، وشتتنا كما شتتهم، فوالله لولا الحسد لدخل المسلمون كلهم تحت راية لا إله إلا الله، أما يريدون الإسلام؟ فرفعت راية لا إله إلا الله فأصبح كلهم مسلمين، لكن الحسد: كيف يصبح هؤلاء يحكموننا؟!وقد سمعنا مداحاً يمدح: يا سعودي يا يهودي!!لا إله إلا الله، سبحان الله العظيم! الحسد يفعل هكذا؟ نعم.يا شيخ! لا تعجب، أما قتل هابيل قابيل، أخاه ابن أمه وأبيه؟ فقتله الحسد: كيف أنت يقبل الله منك صدقتك وأنا لا يقبلها مني؟ هل أنت أفضل مني؟ هل أنت خيراً مني؟ فقتله.فكذلك اليهود ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الحسد، فالحسد عامل قوي، وها أنتم تعيشون بين إخوانكم في الشرق والغرب حتى أهل البيت الواحد يتحاسدون.وخذوا قاعدة: الحسود لا يسود، وإن ساد اليوم فسوف يتحطم ويذل غداً. ولهذا أنزل الله سورة كاملة يعلمنا فيها كيف نتعوذ من الحسد، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].

قراءة سورة الفلق تمنع الحسد بإذن الله

أيها المستمعون! هل لكم في فائدة عظيمة خير لكم من أن تعودوا إلى بلادكم بشيك فيه خمسمائة مليون دولار أمريكي؟! وهذا فيما أظن هو أغلى شيء هذه الأيام.إن أولي النهى والبصائر -والله- ليفرحون بهذه الفائدة كفرحنا بالبقلاوة والدجاج المشوي والشاي الأخضر و.. أو أشد.لما سُحِر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد سحره حاسده اليهودي لبيد بن الأعصم عليه لعائن الله وبناته شيطانات السحر، وقد قلت لكم: إن السحر موجود في المدينة، ونعجب لوجوده؛ لأن الساحر يقتل حيث بان سحره، ولكن لمكرهم ما استطاعت الهيئة أن تعثر عليهم، فهم يهاجمون البيوت ولا يعرفون. فاليهود هم الذي ينشرون السحر في العالم، وهم ممتازون في هذا الباب.فلما سحر النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر به عدة أيام والله عاصمه، أنزل الله هذه السورة: الفلق، فما تعوذ متعوذ بمثلها قط، وهذه السورة ما إن تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذاب ذلك السحر والحسد، وهي خمس آيات.قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] رب الفلق هو الذي يفلق رءوس اليهودي، ويسلطنا عليهم عما قريب، وذلك لما نسلم.فالله يفلق الظلام الدامس فيفجر منه الضياء، وإذا الأنوار تلح، والأضواء في الشرق والغرب.ومن رب الفلق؟ الله. ولو اجتمع العالم كله على أن يستعجلوا الليل بساعتين قبل انقضائه فيفجرون الفجر لا يستطيعون، فرب الفلق هو الله.فهذا المتعوذ قد تحصن بالله، والذي يقوى على هذا الكون يستطيع أن يحفظك إذا لذت بجنابه، واحتميت بالإيمان.قال: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] هل الله تعالى يخلق الشر؟ نعم الله يخلق الشر والخير، أما خلق النار والجنة؟! أما خلق الظمأ والعطش والري وو؟! فهو خالق كل شيء لحكم عالية. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ من الشرور.قال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] أي: إذا كان القمر في السماء فإنه يضيء المنطقة أو البلد، وإذا به يغيب ويحل محله الظلام، فأتيحت الفرصة للسراق، والمجرمين، واللصوص، والحيات، والعقارب، والثعابين في الظلام، وهنا عليك أن تفزع إلى الله، فتتعوذ من شر غاسق إذا وقب.وهنا فائدة يذكرها بعض أهل التفسير من السلف فيقولون: إن هذا يشمل أيضاً إذا انتصب ذكر الفحل وحينئذ عليه أن يستعيذ بالله منه، فقد يوقعه في معصية الله، وإذا هاجت الغريزة والشهوة وانتصب ذكر الفحل ففي هذه الحال عليه أن يفزع إلى الله وإلا حمله على الفسق، ومن هنا استعذ بالله دائماً بهذه السورة: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3].قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] والنفاثات هن الساحرات اللاتي ينفثن في العقد والخيوط بتعليم شياطين السحر لذلك، والنفاثات جمع نفاثة، فتجدها تعقد العقدة وتنفخ فيها وتقول كلمات الكفر، والشيطان يقويها، وتسحر بها من شاءت، إلا من عصمه الله، وقد سُحر حتى نبي الأنبياء ورسول المرسلين.قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] فهذه خمس آيات أنزلها الله لعباده المؤمنين من أجل أن يستعيذوا بربهم من هذه الشرور العامة، الطامة، الهالكة، المهلكة.

ما يمنع العين

إذا رأيتَ عائناً يحمل السم في عينيه، فالله هو الذي خلق ذلك فيه كما خلق السم في العقرب والأفعى، فالعقرب ليست هي التي أوجدت سمها، بل هو الله الذي أوجده بتدبيره وقضائه في خلقه، فإذا وجد شخص في القرية .. في المدينة .. في الفصل .. في المسجد عنده هذا المرض، فنقول له: يا عبد الله! كف أذاك وشرك عن عباد الله. فإن قال: لا أستطيع؟ نقول له: لا، خذ هذا الدواء، فإذا نظرت إلى شيء وأعجبك فقل: تبارك الله .. ما شاء الله. وهنا سمك لا يتحرك، ولا ينطلق، ولا ينفع شيئاً، قال تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أعجبه شيء ولو كان طفلاً رضيعاً .. ولو مشيك .. ولو عمامتك على رأسك، فعليه أن يبادر إلى هذه الكلمة فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، تبارك الله! فلا يصل إلى ذلك الشيء المعجب به شيء، فقد أمن.فيا عباد الله! من أعجبه شيء مثل: بناية .. سيارة .. أكلة لذيذة .. شخص جميل .. كذا، فليبادر بكلمة: تبارك الله .. ما شاء الله، ويضع سداً مانعاً لا يصل إليه حسده.وهل هذا العلاج يوجد عند غيرنا؟ والله لا يوجد، ولكننا ما طلبناه .. ما سألنا عنه وما عرفناه، فألف مليون لا يعرف هذا! ممكن مليون من الألف مليون؛ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله.إذاً من أعجبه شيء فليبرك وليقل: ما شاء الله، ولا يضره حينئذ شيء، فيأمن.الحمد لله أنّى ما خلقت هذا في عيني، بل الله خلقه، فلله الحمد والمنة، وحتى لا يعذبني أعطاني هذه المناعة، فقل: تبارك الله ما شاء الله! لن يضر أخاك شيئاً.فمن هنا إذا وجدت حاسداً ورأيته لم يترك، وخفت من بلائه وعذابه فإنك تقرأ هذه السورة: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5] ولن يضرك، فهو لو استعمل هذه المناعة لانتهينا، لكن أكثرهم لا يستعملها.وكنا نعرف في القرى: فلاناً معيان، فإما أن تمر بغنمك وإلا عليك أن تذهب بعيداً. فما عندنا المناعة.أما الآن فقد أعطانا الله المناعة بأن نقول: تبارك الله .. ما شاء الله.ونحن إذا ما قالوها نقرأ هذه السورة، فكان المؤمنون والمؤمنات يتحصنون بها من أذى الحسدة إذا شاهدوهم.إذاً: مضى زمان ونسي المسلمون هذه المناعة مع أنها خمس آيات، لكن الكسل والعجز بدل ما يقرأ هذه السورة تجده يقول: خمسة في عينيك، فمن التعب لا يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ويقرأها كاملة بل يقول: خمسة في عينيك. فمضت قرون، ونسوا أن هذه الآيات الخمس هي التي تدفع الحسد، وظنوا أنها الأصابع، فيقولون: خمسة في عينيك.وجاءت أيام فمن التعب صوّروا الكف فقط عند باب البيت أو وراء السيارة، فما تتعب حتى تقول: خمسة، اجعلها صورة، وقد وجدت هذه الكف في أمام المنازل الجميلة، وفي السيارات لتدفع الحسد .. لتدفع العين، وهي والله لا تدفع أبداً، والذي يدفع هو أن تقرأ الخمس الآيات إيماناً ورجاءً في الله أن يدفع عنك العين والحاسد بهذه الآيات، لكن كونك من الكسل تقول هكذا، ولا تقرأ فلا تنتفع، حتى ولو كنت تعرف أن معناها خمس آيات في عينيك، لكن مع الأسف أنسانا الشيطان هذا كله، وأبقى لنا الأصابع، فإذا قلت هكذا هل يرد العين؟ والله ما يردها.ونتائج كل ذلك أن أمتنا هبطت. أما كانت تستخدم الآيات لصلاحها، فجهلتها وما عرفتها، وأصبحت تشير بالأصابع، وعجزت حتى عن الإشارة بالأصابع فجعلتها صورة في البناء أو في غيره.

معنى قوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين)

قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] فما قال: فلعنة الله عليهم أي اليهود، لا. لعنة الله على الكافرين من يهود، أو نصارى، أو عرب، أو كل كافر، وهذا من عجائب القرآن، فما قال: لعنة الله عليهم، بل كل كافر؛ لأن لعنة الله كانت من أجل الكفر؛ فإذا كفر الشريف كما يكفر الوضيع فالكل لعنة الله عليه، إذ نسبتنا إلى الله واحدة: عبيد لمالك واحد، وسيد واحد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 31-08-2020 04:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (68)
الحلقة (75)




تفسير سورة البقرة (38)

يكشف القرآن عن صفة قبيحة لازمت اليهود، وهي التعصب المطلق، فبدلاً من قبول الحق، وهو الإسلام والقرآن، عاندوا وجحدوا لا لشيء إلا لأن التوراة أنزلت عليهم، وأنها كتابهم، بخلاف القرآن الذي أنزل على غيرهم! وتصرفهم هذا ليس مستغرباً فقد عبدوا عجلاً صنماً رغم معايشتهم لمعجزات موسى، وكان أخذهم للتوراة والتسليم بما فيها بعد أن رفع جبل الطور على رءوسهم، لكن رءوسهم هذه لم تعقل!

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91-93].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم في الحديث مع بني إسرائيل، وهو حديث التأنيب والتقريع إلى جانب الدعوة إلى الحق والانخراط في سلك المؤمنين، والله يدخل في رحمته من يشاء.فقول ربنا جل ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ [البقرة:91] القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم، إذ هم الذين كانوا مع اليهود في المدينة، وإلى الآن لو قلت ليهودي: آمن بما أنزل الله، فإنه يقول لك: أنا مؤمن بما أنزل الله، أي: بالتوراة، وأنا لست في حاجة إلى غيرها، وإلى أن تقوم القيامة؛ لأن شأنهم واحد .. كلمتهم واحدة .. وجهتهم واحدة، فلهذا تخاطب هذا بما تخاطب به الأولين من أربعة آلاف سنة، وهذا شأن بني إسرائيل.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:91] أي: بالقرآن، وهم يعرفون أن القرآن أنزله الله، ويعرفون أن النبي أمِّي، والأمي أنى له أن يتكلم بالعلوم والمعارف، ثم إن القرآن قد احتوى على ما في التوراة من حقائق الشرع والدين، كالإيمان بالله، ولقائه، والبعث الآخر، والجزاء بالنعيم المقيم والعذاب الأليم، فكل هذا حواه القرآن وهو في التوراة.ولا ننسى أنهم لحسدهم لبني إسماعيل، وللخوف من أن يذوبوا في روح الإسلام كرهوا الإسلام وحاربوه وحاربوا أهله إلى اليوم، وتقدم هذا في السياق الكريم، وكل ذلك بغياً وحسداً من عند أنفسهم: كيف نصبح أتباعاً لولد إسماعيل، ونحن أشرف أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.قال: قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [البقرة:91] انظر إلى العصبية في قولهم: (علينا) أي: نحن بني إسرائيل، أما عليكم يا أبناء إسماعيل فلا وألف لا. والدين لا يرضى بالعصبية، فالبشرية كلها نسبتها إلى الله واحدة، وهم عبيد لمالك واحد هو الله، والتحيز من اليهود ظاهر: نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا .قال: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] لم ما قال: وكفروا أو ونكفر بما وراءه؟ الجواب: لأن كفرهم مستمر فيقولون هذه الكلمة، ويكفرون بما وراء القرآن.قال: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:91] القرآن حق، ومصدق للذي معهم في التوراة كما قدمنا من عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة .. من وجود عالم شقاء وعالم سعادة .. من التوحيد وألا يعبد إلا الله .. من الإيمان بكتب الله ورسل الله، فهذه كلها موجودة في التوراة.إذاً: كفرهم بالقرآن يلزم منه كفرهم بالتوراة؛ لأن القرآن يقرر ما في التوراة ويثبتها، وهم يقولون: القرآن باطل لا نؤمن به، فإذاً كفروا حتى بالتوراة، وهكذا السيئة تجر سيئة، والخطأ يقود إلى خطأ.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا فقط وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] أي: بما ادعوه أنه أنزل عليهم من التوراة وهو القرآن الكريم، كأنهم قالوا: نكفر بالقرآن، ولا نعترف به، ولا نأخذ به في هدايتنا وصلاحنا.قال: وَهُوَ الْحَقُّ والحال أنه الحق مُصَدِّقًا من ربهم، وكررنا القول في مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أن الذي معهم في التوراة لا إله إلا الله، وأن الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل مقرر في التوراة .. وأن الإيمان بالبعث الآخر في التوراة .. وأن الحق، والعدل، والخير، والمعروف، والإحسان، والبر كلها موجودة في التوراة، فالقرآن مصدق لما معهم، فالمفروض لا يكفرون به، إذ ما فيه منافاة بين ما يؤمنون به وبالقرآن الذي دعوا إلى الإيمان به، ولو كان هناك تصادم أو تعارض فقد يعذرون، فالقرآن مصدق لما معهم.إذاً: بكّتهم، وأخزهم، وقل لهم: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] فهل التوراة فيها الإذن بقتل الأنبياء والعلماء؟ والله ليس فيها، فلم -إذاً- تقتلون الأنبياء، وقد قتلوا زكريا وولده يحيى، وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وادعوا أنهم قتلوا عيسى، وبالفعل صلبوا من شبه لهم، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الأيام كانوا يقتلون سبعين نبياً، وفي المساء كانت أسواقهم قائمة للبيع والشراء كأن شيئاً ما وقع. إذاً فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] وهم يعترفون بأنهم قتلوا عيسى؛ لأنه ساحر وكذا وكذا، وقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهم، فهل الإيمان الحق بكتاب الله التوراة النورانية يسمح بقتل الأنبياء؛ إذاً ما أنتم بالمؤمنين بالتوراة، وحقاً هم كفار بالقرآن وبالتوراة؛ لأن إيمانهم صوري، فهم مؤمنون بالتوراة لكن هل صدقتم الله فيما جاء فيها؟ وهل امتثلتم أوامر الله فيها؟ وهل امتثلتم نواهي الله فاجتنبتموها في التوراة؟ إذاً ما معنى هذا الإيمان بالتوراة؟فهذا هو التقريع والتوبيخ، فقل لهم يا رسولنا: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91].
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ...)

مجيء موسى بالبينات

هنا الآن جولة أخرى أيضاً مع اليهود، قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] ولك أن تقول: قل يا رسولنا لهم: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] أي: بالمعجزات، ومعجزات موسى عليه السلام تسع آيات.وأولى تلك الآيات أن العصا تستحيل إلى حية تهتز كأنها جان، وأما يوم المباراة العظمى فإن تلك العصا ابتلعت وتلقفت كل ما ألقاه السحرة في تلك الساحة من الثعابين والحيات، فتلقفتها بكاملها، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء كأنها -والله- فلقة قمر.وأعظم آية شاهدوها في صالحيهم مع فرعون كانت هي انفلاق البحر، وهي كونه يضرب البحر الأحمر بعصاه: باسم الله، فينفلق اثنتي عشرة فلقة، أي: اثني عشر طريقاً، لكل قبيلة تسلك طريقها. فأية آية أعظم من هذه؟والحجر الذي يحملونه معهم يضربه بعصاه فتتفجر منه اثنتا عشرة عيناً حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، وكل قبيلة تشرب من عينها الخاصة.فهل هذه الآيات وغيرها جاءتكم فآمنتم؟!وهذا هو التقريع .. التوبيخ.. التأنيب، ولكن من لم يشأ الله هدايته ما اهتدى.

اتخاذ بني إسرائيل للعجل إلهاً

قال تعالى بعد ذلك: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] بعدما خرجوا من البحر ونجوا من فرعون وحكمه، ونزلوا بالساحل، استدعي موسى عليه السلام -كما عرفتم- إلى جبل الطور لمناجاة الله تعالى، بل ذهب ليأتي بالدستور الذي يحكم به بني إسرائيل.وهذه الجملة الحمد لله كررناها مئات المرات، لعلها تنقل إلى العرب والمسلمين لكن ليس هناك من ينقل.لما استقل بنو إسرائيل، وقد كانوا محكومين بحكم فرعون دهراً طويلاً، فلما خرج بهم موسى بعد أن ظهر على فرعون وقهره نزلوا على الساحل، فكيف يحكمهم موسى؟ وما هو الدستور، وما هو القانون؟ فقال: اجلسوا أنا أذهب إلى ربي وآتيكم بالدستور.ونحن نقول لإخواننا المسلمين: لما استقل الإقليم الفلاني من هولندا وبريطانيا وفرنسا فهل بلغكم أن إقليماً استقل فقال: يجب علينا أن نطلب دستور الإسلام فنذهب إلى العلماء: يا علماء الأزهر! يا علماء الحرمين! اجتمعوا وضعوا لنا دستوراً، وعجلوا كيف نحكم هذه الأمة .. هذا الشعب؟ هل فعلوا؟ ما فعلوا.إذاً: موسى أذكى منهم، وأعلم منهم، ولكن نحن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بهذا، ولكن إلى الآن ما اجتمع علماء أي بلد وقالوا: لابد من وضع دستور إسلامي، مصدره قال الله وقال رسوله، وما أجمع عليه أئمة الفقه الإسلامي من تلك الزمرة النورانية في العهد السالف، ويحكمون المسلمين بشرع ربهم، فإن افتقروا فهذا الذي أعطاهم .. وإن استغنوا فهذا الذي أعطاهم .. وإن مرضوا وصحوا فيقول لهم: نحن الحاكمين غير مسئولين عنكم، هذا دينكم وشريعتكم، ونحن حكمناكم بها فلا تلومونا، وليس هناك من يلومهم. فسبحان الله! مظهر من مظاهر القرآن الكريم أن يترك موسى بني إسرائيل على الساحل -والخليفة فيهم هارون عليه السلام- ويقول لهم: اجلسوا حتى آتيكم بالدستور.واسمعوا قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] فما هذا العجل الذي اتخذوه من بعد موسى؟سبق أن عرفنا هذا وكررناه مع المستمعين والمستمعات ونعيد تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: كان بينهم رجل -وما من حقنا أن نقول: رجل أبداً فهو ممسوخ- هو السامري ، فجاء إلى نساء بني إسرائيل وقال لهن: هذا الحلي الذي عندكن هو حلي القبطيات. ولا يبعد أن نساء بني إسرائيل لما أعلمن بالرحيل والخروج من مصر احتلن على القبطيات الغافلات، واستعرن منهن الحلي من الذهب والفضة، ولما خرجن خرجن بذلك الحلي، واليهود كما تعرفون يحبون الذهب.فـالسامري قال: هذا الحلي لا يحل لكنَّ استعماله، فكيف تستعملن ما حرم الله، فهذا غش وخيانة، وأنصح لكن أن تجمعن هذا الذهب وأحرقه أنا، وتبرأ بذلك ذممكن. وهذا كلام معقول، لكن هو يريد غير هذا، فجمع الحلي وصاغ منه عجلاً -الذي هو ابن البقرة وليس شرطاً أن يكون ثوراً- فصنعه بالصياغة صياغة الذهب، ولما ذهب موسى قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه.وانظر إلى بلاهة اليهود وغباوتهم، وإلى الآن كما قلت: فيهم أغبياء العجب؛ كيف قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه؟! أما قال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] ولو كان رباً حقاً لسألوه: أنت الله؟ لقال: نعم. أين ذهب موسى؟ ذهب إلينا مثلاً. لكن قبلوا، والتفوا حوله يعبدونه.أما هارون عليه السلام فهو مسئول الخليفة الذي استخلفه فيهم، وقد صاح فيهم: يا عباد الله! لا تكفروا، يا عباد الله! هذه فتنة .. هذا كذا، فكانوا يضحكون، إلا من نجَّى الله عز وجل من ذاك الشعب الذي قوامه ستمائة ألف، وما نجى إلا القليل.فهذا الذي أراده تعالى بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51] أي: اتخذتموه إلهاً، لكن الله ما قال: إلهاً، فهو معروف، وهل يصح أن تقول في العجل: إله؟ والآدمي أو السلطان لا يقال فيه: إله، فكيف بالعجل! وهذا من عجائب القرآن.قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51] أي: من بعد غياب موسى؛ لأن موسى ذهب إلى جبل الطور، ولا أدري كم المسافة من هذه المنطقة التي نزلوا فيها إلى جبل الطور وقطعاً هي في سيناء.



يتبع

ابوالوليد المسلم 31-08-2020 04:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تعريف الظلم

قال: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ أي: والحال أنكم ظالمون، نعم ظالمون؛ لأن الظلم -كما عرفتم زادكم الله معرفة- وضع الشيء في غير موضعه.لم لا يحفظ أبناؤنا وإخواننا هذه الكلمة، ولماذا يتركونها فقط للطلاب؟! يعني: هل يتعب أحدنا إذا قال: الظلم وضع الشيء في غير موضعه؟وهنا مثال على ذلك: لو قام أحدكم الآن ودفع إخوانه: خلوني أنام هنا، ويطرح في حلقة العلم نائماً. فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يأتي إلى باب المسجد ويشمر عن ثيابه ويأخذ يتغوط، تقول له: كيف تفعل هذا؟ يقول لك: أنا خرجت من المسجد، والشارع ممر المسلمين والمسلمات يجوز تلويثه، تقول له: وهذا المرحاض في الحمام لماذا وضع؟! فوضع البول في هذا الموضع ظلم، وهو وضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يدعو غير الله فيقول مثلاً: يا سيدة! الغوث الغوث. هذا وضع للنداء في غير موضعه؛ لأن الذي ناداه لا يسمعه، ولا يراه، ولا يقدر على إمداده وإعطائه، فهذا النداء ينبغي أن يكون للسميع العليم، الذي يسمع نداءك ويراك في مكانك، ويقدر على إسعافك وإنقاذك، والذي يعكف على صنم أو كوكب أو قبر أو إنسان يعبده، فهذه العبادة ما وضعها في موضعها؛ لأن هذا المخلوق لا يعبد. إذاً: هذا ظلم.ولقمان الحكيم كان يقول لابنه وهو يربيه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالظلم يتفاوت، فالذي يبول في المسجد ظلم، والذي يذبح فلاناً ظلم، لكن شتان ما بين هذه وهذه، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكنه يتفاوت.فأعلى مستويات الظلم الشرك؛ لأنه أخذ حق الرب تعالى الذي استوجبه بخلقه للعوالم وما فيها، وبخلقك أنت وإيجادك وإمدادك، ثم هذا الحق الذي من أجله خلقك وهو أن تعبده كيف تصرفه إلى غيره، فأي ظلم أفظع من هذا؟فالله هو الذي خلقني ورزقني وخلق كل شيء في الكون من أجلي خلقني لأعبده، وتركته يخلقني ويرزقني ويحفظني وو.. ثم إذا بي أعبد غيره، فهذا أفظع أنواع الظلم.إذاً اسمعوا الله تعالى يقول: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ والحال أنكم ظالمون بوضعكم العبادة في عجل، وهي ملك لله الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر.فإياك أن تظلم، وهذا إعلان أبي القاسم صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يقول: ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على سفك دمائهم واستحلال حرماتهم ).
تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ...)

أخذ الميثاق على بني إسرائيل

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أي: اذكروا يا بني إسرائيل أو اذكر لهم يا رسولنا وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أتدرون ما الميثاق؟ ليس بميثاق الأمم المتحدة، إنما الميثاق هو العقد الموثق بالأيمان، فهو حبل متين، والله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق من اليهود: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] بأن لا تعبدوا إلا الله .. بأن تحلوا ما حرم الله وتحلوا ما حرم الله .. بأن تطيعوا موسى وأنبياء الله، فهذا عهد وميثاق أن يعبدوا الله بما شرع لهم، وكلفهم به.

قصة رفع الطور

قال: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] الطور جبل بسيناء، فما رفعه عليهم أجمعين، ولا على الذين في المدينة، والزمان كان ثلاثة آلاف سنة، وإنما كما قلت وعلمتم أنهم نحلة وملة واحدة يؤاخذون به كلهم، فذنب أحدهم اليوم يؤاخذ به الأولون، والأولون يؤاخذون بذنوبهم؛ لأنهم على عقيدة واحدة. وهذه القضية هي أن موسى عليه السلام لما وقعت فتنة عبادة العجل، وتورطوا، وجاء موسى وصاح فيهم ووبخهم، وقرعهم، وتابوا، وندموا، وقد قام موسى فيهم كالأسد، وأخذ العجل وأحرقه، ثم برده بالمبارد ونشره حتى أصبح تراباً وذره في البحر؛ حتى لا يبقى للعجل أثر يتعلق به قلوبهم.فهنا اختار موسى منهم سبعين رجلاً من خيارهم يذهب بهم إلى الله عز وجل ليكلمه في جبل الطور، ويطلب التوبة لهؤلاء الذين زلت أقدامهم، فهؤلاء يمثلون الشعب الإسرائيلي، فلما وصلوا وسمعوا كلام الله ما ارتضوا وقالوا: نريد أن نرى وجه ربنا. وعرض عليهم تحمل المسئولية فرفضوا، فما كان من الله تعالى إلا أن رفع الجبل فوق رءوسهم؛ نقضه من أسفله ورفعه كالسحابة: هيا خذوا، وتعهدوا والتزموا، فخروا ساجدين، وهي سجدة إلى الآن يفضلونها على الذهب، فسجدوا على خدهم الأيمن أو الأيسر، وتركوا الآخر ينظرون إلى الجبل من جبنهم وخوفهم، وهم الآن يسجدون في بِيعهم -أي: مساجدهم- هذه السجدة.فالتزموا باللسان وقالوا: سمعنا وعصوا، فهذا ما أخبر تعالى به عنهم في هذا السياق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] أي: جبل الطور.وقلنا لكم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] بمعنى أطيعوا، يقال: فلان لا يسمع لي، أي: لا يطيعني، وليس من السماع بالأذن. وقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ هي التوراة فيها حكم الله .. فيها شرائع الله .. فيها ما تقوم به الحياة .. فيها ما تكملون وتسعدون عليه، فالتزموا، وجاء من سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171].فأعطوا عهداً وهم تحت الحجر أو تحت الجبل ثم نقضوه كأن لم يكن شيء والعياذ بالله، فهم أنقض الخلق للعهود.ونعود للسياسة؛ فمنذ أربعين سنة ونحن نقول للعرب: يا عرب! عاهدوا اليهود -وإن كان هذا الكلام لا يعرفه إلا العقلاء- فعاهدوهم معاهدة سلمية حتى تتقووا وتتجمعوا وتصبحوا أمة واحدة ربانية قوية، ولا تقولوا: إذاً كيف ننقض عهد الله؟ لا، لا. والله لينقضونه لكم، فهم مفطورون ومجبولون على نقض العهود. فلا تخافوا، أعطوهم فرصة لتستفيدوا منها، فإخوانكم يُرفع عنهم العذاب، والبلاء، والشقاء، وأنتم تتقوون وتصنعون وتتحدون، فإذا قويتم على نسفهم وإبادتهم فحينئذ سوف ينقضون العهد، ولا تخافوا أنتم وتقولوا لي: كيف نعطيهم عهداً وميثاقاً، وبعد ننقض هذا؟! نحن لا ننقض العهد أبداً، وإذا عاهدنا نموت ولا ننقض، لكن العدو هو الذي سينقضه؛ وذلكم لأن الله تعالى قال: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] فهذا شأنهم، وانظر كيف رفع الجبل فوقهم، وأعطوا العهود والمواثيق أن يفعلوا بما في التوراة، وما هي إلا أن خرجوا وإذا بهم يحلون ويحرمون ويعطلون بما تقول أهواءهم وشهواتهم. قال: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93] فهم لا يقولون هكذا: سمعنا، بل يقولون: سمعنا وعصوا، وهذا أمر مفروغ منه.

معنى قوله تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)

قال تعالى بعد ذلك: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] ومعنى أشربوا: تغلغل حب العجل في نفوسهم كما يشرب الثوب من الماء، ويدخل في كل جزئياته.وأي عجل هذا؟هذا العجل هو الذي صنعه الحداد أو الصائغ السامري .. هذا العجل الذي ادعى أنه هو الله .. هذا إله بني إسرائيل وموسى ضاع عنه وتاه وما عرفه، وهذا العجل قد عبدوه قرابة الشهر؛ لأن غيبة موسى كانت أربعين يوماً، فتمكن حب العجل من قلوبهم. فإن قال قائل: يا شيخ! هل هذا صحيح؟نقول: لا تسأل، نسأل الذين يشربون الشيشة والأفيون وو.. هل تمكن حبها من قلوبهم أو لا؟ ومن قال: لا، فليرم بالتجارة خارج المسجد.فهذه سنن الله في الخلق، والذي عرف أن هذا الأمر باطل ومنكر ثم يفعله ويستمر يفعله فسوف يأتي بطابع خاص به، ولا يتحول عنه أبداً.فتلك النظرة، وتلك الالتفافة، وذلك الاجتماع حول العجل وهم يصرخون، وينادون، ويرقصون، حتى قيل -وهو حق-: إن حفلات المتصوفة مأخوذة من الحفلات اليهودية، فتجد الرقص والرقص حتى تصعق المرأة، وهم يستغيثون بالأولياء، وفي الأخير يقولون: هذه عبادة، أي: مأخوذة عن بني إسرائيل، عبدة العجل .. وقد بقيت عند اليهود أيضاً.والشاهد في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] أي: عجل الذهب، ولهذا إلى الآن اليهود هم الشعب أو الأمة التي لا تعرف أبداً إلا الذهب، وهم الذين أسسوا البنوك.مع العلم أن الله عز وجل حرم عليهم الربا في التوراة بصراحة اللفظ ووضوحه، وندد القرآن بهم، واستحلوا الربا بعد علمهم بحرمته، ولكن قد يعذرون؛ لأنهم يريدون أن يحققوا أملهم في مملكة بني إسرائيل، فكيف الوصول إليها وهم شعب عدد سكانه خمس ملايين فقط، فلا يعادلون سكان القاهرة ولا باريس، فكيف يحكمون العالم؟!

وسائل اليهود في إخضاع العالم

إذاً لابد من استعمال وسائل من شأنها أن تخضع العالم لهم، فاستعملوا:أولاً: السحر، وكثيراً ما أقول بدون علم- أنا متوقع ولا تقولوا: الشيخ جازم-: أنهم يسحرون بعض الساسة والمسئولين في العالم الإسلامي؛ لأنهم متنكرون؛ فلديهم جوازات عديدة: فرنسي .. سويسري .. أمريكاني، ويجتمعون في اجتماعات الأمم المتحدة، وممكن يكلفون من يصب الشاي أو القهوة، ويجعل فيها مادة مسحرة، هذا ممكن، فهم أهل السحر، والسحر هو تحويل القلب من كرهه إلى حبه، فكما يكره الرجل امرأته، والمرأة تكره الرجل، فهم أيضاً سحروا الناس من الأوروبيين وغيرهم، وجعلوهم يحبونهم، وعلى الأقل لا يسبون، ولا يشتمون، ولا يتغيضون، ولا ولا ولا.. وهذا حاصل، ولا يبعد.ثانياً: استعملوا المال من الدينار والدرهم، فعرفوا أن العالم يخضع لسلطان المادة والمال، فابتكروا فكرة البنوك وأسسوها، ووضعوها، وهم قائمون عليها في الشرق والغرب، وضربوا العالم ضربة ليس لها نظير، فالربا إذا شاع وأصبح من مبادئنا ومن سياستنا السياسية والاجتماعية، فهو الذي يقضي على المحبة، والألفة، والأخوة، والولاء بين المسلمين.ولو فعلوا من السحر ما فعلوا فإنهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين المؤمنين كلهم، نعم قد يسحر شخص أو عشرة ألف، لكن الربا معناه: لا تبقى سلفة، ولا قرض، ولا مضاربة، ولا تعاون ولا ولا.. وكل ما نحتاج إليه هو البنك. فتلك الرابطة القوية التي تربط بين المواطنين في أي شبر من الأرض لما حل محلها البنك ما أصبح هناك من يسلف أحداً، ولا من يقرض أحداً، وحتى الذين يسلفونهم أو يقرضونهم لا يردّون، فهناك دعوة شيطانية: يأتيك ويقول: أقرضني. فتقرضه، ولا يرجع أبداً، وبذلك تمزقت أواصر الأخوة بين المسلمين. أرأيتم لو كان المسلمون على حقيقتهم فهذا المال الذي لا يودعونه في البنك ماذا سيصنعون به؟إذا جاءني إبراهيم أو سليمان أو عثمان وهو أخي المؤمن عبد الله الذي لا يفارق بيت الله وقال: أريد أن تقرضني كذا إلى سنة، والله ليفرحن المؤمن، فيحصل على أجر أعظم من أجر الصدقة، واستراح من ذلك المال الذي هو مودع في صندوقه، وانتفع به أخوه، وذلك الذي استقرض يعيش ليل نهار يحافظ على عهده وميثاقه، فما إن يحين وقت القضاء، وتدق الساعة إلا وهو يقرع الباب: هذا مالك يا أخي. فانظر إلى الصلة كيف قويت.كذلك لو رغبت في أن ينمو مالك، فيأتيك أخوك الحاذق، اللبيب، الفطن، الصابر، الصادق يقول: أريد أن أفتح متجراً فأعطني ما عندك، لا تبقه هكذا، ولك نصف الربح أو ثلثه. فيفرح المؤمن ويبتسم، ويقول: الحمد لله؛ لم يبقى هذا المال مدفوناً عندي أو مودعاً في البنك لا قدر الله؟! فيعطيه أخاه ويبارك الله فيه، وينفعه، وينفع نفسه.لكن هذه الحال الآن قد انتهت، فأصبح الذين لهم أموال يضعونها في البنوك، ولا يوجد قرض ولا سلفة، فهبطنا، حتى أن من أقرضته لله لا يرد أو يماطلك، وتقطعت صلات الأخوة الإسلامية بيننا، وكل ذلك بسبب بنوك الربا.ثم أنا أعجب من هذا الصوت! ففي كل البلاد الإسلامية لا يوجد واحد من الخطباء والمدرسين وغيرهم يقول: يا مسلمون! تعاملوا بالربا إن كنتم تريدون كسب المال وجمع الثروة، فوالله ما قال هذا أحد، لا في العجم، ولا في العرب ولا ولا .. فكيف وقعنا في هذا؟ من يعلل لنا هذه الظاهرة؟ولو كانت هناك فتاوى أذنت وأباحت فإنه قد يعذر الناس، فالله قال، وقالت العلماء، لكن ليس هناك.إذاً: كيف نعرف هذا ونعصي الله، ونفسق عن أمره، ونخرج عن طاعته ونتحداه، ونرابي مع المرابين؟!الجواب عندنا: لأننا أعرضنا عن الله فأعرض الله عنا، فعيشوا كما تريدون. وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] هذه الباء هي باء السببية؛ إذ لو كانوا مؤمنين موقنين ربانيين والله ما أحبوا العجل، ولا عبدوه.والآن نقول: الذين يعلمون ويرتمون في الربا ما سببه؟ والله إنه لكفرهم بشرائع الله وتعاليمه، فما عرفوا وما أيقنوا، وما كل من قال: أنا مؤمن فهو مؤمن، فالإيمان نور في القلب يولد طاقة تجعل المؤمن حياً، فيسمع ويبصر ويعطي ويمنع، فإذا اهتز ذاك الإيمان، وتحلل وتخلل، وأصبح ضعيفاً كالذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض فإنه لا ينتفع به.قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بسبب ماذا؟ بِكُفْرِهِمْ فالباء باء السببية فلما كفروا بنعم الله عليهم .. كفروا برسالاته ورسله .. كفروا بلقائه، وتنكروا له .. غطوا .. جحدوا .. فحصل هذا بكفرهم.

معنى قوله تعالى: (بئسما يأمركم به إيمانكم ...)

أخيراً يوجه الله تعالى لرسوله هذا الأمر فيقول لهم: قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ [البقرة:93] فإذا كان إيمانكم يأمركم بالربا، وقتل الأنبياء، وعبادة دون الله فبئس هذا الإيمان، فقبحه بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93] أي: كما تزعمون وتدعون.

تحذير المسلمين من مشابهة ومتابعة بني إسرائيل في مخالفاتهم الشرعية

ما أحوج المسلمين إلى هذه الآيات أن يجتمعوا عليها ويقرءوها ويتفهموها، فهذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإذا كان بنو عمنا قد تورطوا فهبطوا، ولعنوا، واحترقوا، والقرآن يذكر ما أنزل الله بهم؛ أليس معنى هذا: إياكم أن تسلكوا مسالكهم! إياكم أن تمشوا في طريقهم! إياكم أن تقفوا مواقفهم! فإنكم ستهلكون كما هلكوا.هذه ورقة أعطانيها مؤمن يتألم، وفيها أن هذا الكاتب في هذه الجريدة يقول: صوت المرأة عورة! خرافة شائعة. كم من مرة قلنا: إن صوت المرأة عورة آلاف المرات، فهل نكذب أن صوت المرأة عورة، وما معنى عورة؟ هل هو شيء يستحى من سماعه فينبغي أن يستر كما تستر العورات، والعورة ليس معناها السوءة.أيها العامي! كل ما يستحى من كشفه هو عورة تستر كعورة البيت، وهي النافذة، وهذا قال: صوت المرأة عورة خرافة!اسمعوا! روى الشيخان ومالك وأهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنابه شيء في صلاته فليسبح ) أي: يقول: سبحان الله، فإذا قرع عليك الباب أحد أو ناداك بأعلى صوته: يا فلان! وأنت في الصلاة فلا تقطع الصلاة، واحذر فإنك تتكلم مع الله فلا تعرض عنه وتقبل على هذا المخلوق، فهذه مصيبة لا حد لها، وقد أرشدنا العليم الحكيم صلى الله عليه وسلم أن نقول: سبحان الله، فيفهم طالبك ومناديك بأنك مشغول مع الله فيسكت وينتظر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء )، وفي لفظ: ( والتصفيح )، هكذا، ممكن هذا الصوت يطرب. اسمع! الصوت هكذا يطرب أو لا؟ هذا هو التصفيق، أما التصفيح فهو يضرب بظهر اليد فلا يطرب، والتصفيح للنساء.أيكم أيها الفحول واصدقوني: يرضى أن تتحدث امرأته مع أجنبي؟الجواب: والله لا نرضى أن يسمع صوتها أجنبي.فأين قولهم: من ادعى أن صوت المرأة عورة أنه يقول بالخرافة، وهذه جريدة إسلامية تكتب هذا العنوان، ولا ندخل معهم في كلام، فلقد هبطوا ونزلوا من علياء الكرامات إلى حضيض التراب، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21] فلهذا نتركهم لله.وصوت المرأة عورة عندنا.تقول الصديقة : الديوثة من النساء التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. وما زالت الطاهرات إلى الآن ما يرفعن أصواتهن إذا هناك ضيوف في البيت.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:29 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (69)
الحلقة (76)




تفسير سورة البقرة (39)

ادّعى اليهود أن الجنة خالصة لهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للمباهلة، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا؛ لأنهم يدركون فداحة سيئاتهم، وعظم جرائمهم، ولهذا يتمسكون بالحياة، ويعضون عليها بأسنانهم، ولا فرق عندهم بين حياة كريمة وأخرى دنيئة، المهم أن يبقوا على ظهر البسيطة، يتنفسون، ويأكلون، ويشربون، ولا يدركون هم وغيرهم من المشركين أنهم لو عمّروا ألف سنة فإن مصيرهم في نهاية المطاف إلى جهنم وبئس المصير.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:94-98] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس كنا مع ربنا تعالى وهو يقرّع اليهود ويؤنبهم، ويكشف الستار عنهم، ويضعهم أمام ما تأهلوا له من الخزي، والهون، والدون.ولا بأس أن يؤنب أو يقرع أو يؤدب من يطغى، ويتمرد، ويفسق، ويفجر، فهذه سنة الله في الناس، وقد قرّع اليهود وأنّبهم كما في الآيات.

مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود

ها نحن الآن مع قول ربنا جل وعز وهو يقول لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أي: لليهود الذين يجادلون ويعاندون، إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94] فاليهود قد ادعوا أن الآخرة لهم وقالوا: لسنا في حاجة إلى هذا الدين، وإلى هذا الرسول والكتاب، فنحن شعب خصنا الله عز وجل بنعيم الجنة والدار الآخرة، ولسنا في حاجة إلى أن نؤمن بك، ولا إلى أن نمشي وراءك، وإلى أن نأخذ بكتابك وما جئت به من الدين، لسنا في حاجة إلى هذا كله.أما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: مملوءة بالعلم والمعرفة فما نحن في حاجة إلى ما تدعونا إليه.أما ادعوا أنهم هم أهل الجنة، وأنهم إن دخلوا النار لا يبقون فيها أكثر من أربعين يوماً، وهي مدة عبادتهم للعجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. فأحبارهم يكذبون، ويلفقون الكذب، ويكتبونه، ويهمشونه على التوراة، والعوام يقلدون ويقولون: لن تمسنا النار أكثر من أربعين يوماً، ولهذا إن فجرنا .. إن رابينا .. إن قتلنا الأنبياء .. إن عذبنا العلماء كل هذا مغفور لنا، وقد نؤاخذ به مدة محدودة أربعين يوماً ثم نعود إلى الجنة. والرب تبارك وتعالى يقول لرسوله قل لهم: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] والدار الآخرة هي نعيم الدار الآخرة في دار السلام، فالمعنى: إن كانت لكم الدار الآخرة -لا لغيركم- خالصة من دون الناس؛ أبيضهم وأسودهم .. أولهم وآخرهم فهيا تمنوا الموت، وهذا يسمى بالمباهلة، فتعالوا واسألوا الله تعالى أمامنا الموت: اللهم أمتنا -يا ربنا- لندخل الجنة؛ دار السلام. فاسألوها صادقين من قلوبكم لتوافق ألسنتكم، وانظروا فإنكم تموتون.فوالله ما استطاعوا، وعجزوا، وخافوا، ولو وقفوا في صف واحد وقالوا أمام رسول الله: اللهم إنا نسألك أن تتوفانا الآن لنستريح من أعباء الدنيا وتكاليفها، ومحنها، ولندخل الجنة دار السلام، لو قالوها لما بقيت فيهم عين تطرف.

مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران

حدث للنصارى مباهلة -أيضاً- في مسجدنا هذا؛ ليتقرر عندنا أن اليهودية بدعة من البدع، ما جاء بها كتاب ولا بعث بها رسول، وأن النصرانية -والله- ما هي إلا بدعة مبتدعة، ما جاء بها عيسى ولا غيره.والنصارى كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة؛ في نجران، فسمعوا بالدعوة الإسلامية، فجاء وفد منهم مؤلف من ستين فارساً، جلّهم علماء، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوزعهم على المؤمنين، ودعاهم للمباهلة، فقالوا: باسم الله، فمن كان منا على الحق لا يموت، ومن كان منا على الباطل يهلك.وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـفاطمة والحسنين إلى المسجد، فما إن شاهد النصارى تلك الزمرة النورانية حتى انهاروا وقالوا: لا نباهل، وقال قائلهم: والله لو باهلتم هؤلاء ما بقيت فيكم عين تطرف.فذلوا، وخضعوا، وضرب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، وعادوا إلى ديارهم، وقد جاء هذا من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:59-61]. فخافوا كما خاف الآن اليهود، وما استطاعوا المباهلة.
دعاء اليهود على أنفسهم بالموت

الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ أي: الجنة خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة:94] فالآن موتوا لكي تستريحوا، فلم الحصاد والزرع، والتجارة، والآلام، والأمراض، والأوجاع وأنتم أهل الجنة، فمن الآن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].
تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ...)

اليهود بين تمني الموت وما قدمته أيديهم

سبق الله تعالى اليهود إلى ما في صدورهم .. إلى ما يريدونه فقال لرسوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] بـ(لن) الزمخشرية إن شئتم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لم؟ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فما من جريمة إلا اقترفوها، وحسبهم من ذلك قتلهم الأنبياء والعلماء .. استباحتهم الربا والمحرمات، فالخبث بكامله قد انغمسوا فيه، ومع ذلك يتمنون الدار الآخرة، فهم مؤمنون بها، فكيف يتمنون الموت، أليلقوا في أتون الجحيم؟!فأخبر تعالى بما يعلمه من قلوبهم، ومن طبائعهم، وما فطروا عليه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] أي: لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وهم ظالمون، فسجل عليهم الظلم، ووالله إنهم لظالمون.والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالله أرسل الرسل وأمر بحبهم، وتبجيلهم، وتعظيمهم، واتباعهم، والانقياد لهم، وهم ذبحوهم .. كذبوهم .. قتلوهم .. مكروا بهم، وهذا ظلم.والله تعالى أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ففسقوا عن طاعته وعن طاعة رسله، وأي ظلم أفظع من هذا؟!وهم ظالمون والله عليم بهم، فلهذا لا يستطيعون أبداً أن يتمنوا الموت وأن يقولوا: اللهم توفنا الآن، فإنا أولياؤك وعبيدك، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم أولياء الله، والبشرية كلها نجس، وهم أقرب الناس إلى الله، فلهذا ترفعوا وسادوا وارتفعوا ولم يرضوا لأحد أن يدخل في دينهم.لكن الله أبطل فريتهم .. أبطل دعواهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] أي: إلى يوم القيامة، فما جاء يوم من الأيام وتمنوا الموت، فما هناك من هو أجبن من اليهودي، لا يقوى على الموت أبداً؛ لما يعرف من مصيره المظلم؛ ولما يعرف أين ينزل بعد موته في الدركات السفلى من عذاب الله.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] بسبب: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95].

لا تمايز بين الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح

نحن أيها المستمعون والمستمعات ماذا قدمت أيدينا؟ أو نقول هذا في بني إسرائيل فقط!وكذلك نحن إذا قدمنا الخير نثاب عليه، وإذا قدمنا الشر نجزى به، وليس عندنا امتيازات خاصة أو وعود من الله عز وجل أو صكوك أننا إذا فسقنا .. فجرنا .. كذبنا .. ترابينا .. سببنا .. شتمنا فلا نؤاخذ، ليس هناك من ذلك شيء.وقد قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، فمن زرع الآن البرتقال، والرطب، والعنب فسوف يحصد ذلك يوم القيامة، ومن زرع الشوك، والسدر، والحنظل وما إلى ذلك فسوف يجني ما زرع، فمن زرع اليوم الإيمان وصالح الأعمال سوف يحصد رضوان الرحمن، وسكنى الجنان. ومن زرع الكذب، والخيانة، والكبر، والحسد، والتعالي، والظلم، والشر، والفساد والله لن يحصد إلا مثيله، ولسنا بأشرف من اليهود أبداً.والحقيقة أن نسبتنا إلى الله واحدة فنحن عبيد إلى سيد، فكونه بيَّضك وسوَّدني .. قصَّرك وطوَّلني .. أغناك وأفقرني هذا لا قيمة له، فهو ابتلاء فقط في العمل، أما نسبتنا فهي أننا عبيد لله، فمن أطاعوا سيدهم، وخنعوا، وخضعوا له، وذلوا، واستكانوا رفعهم، ومن تكبروا عنه، وتعالوا، وحاربوه أذلهم وأهانهم. ولا فرق بين أحد وأحد إلا بتقوى الله عز وجل، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قرر هذه الحقيقة وعلمناها فقال: ( لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:29 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
النفس البشرية بين التزكية والتدسية

قد قررنا وعرفنا -أيها السامعون- حكم الله في البشرية، واسمعوا الله تعالى يحلف لكم لتطمئن نفوسكم، وتسكن قلوبكم إلى صدق هذا الخبر، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]. فإن قال قائل: لم تحلف يا ربنا؟ فالجواب: لتعرفوا حكمنا في البشرية، فتسلكوا سبل النجاة، وتبتعدوا عن طرق الهلاك والخسران، فمن أجلكم حلف الرب تعالى.لكن ما هذا الحكم الذي حلف من أجله؟اسمع واحفظ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] واطوِ الصحيفة.فقوله: (قد أفلح) هل الرئيس .. الشريف .. الغني؟! الجواب: ( من زكاها) أي: زكى نفسه، ومعنى (زكاها): طيبها وطهرها بأدوات التزكية والتطهير التي وضعها الله لذلك، والفلاح هو الفوز، يقال: فلان فاز أي: نجح في الصفقة التجارية الفلانية .. نجح في الامتحان، ومعناه هنا: أُبعد عن النار، وأُدخل الجنة؛ دار الأبرار.والله سبحانه وتعالى هو الذي بين لنا هذا الفوز، وقد قال من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] هل هناك: إلا نفس فلان وفلان أو إلا أنفس بني فلان؟ لا يوجد، وهذا الحكم لم يتخلف، ولذلك الحكم الثاني أيضاً -والله- لا يتخلف قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. فوجب على كل مؤمن ومؤمنة .. عرب وعجم أن يحفظوا هذا الحكم الإلهي.إذاً صدر الحكم على البشرية ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهنا يتم تقرير المصير وليس في يوم القيامة، وكل عاقل مكلف بلغ سن الرشد هو الذي يقرر مصيره بيده، قال الحاكم العدل رب العالمين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] فأسند الفلاح والتزكية له، أي: أفلح من زكى نفسه وخاب من دسى نفسه؛ لأن النفس الزكية، الطاهرة، النقية هي التي يقبلها الله في جواره، وهي التي يرضى بأن تسكن في دار السلام.أما النفس الخبيثة المنتنة العفنة فلا يرضاها الله أبداً، ولا يتلاءم معها الطهر والكمال في دار السلام، إنما يتلاءم معها حفر الجحيم، ولظاها، ولهبها، ودخانها.وهنا مثل عامي: فلو يدخل الآن علينا رجل قد تلطخت ثيابه بالبول، والخر، والأوساخ، والدموع، والدماء فهل تفسحون له ليجلس معكم؟ أكثركم سيقول له: اذهب .. اخرج .. خذوه .. طهروه، هذا لا يدخل هنا! وهذا المعنى واضح.كذلك الذي يأتي بنفس عفنة، منتنة، كيف يدخل الجنة؟! وقد قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].فإن قال قائل: لم الأبرار في النعيم، والفجار في الجحيم؟فالجواب: الأبرار لبرورهم، والفجار لفجورهم، فالأبرار المطيعون الذين زكوا أنفسهم وطهروها مآلهم إلى الجنة، والفجار الذين فجروا عن تعاليم الله، وفسقوا، ولطخوا أرواحهم، وخبثوها، هؤلاء يتلاءم معهم أتون الجحيم.اسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نادى بني هاشم رجع إلى ابنته وقال: ( يا فاطمة ) فيناديها باسمها العلم وهي تسمع ( إني لا أملك لك من الله شيئاً فأنقذي نفسك من النار )، أي: آمني واعملي الصالحات.إذاً: هذه الآيات كلها هي فينا، وهي كذلك في اليهود، فإنهم لما ادعوا أن الجنة لهم قال تعالى لهم: هيا اطلبوا الموت حتى تدخلوا، لكنهم -والله- لا يطلبونه.ولو نطالب به نحن فإن الصالحين الطاهرين يفرحون بدار السلام، ولو ندعى إلى الجهاد لتسابق المؤمنون إلى دار السلام.

سوء ما قدمه اليهود من أعمال

نعود إلى السياق الكريم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] أي: الموت، أبداً لم؟ بما والباء سببية، أي: بسبب ما قدمته أيديهم من ذبح الأنبياء والعلماء، وأكل الربا، وإباحة الزنا، والخيانة والغش، والخداع، وكل أنواع الجرائم التي انغمسوا فيها، وما زالوا فيها إلى الآن.

سعة علم الله بأحوال عباده

قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فيجزيهم بحسب ظلمهم يهوداً كانوا أو غير يهود .. عرباً أو عجماً .. في الأولين أو الآخرين.وهل هناك ظالمون لا يعلم الله بهم؟!يقول قائل: بعض الظالمين عندهم حيل وستائر عجيبة لا يطلع الله عليها.تقول له: يا هذا! الله تعالى يقول: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].ومن ذلك على سبيل المثال أن تظهر فتاة من على السطح، أو ينكشف الستار عنها وهي على الجمل فتجد من الناس من يتكلم معك وهو يخون ويسترق النظر.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! هل هذا معناه أنه لا يجوز لنا أن ننظر إلى النساء؟! وقد قالت إحدى الصحف: القول بأن صوت المرأة عورة خرافة، فدعوها تغني.أقول: نحن نمشي مع بني إسرائيل خطوة خطوة إلا من سلم الله عز وجل، فالذين يقولون: صوت المرأة ليس عورة، أما يعلمون أن الله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19] فالعين تخون، وخيانة العين تكون بالنظر إلى شيء حرمه الله، ولقد كتب الله تعالى صالحات الصالحين وسيئات المسيئين في كتاب المقادير قبل أن يخلقهم، فكيف هذا يسأل: كيف أن الله يعرف أو لا يعرف؟!
تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ...)

حرص اليهود والمشركين على أي حياة

قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي يجابه هؤلاء الطغاة من اليهود قال له: وَلَتَجِدَنَّهُمْ وهذه اللام موطئه للقسم المقدر: وعزتنا، وجلالنا يا رسولنا لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]. وإخواننا الفلسطينيون هم الذين يعرفون أن اليهودي أجبن وأذل ما يكون. لم؟ لأنهم خائفين من الموت؛ لأن وراء الموت جحيماً، وسموماً، وعذاباً أليماً، وهم موقنون أشد اليقين بأن جزاءً لابد منه للكسب الدنيوي، فلما تلطخوا بكل أنواع الجرائم لا يتمنون الموت، ولا يرضى أحدهم أن يموت.أما أهل دار السلام فوالله إنهم يطربون، وقد كان أحدهم يرقص فرحاً بالموت كما في بدر وأحد.إذاً: كل من كان ملطخاً بالذنوب والآثام فإنه لا يفرح بالموت، ولا يطرب له فضلاً عن أن يتمناه، وكل من زكت نفسه، وطابت، وطهرت فهو يفرح بالموت، ولو رأى رؤيا تبشره بالموت لفرح، فالجنة خير، فالدنيا فيها مشاق وآلام، وأتعاب، وأمراض، وسقم، وفي الجنة نعيم مقيم، يأكلون ويشربون تفكهاً فقط، لا يمرضون، ولا ينامون .. ولا يكبرون، ولا يهرمون، ولا ولا .. أما طعامهم وشرابهم فيتحول إلى عرق وجشاء رائحته أطيب من ريح المسك، قد خلقهم الله على هيئة لا تقبل الفناء أبداً، فكيف لا يفرح العاملون الصالحون بالجنة والموت.قال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] هل قال: (على حياة) أو (على الحياة)؟ قال: (على حياة) أي: ولو كانت أخس حياة وأرخصها، فهي نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فهم أحرص الناس على أوسخ حياة، وأقلّها، وأدناها، فليست حياة العز والكمال والسعادة، وهذه لا يلامون عليها، فأرخص حياة يقبلونها: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].وهناك نوع آخر من البشر يحبون الدنيا، والحياة، والخلود قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] فمن المشركين والمجوس والنصارى و.. من يود أن يعيش ألف سنة، وممكن أن يوجد حتى بين المسلمين الضائعين من يود أن يعيش ثمانين عاماً .. مائة عام.قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] فما قال: وكل المشركين، فهذا العليم العظيم يعرف النفسيات والطباع، فيوجد من المشركين من يود أن يعيش ألف سنة، أما اليهود فلا يريدون الموت أبداً، لا يتمنونه، ولا يريدونه بحال من الأحوال؛ لعلمهم بالمصير المظلم الذي سيصيرون إليه بعد أخذ أرواحهم؛ لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء والدار الآخرة.أما المشركون فمنهم من لا يؤمن بلقاء الله بالمرة، فلهذا يكره الموت ويريد أن يعيش ألف سنة.قال تعالى: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] لو يعمر الإنسان مليون سنة ممكن لا يعذب لهذا العمر؟ فلا ينفع، فمن الآن أحسن، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ والزحزحة هي الإبعاد.قال: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ فلو عمر أحدهم ألف سنة، فهل هذا التعمير، وهذا الطول في العمر يبعده عن النار؟ لا يبعد عن النار، طال العمر أو قصر، إنما يبعده عنها زكاة النفس وطهارتها فقط.

وسائل تزكية النفس

إن قال قائل: يا شيخ! أنت تقول: زكاة النفس، فدلنا يرحمك الله على أدوات التزكية أين توجد وأين تباع وفي أي صيدلية؟ وهذا السؤال ضروري للعقلاء الذين ما علموا: ما دامت القضية منوطة بتزكية أنفسنا فمن فضلك دلنا على هذه الأدوات والعقاقير التي نزكي بها أنفسنا، أو ليس هناك عقاقير ولا أدوية؟الجواب: والله توجد، والصيدلية هي صيدلية الله ورسوله، وقال الله، قال رسوله؛ الكتاب والسنة، فإنك تجد فيهما كل أدوات التزكية من كلمة: لا إله إلا الله إلى إماطة وإزالة الأذى من طريق المؤمنين والمؤمنات.فكل عبادة من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح هي عبارة عن أداة تزكية للنفس البشرية وتطهيرها، ولا بد من استعمالها حسب الشروط التي وضعت لها؛ إذ لابد من مراعاة الكيفية فلا تقدم ولا تؤخر، ومراعاة الزمن فلا توقعها في غير زمانها، ومراعاة العدد، فلا تزيد ولا تنقص وإلا ما تنتج.وأعظم أداة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها ذكر الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وذكر الله شرطه أن تكون في مكان طاهر، وأن يتحد قلبك ولسانك معاً، فعندما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم فلابد أن يكون قلبك مع لسانك، فإن قلت بلسانك وقلبك غافل فإن ذلك لا ينتج، ولا يولد الطاقة، وإن ذكرت فقط بالقلب واللسان فذلك لا ينفع، ولا ينتج.إذاً لابد من توافق القلب واللسان، ومن هنا كانت الصلاة أعظم مولد للنور أو للطاقة النورانية، فلا توجد عبادة أكثر توليداً للحسنات وللطاقة النورانية من الصلاة أبداً، وبعض السامعين لا يعرفون كيف تولد الصلاة النور؟ كالماكينة الصغيرة التي تولد الكهرباء وتدور الآلات، فإذا خربت لا تولد.فالصلاة أعظم مولد للطاقة النورانية، واقرءوا إن شئتم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: في توليد هذه الطاقة، إلا أن الصلاة لا تنتج نتاجها، وتؤدي ثمارها إلا إذا استوفت شروطها.وقد بينا سابقاً أن للصلاة شروطاً لابد من استيفائها، ومن ذلك الطهارة، والتي تشمل: طهارة المكان، وطهارة البدن، وطهارة الثياب، فأنت في الصلاة كيف تقف أمام الله، وتتكلم معه، وأنت نجس؟ هذا لا يجوز، وكيف تقف في مكان نجس وتناجي الله في الصلاة، فهذا لا يصح، وكيف تقف في الصلاة وجسمك ملطخ بالقذى والأذى، وتتكلم مع الله، هذا حرام -يا عبد الله- وعليك أن تتطهر.والصلاة إذا كان لها وقت معين كصلاة العشاء بقي عليها ثلثها فلو قلتم: هيا نصلِّها الآن، فهذه الصلاة لا تولد لك النور، ووالله لا تولد حسنة، فهي كالعملية الفاشلة؛ لأنه يشترط لها وقت تقع فيه، وإلا ما أنتجت. والوقت ضروري لأية عبادة مربوطة بوقتها، ومن ذلك أيضاً: ( الحج عرفة ) الذي هو تاسع شهر ذي الحجة، فلو اتفقت الأمة بملوكها ورؤسائها أن الحج هذا العام يقع في المدينة، وعلى جبل أحد الذي هو أشرف من عرفات، فوقف الحجاج على جبل أحد لقلنا لهم: حجكم غير صحيح، ولا يصح هذا الحج.وكذلك لو قالوا: هذا العام الحر شديد، فدعنا نعمل الحج هذا العام في الشتاء، ووقفوا فعلاً في الشتاء فهل يقال: حجوا؟ كلاء والله ما حجوا.وهكذا كل عبادة وضعت لتزكية النفس وتطهيرها بما تولده من الحسنات لابد وأن يراعى فيها أن يكون الله قد شرعها لذلك، ولهذا لو أن مليون بدعة أنفقت فيها مالك كله، وتبدد طاقاتك وجهدك كله، فهذه والله لا تولد جرام حسنة؛ لأن البدعة ما شرعها الله، والذي لم يشرعه الله من يوجد فيه المادة النورانية؟ من يقوى؟ وهذا والله ليس بممكن.وهل يستطيع أحدنا أن يوجد مادة الغذاء في الرمل .. في الحصى .. في الطين .. في التراب؟ لا يستطيع؛ لأن الله ما أودعها هناك، إنما أودعها في البطيخ، والعنب، واللحم، والخبز.وهل يستطيع البشر -لو اجتمعوا كلهم- أن يوجدوا عبادة ولو بالقول على أن من عملها تزكو نفسه عليها وتطيب وتطهر؟ الجواب: لن يستطيعوا، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فهذا الأمر لله وحده.ولهذا الصلاة لو توقعها في غير وقتها فإن الفقيه يقول: بطلت، ونحن نقول: ما أنتجت. فالصلاة عندما تنقص شروطها أو تقدم أو تؤخر فيها يقول الفقيه: صلاتك باطلة يا ولد. ولو تصلي أمام فقيه، ولا تطمئن في الركوع، ولا السجود يقول الفقيه: صلاتك باطلة. ونحن لا نقول: باطلة، إنما نقول: لا تزكي نفسك، ولا تولد لك النور الذي هو الحسنات، فأعد صلاتك.وهكذا كل العبادات.

أهمية الإيمان والعمل الصالح

نعود إلى السياق الكريم قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: تعميره الألف سنة والمليون لا يزحزحه من عذاب الله.وما الذي يزحزح عن العذاب؟الجواب: الإيمان وصالح الأعمال؛ لأن الإيمان يدفع إلى اكتساب الحسنات، والحسنات هي التي تزكي النفس وتطهرها. واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البروج:11]، فتجد الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يقوي نفسك وقدرتك على أن تصلي وتصوم وتجاهد وتتصدق، وتلك الأعمال الصالحة هي أدوات التزكية .. هي التي تنظف القلب البشري وتطهره. والسيئات هي التي تصيب القلب بالظلمة، والنتن، والعفونة.واسمع رسول الله يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) أي: اقترف خطيئة سيئة، وسمي الذنب ذنباً لأنه يؤخذ به الإنسان كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ونحن نؤاخذ بذنوبنا، والحيوانات تؤخذ بذيولها وأذنابها.قال: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه )، كهذه، ( فإذا تاب ونزع صقل ذلك المكان وطهر ) كالزجاجة المشرقة إذا وقع فيها شيء ما لطخها، ومن الممكن أن تمسحها ويزول على الفور، ويبقى النور والإضاءة، وكذلك قلب الإنسان أو نفسه.قال: ( وإذا لم يتب وأذنب ذنباً آخر وقع إلى جنب النكتة الأولى )، وهكذا تتزايد الذنوب حتى تتسع الرقعة، فالذنب إلى الذنب إلى الذنب بلا توبة، ولا مسح ولا صقل حتى يلطخ القلب كله، ويحجب عن الإيمان، وعن عمل الصالحات.قال صلى الله عليه وسلم: ( فذلكم الران الذي قال الله فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ولهذا من لطف الله بأوليائه ورحمته بعباده المؤمنين أنه شرع لهم التوبة الفورية، فإذا شعرت بالذنب فعلى الفور قل: أستغفر الله وأتوب إليه. وابتعد عن الخطيئة ينمحي ذلك الأثر، وقل: آمنت بالله.فإن أنت أصررت وما باليت، وواصلت الذنب إلى الذنب، فسيأتي يوم لو تعرض عليك التوبة -والله- ما تقبلها، بل لو قيل لك: استغفر الله. تهزأ وتسخر. أما سمعنا الله تعالى يقول من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. قال: (من قريب) لأنه إذا واصل في الذنب فإنه سينطبع في نفسه طابع، ويصبح لا يرضى إلا ذلك الذنب. واسألوا الذين تعودوا الأفيون والكوكاين تجدوهم يقولون إنهم الآن يستعملون الإبر، ولا ينفع أن يأخذ بدلها حبة.وكذلك هو حال الذي قد تعود اللواط .. السرقة .. الخيانة، فهذا شأنه.قال بعض علماء النفس: الذي تعود السرقة وتمرن عليها، لما يلقى عليه القبض، وتوضع الحديدة في يده ويمشي، فتعرفه بأنه سارق، وأنت في ذلك الوقت تخاف وترتعد وتقول: يا ويله. لكن السارق في ذلك الوقت يفكر كيف يسرق مرة ثانية! وكذلك عندما يصل إلى السجن تجده يفكر كيف يسرق إذا فكوه بعد عام أو عامين؟ فانظر بماذا يفكر هو، وبماذا تفكر أنت، فتجد العكس.والله سبحانه وتعالى خالق الأنفس، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز هو الذي يقول: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].وإذا واصل الجريمة فقد يحال بينه وبين التوبة قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الآن! لا، قد فات الوقت .. فات الأوان يا بني: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإذا حشرجت في الصدر، وقال الطبيب: ودعوا أخاكم، فلو استغفر وتشهد، فوالله لا ينفع، فقد انتهى أمره.وهذا من باب الرحمة المحمدية، يقول: ( إن الله يقبل توبة العبد .. )، والله لحق، لكن لا يستطيع أن يتوب عبد غرق في بحور الآثام والذنوب، فسفك الدماء، ومزق الأعراض، ودلوني على واحد تاب من هذا النوع، فما عنده قابلية التوبة، لكن إن تاب هل يرده الله؟ لا والله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإن حشرجت في الصدر، وعرف المودعون والزوار فحينئذٍ لا عودة، قد انتهى أمره.وهكذا يقول تعالى وقوله الحق: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: التعمير: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فالله أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وصل اللهم على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:31 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (70)
الحلقة (77)




تفسير سورة البقرة (4)

أخبر سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي وموالاة الكافرين كان جوابهم بأنهم هم المصلحون لا غيرهم، وأن صلاحهم ظاهر للعيان، فلا يمكن إنكاره، فإذا قال لهم المؤمنون: آمنوا كما آمن الناس، أجابوا بأن من آمن هم سفهاء العقول، الذين لا رشد لديهم ولا بصيرة، فرد الله عليهم دعواهم بأنهم هم أهل السفه والجهل، ونفاه عن المؤمنين.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السياق الكريم ما زال في كشف عورات المنافقين، وإظهار ما هم عليه من الخبث والنفاق.وقبل ذلك نشير إلى ما سبق من أن الناس ثلاثة أصناف: مؤمنون أتقياء، كافرون مشركون، منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

طائفة المؤمنين المتقين

الطائفة الناجية الكاملة السعيدة هي طائفة المؤمنين المتقين، الذين قال تعالى فيهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]، أي: الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.إيمان، وتقوى، وإنفاق في سبيل الله عز وجل، وإيمان بكل ما أمر الله بالإيمان به من الكتب والرسل، والدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجزاء، فالمتصفون بهذه الصفات هم المفلحون، وهم الذين يجدون في القرآن الكريم الهداية، ويهتدون بها وينتفعون.

صنف الكفار

الفريق الثاني: الكفار، أي: الجاحدون لله تعالى في وحدانيته، في إلوهيته، في أسمائه، في صفاته، في عباداته، وكل كافر مشرك، وكل كافر ظالم.وخلاصة القول: أن من لم يؤمن بالله ولقائه وما أمر الله تعالى بالإيمان به من شأن الغيب، فهذا هو الكافر، بمعنى الجاحد المكذب، وقد يكون كافراً كفر عناد، والعياذ بالله.وهذا الصنف من الكفار قد علم الله أن منهم من يموت على كفره، فيصر على الجحود والمكابرة والتكذيب، حتى يموت على كفره فيخلد في عذاب النار.والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول له ربه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، علمنا: أنه ليس من حق أحد أن يقول: إذاً من ينذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم ينذر الذين كفروا فمن ينذر؟ وعلمنا أن الله عز وجل أخبره بأن بين الكافرين أفراداً ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعميت أبصارهم، فلا يدخلون في رحمة الله.إذاً: واصل دعوتك وإنذارك للناس، وإن أصر أناس على الكفر فلا تحزن؛ لأن منهم من كتب الله أزلاً شقوتهم وشقاءهم على بعض.ولا يقولن قائل: إذاً: لِم الإنذار والتخويف والترغيب والترهيب ما دام قد حكم الله بشقائهم وموتهم على الكفر؟نقول: لا تقل هذا، فلم يقل الله تعالى: إن أبا لهب ، إن عمرو بن فلان .. إن فلاناً، لو أنزل تعالى فيهم قرآناً بأسمائهم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعب، ولا يشقى ولا يأتيهم إلى أبوابهم، ولا يطالبهم، لكن الله عز وجل أمره بأن ينذر ويبلغ ويدعو، فلما رأى أناساً مصرين معاندين مكابرين هون عليه تعالى ذلك، وقال: لا تحزن ولا تأسف عليهم، فقد كتب الله شقوتهم أزلاً.ثم ذكرنا -ولا ننسى- أنهم ما ولدوا كفاراً معاندين، وإنما ولدوا على الفطرة، ثم أخذت الشياطين تزين لهم الباطل وتحسنه لهم، فكفروا وأشركوا، ثم تعمدوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام، وأخذوا يتوغلون في الفتنة، ويسعون فيها ليل نهار، يستهزئون، ويسخرون، ويكذبون، ويعاندون، فما زالوا كذلك والنور ينطمس، والفطرة تفسد شيئاً فشيئاً، حتى ختم الله على قلوبهم، فما أصبح يجد الإيمان منفذاً إلى قلوبهم، فقد ختم عليها بالكامل، وعلى سمعهم ما يسمعون، أي: ما أصبحوا يرتاحون لسماع الحق، فيسمع كل شيء إلا إذا ذكرت لا إله إلا الله أو محمد رسول الله أو الإسلام فلا يسمع.وقد جاء من سورة هود قول الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]. وأيام الطفولة والصبا والطلب، كنا نعجب كيف ما يستطيعون السماع؟! كيف له أذن يسمع وما يقدر وما يستطيع؟ً وما وجدنا من نسأل، فبقي في أذهاننا العجب: كيف لا يستطيعون السماع؟ وتمضي الأيام، وبلغنا أشدنا وعاصرنا الأحداث والمشكلات، فتحقق ذلك، فأصبحنا لا نقدر على سماع هذا الكلام، والله ما أستطيعه.وشاء الله أن أسافر من المدينة إلى الديار المغربية بطريق البر، فركبنا السيارة من القاهرة إلى تونس، وفي طريقنا ليلاً في الأراضي الليبية سمعنا إذاعة صوت العرب، وفيها أكاذيب وأباطيل وحقائق، فسمعت لأول مرة أن الملك سعود -تغمده الله برحمته- مر بموكب من مواكبه وإذا ببدوية على حمارة فأمرهم فاختطفوها له! والله لا إله إلا الله، كيف يقال هذا الكلام! كيف يسمع؟ لصالح من هذا الكلام؟! فمن ثم ما أصبحت والله العظيم أطيق سماع صوت العرب.وأنتم تعرفون إذا أبغضتَ إنساناً أو إنسانة -كما يقولون- ما ترتاح لكلامهم، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] لِم؟ ما يقدرون أن يسمعوا الكلام الحق.إذاً: له سمع وما يستطيع، له بصر وعليه غشاوة وبياض فما يبصر، ما سبب هذا؟ المشي خطوة خطوة في الضلال، وفي الخبث، وفي الشر، وفي الفساد، حتى يأتي الطبع والختم، وحينئذٍ يصبح لا يعقل، ولا يفهم، ولا يفكر.فما هي -إذاً- زبدة هذا؟ أن نتحاشى الإسرار والاستمرار في الباطل، فإنه يقودك إلى أن تصبح تنكر الحق، وهذه هي الثمرة التي يجنيها أهل القرآن، فمن أذنب ذنباً ووقع فيه فليعجل بالتوبة إلى الله، حتى يمحى ذلك الأثر ويزول، أما الاستدامة والاستمرار فيؤدي به إلى أن يفقد حاسة السمع والبصر والعقل، والآيات تكشف هذه الحقيقة.

صنف المنافقين

الصنف الثالث: المنافقون. من هم المنافقون؟قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، يعلنون عن إيمانهم: آمنت بالله وبلقائه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ومع ذلك الله يحكم بعدم إيمانهم؛ لأنه خالق طباعهم وغارز غرائزهم، فهو الذي يقلب القلوب، فعلم أنهم ما هم بمؤمنين، يقولون: مؤمنون، مسلمون، آمنا، في المجامع والمحافل وبين الناس. وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. أي: ما اعتقدوا عقيدة الحق، أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن هذا الكلام كلام الله، وأن لقاء الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، فما اعتقدوا وما صدقوا، ما استساغوا أبداً العقيدة الصحيحة، واضطرتهم الظروف التي يعيشون فيها، حيث ظهر الإسلام وعلا، وأصبح له دولة في المدينة، وهم منافقون من المشركين ومن اليهود، ومنافقو اليهود أكثر.إذاً: فها هو تعالى يكشف الستار عنهم من أجل علاجهم، وهل نفعهم هذا؟ إي نفعهم، فما مات الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي عشر سنوات فقط- وما بقي منافق في المدينة، وما سبب ذهابهم؟ عدد قليل منهم مات، وأكثرهم عرفوا الحق واتبعوه بواسطة هذه الدعوة الربانية، وهذه الآيات القرآنية.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس، ما يسميهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، إذاً: لِم يقولون هذا؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، يظهرون الإيمان باللسان وبالأركان، أما العقد والجنان فهو فارغ، ففيه الكفر، ما آمنوا أبداً بلقاء الله، ولا أن هذا رسول الله، ولا أن هذا كلام الله.إذاً: يخادعون الله، فيظهرون له وللمؤمنين أنهم مؤمنون، وهو يخادعهم، فهو ما أنزل قرآناً فيه: إن فلاناً وفلاناً منافقون كافرون، بل ستر عليهم وما فضحهم حتى يمضي أمر الله وحكمه فيهم.قال تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، فلو كانوا يحسون أو يعقلون أو يفهمون ما يرضون بالنفاق، فإما أن يصرحوا بكفرهم ويلتحقوا بالكافرين، أو يقاتلوا وإن تحطموا وخسروا، أو يؤمنوا ويسلموا، لكنهم فقدوا الشعور الحي الحق النافع، والإحساس الحقيقي ما عندهم، وسببه ظلمة الجهل وأنهم جهال، وأكثرهم مقلدون أتباع لرؤساء الفتنة من شياطين المنافقين من العرب واليهود في المدينة.وزادهم بياناً فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. مرض الشك والشرك والنفاق والحسد والكبر، وتلك العلل والأسقام إذا تجمعت في القلب حالت بين العبد وبين الاستقامة على منهج الله.إذاً: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] هذه الجملة ليست دعائية، بل هي الواقع، لماذا؟ المرض إذا لم يعالج ويترك وتزيد أسبابه وعوامله يزيد ويزيد حتى يهلك صاحبه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] حسب سنته؛ في أن من يصاب بمرض في جسمه وقلبه إذا لم يعالج فيبرأ ويشفى، واستمر على استعمال عوامل المرض وأسبابه ينمو ويزداد المرض، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا حسب سنته، أكل ملعقة ثم مات، فإذا زاد ملعقة أخرى وثالثة ورابعة هلك.وتوعدهم الله علهم يرجعون إلى الحق ويئوبون إلى الصواب، فأخبر وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]، أي: موجع يذهب بعذوبة حياتهم، لم يستعذبوا طعاماً، ولا شراباً، ولا مناماً، ولا نكاحاً، ولا راحة أبداً، فهو عذاب من شأنه أن يذهب تلك العذوبة، ولهذا يسمى العذاب الأليم الموجع، الذي يحمل الألم الشديد، وعلل تعالى ذلك؛ لأنه يريد هدايتهم، فقال: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، أي: بسبب كذبهم على الله وعلى المؤمنين وعلى رسول الله، والمنافق إذا حدث كذب، وذلك الكذب كان حائلاً بينه وبين قبول دعوة الحق والاندماج في جماعة المسلمين، فهم يصرفون أنفسهم عما طلب منهم من الهدى بالكذب، فكانت النتيجة هذا الوعيد الشديد، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بتكذيبهم، قرئ: (يُكذِّبون) و(يَكذِبون).
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، من القائل لهم؟ الله. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، ننظر أن هناك رؤساء النفاق يوجدون في حي بني فلان في بني فلان، هؤلاء لهم صلات بالمشركين في مكة وفي غيرها، ويعملون على تأليبهم على رسول الله والمسلمين.أو شخص مؤمن صادق الإيمان وأخوه، أو أبوه، أو عمه، أو جاره، يشاهد فيه مظاهر الاستهزاء والتلاعب وعدم الإيمان، فينصح له: يا فلان! لا تفسد في الأرض، فهذه الأرض أرض الطهر، كيف توالي الكافرين؟! كيف تخلو بهم وتتحدث معهم؟! كيف توءاكلهم؟! ما حالك؟ ما شأنك؟ ما أنت بمؤمن؟!يردون عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، لِم؟ نحن ما ندري هل هذه الدعوة تنتصر؟ غداً تنكسر ويحكمنا الفلانيون والفلانيون، كيف يكون موقفنا وموقف أولادنا ونسائنا؟ فنحن نريد أن نعمل عملاً يجدينا وينفعنا، فاتصالنا بفلان وفلان من أجل أنه ربما يقع الذي يحوجنا إليهم، فنحن في هذا مصلحون ولسنا بمفسدين. وليس الرسول هو الذي يقول لهم هذا، هذا يقوله المؤمنون لبعضهم، ممن له أخ أو قريب من المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].والإفساد في الأرض معاشر المستمعين والمستمعات! لا يكون بحفر الأرض أو إسقاط المباني أو هدم الجبال، بل الإفساد في الأرض يكون بمعصية الله ورسوله، فارتكاب المعاصي، وغشيان المحرمات، وترك الواجبات والله لهو الفساد.وجاء في غير ما موضع: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] فالفساد في الأرض هو أن يعطل شرع الله وقوانينه التي شرعها وأنزلها لإسعاد البشرية وإكمالها .. لإبعاد البلاء والشقاء عنها .. لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة، فمن رفض تلك القوانين الإلهية والشرائع الربانية وعمل بضدها، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، وترك ما أوجب الله، وفعل ما حرم الله فهذا هو المفسد في الأرض. وهذا القرآن عجب، جملة كهذه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] كيف يفسدون فيها؟ بموالاتهم للكافرين ولرؤساء النفاق، وهذا ينتج عنه ترك طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتج عنه الإصرار على الكفر وزيادة النفاق والمنافقين، وهذا فساد في المدينة أو لا؟ هو الفساد بعينه، لكن بعبارة موجزة العجب: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].وهل هذا الآن موجود؟ إيه، ما أكثر الرؤساء والزعماء والفنيون وأرباب العلوم و.. و.. و.. يعتقدون أن بنوك الربا مما تفتقر إليه الأمة وتحتاج إليه، وهذا إصلاح وليس بفساد أبداً، ويفتحون مصانع للخمور ويصدرونها ويبيعونها ويدعون أن حياة الأمة متوقفة على هذا: هل تريدون أن تلصق الأمة بالأرض أو تمد يديها للكفار؟ فيستبيحون الربا: صنعاً، وشرباً، وبيعاً.يصرفون المؤمنين عن تعاليم الله ورسوله، ويضعون خططاً في مناهج التعليم، حتى أصبح في العالم الإسلامي حصة التوحيد؟ لا، حصة الدين حصة أو حصتين في الأسبوع -باستثناء هذه المملكة- فيأخذ الطالب الشهادة الأولى والثانية والثالثة وهو ما عرف معنى لا إله إلا الله، ويدعون أنهم في هذا مصلحون: كيف يرتقي الشعب؟ كيف يخرج من دائرة التخلف إذا لم نحفظ ونعمل ونقرأ ونتعلم؟ ودعونا من كلمة دين، واعبدوا الله كما شئتم.فأفسدوا مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي تحت هذا الشعار: نحن مصلحون. نريد رقي الشعب وتحركه وتحرره لا اللصوق بالأرض والهبوط. فهمتم هذا أو لا؟ لأن هذا القرآن ما نزل لثلاثة أيام فقط أو لأيام المدينة: عشر سنوات، هذا كتاب الهداية الإلهية إلى يوم القيامة.فكثير من المعاصي الكبيرة والجرائم أوقعوا فيها أمة الإسلام تحت هذا الشعار: نحن مصلحون، أنتم تتصورون أننا نفسد بل نحن نصلح، وهذا لصالح الأمة، وصالح الشعب.يبقى: هل هم على علم؟ منهم من يعرف أن هذا العمل ضد شرع الله وقوانينه، ومنهم المقلدون الجامدون يقلدون غيرهم ويقولون ما لا يعلمون.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:31 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

قال تعالى: أَلا [البقرة:12] ألو. لماذا دائماً نقول: ألو؟ أسري عليكم، لأنكم ألفتموها، فبناتكم ونساؤكم ورجالكم حتى الطفل الصغير: ألو، فهم معناها، وتأتي (ألا) شبيهة لها، لكن ما فهمنا. أَلا [البقرة:12] اسمع، أحضر مشاعرك وحواسك فالأمر والخطب عظيم، فهي تقال عند إلقاء الأخبار باستعداد النفوس لقبولها وأخذها، فاسمع ماذا قال تعالى؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12] هذه الكلمة ما قالها علي بن أبي طالب أو أبو بكر ، وما قالها حتى رسول الله، هذه قالها الله ربهم ورب كل شيء ومليكه والأعلم بهم أكثر من أنفسهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] المفسدون لأي شيء؟ إذا عرفنا الإصلاح بم يكون نعرف الفساد بم يكون. وأصل الفساد هو ما يفقد الشيء ثمرته الطيبة، تقول: فسد الطعام، فسد الخبز، فسدت الفاكهة، بمعنى: طرأ عليها ما أفقدنا طعمها ولذتها ومنفعتها، فأصبحت لا تجدي ولا تنفع.إذاً: العمل بشرع الله وقوانينه يسعد الإنسان في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة وإذا أعرضنا عن ذلك القانون وأهملناه وتركناه واستبدلنا به غيره فمعنى هذا أننا نعمل على الفساد، ونحن المفسدون، ولا تتردد.قال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] لم ما يشعرون؟ ماتت أحاسيسهم، وتجمدت، وتلبدت، فما يذكرون الله، ولا يناجون الله، ولا يقفون ساعة بين يديه، ولا يقرءون كتابه، ولا يذكرون لقاءه، ولم يطلبوا حبه ولا معرفته، فمن أين لهم العلم والمعرفة والشعور؟ فقد فقدوا حتى الشعور كالبهائم.عرفتم هذه؟ من المخبر يرحمكم الله؟ الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].وكل من أراد أن يعطل شرع الله فيبطل الصيام، الصلاة، الزكاة، الحجاب، الأمن وغير ذلك، فمعناه أنه يفسد في البلاد وهو لا يشعر بذلك، وكل من يعمل على أن يعبد الله في القرية .. في البلد .. في الإقليم بما شرع بعد معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو عامل على إصلاح البلاد، وهو من المصلحين والصالحين، ومن أراد أن يحول المسلمين إلى أن يصبحوا كالكافرين حتى في الزي والذوق والفطرة والطعم فهذا -والله- يفسد بمعاول الفساد، ويدمر البلاد.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ...)

ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا [البقرة:13] من القائل؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] المنافق اليهودي يقول له أخوه ممن آمن: آمن كما آمن عبد الله بن سلام، أنت أعلم منه؟ وأنت أعرف منه بدين الله؟ فيقول: نعم، نؤمن كما آمن السفهاء! ماذا أصابنا! هل أصابنا الجنون؟ كيف نؤمن إيمان فلان وفلان؟!فيردون هذه الدعوى على إخوانهم بهذه الجملة التي ذكرها الله، والله حرفياً قالوها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].أقسم لكم بالله! إن كثيرين من العرب والمسلمين إذا قيل لهم: لم ما تحجبون بناتكم ونساءكم كما في السعودية؟ يقولون: هم متخلفون. لم ما تجبون الزكاة؟ يقولون: دعك من هذه المسائل الرجعية، فالضرائب سدت مسدها وهي أقوى وأكثر نفعاً. لم ما تصومون مع السعودية؟ يقولون: دعنا من المتخلفين والرجعيين، ونحن عندنا آلات وعندنا مراصد وعندنا.. كيف نمشي وراءهم؟ والله كما تسمعون. لمَ ما تطبقون حدود الله؟ يقولون: نطبق حدود الله، نقطع اليد! نترك المواطن يعيش هكذا بيد واحدة! كيف يشتغل؟ كيف يعمل؟ هذه السعودية تفعل، يقولون: دعنا من هؤلاء الرجعيين الجامدين، سوف يأتي يوم يفيقون ويخرجون من هذه الورطة.فهمتم أو ما فهمتم؟ والله إني لعلى علم مما أقول.لكن ما هو السبب؟ جهال، فما بكوا ليلة بين يدي الله، وما جلسوا في حجور الصالحين، ولا تربوا بين أيديهم. كيف يعلمون؟ كيف يشعرون؟ كيف يوقنون؟ ما هي أسباب ذلك؟ من مدرسة مدنية أو عسكرية أصبح جنرالاً أو وزيراً، فكيف يعرف الله؟ كيف يخشى الله؟ قد تتحدث معه وتذكره فلا يتذوق لكلامك طعماً أبداً، بل يتهمك بالقصور: أنت هابط، وإن جاملك يقول: الظروف.وما العلاج يا شيخ؟العلاج أن نتوب إلى الله، وأن نطرح بين يدي الله، آمنا به رباً، يملك كل شيء ويدير الكون كله، اطرحنا بين يديه: ارفعنا، أعزنا، أكرمنا، سودنا، وقد فعل، أيام لا فلسفة ولا كذب ولا ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، فرفع الله تلك الأجيال الثلاثة إلى سماء الكمال البشري، وقد قلت وحلفت: ما اكتحلت عين الوجود بأمة أعدل، وأرحم، وأطهر، وأعز، وأقوى، وأكمل من تلك الأمة التي ما كانت تعرف إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. أأنتم مصدقي أو لا؟ راجعوا التاريخ الحقيقي، وليس المزور.إذاً هيا نجرب، والله! لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي، عدد سكانها ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، واسمحوا لنا أن نجرب: هل صحيح أن هذا النور الإلهي يهدي .. هذا الروح الإلهي يحيي؟ حتى نعرف الحقيقة. ويتعانق أهل القرية وباسم الله فقط إذا مالت الشمس إلى الغروب وضع الفلاح المسحاة ووضع المنجل فتوضأ وجاء بامرأته وبناته وأولاده إلى المسجد، والصانع رمى المرزبة أو الحديدة وتوضأ وجاء، والتاجر أغلق باب المتجر، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع، فيجلسون جلوسنا هذا، والنساء وراء الستائر، ومكبرات الصوت عندهن، والأولاد في صفوف بين النساء والرجال في آداب، وليلة آية، وليلة حديثاً، فيمر العام الأول والثاني والثالث، يا شيخ! كثير؟ والله ما هي إلا سنة، وما نحتاج إلى سنين، سنة فقط يذوقون طعم الإسلام، ويعرفون لذة الإيمان، فتتجلى فيهم حقائق منها: ألا يبقى بينهم من يفكر في أن يزني بامرأة أخيه أو بنته، ولا يبقى فيهم من يأتي بالحشيشة ويوردها ويبيعها لأفراد القرية، ولا يبقى بينهم من يمد لسانه فيسب أو يشتم أخاه، ولا يبقى بينهم من يترف أو يسرف وحوله فقراء ما شبعوا، ولا يبقى بينهم من يهجر بيت الله أو يقال: فلان لا يصلي أو امرأته لا تصلي، وكل هذه المظاهر تنتهي.كيف هذا يا شيخ؟ كيف! ألم يسم الله كتابه روحاً؟ أما سماه نوراً؟ فالذي حيي وأنار الله الطريق أمامه تقول: كيف يسعد أو كيف يكمل؟! ما هو معقول هذا أبداً! أيمكن أن تقول في الذي يأكل: كيف يشبع؟! وفي الذي يشرب الماء: كيف يرتوي؟! تعطل سنن الله أنت؟وهذا فقط ما استطاع المسلمون يفعلونه، ولعل هذه الدعوى ما بلغتهم، أنا أعرف أنها ما بلغت، فهذا الصوت جديد، كتاب (المسجد وبيت المسلم) كم له عندهم؟ سنة وبعض الأشهر. ولو طبقنا هذا في قرية من قرانا في العالم الإسلامي لشاهدنا أنوار كتاب الله وهدي رسوله، وعرفنا كيف نتقاسم آلامنا وسعادتنا.إذاً: ما دمنا هكذا لم نلوم الحكام؟ لم ما طبقوا الشريعة؟ لم ما نفذوا كتاب الله؟ نلوم في الهواء، ما هم أهل مثلنا. هل عرفوا كما عرفت أنا وأعرضوا؟ هؤلاء يحرقون بالنار، لأنهم ما عرفوا. جلسوا بين يدي من؟أسألكم بالله: تعرفون زعيماً، رئيساً، وزيراً .. جلس مجلسكم هذا؟ سنتين، ثلاث يتعلم الهدى؟ هات، أتحداك. فلو جلس هذا لكان بصيص نور في تلك الوزارة، فلا يسمع عنه إلا الهدى، ولا يعرف عنه إلا الخير، وإن كان في حدود ضيقة؛ لأنه وحده.عوامنا ضلال، فجار، فاسدون أفسد من الحكام، ما السبب؟ الجهل، فما عرفوا الله حتى يحبوه، وما عرفوا الله حتى يخافوه، وما عرفوا محاب الله حتى يتملقوا بها إليه، وما عرفوا مكارهه يسمعون فقط كلاماً هنا وهناك، وما استقر في أذهانهم، ولا أنار قلوبهم، كيف تريد منهم ذلك؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] من هم السفهاء؟ أصحاب العقول الخفيفة التي ما تحسن التصرف ولا التدبير كالمرأة في المال والولد، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] من هم؟ المرأة والولد. قالوا: اسكت، أعط المرأة، الآن ذوقوها، فالمرأة الآن تتحكم، وهي التي في يدها المال، وما يعاني أزواج الموظفات، عندنا بلاد النور والرحمة، أما البلاد الأخرى إذا ما تصفعه على خده هو في خير.. ولما رضي واحد منا أن يعلم ابنته لتتوظف، أعلمها لتعبد الله، تريد الوظيفة؟ لا، لا أحرق ابنتي أبداً، ولا أشقي زوجها ولا أقاربها.هذا الكلام تتذوقونه؟ والله إني لأقول على علم: لو يحضر هنا ألف خريج كليات السياسة والله ما استطاع أن يقف أمام الحق، هذا ليس كلاماً عادياً، وما نحن في حاجة إلى هذا، نحن في حاجة إلى ربانية، وإلى أن نكون أولياء الله، فإذا رفعنا أكفنا إلى الله لن يردها خائبة، ونريد أن نشعر بسعادة وطهر وصفاء، وتصبح الآخرة أحب إلينا من أوساخ الدنيا.قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] سبحان الله! وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] مع أنهم ساسة لهم اتصالات بقريش واتصالات بالكافرين حتى بالروم والشام، أليس كذلك؟ ومع هذا قال: لا يعلمون، ما عندهم علم حقيقي يقيني، فما عرفوا الله، وما عرفوا ما عند الله ولا آمنوا بلقاء الله، فمن أين يأتيهم العلم؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] لا الذين قالوا لهم: أنتم سفهاء أو نؤمن كما يؤمن السفهاء. وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] اللهم لا لا، لا يستوون. وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]. قالوا: نعم. العلم علم الهندسية والفيزياء والتقنية وعلم وعلم.. تلك صناعات، ما نجمع الأمة كلها بنسائها وأطفالها على مواد كهذه، ولا ينجح منها إلا خمسة في المائة، نختار مائة شاب ونغمسه في مادة من هذه المواد يتخرج تقني، أما أن نجعل مواد الهدى والنور من الابتدائي إلى الجامعة كلها عن المادة، فأين الروح، وأين الإسلام؟ عرفتم أو لا.والله العظيم! إن المواد المادية التي تدرسونها أربع سنوات في روسيا أو بريطانيا، والله العظيم ليتعلمها المؤمنون أصحاب النور في أربعين يوماً. وقد مررت هذه الأيام وزوروني جزاهم الله خيراً مدننا الصناعية عندنا -زادها الله قوة- وتجولنا فيها، قالوا: انظر هذا الفريق، هذه المهنة في أيديهم، قال: قالوا لنا: يحتاج إلى أربع سنوات حتى يتعلمها أولادكم أو أفرادكم. قال: والله تعلموها في أربعة أشهر، وهم الذين أمامك، لتعرفوا أني أتكلم عن علم. التمريض، الطب، اجمع لك مائة بنت وأكثر ما يكون ثلاثة أشهر إلا وهي ممرضة، وتدرس الأخرى عشرين عاماً ممرضة وهي لا تطيع الله ولا رسوله، ولا تحسن العمل، أليس كذلك؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] فلان وفلان. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ .. [البقرة:13] لو علموا أنهم سفهاء: لا رشد، ولا بصيرة، ولا علم، ولا هدى ما وقفوا هذا الموقف، لكن ما علموا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال المؤلف: [شرح الكلمات: الفساد في الأرض: الكفر وارتكاب المعاصي فيها]. ما الفساد في الأرض يا شيخ؟ الكفر، وارتكاب المعاصي فيها بترك الواجبات وفعل المحرمات من الغش إلى الخدع إلى اللواط إلى الجرائم.قال: [الإصلاح في الأرض] ما هو؟ بالفئوس والحراثات، أما كيف الإصلاح؟ قال: [يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح]، بالإيمان الصحيح الذي إن عرضناه على الكتاب وقع عليه: أنت مؤمن. الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أي عمل صالح؟ كل ما شرع الله لنا أن نقوله وأن نعمله طول حياتنا فهو العمل الصالح، وما عداه فاسد. قال: [وترك الشرك والمعاصي]، لو نؤمن ونعمل صالحات ونحن نأتي الشرك ونأتي المعاصي، فهذا ليس بصلاح، ولا بد من التخلي أولاً عن هذه المصيبة وهي الشرك في عبادة الله والذنوب والمعاصي، وبعد الإيمان والعمل الصالح ينير الحياة.ما معنى: (لا يشعرون)؟ قال: [لا يدرون ولا يعلمون].ما معنى: (السفهاء)؟ قال: [جمع سفيه، خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير]، كالسفهاء الذين عندهم مال ولا يعرفون كيف يتصرفون، بعد عام أو عامين أنفق كل الذي عنده.

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين]. من هم المنافقون يا أبناء الإسلام؟ الذين يبطنون ويخفون الكفر ويظهرون الإيمان. بلسانه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقلبه يقول: لا إله والحياة مادة.قال: [يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة لليهود والكافرين، ردوا عليه قائلين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم، وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرَّضوا بهم من المؤمنين] كـعبد الله بن سلام وغيره، بل هم المفسدون، فدافع الله عن أوليائه، [إلا أنهم لا يعلمون ذلك، لاستيلاء الكفر على قلوبهم]، ما يعلمون أنهم مفسدون، ولا أن المؤمنين مصلحون بسبب أن الكفر استولى على قلوبهم، غشاها وغطاها ما أصبحوا يعلمون ولا يفهمون.قال: [كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: اصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ] تعرفون عن عبد الله بن سلام شيء؟ هذا حبر اليهود في المدينة، ورزقه الله كان يرتقب متى يأتي محمد المدينة، من يوم ما سمع به في مكة وهو ينتظر، وما إن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءه وطرح عليه ثلاثة أسئلة فقط فآمن، ولما آمن وحسن إيمانه وإسلامه قال للرسول: تعال! نمتحن اليهود، أجلسني وراء الستارة واسألهم عني، فجاء كبار اليهود. ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، أعلمنا، أشرفنا. فقال لهم عبد الله بن سلام : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: هذا كلام ما يقال، ولهذا قال الرسول: ( إنهم قوم بهت ).وعبد الله بن سلام بشره الرسول بالجنة، فقد رأى رؤيا أن السلسلة نزلت من السماء فيها حلقة، فأخذ فيها وتمسك، فعبر له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنك على الإسلام وتموت عليه فأبشر بالجنة.قال: [ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء] أي: الذين لا رشد لهم ولا بصيرة؟ [فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم، ونفاه عن المؤمنين الصادقين، ووصفهم بالجهل وعدم العلم]، وهو كذلك.

هداية الآيات

قال: [من هداية الآيات: أولاً: ذم الادعاء الكاذب، وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين]. فهذه الآيات تهدينا، تبصرنا، تعلمنا بأن الادعاء الكاذب الذي يدعي ما ليس عنده، هذا الادعاء الكاذب صاحبه يتصف بصفات المنافقين، فلهذا ما ندعي ادعاء الكاذب، نحن أهل الصدق، ولا نعرف إلا الصدق.تعرفون أنه لما هزمتنا إسرائيل كم من مرة كنا نقول: قواتنا الضاربة. كلام نتعجب منه، وإذا بجماعة اليهود في ليلة من الليالي سلبوهم كل شيء، أين قواتنا الضاربة في الأرض؟ هذا الادعاء الكاذب باطل، فاعرف منزلتك وقدرك، ما عندك قوة اتصل بذي العرش، بت راكعاً ساجداً يمدك بالقوة، أما أن تتنكر، وتغمض عينيك، وتظل في المعاصي والجرائم وتقول: قوانا الضاربة في الأرض. نفعت؟ ما نفعت. والآن لولا الله ثم وجود مؤمنين ومؤمنات في العالم الإسلامي لكانت الفرصة متاحة لليهود والنصارى أن يسودوننا أسوأ سيادة. انتبهتم؟ ولن نستطيع أن ندفعهم، لم؟ لأن الله غير راضٍ عنا، إذاً يسلطهم كما سلطهم أمس، سلطهم أو لا؟ أما حكمونا؟ أما سادونا؟ أين ممالك الهند؟ أين الممالك الإسلامية؟ ما هي ألف ومائة ألف، ملايين وضعتها بريطانيا تحت رجليها. أين ملايين المسلمين في إندونيسيا؟ هولندا العجوز وضعتها تحت رجليها. أين أبطال المغرب الإسلامي؟ أين هم؟ أذلوهم، وكسروهم، وحطموهم. أين أين أين؟ فعل الله ما فعل، هو الذي فعل، ما هي بريطانيا ولا فرنسا، والله لو كنا أولياءه فاجتمعوا كلهم ما نالوا منا منالاً. هل عرف الناس هذه السنة الإلهية؟ ما عرفوا.في أُحد ثلاثون مؤمناً جعلوا رماة في جبل، فعصوا رسول الله ونزلوا فضربهم الله ضربة ما ذاقوا مثلها، ونبيهم كسرت رباعيته، وشج وجهه، ونحن نعيش على الفسق والفجور وينصرنا الله، والله لولا لطف الله ورحمته ووجود مؤمنين ومؤمنات يبكون بين يديه لكانت الفرصة متاحة لليهود ولغيرهم، الهزيمة مرة.يا شيخ! لم تقول هذا؟ توبوا، أقبلوا على ربكم، وتجردوا له، وادخلوا بيوته، وتخلوا عن معاصيه، ستكونون أنتم سادة الدنيا، ويركع لكم العالم ويسجد. قال: [ثانياً: الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله.ثالثاً: العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد].وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:33 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (71)
الحلقة (78)




تفسير سورة البقرة (40)

اعتذر بعض اليهود عن الدخول في الإسلام ببغضهم لجبريل، وزعموا أنهم يحبون ميكائيل، وأنه لو كان هو من ينزل بالوحي على رسول الله لآمنوا، فقرعهم الله بأن من يعادي ملكاً فإنما يعادي الله سبحانه، وأن الوحي الذي ينزل به جبريل فيه الهدى والنور، والبشرى للمؤمنين، وفيه التصديق بالكتب السابقة، فما قاله هؤلاء فيه معاداة لله ومشيئته، ورسله وكتبه، ومن كان كذلك فإن الله عدو له.

القرآن كلام الله المعجز

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:97-100] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله، وملايين الناس لا يؤمنون بالله.كلام الله .. أيعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ والله ما كان، ولن يكون.لكن كيف ينكر وجود الله؟الجواب: المنكرون لوجود الله هم اثنان:أحدهما: ينكر بلسانه، ليستمر في غيه وضلاله .. في شهواته وأطماعه، حتى لا يقف عند حد.وآخر ما عرف .. ما بلغته الدعوة واضحة صريحة .. ما حملت إليه الدعوة المحمدية، فهو لا يعرف.ثم هذا الكلام الذي نسمع قد حواه كتابه، وليس مجرد كلمات تقال هنا وهناك، بل هو كتاب كريم.ومما يدلك على كرم هذا الكتاب: أن البكر تستطيع في خدر بيتها أن تقرأه أمام أبيها وبين إخوتها، ولا تشعر أبداً بأن هناك ما ينبغي أن تستحيي منه، فهو مثلاً يعبر عن الجماع بالمباشرة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ولن تجد في القرآن -وهو عشرات الآلاف- كلمة واحدة تسيء وتؤذي أبداً، فهذا كلام الله.وفيه آلاف الأخبار، وعشرات الآلاف، ولا يمكن أن لا يصدق في تلك الأخبار خبر واحد.وفيه من الحكم ما تعجز العقول البشرية حتى عن محاكاته، فهذا كلام الله.ثم كيف ينكر ويكذب برسالة الذي نزل عليه هذا القرآن .. هذا الكلام الإلهي، وهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يكذب برسالته، ويقول القائل: لست رسولاً، ولن نؤمن برسالتك ولا بنبوتك، ولكن الأطماع .. الشهوات .. الأغراض .. حب الحياة والدنيا، هي التي تحمله على هذا، وإلا لو نظرنا من حيث العقل، والمنطق، والذوق، والفطرة البشرية فهو أمي يقرأ كلام الله، ونحن نسمع ذلك الكلام الطاهر، الحكيم، العزيز، البين، فهل نستطيع أن نقول: أنت لست برسول الله، وهذا الكلام ممن؟!

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

ها هم اليهود -عليهم لعائن الله- تورطوا في حب الحياة .. وقعوا في فتنة حب الحياة الدنيا، وإن أحدهم يود أن يعيش ألف سنة، بل آلاف السنين، حتى لا يموت، ولنستمع إلى ما سبق أن قرأناه من كتاب ربنا في شأنهم.

دعوة اليهود إلى المباهلة وتمني الموت

قال تعالى في المباهلة العظيمة، تلك المباهلة التي أسكتتهم وقطعت ألسنتهم، فهم يتبجحون بأنهم أولياء الله .. أحباء الله .. الجنة لهم .. هم شعب الله المختار .. أبرّ الخليقة .. البشرية نجس، وهم.. وهم، فقيل لهم: تعالوا نتباهل، ونرفع أكفنا إلى الله، ونسأله: من كان منا على باطل فليهلكه الله على الفور. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة في مجمع بين الناس، فتمنوا بقلوبكم واسألوا الله تعالى الموت ينزل بكم الآن إن كنتم صادقين فيما تدعون وتقولون، وتهرفون، وتكذبون من الدعاوى الباطلة.نعم هم يدعون أن الجنة لهم، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله، وأنهم أولياؤه، وأن البشرية كلها سافلة وهابطة لا قيمة لها عند الله، فإذا كنتم كما تزعمون فتمنوا الموت لتموتوا الآن، وتستريحوا من أعباء الدنيا، وتستريحوا من المعاش الضيق .. من الآلام والأمراض .. من الحروب والفتن، فالجنة خير من الدنيا بمليون مرة، بلا مناسبة: ( إن سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ).فلما أكثروا من التبجح بين العرب بأنهم.. وأنهم، أنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] وقطعاً هي الجنة، أما الدار الآخرة ففيها النار أيضاً .. عالمان: عالم الشقاء، وعالم السعادة.قال: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [البقرة:94] فلا يدخل الجنة أبيض ولا أصفر، لا عرب ولا عجم إلا أنتم، فتعالوا: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، وليحضروا بعلمائهم، وليرفعوا أكفهم، وليسألوا الله تعالى أن يميتهم ليدخلوا الجنة إن كانوا صادقين. فوالله ما استطاعوا .. فشلوا، وخافوا، وهربوا.

كراهية اليهود تمني الموت لسوء ما قدمت أيديهم

يقول الله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، ولن يتمنوه يا رسولنا، فاتركهم، ودعهم وحالهم، فلا يصلحون للمباهلة، فإنهم لن يتمنوا الموت أبداً إلى يوم القيامة، ولا يأتي يوم يتمنون فيه الموت، حتى ولو كان أحدهم في أعماق السجون والزنازن يقول: لا أريد الموت. ولو كان أحدهم قد قتله الفقر، والتعب، والذل، والمهانة، ولا يزال يقول: لا.. لا، ولا يتمنى الموت. لِم؟ لعلمهم بجرائمهم التي تدخلهم جهنم، وتصليهم نارها، وأنهم ليسوا بأهل للجنة، لقد قدموا من الجرائم ما لا يتفق أبداً مع دخول الجنة بحال من الأحوال.وقد عرفنا من كتاب ربنا أنهم قتلوا الأنبياء والرسل، أرأيتم من يقتل نبياً كيف يسعد؟!فقتلوا زكريا عليه السلام وقتلوا ولده يحيى عليه السلام، وحاولوا قتل عيسى، وصلبوا من شبه لهم وقتلوه، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، فمرة بإطعامه السم، ومرتين بالمؤامرة عليه ليقتلوه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الظروف كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم، وفي المساء كانت أسواقهم عامرة، طافحة بالبيع والشراء والضحك، كأن شيئاً ما وقع، وقد قتلوا سبعين نبياً.كما أنهم استباحوا ما حرم الله عليهم، ومن أعظم ما ندد القرآن بهم في أكلهم الحرام: الربا، فهم الذين استباحوه وأباحوه، وهم الذين ورطوا العالم فيه أيضاً، وقد قلت لكم: إن البنوك العالمية منشؤها أصابع اليهود، حتى لا تبقى رحمة، ولا صلة، ولا سلف، ولا قرض، ولا تعاون بين الناس؛ لأنهم عبدة الدينار والدرهم، ويكفي أنهم قد عبدوا العجل.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِم يا رب؟ بسبب ما .. قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وقد قدمت أيديهم الجرائم: الفسوق، والفجور، والكفر، والباطل، والشر، وذنوب لا تعد ولا تحصى، وأصحابها مكتوب عليهم: أنهم في جهنم، فكيف يتمنون أن يدخلوا النار؟! ولو يبقى في الدنيا مليون سنة جائعاً مريضاً ولا يدخل جهنم، وهو كذلك: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] من الظلم، والشر، والخبث، والفساد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فسوف يجزيهم بظلمهم، قد أشركوا بالله .. كفروا بالله .. قتلوا الأنبياء .. حاربوا الأولياء، ما تركوا جريمة إلا ولغوا فيها، وانغمسوا في أوضارها، فكيف يتمنون الموت؟ لن يتمنوه أبداً؛ ولهذا يلاحظ خوفهم من الموت بصورة عجيبة، والذين يخالطونهم ويعايشونهم ويساكنونهم يشاهدون هذا، فما يريد أن يموت.

حرص اليهود والمشركين على أدنى حياة في الدنيا

قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أدنى حياة .. أرخصها .. أقلها .. أدناها .. أسفلها يحرصون عليها، كما قلت لكم: أحدهم مريض، فقير، في السجن، ولديه آلام ولكن لا يقول: الموت خير أبداً، يريد أن يعيش على أية حال كان، فهو حريص على الحياة. وَلَتَجِدَنَّهُمْ يا رسولنا! إن طلبت ذلك، وأردت الوقوف عليه لتجدنهم أَحْرَصَ النَّاسِ مطلقاً عَلَى حَيَاةٍ وإن كانت رخيصة، والنكرة هنا تدل على عموم فأدنى حياة المهم لا يموت؛ لأنه إذا مات انتقل إلى عالم الشقاء ليخلد فيه أبداً، ولا أمل في الخروج، فلا شفاعة تنفع ولا شافع يوجد؛ لأنهم كفروا.وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فهذا الحب للحياة يشاركهم فيه الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، ولا يؤمنون بما عند الله، وما أعده لأوليائه من نعيم مقيم فوق السماوات السبع في دار السلام، وهؤلاء الكفار كذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.فأمثال هؤلاء لو قاتلهم المؤمنون ينتصرون عليهم، فالذي يحب الحياة مهزوم، ولا شجاعة له، ولا إقدام، ولا .. ولا، يقتله خوفه، بخلاف المؤمن بالدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، تجده يتمنى على الله متى يقرع باب دار السلام، فهذا يرقص عند قدومه على المعركة، وقد شوهد كثير من الصحابة يهتزون اهتزازاً فرحاً بلقاء الله.وهذا السياق وقفنا عليه ودرسناه في الدرس الماضي.
تفسير قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ...)

كراهية اليهود لجبريل عليه السلام

الآن مع قول ربنا جل ذكره: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة:97]، قل يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، قل لـابن صوريا الأعور ومجموعة من علماء اليهود الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقالوا: يا محمد! ما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله الله إلا أوحى إليه، وأعطاه من الآيات والمعجزات ما تسد به رسالته، وأنت من الذي يوحي إليك ويأتيك بالوحي، فعلمنا حتى نؤمن برسالتك، ونتبعك، ونمشي معك؟فقال لهم: أنا كذلك يأتيني رسول ربي؛ جبريل عليه السلام.قالوا: يأتيك جبريل؟قال: نعم.قالوا: إذاً: لن نتابعك، لو قلت: ميكائيل، نعم، أما جبريل فلا، هو عدونا، لا ينزل إلا بالحروب والدماء والقتال، فلهذا لا نستطيع أبداً أن نؤمن بك، ولا أن نتابعك.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:33 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
التحذير من سلوك مسلك اليهود

هذه الأفكار يستنتجها، ويولدها، ويلقيها لليهود أحبارهم ورؤساؤهم الذين هم مسيطرون على العوام ليستغلوهم، فيستعبدوهم.وهذه الفتنة -أيضاً- كانت في النصارى، فرجال الكنيسة يشوهون الإسلام للعوام من النصارى حتى لا يدخلوا فيه، ويفعلون معهم الأفاعيل، وبلغنا أنهم يشترون منهم صكوك الغفران، فإذا عندك مليار .. ملياران من الدولارات، يستطيع رئيس الكنيسة يعطيك صكاً بأنه مغفور لك، وضع هذا المال للكنيسة -فقط- لنشر المسيحية.والرسول الكريم -اسمع ما يقول، واحفظ ما يقول- يقول لنا: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فهو يخبر بالواقع، ويتلقى الوحي من الله، قال: لتتبعن أي: أيها المسلمون طرق من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.وقد وجد -أيضاً- في المسلمين رؤساء أديان في المذاهب المختلفة يشوهون الإسلام ويصرفون عنه أهله بالأباطيل والتراهات من أجل أن يستغلوا أولئك العوام والجهال ليقدسوهم، ويكرموهم، ويعبدوهم، فيحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ولو نفتح صفحة لهذه الأحداث لرأيتم العجب.إن وجود مذاهب في الإسلام، وطرق مختلفة لا يرضى به الإسلام، فالقرآن يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ولقد بلغ عدد المذاهب في العالم الإسلامي أكثر من سبعين مذهباً، وسببها أن الرؤساء يريدون أن يستغلوا أتباعهم، فهناك مذاهب قليلة -كما يقولون: حفنة من الناس- لِم لا يدخلون مع أهل السنة والجماعة، فهم جماعة تعدادهم خمسة إلى مائة بالنسبة إلى المسلمين، وقد رضوا بأن يعيشوا مستقلين يقولون: مذهبنا، قد سيطر عليهم رؤساء الدين، وأئمة المذهب العارفون به، حتى يبقى لهم مركزهم ومكانتهم بين إخوانهم، فلا يسمحون لهم أبداً أن يدخلوا في جماعة المسلمين، وإن شئتم حلفت لكم بالله.وهؤلاء لو كانوا مجردين من الهوى، والدنيا وأطماعها، وحب الرئاسة والسيطرة أو الملك والحكم، والله ما رضوا أبداً ولا أربعين يوماً أن يعيشوا منقسمين على المسلمين، بل لوجدتهم يتباحثون معهم يقولون لهم: بينوا لنا الطريق؟ هذا ما عندنا فسددونا وصوبونا، وأنتم أكثرية ونحن أقلية، وهل هذه الأقلية هي التي على الحق ونحن على الباطل؟ للأسف لا يسمح لهم بهذا أبداً، والكتب تؤلف في ذلك وتدرس، وكل كتاب يدعو إلى استقلال تلك الجماعة، وأن لا تتصل بالجماعات الأخرى، وأحياناً يكفرون بعضهم بعضاً، وينسبونهم إلى الكفر، والزيغ، والخروج من الإسلام.فهذا واقع قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد وأن يقع: ( لتتبعن سنن من قبلكم -أي: طرائق من قبلكم- شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).وهنا أضحككم وأنفس عليكم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفس على أصحابه: يذكر أن أحد العلماء كان يخطب في مسجد، ففسر هذا جحر ضب بالبنطلون! أي: السراويل الطويلة، وهذه السراويل ما كان المسلم يلبسها قط، حتى الجيوش الإسلامية -والله- ما كانت تلبسها، وآخر جيش إسلامي في الخلافة العثمانية كان يلبسون السراويل الواسعة والعريضة، وقد شاهدناهم، ولا يمكن أن تكون السراويل -كما هي الآن- مضغوطة، فتظهر إلية الرجل، فقال هذا الخطيب: هذا البنطلون هو جحر الضب، فالكفار قد دخلوا فيه، ونحن دخلنا فيه بعدهم، وهو كذلك! لأن جحر الضب لا يمكن أن يدخل فيه إنسان، ولو دخلوا لدخلنا مثلهم، مع أن هذا البنطلون ضيق تبرز فيه إلية المؤمن، وقد كان الحياء يمنع المسلمين من هذا، لكن لما لبسه الغرب وتجملوا به تبعناهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .فكان اليهود مُستغَلين لرؤسائهم، فقد كفروهم .. مسخوهم .. منعوهم من دار السلام.وجاء النصارى كذلك، فرجال الكنيسة -والله العظيم- إلى الآن يصرفون الناس عن الإسلام، مع علمهم أن الإسلام هو سبيل الله .. وأن فيه النجاة، ويدلك على هذا أنك تجد مع الوقت أن من رؤساء الكنائس من يؤمن، وإذا عرف الحق فإنه يبكي، ويشكو لك هذا، وما كان منا للأسف إلا أن اتبعناهم.أما في داخل أهل السنة والجماعة فتجد الطرق: هذا قادري، هذا رحماني، هذا عيساوي، هذا زيدوني .. هذا نقشبندي .. هذا عيدروسي، هذا كذا، وفي أيام الغفلة والجهل كل جماعة وطريقة كأنهم هم المسلمون، وغيرهم لا، فلا ولاء، ولا حب ولا .. إلا قولهم: هؤلاء من إخواننا.وجاءت أيضاً الأحزاب والجمعيات، وكل حزب يطعن في الحزب الثاني، من قبل رؤسائهم، حتى تبقى لهم المجموعة، وتحت أيديهم.لا إله إلا الله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع )، وكان ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا حب الدنيا والشهوات والجري وراءها، من الفروج، والأموال، واللباس، والمنصب، وكل هذا يعمي الإنسان ويصمه، ويجعله لا يرى إلا شهوته، فيكذب، ويحلف بالباطل، ويخون ويفجر، حتى يحقق هذا الهدف الهابط؛ الساقط، وهذا شأن اليهود، ونحن مشينا وراءهم.

نزول جبريل عليه السلام بالقرآن مصدقاً للكتب السابقة

يقول تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أي: أن القرآن العظيم جاء به جبريل، ونزله على قلب سيد المرسلين. فالقرآن يلقى من طريق الوحي .. بواسطة الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيفهم، ويعي، ويحفظ، ويقول، وينطق.قال: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، لا أن جبريل باختياره استغل الموقف وجاء بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو بأمر الله عز وجل، فهو الذي أرسله، ونزل القرآن على قلبه.قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97] من هو المصدق لما بين يديه؟ القرآن. وما الذي بين يديه؟ الكتب السابقة، فلو تأتي إلى التوراة أو الإنجيل أو الزبور فتحذف منها الأباطيل والتراهات، والزيادات، والشروح فسيبقى النور الإلهي، وهو أولاً نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، فهي والله لموجودة إلى الآن، وهم يهمشون ويشرحون بأن هذا ما وجد بعد، وأنه سيوجد فيما بعد، وأن هذا وصفه يختلف مع هذا، ويؤولون ذلك للناس.وقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: في أصول الدين من الإيمان بالله، والبعث الآخر .. دار السلام .. دار البوار والعذاب .. إحقاق الحق .. إهباط الباطل .. العدل .. فكل الكمالات التي في تلك الكتب يصدقها القرآن، ولا يرد منها شيئاً، ولا يكذبها، بل يقويها ويدعمها، فكيف لا يكون كلام الله ووحيه.ولو تنافى مع ما عندكم من التوراة والإنجيل لقلنا: هذه أباطيل أو خرافات، لكننا وجدناه يصدقها، ويوقع على ما فيها من أصول الدين: من التوحيد، وعبادة الرحمن، والإيمان بالله، ولقائه، وكتبه، ورسله.

القرآن كتاب هداية وبشرى للمؤمنين

ثم قال: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن يستطع أن يقول: لا يوجد هدى في القرآن؟ والله لا يقولها ذو عقل، ولا ذو دين ومروءة، والله ما أخذ عبد بالقرآن في عقيدته وآدابه وأخلاقه وعباداته وضل أبداً.ما من إنسي ولا جني يأخذ بما في هذا الكتاب كما هو إلا وكمل، وسعد، ونجا، ووصل إلى رضا الله عز وجل ورضوانه، على شرط أن يفهم كلام الله ومراده، وهنا يحتاج إلى رسول الله المبين .. المفسر .. الشارح، ولا تقل: أنا أستغني عن الرسول بالقرآن؛ لأن الله قال: (فيه هدى) فهذه غلطة منكرة وفاحشة، فهل يستطيع أي إنسان بدون أن يقرأ سنة الرسول وبيان الرسول أن يفهم عن الله كل كلامه؟!وهذا هو سر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا بد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدى والله لفي هذا الكتاب، وما أخذ به عبد أبيض ولا أسود وضل أبداً، ومن لم يأخذ به لا يهتدي ولن يهتدي، إذ الهدى هو العلامات التي تصل بك إلى هدفك، فأنت مثلاً إذا كنت ذاهباً إلى بيت فلان، فالهداية تكون بالعلامات المؤدية إليه من الشارع الفلاني، والباب الفلاني، والطريق الفلاني.فالكتاب يحمل هداية، تهدي العبد السائر إلى رضوان الله حتى يدخل الجنة.قال تعالى: وَبُشْرَى [البقرة:97] هل البشرى للمغنين .. لأصحاب الأموال .. للكافرين؟ لا، لا! بل: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، بشرى بسعادة الدنيا والآخرة، وأعظمها الزحزحة عن النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [البقرة:25] إلى آخر الآيات. فبشرهم يا رسولنا.والقرآن يحمل البشرى بالسعادة والكمال للمؤمنين؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، فلما نودوا إلى الله أجابوا، وسلكوا الطريقة، فرضيهم الله وأرضاهم، أما الكافر فميت، فكيف تكون له بشرى وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يعتمر، ولا يرابط، ولا يجاهد، ولا يتقي سيئة من السيئات، ولا يتجنب باطلاً من الأباطيل.نعم القرآن هو بشرى للمؤمنين الكمّل في إيمانهم .. الصادقين فيه .. الموقنين: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].

تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ...)

قال تعالى الآن رداً على ابن صوريا الأعور وجماعته الذين قالوا: نعتذر، فما دام يأتيك جبريل نحن لا نستطيع، فهذا عدو بني إسرائيل، ولو كان ينزل عليك ميكائيل فنحن معك؛ لأنه يأتي بالمطر والرحمة .. وما إلى ذلك، أما هذا الذي يأتي بالدماء والحروب فلا، لا. والذي زين لهم هذا هو الشيطان.وهذه فرية؛ حتى يستطيعوا أن يردوا على الرسول، ويعتذروا أنهم ما قبلوا دينه لهذا الغرض. فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فأسكتهم وقطع أنفاسهم.قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هل يوجد عدو لله؟ وكيف هذه العداوة؟أصل العداوة مأخوذة من عدوة الوادي، فالوادي في الوسط، وهناك الطرف الآخر الذي يسمى عدوة، فالذي لا يلتقي مع الله والفاصل بينهما عدو لله، فالله يأمر بالخير، والرحمة، والهدى، والطهر، والصفاء، واليقين، وذاك يأمر بالشر والخبث، والفساد، فلا يلتقيان، كل عدو للآخر، فالله يأمر بالخير، وهو يأمر بالشر .. الله يأمر بالصدق، وهو يأمر بالكذب .. الله يأمر بالطهر، وهو يأمر بالخبث. فيصبح عدواً لله.قال: وَمَلائِكَتِهِ وما داموا يقولون: جبرائيل عدونا، فعدو الملائكة عدو لله، وهذا ملك ربنا، ينزله على من يشاء من عباده بالوحي الإلهي وأنت تقول: هذا عدو، ومن يقول: إن جبريل عدو لنا يكون قد كفر بالله.قال: وَرُسُلِهِ وهم كذلك، يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، فعيسى رسول الله حاولوا قتله وصلبه، وقالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا فيه الأعاجيب، وكل هذا لأن عيسى جاء ليؤدبهم .. ليحل الحلال، ويحرم الحرام. واليهود هم أرباب الدنيا، والمال، والشهوات قالوا: هذا سينغص علينا حياتنا، ويفسد وجودنا، فلا تصدقوه، وقد قال عيسى: ( بعثت إلى خراف بني إسرائيل )، فلما تاهوا بعثه الله إليهم لهدايتهم وهو منهم، فأمه مريم الإسرائيلية، فحاولوا قتله وطاردوه، وطردوا أتباعه؛ لأنهم فقط ضد الشهوات والأهواء والأطماع وحب الدنيا.فكفروا برسل الله، ومن كفر برسول واحد فقد كفر بعامة الرسل، ومن كفر بكتاب واحد من كتب الله فإنه يعتبر كافراً بكل الكتب، ومن كفر بملك واحد من ملائكة الله فقد كفر بملائكته.وعندنا نحن أكثر من أربعين ألف آية، ومن كذب بآية واحدة فقد كفر، وليس بكتاب كامل كالتوراة أو الإنجيل، فمن قال: لا أومن بآية واحدة من القرآن، فوالله لقد أجمع المسلمون على كفره، وهو ليس بمؤمن. فكيف إذاً بالذي يكذّب بالكثير.فإن قيل: ولِم خص جبرائيل وميكائيل وأفردهما بالذكر، وهم يدخلان في الملائكة؟الجواب: لأن المحنة دارت عليهما.وجبريل فيه لغات أفصحها: جبريل وجبرائيل وجبرين بالنون، وكذلك في ميكائيل لغات أفصحها: ميكائيل وميكال وميكئل.وجبريل معناه: عبد الله، وميكائيل معناه: عبيد الله، وكل ما فيه إيل: إسرافيل .. عزرائيل فهو كعبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، إذ الكل عباد الله، ولهذا (إيل) الأخيرة معناها: الله، كما نقول: عبد الله، عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الحكيم.قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] أي: فقد كفر، والله عدو للكافرين، فدخل ضمن من يعادي الله عز وجل، والعياذ بالله!وهل يوجد كافر ليس عدواً لله؟! هذا غير ممكن؛ لأن معنى العداوة أن الله يحب كذا، والكافر يحب غيره، والله يكره كذا وهو يحب غيره، فهذه هي العداوة، فصديقك هو الذي يوافقك فيما تحب وفيما تكره، فإن كنت أنت تحب كذا وهو يحب شيئاً آخر، فما يمضي عليكما يومان .. ثلاثة أيام حتى تتضاربا، ولا تتفقا أبداً.إذاً: فالكافر عدو الله؛ لأنه يحب ما يكره الله، فالله يكره الزنا، والكافر يحبه .. الله يكره الظلم، والبغي، والعدوان، والكافر يحب الظلم، والبغي، والعدوان، ويريده، إذاً: فقل ما شئت: إن الكافر عدو الله بلا خلاف.

كيف تكون ولياً لله

لكن من هو الذي يكون ولياً لله لا عدواً لله؟ هو الذي يوافق الله في محابه ومكارهه.وهذه الفائدة أعطيناها للسامعين -من فضل الله- من سنين، فمن منكم أيها المستمعون يرغب في أن يكون ولياً الله فيأخذها.إذاً من أراد أن يكون ولياً لله، راغباً في ولاية الله، فإليه الطريق إلى ولاية الله: إذا وافقت الله فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، فقط جاهد نفسك، وروضها، وأدبها حتى تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكره الله، فقط وافقه تكن وليه، فإن عاكسته وخالفته كنت عدواً لله، فالموافقة هي الولاية.فإن قال قائل: يا شيخ! في ماذا نوافقه؟ في حب البقلاوة والدجاج المشوي أو في ماذا؟الجواب: يا بني! موافقة الله تكون في ما يحب وفي ما يكره، وأقسم بالله: إن الله ليحب أشياء ويكره أخرى، والقرآن شاهد، فكوني أريد أن أكون وليه فأوافقه على ما يحب وعلى ما يكره، يجب عليّ أن أسأل أهل العلم أو أقرأ القرآن لأعرف ما يحب الله وما يكره، فما عرفت أنه يحبه أحببته، وإن كان عدواً لي قد ذبح أبي، وما عرفت أنه يكرهه كرهته، ولو كان الدينار والدرهم.فلابد -إذاً- من أن نعرف يوماً بعد يوم جميع ما يحب الله، ونعرف كذلك جميع ما يكره الله، ونحن كلما علمنا أن الله يحب شيئاً أحببناه، وجاهدنا أنفسنا حتى نحبه، وكلما عرفنا أن الله يكره شيئاً كرهناه؛ لأننا نريد ولاية الله.وهنا: لابد من طلب العلم، فما هناك حيلة أبداً، لابد وأن نسأل ما يحب الله من الاعتقادات .. من الأقوال والكلمات .. من الأفعال والحركات .. من الصفات والذوات.على سبيل المثال: لو أن أباك ارتد وكفر، فإن هذا الرجل يكرهه الله، ويجب عليك أنت أن تكره أباك، فليس أبوك، وقد خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال آبائهم؛ لأنهم كانوا على الكفر فكرهوهم.فإذا عرفت أن الله يكره فلاناً فيجب أن تكرهه ولو كان ابنك، وإذا عرفت أن الله يحب فلاناً فيجب أن تحبه وتُكرِه نفسك على أن تحبه، ولو كان أعمش، أعمى، والدماء تسيل والقيوح، وقل ما شئت من العيوب الخلقية، فما دمت قد علمت أن الله يحبه فيجب أن تحبه، فبهذا تتحقق ولاية الله للعبد، وهي أن يوافقه في محابه ومساخطه، فنحب ما يحب، ونكره ما يكره في حدود ما نعلم.بلغنا أن الله يحب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فنقولها في الليل والنهار؛ لأن ربنا يحبها.بلغنا أن الله يكره صوت المغنية، وصوت النائحة، فلا نجد أغنية أبداً تنشرح لها صدورنا، أو تميل إليها نفوسنا إلا ونبغضها؛ لأن الله يبغض هذا الصوت.وهكذا معاشر الأبناء والإخوان: ولاية الله تكون في موافقة الله؛ بدليل قوله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:63] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فإذا آمنت فهنيئاً لك، وبقي أن نتقي أن نكره ما يحبه الله، أو أن نحب ما يكره الله، وبذلك تتم الولاية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فيتقون ما يكره الله فلا يعتقدونه، ولا يقولون به، ولا يعملونه، ويتقون أن يسخطوا الله بترك ما يحب من الطاعات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:35 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)




تفسير سورة البقرة (41)

الفسق، الكفر، نقض العهود، مخالفة الشرع.. وغيرها كثير من الصفات التي يتمتع بها اليهود، وبيّنها القرآن، فهم يرون الآيات واضحات جليات كالشمس، ثم يعمهون عنها، ويعاهدون ثم ينقضون، أما الكتب السماوية المنزلة فتراهم يضعونها وراء ظهورهم، معرضين عنها، مخالفين لها، وكأنهم لا يعلمون شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .. [البقرة:99-102] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كتاب الله، وهذه كلمة الله جل جلاله وعظم سلطانه، والواسطة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليه أنزل هذا الكتاب الكريم، ولنستمع إلى هذه الكلمات الإلهية.

المراد بالآيات البينات

يقول تعالى وهو يخاطب رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] حقاً حقاً، فالله هو الذي أنزل على رسوله آيات بينات، وهي آيات القرآن الكريم، إذ لفظ الآية قد يطلق ويراد به المعجزة الدالة على صدق النبي، والمقررة لنبوته ورسالته، وقد يكون بمعنى الآيات التي تحوي الهدى، وتحمل الشرائع والأحكام.والمراد من الآيات هنا آيات القرآن العظيم، وهي ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فكل آية كأنما تصرخ: يا عباد الله! إنه لا إله إلا الله الذي أنزلني وأن محمداً عبده ورسوله إذ أنزلني عليه، والآية هي العلامة الهادية إلى الشيء، فالآية أنزلها الله، وهو موجود، عليم، حكيم، قوي، قدير، فلا يعبد إلا هو، فهي تقول: لا إله إلا الله. والذي أنزلت عليه لن يكون إلا رسول الله. فتقول: محمداً رسول الله.ولهذا كل الشرائع والأحكام والعبادات تدخل ضمن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أراد أن يدخل في رحمة الله فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يغتسل ويصلي، وهو مستعد لتحمل أعباء هذه الملة، فإن كانت جهاداً جاهد، وإن كانت صياماً صام، وإن كانت زكاة زكى .. وهكذا؛ لأنه عرف عن علم وشهد شهادة عالم أنه لا إله إلا الله، فلم يعبد إلا الله، وليعبد الله بما يريد الله أن يعبد به.إذاً: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] واضحة فيما تدل عليه، فلا غموض، ولا خفاء، ولا لبس، ولا إشكال، ولا .. فهي بينة كالشمس، فالقرآن لا توجد فيه آية غامضة أبداً، بل آياته واضحة وضوح الليل والنهار.

معنى قوله تعالى: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)

قال: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، أي: وما يجحد بتلك الآيات البينات ويغطيها، ويسترها، ويتجاهلها إلا القوم الفاسقون.فإن قيل: ما السر؟ ما العلة؟ ما الحكمة؟ أيها المناطقة! لِم لا يكفر بها إلا الفاسقون؟الجواب أيها الأحباب: لأن الفاسقين غرقوا في الأهواء، والشهوات، والأطماع، والأموال، والدنيا، فإذا جاءت الآية تريد أن تمنعهم من شرب الكأس يكفرون بها .. جاءت الآية تريد أن تصرفهم عن اللهو، والباطل، والعبث، لا يقبلون .. جاءت الآية تأمرهم بالعدل وهم ظلمة لا يقبلونها .. جاءت الآية تأمرهم بالاستقامة فلا يريدونها؛ لأنهم ألفوا الاعوجاج والحياة عليه.فقوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99] أي: وما يجحدها ويتنكر لها بعد أن عرفها، وعرف ما تدعو إليه، وتهدي إليه: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. والفاسقون: جمع فاسق.فإن قيل: لِم ما قال: (والفاسقات)؟الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله. أكرمنا الله، فعرف أننا ذوو غيرة، فلا نقبل أن يتحدث الناس عن نسائنا، أو يتكلم عن حلائلنا، أبداً، ومن إكرام الله لهذه الأمة أن لا يدخل النساء في كل كلام.وقد سمعنا ما جاء في تلك الورقة التي يقول فيها أحدهم: صوت النساء عورة! خرافة.فإن قيل له: لِم يا عم خرافة؟الجواب: لأنه يريد للمرأة أن تحاضر، وتخطب، وتتكلم في المذياع والتلفاز بصوتها الرفيع، وهي تلوي رأسها بعد أن تحسن حالها وشعرها، وتجعل الأحمر في خديها، فلهذا الغرض فقط!! فما قالوا: ليس بعورة إلا لهذا! فهم يريدونها أن تعهر وتفجر، وتخرج من دائرة كمالها وحشمتها واحترامها إلى أن تصبح صعلوكة من صعاليك النساء، تجادل وتخاصم، وتحاضر، فكشفهم الله، وعرفنا خباياهم.ونحن نقول: من منع المرأة أن تتكلم للضرورة .. تتكلم للحاجة الماسة التي لابد منها، وإذا تكلمت في حدود المصلحة، ولو تزيد كلمة فإنها تكون قد عصت ربها، وفسقت عن أمره.وكثيراً ما بينا هذا، وعرفه الصالحات، فإذا قرع أحد بابها فإنها تقول: من، ولا تقل: (مِـيِين) وهذه الإمالة لا وجود لها في لسان العرب، فهذا الحرف لا يمال، إنما يمال: موسى .. عيسى، أما أن تقول: (مِـيين) هكذا بالإمالة فلا، بل تقول: (مَنْ) قاسية هكذا. فإن قيل لها: أين زوجك؟ فإن كانت تعرف تقول: في البيت .. في السوق .. في المسجد. ولا تزيد على الجار والمجرور حرفاً واحداً أبداً، فإن زادت كلمة أخرى فهي آثمة، كأن تقول: عفواً قد يكون الآن في السوق .. مع الأسف في مثل هذا الوقت لا يكون في السوق.. إذاً ممكن الآن في طريقه إلى كذا. فهذا الكلام حرام.فإن قيل: من أين لك يا هذا يا شيخ؟ فإنك تدعي هذه الدعاوى الباطلة، فدلل وبرهن من قال الله .. وقال رسوله؟الجواب: نعم، أما قال الله تعالى للأميرات أزواج محمد وبناته: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، ومعنى قوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: ما فيه الحاجة، أما أن تسترسل في الكلام مع الأجنبي فقد فتحت له باب المحنة.ويغالطوننا ويقولون: ماذا هناك؟ ونحن نعرف أن الفحل إذا سمع صوت الأنثى فإنه يهتز وتتحرك أعطافه.ومع ذلك يقول: لا.. لا، هذا ليس بمعقول.نقول: هؤلاء يخادعون ويغالطون من؟! فهذه الغرائز غرزها الله .. هذه الطبائع طبعها الله، فمن يبدل خلقة الله، ويقول: ماذ هناك إذا تكلمت معها أو ضاحكتها أو صافحتها؟نعم، إذا كان هذا الفحل لا يرى طاعة لله .. لا يرى فسقاً عن دين الله، لا يرى غيرة .. فسيقول: ماذا هناك؟أما إذا كان يحافظ على زكاة نفسه حتى لا تتحول إلى خبث، وإلى زكاة نفس تلك المؤمنة حتى لا يحولها إلى خبث، فهو يحاول أن يقلل ما استطاع من كلمه وحديثه مع هذه المؤمنة.والشاهد غرقوا في الفسق.ومعنى الفاسق: خارج عن الطاعة. مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها على أهل البيت، وتريد أن توقد عليهم النار، أو تأكل عجينهم.فمن فسق عن أمر الله أي: عدل عنه وخرج عنه فقد فسق، ولا يزال المرء يفسق يوماً بعد يوم حتى يطبع على قلبه، فلا يسمع نداء، ولا يعرف إجابة إلى هدى، فقد انتهى أمره لمغالاته في الفسق، وهذه الحقيقة واضحة.

الإسلام يحذر من الاستمرار في المعصية ويدعو إلى التوبة الفورية

الذي يألف شيئاً ويعتاده زمناً طويلاً يتعذر عليه أن يتركه، وقلّ من يستطيع أن يترك عادة تعودها وأشربها في دمه ولحمه، فلهذا الإسلام يحذر من الاستمرار على المعصية، ففرض التوبة وشرعها وأوجبها، وأوجب أيضاً الفورية فيها، لا تقل: سأتوب بعد يوم أو عام، أو بعد شهر أو كذا كذا، كل هذا باطل، فإذا زلت القدم وسقطت، وفعلت المعصية، فمن ثم وأنت تصرخ: لا إله إلا الله قل: أستغفر الله، وأتوب إليه، وكلك عزم على أن لا تعود إليها، ولو صلبت، وذبحت، وقتلت، وهذه هي التوبة على الفور.أما أن تقول: سأتوب فهذا حرام، فمن يحييك غداً حتى تتوب.وكلنا يعرف آية سورة النساء فهي محفوظة لدى المؤمنين والمؤمنات، وفيها بيان كافٍ شافٍ، إذ قال تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] فالله هو الذي تكرم وامتن وأنعم، فجعل التوبة عليه واجبة، وأوجبها على نفسه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وتعهد بذلك لأوليائه وعباده فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].ولنتأمل هذا الهدى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فأثبتها وأوجبها على نفسه تفضلاً منه وامتناناً، ولا يوجب على الله مخلوق من المخلوقات شيئاً، بل هو الذي أوجب على نفسه بنفسه بهذه الصيغة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ والسوء هو ما يسيء إلى نفسك، كأن يقع عليها مثل الدخان، فتسود وتظلم، ثم تعفن وتنتن وأنت لا تشعر، لكن لما تتلطخ النفس وتخبث يظهر ذلك حتى في البهائم، ولا يبقى سراً مكتوماً، فيظهر أثر ذلك في سلوكك .. في منطقك .. في مشيتك .. في معاملاتك .. في حياتك كلها، كالمرض يظهر في سلوك المريض، فيصبح لا يقوى على الكلام .. لا يقدر على الأكل .. لا يستطيع النوم .. لا يقوى على المشي، فأعراض المرض قد ظهرت فيه، فإذا مرضت النفس والله ليظهرن ذلك في سلوك هذا المسكين، كما يظهر المرض في جسمه سواء بسواء.إذاً: ما يسيء هو السيئة وهو السوء.قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أي: ما يسيء إلى نفسه.وعلى سبيل المثال: فإن الكذب.. السب والشتم .. الخيانة .. الغش .. السرقة .. الكبر .. العجب، كل هذه تسيء، وغيرها من سائر الذنوب والمعاصي وتحدث أثراً سيئاً على النفس البشرية التي هي السلطان في الجسم.ثم قال: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فهو يعمل المعصية وهو لا يريد أن يتحدى الله، أما الطغاة والجبابرة الذين يعلمون ويريدون أن يتحدوا الله قائلين: افعل ما تشاء فأنا ضدك، فهذا لن يتوب الله عليه، ولا توبة له.وإنما المقصود بأهل التوبة من يعملها مع نوع من الجهل، وقد فسرنا ذلك غير ما مرة، فتجده يقوله: ها هو الشيخ الفلاني يفعل كذا، وأنا مثله؟ وآخر يقول: لو كان هذا حراماً فكيف تأذن به الحكومة؟ وآخر يقول: إن شاء الله إذا تزوجنا نترك هذه المعصية، وآخر يقول: إذا توظفت إن شاء الله كذا، فهذه أنواع الجهالة، لا أنه يتحدى الله فيقول: أمرتني وأنا لا أفعل، وافعل ما تشاء. فذاك صاحبه لا توبة له، فلهذا تأمل هذا القيد: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]. وقد تجد من يقول: ممكن هذا غير حرام، فها هو فلان يفعله، فيسهل عليه أن يفعل هذا. هذا هو نوع الجهالة.ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب نسبي، فمن الجائز أن المرء قد يقارف ذنباً عشر سنوات ويمكن أن يتوب منه، ومن الجائز أن يقارفه مرة ولن يتوب، ففي ليلة واحدة فقط يسهر في مخمرة ومزناة ثم يخرج لا يعرف الله.فما دامت أن القضية بهذه الصورة فلا ينفعك إلا الفورية في التوبة، والإسراع على الفور، فأنت لا تضمن أنك تعيش عشر سنوات أو عشرين سنة، ولا تضمن أنك تتوب أو لا تتوب، ولا تضمن شيئاً أبداً، لأنك في قبضة الله، ولست في قبضة نفسك، والله قد أرشدك إلى أن تتوب على الفور.ولهذا بالإجماع أن التوبة لا تؤجل حتى الحج .. حتى رمضان. فإذا زلت القدم، ووقعت على الأرض فقل: أستغفر الله وأتوب إليه.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:35 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
المراد بقوله تعالى: (الفاسقون)

قول ربنا: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99]، فما قال: إلا اليهود أو إلا النصارى .. إلا المشركون .. إلا الأغنياء .. إلا الفقراء. إنما قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، والسر في هذا أن الذي يتوغل ويمشي في طريق الضلال دهراً طويلاً يتعذر عليه أن يعود، فلا يستطيع؛ فلهذا الذي يفسق ويفسق في: الزنا .. الربا .. قتل النفس .. الخيانة .. الكذب .. ألـ .. ألـ، يصبح غير قابل للتوبة، فيكفر بالقرآن قائلاً: دعنا من هذا، أنا لا أؤمن بهذه الكلمات التي تمنعنا، وتحول دون رقينا وسعادتنا، وكل هذا نشاهده ونسمعه.أما الإنسان النقي الطاهر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فإنه إذا سمع آيات الله تتلى، وفهم ما تدل عليه، وتهدي إليه، فإنه يقبلها، ويرغب فيها ويحبها، وليس هناك موانع.أما من كانت لديه موانع كحال رؤساء الكنائس والبيع اليهودية، وحال رؤساء مشايخ الطرق، وكذلك هو حال رؤساء الشعوب، فهم لا يريدون أن تخرج الشعوب من أيديهم؛ لأنهم استغلوهم، وتحكموا فيهم، فلا يقبلون هدى الله لذلك.والمراد في قوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] هم فساق اليهود، فما كل اليهود يرفضون آيات الله، ولكن فيهم أمثال ابن صوريا الأعور وفلان وفلان الذين لهم سلطة يتحكمون بها في الشعب اليهودي فيرفضون الآيات، ويكفرون بها؛ لأنها تحول بينهم وبين مرادهم، وهذا ما هو ببعيد أبداً، فإنك تجده بيننا، والذي توغل في أية معصية لا يستطيع أن يتخلى عن المعصية، ولا يؤمن بالآيات.
تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ...)

سجية اليهود وطبيعتهم في نقض العهود

قال تعالى: أيفعلون .. أيقولون .. كذا.. كذا أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ [البقرة:100]، هذه شهادة الله على بني إسرائيل، فهم كلما عاهدوا عهداً جاءت جماعة أخرى ونقضته: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، سواء كان فريقاً كبيراً أو صغيراً. ومن هنا لا تثق في أي معاهدة يهودية أبداً، وإن اضطررت إلى أن تعقد معاهدة فعاهد، واكتب، وأشهد، لكن إياك أن تطمئن فتقول: بيننا وبينهم عهد، والله إن احتاجوا إليك وقدروا عليك ما تركوك لأجل العهد؛ لأنهم طبعوا على نقض العهد، ولقد كان الله يخاطبهم والجبل فوقهم، ومع ذلك نقضوا العهد، فكيف -إذاً- تطمئن إلى عهودهم.هذا الموضوع تكلمنا فيه بحمد لله، وقلنا للعرب: يا عرب! توبوا وأسلموا، وحدوا دولتكم، وحدوا قوانينكم، فأمتكم أمة واحدة، ودينكم دين واحد، فلا مذهبية، ولا فرقة، ولا وطنية، ولا نعرات خارجة عن دائرة الحق، بل أمة واحدة، وما عليكم إلا أن تجتمعوا، وسوف يهرب اليهود منكم، فوالله ما إن يسمعوا بوحدة المسلمين الحقة فلن يبقى يهودي يطالب بإسرائيل، ولا يبقون فيها، بل يرحلون.فإن قالوا: ما زلنا غير مستعدين للإسلام والوحدة و.. و.نقول: لا مانع من التدريج. وبإمكانكم أن تعاهدوا اليهود، وتعقدوا بينكم وبينهم معاهدات سلم وعدم اعتداء حتى يخف الألم على إخوانكم الفلسطينيين، وتزول همومهم، ومخاوفهم، فأمنوهم على الأقل، ولا تقولوا: إذا عاهدناهم لا نستطيع أن ننقض العهد، وهذا معناه أننا أعطيناهم فلسطين للأبد، نقول: هذا الكلام باطل؛ لأنهم هم الذين سينقضون العهد، وليس أنتم، فهذا طبعهم، وهذه غرائزهم، وهكذا عاش أسلافهم إلى اليوم.وقلنا: إن شككتم فانظروا إلى حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل المدينة مهاجراً وتقدمه فحول هاجروا إليها قبله، وأصبح الإيمان في كل بيت، فعقد الاتفاقيات والمعاهدات على السلم وعدم الاعتداء، فهل أنتم أعلم من رسول الله الذي معه الله والملائكة، ولله جند السماوات والأرض، ومع هذا كان من الحكمة والرشد والعقل والمعرفة عقد اتفاقية مع اليهود من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، ونصوصها موجودة، ولو تقرأها تجد فيها العجب، ولا تستطيع أمة الآن تقوم بهذا.

نقض يهود بني قينقاع للعهد

وأول من نقض العهد هم بنو قينقاع، فقد كان لديهم صائغ، نسميه قين أو حداد بلغتنا الدارجة، فهذا الصائغ وهو يصوغ جاءته امرأة مؤمنة تريد أن تشتري وتصنع، فكانت جالسة محتشمة، وعليها حجابها وملاءتها، فجاء هذا اليهودي الخبيث يضحك من خمارها على وجهها يقول: لِم أنت مغطية وجهك؟ لم أنت كذا؟وهذا الكلام يقوله الآن الذين ينتسبون إلى الله والإسلام.يقول اليهودي: لِم أنت هكذا؟ ما هذا التجمد والتحجر؟ كأنه يعيش اليوم؛ فاغتاظ كيف تحجب نفسها، وكيف تغطي جمالها ووجهها. فأبت أن تلتفت إليه أو تتكلم معه، فجاء من الوراء، وأخذ ملاءتها وربطها مع غطاء رأسها، فلما قامت انكشفت عورتها، وصعقت على الأرض تصرخ: واإسلاماه، فشعر بها أهل السوق من المؤمنين، فجاءوا فرفسوه على الأرض، ومن ثم جاء رجال بني قينقاع ودارت فتنة ما هدأها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن نقض يهود بني قينقاع للعهد، وأراد أن يقيم حكم الله فيهم، فشفع لهم أحد رجالات الأنصار، فأعطاه الرسول إياهم، فأجلاهم من المدينة لنقضهم العهد، فما قتل أحداً، ولا سلب مال أحد، فأخرجوا، ونزلوا بالشام بأرض تسمى أذرعات.

نقض يهود بني النضير للعهد

أما بنو النضير فقد دامت المعاهدة معهم أكثر من أربع سنوات، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم مع رجال له كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يطالب بموجب الاتفاقية أن يعطوه مالاً ليسدد دية مقتول، والاتفاقية تقول: أننا نتعاون حتى على تسديد الديات، فإذا لزمت اليهود دية فالرسول يساهم فيها، وهم كذلك، فلما حصل أن مسلماً قتل شخصاً ظنه كافراً وهو مسلم من بني عامر، فجاء يطالب بالمساهمة في الدية.فقالوا: تفضل يا أبا القاسم اجلس، ففرشوا له الفراش وأجلسوه تحت جدار مع أصحابه، وأخذوا يتآمرون: هذه فرصة، وهذا اليوم يوم السعد، واليوم ننهي هذه المشكلة، فقالوا: ائتوا بمطحنة -رحى، معروفة عندنا- وألقوها على رأسه من السطح، فإن قيل لنا في ذلك قلنا: لقد سقطت. وما زالوا كذلك وهم يبحثون كيف يرفعون المطحنة كيف يرسلونها في داخل البيت، فنزل الوحي: قم يا رسول الله. وأخذ رداءه وخرج هو ورجاله؛ فوصل الرسول إلى المدينة، وأعلن الحرب عليهم، فقد نقضوا العهد، وهل هناك نقض أكثر من أن يريدوا أن يقتلوا رئيس الدولة؟!فأجلب الرسول على بني النضير برجاله، وطوق المنطقة واستسلموا وانقادوا، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:1-2].لكن أين أولو الأبصار؟؟يا رب! لا يوجد أحد، فما اعتبر العرب ولا المسلمون، وهذه الآيات ما تقرأ إلا على الموتى.نعم لقد نقضوا المعاهدة بأيديهم فطوقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا، وما قال: اقتلوهم ولا مرغوهم في التراب، ولا أذلوهم، لا، إنما هي عدالة السماء، ونور الله، وما كان منه إلا أن قال لهم: ( اخرجوا واحملوا معكم ما تستطيعون حمله )؛ فأخذوا كل شيء من الفرش والأسرة، والعيدان، وآلات الطبخ .. وحملوا كل ما يستطيعون، حتى إن بعضهم أخذ شباك النافذة فينزعه ويأخذه معه، وبعضهم لديه خشب ممتاز فيهدم البيت ويأخذ الخشب على البعير: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ .

نقض يهود بني قريظة للعهد

أما بنو قريظة في جنوب المدينة فقد استسلموا وانقادوا وعرفوا ما جرى لإخوانهم من بني قينقاع وبني النضير، فثبتوا يتحينون الفرصة لينتقموا ويشفوا صدورهم، ثم جاءت محنة الأحزاب المؤامرة الكبرى، التي ما بلغنا مؤامرة في التاريخ تشبهها إلا مؤامرة الخليج، وإن كان الناس لا يعرفون هذا، فلا نظير لتلك المؤامرة؛ لإنهاء الإسلام وإطفائه.فهذا الزعيم حيي بن أخطب النضري عليه لعائن الله، ما إن خرج مع بني عمه ونزلوا في خيبر في فدك في تبوك في الطريق إلى الشام، قال: والله لأبيتن لكم، ولأنهين هذا الدين وهذا الرسول، وأخذ يركض بين قبائل العرب في الشرق .. في الجنوب .. في الغرب .. في مكة: هيا بنا ننهي المشكلة، فحزب الأحزاب وجمع القوات من الشرق والغرب، وطوقوا المدينة تطويقاً كاملاً، وحشر الرسول ورجاله في جبل سلع خمسة وعشرين يوماً، فلما شاهد بنو قريظة الحصار انضموا إلى المؤامرة ودخلوا مع الأحزاب بوسائط معروفة، وأصبحوا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفوا النقاب عن وجوههم، وشاء الله عز وجل أن يطرد الأحزاب شر طردة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ليس معنى من فوق: من السماء، وليس معنى من أسفل: من تحت الماء، وإنما ذلك بالنسبة للمدينة من جهة الفوقية والسفلية. وهكذا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، وما هي إلا خمسة وعشرون ليلة وإذا بريح الصبا لا الدبور، قال صلى الله عليه وسلم: ( هلكت عاد بالدبور، ونصرت بالصبا )، ريح شمالية شرقية، وهذه الريح لو شاهدتموها لا تسألوا، ففي أول الأيام والليالي برد لا حد له، كأنكم في أوروبا حيث الناس يرتعدون أيام الشتاء، وإذا بهذه الريح -والله- تقتلع الخيم وتضربها، وتقلب القدور التي فيها طعام الجيش، فما كان منهم إلا أن أعلن رئيس المؤامرة -رضي الله عنه الآن- أبو سفيان الرحيل، ونادى المنادي بالرحيل في الليل، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، أي: من الآن نحن الذين نغزوهم، وليس هم الذين يغزوننا.أما بنو قريظة فلم يذهبوا مع الأحزاب، لأنهم مقيمون في المدينة، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، وإذا بجبريل على فرس الحيزوم: ( يا رسول الله وضعت السلاح؟! أما نحن فما وضعنا السلاح، انطلق إلى بني قريظة، وأذن مؤذن في داخل المسجد: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فلبسوا دروعهم وحملوا سلاحهم إلى بني قريظة، وحاصرهم رسول الله، وما سمعوا كلمة إلا واحدة: يا إخوان القردة والخنازير فقط، وفاوضهم وفاوضوه، واتفقوا على تحكيم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، ويسبى النساء والأطفال؛ لأنهم رضوا بحكمه ووافقوا، فلما حكم سعد قال الرسول: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ).فجمع الرجال مكبلين، مسلسلين هنا في المناخة في طرف المسجد، وحفرت لهم حفرة، والسيف يقطع الرءوس، فلا إهانة، لا سب، لا شتم، لا.. لا.. تطهير فقط، وكانوا قرابة السبعمائة رجل، والنساء والأطفال وزعوا على المؤمنين، وما هي إلا أيام حتى دخلوا في رحمة الله وأصبحوا مسلمين.فهل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوه أبداً.إلى الآن في غضب: كيف تتم مفاوضات، وكيف يرضى بهذا؟ تفضلوا، لا نستطيع.عجائب التاريخ! قلنا لهم: يا هؤلاء! ليست القضية قضية تراب، وأرض، وفلسطين، القضية أن يدخل البشر في دين الله، ونحن مطالبون بأن نغزو أوروبا وأمريكا والصين واليابان، وندخل الناس في رحمة الله، وليست القضية قضية أرض لا نعطيها لليهود!! وأي قيمة للأرض والتراب والطين؟ولكن هذا الكلام لا يفهمونه، وما عرفوه بعد، فهل جلسوا هذا المجلس وتعلموا؟فهم لا يعرفون.الشاهد عندنا في قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فاحذر يا عبد الله الفسق، واحذري يا أمة الله الفسق، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك الواجب وفعل الحرام، فمن أخذ يترك الواجبات، ويتخلى عنها واحداً بعد واحد، وأخذ ينغمس في المعاصي، ويرتكبها معصية معصية، فسيأتي يوم يكفر بالله ولقائه، لا بآياته فقط.وما قال: إلا اليهود .. إلا بنو فلان.. لا، قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ ليحذر من الفسق ويبين نتائجه، فإن الفاسق يوماً بعد يوم يعمى البصيرة، ولا يصبح يعرف شيئاً، ويكذب الله ورسوله وبآياته.ثم قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فما يجمعون على نقضه، ولابد فريق ينقض ويسكتون، وهذا الذي يحصل.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ...)

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:101]، أي: ولما جاءهم رسول عظيم الشأن .. رسول جليل القدر .. رسول فوق الرسل .. رسول إمام الرسل، ليس رسولاً عادياً قد لا يبالون به أو لا يصدقونه. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وهذا التنكير في لغة العرب يدل على التعظيم.وهذا الرسول ليس يحيى، بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.وقد جاءهم بالفعل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]؛ فهو إلى اليهود والنصارى، والبوذيين، والمشركين، والمجوس، وكل الملل والنحل، فهو رسول الله إليهم.وتريدون دليلاً أو برهنة؟من يوم أن توفي الرسول من قبل حوالي أربعة عشر قرناً، ما جاء رسول أو نبي في الأرض كلها؛ لأن الله أعلم أنه ختم النبوات بهذه النبوة، وختم الرسالات بهذه الرسالة، فلهذا ما جاء رسول، وهذه وحدها تجعل العاقل يشهد أن محمداً رسول الله، فما كانت البشرية تمضي عليها السنون وعشرات الأعوام وليس فيها نبي ولا رسول، فلابد من نبي ينبئها ويخبرها؛ لأنها خلقت لتعبد الله، وتذكره، وتشكره، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].قال: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] ما الذي حصل؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، وكتاب الله هنا التوراة .. الإنجيل، إذ فيهما نعوت الرسول وصفاته واضحة كالشمس، حتى المكان الذي يخرج منه: بين جبال فاران .. مدينة طيبة .. بلد تسمى يثرب .. أرض سبخة فيها كذا، ففيها نعوت كل من يفتح عينيه يرى الرسول. ومع هذا عموا عمى كاملاً، وأنكروا نكراناً كاملاً.ثم هذا الرسول مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فلو جاء بدين يتناقض مع دينهم لقالوا: لا نقبل هذا، هذا جاء يحرم علينا ما أحل الله، أو يحل لنا ما حرم الله، أو يأمرنا بما لا نطيق، فهذا ليس بدين الله، وقد يكونون معذورين، لكنه والله جاءهم بما عندهم، فكل الأديان قامت على لا إله إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وبين رسوله الذي أرسله، وكل الأديان مجمعة على هذا، وكل الأديان تعرف أنه لابد من لقاء لله عز وجل، وأنه لابد من الجزاء على الكسب الدنيوي، وأنه إما عالم شقاء أو عالم سعادة فلابد منهما، وأن الظلم حرام، والخبث حرام، والسرقة حرام، والربا حرام .. و.. و.. وكل المحرمات عندنا محرمة في الكتب؛ لأنها ضارة بالناس، فلا يحرم الله إلا ما يضر بالناس.إذاً: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فليس هناك تناقض ولا منافاة ولا مضادة، فلم لا يقبلونه؟ قال: (نبذه) النبذ: الرمي، فلا تلتفت إلى ما يقوله هذا الرسول فارمه وراء ظهرك، (نبذه فريق) كبير منهم، وهذا الفريق هم الرؤساء المستغلون للشعب اليهودي، الذين يعيشون على حسابه فهم الذي يرفضون الحق.وبعض البهاليل يقولون لـأبي عبد الله وأبي سالم : كيف تجعلون القرآن وراء ظهوركم؟ فيأتون يشتكون إلي يقولون: الله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، فكيف يجعل هؤلاء القرآن وراء ظهرهم؟فقلنا لهم: معنى جعله وراء ظهره أي: ما عمل به؛ لأنهم وضعوه وراء ظهورهم، فما الفائدة أن يضعوه وراء ظهورهم، فلا يلتفتون إليه ولا يقبلون عليه، وإخواننا هؤلاء مضطرين لكبر سنهم يتكئون على العمود، والمصاحف خلفهم في الدولاب. لكنهم أصروا وقالوا: لا تعطه ظهرك، فالله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ !وهذا سوء فهم؛ فقوله: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ معناه: ما عملوا به، ولا قرءوه، ولا فتحوه، ولا ولا؛ لأنه جاء ضد أهدافهم وأغراضهم.ثم قال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]، أي: لا يعلمون شيئاً، لا صفة الرسول ولا نعته ولا صفة الإسلام ولا أمة الإسلام ولا.. ولا، فهذه النعوت حتى للأمة موجودة.وماذا فعلوا؟تركوا التوراة؛ لأنها تتفق مع القرآن وتمشي معه، ولجئوا إلى السحر والباطل، فالشياطين كتبت كتاباً؛ شياطين الإنس مع شياطين الجن على عهد سليمان، ودسوه تحت السرير بواسطة آصف ، فلما مات سليمان أخرجوا الكتاب وصاحوا في الأمة: انظروا لقد كان سليمان يحكمكم بهذا الكتاب الذي فيه السحر، فسليمان ليس بنبي ولا برسول بل هو ساحر، ولهذا استخدم الإنس والجن، وتحكم في العالمين بالسحر، وهذا الكلام سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:37 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (73)
الحلقة (80)




تفسير سورة البقرة (43)

كان اليهود يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: (راعنا) وكان المسلمون يقولون هذه الكلمة، فنهاهم الله عنها، وأبدلها بكلمة: (انظرنا) لما في تلك الكلمة من معنى الرعونة، وكان هذا خبثاً وسوء أدب من اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب تعظيمه وتوقيره، ولهذا وجه القرآن الصحابة إلى جملة آداب في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا السباقين في ذلك.

بعض طرق علاج السحر

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:104-106].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.أعود بالأبناء والإخوان إلى الدرس الماضي، إذ فاتني أن أذكر لهم فائدة يعالج بها السحر، نجانا الله وإياكم منه، فقد ذكر السلف أن من أصيب بالسحر يأتي بسبع ورقات خضر من شجر السدر، وهو موجود في بلاد العالم، ويدقها بين حجرين، ثم يضعها في ماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ومن الخير أن تكون القراءة ثلاث مرات أو سبع مرات كعهدنا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأحياناً ثلاثاً وأحياناً سبعاً، ثم يحسو منها ثلاث حسيات، وما بقي يغسل به جسمه، مع تعلق قلبه بالرب عز وجل، إذ لا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه، فهو الذي خلق الداء والدواء، فلابد من تعلق القلب بالله، وما هذا العلاج إلا سبب عرفه السلف وأذنوا فيه، فيعمله المؤمن رجاء أن يشفيه الله من هذا الألم الطارئ عليه بواسطة السحرة عليهم لعائن الله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ...)


واجب المسلم مع الآيات التي يتصدرها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
هنا نداء إلهي جليل عظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فالمفروض أن نقول بألسنتنا وبقلوبنا: لبيك اللهم لبيك، فقد نادانا بعنوان الإيمان، والمؤمن حي يسمع ويبصر، يعقل، ويفهم، ويقوى على العمل، ويقدر على الترك؛ لوجود الحياة الكاملة، وقد اكتسب هذه الحياة من الإيمان بالله، ومن معرفة الله، فأصبح حياً متهيئاً لأن تأمره فيأتمر، ولأن تنهاه فينتهي؛ لكمال حياته.أما الكافر فهو ميت، لا يسمع نداء المعروف والخير، ولا ينهض بعمل استحبه الله أو ندب إليه، أو أوجبه على عباده، ولا يتخلى أيضاً عن فعل كرهه الله وأبغضه وأبغض أهله، وذلك لفقدانه الحياة.ومن تساءل يريد برهنة أو تدليلاً، فالجواب: أن أهل الذمة الذين يعيشون في ديارنا الإسلامية من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم لا نكلفهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام؛ لأنهم أموات، أفتكلف ميتاً؟! أفتأمر ميتاً وتنهاه؟! هذا من غير المعقول.لكن يوم أن تنفخ فيه الروح، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن تلك الساعة إذا قلت له: اغتسل، فإنه يغتسل من جناباته .. قلت له: طهر ثيابك فإنه يطهرها .. قلت له: اشهد صلاة ربك في بيته، فإنه يشهدها، فأصبح قادراً على أن يعمل، قلت له: غداً الصيام فيصبح صائماً؛ وذلك لدخول الحياة فيه، إذ الإيمان روح، فإذا سرت الروح في الجسم أصبحت العين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق إلى غير ذلك.
نهي المؤمنين عن قول: (راعنا) للرسول صلى الله عليه وسلم واستبدالها بـ(انظرنا)
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نادانا لأي شيء؟ هل ينادينا لغير شيء؟ تعالى الله عن اللهو واللعب، ينادينا إما ليأمرنا أو لينهانا أو ليبشرنا أو لينذرنا أو ليعلمنا .. فحاشاه أن ينادي أولياءه وعباده المؤمنين لا لغرض سامٍ وشريف.وبعد هذا النداء قال: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] وهذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين رجاله، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.ولم نهاهم عن هذه الكلمة وهي: رَاعِنَا واستبدلها بأخرى بمعناها وهي: انظُرْنَا ؟سبب هذا أن اليهود استغلوا فرصة سنحت لهم يتمكنون بواسطتها من أذية رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدة مكرة، وهذه الفرصة أنهم سمعوا بعض المؤمنين يقولون: راعنا يا رسول الله، فلما يكلمهم ويلقي الحكمة أو الحكم بينهم، كان بعضهم يسهو ويغفل، ثم يطالب الرسول أن يتمهل في إلقاء كلامه حتى يسمع ويفهم، فيقول: راعنا -يا رسول الله- في كلامك حتى نحفظ ونفهم. وراعنا باللغة العبرية فيها معنى الازدراء والتهكم والسخرية، إذ هي من الرعونة، فتراهم -عليهم لعائن الله- وهم في المجلس قد يتغامزون ويتضاحكون، ويقولون: راعنا يا رسول الله، وأنتم تعرفون، واعرفوا من الآن أن السخرية برسول الله كفرٌ بواح، ولا حظ في الإسلام لمن يسخر من رسول الله أو يستهزئ به، أو يقول له كلمة سوء؛ لأن مقام النبوة مقام سامٍ، وشريف، وعالٍ، وسنستعرض بإذن الله الآيات الآمرة لنا بالتأدب مع رسول الله.فلما كانت هذه الكلمة تدل في لغتهم وعرفهم وما هم عليه في بيوتهم على الاستهزاء والسخرية أصبحوا يتبجحون: راعنا يا محمد. فنادى الله عز وجل أولياءه من عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا لرسولنا لنبينا: رَاعِنَا وهذه الكلمة من الآن لا يقولها مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقُولُوا انظُرْنَا ومعناها: أمهلنا وأنظرنا حتى نسمع: وَاسْمَعُوا لأن بعض الغافلين من أمثالنا قد يكون جالساً في حلقة العلم وإذا به يسرح بخاطره هنا وهناك، فلما تفوته الكلمة يقول: أنظرني، وهذا لا يحل أبداً، فيجب أن تسمع، ولا تنصرف بذهنك، ولا بقلبك، ولا بسمعك، وبعد ذلك تراجع وتقول: أنظرني أو أمهلني، فقوله: وَاسْمَعُوا أي: ما يقول لكم رسول الله؛ إذ لا يقول إلا حقاً، ولا يقول إلا آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، أو ناشراً للآداب والأخلاق فيكم، فكل كلمة ينبغي أن لا تضيع؛ لأنها الحكمة.وإياك أن تفهم أنك تستطيع أن تأخذ كلمة من كلام الرسول لا فائدة فيها، والله ما كان، أليس هو الذي قال الله فيه: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].وبالفعل ما بقي من أولئك الأصحاب من يقول: راعنا يا رسول الله، ولا من يقول: أنظرنا بعد أن يسرح بذهنه وقلبه، ويفوت الفرصة عليه، ثم يريد أن يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بشر، وأكثرهم ما تعلموا، فهذا دخل في الإسلام من أسبوع، وهذا من ستة أشهر، ومن هنا كان الله عز وجل يؤدبهم ويعلمهم.والأصل في الإنسان الواعي البصير أن سؤالاً واحداً يلقى في حلقة علم يدل على حكمة .. أو على معنىً سامٍ فيكفيه أن يقول: أنا سأحفظ هذا السؤال وجوابه، وأعلمه، وأعمل به، ولا أريد أكثر من ذلك.لكن العلة أننا فارغون، ولسنا مستعدين لأن نعلم فنعمل ونعلِّم، ولو كنا نشعر بهذه المسئولية فالجدير بي أن أقول: لا تزدني كلمة أخرى، فأنا ما أقدر، وحسبي هذه القضية -الآن قد فهمتها- تبقى في نفسي أراجعها، وأخرج من المسجد ألقيها في أرض تنبت لنا البقل والزرع فألقيها إلى امرأتي .. إلى ابني .. إلى جاري حتى تستقر، وهكذا ننمو ننمو حتى نبلغ الكمال.
أدب المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم

أولئك الصحابة أدبهم الله تعالى فاسمع إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12].فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي: إذا أردتم أن تخلوا به، وتتكلموا معه، ومن الطبيعي أن كل واحد يريد أن يخلو مع رسول الله، لكن هذا الرسول كم يكون؟ وكيف سيقسم الوقت؟نعم، أنتم تحبون رسول الله، وتريدون أن تدخلوه في أحشائكم وقلوبكم ولكنه إنسان؛ بشر، ولا يمكن أن يوجد في كل مكان، وأنتم تعرفون رغبة الطلاب مع علمائهم، كل واحد يريد خمس دقائق، فكيف بالصحابة مع رسول الله، فأدبهم الله تعالى وقال لهم: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] أي: إذا عزمت على المناجاة فقدم بين يدي مناجاتك صدقة، فأولاً ألق ريالاً في يد الفقير وتعال، أو ضع عرجوناً في المسجد من التمر وتعال تكلم مع الرسول.فما إن بلغهم هذا الخبر حتى جفلوا، ولو استعملناها عندنا، لا يبقى أحد يسأل.إذاً: فلما تأدبوا وعرف الله عز وجل -وهو العليم الحكيم- أدبهم واستقامتهم نسخ هذا الحكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: هذا العمل خير وأطهر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] لأنهم كَلَّوا وشحوا، فرفع الله عنهم ذلك القيد، ونسخه إلى غير شيء، وأصبحوا يشتاقون إلى رؤية من يأتي من البادية أو من مكان بعيد ليسأل حتى يستفيدوا.ومن ذلك أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام وهم في حلقتهم في تلك الروضة النورانية، والرسول بين أيديهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بهذا الرجل من طرف الحلقة يشق الصفوف، حتى ينتهى إلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلس بين يدي رسول الله، ( وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فأعطى كله للرسول .. قلبه .. مشاعره .. وجهه .. جسمه، وهكذا حتى ما يقوى على الالتفات، ووضع يديه على فخذيه صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم صورة مثالية لتعلم العلم وتلقيه، وأخذ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله -أولاً- عن الإسلام، فأجابه، وقال: صدقت. وسأله عن الإيمان فأجابه وقال: صدقت. وسأله عن الإحسان فأجابه، وقال: صدقت، قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) فهذا معناه أنه عالم بما يقول، وهو كذلك، فلما سأله عن الساعة قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ ) فالمسئول هو الرسول والسائل هو جبريل، فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) وما قال: ما أنا بأعلم منك يا رسول الله؛ لأنه كان متنكراً.ثم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن أماراتها وعلاماتها ) وأنتم تقولون: أنا سأذهب الآن إلى الأمارة، وهذا خطأ، والصواب: إلى الإمارة، وكذلك عندنا (الإمارات) البعض يسميها الأمارات، والأصح: الإمارات.وجبريل هنا قال: ( أخبرني عن أماراتها ) والأمارات: جمع أمارة، وهي العلامة، وبالفعل أخبره عن أمارة، والله لقد وقعت، وهي مشاهدة وموجودة في أوروبا، وفي الشرق، وفي الغرب، وفي المدينة.ما هذه الأمارة؟قال: ( أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) فما كانوا قبل يعرفون التطاول في البنيان هذا، وكان أكبر طابق عندهم علوي وسفلي فقط، والمدن كلها كالفلل، ليس هناك بيت أعلى من الثاني، والآن العمارات تجد فيها عشرة طوابق، وأخرى عشرين طابقاً، وهذا هو التطاول في البنيان الذي قد وقع.فالحفاة، العراة، رعاء الإبل أو الشاء أو البقر في العالم أصبحوا يتطاولون في البنيان، وهذه علامة من علامات الساعة وقعت كالشمس من أكثر من مائة سنة تقريباً.فلما خرج السائل قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من هذا؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ) فعلمهم كيف تكون الأسئلة، وكيف يكون الجلوس، وكيف يكون التلقي. هذا الأدب الأول.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:38 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
أدب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله

هنا أدب ثان كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] فهنا منعهم من أن يقدم أحدهم رأيه أو ما يراه والرسول موجود.فقوله: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: لا تقدموا آراءكم وما تعلمون وما تفهمون، فإذا أمر الله فافعلوا، وإذا نهى الله فاتركوا، وإذا أمر رسول الله فافعلوا، وإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا، وهذا الأدب والحكم يستمر إلى يوم القيامة، فليس من حق إنسان مهما ارتفع أن يقدم على آي القرآن رأياً أو يقدم على أحاديث الرسول رأيه، بل هو دائماً وراءه، فإن عدمنا القرآن والسنة فحينئذ ننظر في أقوال أهل البصائر والنهى والعقول الذين يعملون على الإصلاح لا الإفساد .. يعملون على تزكية النفوس لا تخبيثها، ولهم أن يجتهدوا، ويوفقهم الله عز وجل.وهذا حديث معاذ إذ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، فسأله: ( بم تحكم يا معاذ ؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ -أي: في كتاب الله- قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ) فهو -أولاً- قد أحاط وألم بكتاب الله؛ القرآن، ثم أحاط وألم بالسنة، فأصبح ذا نور، فعرف مقاصد الشرع وأهداف الشريعة وما تدعو وتهدف إليه، وهو الإصلاح للفرد والجماعة .. للأبدان والأرواح، فما وجد ما يحقق هذا فهو مما أمر الله به أو أمر به رسوله، فإن وجد ما ينقض هذا فهو باطل، من وحي الشيطان.

أدب عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم

هنا أدب ثالث أدب الله تعالى فيه صحابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فمنعهم منعاً باتاً أن يتكلم أحدهم مع رسول الله، ويكون سؤاله أعلى من صوت رسول الله.فقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فأنت عندما تتكلم مع الرسول تسأله أو تريد أن تأخذ أو تعطي يجب أن يكون صوتك أخفض من صوت الرسول، مع أن صوت الرسول ما هو كصوت عامة الناس، بل كله أدب وخلق فاضل.ثم قال: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] وأيضاً صوتك يجب أن يكون دون صوت الرسول، فلما تتكلم مع الرسول لا تتكلم معه كما تتكلم مع عمر أو خالد أو فلان، فتستطيع أن تتبجح، وتعلي صوتك، وتلتفت، أما مع الرسول فلا.اسمع ماذا قال بعد ذلك: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] فتبطل كلها وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فخافوا هذا الموقف مخافة أن تحبط أعمالكم، وحبوط العمل بطلانه، فلا ثواب عليه ولا جزاء فيه.

أدب عدم مناداة الرسول كمناداة غيره

هنا أدب آخر أدبهم الله به، فقال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فإذا ناديت أخاك أو أباك فقل: يا عمر! يا خالد! يا عثمان! أما الرسول فتناديه بـ يا أحمد؟ فلا والله -واسمه أحمد ورد في سورة الصف وفي الإنجيل- لأنك تكون قد سويته بسائر الناس، ولا تقل: يا محمد، لا لا أبداً.ولما ناداه الله عدة نداءات، هل ناداه بـ يا محمد؟هذا القرآن بين أيديكم، ما ناداه إلا بعنواني: النبوة والرسالة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، والله ما ناداه إلا بعنوان النبوة والرسالة، وكان بعض الأعراب يأتي وينادي: يا محمد! وهذا معناه أنك سلبته النبوة، وإن سلبته النبوة كفرت، وإذا تنكرت للرسالة وما قلت: يا رسول الله، فمعنى هذا أنك كافر، إلا أنه لا يكفَّر؛ لأنه لا يدري.إذاً: نحن نهينا عن مناداة الرسول كمناداة لغيرنا من الناس، لأن معنى ذلك أنني ما اعترفت بنبوته فتقول: يا فلان: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].وهذه الآداب يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفها ويعيش عليها.

أدب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره

الآن لو نقف أمام الحجرة الشريفة ونشاهد إخواننا كيف يسلمون على الرسول، لو كنا بصراء، عقلاء، لو كنا معلمين كيف يكون السلام؟وهنا أريكم صورة: الذين يدخلون على الملوك والرؤساء، كيف يأتي الزوار يسلمون عليهم، الملك أو الرئيس جالس والزوار كل واحد يقول: السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، فيسلم الألف في لحظات، وفي دقائق، مع احترام، وتبجيل، وإكبار.أما كيف يسلم الناس الآن على رسول الله؟ كتل متضاربة، فهذا يسلم، وهذا يقرأ، وهذا كذا، وهذا يدعو، وكل ذلك لأنهم ما عرفوا.أما كان أصحاب رسول الله يسلمون عليه؟ وهل بلغكم أن أحدهم لما كان يأتي من مكة بعد الفتح أو من مكان آخر يقول: السلام عليك يا رسول الله ويأخذ في الدعاء، والله ما حصل، فكيف يحصل الآن، ولا فرق بين حياة الرسول وموته؟ والأدب الذي يكون له أيام حياته يجب أن يكون له أيام موته، وهل هذا هو الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟المفروض كما قلنا: ليس هناك جماعات واقفة، بل الناس في صفوف تجيء المرأة، ويجيء الرجل يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ويمشي إلى بيته أو إلى المسجد فيلف من جهة ثانية، ولا توجد هذه التكتلات، والتجمعات، والأدعية، والكتب و.. و.. لأن كل هذا من سوء الأدب مع رسول الله.قد يقول قائل: هذا حبي، وهذا كذا.نقول: لا ينفع، فقد سبقك من هم أحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مليون مرة، وما كانوا يفعلون.ولم يثبت في السنن -ومصادرها معروفة- وفي الصحاح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الحجرة ويسلمون على الرسول، إلا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكان إذا سافر وعاد يأتي الحجرة ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف ما السر في هذا؟ حتى فتح الله علينا أجمعين وعرفنا.وأحد المؤمنين يصلي كل صلاة صبح عند الباب، ويحمل سجادته بعد السلام، ويمشي ليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم. وهذا ليس عنده علم، زادكم الله علماً.وقد فتح الله علينا وبينا للناس، فنحن نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه، كفاحاً كلما نصلي ركعتين، وقد نسلم على الرسول خمسين مرة في اليوم، فأنت لما تصلي الركعتين في الفريضة تجلس بين كل ركعتين تقول: التحيات لله، فأنت بين يدي الله تعالى وتحييه في تلك الجلسة، والتحيات جمع تحية، ولا توجد تحية عرفتها البشرية إلا لله.وسبحان الله! الصلاة هذه لم يعطاها سواكم، وجميع أجزاء الصلاة تحيات، والواقع يشهد، فالقومة المعتدلة يقفها العسكري تحية أمام الجنرال، وإذا وقف بشكل غير صحيح أو تمايل صفعه الجنرال.وقال تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] ولهذا لا يحصل لمن يقول: الله أكبر في الصلاة، وهو مطأطئ رأسه، فوجهك هكذا، وهذه تحية.ونحن نحيي ربنا بكلتي يدينا، إلا إذا كان مشلولاً أو مقطوع اليد، فترفع يديك استسلاماً، وخضوعاً، وانقياداً لربك عز وجل، وهي تشابه التحية الفرنسية.كذلك الركوع بامتداد الصلب، واستواء الظهر، وأنت بين يديه ممدود، هذه تحية، وحيا بها البشر عظماءهم.أما السجود فهو أفظعها وأعظمها، فيضع وجهه على التراب، وكفيه، وركبتيه خضوعاً لله عز وجل، وهذه تحية.وأما التشهد فهو رمز للوحدانية، فأنت تتشهد وأنت تقول هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المؤمنين اليمنيين جاء يطوف وهو يعمل هكذا بيديه الاثنتين، فقال الرسول: ( وحد وحد ) يعني: إصبع واحدة فقط؛ لأنها تشير إلى الوحدانية: لا إله إلا الله، فهذا في التشهد بمجرد ما تبدأ وأنت هكذا وتؤكد كلامك: ( التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي )، وكان يحركها يدعو بها أي: يؤكد بها دعاءه.إذاً: نحن حيينا ربنا.ونبدأ بعد ذلك برسول الله، إذ لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبعد التحيات والصلوات والطيبات نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فوالله العظيم إنها لتصله فوراً.فإن قال قائل: يا شيخ! لا يحتاج إلى الحلف.أقول: الآن وأنت في بيت الله تستطيع أن تتكلم مع اليابان والصين، فقبل هذه الصناعات نعم كان المؤمن فقط هو من يصدق، أما الآن فلا تشك في هذا، أليس عندك عقل؟ وأمواج الأثير من خلقها؟ ومن ينقلها؟ونحن عندنا في الأحاديث أنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فإنها تأخذ تتموج وتتموج حتى تملأ الجو كله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، قلنا: كيف تملأ هذه؟ أنت تقولها: سبحان الله والحمد لله فتأخذ تتموج في الهواء حتى تملأ الفراغ ما بين السماء والأرض، وتعطى الأجر كاملاً.إذاً: عرفتم السر، وصار ليس هناك حاجة إلى أن تذهب إلى القبر وتسلم أبدا، فإذا جئت من بعيد، وأنت مشتاق تريد أن تقف أمام قبر رسول الله فنعم، لكن أن تكون في المسجد كل يوم، وكل ساعة فهذا قد كرهه مالك لأهل المدينة، فلا ينبغي هذا.لكن الآن عرفنا، لسنا نحن في حاجة، فقط كن واعياً، وكم من مصلٍ لا يشعر أبداً أنه تكلم مع الرسول، والله أحياناً أعيدها مرة ثانية، وقلت لكم لما أقول: السلام عليك أيها النبي وأنا غافل أرجع مرة ثانية وأقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وجهاً لوجه.وأقص عليكم رؤيا؛ لأن هذا الموقف للتعليم، فقد كنت أشعر في أيام مضت لماذا لما أسلم على الرسول في قبره كل يوم إلى أن أسافر فأشعر بألم نفسي، فرأيت الحجرة النبوية في بيتنا، وأنا أقول: سبحان الله! الحجرة بين يدي وأنا في هذا الشوق، كيف هذا؟! فعرفت أننا إذا سلمنا عليه في صلاتنا فنحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقط كن شاعراً، حاساً، واعياً، فاهماً أنك تسلم على رسول الله وهو يسمع كلامك، وقد قال: ( صلوا علي وسلموا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) وهذه قالها في حياته، ولا فرق بين من هو في الصين أو في أمريكا أو في كندا، ولو وعى المؤمنون هذا لا يتزاحمون، لكن لا علم، وما تعلموا.وها نحن مع هذه الآداب النبوية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] حتى لا يفوتكم الكلام وتقولوا: راعنا أو أنظرنا. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104] هذا حكم الله، وللكافرين بالله ورسوله، وكتابه، وشرائعه لهم عذاب أليم، وهذه ضربة على رءوس اليهود الذين يمكرون ذلك المكر.

تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ...)

قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] لما نزلت هذه الآية اغتاظ اليهود؛ لأنهم صفعوا صفعة عنيفة، فالله أخبرنا بواقع، أنه -والله- لا يود بريطاني، ولا فرنسي، ولا ياباني، ولا صيني، ولا روسي، ولا عربي، ولا أعجمي من غير المؤمنين، لا يودون أن ينزل علينا خير من ربنا، لا مطر، ولا وقرآن، ولا شيء اسمه خير.وإياك أن تفهم أن مجوسياً أو صابئاً أو يهودياً أو نصرانياً يحب لك الخير، وأن يحفك الله به، والله ما كان. والتجارب واقعة.إذاً: فلم نحبهم نحن؟!هذه آيات الله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] فالقرآن، والأحكام، والشرائع، والرحمات، والبركات، والخيرات تنزل من عند الله، وهي كلها خير، حتى الصحة والأمن لا يريدون، عيشوا مرضى فقراء حتى يستغلونا أو يستعبدونا. ثم قال: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] فافزعوا إلى الله وارفعوا أكفكم إليه، وعلقوا قلوبكم به، ولا يضركم حسد اليهود، ولا النصارى، ولا المشركين، ولا البوذيين؛ فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] والفضل ما زاد عن حاجتك وأصبحت لست في حاجة إليه، كثوب قديم أو ريال زائد، والله عز وجل لو يعطينا ما بين السماء والأرض ما هو إلا فضل، لأنه غني غنىً مطلقاً، وليس في حاجة إلى إبل ولا غنم ولا ذهب ولا فضة، فكل هذه المخلوقات هو في غنى عنها، وأصبحت كلها فضل: ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يؤتي من يشاء من فضله، وهو ذو الفضل العظيم.معاشر المستمعين! استفدنا شيئاً ممكن نعمل به، ونعلمه، ونصبح عظماء في السماء؟روى مالك في موطئه: أن من علم وعمل بما علم وعلَّمه -أي: الناس- دعي في السماء عظيماً. فمن هم عظماء الرجال والنساء؟!كنا نقول: إن أفلاطون ونابليون هؤلاء من عظماء الرجال الذين درسنا عنهم في الكليات.الله أكبر! مَن عظماء الرجال والنساء؟هم الذين يتعلمون العلم الإلهي، ويعملون به، ويعلمونه، فيدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء.وهذه الكلمة ما فهمها الناس، ولا واحد من مليون مسلم، فلهذا قلَّ من يتعلم مسألة في مجلس كهذا، ويعمل بها فوراً، ويعلمها على الفور، مؤمناً بهذه التعاليم وهذه الآيات، ولا لوم؛ لأننا ما جلسنا في حجور الصالحين.والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (74)
الحلقة (81)




تفسير سورة البقرة (44)


يعتبر النسخ من القضايا المهمة التي بحثها علماء الإسلام، حيث نص القرآن على وجوده، ومن خلال هذا النص قسَّم العلماء النسخ إلى عدة أقسام منها: النسخ إلى بدل أثقل كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ إلى بدل أخف كنسخ وجوب قتال المسلم لعشرة إلى قتال اثنين، ونسخ إلى بدل مساوٍ كنسخ استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، والأمر كله لله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.وهذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:106-108].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زالت الآيات في تقريع وتأديب بني عمنا بني إسرائيل؛ اليهود، وبنو عمنا هم أولاد إسحاق، ونحن أولاد إسماعيل، وما حسدونا إلا لأنهم بنو عمنا، وقالوا: كيف ينتقل الوحي والرسالة والنبوة إلى أولاد إسماعيل ويحرم منها بنو إسرائيل؟ومن تدبير الله عز وجل أن القرآن لما كان ينزل في هذه الديار كان اليهود موجودين بالمدينة وفي الحجاز، ليتم ما أراد الله من فضح وكشف سرائرهم، وبيان مكرهم وخداعهم.أرأيتم لو كانوا غير موجودين في المدينة والقرآن ينزل؟! فسبحان الله العظيم! والله إنه لتدبير العليم الحكيم.

الرد على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في شرائع الله

قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] نمحها من قلب رسولنا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]. وقالت اليهود: لا وجود للنسخ في شرائع الله، ومن أين يأتي هذا النبي بما يقول؟ولهم في ذلك مكر وخداع، فهم لا يريدون أن يكمل الله هذه الأمة، ويتدرج بها من حال إلى حال؛ لتسعد وتكمل، وهم في هذا -والله- لكاذبون وماكرون.وهم يقولون في افترائهم: كيف يشرع الله عز وجل حكماً وبعد ذلك ينسخه؟ أما كان يعلم صلاحه من فساده؟فقال لهم علماء هذه الملة المباركة:أولاً: كم سنة كان آدم عليه السلام وهو يزوج بناته بأولاده، وكيف تناسلنا؟ وكيف تواجدنا على سطح الأرض؟كان آدم يزوج بنته من هذا البطن مع ابنه من البطن الثاني فترة من الزمن، ثم نسخ الله ذلك، وحرم نكاح الأخوات بالإجماع، أليس هذا نسخاً واضحاً كالشمس.ثانياً: في عهد نوح عليه السلام حدث الطوفان على الأرض فما نجا منه إلا أصحاب السفينة، فكل من على سطح هذه الأرض من أبيض وأسود وأصفر غرقوا إلا أصحاب السفينة، وهم نيف وثمانون رجلاً وامرأة فقط، ولهذا يعتبر نوح أبا البشرية الثاني، فآدم تناسل مع حواء، وكان نوح مع تلك الزمرة المعدودة المحدودة في سفينة، فأذن الله تعالى له ولمن معه أن يأكلوا سائر الحيوانات، فلما رست السفينة، وانتهى الطوفان، وهبطوا إلى الأرض كانوا مضطرين أن يأكلوا كل ما يحصلون عليه، ونسخ الله عز وجل ما شاء من تلك الحيوانات، وأبقى ما شاء.ثالثاً: وكذلك إبراهيم عليه السلام نسخ الله أمره، إذ قال له وقوله الحق من سورة الصافات أو اليقطين: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فيقول إبراهيم الخليل عليه السلام لغلامه وطفله الصغير، وهو في الثامنة أو التاسعة من عمره: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، ورؤيا الأنبياء المنامية حكمها حكم الوحي سواءً بسواء، فيوحي الله إلى الرسول وهو يقظان، ويوحي إليه وهو نومان، ولا فرق، إذ الإلقاء يكون في القلب النقي الطاهر فيتلقى سواء كان صاحبه نائماً أو كان يقظاناً.قال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يا إسماعيل.فأجاب ذاك الطفل النوراني ابن هاجر القبطية المصرية: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] ما قال: افعل ما تريد .. افعل ما تحب، لا. قال: افعل ما تؤمر به، فإذا أمرك سيدك بذبحي فاذبحني، وإذا أمر سيدك بإبعادي فأبعدني: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] فهذا هو الغلام الذكي الطاهر النقي؛ لأنه من شجرة مباركة هي هاجر .وقد حفظنا لها كلمة، لو نجمع جامعيات نساء العالم -والله- ما وقفن هذا الموقف. فإن قال قائل: لم الشيخ ينكت على الجامعيات؟أقول: لأننا ذقنا المرارة، وما زلنا نتجرع الألم من خروج النساء وسفورهن في وظائفهن، واختلاطهن بالفحول، فخمت الدنيا، وتعفنت بالفجور.فإن قال قائل: ما هذه الكلمة؟أقول: لما أمر إبراهيم عليه السلام بأن ينقل هاجر وطفلها إسماعيل من القدس إلى مكة بأمر الله، والعلة في ذلك أن سارة عليها السلام امرأة إبراهيم وبنت عمه كانت لا تلد، فهي عاقر أو عقيم، فلما تسرى إبراهيم هاجر التي وهبته إياها، فـسارة كان لها هاجر وقد أعطاها إياها ملك مصر، وذلك لما شاهد الآيات الإلهية فما كان منه إلا أن أكرمها، ومن جملة ما أكرمها به أن أعطاها خادمة تخدمها، وكانت هاجر أم إسماعيل، فوهبتها له يتسراها.والتسري أن يكون للفحل جارية خادمة، رقيقة؛ مستعبدة، سواء أخذها من نصيبه في الغزو والفتح أو اشتراها أو ورثها، وهذه الجارية الخادمة من لطف الله .. من رحمة الله .. من إحسان الله إلى عباده أن أذن لمن يملكها أن يحسن فراشها وثيابها، ويقلل من خدمتها، ويطأها عسى أن تلد له ولداً، فتصبح أم ولد، ومن يعرف هذا الكمال وهذا التشريع سوى الله؟!فأهدتها إبراهيم فتسراها فأنجبت له إسماعيل، وبدأت الغَيرة في النساء فأخذت الغيرة سارة قالت: كيف هي الحرة .. هي امرأة النبي .. ما تلد؟ وقلبها متمزق على الولد، وهذه ابنة أمس تلد؟فما أطاقت أن ترى هذا الولد ولا أمه، فألهم إبراهيم أو أوحي إليه أن انقل هاجر إلى جبال فاران، إلى الوادي الأمين، فأخذها وطفلها، وكانت هاجر تعفي الأثر حتى لا تعرف سارة إلى أين ذهبوا، ودخل وادي مكة، وما به عريب ولا أنيس، جبال فقط، ووضعها وطفلها، ومعها زاد لا يكفي لأكثر من ثلاثة أيام: جراب فيه خبز، وآنية فيها ماء وتركهم.وتركهما في حجر إسماعيل، وقفل راجعاً، فلما تجاوز مسافة عشر خطوات .. عشرين نادته وقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم، فتتركني وطفلي في هذا الوادي لا أنيس ولا عريب؟ قال: نعم. قالت: إذاً فاذهب، فإنه لا يضيعنا.أعطوني مؤمناً من هذا النوع يقول: اذهب فإنه لا يضيعنا، فهذه هي هاجر أم إسماعيل، فهل نملك هذا المعتقد، وهذا النور في قلوبنا؟إن أحدنا إذا أرشد إلى ترك معصية تجده يقول: مع الأسف إن الظروف والأحوال والعيش والحياة تغيرت فكيف نترك هذا؟أقول: أين التوكل على الله؟فإن قال قائل: يا شيخ! لا تلمنا إننا ما عرفنا الله، من حدثنا عنه؟ من عرفنا به؟ نجلس عشرين .. ثلاثين سنة في المقاهي، والملاهي، ومجالس الكلام لا نتحدث يوماً عن الله، فكيف نعرف الله؟أقول: إذاً أستغفر الله لي ولكم، هو هذا.ونعود إلى النسخ؛ إذ قال إبراهيم للغلام الصغير: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك، فقال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] سبحان الله! إبراهيم النبي الرسول يؤمر؟ فلا يستطيع أن يفعل برأيه أبداً، وهل يستطيع أحد منا لو كنا مسلمين أن يعمل شيئاً برأيه؟ والله لا يستطيع، فلا بد من أمر الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله، في جل أفعالنا، فلا نقول، ولا نتكلم، ولا ننام، ولا نأكل، ولا نشرب، ولا نبيع، ولا نشتري، ولا نتزوج، ولا نطلق إلا بأوامر.لعلي واهم! والله كما تعلمون. هل تستطيع أن تأكل بدون إذن الله؟! فإن استطعت فكل الخنزير والجيفة.هل تستطيع أن تبني بدون ما تكون هناك حاجة إلى البناء؟ والله ما كان.وهكذا: هل تستطيع أن تتزوج بدون حاجة .. أن تطلق بدون ضرورة؟إذاً ما عندنا عمل يصدر عن غير تعليم من الله ورسوله.وشاء الله وخرج به من بيت هاجر يمشي معه وودع أمه: نستودعكم الله إلى منى حيث يراق الدم، وجملته وحسنته؛ هذا لله، وانتهى به إلى منى، واعترضه العدو الألد الخصم المبين إبليس في جمرة العقبة الجمرة الكبرى، وقال: أي إبراهيم! ماذا تفعل بهذا الغلام؟ تذبح فلذة كبدك؟ الله يأمر بهذا؟ ارجع بابنك خيراً لك. فعرفه ورماه بسبع حصيات، وبقيت لنا إلى اليوم، ثم مشى فاعترضه عند الجمرة الوسطى: أي إبراهيم! يا خليل الرحمن! ربك في غنى عن هذا الغلام فكيف تذبحه؟ فطرده حتى الجمرة الأخيرة ثلاث مرات، وإبراهيم ثابت موقن أن الله أمره وعرف العدو من هو، وانتهى إلى مكان الذبح عند مسجد الخيف وهناك: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أي: صرعه على جبينه، والمدية في يده: باسم الله، فوضعها فوقفت وتحول الحديد إلى حطب.قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104] فالتفت وإذا بجبريل معه كبش سمين جميل ذبيح: خذ هذا، واترك هذا وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:107-110] لا المسيئين في أعمالهم وأقوالهم وحياتهم.وهذا نسخ، فقد أمره أن يذبح، وخرج لأداء أمر الله ثم شاء الله أن ينسخ لما امتحن؟ وبرز إبراهيم وظهر؛ لأنه يتهيأ للإمامة الكبرى قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].وهل ينسى هذا اليهود؟ كلا، والله إنهم ليعرفونه، إلا أنهم يتبجحون ويقولون: الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، وهذا عناد ومكابرة، فإسحاق ما وجد بعد.إذاً: هذا نسخ فكيف يجهله اليهود؟لا يجهلون يا شيخ، إنهم يعاندون ويريدون إطفاء نور الله لزعزعة القلوب والإيمان فيها بين المؤمنين، وهذا لأنهم كانوا يتكلمون بلسان العرب ويعيشون معهم، والآن إذا لم تخالطهم وتتكلم بلسانهم قد لا تعرف عنهم شيئاً، لكن الصفات والنعوت التي نعتها الله موجودة فيهم بالحرف الواحد، ظاهرة لمن خالطهم ومارس الحياة معهم.إذاً: بطل ما ادعاه اليهود وافتروه وكذبوه، وثبت أن لله أن ينسخ ما يشاء، وهاهو ذا تعالى قد أنزل هذه الآيات في الرد عليهم، وقال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] أي: نمحها من قلب نبينا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] مصلحة وفائدة وكمال ورقي للأمة، أو بخير منها.



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
أقسام النسخ

عندنا في أقسام النسخ وأنواعه ما يلي:أولاً: هناك النسخ من أصعب إلى أسهل وأيسر؛ لأن الدين ما نزل في وعاء واحد وفي يوم واحد، فهو دين التربية والرقي بالإنسان والكمال، وشرع الله عز وجل في خلال ثلاثة وعشرين سنة وهو ينزل.ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله للمؤمنين من الإذن لهم بالقتال بعد أن لم يأذن لهم سنوات، فلما تواجدوا وتكاملوا، وقويت شوكتهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] وكان القتال ممنوعاً.وكذلك نزل قول الله تعالى من سورة الأنفال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] فانظر هذه النسبة: الواحد بعشرة، فيجب أن يثبت الواحد منا أمام عشرة، والمائة منا أيها المؤمنون لا يحل لهم أن يفروا أو ينهزموا أمام ألف من الكفار مهما كان شأوهم، وكل هذا لأن المسلمين كانوا أقلية، وكان الإيمان يغير مجرى الحياة، وكانوا أقوياء، ولكن الله علم أنه سيأتي بعد الصحابة وبعد أولادهم وأحفادهم من لا يقاتل اثنين بل يهرب؛ لأن هذا التشريع ليس شرعاً خاصاً بالصحابة، بل هو شرع عام للبشرية كلها في كل أزمنتها وديارها، فنسخ الله ذلك الحكم بأن نكتفي بواحد مع اثنين، وعشرة مع عشرين، ومائة مع مائتين، وألف مع ألفين، وعندك الآيات حيث قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] ثم قال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا نسخ من أصعب وشاق إلى أهون وأيسر، وهذه رحمة الله بالمؤمنين. وأنتم لا تشعرون بأن الذي ينهزم أمام يهودي أو نصراني أو مشرك معناه: أنه ذاب وتمزق وخسر حياته.وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:15] لبيك اللهم لبيك إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. وهذه الآية والله ليست بمنسوخة.فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: زاحفين وجهاً لوجه فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: لا تعطوهم ظهوركم وتهربون، صورة بشعة، وسبحان الله! ما قال: فلا تعطوهم ظهوركم، إنما قال: أدباركم. وصاحب اللسان يذوق هذا المعنى، فما قال: فلا تولوهم ظهوركم، وإنما: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ، ودبر الإنسان مؤخره، فلا تعطوهم أدباركم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ساعة الزحف دُبُرَهُ اللهم إلا في حالين:في حال أن يتحيز إلى جماعة من إخوانه يقاتلون لينضم إليهم؛ لأن من معه هلكوا واستشهدوا، فلا يبقى وحده، بل ينضم إليهم.أو في حال أن يتحيز إلى فئة وهي التي فيها القيادة كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن ينوب منابه.وإذا لم يكن هكذا فالجزاء: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].وعندي صورة أحفظها قديماً ففي أيام إخواننا العثمانيين الأتراك، في بداية الخلافة عندما فتحوا شرق أوروبا وروعوا العالم، كان الجندي إذا كان في يده المدفع فإنه يربط نفسه بالسلسلة في المدفع ويقاتل، فيرمي، ويرمي، ويرمي حتى ينفد سلاحه من الرصاص والقنابل، ويبقى كالأسد حتى يصل إليه العدو ويقتله هكذا، ولا يولي الدبر؛ لأن الذي يعطي العدو دبره ويهرب حسبه ما حكم الله به عليه، فقد رجع بغضب إلى بيته الذي هرب إليه، ومأواه جهنم وبئس المصير.وهذه الشجاعة أعطيها المؤمنون بإيمانهم، وبعلمهم، ومعرفتهم، والله علمهم، ورباهم، وهداهم.ثانياً: ويكون النسخ أيضاً من السهل إلى الصعب، ولله أن يفعل ما يشاء، ولكنه العليم الحكيم. مثاله: في بداية الأمر فرض الله الصيام على المؤمنين أن يصوموا يوم عاشوراء فقط، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ دار الهجرة فوجد فيها اليهود يصومون يوم عاشوراء بنسائهم وأطفالهم، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر، فقال: نحن أولى بموسى منكم ). لأنهم كفروا بموسى، وعبثوا، وفسدوا، وفعلوا، فنحن أولى بهذا منكم، فصام وأمر المؤمنين بالصيام؛ النساء والرجال والأطفال.وبعد ذلك نسخ الله هذا بصيام شهر رمضان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] إلى أن قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا ... [البقرة:185] الآيات. فهذا نسخ من السهل إلى الصعب، وهو عكس الأول، فالأول نسخ من الصعب إلى السهل لحال المسلمين وضعفهم، وهنا صيام يوم فماذا يفعل هذا اليوم في صاحبه؟ أما صيام شهر كامل فهو يهذب النفس، ويزكي الروح، ويصحح الجسم، وتتفتت الشحوم التي في البطن، فهذا الشهر له قيمته، ولكنه أصعب من يوم واحد.فهذا نسخ عكس الأول، من السهل إلى الصعب.ثالثاً: نسخ لا صعوبة فيه ولا سهولة، لا في الأول ولا في الثاني، وهذا قضاء الله وتدبيره.مثاله: كانت قبلتنا التي نصلي إليها الصلوات الخمس في المدينة النبوية إلى بيت المقدس غرباً، وبالتحديد في الشمال الغربي كانت القبلة، وخلال سنة وخمسة أشهر كان المؤمنون يصلي بهم رسول الله، ويستقبلون بيت المقدس، فاغتاظ اليهود: آه! يدعي أن ديننا باطل ومنسوخ وهو يستقبل قبلتنا. فنسخ الله هذه وهو يصلي، ولا أذكر هل نسخ هذا في الروضة أو في مسجد بني سلمة.ومنهم من يقول: كان عليه الصلاة والسلام مدعواً في وليمة في ديار بني سلمة في مسجد القبلتين، وعندما كان في الصلاة شرع الله الاستقبال إلى البيت فدار ودار الصحابة معه إلى الكعبة، فلهذا سموه مسجد القبلتين.وأما أهل قباء فكانوا يصلون الصبح فأتاهم آت يقول: يرحمكم الله! لقد تحولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا كما هم عليه بإمامهم وصفوفهم.وهنا أقول: لو تمرن المسلمين بالعصا عشرين سنة فإنهم لا يستطيعون أن يستديروا هكذا وهم في صلاتهم، ووددنا لو تم هذا فقط في رمي الجمرات، فما وجد أن يصدم بعضنا بعضاً، ونحن هائجون كالجمال، وأحياناً نصرخ: يا جماعة! ليس اليهود هنا، ولا يوجد رشاشات.من يهذبنا؟! من يربينا؟! من يعلمنا؟!تلك الزمرة المؤمنة يأتيهم المخبر: إن القبلة قد تحولت، فيستديرون كلهم بصفوفهم وبنظام حتى يتحول من كان في الشمال إلى الغرب، وهم من وراء.أقول: أيها المسلم! درب جماعتك بالعصا، وخذ طلاب المدرسة فقط فإنك لا تستطيع، ولا تأخذ الشيوخ والكبار.المهم عندنا كلمة خالدة! نحن هابطون وهم طالعون، فهل يستوي الهابط مع الطالع؟!مثال على هذا: عندنا المرأة .. الشاب .. الرجل، يسمع الإمام يقرأ بالفاتحة جهراً، والله لا يحفظها، مع أنه يصلي مع الإمام عشرين سنة، ولا يستطيع أن يحفظها كما نزلت، بل يقرأ: يكا نعبد ويكا نستعين.وهذه أم الفضل امرأة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله تقول: ( صليت وراء رسول الله المغرب فقرأ بسورة المرسلات عرفاً فحفظتها ) فأعطني مسلماً الآن يسمعها لأول مرة يحفظها فنعطيه مليار دولار، مستحيل! وهذا واقع، وعرفنا شبيبة يسمع أغنية من عاهر في شريط أو في إذاعة فيحفظها باللحن، حتى بالصيغة.ما الفرق؟كانوا طالعين ونحن هابطون.تجد الرجل يصلي وراء الإمام أربعين عاماً لا يحفظ الفاتحة، وهو يسمعها في الصباح والمساء. والعلة أنهم جهلونا وأبعدونا عن الروح الإلهي فمتنا، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، فإذا دخلت مدينة من المدن ومررت في أزقة ضيقة وسمعت القرآن فاعلم أن عندهم ميتاً، فلا يجتمعون إلا على القرآن للميت، ولن تجد من يقول لك: أي بني أو يا أُخيَّ! تعال أسمعني شيئاً من القرآن.أنا عشت سبعين سنة ما رأيت إلا واحداً فقط رحمة الله عليه، سمع هذا الكلام فصار يأتي يقول لي: يا أبا بكر! سمعني شيئاً من القرآن، فأقرأ عليه وهكذا.مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا الطريق فقال لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) وجلس وأصغى يسمع، فعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري ).هل عرفت رجلاً قال لك: تعال من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن إلا إذا كان مريضاً يريد الشفاء، أما ليتعلم الهدى فلا .. لا. فكيف إذاً لا نهبط إلى الحضيض؟!إذاً: فنسخ الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس في هذا تفاضل أو عسر وصعوبة أبداً، فاستقبل هكذا أو هكذا، فليس فيه انتقال من صعب إلى يسير أو من يسير إلى صعب.رابعاً: هناك نسخ آخر، وهو أن ترفع الآيات نهائياً فلا تبقى في كتاب الله ويبقى حكمها معمول به.وقد ثبت بالإجماع قول الله تعالى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ومن ثَمَّ نسخ اللفظ وبقي الحكم، فطبق هذا رسول الله وعمر وأصحابه، فالمحصن وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وغير المحصنين يجلدون مائة جلدة، ويغربون سنة، وهذه الآية لا يصلى بها أبداً، ولا توجد في المصحف، ولكن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً ثم نسخها الله، أما قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]؟ بلى.خامساً: النسخ من حكم إلى حكم.وقد علمتم أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يعيا ويتعب، ويأخذه النعاس، والجوع، والعطش، فليس بملك، وتعرفون ماذا يفعل حب رسول الله في النفوس، فكل مؤمن يريد أن يخلو بالرسول دقيقة، ومن هو الذي يظفر بدقيقة فقط.ولو ترك لهم الرسول الأمر فكيف سيأكل ويشرب .. وكيف سينام؟ لأن كل واحد يريد أن يجلس معه، فأدبهم الله عز وجل وأنزل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] ففهموا أن القضية ليست قضية مال، وإنما قضية إيجاد وقت للرسول صلى الله عليه وسلم ينام فيه أو يأكل فيه أو يستريح، فلما فهموا عرفوا، وما أصبح من يقدم على أن يتكلم مع الرسول سراً.ويروى أن أول من فعل هذا وهو الأول والأخير هو علي رضي الله عنه، فتصدق بصدقة، وجاء يقرع باب رسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية تنسخ هذا؛ إذ قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ... [المجادلة:13] الآية. فنسخ الله الحكم الأول بالثاني، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.هذه أمثلة وغيرها كثير.

مجمل تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

قول ربنا تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يُنسيها الرسول سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] نعم، وإذا أراد أن يُنسي ما قرأه يفعل الله ما يشاء.قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وعلل لذلك بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ يا رسولنا! أيها العاقل يا من يسمع! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] بلى، مَن مِن المؤمنين لا يعرف هذا؟ ما يصعب على الله أبداً أو يعز عليه أن يستبدل حكماً بحكم أو سورة بسورة أو آية بآية، فهو يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.ولكن اعلم أنه لا يشرع إلا من أجل إكمال الإنسان وإسعاده، فإن كانت واجبات فلتزكية نفسه وتطهيرها، وإن كان نهياً عن موبقات وآثام فمن أجل الإبقاء على ذلك الطهر والصفاء حتى لا يتلوث، فهذا الأصل.وفي نفس الوقت ما شرع الله أمراً أمر به إلا وفيه فائدة لجسم الإنسان .. لماله .. لعقله .. لحريمه .. لحياته.والله الذي لا إله غيره! ما شرع الله شرعاً لا أمر بأمر ولا نهى عن نهي إلا لصالح الآدمي المؤمن، وتتبع ذلك تجد الآثار واضحة كالشمس.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ..)

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:107] بلى؟ فكل مملوك في السماء والأرض لله. فله أن يعطي .. يمنع .. يرفع .. يضع .. يعز .. يذل .. يقدم، فهو ملكه، أيجوز أن تعترض؟!وهذه صفعة لليهود، كيف تعترضون على الله؟وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فما دام له ملك السماوات والأرض فأنت لما تطلب امرأة تريد أن تتزوج تقول: يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا في بلدك .. أنا بين يديك، فادع الله لي، هذا لا يجوز لأن الرسول لا يملك، وآخر يقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء! أنا كذا.لا يطلب شيء من غير الله.فإن قال قائل: لم هذا يا شيخ؟قلنا: بلغنا أن كل مملوك لله، فكيف تطلب ممن ليس له ملك!وهذا يشبه من كان في أرض خربة ليس فيها أحد، وإذا به يدعو ويصيح: يا أهل الدار! أنا جائع، أنا ضمآن. وليس في الخربة واحد أبداً. فيمر به أخونا ينصحه: حرام عليك؛ طول الليل وأنت تصرخ، وليس في البيت أحد، اقصد بيتاً فيه ناس يسمعون.وهذا مثل حالتنا، تجد الرجل العالم يمر بأخيه يدعو عند الحسين أو فاطمة : يا سيدي! ويبكي، ويصرخ، ويطلب، وما يقول له: يا عبد الله! هذا لا ينفع، ولا يعطيك شيئاً أبداً، وهذا واقع من إندونيسيا إلى المغرب.فهذه الأمة هبطت؛ لأنها هجرت هذا الكتاب.وقالوا لها: القرآن الكريم إذا فسرته وأصبت فأنت مخطئ، وإذا أخطأت كفرت. فصوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحجبوا أمة الإسلام عن النور، وأبعدوها عن الحياة فماتت، وذبحوها، وسلخوها.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أقول ذلك؛ لأن خمسة ملايين يهودي قهروا ألف مليون مسلم، وأذلوهم إلى الآن .. وإلى هذه الساعة، فهذا واقع أو نحن نائمون؟لكن من فعل بنا هذا؟الجواب: الله، وإياك أن تعيش مع التائهين: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، فهذا الكلام هراء، والله لا فاعل إلا هو، فهو مالك الملك، فلما تمردنا عليه وعصيناه، وخرجنا عن طاعته، وهبطنا عن كمالاتنا أدبنا الله بأعظم آية ما عرفت في التاريخ، فأذل الخلق وأجبنهم على الإطلاق يحكمون العالم الإسلامي، وهذه آية من الآيات.. وهي أعظم آية في هذا الكون.قال تعالى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] وللأسف أن هناك من يقول: لا لا، هناك أولياء لنا، وأنصار ينصروننا.وليس من المعقول أنك تجد من دون الله ولياً ونصيراً والله يقول: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: يتولاكم وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] ينصركم أبداً، فافزعوا إلى الله، ولوذوا بجنابه، واطرحوا بين يديه، واطلبوا رضاه، واسلكوا سبيله فتكملوا، وتسعدوا، وتنجوا.قالوا: لا لا لا، خلينا مع الخرافات.فإن قلت: إذاً أذلنا الله. قال قائلهم: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أنا أقول: أسألكم بالله: ما بلغكم أن العالم الإسلامي استعمرته بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا .. فأذلوهم وقهروهم، وتم هذا لأننا هبطنا، وتخلينا عن الروح فمتنا، لا أقل ولا أكثر، تأديب الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ...)

يقول تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة:108] بل تريدون، أم بمعنى بل تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] وهذه لنا، تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل إذ قالوا له: أرنا الله جهرة، فهم يسمعون كلام الله بجبل الطور قالوا: لا، نريد أن نرى الله جهرة. فهل تريدون أنتم هكذا؟قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] أخطأ وسط الطريق المنجي، المزكي، المفلح، المسعد.فقوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: يأخذ الكفر ويعطي الإيمان، ويترك شرع الله ويأخذ قوانين الشرق والغرب، كمبادئ الاشتراكية. فَقَدْ ضَلَّ وسط الطريق، فهلك وتمزق.وما زال العالم الإسلامي نائماً، فما عرفوا، ولو فتحوا أعينهم وعرفوا -والله- لاجتمعوا في الروضة أو في الكعبة وتعاهدوا: أنت إمام المسلمين، وكل البلاد الإسلامية ولايات، والحكم واحد، والشريعة واحدة، وفي أربعة وعشرين ساعة والدنيا كلها نور، وقد دعونا إلى هذا، وكتبنا رسائل من أربعين سنة، ولكن لا التفاتة.إذاً: لعلنا مسحورون، وأنا خائف أن يكون اليهود قد سحرونا، فأصبحنا لا نقبل على الله، ولا على دينه، والسحر هو هذا، الرجل يسحر عن امرأته فيصبح يكرهها، وجائز أن اليهود سحرونا.على كل حال! نترك الأمر لله، والذي يجب علينا أن نعرف أننا عبيد الله، فلنفزع إليه حتى تنتهي هذه الفتن والإحن، والمحن، والفوضى، وكل مؤمن يقول: أنا مسلم، ويلزم الصمت، ويعبد الله عز وجل، ويكف لسانه وفرجه.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (75)
الحلقة (82)




تفسير سورة البقرة (45)


كثيراً ما نغفل عن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نحن المسلمين، وهي نعمة الإسلام، في حين عرف اليهود عظم هذه النعمة، فحسدونا عليها، وتمنوا لو نرجع مثلهم كفاراً، نصارى أو وثنيين أو أي شيء آخر، إلا أن نكون مسلمين، فتباً لهم كيف عرفوا الحق وأعرضوا عنه، ومع هذا أمرنا الله سبحانه بالعفو والصفح عنهم حتى يأتي أمره بشيء آخر، كما أمرنا بالثبات على الإسلام؛ لأن فيه الفلاح لنا، والغيظ لأولئك.

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:109-110].

كيد كثير من أهل الكتاب للمؤمنين وإرادة كفرهم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:109] هذا خبر، والمخبر هو الله جل جلاله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109] ونحن نصدق خبر الله.ومن الجائز أن يكذب غير الله والمرسلين والأنبياء، أما الله عز وجل؛ العليم الحكيم فهذا خبره، ومن شك فيه كفر.قوله: وَدَّ بمعنى: أحب ورغب فوق العادة كَثِيرٌ وهذا من الاحتراز المطلوب، ولم يقل: ود الذين كفروا من أهل الكتاب إنما قال: وَدَّ كَثِيرٌ وقد يوجد فرد وأفراد في المدينة .. في القرية .. في الإقليم .. في قرن من القرون لا يودون هذا الود الباطل الفاسد الناتج عن الحسد، لكن صيغة (كثير) دالة على أن كثيراً من أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- يودون كفرنا، وأن نخرج من إسلامناً؛ لنتساوى معهم. لا يريدوننا أن نظفر، ونفوز، ونعلو، ونسمو، ونسود، ونقود، ونحكم، ونعلم، وهم جهلة .. فسقة .. فسدة بمعنى الكلمة، فما يرضون بهذا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].أما جمعيات التنصير ورجالها فهم يعملون إلى هذه الدقيقة ليل نهار، والأموال تغدق عليهم من المنظمات والشركات والمؤسسات، ولا همّ لهم إلا أن يخرجوا المسلمين من دين الله، أما اليهود فلا تسأل، فهم أقلية وضعفة، ولكن مكرهم وكيدهم أمر عظيم، فيستطيعون أن يخرجوا المسلمين من دينهم بالابتسامة.إذاً: ماذا نفعل والواقع هو هذا؟إن الله عز وجل أراد بهذا أن يحذرنا لنحذر .. أن ينبهنا لننتبه، ولنعرف من هو العدو الذي يريد أن يسلبنا نور الله، وأن يرمي بنا في مزابل الحياة، إنهم الكثير من اليهود والنصارى.قوله: لَوْ وهذه للتمني لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ [البقرة:109] بالله ولقائه .. بالله وكتبه ورسله .. بالله وقضائه وقدره .. بالله ووعده ووعيده، إذ هذه هي الطاقات الدافعة.وكثيراً ما نقول: الإيمان الحق بمثابة الطاقة الدافعة، والقطار ذو العشرين عربة، تدفعه طاقة واحدة، والطائرة التي تحمل ستمائة نفس تدفعها الطاقة، فالإيمان بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي تحول الآدمي إلى أسد، وإذا ضعف أهان العبد، وأصبح كالهر أو دوناً من الهر، وإذا قويت هذه الطاقة في النفس صام الدهر .. خاض المعارك .. جاع .. صبر، واستطاع أن يصبر على الغريزة خمساً وعشرين سنة، وهو ينتقل من ثغر إلى آخر .. يجاهد، ولم يعرف النساء، ولم يفكر في الخروج.وصاحب هذه الطاقة إذا وضعت بين يديه أطنان الذهب والفضة، وهو يعرف أن هذا ليس له، وأنها محرمة عليه، فوالله لن يمد يده إليها، ولا التمس منها ريالاً واحداً.ونؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، فلو أخبرنا تعالى أو أخبرنا رسوله بأن هذا الجدار سيتصدع وتخرج منه دابة، قلنا: آمنا بالله، ولا نقول كيف؟ أو متى؟ أو لم؟ أو مستحيل، أو هذا غير معقول، والله ما نقول هذا، وهذا الإيمان صاحبه كأنه يشاهد الله .. كأنه يعيش مع الله، وهو كذلك، والله إننا لمع الله، ولكننا غافلون ومخدرون؛ ما نشعر، أما قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؟ بلى. فكيف -إذاً- نجرؤ على أن نقول الباطل، أو نرتكب المنكر، أو نفحش في قول أو عمل، وأنت مع الله، والله ينظر إليك؟ولا يفهمن عاقل أن هذه دعوة إلى الحلولية، معاذ الله، فالله فوق عرشه بائن من خلقه، وإنما نحن بين يديه، فهذا القمر؛ الكوكب المنير، الآن يطلع وحيثما كنت هو معك، وليس بلاصق بك أو جالس معك، إنما هو معك، والله الذي يقول عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].فهل تريد أن تفهم أنك لست مع الله؟حركاتك .. سكناتك .. خواطر قلبك ونفسك، والكل بين يدي الله.الله الله لو تغلغل هذا الإيمان في قلوب البشر، وأصبحوا يعيشون مع الله، فمن يجرؤ أن يسب مؤمناً أو أخاك؟من يقدر على أن ينظر نظرة حرمها الله، فتأمن البلاد والعباد، فلا سرقة .. ولا زنا .. ولا كذب .. ولا غش .. ولا خداع .. ولا شح .. ولا بخل .. ولا باطل .. ولا زور، سبحان الله! فأصبحنا في جنة الدنيا، وكأننا في الملكوت الأعلى، وهذا الذي من أجله أنزل الله الكتاب وبعث الرسول.إذاً: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]، والكفار: جمع كافر.والكفر لغة هو: التغطية، حتى إن الفلاح الذي يبذر البذر في الأرض ويكفره بالتراب؛ حتى لا تلتقطه الطيور، يقال فيه: كافر، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]، كمثل مطر نزل فأعجب الفلاحين نباته.فالكفر: التغطية والدس.فكيف يكفر الله يا عبد؟! هل هناك من يقدر على أن يستر الله ويغطيه؟نعم، يكفر الله فيقول: لا وجود له. يقال له: أين الله؟ يقول: غير معلوم، ولا معروف، ولا موجود، ولا ظاهر، فهذا قد كفر الله بالنسبة إليه، ولمن يعلمهم الكفر. فالكفر هو الجحود والتغطية.ويريد أعداء الإسلام من أهل الكتاب في الزمان الماضي والحالي والمقبل والمستقبل، يريدون ألا نقول: لا إله إلا الله. يريدون أن نقول: الآلهة ثلاثة أقانيم: الروح القدس، والأب، والابن.والعجب من هذه الخرافة كيف تستقر في عقول الحكماء .. الأطباء .. الطيارين .. الخبراء، وتستقر في أذهانهم: أن الله مكون من ثلاثة أقانيم، وهذا هو الإله.ولنترك هذا إذ عافانا الله منه ونجانا، ولكن فقط نذكر أعداءنا؛ لنحترس منهم، ونتحفظ منهم، ونعرف ما يحملون لنا من مكر وكيد لإطفاء هذا النور علينا ونصبح أمثالهم.فأندية اللواط الآن في أوروبا تفتح علانية، أما الإجرام، والتلصص، والخيانة، والكذب فحدث ولا حرج، أما المروءة والفحولة فقد انتهيتا، أما أما.. ومع هذا ما شعروا بالنقص أبداً، فما زالوا منتفخين؛ منتفشين؛ ولعل السر في ذلك أنهم يريدون أن يجذبونا إليهم، وأن ينقلونا إلى ساحاتهم؛ لنصبح مثلهم، إذ هذا الذي أخبر تعالى به: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].

حسد اليهود هو سبب عدائهم للمؤمنين

قال تعالى بعد ذلك: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، فذكر العلة والسبب التي من أجلها يودون كفرنا، وإخراجنا من ملة الإسلام، ألا وهو الحسد.ما هو الحسد؟الحسد معاشر المستمعين والمستمعات: داء الأمم من قبلنا، وهو داء خطير، أخطر من أدواء الجسم، من الإيدز إلى الملاريا، وهذا الداء هو الذي يتسبب في كل فتنة تقع.

أنواع الحسد

والحسد عندنا ثلاثة أنواع:النوع الأول: أن يتمنى -وأعيذك بالله يا سامعي- المرء زوال النعمة عن فلان، فلو كان فلان غنياً فإن الحاسد يود في قلبه .. في نفسه، وقد ينطق بلسانه فيقول: لو سلب الله هذا المال، وأصبح فقيراً مثلنا. هذا نوع.وأخطر منه: أن يتمنى زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له هو.ومثال النوع الأول أيضاً أن ترى رجلاً جميلاً سليماً صحيحاً فتقول: آه لو كنت مثله، وتحب من كل قلبك أن تكون هذه النعمة لك أنت دونه، وهذا النوع أخف من النوع الثاني الذي يتمنى فيه صاحبه زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له، فالمهم أن يراه فقيراً أو أعمى أو ذليلاً، ولو لم يحصل له ذلك النعيم الذي حسده من أجله.فهيا نطهر قلوبنا، فلا يبيتن أحدنا ليلة إلا وقلبه خال من هذه الأمنيات الكاذبة الفاسدة.فإذا أعطى الله فلاناً! فهذا ربه الذي أعطاه وليس أنت، فوهبه علماً .. مالاً .. شرفاً .. صحة بدنية، ووهبه ما شاء، فاسأل الله أن يعطيك مثله، فأنت عبده وهو عبده، أما أن تعترض على الله وتقول: لم أعطاه وأنا ما أعطاني، فهذا الموقف لا يقفه ذو إيمان؛ لأنه سفَّه الله عز وجل، وادعى أنه ظلم ولم يعدل، فكيف يعطي فلاناً ولا يعطيني؟ وهذا الموقف لا يقفه مؤمن بحق.أما النوع الثاني: فيتمنى زوال هذه النعمة ولو لم تحصل له، فالمهم ألا يراه يركب هذه السيارة أو هذه البغلة أو الدابة.وهناك نوع ثالث أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الحسد، وهو في الحقيقة غبطة وليس بحسد، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين )، الأولى: أن ترى رجلاً ذا علم يعمل بعلمه ويعلمه، فتتمنى على الله أن لو تكون مثله، فأنت تعلم وتعمل بعلمك وتعلمه الليل والنهار، قال: ( رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ليل نهاراً )، فهذا الاغتباط محمود.أو ترى رجلاً غنياً؛ ثرياً؛ كثير المال، ينفقه ليل نهار، ويده سحاء الليل والنهار، فتسأل الله أن لو يكون لك مال فتفعل مثلما يفعل هذا الرجل السخي الكريم، الذي يطعم الفقراء والمساكين، وهذا التمني محمود، وإن سماه الرسول حسداً؛ لأن فيه معنى الحسد؛ لنظره إلى نعمة الغير، لكن ما نظر إليها ليسلبها صاحبها أو يتمنى سلبها، وإنما ود أن لو كان مثله ليفعل ما يفعل، فذاك أعطاه الله القرآن، والعلم، والحكمة، فهو يعلم، ويعمل، ويهدي الناس، وطبعاً كل ذي رغبة في الكمال يود لو كان مثله. والثاني: يرى ثرياً من أثرياء الناس، وهو ينفق ماله الليل والنهار، فيود لو كان له مثل هذا المال، ليفعل مثلما فعل هذا المؤمن، فهذا الحسد المحمود.

ظهور الحق لليهود وإعراضهم عنه

قال تعالى بعد ذلك ذاكراً علة أخرى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقد عرفتم أن اليهود كانوا يتطلعون إلى النبوة المحمدية، فنزحوا من الشام إلى المدينة من أجلها، إذ بشارات عيسى وموسى عليهما السلام موجودة في الإنجيل والتوراة، فنزحوا إلى هذه البلاد، وسكنوا المدينة مهاجر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتظاراً للبعثة المحمدية، ليؤمنوا به، ويقاتلوا العرب والعجم دونه، ويستردوا ملكهم، وشرفهم، وكمالهم.وكانوا يتطلعون لاسيما لما بعث الرسول، فقضى ثلاث عشرة سنة في مكة وهم بالمدينة يتحسسون الأخبار، ويترصدون الأنباء بصورة عجيبة، وينتظرون، فما إن نزل المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وشاء الله أن تتم وقعة بدر، وينتصر فيها، فاسودت وجوههم، وتغيرت قلوبهم، وانتكسوا، وأعلنوا عن عدائهم، فالأمل الذي كانوا يأملونه ضاع، وعرفوا أنه ليس لهم، فتواصوا ألا يدخل أحد في دينه، ونافق من نافق، ودخل نفاقاً فقط لإفساد الملة، وإحباطاً لهذه الدعوة، وكان خيارهم .. أفاضلهم -بالنسبة إليهم- في الصباح يأتون إلى المسجد ويشهدون شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويظلون مع الرسول، وفي الليل يكفرون للفتنة، آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، فيوجدون الفتنة والبلبلة في نفوس الناس: فلان دخل الإسلام فكيف خرج؟ هل وجده لا شيء؟ فينشرون مجموعة من الخرافات أو الضلالات فقط، وهذا هو الطابور الخامس للفتنة أو الشائعات الباطلة، إلى هذا الحد.ولا عجب في قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ [البقرة:109]، أنه أي: الإسلام ورسوله وكتابه هو الحق، الذي ما وراءه إلا الباطل، فهذا الذي حملهم وجمع قلوبهم على العداء للإسلام والمسلمين: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، أما قبل أن يعرفوه فكانوا مترددين أو متحفظين، لكن بعدما ظهر أنه هو الذي يرفع، ويعز، ويكرم، ويعلي شأن العبد عرفوا هذا، فناصبوه العداء، وأعلنوا الحرب عليه.



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)

قال تعالى في خطابنا أيها المؤمنون: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، والعفو معناه: عدم المؤاخذة، والصفح معناه: الإعراض، أي: أن تعطي عدوك صفحة وجهك، فتعرض عنه، لا تسب، ولا تشتم، ولا تعير، ولا تقبح.قوله: فَاعْفُوا أي: أيها المؤمنون! لأن ساعة الجهاد ما حلت .. ما دقت، ولا سب، ولا شتم، ولا كذب، ولا تصفعه، ولا ترفع يديك عليه، بل أعرض عنه، وأعطه صفحة وجهك، وامش.قوله: وَاصْفَحُوا أي: عمن يؤذيكم، ويريد إلقاءكم في الفتنة، وإيقاد النار بينكم، ففي هذا الظرف بالذات ليس لكم قدرة على القتال، ولا عدة ولا عتاد، فما عليكم إلا العفو والصفح.وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى متى؟ قال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ متى؟ الله أعلم، أي: حتى تتحد الكلمة، وتكون لكم عدة وعتاد، فحينئذٍ بسم الله.وأمر الله آت لا يعجزه شيء، وهذا الأمر هو أن يؤهلكم لحمل السلاح والقتال وإعلان الحرب، وما دمتم ضعفة .. عجزة .. مشتتين، فخمسة هنا وعشرة هناك، لا يشكلون مدينة واحدة، فما أذن ربكم في القتال؛ لأنه لا يريد إهلاككم وتدميركم.قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .دعونا ندخل في السياسة قليلاً، فالآن قلوب المؤمنين تقطر دماً مما يصيب إخواننا في فلسطين، فأنواع العذاب تصب عليهم، ونحن نبكي فقط، ولو كنا صادقين لأقبلنا على الله عز وجل فتبنا إليه، وأقبلنا في صدق عليه، فحرمنا ما حرم، وأحللنا ما أحل، وعمرنا بيوته بالبكاء والدموع، وتآخينا، وتواددنا، وتحاببنا، وتقوينا، وأصبحنا ذوي قدرة وقوة، فيأذن الله لنا بالقتال، وينصرنا؛ لأنه وعد.والذي آلمنا وأحزننا وأكربنا أننا نجد إخواننا يعذبون، ونحن نشجعهم، ونسمي تلك الحال الانتفاضة، الانتفاضة! ونحن مطوقون إسرائيل تطويقاً كاملاً: من الجنوب .. من الشمال .. من الشرق.. من الغرب، ونحن نملك من العتاد والسلاح ما لا تملكه، ونقول للعزل المساكين الذين هم تحت الحصار ووراء الأسوار: قاتلوا بالسب، والشتم، والحجارة والبطاطس و.. و.. وهذا المظهر كم من مرة نحلف ونقول: والله لو كان رسول الله بيننا ما سمح لهم بهذا أبداً، ولا يطلب إليهم أن يعلنوا عداهم لليهود أعداءهم حتى يفرج الله ما بهم، ونأخذ هذا من قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].فالمسلمون الآن مع الضعف والعجز، المفروض أن يسلكوا هذا المسلك الرباني، إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقد كنت أود من إذاعاتنا الإسلامية وكتابنا أن يقولوا لإخواننا: اصبروا، املئوا بيوت الله بالبكاء، والصلاة، والدعاء، وتحابوا، وتوادوا، وأظهروا الإسلام حتى يفرج الله عز وجل، ولا نقول لهم: اثبتوا على السب، والشتم، والتعيير، والاغتيالات، كأننا ما عرفنا كتاب الله، ولا عرفنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول كان أصحابه يعذبون في مكة بأبشع أنواع العذاب، ويغمسون في الماء حتى الموت، ويسحبون على الرمضاء والأرض الحارة، وما قال لواحد: سب ولا اشتم، بل قال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، ويشكون فيقول: اصبروا اصبروا!وجاء المدينة، فحصل الذي حصل بمكة، واسمع ما يقول لهم: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، إلى متى؟ إلى ساعة، وهي أن توجد لنا القدرة على القتال، والطاقة على الدفع، وحينئذٍ القتال كما سيأتي.لماذا لا يفهم المسلمون هذا؟لأنهم بعدوا عن القرآن، فالقرآن يقرأ على الموتى فقط، ولا يقرأ على الأحياء، وهذا الذي نقوله: دلوني على رجل يمر بأخيه يقول له: من فضلك اجلس اقرأ علي من القرآن، فأتدبر، وأتأمل فيه. هاتوا؟ لا أحد.إذاً: هذه عبر الكتاب الكريم.قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، بعدما تبين لنا، وعلمنا أن أعداءنا اليهود والنصارى، وأنهم لا يودون أن نفتقر فقط أو نذل، بل يودون أن نكفر، وما بعد مصيبة الكفر من مصيبة، ومع هذا يقول: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، لأنكم أقلية وضعفة لا تقدرون على خوض المعركة والحرب، فاصبروا حتى يتم عددكم وعتادكم، وحينئذٍ يأتي الإذن من مولى الجميع .. من رب العالمين.

استقلال المسلمين عن الاستعمار وتنكرهم للإسلام

أذن الله تعالى بالقتال كما في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:39-40] وعزة الله لينصرن الله من ينصره، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40-41].ولقد استقل المسلمون استقلالاً كاملاً من سلطة الاستعمار الغربي، من أسبانيا إلى هولندا، فما استطاع إقليم واحد أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية أن يطيعوا الله في أربع كلمات، أمسحورون أو ماذا؟!الحمد لله أننا في بعض الخير.الله عز وجل أذن لنا في القتال لما تقوينا وقدرنا، وعلمنا أن هذا القتال ضروري وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ثق بالله العظيم ما تخلف وعد الله، فما من أحد نصر الله إلا نصره الله.لكن كيف أنصر ربي؟أنصره في دينه .. في رسوله .. في أوليائه .. في شرعه. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ [الحج:40]، هل هناك قوة خرجت عن هبة الله؟ ما من قوة إلا والله واهبها، فهو على كل شيء قدير، عزيز لا يمانع في شيء، كيف -إذاً- يعد ويخلف؟ والله ما أخلف: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].اسمع.. اسمع! تكونت تلك المملكة الإسلامية من وراء نهر السند إلى وراء الأسبان في خمس وعشرين سنة فقط بأيامها ولياليها، فهذا وعد الله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:40-41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].أعود فأقول وابكوا إن شئتم أو اضحكوا: استقلت ثلاثة وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا فما أقيمت الصلاة في بلد، فقط من شاء أن يصلي ومن شاء أن يغني، وما جبيت زكاة ووزعت على فقراء المؤمنين في تلك الديار وخارجها أبداً.وما وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن منكر.ولو أن منظمة تكون في كل قرية من ثلاثة أنصار، من رجال العلم وكبار السن: أنتم مسئولون عن القرية، فإذا شاهدتم منكراً أطفئوه وأحبطوه، وغيروه وأزيلوه، وإذا شاهدتم معروفاً ترك بين إخوانكم فمروا به، وألزموا به حتى يفعله الناس.يحار العقل كيف نستقل من سلطة بريطانيا من أجل أن نقيم شرع الله ودين الله؛ لنعبد الله، ثم ننتكس ونتغير ونتنكر لدين الله، وما زالت غضبة الله ما هي ببعيدة، فلا يفرحن الغافلون.سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].وآية هذا أن الله أذلنا لليهود، وليس اليهود هم الذين أذلونا، فهم حفنة عددها خمسة ملايين، فوالله لا أذلنا إلا الله، وهو الذي سلب معارفنا، وعقولنا، وطاقاتنا، وتركنا كالبهائم.وفعل بنا هذا؛ لأنه مكننا فطردنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من ديارنا، وأصبحنا نحن السادة الحاكمون، وما علينا إلا أن نأمر الناس بعبادة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن كان قولنا: لا لا.هل فهم السامعون والسامعات أو لا؟فإن قال قائل: يا شيخ! دعنا من الماضي.

مقومات النصر والتمكين

أقول: ما المانع لأي بلد إسلامي أن يجبر المؤمنين على أن يغشوا بيوت الله، ويشهدوا الصلوات الخمس، ولا يتخلف أحد أبداً؟ما المانع أن تجبى الزكاة باسم الزكاة فريضة الله، وقاعدة الإسلام الخامسة؟ما المانع أن يوجد في كل قرية وفي كل حي مجموعة موظفون براتب، ومهمتهم أن يشاهدوا أحوال الناس، فإذا شاهدوا منكراً غيروه، فإن الرسول ألزمنا بهذا: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه )، وإذا رأوا معروفاً متروكاً أمروا الناس به ليفعلوه.فاحفظوا لنا هذه النعمة؛ حتى يبقى أمننا، ورخاؤنا، وطهرنا، وصفاؤنا، ونخشى أن نسلب هذا النعيم إذا ما سلكنا هذا السبيل؛ سبيل الله عز وجل.هل وجد هذا؟ نعم وجد من يقول: هذا تأخر ورجعية، ولكن الله أرانا آية من آياتها.وهذه الديار ديار الإيمان قبل وجود دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كيف كانت هذه البلاد؟ ما حدثكم آباؤكم؟آه، كان الحاج يسقونه الماء الحار حتى يخرج الدينار من بطنه.كانت القبور تعبد أكثر مما تعبد في دياركم، وكانت الأشجار تعبد، وكانت جاهلية عمياء.كيف تحولت؟ والله ما تستطيع أمريكا ولا روسيا الحمراء ولا أي بلد أن يفعل هذا، فيتحقق أمن تمشي من طرف المملكة إلى آخرها لا تخاف إلا الله، والله إن بيوتاً تبيت بلا أبواب، والله إن باعة الذهب لا يضعون إلا خرقة على دكاكينهم.كيف تم كل هذا؟ هل تم بالسحر .. بالمال؟أين المسلمون؟ ما لهم عموا؟ ألا يشاهدون هذا؟فقط؛ لأن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود غفر الله له ورحمه، لما حاول أن يوجد الدولة الإسلامية عزم أن يقيمها على هذه الدعائم الأربعة التي لا تقوم دولة أبداً إلا عليها، وإلا فهي دولة هاوية السلك، وسلطانها -وإن طال الزمان- إلى هلاك، فأوجد الأمر بالصلاة كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهذا وقتكم يا عباد الله قبل أن تعلن الحرب؛ لأن إقام الصلاة بالمعنى الذي يريد الله إذا قال: حي على الصلاة لم يبق باب مفتوحاً، والله لقد كان أحدهم في يده المطرقة يرفعها ليضرب الحديد فإذا سمع حي على الصلاة وضعها جانباً، وكان أحدهم الإبرة في يده يخيط بها، فإذا سمع: حي على الصلاة ما يدخلها في الكتان ويأتي الصلاة.أما نحن فما عرفنا إقامة الصلاة، وإنها -والله- لخير من كل قوى الأمن الموجودة في بلاد العالم؛ من بوليس ونظام ودقة، ومع كل ذلك فإن هناك السرقة، والتلصص، والجرائم، فما نفع البوليس، ووالله لو أقيمت الصلاة في قرية أو بلد أو عالم كما يريد الله ما احتجنا إلى شيء اسمه بوليس، وما وجدت سرقة إلا في الدهر مرة، في شاذ من الشواذ.وللأسف أن المسلمين عمي، لا يبصرون أبداً.وإلى الآن ما بلغنا أن حاكماً استفاق وقال: لم لا نؤسس دولتنا من جديد على هذه الدعائم الأربع التي شاهدنا آثارها في هذه الديار، وهل يكلف هذا شيئاً؟ والله لا يكلف شيء.وإنما هو قانون يبتدئ بقضية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل قرية وكل حي مجموعة من خمسة أشخاص أو ستة يقال لهم: أنتم الرقباء .. أنتم الحماة .. أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فلا يتخلف عن الصلاة أحد، وتدخل الأمة في بيوت الله تبكي، وينتهي كل شر وفساد.وقد قلت من أربعين سنة: تعالوا بنا نذهب إلى المحافظة .. إلى مدير الشرطة ونقول له: أعطنا بياناً بجرائم هذا الأسبوع من سرق، ومن سب أباه، ومن فعل كذا، وفعل كذا، ونقول له: والله إن وجدنا من المقيمين للصلاة أسماء مسجلة تزيد على (5%) اذبحوني، و(95%) من تاركي الصلاة ومن المصلين اللاهين، وإلى الآن ما استطاع واحد يرد، في أي بلد إسلام، حتى في المدينة، فإن وجدنا نسبة أكثر من (5%) افعلوا ما شئتم، وذلكم لأن ربي يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وليست قوى الأمن هي التي تنهى، إنما الصلاة هي التي تنهى، ومع هذا إلى الآن ما بلغنا في بلد الأمر بالصلاة أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...)

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، هذه هي التربية الربانية الإلهية، فأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعطف على ذلك فعل الخيرات؛ إذ الزكاة قد لا تكفي للسلاح، والعتاد، والجهاد، والفقراء، والأغنياء. إذاً: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:110] مطلق خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، وهذا ترغيب.

إحاطة علم الله بكل شيء

وأخيراً يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110]، وهل نحن مؤمنون بأن الله بصير بأعمالنا، مطلع عليها؟ وهل نذكر هذا؟والله ما ذكره أحد واستطاع أن يغش أو يخدع، بل بلغ بنا الحد أن الخياط يخيط ثوبين: هذا للسوق، وهذا للذمة، وثوب السوق لا يحسن خياطته، وهذا لا، موصى به أو مطالب منه، هذا مثال.ومظاهر الغش والخداع بين المسلمين يعجز القلب عن تصورها، والسر أنهم لا يراقبون الله، والمراقبة ذات أثر، وكما في الحديث: ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).وأسألكم بالله: الذي يفعل فعلاً وهو يرى أن الله يراه هل يسيء عمله ويفسده؟ لا، ولو يذكر أن الله يراه لا يستطيع أن يواصل عمله.وقد بشرنا الرسول وبين لنا هذا، فذاك الإسرائيلي الذي راود ابنة عمه عاماً كاملاً عن نفسها، وهي تتمنع لإيمانها، ولما اضطرتها الحاجة، وألجأها الفقر والخصاصة، وسلمت نفسها مكرهة لجوعها، فما إن جلس منها مجلس الرجل من امرأته وقالت له: أما تخاف الله؟ وبأي حق تفتض هذا الخاتم؟ فقام الشاب يرتعد، وترك المال، وهو يصرخ ويبكي، فهذا ذكرته فذكر؛ لأن قلبه حي، وإنما غشيته غفلة وضلالة، فما إن فطن صرخ.وإن قلنا: هذا في بني إسرائيل والعهد بينهم بعيد، فعندنا في المدينة في سوق التمار على عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، كانت هناك امرأة مؤمنة، وزوجها خرج في غزوة في الجهاد، فاضطرت إلى أن تخرج إلى السوق لتشتري تمراً لأطفالها، وقد كان أغلب قوتهم من التمر، فلما اشترت منه وهي محتجبة لا يرى منها شيئاً، وأرادت أن تخرج يدها وفيها النقود، شاهد كفها يلوح كالقمر فغشيه الشيطان وغطه، وقبّل تلك اليد، فانتزعت يدها منه، فاستفاق، والله إلى جبل أحد وهو يصرخ في الشوارع، يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينتف شعره، حتى دخل إلى المسجد النبوي وشكا إلى الرسول ما أصابه، وسلَّاه الرسول وصبره، وقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] ).

مقومات المسلم الرباني

إذاً: ولو أخذنا بهدي القرآن، وعدنا للهداية القرآنية، آية من سورة العنكبوت، يقول الله في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له، يقول له مربياً؛ معلماً؛ حتى يتخرج ربانياً، يقول له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فهذه خطوة، اقرأ يا رسولنا ما أوحاه الله إليك من الكتاب، والله إن قراءة القرآن ليست على الموتى، ولا من أجل أن يقال: حافظ، إنما قراءة القرآن تكون للتدبر، والتفكر واجتلاء العبر، وأخذ المعاني، والهدى، والنور، فهذه القراءة لا يعادلها شيء إلا ما ذكر معها، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فيقوى إيمانك .. تتم قدرتك .. ويحسن ما شئت من آدابك، وأخلاقك، وكمالاتك؛ لأنها طاقة كاملة من النور.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، يا معاشر المستمعين! سلوا الفقهاء لا يقال: أقامها وهي معوجة أو ناقصة إلا إذا أداها الأداء المشروع، بكامل شروطها، وأركانها، وسننها وآدابها حتى تتولد منها تلك الطاقة النورانية المسماة بالحسنات.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا الله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهذان اثنان، والثالث: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].أرني مؤمناً يذكر الله بقلبه ولسانه، هل يستطيع أن يسب أو يشتم وهو يذكر؟!أرني مؤمناً يذكر الله تقرباً إليه، وتزلفاً وتملقاً إليه بذكر اسمه، وهو ينظر إلى امرأة يتلذذ بالنظر إليها!أرني ذاكراً لله في قلبه ويطفف في كيله أو وزنه! يعد وهو عازم على أن يخلف! يستدين وهو عازم على ألا يقضي ولا يرد! والله ما كان، فكل الجرائم التي ترتكب سببها النسيان، فما ذكروا الله، ولا سألوا عنه، وكل الذي يحدث من الفساد والشر ناتج عن الغفلة عن الله، إما ما عرفوه أو ما عرفوه معرفة كاملة، فنسوه وتركوه، فحصل الذي حصل.والرابعة والأخيرة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وهي كقوله: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110] فحركاتك، وسكناتك، وعملك داخل البيت وخارجه هو تحت نظر الله، فانتبه إلى أنك مراقب في سلوكك، وهذا الذي يشعر بأنه مراقب لا يستطيع أن يغش أو يفسد.وأنا أود أن تدلوني على رجل رباني عرف الله وأحبه، واستقام على طاعته أنه يفسد بينكم، وكل الفساد والشر من الغافلين والجاهلين، والذين لا بصيرة لهم.

طريق الرجوع إلى الله

إذاً: كيف نرجع؟ ما الحل يا عباد الله! ننتظر حتى يأتي عمر بن الخطاب ؟ والله لا يأتي، وإذا جاء عمر يبدأ كما قلنا لكم.عندنا الآن زوار من الشرق والغرب نقول لهم: جربوا، أما عندكم قرى؟فكل قرية فيها ثلاثمائة ساكن إلى ألف، فيتعاهد أهل القرية في صدق ألا يتخلف رجل أو امرأة إلا ذو عذر، فيشهدون كلهم صلاة المغرب والعشاء في مسجد الله .. في بيت الله، فيجتمعون، ولا يبقى في البيت أحد، ولا مقهى ولا دكان، أهل القرية كلهم في المسجد، والنساء وراء حجاب أو ستار، والفحول أمامهن، والمعلم بين أيدي الجميع، ليلة آية وأخرى حديثاً طول العام، فيتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكى أنفسهم، وتطهر أخلاقهم، وتسمو آدابهم، وبعد سنة واحدة يتغير حال أهل الحي أو القرية، وتنتهي كل الإحن والمحن، والأباطيل والترهات، والخرافات والضلالات لأنها نور الله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، هذا الكتاب الكريم.أقول: لم لا نعمل هذا؟كذلك كتاب: (المسجد وبيت المسلم) موجود، فأهل البيت في بيتهم يجتمعون: الأطفال وأمهم يجتمعون بين يدي أبيهم، فيقرءون آية من كتاب الله ويتغنون بها بأنغام نبيلة طيبة؛ حتى يحفظوها، ويبين لهم مراد الله منها، والمطلوب ما هو، فإن كان عقيدة عقدوها، فلا تنحل من قلوبهم، وإن كان أدباً فمن تلك الساعة يلتزمون به ويتأدبون، وإن كان خلقاً تخلقوا به، وإن كان واجباً عرفوه، وإن كان منكراً تركوه.لم ما نفعل؟!والله لو جاء عمر لا يفعل إلا هذا، أما السيف فلا ينفع فينا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لأننا قادرون والحمد لله.الرسول صلى الله عليه وسلم في خمسة أيام بنى مسجد قباء، وفي أقل من شهر بنى هذا المسجد، فما نحتاج إلى عناء ولا مشقة، فالخشب والحطب موجود، نظلل به الناس عن الشمس والمطر، ونجتمع في بيوت الله.فإن قالوا: لا نستطيع.أقول: إذاً: ماذا تستطيعون؟ كيف تطلعون إلى السماء؟ بالسحر؟ أو ما عندكم أمل بأن تخترقوا السموات السبع؟فإن قال قائل: ما عرفنا يا شيخ!أقول: ما عرفتم؟! كيف أنتم مسلمون ولا تعرفون؟! أما قرأتم حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل قام رجل في القرية وقال: يا شيخ! أنا أريد أن أزكي نفسي، فما هي أدوات التزكية؟ ما قام أحد أبداً، ولا يسأل أحد.إذاً: كيف نعرج إلى الملكوت الأعلى ونواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟!هل بالأحلام والآمال الكاذبة أو بالأنساب الفارغة؟!إن حكم الله قد صدر: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، والفتن تنتقل من بلد إلى بلد، وهي عارمة، ولا يطفؤها إلا أن نعود إلى الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:18 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (76)
الحلقة (83)




تفسير سورة البقرة (46)

كان المجتمع الإنساني -ولا زال- يعج بالأديان والعقائد المختلفة، والتي منها اليهودية والنصرانية، وكان أتباع كل ديانة يدعون أن الجنة حكر عليهم دون دليل أو برهان، فردّ الله عليهم قولهم بأن الأجر الكامل والأمن والفرح إنما هو لمن أسلم وجهه لله سبحانه، محسناً في نيته وقوله وعمله، أما جدال اليهود والنصارى وغيرهم، فالله يحكم فيه بينهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:111-113]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، القائلون هم اليهود والنصارى.فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً. والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان صليبياً؛ نصرانياً؛ مسيحياً.ونحن نقول: لن يدخل الجنة -والله- إلا من كان مسلماً؛ حنيفياً.والآن هاتوا البرهان، فالدعاوى إذا لم تدعمها بينات دعواها باطلة، فهاتوا البرهنة على أن اليهود هم أهل الجنة وحدهم، آلله أخبر بذلك؟ وهذا كتابه.وكذلك النصارى! آلله أخبر بأنهم أهل الجنة، وسواهم محرومين منها فليتفضلوا، أين الأدلة والبراهين؟إذاً: دعوى باطلة، ولا تعدو كونها أماني كاذبة: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فقط، والأماني لا قيمة لها، بل تذهب أدراج الرياح.نعم! إذا تمنيت على الله فاسأله، وادعه، وتضرع إليه، واعمل بمقتضيات النجاح والفوز، لا مجرد أن تتمنى، ولهذا يقول: الأماني بضائع النوكى، أي: الحمقى، فالأحمق بضاعته التمني، تجده جالساً تحت الشجرة أو في ظل الجدار ويتمنى أن تأتيه القصعة مملوءة بالرز واللحم.ونحن أيضاً نتمنى على الله كذا .. فكيف تتمنى أنت؟!إذاً: ادع، وتضرع، وابك، واعمل بالأسباب التي تصل بك إلى مرادك، أما أن تعصي الله في ذلك، ولا تلتفت إلى ما قنن أو شرع أو سن من قوانين وسنن بها يصل العبد إلى أهدافه وأغراضه وتقول: أتمنى على الله. فلا.هؤلاء اليهود والنصارى أصحاب الديانة البارزة العالية في العالم، قص الله علينا خبرهم فقال: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، ليس معناه: أن النصارى واليهود هم الذين يدخلون الجنة، ولكن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، فما عليك إلا أن تتهود وادخل، ومع هذا لحسدهم لا يسمحون لأحد أن يتهود، ومن عرض عليهم أن لديه رغبة في أن يكون -والعياذ بالله- يهودياً فلن يقبلوا، وهذا فيه نوع احتكار للجنة، فلا يدخلها إلا يهودي الأصل والنسب من أولاد إسحاق وإسرائيل، فكيف يدخل الجنة من عداهم.وكذلك النصارى يرغبون في تنصير غيرهم؛ لأنهم يعرفون أنهم إلى الهاوية .. إلى جهنم، فهذا مصير لا حد له، ولهذا بودهم أن البشرية كلها تتنصر، ويبذلون الرخيص والغالي، والنفيس والخسيس من أجل أن ينصروا البشرية، وخاصة المسلمين، وأما البوذا، والهنادك، والمجوس وغيرهم من المشركين فلا يهمهم أن يتنصروا أو لا يتنصروا، لكن المسلمون أهل الجنة، الوارثون لدار السلام، هؤلاء فازوا بها، فنصرفهم عن الإسلام.والله إن عند القسس ومن يسمون برجال الدين، خططاً لتدمير الإسلام الأمر العجب.وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة:111]، فهم يؤمنون بالآخرة والقيامة والحساب والجزاء، ويؤمنون كذلك بالجنة، لكن النصارى معتقدهم في الجنة أن فيها الأرواح البشرية فقط، فلا أجسام ولا أبدان ولا ذوات، نعيم روحاني فقط، كالنائم روحه في نعيم أو في جحيم، ولا جسم في ذلك ولا بدن، وهذا كفر صراح وبواح، وصاحبه كافر؛ لأنه كذب الله، وكذب رسله، وكذب العقل وكذب وكذب .. من أجل اتباعه لمشايخ الباطل ورؤساء الضلال.والنصارى إلى الآن لا يعرفون الجنة كما نعرفها، وأن ساكنها يسكنها ببدنه، وأن الأجسام ستكمل وستتحد، وتصبح على جسم واحد، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكون أبناء ثلاث وثلاثين سنة، متساويين في هذه السن، وطول الواحد منا ستون ذراعاً، أي: ثلاثون متراً في الهواء، وهذا الذي كان لأبي البشرية آدم، فلما خلق الله آدم وصوره، ونفخ فيه من روحه كان طوله الجسماني ستون ذراعاً.قال الله تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، أي: هذا الذي يعيشون عليه، وقد قدمنا أن الأمنية والتمني إذا لم يعمل العبد على تحقيق أمنيته من طريق الوسائل المشروعة، والسنن المشروعة للوصول لهذه الأمنية، فهو أحمق، لا قيمة له، ولذا قالوا: الأماني بضائع النوكى. فالأحمق هو الذي يجلس في بيته ويتمنى أن يمتلئ حجره دراهم ودنانير.

معنى قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم ...)

قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111]، حكى قولهم ومعتقدهم وما يتبجحون به، وأخبر أن هذه مجرد أماني لا تتحقق بحال من الأحوال.ونحن قد عرفنا حكم الله الصادر على البشرية كلها أبيضها وأصفرها فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقلنا غير ما مرة: هنا تقرير المصير إلى يوم القيامة أبداً، فالآدمي هو الذي يقرر مصيره بنفسه اليوم قبل أن تتغرغر، وأن تبلغ الروح إلى الحنجرة، فإن هو آمن، وعمل صالحاً حسب ما شرع الشارع الحكيم، فلا قدّم ولا أخّر، ولا زاد ولا نقص، وراعى الزمان والآن، فإن ذلك العلم ينتج زكاة روحه، وطهارة نفسه، وأصبح شبيهاً بأهل الملكوت الأعلى، الملائكة النورانيين الروحانيين، وبذلك أصبح أهلاً للجنة.أما أن يلوثها، ويخبثها، ويدرنها بأوضار الذنوب والمعاصي، ومن أقبحها الشرك والكفر، ويرجو، ويحلم، ويتمنى أن يدخل دار السلام، فوالله ما دخلها، وما هو لها بأهل أبداً.ولقد مضى حكم الله في العالمين: إِنَّ الأَبْرَارَ [الانفطار:13] ما لهم؟ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، والله لفي نعيم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14]، من هم الأبرار؟ ومن هم الفجار؟كل الناس يعرفون البار المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، فبذلك زكت نفسه، وطابت، وطهرت.والفاجر هو الذي فجر عن القانون، وخرج عن النظام، وفسق عن طاعة الله، وأقبل على معاصيه، فسودت نفسه وخبثت، وتعفنت، وما أصبح إلا كالشياطين، والشياطين لا يدخلون الجنة دار السلام، وقد طرد منها إبليس، وأبلس!إذاً: النصارى يتبجحون بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان مسيحياً، ولو تحضر خطب القسس ومواعظهم فإنك تسمع مثل هذا الكلام، واليهود -كذلك أيضاً- في بيعهم يقولون مثل ذلك: بأن الجنة ممنوعة ومحرمة إلا على اليهود.والحمد لله نحن عندنا حكم الله فلا نقول: قال آباؤنا أو أجدادنا أو أسلافنا، بل هذا كتاب الله بين أيدينا.قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فالتقليد الأعمى لا قيمة له، فهو مذموم، وإذا قلدت غيرك لابد وأن يكون عندك دليل وبرهان تثبت به ما قلدته فيه، وهم أجيال وأمم يتبع بعضهم بعضاً على التقليد الأعمى، قالوا: الجنة لنا؛ قلنا بعدهم: الجنة لنا.قلنا لهم: ما الدليل؟ هل عندهم صك من الله عز وجل أو كتاب فيه يدرسون؟ من أين؟قال تعالى: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فهل يستطيعون أن يأتوا ببرهان أي: بحجة، ببيان، بدليل؟والله الذي لا إله غيره ما كان، ولو قدروا عليه لحاجوا به رسول الله، وطرحوه بين يديه، ولكن يطأطئون رءوسهم فيقولون: وجدنا آباءنا، وهكذا قال علماؤنا، وهذه عقيدتنا.ونحن نقول لهم: هاتوا البرهان.

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ...)

قال تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما تزعمون وتدّعون أيها المغفلون، المغرر بهم، المخدوعون، بل القضية: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فهو صاحب الجنة ومولاها وساكنها، ومن لم يسلم وجهه لله، ولم يحسن في أمر الله فهيهات هيهات أن يكون في جوار الله، وأن ينزل دار الأبرار والسلام.

معنى قوله تعالى: (أسلم وجهه لله)

ما معنى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112]؟الإسلام عرفتموه، تقول: فلان أسلمك النقود .. أسلمته البضاعة أي: أعطيته، ومنه بيع السلم.إذاً: أسلم بمعنى: أعطى، والإسلام مصدر، تقول: أسلم يسلم إسلاماً، وفلان أسلم، قد نقول: دخل في الإسلام، ولكن حقيقته أنه أعطى قلبه ووجهه لله، فأسلم وجهه لله وأعطاه لله، فأصبح لا ينظر إلا إلى الله، ولا يحب، ولا يكره ولا يعطي، ولا يأخذ، ولا يبني، ولا يهدم، ولا يزوج، ولا يطلق، ولا ولا .. إلا وهو مع الله، فهذا هو الإسلام.

إحسان العمل وأهميته

قال تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال: أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وهذه الحقيقة لا تنسوها، فقد تصلي ولا تنتج لك صلاتك جراماً أو أوقية، وقد تصوم وتخرج من صيامك بلا شيء، وقد تخوض المعارك والدماء وتخرج بلا شيء، إذ لابد من الإحسان: وهو إتقان العمل وتجويده وتحسينه، حتى ينتج الطاقة التي من شأنه أن يولدها.وهذا جبريل عليه السلام لما سأل أبا القاسم صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، سأله كذلك عن الإحسان، فمبنى هذا الدين على ثلاث دعائم: إيمان، إسلام، إحسان. وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أن هذا الدين يدور على هذه الحقائق الثلاث: إيمان، إسلام، إحسان.لكن ما هو الإحسان؟قلنا: الإحسان هو إتقان العمل، وتجويده، وتحسينه حتى ينتج.وكيف تستطيع أن تحسن عملك وتجوده حتى ينتج؟الجواب: لن تستطيع إلا إذا كنت أثناء العمل كأنك تنظر إلى الله، أو على الأقل تعلم أن الله ينظر إليك.ولا تنخدع فتقول: أنا أحسن عملي، وأتقنه، وأجوده حتى ينتج الطاقة وأنت لا تراقب الله، فلن يكون هذا.فالإحسان كما في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لضعفك- فإنه يراك )، فأنت بين الحالين، فإذا أخذت تتوضأ، تغتسل، تصلي، تجاهد، تقول، تقرأ، فإن كنت مع الله أحسنت عملك، وأديته على الوجه المطلوب، وبذلك ينتج لك الحسنات، وإن أنت أديتها غافلاً فإنها لا تنتج، وهذه محنتنا عامة، وهذه محنة الكل، إلا من أخذ الله بيديه.فإن سأل سائل: ماذا نصنع؟قلنا: هيا نربي أنفسنا، فنعودها ونروضها حتى نصبح دائماً مع الله، فقلوبنا ذاكرة، وألسنتنا ذاكرة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فإذا دخلنا في الصلاة وما شعرنا أننا مع الله، ولا كنا مع الله أبداً، فكيف تنتج هذه العبادة؟!وقد ذكر أهل العلم أن بعض المصلين ليس له من صلاته إلا عُشر، ومنهم من ليس له إلا رُبع .. إلا نصف .. إلا ثلث .. إلا ثلثان، وأكملُنا من تكتب له صلاته كلها؛ لأنه من ساعة ما قال: الله أكبر هو مع الله، فيتكلم معه ويناجيه، ويسأله، ويعظمه، فهو معه لا يلتفت إلى غيره أبداً، فهذا قد صلى، وأنتجت له صلاته النور الذي به يعرف الطريق، ويسلك سبيل الرشاد.إذاً: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وإسلام الوجه هو إعطاء القلب والوجه لله، أي: يعطي كله لربه، وكما قلنا دائماً: إن المسلم الحق لا يبني بناية بدون إذن الله، ولا يهدمها بدون إذن الله، ولا يسافر أو يقيم بدون إذن الله، ولا يتزوج أو يطلق بدون إذن الله؛ إذ هو لله، كما قال تعالى: إِنَّا لِلَّهِ [البقرة:156] أي: كلنا آباؤنا وأمهاتنا، فمن خلقنا؟ من رزقنا؟ من أوجدنا؟ أليس هو؟ فكيف نحن لغيره، بل نحن لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].فمن كان لله -إذاً- عندما يأخذ في الطاعة لابد أن يحسنها حتى تثمر .. أن يجودها .. أن يتقنها؛ لأن المقصود ليس ركوعك وسجودك، إنما المقصود أنك تقضي عشر دقائق مع الله، فتتكلم معه وتناجيه، وتعرض حاجتك، وتبكي بين يديه، وتستأنس لحظة وساعة وأنت بين يدي الله، غافل معرض عن العالم بكل ما فيه، فهذا هو الإحسان، أما الدخول في العبادة بدون إحسان فلا تنتج.والشاهد: أن بعضنا يصلي ويخرج من المسجد يقول الباطل والفجر، والآخر يقول: السلام عليكم، قد فرغنا من الصلاة فيخرج يضحك، ويسب، ويشتم، فأين صلاته؟!



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
ضرورة استيفاء العمل لشروطه وأركانه

إذاً قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ [البقرة:112]، واو الحال، والحال أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فأيما حج أو عمرة أو صدقة أو صلاة أو أي عبادة تعبدها ولم تحسنها فاعلم أنها ذهبت أدراج الرياح، ولن تنتفع بشيء منها، إلا إذا أحسنتها، وأتقنتها، وجودتها.وهذا الإحسان غير ما مرة يتمثل في أن تكون العبادة تؤدى كما شرعها الله، فلا تزد ولا تنقص منها، ولا تقدم ولا تؤخر، فإذا شرع الله لها مكاناً تؤدى فيه فلا يمكن أن تنتج إلا فيه، وإذا عين لها زماناً ووقتاً معيناً فلا يمكن أن تنتج إذا فعلت في غير وقتها، وهذه كلها مقتضيات الإحسان.إذاً: معشر السامعين والسامعات من المؤمنين والمؤمنات! ادعى اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وادعى النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وممكن أن الذين من قبلهم من المشركين وأنواع الأمم الأخرى يكونون قد ادعوا مثلهم، والحكم الفصل في هذه القضية في قوله تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما يدعون أو كما أدعي أنا أو أنت، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، أي: أطاع الله طاعة سليمة، ثابتة، مستوفاة الشروط والأركان، أي: من أجل أن تولد النور، والقضية تدور حول هذا.والحمد لله أنك ترى مثل ذلك في هذه المخترعات، فتجد أن هناك (مكينة) تدور وتولد الكهرباء، ولو اختل هذا الجهاز لا يولد إلا الدخان فقط، قد أصابه الخراب في قطعة من قطعه: إما سقطت أو تغيرت، وهذه العبادات الشرعية كالصوم مثلاً نقول: يا أيها الصائمون! إن لم تحتسب صومك لله، وتلتزم بالشروط التي مشروطة للصيام، فما أنتج لك شيئاً، بل ظللت جائعاً، ظمآن ولا أجر لك.إذاً: الصائم نقول له: صم، وقبل المغرب إن رغبت أن تشرب كأس ليمون فشربت، فإنك لا تعطى أجر الصائم، والله ولا حسنة، فإن قلت: أنا عشر ساعات صائم؟! الجواب: أن القضية ليست قضية جزاء، فإن صمت لله يعطيك أجراً، وتولد الحسنات، لكن هذه العملية فسدت عليك، وأنت الذي أفسدتها، فما تثبت لك ولا حسنة واحدة، وانطفأ ذلك النور.كذلك الصلاة، أنت تصلي أربع ركعات، فإذا قلت: نزيد ركعة، أنا في صحة وعافية، هيا نصلِّ العشاء خمس ركعات، ليس هناك من يقول: صلاتك صحيحة؟ ولم لا تصح؟ هل لأني عصيت الله؟ أنا زدت فقط؟ الجواب: يقول الفقيه: إن العملية بطل مفعولها، فما تنتج لك النور الذي تطلبه، والحسنات تعطلت، فأعد صلاتك.

ثبوت الأجر على الطاعات

قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، بشراكم أيها المؤمنون. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112]، وماذا فعل حتى يكون له أجر؟ وماذا فعل حتى يعطى الأجر؟ فالأجر مقابل عمل؟يا عبد الله! إنه صام، ورابط، وجاهد، وأنفق ماله وجهده وصلى و.. و.. وهذه كلها أعمال لا تذهب سدى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112] على ما عبد الله به من الطاعات، فقد أسلم وجهه وحياته كلها لله. إذاً: فيكون له أجر: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112] والله هو الذي يتولى جزاءه.

نعمة الأمن

قوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، فهنا أمن وفرح، وماذا بقي بعد ذلك؟وإذا كان العبد فرحاً مسروراً وفي نفس الوقت آمناً من كل خوف، فما بعد هذا النعيم من نعيم؟!ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، إلا أن مدلول هذه مادية، والأخرى دنيوية.ودائماً نقول: سبحان الله العظيم! أكبر دولتين في العالم كانتا أمريكا وروسيا، والآن اليابان والصين، تعمل كل واحدة منهما الليل والنهار بأجهزة لا حد لها، من أجل أن تحقق لذلك الشعب التي تحكمه وتسوده أمناً، وطعاماً، وغذاء، ووالله ما أفلحت واحدة، فإن وجد الطعام ما وجد الأمن، بل يوجد في البلد الواحد الجائعون، والمجرمون، والظالمون، والخائفون.سبحان الله العظيم! لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2]، وقد دمر قوى الشر، وهزم أصحاب الفيل من أجلهم، إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وتحقق لأهل الحرم من الطعام والشراب ما لم يتحقق لأمة، وخاصة في تلك الأيام، فالأمن فقط أربعة أشهر ويعلن عن هدنة، لا يرفع فيها السلاح، وهكذا جبل الله قلوبهم وفطرها، فتتجول في أربعة أشهر حيث شئت لا تخاف، وقريش يرحلون رحلة في الصيف إلى الشام، ورحلة في الشتاء إلى اليمن، فيعودون بأرزاق وخيرات لا حد لها، فيبقون في الحرم يشربون الخمر، ويلعبون القمار، ويأكلون ويشربون، وهم آمنون مطمئنون، وهذا إفضال الله وإنعامه عليهم، لأنهم سكان حمى وحماة حرمه.ولما غزا أبرهة عميل النجاشي الكعبة، وأراد تحطيمها والقضاء على ذلك المجد، سلط الله عليهم نوعاً من الطير، طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3]، كهذه القاذفات التي تحملها النفاثات، ودمرهم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5]، لأجل ماذا؟ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، حتى تألف قريش رحلتيها في الشتاء والصيف، ولا تخاف إلا الله. إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وكلما نقرأ هذه الآية ونفكر نقول: سبحان الله! الدول تعمل ليل نهار بأجهزة مختلفة، ووزارات متعددة من أجل فقط أن يؤمنوا الشعب، فلا سرقة، ولا سلب، ولا تلصص عليه، ولا أذية في عرض، ولا مال، ولا دم، فوالله ما حققوا، ومن أجل أن يحققوا الخبز للجميع ما استطاعوا.

ولاية الله سبب للأمن

لو أقبل أي شعب أو أمة على الله إقبالاً صادقاً لحقق لهم ذلك، فوالله لأطعمهم وما جاعوا، ولأمنهم وما خافوا.لكن العرب أنفسهم والمسلمون يعانون إلى الآن من الجوع والخوف، وإلى الآن ما عرفوا الطريق، وعندما لاحت لهم الاشتراكية ظنوا أنهم وصلوا، فجربوها ووجدوها سماً زعافاً.فقلنا لهم: هيا إلى الإسلام. قالوا: ما استطعنا. قلنا: لعلهم مسحورون.ما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله ونحن مسلمون؟ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112].والله لقد تحقق في هذه البلاد أمن على يد عبد العزيز والله ما تحقق في الأرض إلا أيام السلف الصالح في القرون الثلاثة، فلا سلاح، ولا طائرات، ولا قنابل، ولا ولا .. فقط قالوا: لا إله إلا الله وأقاموا دولتهم على دعائم أرادها الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، أقول هذا حتى تعرفوا أن الله لا يخلف وعده، فباب الله مفتوح، فأيما إقليم .. أيما شعب .. أيما جبل عليه ناس أقبلوا على الله في صدق إلا وتحقق لهم هذا الموعود: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]؛ لأنهم أصبحوا أولياءه. وليس أولياء الله: سيدي عبد القادر .. مبروك .. البدوي .. عيدروس ، إنما أولياء الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].واسمع هذا البيان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، والقائل هو الله مالك كل شيء، والذي بيده كل شيء، وهذا الإعلان ممكن لا يكون صحيحاً: لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، فكيف إذاً لا يصدق فيما يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، في الحيوات الثلاث: في الدنيا لا يخافون، في القبر إلى يوم القيامة لا يحزنون، ولا يخافون، في الآخرة لا يخافون ولا يحزنون.

أولياء الله موجودون في كل زمان

الآن تفتَّح العالم بعض الشيء لأسباب معروفة، منها: الاتصالات العالمية بوسائط متعددة.والله قبل فترة من الزمن عندما تدخل على أهل قرية أو مدينة، وتلقى أول رجل وتقول له: يا سيد! أنا غريب الدار، جئت الآن من بلادي وأريد أن تدلني على ولي من أولياء الله في هذه البلاد أزوره، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، فهو لا يفهم أن هناك ولياً بين الناس، وحتى لو ذهبت إلى القاهرة أو دمشق أو بغداد أو مكة فقلت: يا سيد! أنا غريب جئت إلى البلد، فدلني على ولي من أولياء الله أزوره، فوالله ما يقول إلا: امشِ ورائي حتى يصل بك إلى ضريح سيدي فلان، فهذا الولي عنده، أما أن يكون هناك ولي حي يمشي فما هناك أبداً؛ لأنهم عرفوا أن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فمن آذى أو عادى ولي الله فقد أعلن الله الحرب عليه، ومن أعلن الله الحرب عليه ينتصر؟! والله ما هو إلا ينكسر.ومن هنا، أهل المسجد الآن هم أولياء الله، فلا يجوز لك أن تسب أحدنا أو تشتمته أو تؤذيه أو تدفعه، أو تنظر إليه بنظرة شزرة، أو تدس يدك في جيبه تخرج ماله. فهم أولياء الله، وهل تريد أن تعلن الحرب عليك.إذاً: لما يعرف المؤمنون هذا لا تبقى سرقة، ولا خداع، ولا غش، ولا لصوص، ولا جريمة، ولا .. ولا؛ لأنهم أولياء الله، ونحن نعرف أن العامي أمام الولي يرتعد، فإذا دخل الضريح ذاب من الخشوع، فكيف -إذاً- يجد ولياً في الشارع يسبه أو يشتمه ليس بمعقول أبداً.وللأسف أن أعداء الإسلام هم الذين مسخونا، فحولوا القرآن إلى القبور، وأعوذ بالله! أن يكون القرآن يقرأ على القبور، وكيف يقرئ القرآن على ميت: هل سيتحرك .. هل سيقوم ويغتسل من الجنابة .. هل سيرد حقوق الناس، فكيف تعظه وهو ميت، لا إله إلا الله.والمسلمون لهم أكثر من ثمانمائة سنة وهم يقرءون القرآن على الموتى، وهل القرآن نزل ليقرئ على الموتى!ومثل القرآن الأولياء، فلكي يبيحوا أن ينكح الرجل امرأة جاره، ويفسد عليه زوجته ويسلب ماله، قالوا: ما هناك أولياء، فالولي سيدي فلان الذي على قبره قبة خضراء أو بيضاء، أما الشعب كله فما هناك ولي.أرأيتم كيف هبطنا، فهذا أمر عظيم، فمن ادعى أنه ولي يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله أحسن!! أعوذ بالله.إذاً: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:112]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112] في الحيوات الثلاث: الدنيا، والبرزخ، والقيامة، ومن نفى عنهم الخوف والحزن؟ إنه القدير القوي.
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء...)

ذكر مباهلة وفد نجران للرسول وجدال اليهود والنصارى فيما بينهم

قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، هنا اذكروا أن نجران التي في جنوب المملكة كان فيها نصارى كثيرون، والنصرانية تحولت من الشام إليهم بالوسائط، أما اليهودية فقد كانت موجودة في الجنوب وما هناك عجب.جاء وفد مؤلف من ستين فارساً يركبون الخيول جاءوا من نجران إلى المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أخذ الإسلام ينتشر، وأنواره تطّرد في الجزيرة، جاءوا أيضاً ليجادلوا بالباطل لعلهم ينتصرون، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك فندق، لا شيراتون، ولا القصر الأحمر، فوزعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ضيوفاً.إذاً نزلوا في المسجد، وقد كان جلهم علماء؛ قسس ورهبان، فجادلوا في شأن عيسى، وقد عرفتم أن الله أنزل فيهم نيفاً وثمانين آية في آل عمران، وكان الرسول محمد عربياً، لا يعرف عن عيسى ولا عن أمه شيئاً، فظنوا أنهم سيغلبونه، فإذا به يقص عليهم تاريخ جدة عيسى غير تاريخ أمه، فانبهروا، ثم طالبهم بالمباهلة، فما زالوا مصرين أنهم على الحق، فترفع الأيدي إلى الله قائلة: اللهم من كان على الحق فأبقه، ومن كان على الباطلة فأفنه. فاستعدوا! فخرج أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وخرجت فاطمة وراءه، وكان الحسن والحسين عن يمينه وشماله، وكان معهم أيضاً علي ، فما إن شاهدوا تلك الوجوه المشرقة حتى انهاروا انهياراً كاملاً، وقالوا: ويلكم! إن باهلتموه لم تبقَ فيكم عين تطرف، فاستسلموا، ورضوا بالجزية، وأن يعفوا عنهم ويتركهم.وفي خلال هذه الأيام كان اليهود الموجودون متألمين أيضاً من هذا الوفد المسيحي؛ لأنهم أعداء كعداوة الشيطان للإنسان، وهذه الحقيقة -إلى الآن- يجهلها العرب والمسلمون، فاليهودي عدوه الحق هو المسيحي، والمسيحي عدوه الحق اليهودي، أما هذه الظروف فإن السياسة لها سلطانها، وقد استطاع اليهود أن يسيطروا على العالم بالريال والدينار، فأخضعوا أوروبا في سلطانهم، وما أخضعوها بالمال فقط بل أخضعوها بأن كفروهم، فالنصارى ما بقي فيهم من يؤمن بالله، ولقائه، والدار الآخرة نسبة أكثر من (10%) وما عدا ذلك فهم ملاحدة بلاشفة، والذي فعل بهم هذا هم اليهود، بواسطة المذهب الماركسي الشيوعي، القائم على: (لا إله والحياة مادة!) ودرسوا هذا في الكليات والجامعات و.. و.. ما مضت خمسون سنة إلا وجلهم ملاحدة، وما أصبحوا يغضبون لليهود ولا لغيرهم.أما قبل هذا فلئن ينظر النصراني إلى كلب أهون ولا ينظر إلى يهودي، وحسبك أن تعرف أنهم يرون اليهود قتلة إلههم، فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه حسب ما زعموا.

جدال اليهود والنصارى

إذاً لما حضر وفد نجران حضر كذلك اليهود وأخذوا يتجادلون، وهاكم جدالهم في كلمة أنزلها الله في كتابه، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فلا دين عندهم، ولا عقيدة، ولا مبدأ، ولا .. ولا شيء من الدين، وهو والله لكذلك. وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فاليهود قالوا: النصارى ليسوا على شيء، والنصارى قالوا: اليهود كذلك أنتم لستم على شيء.قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، والحال أنهم يقرءون التوراة والإنجيل، وكفر بعضهم، إذاً: فكانوا بذلك صادقين، ولو تقرأ التوراة والله ما تثبت ديانة لليهود، لأنهم قد انمحوا وخرجوا منها، ولو تقرأ الإنجيل ما يبقى أمامك نصراني، فكلهم كذبة دجالين.ولو أنك تفتح التوراة وتحصل على نسخة قليلة التحريف، وتطبق التوراة على اليهود تقول: والله ما آمنوا، وما هم بالمؤمنين؛ لأنهم يتناقضون مع كلام الله.ولو أنك تأخذ إنجيل لوقا، وتقرأ بتأني، وتنظر إلى النصارى لقلت: ما هم بمؤمنين، وما فيهم مؤمنون، وهو كذلك، ويكفي أنهم كفروا بعضهم بعضاً، وشهد الله على ذلك وأقرهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] من الدين أو الحق والصحة وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، بمعنى: أن الدعوة التي ادعاها اليهود وهي أن النصارى ليسوا على شيء ليست عن جهل، بل عن علم؛ لأنهم يقرءون التوراة، وأولئك يقرءون الإنجيل، فالكل شهد بالواقع، وبذلك أعلمنا الله أن اليهود كالنصارى ليسوا على شيء من دين الله، فإن أرادوا دين الله فليسلموا، فهذا كتاب الله بين أيديهم.

معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)

قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113]، ليسوا وحدهم، فالذين لا يعلمون كالمجوس والصابئة .. وأمم، والمشركين يقولون هذه الدعوة.فالمجوس يقولون: لا دين إلا ديننا، وأنت إذا مشيت إلى الهند وعايشت البوذا، تجدهم لا يعترفون بدين صحيح أبداً، يقولون: الدين هذا هو الذي عندنا.أين البراهين؟ أين الحجج؟من بيده كتاب الله لم يزغ حرفاً واحداً، وكذلك من بين أيديهم رسول الله، تحلف بالله .. بالحرام مليون مرة -وإن كان لا يصح- على أنه رسول الله، والله ما حنثت ولا أخطأت، ولا يوجد نبي على الإطلاق تحلف عليه أنه موجود في هذا المكان؟هذا هو الدين الحق، لكن صرفهم عنه شهواتهم، وأطماعهم، وأهواءهم، وذنوبهم، ومساوئهم، ولو بقيت لهم عقول يفكرون بها لاهتدوا، ولكانوا يرحلون يطلبون الحق، ورضي الله عن سلمان الفارسي فكم تنقل من بلد إلى بلد، حتى وصل إلى هذه المدينة، وفي أكثر من ثلاثين سنة يبحث عن دين صحيح، وهم يرشدونه هنا وهنا وهنا.وأخيراً قالوا: إن الدين الحق سيظهر مع نبي في هذه الآونة، فنزل المدينة رقيقاً؛ عبداً، فما إن سمع بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في طوبى حتى هاج وكاد يطير.ولكن الآن من يبحث؟نعم يوجد بعض النصارى يبحثون ويجدون الإسلام، لكنهم نسبة لا تذكر.

معنى قوله تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)

وأخيراً يقول تعالى وقوله الحق: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113]، اتركوهم لله، هو الذي يحكم بينهم فيما هم يختلفون فيه، ويجزي صاحب الحق بالحق، والباطل بالباطل، ولا حق إلا في الإسلام والمسلمين.وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (77)
الحلقة (84)




تفسير سورة البقرة (47)


كثيرة هي دعاوى الكفار والمشركين، فتراهم يزعمون أن لله ولداً، ثم يختلفون: فمنهم من يقول: لله بنات هم الملائكة، وهم مشركو العرب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وترى اليهود يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم حين توجه إلى الكعبة بدلاً من بيت المقدس، ويدعون بطلان الإسلام بهذا التشريع، وترى المشركين يدعون أحقيتهم في البيت الحرام، ويمنعون المسلمين منه، ولكن كل هذه الدعاوى الزائفة تتلاشى أمام براهين الإيمان الساطعة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:114-117].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قد عرفنا -بما عرفنا الله تعالى من فضله في كتابه العزيز- أن اليهود كفَّروا النصارى، والنصارى كفَّروا اليهود، إذ قالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وقالت النصارى لليهود: لستم على شيء. وبعد هذا لا يبقى مجال لأن يشك عاقل في بطلان تلك الديانة اليهودية أو النصرانية، وقد شهد أهلها بالبطلان.ثم الله تعالى يقول: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، فشهادتهم هذه والله شهادة حق؛ لأن اليهود كفَّروا النصارى لعلمهم بما في التوراة والإنجيل، والنصارى كفَّروا اليهود أيضاً لعلمهم لا من باب العناد أو من باب الضدية: إن كفرونا نكفرهم، لا، إنما كما قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، إذاً: فلا يهودية ولا نصرانية.وقد تنازع هنا في هذا المسجد اليهود مع وفد نجران: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] قال تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، والأماني: أحلام ضائعة.إذاً: الجنة لا يدخلها العبد بكونه يهودياً أو نصرانياً، وإنما يدخلها إذا كانت نفسه طاهرة زكية، فتصبح أهلاً لمجاورة أهل الملكوت الأعلى، ولا قضية نسب وشرف، ولا نسبة إلى ملة، وإنما القضية أن عبد الله من البشر أو أمة الله منهم إن زكى نفسه فطيبها .. طهرها .. صفاها أصبحت شبيهة بأنفس وأرواح الملكوت الأعلى، أي: الملائكة. وبهذا يدخل الجنة.أما إذا كانت النفس خبيثة، منتنة، مظلمة كأنفس الشياطين فهي ليست بأهل لأن تدخل الجنة، ومن هنا كن ابن من شئت، فلو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه أو أخاه أو عمه، والله لن يغني ذلك عنك شيئاً، فانزعوا من أذهانكم فكرة النسب.والقرآن الكريم وضح هذه القضية أيما توضيح، فقد قضى على امرأتي نبيين .. رسولين: لوط ونوح بالدخول في النار، وقضى على كنعان بن نوح النبي الرسول بأنه في النار، وقضى على آزر والد إبراهيم؛ أبي الخليل حكم الله عليه أنه في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن سأله عن أبيه فأخبر أنه في النار كأنما تململ وما استراح، قال: ( أبي وأبوك في النار ) فليس أبوك أنت وحدك.وأوضح من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة! إني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار ).ونعود إلى القضية لننهيها، فلا تفهمن أبداً أن نسبتك إلى ولي أو نبي أو عبد صالح تشفع لك، وتدخل الجنة إذا كانت النفس خبيثة، وحكم الله الذي ليس فيه تردد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].ثم لِم الناس لا يطلبون تزكية أنفسهم؟! إذاً: هم الظالمون، فيسمع أحدهم هذا الحكم، ويقرع طبلة أذنه عشرين .. ثلاثين سنة، وهو يعلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ولا يسأل يوماً: بِم تزكَّى النفس؟ كيف نزكيها؟فإن قيل له: المسئول عن هذا في أقصى البلاد، في شرقها وغربها، ليركبن مركوبه ويمشي إليه؛ ما دام المصير متوقف على تزكية نفسه.والأصل أن الواحد منا يسأل نفسه: أنا كيف أزكيها، وما هي الأدوات التي أزكيها بها، وكيف أستعملها يا شيخ؟لكن مع الأسف -وهذا واقع البشرية كلها إلا من رحم الله- لا يسألون، يكفي أنه مسلم .. يكفي أنه يهودي .. يكفي أنه بوذي .. يكفي أنه مجوسي .. يكفي أنه كذا، وهذه كلها أوهام وضلالات.إذا لم تزكِ نفسك يا بشري حتى تصبح كأرواح أهل السماء فلن تدخل الجنة، وهذه الحقيقة مضت بنا يوماً فلا ننساها، وقد عرفنا كيف فصل الله الحكم وبينه.لما تنازع اليهود والنصارى قال تعالى: بَلَى [البقرة:112] ليس الأمر كما يزعمون: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، لا تعطي قلبك ولا وجهك لله وتعرض عن الله ولا تستعمل أدوات التزكية التي شرعها الله، ونفسك منتنة خبيثة، وتقول: ندخل الجنة، والله إنها لحماقة، وجهل وضلال!!
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ...)

التشنيع على من يسعى في خراب المساجد ويمنع ذكر الله فيها

الآن مع هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114]، هذا حكم عام، فلا يوجد على وجه البسيطة من هو أشد ظلماً أو أقبح ظلماً وأسوأه من شخص يمنع مساجد الله: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114].والمساجد: جمع مسجد، أي: مكان السجود لله تعالى، وأيما بناية بنيت على بسم الله، وأطلق عليها اسم مسجد يسجد فيها لله فهي مسجد، وليس هناك أظلم من إنسان يمنع الناس من الصلاة فيها، وذكر الله فيها، وتعلم الهدى والكتاب فيها.ثم لا يكتفي بالمنع، بل يسعى في خرابها، ويعمل ليل نهار على تدميرها أو إسقاطها أو إغلاق أبوابها، أو طرد الناس منها.فإن قال قائل: وهل حصل مثل هذا في التاريخ؟نقول: نعم، حصل في التاريخ القديم من قبل بختنصر عندما دمر المسجد الأقصى كاملاً، وكذلك من قبل قريش عندما منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من دخول المسجد الحرام في السنة السادسة عام صلح الحديبية.إذاً: هذا الحكم عام؛ فأيما بشري يسعى في إفساد بيت من بيوت الله بأي نوع من الفساد، إما بمنع الناس من الصلاة فيها أو بإفسادها وهدمها أو تغيير أحوالها فيعتبر من أعظم الناس ظلماً بهذا النص الإلهي الكريم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، والخراب والتدمير بمعنى واحد.

حكم دخول المشركين والكفار إلى المساجد

ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:114] البعداء مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114]، فقضى الله تعالى على هذه الأمة بأن تمنع كل من يريد أن يدخل بيت الله من المشركين والكافرين، وإن أرادت أن يدخل فتأذن له، فلا يدخلها قاهراً مذلاً للمؤمنين، إنما يدخلها بإذنهم لحاجة اقتضت ذلك، أما أن يدخلوا بقوة وعنف، غير مبالين بسلطان المسلمين، فهذا حرام علينا أن نذل لهم، وأن نسكن ونتركهم يدخلون بيوت الله وهم نجس، هذا في عامة المساجد.أما المسجد الحرام فلا يحل لمشرك أن يدخله، ولا يحل للمسلمين أن يأذنوا في دخول هذا المشرك إلى المسجد الحرام، إذ قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، والمسجد النبوي كذلك مسجد فيه حرم، وحمى حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة، فالمدينة حرام من عير إلى ثور ).إذاً: فهذان المسجدان لهما ميزتهما، فلا يسمح لكافر مشرك يهودي أو نصراني أن يدخلهما، وأما باقي المساجد فإن دخلوا بإذننا فلا حرج، أما إن يدخلوا قاهرين أو متسلطين، فلا، بل يجب أن نجاهد.إذاً قوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] معناه: إن دخلوا بأمرنا وإذننا وهم أذلاء خائفون فليدخلوا، أما أن يدخلوا قاهرين فلا؛ لأنهم إذا دخلوها قاهرين فقد يبولون فيها ويدمرونها، ولكن إذا دخلوا تحت إشرافنا وبإذننا وهم في ذلك مطأطئو الرءوس منكسرون، فلا حرج، وهذا هو حكم الله: مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114].

سوء عاقبة من منع الذكر في بيوت الله وسعى في خرابها

قال تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، من هؤلاء الذين توعدهم الجبار -جل جلاله، وعظم سلطانه- بالخزي في الدنيا وعذاب الآخرة؟ إنهم -باستثناء أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله- اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئة، والبوذا، والهنادك، وكل الملل: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، لِم؟ لأنهم أعرضوا عن الله، وحاربوا مولاهم، وعادوه، وعادوا أولياءه، وحاربوه، وحاربوا أولياءه فكيف ينعم عليهم بأن يسكنهم في دار السلام؟!ولا تقولن: من الجائز أن يكونوا ما بلغتهم الدعوة.أقول: لقد بلغت هذه الدعوة الآن الشرق والغرب، فلا يوجد بلد في العالم ما بلغ أهله أن هناك ديناً إسلامياً، لا يقبل الله ديناً سواه، وهذا في كل أنحاء المعمورة.وهذا سر أن الله تعالى ختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أن العالم سيكون في يوم من الأيام كمدينة واحدة، فالآن من طلوع الشمس إلى غروبها هذا العالم المسكون كأنه بلد واحد، والأنباء تتوارد، والأخبار تتساقط عليهم من العلو، والمراكب والطائرات كأنهم في بلد واحد، فلا يحتاجون إلى تعدد الرسالات.أعود فأقول: لعل بعض السامعين ما عرفوا هذه الحقيقة، وهي لِم ختم الله النبوات بنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والعالم عالم؟الجواب: علماً منه تعالى بأن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستصبح هذه الدعوة تبلغهم من أي جانب، والآن الإذاعات من خمسين سنة وهي تذيع، والعالم كامل يسمع، والمسافة التي تمشيها في شهر وشهرين وثلاثة تمشيها الآن في ساعة، فاتصل العالم ببعضه البعض، فمن هنا نبوة واحدة ونبي واحد يكفي، بخلاف ما قبل النبوة المحمدية فالأقاليم متباعدة، فالإقليم هذا لا يعرف عن ذلك الإقليم الآخر حتى يموتوا إلا من ندر، فكان الله يبعث في كل أمة رسولاً، فيبعثه وينبؤه ويعلمها، لكن لعلمه الأزلي القديم أن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستبلغ هذه الدعوة الشرق والغرب ختم الرسالات بهذه الرسالة، فلا يقولن قائل: ممكن البلد الفلاني ما بلغته الدعوة، فإنه لا يوجد بلد ما بلغته الدعوة في هذه الأعصر.

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ...)

قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، ذكرنا فيما سبق أن اليهود شنعوا، وقبحوا، وأنكروا على الرسول: لم يترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، والآن يستقبل بلده، ويترك بيت المقدس.وهذه المسألة دار فيها صراع ونزاع كبير في المدينة، وسيأتي بيان ذلك في الآيات الآتية.والشاهد أنهم لما تكلموا قال الله لهم: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فلا تثيروا زوبعة وفتنة في قضية القبلة، فالمشارق والمغارب كلها لله، وحيثما اتجهتم فثم وجه الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أي: وجوهكم: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].إذاً: بيان هذه القضية، اذكروا ما سمعتموه من أن العوالم هذه يقبضها الجبار في قبضته كما قال تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، والأرض يضعها في يده، ويقلبها كحبة خردل، واقرءوا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فهذا الذي الملك كله في قبضته.فكيف نقول: لا يوجد؟نقول: أينما اتجهت فثم الله، شرّق أو غرّب، تشاءم أو تيامن، فالله عز وجل فوق الكل، فهو في كل مكان بقدرته، وعلمه مع علوه.والمثل البسيط: الشمس، لما تكون أنت تحتها حيثما اتجهت، فهي ليست معك بل بينك وبينها ما لا يعد ولا يحصى من الأميال، ولكن بكبرها وعظم جسمها -وهي أكبر من الأرض مليون ونصف المليون مرة- هي معك، فهذا المثال يقرب المعنى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، فهل تضامون في رؤيته )، تتزاحمون حتى تشاهدوه، فحيثما وقفت رأيته.إذاً: فهذه الثورة أو الدعوى التي أقامها اليهود في قضية القبلة دعوى باطلة، فالله عز وجل ليس في بيت المقدس، ولا في مكان آخر، فالله عز وجل فوق خلقه، والخلق كله في قبضته وتحت سلطانه حيثما اتجه عبد الله هو اتجه نحو القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] خلقاً، وملكاً، وتدبيراً فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أيها الناس فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
حكم استقبال القبلة للصلاة

هنا القاعدة والقضية الفقهية هذا موطنها، نقول: استقبال الكعبة .. استقبال البيت لمن قدر عليه واجب، ولا تصح صلاتك إن لم تستقبل بيت الله، لكن إذا عجزت عن استقبالها، كالمريض على السرير لا يستطيع أن يستقبل البيت، ولا يجد من يوجهه، فتصح صلاته إلى غير القبلة، لقوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهو أراد الله ليناجيه لكنه ما استطاع أن يستقبل، فلم يكن استقبال الكعبة شرطاً.كذلك الإنسان الخائف الذي لا يستطيع أن يستدبر المكان الذي فيه العدو، فأصبح عاجزاً عن القبلة فإنه يصلي وهو خائف، وإن كان بعيداً، منحرفاً عن القبلة، مطارداً يجري العدو وراءه فإنه يصلي حيث أمكن، وصلاته صحيحة، لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].كذلك الجاهل الذي لا يعرف القبلة وقد اجتهد فقال: ممكن أن هنا القبلة، وقام فصلى سنة كاملة، وجاء من قال: إن هذه القبلة ليست بسليمة، والقبلة التي تركتها جهتها كذا، فصلاة هذا الجاهل صحيحة، ولا شيء عليه، واقرأ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].

التفريق بين الفريضة والنافلة في استقبال القبلة

أما النافلة فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب دابته أو بغلته أو بعيره إلى غير القبلة، وكل من يركب سيارة أو بعيراً أو بغلاً يتنفل حيث اتجهت دابته، ولا يبالي؛ لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على راحلته، والآن نحن نصلي النافلة على السيارة، ولا حرج، لكن الفريضة لا.فالفريضة على القطار والطائرة والسيارة فيها هذا البيان: فإذا كنت سألت ربانها وقائدها فأجابك أن الطائرة سوف تنزل في المطار الفلاني قبل غروب الشمس بنصف ساعة أو بساعة، ففي هذه الحال لا تصل الظهر والعصر على الطائرة، وأخرهما جامعاً لهما جمع تأخير حتى تنزل في المطار، وتتوضأ وتصلي أو تتيمم وتصلي إن لم تجد ماء.كذلك صلاتي المغرب والعشاء؛ فإذا كنت تعلم أن الطائرة ستنزل بعد نصف الليل أو قبله، والمهم قبل الفجر، فأخر المغرب والعشاء إلى أن تنزل من على الطائرة وتصليهما على الأرض مستقبل القبلة.والصبح هو الوقت الضيق، فكذلك إن عرفت أن الطائرة تنزل في المطار قبل طلوع الشمس أخّر، وإن كنت تعرف أنها لا تنزل إلا بعد طلوع الشمس فصلّ.وهكذا الفريضة لا تصلى إلا على الأرض ما دمت مستطيعاً، والقطار كالسيارة؛ لأن بعض السائقين في غير بلادنا هذه لا يوقف سيارته، بل تجده يصرخ ولا يلتفت إليك، ولا يقف، فأنت انظر إذا خفت أن لا تصل السيارة إلى مكان إلا بعد غروب الشمس فصلّ على السيارة، فإن علمت أنك ستنزل قبل الغروب فصلّ الظهر والعصر على الأرض جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، هذا في الفريضة.أما النافلة: فتنفل كما شئت على السيارة .. على الدابة .. على البعير، واستقبل القبلة أو لا تستقبل، كيفما كانت؛ لأنها ذكر وتسبيح، والله حيثما كنت فوجهه هناك، أخذاً من قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، أي: واسع الفضل، والكرم، والإحسان .. واسع الذات جل جلاله وعظم سلطانه، عليم بخلقه، وحاجاتهم، واضطرارهم، وقدراتهم، وضعفهم، وهو الذي أذن لك.وإذا صليت إلى غير القبلة ركعة .. ركعتين، وناداك منادي أن اتجه كذا، إلى يمينك مثلاً، فيجب أن تطيعه بلا تردد.

حكم من صلى إلى غير القبلة

يبقى دقيقة أخرى فقهية: إذا صليت إلى غير القبلة وما زال الوقت، وجاء من علّمك أن القبلة هنا وليست هناك، فيستحب لك أن تعيد صلاتك، هذا إذا لم يخرج الوقت.أما إن صليت وخرج الوقت فلا إعادة إجماعاً على شرط -أيضاً- أن تجتهد، لا أنك تصلي بدون مبالاة أصبت القبلة أو أخطأت، لابد وأن تجتهد في معرفتها في حدود طاقتك، إما بالسؤال، إما بالنظر إلى الكواكب، وإما وإما .. فإن اجتهدت وصليت فصحت صلاتك، وإن أخطأت القبلة وكان الوقت ما زال، فيستحب لك أن تعيد استحباباً كالنافلة، وإن لم تعد فلا حرج.أما إذا دخل المغرب، أو طلع الفجر على المغرب والعشاء، أو طلعت الشمس فلا إعادة.

حكم صلاة النافلة والفريضة على وسائل النقل

بالنسبة إلى المراكب: على السيارة .. على البهيمة .. على أي مركوب تصلى النافلة بلا خلاف.والخلاف فقط في الفريضة، هل تصلى على الطائرة أو فوق السيارة أو القطار أو الحمار؟الجواب: لا تصلي إلا إذا خفت -موقناً- أن الوقت يخرج، أما إذا كان الوقت لا يخرج، وأنك تصل إلى الأرض قبل غروب الشمس فلا تصل الظهر ولا العصر، وأخرهما واجمعهما حتى تصليهما على الأرض، وكذا المغرب والعشاء.والنافلة المطلقة صلها على أي مركوب، ونحن الآن نصلي النافلة على السيارة في شوارع المدينة خشية أن تفوتنا هذه النافلة فنصليها، ولا حرج.

حكم صلاة النافلة في الأوقات المكروهة

السؤال: هل نصلي النافلة قبل غروب الشمس .. قبل طلوعها .. بعد الطلوع . بعد الغروب؟الجواب: نقول: هناك خمسة أوقات لا نافلة فيها، وقد نهينا أن نصلي النافلة فيها، لكن ما هذه الأوقات الخمسة؟ أولاً: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا وقت.ثانياً: عندما تبزغ الشمس ويطلع رأسها، فلا نافلة حتى ترتفع من الأرض مقدار متر أو أكثر، هذان وقتان.والوقت الثالث: إذا وقفت الشمس في كبد السماء، فالشمس عندما تراها، تراها طالعة في ارتفاع، ثم تصل إلى مستوى فتقف، حتى تدحض وتميل، فإذا وقفت عبدها عبادها، فلا يحل حينئذ أن تصلي النافلة؛ لأنك تشبهت بعبدة الشمس، فإذا دحضت ومالت إلى الغروب صل، ويستمر الجواز إلى أن يؤذن العصر وتميل الشمس وتصفر.رابعاً: وبعد صلاة العصر لا نافلة حتى تصفر الشمس، هذا وقت.خامساً: ومن اصفرار الشمس إلى غروبها وقت ثاني، فهذه بالتفصيل خمسة أوقات.ولا يستثنى إلا تحية المسجد، أو ركعتي الطواف فقط، فصلاة تحية المسجد إذا كانت الشمس بيضاء نقية لا تتردد، ولا تجلس حتى تصلي ركعتين في بيت الله، وفي أي مسجد دخلته إذا أردت الجلوس.أما عند الغروب والطلوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة )، فإذا أنت دخلت المسجد، والشمس تكاد تغمض عينها فأنت مخير، إن خفت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وما استطعت مخالفة الحديث تصلي ولا حرج، وإن خفت أيضاً من أن الرسول نهى عن الصلاة في هذا الوقت، فهذا تشبه بعباد الشمس الذين -الآن- وقفوا يعبدون، وقلت: أنا لا أقف، فإن جلست فوالله لا شيء عليك، وأنت مأجور، عرفتم، هذا مع الطلوع والغروب.

حكم تحية المسجد والإمام يخطب الجمعة

مسألة أخرى: وهي تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة.للعلماء في هذا بحث طويل، ونحن فتح الله علينا، ووفقنا للجمع؛ حتى لا نفرق بين مالكي وحنبلي وشافعي وحنفي، فنقول: إذا دخلت يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب الناس فصلّ ركعتين خفيفتين، وأنت لما تأخذ تصلي ليس من حق أخيك أن يجذبك من ردائك ويقول لك: اجلس، لا حق له والله، وكذلك إذا جاء أخوك وجلس فليس من حقك أن تدفعه وتقول له: قم فصلّ؛ لأن القضية قضية علم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للذي دخل المسجد: ( اجلس فقد آذيت )، فمن هنا لا يبقى خلاف؛ لأن الذي قرأ الفقه الحنفي أو المالكي وعرف أنه إذا كان الإمام يخطب ما يصلي، وبشواهد وأدلة يجلس فقط، فما هو آثم والله، فأنت كونك تقول له: قم، وتدفعه، لا، هو على علم، والذي جاء فصلى عملاً بما صح من سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم بدون حاجة إلى تأويله، قال: قم فصل، والرسول يخطب، وأصحاب الرأي الآخر يقولون: لأمر ما، وهي قضية بعينها.فنحن نقول: الحمد لله، يجمع الله بيننا ولا نفترق، فمن صلى إياك أن تجذبه وتقول له: حرام عليك. فقد صلى بدليل كالشمس، ومن جلس ولم يقم يصلي فلا تدفعه، ولا تقل: صلّ؛ لأنه جلس على علم أيضاً، وبهذا أصبحنا جماعة واحدة.إذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، هذا هو الذي به عرفنا أن الأمر واسع، وأنه لا شرط أبداً أن تستقبل القبلة إذا كنت لا تعرفها، أو إذا كنت خائفاً أو هارباً فصلّ حيثما أمكن، أما إذا كنت قادراً فلابد أن تستقبل القبلة وإلا فصلاتك لا تصح؛ لأن استقبال القبلة شرط في صحتها، لكن مع العجز وعدم العلم فلا حرج.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون)

ادعاء الكافرين الولد لله سبحانه وتعالى

قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، هذه فرية أخرى وكذبة من الكذب، وقد تورط فيها العرب والعجم: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116] أنى يكون له ولد.والقائلون هم قبائل بني لحيان من العرب الجهلة قبل الإسلام، كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فيؤمنون بوجود الملائكة، ويعرفون هذا، لكن ينسبونهم إلى الله، فيقولون: بنات الله، والله عز وجل رد عليهم: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155]. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قالوا: إن الله تعالى وحاشا أصهر إلى الجن، فأنجب الملائكة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158] في جهنم.إذاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].والشاهد عندنا أن هذا مقرر في كتاب الله، وقد انمحى أثره نهائياً من جزيرة العرب، وانتهى من يقول: الملائكة بنات الله.وبقي اليهود يقولون: عزير ابن الله، وما هي الحالة التي دعتهم إلى مثل هذه المقولة الباطلة؟تقول الأخبار: إن عزيراً عليه السلام وهو نبي من الأنبياء لما غزاهم بختنصر -عليه لعائن الله- ودمر البلاد والعباد، ومزقهم، وأخذ التوراة إلى بلاده بابل بالعراق، ففقد اليهود التوراة، والتوراة فيها ألف سورة لا تحفظ، وحفظها غير متأتي للإنسان، فأملاها عليهم عزير، فيكتبون وهو يملي، حتى فرغ منها فقالوا: هذا ابن الله، ولن يكون إلا ابن الله، كيف يحفظها، وشاعت الإشاعة، ونشرها الشيطان، ونفخ فيها، وأيدها العلماء الماديون وقالوا: عزير ابن الله، وأصبحوا يتوسلون به إلى الله، ويعبدونه مع الله.وأما النصارى فمحنتهم واضحة، ما دام عيسى عليه السلام ما له أب، فقد كان بكلمة التكوين الإلهية إذاً: من أبوه؟ قيل لهم: الله، الله هو أبوه، إذاً: عيسى ابن الله، مع أن هذه أضحوكة، فبدلاً أن يعرفوا أن عيسى كان آية من آيات الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وحملته في ساعة فقط، نفخ جبريل عليه السلام في كم الدرع، فسرت النفخة وما هي إلا ساعة وتخلق عيسى، وجاءها المخاض إلى النخلة، وولدت: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23].ثم أعظم من هذا أن عيسى كلمهم يوم ولادته، فهل البشري يتكلم في أسبوع الولادة أو في يومها، إنه يحتاج إلى سنتين حتى يتكلم، وهو في يدها كلموه، فقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، فهذا الكلام قاله يوم الولادة، وأخبر بما يؤول أمره إليه، وما كتبه الله له عليه، أبعد هذا يقال: هذا ابن الله، فهو يصرح: إني عبد الله، ولكن رؤساء الفتنة، والشياطين من الإنس والجن، والعوام، والبلهاء، والمغرور والأمم الهابطة إلى الآن، مئات الملايين يعتقدون أن عيسى ابن الله، فأية أضحوكة أعظم من هذه؟!والآن يقول بعض الخواص: لما تضغط على القس يقول: نحن لا نقول: إن الله والده ولكن من باب التشريف والتكريم فقط نقول فيه: ابن الله، أما اعتقادنا فهو يتنافى مع ما نقول، وهذه مجرد حيلة فقط، وكونك تقول: عيسى ابن الله، فإذا قلتها وكنت كاذباً فأنت كافر، ولو قال شخص: عيسى ابن الله، يقول: أنا لست مؤمناً بهذا، ونطق بها، فهذا والله خرج من الملة وكفر، والعياذ بالله، وكذب على الله.

تنزيه الله عن اتخاذ الولد

هذه الطوائف الذين سمعتم عنهم، يقول تعالى -يا للعجب-: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، أي: تقدس وتنزه أن يكون له ولد، فالذي له ملك السماوات والأرض يحتاج إلى ولد؟! أيعقل هذا؟! حدث عقلك ومنطقك عن الذي له كل الخلق من الملائكة والإنس والجن، وكلهم عبيده يستخدمهم، ويتصرف فيهم كيفما يشاء، هل يحتاج إلى ولد؟ وكيف يمكن هذا الكلام؟!قال: سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ هذه البرهنة، فلا يوجد كائن إلا والله مالكه، لا في العوالم العلوية، ولا في السفلية، أمثل هذا الغني يحتاج إلى ولد؟ وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟ أيعقل أن يوجد ولد بدون زوجة؟ دلونا عليه!ورضي الله عن إخواننا من الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:1-3]، والمراد من الصاحبة: الزوجة؛ لأنها تصحبه طول حياته: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:3-4]، فسفهاؤنا كانوا يقولون هذا الكذب الفظيع على الله عز وجل، وهذا الظلم الفاحش.إذاً هؤلاء الجن يقررون هذه الحقيقة، وأما النصارى فيطيرون في السماء، ويغوصون في الماء، ويدعون صناعة الكمبيوتر والعقل الإلكتروني، ونحن هابطون إلى هذا الهبوط، وما صحنا في النصارى يوماً من الأيام: يا نصارى! أين يذهب بعقولكم، ادخلوا في الإسلام وأبناءكم وأطفالكم ورحمة الله معكم، ويؤدبون القسس ورجال الكنائس المضللين الذين يحرفون على البشرية دين الله؛ لأنهم كالبهائم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].ثم قال: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، أي: خاضعون ذليلون، فما هناك من يرفع رأسه على الله أبداً، فالكل قانت خاضع، فيجري الله أحكامه عليهم بالموت .. بالحياة .. بالكبر .. بالصغر .. كما يشاء، وليس هناك من يقف في وجه الله، فالكل مطأطئ رأسه.

تفسير قوله تعالى: (بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)

قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، وهل الذي ابتدع هذا الكون وخلقه يحتاج إلى الولد، ألا يستحون .. ألا يخجلون، وهذا كشخص -مثلاً- يملك إقليماً كاملاً، وتقول: هذا الجدي له، وهو يحافظ عليه، أيحتاج إلى الجدي وهو يملك الإقليم بكامله! عيب هذا الكلام، ولكن الشياطين هي التي تفسد على البشر عقولهم وقلوبهم، وعلى الذي يسمع لها ويستجيب لها.إذاً: هذه براهين وحجج كالشمس.قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وأيضاً وَإِذَا قَضَى أَمْرًا وحكم بوجوده فقط فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، فما يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وشواهد هذا لا حد لها، ولا حصر.فقوله: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا [البقرة:117] فإن قضاه أزلاً وأراد أن يكون فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:22 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (78)
الحلقة (85)




تفسير سورة البقرة (48)

الجهل سبب كل الرزايا، بما في ذلك رزية الكفر، فهاهم كفار قريش يشترطون لإيمانهم أن يكلمهم الله كفاحاً، أو تأتيهم آية، رغم أنه قد جاءتهم آيات، ولأن داء مشركي قريش والمشركين السابقين واحد، فقلوبهم واحدة، إذ كان طلب قوم موسى منه أن يروا الله جهرة حتى يؤمنوا! ولأن هذا الموقف يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بين سبحانه أن مهمة الأنبياء ومثلهم الدعاة هو البيان، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ...)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ .. [البقرة:118-120] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!إليكم هذا الخبر الإلهي ومن أصدق من الله قولاً أو حديثاً، يخبر تعالى يقول: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118]، حتى يؤمنوا.أولاً: تأملوا قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118].ومن هنا نعود نذكر أنفسنا وإخواننا وكل من يقبل التذكير فنقول: إن الخبث، والشر، والظلم، والفساد هذه التي تعاني منها البشرية في العالم مردها إلى الجهل، وعلتها عدم العلم.وهذا شاهد قرآني، وخبر من أخبار الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118]، فلو كانوا يعلمون ما قالوا هذه القولة الرديئة الهابطة، لكن الجهل هو السبب، فمن هنا -وهذه القضية قررناها وتحدثنا فيها ما شاء الله- الشر، والظلم، والفساد، والخبث مبغوض مكروه لكل ذي عقل، وعلة وجود ذلك كله هو الجهل.وقد سبق أن قلنا مرات: لو انعقد مؤتمر لعلماء النفس والاجتماع والسياسة والأدب والفلك والعلوم الكونية على اختلافها، وطرحنا عليهم هذا السؤال: ما سبب الظلم الذي انتشر في العالم، والسرقات، والتلصص، والجرائم، والقتل، والاعتداء، والحروب؟ وما سبب الخبث من اللواط إلى الزنا .. إلى أفظع ما يكون، وقد خمت الدنيا بهذا الشر والفساد؟ وما سبب وجود شر عام في كل مجالات الحياة؟هل ترون أنهم يستطيعون أن يعللوا لهذا؟أما أنا فأقول: والله لا يقدرون على هذا، وما هم له بأهل، وأنتم الآن أصبحتم قادرين على التعليم، وإليكم الدليل والبرهنة، فهل بلغكم أن الأنبياء والرسل يزنون ويفجرون أو يعبثون ويأخذون الباطل ويعملون به؟أبداً، والله ما كان.هل بلغكم أن العلماء الربانيين في العالم الإسلامي يفجرون، ويسرقون، ويكذبون، ويخونون؟ والله ما كان.فهذه برهنة واضحة.أزيد إخواننا فأقول: في أي بيت، الذي يكون أعلمنا بالله وأعرفنا بما عنده هو أتقانا فيه، وأجهلنا هو الذي يكون أظلمنا وأشرنا، والله لا نتردد في هذا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وضرب الله الأمثال فقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال لرسوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].إذاً: هذه فائدة عظيمة جليلة استفدناها من هذه الآية.ثم يجب أن نعلم أنفسنا وإخواننا، فيا من يريدون أن يصلحوا البلاد والعباد! علموا النساء والرجال والأطفال حتى يعرفوا ربهم معرفة يقينية، ويعرفوا ما يحب وما يكره، فيصبحوا أهلاً لأن يستقيموا على منهج الله، وإلا فإن الخبط، والخلط، والاضطراب، والقلق، والفتن لا تنتهي. وإياك أن تفهم أنها تنتهي بالحديد والنار، لا تنتهي إلا بالعلم، ومن أجل هذا أرسل الله الرسل.

معنى قوله تعالى: (لولا يكلمنا الله)

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118] ماذا قالوا؟ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [البقرة:118]، فإذا كلمنا وسمعنا كلامه آمنا بكتابه، ورسوله، وشرعه.وهذا لا يقوله عالم.ولو كلم الله الناس وخاطبهم وسمعوا كلامه ما بقي معنى للتكليف ولا للحياة كلها، إذ لو أراد الله أن يخلق البشر كالملائكة فلا يفسقون، ولا يفجرون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون لفعل، لكن الله أراد أن يمتحن البشرية والجن فيأمرهم بالإيمان بالغيب، ويكلفهم، فمن أطاعه وطلب رضاه وهداه اهتدى، ورضي عنه، وأكرمه وأنزله في جواره، ومن رغب عن ذلك وأعرض وانصرف هيأ له داراً تناسبه، وهي النار؛ عالم الشقاء.فكون الله يكلمهم كلاماً حتى يؤمنوا هذا يتنافى مع الحكمة من خلق البشر وإرسال الرسل.

معنى قوله تعالى: (أو تأتينا آية)

قوله: أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] كالتي كانت لموسى عليه السلام، فالعصا انقلبت ثعباناً تهتز كأنها جان، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء نقية كأنها فلقة قمر.وفي العرض الذي تم مع السحرة الذين ملئوا الوادي بالحيات والثعابين، ثغرت عصا موسى فاها، ودخل فيها كل ذلك الباطل.أو يريدون آيات كآيات عيسى في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.فهذا الكلام طلبه من طلبه من الجهال، فقالوا: لا نؤمن بك يا محمد رسولاً، ولا بما جئت به ديناً وشرعاً حتى تأتينا آية أو يكلمنا الله، وهذا عناد ومكابرة، ولا تصح من ذي عقل فضلاً عن ذي علم.

معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين من قبلهم)

قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:118] أي: فليسوا أول من طالب بهذه المطالب التي لا تقبل ولا تعقل في دار الامتحان والابتلاء والاختبار، بل تقدم لنا أن السبعين رجلاً الذين اختارهم موسى لكلام الله، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا وجه الله؟ وبعد أن سمعوا الكلام ما اقتنعوا، فهؤلاء الذين يقولون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ والله لو كلمهم ما آمنوا، ولا قبلوا، بل يزدادون عناداً.وسبق أن هؤلاء السبعين الممتازين اختارهم موسى إلى جبل الطور، وسمعوا كلام الله: فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، فالهداية بيد الله، فمن طلبها من الله في صدق هداه الله، ومن استنكف، وتكبر، وأعرض أضله الله.وقوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي: كما يقولون.

معنى قوله تعالى: (تشابهت قلوبهم)

قال تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]، أي: تشابهت قلوب الأولين والآخرين .. قلوب المعاندين والمكابرين.لكن ما سبب تشابه القلوب؟ فالقلوب من حيث هذا العضو الصنوبري متساوية، لكن مختلفة في الفهم والإدراك، والعلم، والمعرفة. فما سر هذا التشابه بين قلوبهم؟إنه الشيطان الذي أغوى آدم حتى أخرجه من الجنة، فالشيطان الذي أغوى من أغوى من البشر والجن واحد، فمن هنا القلوب متشابهة، فالباطل الذي يقوله أحد الناس اليوم يقوله من يأتي بعد قرن، والقول الذي يقوله المبطل اليوم قد قيل من قبله بمئات بل بآلاف السنين؛ لأن الدافع أو المحرك أو المزين أو الباعث واحد، فالصنعة -إذاً- واحدة، والبضاعة واحدة؛ ولأن مروّجها واحد هو الشيطان.قال: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فيمَ تشابهت؟تشابهت في الجهل، والكفر، والظلم، والعناد؛ لأن الباعث على هذا الفساد والشر هو إبليس -عليه لعائن الله-، وقد قال وهو بين يدي الله: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فمن هنا تشابهت القلوب، فثقوا وافهموا واعلموا أن ما يقوله الضال اليوم فقد سبق أن قاله الضلال منذ ألف سنة، وعشرة آلاف سنة؛ لأن الدافع واحد، والمحرك واحد، وليس هناك اختلاف.

معنى قوله تعالى: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون)

قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118]، الذين أيقنوا بعد أن علموا أنها تنزيل العزيز الحكيم، فآيات القرآن المبينة المفصلة، المظهرة للحق، المميزة له من الباطل، هذه الآيات قد بينت بالأدلة القطعية، والبراهين الساطعة والحجج التي لا ترد ما كذب به هؤلاء المكذبون، وكفر به هؤلاء الكافرون؛ وذلك من وجود الله الحي القيوم، السميع البصير، العليم الخبير، وأنه لا إله إلا هو، وأن سائر الآلهة المدعاة المعبودة باطلة، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه ذو قدرة لا يعجزها شيء، وعلم أحاط بكل شيء، وحكمة ما خلا منها شيء، أكثر من أن يشاهدوا آية فجأة وتنتهي، كأن يكلمهم ساعة ويسمعون كلامه، ثم يقولون: ما سمعنا، أو يحيي لهم ميت أو أمواتاً ثم يقولون: سحركم، وكيف يحيا الميت!وهذا أخبر تعالى عنه من سورة الحجر: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، وهل هناك أعظم من هذا؟ إنها رحلة إلى الملكوت الأعلى، فتعالوا أنتم وأبناءكم ونساءكم، واصعدوا إلى السماء السابعة، ثم انزلوا، فهل يقولون حقاً: ما رأيناه آمنا به، لا إله إلا الله محمد رسول الله. والله ما قالوا إلا: سحر أعينكم، أنتم مجانين! هل هناك من يصعد إلى السماء؟ لأن الذين يصعدون مجموعة: عشرة .. عشرون .. ثلاثون، فيظلون في الملكوت الأعلى، وفي المساء يقولون: صعدنا. فيقال لهم: أنتم مجانين. وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ [الحجر:14] طول النهار يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15]، لِم هذا؟ لأن أناساً كتب الله شقاءهم في كتاب المقادير، وهم أهل العذاب الدائم الثابت المقيم، وأمثال هؤلاء لن يهتدوا، ولا يقبلون الهداية بأي نوع، ومهما عرضت عليهم.يا من تطالبون بالآيات الكونية! كنزول الشمس أو القمر أو الملائكة أو إحياء الميت، هناك آيات أعظم من هذه، ألا وهي هذا الكلام الإلهي الخالد الباقي، فلو أن الله عز وجل أيد رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بآيات مادية، وشاهدها أهل مكة وقريش فسوف يأتي الجيل الذي بعد هذا فيقول: خرافة وكذب، ما رأينا نحن هذا.فلهذا ما أعطى ما طالبوا به من الآيات الكونية الحادثة؛ لأن هذا لا يجدي ولا ينفع، أولاً: المصرون على الجاهلية والعناد والظلم لا يؤمنون.ثانياً: ينقلب من شاهد المعجزة والذي جاء بعد ذلك يقول: نحن ما شاهدنا، من أين لنا أن هذا وقع؟فالقرآن -إذاً- هو آية محمد صلى الله عليه وسلم، و( ما من نبي من الأنبياء إلا وأعطاه الله ما آمن عليه مثله البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ؛ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وتحقق رجاؤه؛ فهذه الأمة المحمدية يوم القيامة أعظم أمة وأكبر أمة عدداً.وسر ذلك في هذا القرآن، فلو كانت المعجزات فقط، والله في القرن الأول ينتهي الإسلام، وحارب الإسلام الإنس والجن والأبيض والأسود، وما استطاعوا أن ينهوه أو يطووا صفحته أو يقضوا على أهله؛ لأن القرآن بينهم، ولولا القرآن لانتهى الإسلام.لا تعجب!تقدم أن عرفنا أن الدين المسيحي الإلهي ما عاش أكثر من سبعين سنة، ثم تحول إلى تثليث، وإلى شرك، وإلى باطل، لكن الإسلام حفظه الله بما حفظ كتابه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلهذا الآن ألف وأربعمائة سنة وزيادة والإسلام موجود، ما تغير ولا تبدل أبداً، محفوظ، وكون الناس تبدلوا وتغيروا فهذا شأنهم، أنهم استجابوا للشيطان وأعوانه وخلصائه، لكن من طلب الإسلام فهو موجود كالذهب، لا زيادة ولا نقص، بحفظ الله تعالى.إذاً: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118] إنها آيات القرآن، من يشاهد أنوارها؟ من يشاهد عجائبها؟ من يشاهد آثارها؟ إنهم الموقنون بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الإسلامي هو دين الله ولا يقبل ديناً سواه .. فهؤلاء الموقنون هم الذين يشاهدون هذه الآيات. أما الموسوسون، والشاكون، والمرتابون فلا ينتفعون بهذا، وهو كذلك.إذاً: من هم الذين ينتفعون بالقرآن الآن من المسلمين؟الجواب: إنهم المؤمنون، الموقنون بما يحمله هذا القرآن من نور وهداية، وهم الذين يدرسونه، ويتعلمونه، ويطلبونه، ويعملون به، أما الذين لا يقين لهم فيقرءونه على الموتى.
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ...)



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:23 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)

قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له مخففاً عنه الحمل: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119]، وهذا خبر من أخبار الله يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أي: رب العزة والجلال أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بالحق لا بالباطل، فالإسلام هو الدين الحق، والقرآن الكريم هو كلام الله الحق، وكل ما جاء به رسول الله من هداية، وتعاليم، وقوانين، وشرائع .. الحق، ولا باطل في جزء منها قط. أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ حال كونك مبشراً ونذيراً .ما المراد بالمبشر؟المبشر: الذي يبشر صاحب الخير بالخير، فيقول له كلمات ينشرح لها صدره، وتتهلل له بشرته بالبشر والطلاقة، فهو يبشر المؤمنين المستقيمين على منهج الله بما وعدهم الله به من إعزاز وإكرام في الدنيا، ونعيم دائم خالد في الآخرة.وهذه مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين المتقين .. المؤمنين العاملين للصالحات .. المؤمنين المستقيمين على منهج الله، فلا التواء، ولا خروج، ولا انحراف، فهؤلاء يبشرهم بما يثلج صدورهم وبما يطيب خواطرهم، وبما يظهر في وجوههم من البشر والطلاقة، وهذا هو التبشير.وهو نذير ومنذر لمن أصر على الشرك، والكفر، والشر، والفساد، والفسق، والفجور .. ينذره ويخوفه عواقب هذه الحياة التي يحياها، وينذره بعذاب الله الذي قد يعجل له في الدنيا، أما عذاب الآخرة فهو ثابت لازم لا يتخلف ولا يتأخر.وهذه هي مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مهمته أن يهدي الناس، ويدخل الإيمان في قلوبهم، أو يغير طباعهم ويحول سجاياهم وفطرهم؛ فهذا لا يقدر عليه، وليس موكولاً إليه، فهذا لله.فهذه الآيات تعزي رسول الله، وتخفف عنه الآلام التي يتلقاها من الطغاة المتكبرين الذين قالوا له الآن: لولا تأتينا بآية، أو يكلمنا الله حتى نؤمن، والذين قالوا له هذا في مكة من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط إلى العشرات.ماذا يصنع رسول الله فهو لا يملك هداية القلوب؟يخفف الله تعالى عنه، ويسري عنه آلامه، ويقول له: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] فما كلفناك بهداية الناس، وأنت لا تقدر على ذلك، ولو كان يقدر لهدى عمه أبا طالب ، فما استطاع مع أنه وقف معه طيلة حياته مواقف لا تنسى، وعند وفاته وهو على سرير الموت يعرض عليه كلمة التوحيد فما قبلها، والله كأنكم تسمعون: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، يا عم! قل: لا إله إلا الله ) فما استطاع؛ لأن الله كتب شقاء أبي طالب وأنه من أهل النار.وكان -مع الأسف- يريد أن يقولها، فينظر إلى الزائرين من رجالات قريش الذين جاءوا يعودونه في مرضه فيخجل وقال له أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب . ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأستغفرن لك يا أبا طالب ما لم أنه عن ذلك )، وهَمَّ بالاستغفار فنزل قول الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] ومن احتج بإبراهيم قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].وإبراهيم واعد أباه فقال: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4] فمضت الأيام، وازداد في العناد، والكفر، والباطل، وعرف أن الله قد حكم عليه بالخلود في النار، فتبرأ منه، فلا تحتج باستغفار إبراهيم.وحتى آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آتياً من مكة إلى المدينة أو ذاهباً من المدينة إلى مكة، فمر بالأبواء التي دفنت فيها أمه، فاستأذن من الله أن يزورها فأذن له، ولما وقف على القبر ظل يبكي ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ( لقد استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ).

علّة الفلاح والخسران

والعلة كما عرفنا من قبل في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فـأبو طالب أو عبد الله أو آمنة هل قالوا يوماً: ربنا اغفر لنا ذنوبنا؟ هل قالوا يوماً: لا إله إلا الله؟ هل .. هل .. إذاً على أي شيء تزكو نفوسهم وتطيب وتطهر؟!فمن هنا من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها قُبِل في الملكوت الأعلى، ومن دساها، وخبثها، وأفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام لم يشفع له شافع قط ولن يرى دار السلام، وهذا قضاء الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].والرسول نادى ابنته فقال: ( يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً ).ومع هذا العالم كله نائم، يطمعون في الجنة دار السلام، فأين عواملها وأسبابها؟

وظيفة الداعية

قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] توضيح لمهمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل داع .. كل واعظ .. كل مذكر .. كل معلم في القرية والجبل والسهل والوادي والبيت والمسجد، وليست المهمة هداية الخلق، فالهداية بيد الله، ومن أراد هداية أبيه أو أخيه فليسأل الله ذلك، وليبين له ما هو المطلوب، أما أن تحوله أنت فلن تستطيع، ورسول الله ما أسند إليه هذا.

معنى قوله تعالى: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)

قال تعالى: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] وقراءة نافع قراءة أهل المدينة: ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم .يقول ابن عباس فيما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا ليت شعري ما فعل أبواي؟ ) فنزلت هذه الآية ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم ، أي: فلا تسأل يا رسولنا عن أصحاب الجحيم، اتركهم، واترك أمك وأباك، فما هم أهل دار السلام الآن.وقرأ حفص : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] أي: لا يسألك الله يوم القيامة: لم ما آمن أبو جهل وأنت رسول الله وما هديته؟ والله ما كان، ولم دخل أبو طالب النار، وهو عمك، وأنت رسول الله، كيف هذا يا محمد؟ الجواب: لا.. لا؛ لأن الله ما بعثه ليهدي البشر ويقلب قلوبها، وإنما ليبشر من استجاب فآمن وعمل صالحاً، وتخلى عن الشرك والفساد، ومنذر من أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، وانغمس في أودية الباطل والخبث والشر والفساد، فهذه رسالتك ومهمتك، أما أن تهدي فلا تملك.وحقاً هل هناك من يملك هداية أحد؟الجواب: لو كان هناك من يملك أو يقدر مع بذل أقصى الجهد بالحجج والبراهين لكان إبراهيم أولى بهذا مع والده، لكن هل استجاب آزر وأسلم؟ لا.إذاً: ادع يا عبد الله عباد الله وبشر المستقيمين، وأنذر المعوجين المنحرفين، فهذه هي مهمتك، أما أن تحزن وتبكي وتقول: آه، ما أسلموا .. ما اهتدوا، أو ترمي بالقلم وتقول: تركناكم، لستم من أهل الجنة، فقد دعوناكم وما استجبتم، فعيشوا على الباطل، والخبث، والشر، والفساد..! لا، هذا لا يصح أن تقوله، بل وأنت مطمئن النفس، طاهر القلب ادع الناس بالابتسامة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] والحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فالشخص الكيس، الأديب، الراقي الذي عنده تقبل للهداية، لم تتعنتر عليه وتسب وتشتم وتنتفخ أمامه، ادعه بالتي هي أحسن.وكذلك شخص من أقاربك شديد غليظ، فلا بأس أن تغلظ عليه، لكن الليّن شيء، والغليظ شيء ثان، فضع كل شيء في موضعه، وهذه هي الحكمة.والشاهد عندنا في قول ربنا: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فهذا يتمم الكلام الأول، فما أنت إلا بشير ونذير، وما أنت بمسئول عن أصحاب الجحيم، والله لا يسأله ربه: لم لم يؤمن فلان وأنت رسولنا، والقرآن أنزلناه إليك، وأيدناك بكذا وكذا، كيف يدخلون النار، أين كنت؟هذا لا وجود له.وشأن رسول الله شأن أمته، فالعالم في القرية .. في البيت .. في السوق يبلغ دعوة الله بالتي هي أحسن، فمن استجاب بشره بحسن العاقبة والمستقبل السعيد، ومن أعرض واستنكف واستكبر أنذره قائلاً: انتبه! مصيرك معروف الخلود في عذاب الله، فانته يا عبد الله، هذه المهمة.

تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ...)

ثم قال تعالى وقوله الحق: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] الملة: الدين والنحلة.وهل اليهود والنصارى لهم ملة واحدة؟الجواب: لا. اليهودية ملة، والنصرانية ملة، والمجوسية ملة، والصابئة ملة .. فهم ملل.

حكم توارث أصحاب الملل الكفرية فيما بينهم

هنا مسألة فقهية: ذهب مالك رحمه الله وأحمد في بعض الروايات إلى أن اليهود ملة والنصارى ملة، والصابئة والمجوس ملل، واحتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يتوارث أهل ملتين ) أي: لا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا الصابئي المجوسي، ولا المجوسي الصابئي.. بل كل ذي ملة يرثه أهله من ملته، وهذا الحديث صحيح.ويبقى قول الجمهور: إن الكفر ملة واحدة، وليس معنى هذا أن اليهودية هي النصرانية أبداً، ولا المجوسية هي البوذية ..! لا، هي ملل ولكن ليس هناك تفاضل فالكفر ملة واحدة، فالكل ضال وإلى النار.إذاً الكفر ملة واحدة، فلا فاضل ولا مفضول، أما من حيث القضاء الشرعي والحكم فاليهودي لا يرث النصراني لخلاف بينهما في معتقدهم وملتهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)

أي: لن ترضى عنك يا رسولنا، ولن ترضى عنك يا عبدنا، وأمته هي تابعة له، فانتبه .. كل من لبس لباس محمد صلى الله عليه وسلم، وتقمص قميصه، فنهج نهجه، وقام على ما قام عليه رسول الله قبله من العقيدة والتوحيد والطهر والصفاء، وكل من كان هكذا فلن يرضى عنه اليهود ولا النصارى إلى الآن، وممكن يرضى عنك يهودي أو نصراني إذا أنت تخليت عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأصبحت تشارك في الباطل، والخبث، والشر، والفساد، نعم، أما أن يبقى موقفك موقف لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم ترجو أن يحبك يهودي أو نصراني فهذا لن يكون.الشاهد: أن هذا الخبر من الله يستحيل أن ينقضه أحد، فلن ترضى عنك يا رسولنا اليهود والنصارى إلى غاية أن تتبع ملتهم، فإذا اعتنقت اليهودية رضي عنك اليهود ورحبوا بك، وإذا اعتنقت المسيحية أو الصليبية فرح بك النصارى وقبلوك، أما وأنت على نور الله وهدايته وإسلامه فلا رضا.والآن الكثيرون يتملقون لليهود والنصارى، حتى في المساهمة في أعيادهم، لكن هل يرضون عنهم؟والله لا يرضون، فما دمت تقول: لا إله إلا اله محمد رسول الله ما هناك رضا، وما دمت تقول: الزنا حرام، والربا حرام، وقتل النفس حرام، والخبث ليس يليق بنا، ولا نحن من أهله، فما يرضون عنك أبداً حتى تتقمص قميصهم، فتقول بقولهم، وترقص رقصهم، وتعتقد اعتقادهم، نعم، سواء كنت أبيض أو أسود، ولا معنى لكلمة أوروبي ولا أفريقي فهم إخوان. فيعانقون السود، ويدخلونهم في قلوبهم؛ لأنهم اعتنقوا دينهم، وأصبحوا على ملتهم.هل عرفتم هذا الخبر الإلهي أو لا؟لا أقول: من أراد منا أن يحبه اليهود والنصارى فليكفر، نقول: فقط استقم على منهج الله، ولا يضرك عداؤهم ولا بغضهم لك، ولا عدم حبهم لك؛ لأن هذه فطرتهم، وما دمت على غير دينهم فإنهم لا يحبونك.ومن ردَّ علي يتفضل، يقول: أنا مستقيم على منهج محمد صلى الله عليه وسلم في لباسه .. في أكله .. في طعامه .. في نكاحه .. في تجارته .. في أعماله، وعندي يهود ونصارى يحبوننا، نعم قد يتملقونك بلسانهم، أما أن يكون قلباً وواقعاً فوالله ما كان؛ لأن الله خالق القلوب، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز، هو الذي أخبر، وهل تراه لا يصدق؟ أعوذ بالله.ومعنى هذا: لا تطلبوا مودة اليهود والنصارى فإنها مستحيلة، ولن تتم، ولن تحصل، إلا إذا أنت انسلخت من دينك الإسلامي وعايشتهم على الشرك والباطل، نعم هم يريدون هذا، ويبذلون الأموال في سبيل القضاء على الإسلام؛ لأنه الدين الحق، وأكثر رجال الكنائس والبيع يعرفون هذه الجملة، وقد يوجد تلاميذ ضللوهم وغرروا بهم، لكن هناك رؤساء يعرفون أنهم على باطل، وأن الدين الإلهي الحق هو الإسلام، معرفة أكثر منا، لكن لا يستطيعون أن يتخلوا عن مناصبهم، وإن تركوها يقتلون، ولو قامت الكنيسة وقالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تهتز أركان الدنيا، وتشتعل النيران، فلهذا هم مصرون على الباطل، وقَلَّ من ينجيه الله عز وجل، ونعم يوجد كثيرون من رجال العلم عندهم تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام، وآمنوا بالله ولقائه ورسوله.هكذا يخبر تعالى عباده في شخصية رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أولاً: بلام الزمخشري وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى [البقرة:120] إلى غاية وهي: إلى أن تتبع ملتهم.

معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)

ماذا تفعل يا رسولنا؟قال له الله تعالى: قُلْ [البقرة:120] في صراحة ووضوح: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فإذا عرض عليك مسيحي المسيحية .. أو يهودي اليهودية .. أو بوذي البوذية .. أو مجوسي المجوسية.. فماذا تجيب أنت يا رسولنا؟ قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120].لكن ما هو هدى الله؟هدى الله هو الإسلام الهادي إلى العزة والكرامة، والأمن والرخاء، والطهر والصفاء في الدنيا، والهادي إلى حب الله ورضوانه، ومواكبة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين بعد الموت.وإياكم أن تفهموا أو يخطر ببالكم أو تصدقوا مفترياً كاذباً أن الإسلام إذا طبق في قرية -لا أقول: في أمة- تطبيقاً كما أراد الله ولم يعز أهل القرية، ولم يصفوا، ولم يطهروا، فوالله لا يتخلف وعد الله.أعيد فأقول: إياك -يا عبد الله- أن تفهم أن الإسلام لو طبق في إقليم .. في قرية .. في مدينة التطبيق الذي يريده الله أن أهل القرية يضامون أو يهانون أو يذلون! والله ما كان، والله إلا أعزهم الله وطهرهم وكملهم في الدنيا، وفتح لهم باب دار السلام في الآخرة.وهل هناك أقليم أو بلد كان على طهر وصفا وإيمان، فأذلهم الله؟!والله لا وجود لهذا، لا في أوروبا الشرقية، ولا الغربية، ولا أفريقيا، ولا في جزيرة العرب، فمستحيل أن يخذل الله أولياءه، أو يسلط عليهم أعداءه، وإنما سلط أعداءه على من فسق عن أمره، وخرج عن طاعته كحال العرب والمسلمين في قرون عديدة إلى هذه الساعة.إذاً: من طلب منك أن تدخل في نصرانية أو يهودية أو ملة من الملل فقل لهم: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فقط، هدى الله هو: الإسلام وكتابه .. الإسلام ورسوله، فهذا هو الهدى يا من يريد الهدى والهداية إلى العز، والكرامة، والطهر، والصفا في الدنيا، وإلى جوار الله في الملكوت الأعلى؛ في مواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في الدار الآخرة، بل بعد الموت فقط، لا ننتظر يوم القيامة، والله إن هؤلاء وهم على أسرة الموت، وقد أيس الأطباء من دوائهم، وعلاجهم، وودعوهم، ثم الملائكة تحتفل بهم، وتتنزل عليهم أفواجها تبشرهم وتريهم كرامة الله لهم، ما نحتاج إلى هذه: يوم القيامة، واقرءوا لذلك قول الله جل جلاله وعظم سلطانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] كلمتان فقط، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم استقام على منهج رسول الله عقيدة، وقولاً، وعملاً، فاستقام وما انحرف يميناً، ولا شمالاً، ولا اعوج، فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، ونهض بما أوجب الله، وتخلى وابتعد عما نهى وحرم الله، ومشى في طريقه إلى ساعة الموت.. فهذا العبد تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] تتنزل فوجاً بعد فوج احتفاء بهذه الروح الطاهرة، لترفع إلى الملكوت الأعلى .. إلى سدرة المنتهى أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. فمن كان منا ولياً لله ما إن يودعه مودعه، وييأس من علاجه الأطباء في تلك اللحظات فليستعد بهذه البشريات العظيمة: لا تخافوا، ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدونها في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله، وعلى لسان عباد الله من الدعاة المبلغين عن الله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31] كانوا معهم في الدنيا فصرفوهم عن الباطل والخبث والشر، وحموهم حماية كاملة، فأولياء الله يحميهم الملائكة من أن يقعوا فيما يغضب الله ويسخط الله طول الحياة، وإلا كيف يعيش خمسين .. سبعين سنة لا يزني، ولا يسرق، ولا يكذب، ولا يقتل، ولا يظلم .. لولا حماية الله كيف يتم هذا؟ وإخوانه بالملايين يتخبطون في أودية الخبث، والضلال، والشر، والفساد، وليس ذلك قدرة منه بل حماية: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] ادع فقط، اطلب نُزُلًا [فصلت:32] النزل هو الضيافة والقِرى، ولهذا سموا الفندق نزلاً وضيافة، ففيه السكن، والطعام، والشراب والفراش و.. و.. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].أيها المستمعون والمستمعات! من منكم يهيأ لهذا؟ قولوا: كلنا إن شاء الله، أو ما تموتون؟ لا بد.إذاً نسأل الله أن نكون منهم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30] ولو سخط العالم كله، وغضبت الدنيا بما فيها: ربنا الله، لا رب لنا سواه ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] والاستقامة ليست هينة، ومثل الاستقامة كالذي يمشي على سطح البحر برجليه، فالمستقيم اليوم في بلاد وقرى وعالم خم بالخبث والشر والفساد، ثم استقام ومشى فذلك أصعب ممن يمشي على سطح الماء، ولهذا قالت العلماء: استقامة خير من ألف كرامة، وخاصة لما يخبث الجو كاملاً، ويتعفن، فكيف تسلم؟!لكن لولايتك لله يحميك الله بملائكته، ويعصمك، ويتلوث غيرك، وأنت لا تتلوث.

معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ...)

قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] هذه حالكم أيها المسلمون تنطبق تمام المطابقة، فقوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ كل البلاد التي لا تطبق شرع الله والله قد اتبعت أهواء اليهود والنصارى أحببنا أم كرهنا، وكل البلاد التي تبيح ما حرم الله، وتأذن فيه، وتسكت عنه اتبعوا أهواءهم؛ لأن أعداء الإسلام يريدون هذا.إذاً قال تعالى بعد ذلك: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] والآن هذا حق أو باطل؟!بكينا، وصرخنا، واستغثنا: أنقذونا، ففلسطين -مثلاً- إلى الآن أكثر من خمسة وأربعين سنة وهي محتلة، فما وجدنا ولياً أو نصيراً، وها نحن نصرخ أيضاً على البوسنة والهرسك فما وجدنا من نصير، وغداً نستصرخ لأي مكان آخر فما نجد أبداً، حتى نعرف الله عز وجل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:06 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (79)
الحلقة (86)




تفسير سورة البقرة (49)

أنزل الله الكتب لتكون منار هداية للناس، وكان خاتمة هذه الكتب هو القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا وجب على المسلم أن يتلوه حق تلاوته، وذلك بأن يقيم حروفه، وكلماته، وأحكامه التجويدية، وأن يتدبره ويتأمل ما فيه من معانٍ، وأن يسعى جاهداً للعمل بما فيه، ليبقى دائماً على ذكر بأن هذا الكتاب من أعظم نعم الله عليه، وأنه من مظاهر تفضيل هذه الأمة، وأن الكفر به هو الخسران المبين.

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ... )

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بنا سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:121-123] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إليكم هذا الخبر، فإنه خبر عظيم الشأن، فالمخبر هو الله، والمخبرين هم نحن، والحمد لله رب العالمين، فنحن أهل لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا، فإنها والله لنعمة.وسبب هذا الإفضال والإنعام هو الإيمان، فآمنا وأصبحنا أهلاً لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا.وقد قال الضالون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] وها نحن يكلمنا بواسطة وحيه الذي ينزله على رسوله، وقد وصل إلينا من طريق الوحي الإلهي على رسول الله، ونحن أهل لذلك بإيماننا، ولو كنا غير مؤمنين -والعياذ بالله- ما يخاطبنا الله ولا يكلمنا، لأننا أموات، والميت لا يخاطب ولا يخبر؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر، ولا ينهض بما يكلف ولا يقدر عليه.

المراد بالكتاب في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب)

قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] قد يكون المراد من الكتاب التوراة، وقد يكون المراد من الكتاب الإنجيل، ولكن المراد هنا القرآن العظيم.فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ أي: أعطيناهم الْكِتَابَ [البقرة:121] وقد أعطانا ربنا الكتاب، وهو في صدورنا، ومكتوب في سطورنا، ويوجد في بيوتنا، وهذا فضل الله علينا، فالحمد لله.

من حقوق تلاوة القرآن إقامة حروفه وتجويده

قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] ما لهم؟ أخبر عنهم يا رب! يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] يتلونه بمعنى يقرءونه حق القراءة، فيجودون قراءته، وينطقون بالحروف، ويخرجونها من مخارجها، فلا يقدمون ولا يؤخرون، ولا يزيدون ولا ينقصون، فينطقون بتلك الحروف كما هي في لسان العرب، ولو أن شخصاً يقرأ (عصى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) فالله يعصي! هذا كفر، وتعالى الله، وكل هذا لأنه ما فرق بين حرفين في مخرجيهما: بين السين والصاد، فعصى بمعنى: ما أطاع، وعسى بمعنى: رجا، ومن هنا إخراج الحروف من مخارجها ضروري، وتستلزم هذه الآية الإلهية أن يتلوه حق تلاوته.كذلك يتدبرونه عندما يتلونه، ويقرءون الآية وينتهون منها ويعيدونها مرة أخرى؛ لأنهم يستدرون لبنها، ويستخرجون حلواها وعسلها .. وهل هذا ممكن؟ إي نعم.ولقد صح يقيناً أن أحد السلف الصالح من الصحابة والتابعين قام يتلو كتاب الله بالليل، فلما انتهى إلى قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] فهذه الآية ما استطاع أن يتجاوزها، وما زال يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.ولعل السامعين يفهمون معنى هذه الكلمة الإلهية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا أي: فعلوا بجوارحهم السَّيِّئَاتِ أي: المحرمات والمنهيات من كبائر الذنوب والآثام أَنْ نَجْعَلَهُمْ أي: في قضائنا، وحكمنا، ومجازاتنا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] لا والله ما كان هذا، ولهذا قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أي: قبُح قُبحاً وحكماً يحكمون به، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].إذاً: الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، هم الذين:أولاً: يجودون النطق ويحسنونه.ثانياً: يتدبرونه عند تلاوته.ثالثاً: إذا مروا بآية رحمة سألوا الله إياها، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا بالله من النار والعذاب. وهذا مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا قام يتهجد ليصلي إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله تلك الرحمة، وإذا جاءت آية عذاب وقف واستعاذ بالله من العذاب وهو رسول الله الذي لا يدخل الجنة أحد قبله قط، وقد أعطي بذلك المواثيق، وحسبكم أن تقرءوا قول الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] ألا وهو مقام الشفاعة العظمى، فهو الذي يخر ساجداً بين يدي الله تحت العرش، ويلهم تسابيح، وأذكاراً، ومحامداً ما عرفها إلا تلك الساعة، وهو واضع جبهته على الأرض حتى يقول له الرب تعالى: ( محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، ومع هذا كان إذا مر بآية رحمة سأل الله متضرعاً إليه أن يرحمه، وإذا مر بآية عذاب وقف واستعاذ بالله تعالى من العذاب.وهذه أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( افتقدت ليلة رسول الله من فراشه ) إذ كان يقسم الليالي بين نسائه أمهات المؤمنين، فليلة عند عائشة ، وأخرى عند صفية ، وأخرى عند حفصة ، وأخرى عند ميمونة .. ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: ( فالتمسته ) فما عندهم كهرباء، ولا فوانيس، لا بالزيت، ولا بالغاز، والله ما عندهم، وفي الظلام، في تلك الحجرة التمسته فما وجدته، فقامت تطلبه، فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وما أشد برد الماء في مدينتنا المنورة أيام الشتاء، فاغتسل بالماء البارد، وإذا هو قائم يصلي؛ يركع ويسجد، والدموع قد عملت خطوطاً هكذا على حصيره، فتعجبت منه وسألته: ( يا رسول الله! أهذا منك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ) فأجابها بقوله الخالد: ( أفلا أكون عبداً شكوراً )، فما دام قد غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ينبغي أن أشكره، وبم يُشكر الله إن لم يُشكر بذكره وعبادته وطاعته؟

من حقوق تلاوة القرآن تدبره

قالت العلماء: تلاوة القرآن حق تلاوته أن تحل ما أحل القرآن، وتحرم ما حرم القرآن، أما الذي يستبيح ما أحل الله وهو يتلو الآيات التي تحرم، ويحرم ما أباح الله وهو يتلو آيات الإباحة فهذا خارج عن طاعة الله، وما تلا القرآن حق تلاوته، والذي لا يقيم حدوده، ويتعداها، ويتجاوزها، وهو يتلوها ويقرؤها والله ما تلا كتاب الله حق تلاوته، فلا بد أن يقيم حدوده كما يقيم حروفه، ولا بد أن يحل ما أحل، ويحرم ما حرم، ولا بد أن يتدبر ويتأمل ويتفكر، لا أن يتلوه كلغة أجنبية لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول؛ لأن الله أثنى عليهم فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: أولئك السامون، الشرفاء الأعلون فأشار إليهم بلام البعد لبعد مكانتهم، وعلو درجتهم، وعظم شأنهم أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: يؤمنون بهذا القرآن.

استحباب سماع القرآن من الغير

هذا ابن أم عبد وهو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان كالظل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقه إلا إذا دخل بيته وأغلق بابه، يقول عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي يوماً: يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فقلت: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! ) متعجباً، مستفهماً كيف ينزل عليك وأقرأ عليك، فأنت أحق به وأولى، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إني أحب أن أسمعه من غيري ).وكم نادينا وقلنا للسائلين غير ما مرة، في أي مجتمع كهذا: دلوني على أحد من إخواننا المؤمنين قال يوماً لأخيه: تعال من فضلك يا بني إن كان صغيراً، أو يا أبتاه إن كان كبيراً، أو يا أخاه إن كان مثله ومساوياً له في السن، من فضلك: اقرأ علي شيئاً من القرآن؟هل حصل هذا؟!من الشرق إلى الغرب وعبر القرون، من هو الذي يقول: أي فلان! اقرأ علي شيئاً من القرآن؟وقد حصل هذا مرة كما أخبرتكم، وذلك أن مؤمناً شغالاً -كما يقولون: حمال- دخل في رحمة الله في درس من دروس العلم الحق في تفسير كتاب الله، فسمع هذه الكلمة من شيخ رحمة الله عليه، فكان يأتيني ويقول: أي أبا بكر! اقرأ علي شيئاً من القرآن، وهو عامي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فتح الله عليه فأصبح عالماً ربانياً بالسماع.فهذا هو الوحيد الذي رأيناه في حياتنا يأتي، ويتربع، ويطأطئ رأسه ويقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، وأنا أقرأ وأنا طفل وهو يبكي.إن القرآن الآن يقرأ على الموتى! يقال لقارئ القرآن: تعال خذ ألف ريال، وأقرأ ختمة على أمي؛ فإنها ماتت. أو يجمع الطلبة ويقال لهم: اقرءوا القرآن على والدي فقد توفي، ويضع بين أيديهم أو في جيوبهم ريالات، وهذا موجود من إندونيسيا إلى المغرب، أما أن أقول: اقرأ علي آيات الله؛ أتدبرها، وأخشع عند سماعها، وأبكي، فهذا نادر، ونسينا ونستغفر الله.وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً لما يجلس يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن؟هذا موجود وما ننساه.

استحباب الخشوع عند تلاوة القرآن

إذاً الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] أي: كما ينبغي أن يتلى، وكما يجب أن يقرأ، وهو تصحيح الألفاظ، والكلمات، والنطق بها سليمة كما نزلت.ثانياً: يتدبرونه، فلا يقرءون قراءة الغافلين والجاهلين، فيقفون عند الآية، ويعرفون ما تدل عليه، وما ترشد إليه، ويحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويقيمون حدوده فلا يتعدونها .. وهؤلاء هم المؤمنون.عبد الله بن مسعود لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أسمعني يا ابن أم عبد )، فكناه بأمه .. ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) أي: اقرأ علي حتى أسمع، فتعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )؛ لأن الذي يصغي يذكر أكثر ممن يتلو، والتالي قد يشغله حفظ الآيات وتتبعها حتى ما يجهل أو يقف، أما السامع متفرغ، وخاصة إذا أصغى واستمع.قال: ( فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] حتى انتهيت في حدود الثلاثين آية، إلى قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. قال: لما انتهيت هنا، فإذا برسول الله عيناه تذرفان الدموع؛ يبكي، ويقول: حسبك .. حسبك .. حسبك )، يعني: يكفي يكفي، فرسول الله يطلب من يقرأ عليه القرآن، ونحن لا نطلب؛ لأننا ما ذقنا حلاوة الإيمان، فإننا مخدرون، تجدنا نبصر ونتحرك، ولكن لا نشعر.وفتح الله علينا في ضرب مثل لعلكم تذكرونه، وأنا أتكلم عن نفسي: أرأيتم قبة زجاجية -والآن يصنعونها كمكان لبيع الدخان وبيع المشروبات- ونحن داخل تلك القبة نشاهد من يمرض، فنراه كما هو يضحك ويبكي ولكن لا نحس بشيء، ولا نسمع صوتاً، ولا نحس بحركة.فهذا الشخص في القبة الزجاجية يشاهد كل شيء، لكن لا يحس، ولا يسمع، ولا يشم رائحة، فهو محجوب بالزجاج، ونحن أشبه بهذا، نعم مؤمنون مسلمون، ونقرأ كتاب الله، ولكننا لا نحس ولا نشعر، ولا نبكي ولا نتألم، ولا نفرح عند آية، ولا نحزن، صح هذا أو لا؟فهذا هو الواقع ولا نخفيه، إلا من فتح الله عليه نافذة، وقد قلت لكم غير ما مرة: أحياناً في العام .. في العامين ينفتح ذلك الزجاج لحظة، تجد أحداً يبكي، يرتعد، لا يشعر بما حوله أبداً، وينتفض، ولا يشعر بمن حوله، يصلي أو يقرأ أو يتلو، كأن العالم كاملاً انفصل عنه، وهذه نادرة.والمفروض فينا أن تكون هذه حالنا دائماً، فإذا تلونا كتاب الله أو وقفنا بين يدي الله نناجيه، ونتكلم معه ونطرح حوائجنا بين يديه مستغفرين سائلين، ينبغي أن نكون هكذا، كأننا لا نشعر بالوجود حولنا، وهؤلاء في صلاتهم خاشعون، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. ونحن نتكلم مع الله ونناجيه في الصلاة وبالنا مشغول: القدر ماذا فيه؟ والسوق ماذا فيه؟يقول المصلي: الله أكبر.. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] فنقرأ والقلوب هناك. فكيف تتكلم مع الله وتعرض عنه ويبقى وجهك أمامه؟!ولو تحدثت مع ذي قدرة ومال عن قضاء حوائجك، تريد أن تسأله ما تريد، فتسلم عليه: السلام عليكم فلان. ثم تبدأ الحديث معه وأنت ذاهل عنه، مشغول ببيتك وسوقك أو كذا، لاندهش قائلاً: ماذا هناك؟ ما له؟ انتبه!فيخاطبك ما لك؟ أين أنت غائب؟فهل نطلب هذا الهدى إن شاء الله؟وأعظم باب جربناه هو أن تعلم وتُعلم نفسك أنك بين يدي الله، والله إنك لبين يديه، وإنه لنصب وجهه لك، ويسمع منك كلماتك، ويرى موقفك.. فإذا ذكرت هذا استحيت أن تتركه، أو تلتفت أو تعبث، لكن كونك لا تذكر هذا فهذا هو البلاء.وقد سأل جبريل عليه السلام رسولنا صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فأنت بين حالين: إما أن تشعر أنك بين يدي الله كأنك تنظر إليه، فلا تستطيع أن تلتفت ولا أن تغفل، ولا أن تعرض عن كلامه أبداً، وأقل شيء أن تعلم أنك بين يديه، وهو يراك، ويرى حركاتك وسكناتك، ويسمع كلماتك، ويعرف دقات قلبك، وما يجري في نفسك.فإذا علمت نفسك هذا لا تستطيع أن تعرض عن الله حتى تفرغ من عبادتك وتقول: السلام عليكم. ثم بع واشتر.آه لو ربينا على هذا.إذاً قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] أعطيناهم التوراة أو القرآن، الذين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، فحق التلاوة تعني التجويد والتغني، ولا بد كذلك من تدبره وتفهم معانيه، وتوطين النفس على العمل بما فيه، فإن كان أمراً نهضت به، وإن كان نهياً تركت وتخليت عما نهاك عنه.



يتبع

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
خسران من يكفر بالقرآن الكريم

قال: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ [البقرة:121] أي: بالقرآن .. بالكتاب فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] هذا خبر عظيم، والله لا يعجز أن يعاقب، أن يخسر الشيء تخسيراً كاملاً، فالذين لا يؤمنون بالقرآن أنه كلام الله ووحيه، وحامل شرائعه، وأن فيه الهدى والنور، ولم يعمل بما فيه.. والله لهو الخاسر خسراناً كاملاً.ودائماً نقول: لا تفهم من الخسران أنه خسران الدنيا: فقد وظيفته أو خسر البضاعة كلها أو ضاع ما كان عنده أو خسر امرأته وماتت أو خسر ولده ومات! فهذا الخسران: خسران الدينار، والدرهم، والشاة، والبعير، لا يعتبر خسراناً عند الله.لكن ما هو الخسران الحق؟اسمع الله يبين من سورتي الزمر وحم، يقول تعالى: قُلْ [الزمر:15] يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] من هم؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] أَلا [الزمر:15] انتبهوا، اسمعوا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فتجد نفسك في عالم كله بلاء، وعذاب، وشقاء، ولا تجد امرأة، ولا ولداً، ولا أخاً قريباً، ولا بعيداً، فأنت وحدك في وحشتك .. في غربتك .. في بعدك، تتلقى العذاب في كل لحظة وساعة، فلا يُفتّر أبداً وتشتكي، وتطالب التخفيف، فلا يأتي الجواب إلا بعد ألف عام.وهناك سورة أخرى فيها أنه يوضع أحدهم في صندوق من حديد، ويغلق عليه، ويسمر بالمسامير، ويلقى في ذلك العالم آلاف السنين، والله لا يأكل، والجوع يمزقه، والله لا يشرب، والظمأ يقتله، والله لا يتكلم، ولا يسمع كلاماً في ذلك الصندوق آلاف السنين، لا إله إلا الله، صم، بكم، عمي.. هكذا. فقالوا للرسول: كيف يمشون على وجوههم ويسحبون في النار على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يستطيع أن يمشيهم على وجوههم.أما رأيتم الأفعى تزحف على وجهها؟ والله إنهم ليمشون على وجوههم، والآية من سورة بني إسرائيل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].فقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على أرجلهم؟ لا عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] فلا يبصرون، ولا ينطقون، ولا يسمعون، وهم على وجوههم، قالوا: يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يمشيهم على وجوههم، والله لكما تسمعون.هؤلاء الذين لا يؤمنون .. الكفار بالقرآن، وما جاء به بالرسول، وما يدعو إليه، فما اغتسلوا من جنابة، ولا صاموا يوماً لله، ولا صلوا ركعة، ولا قالوا معروفاً، وماتوا على فسقهم وضلالهم .. والله لهذا جزاؤهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] لا ينطقون، ولا يبصرون، ولا يسمعون.إذاً: هذا خبر عظيم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ما الخبر؟ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

مناداة الله لبني إسرائيل

قال تعالى وقوله الحق: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] يا أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم!واليهود وقت نزل هذا القرآن هم الذين كانوا مع رسول الله في المدينة من القبائل أو الطوائف الثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، لكن قال: بني إسرائيل؛ لأنهم -والله- أولاد إسرائيل وأحفاده إلى اليوم.وسبحان الله! فقد علمتم أنهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في دينهم، ولا يزوجون نساءهم إلا لأبنائهم وإخوانهم، وإذا حصل أن زوجوا مسيحياً أو بوذياً فلغرض محدود، ثم يحتالون ويطلقون أو يقتلونها أو يقتلوه فاحتفظوا بأصالتهم .. بعرقهم، ويكفيك أن الله يناديهم بهذا الاسم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فلولا علمه بأنهم من أولاد إسرائيل ما ناداهم بهذا.واليهود في اليمن .. في الشام .. في مصر .. في فلسطين .. في المغرب ما كانوا يزوجون بناتهم للمسلمين، ولا يزوجونهن للنصارى ولا يعطونهم، وذلك للحفاظ على هذه الأصالة؛ لأنهم يحلمون بأن يعيدوا مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وقد مشوا خطوات شاسعة في هذا الشأن، وقد رأيتم كيف أذلنا الله لهم، وأصبحوا فوقنا يعتزون، ويصولون، ويجولون، مع أنهم عرق مصاب بمرض الذل والمسكنة، إلا أن الله عز وجل ليؤدب المسلمين علهم يفيقون .. علهم يصحون .. علهم يرجعون، فأراهم أعظم آية لم تعرف الدنيا آية أعظم منها، فألف مليون مسلم من أهل لا إله إلا الله يذلهم خمسة ملايين يهودي، ولو تتحدث بهذا مع من يأتي من أجيال سيقول: هذا مستحيل! كيف يمكن أن ألف مليون يقهرهم ويذلهم خمسة ملايين، كالذي يقول: خمسة آلاف رجل فحل أذلهم خمسة رجال، أهناك من يصدق هذا!ولكن أراد الله آية أخرى، فثلاثة آلاف مؤمن رباني هزموا واستطاعوا أن يتخلصوا من مائتي ألف مقاتل، وذلك في غزوة مؤتة، فقد كان عدد المؤمنين ثلاثة آلاف، وكان عدد الروم مائتا ألف.فهيا يا مسلمون نتوب إلى الله.قالوا: لا نستطيع.أقول: أما تستطيعون أن تتوبوا؟ وهل إذا تركتم الربا، والزنا، والغش، والخداع، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة تصابون بالمرض .. بالفقر؟ بأي شيء يصيبكم؟ لا أدري.هيا نحاول أن نقبل -فقط- على الله، فنجتمع ونبكي بين يديه من المغرب إلى العشاء في كل بيوت الله، ولا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة إلا ذو عذر لا يتمكن من الحضور، ونجرب عاماً .. عامين .. ثلاثة فقط، وننظر كيف أن الله سيذل لنا الجبابرة، ويرغم أنوفهم، فلا يمكن أن توالي الله ثم يخزيك ويذلك ويهينك! حاشا لله وكلا.والشاهد عندنا في بني إسرائيل أنهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ومعنى إسرائيل عبد الله أو عبد الرحمن.

تذكير بني إسرائيل بنعمة الله عليهم

يقول الله تعالى لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا [البقرة:122] فلا تنسوا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122] والله هذه الآية الآن لا تليق باليهود، إنما تليق بنا نحن فقط، وذكر النعمة يدفع إلى شكرها، فهو ما أمرهم بالشكر، وما قال: يا بني إسرائيل اشكروا، إنما قال: اذكروا أولاً. فاذكروا أول نعمة أنعم الله بها عليكم، فإذا ذكرتموها دمتم بين يدي الله تشكرونه بالركوع والسجود، والصبر والصلاة، والجهاد والإنفاق، فتلطفوا في هذه وتأملوها.

الفائدة من ذكر النعمة

قوله: (( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ )) ما الفائدة من ذكر النعمة؟من أجل أن نشكر؛ لأن الذي ينكر النعمة ولا يذكر -والله- لا يشكرها، لكن لما تذكر طبق التمر بين يديك والخبز اللين وأنت تأكل ستقول: الحمد لله.لكن إذا كنت لا تذكر من أين هذا الخبز؟ من أين هذا الرطب؟ كيف هذا الماء؟ كيف أنا جالس؟ فإنك والله لا تعرف الحمد والشكر لله أبداً.كذلك لما ترى قوتك البدنية تظهر، فتنتشل -مثلاً- القنطار، وتحمل الأشد، وتذكر حينئذ أن الذي أعطاك هذه القوة هو الله، وهو يريد منك فقط أن تشكره وتحمده.وهذه المعاني والتأملات لو نقف عندها عشرة أيام، فهذه بيت القصيد.

المسلمون أولى بالخطاب من بني إسرائيل في التذكير بالنعم

أنا قلت الآن: هذا لا يليق مع بني إسرائيل فقد انتهى أمرهم، فهذا الخطاب لنا نحن؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح إلى يوم القيامة، والبشرية كلها خلق الله وعبيده، فأمة الإسلام لو ذكرت ما أنعم الله به عليها من نعمة الإيمان والإسلام، وكيف أن الأمم الكافرة هائجة مائجة، تعيش في الظلام والخبث، ونحن أهل النور والهداية الإلهية، ولو نذكر هذا ما فرطنا في فريضة، ولا قصرنا في أداء واجب، ولا غشينا محرماً أو مكروهاً إلا إذا استغفلنا العدو ورمى الشيطان بنا في ساعة، ثم نستفيق ونصرخ مستغفرين تائبين إلى الله.وهناك نعمة قريبة على المسلمين، فقد كانوا مستعمرين مستذلين، يتحكم فيهم الشرق والغرب؛ من بريطانيا إلى هولندا .. إلى إيطاليا .. إلى فرنسا.أما كنتم كذلك أيها المسلمون فحرركم الله! وكان عليكم أن تشكروه، ومن ذلك أن تقيموا الصلاة فقط ليرى الله عز وجل شكركم، فلا يتركها عسكري، ولا شرطي، ولا مسئول، ولا غني، ولا فقير، فإذا قيل: حي على الصلاة، أقبلت الأمة زرافات ووحداناً إلى بيوت الرب؛ تشكره عشر دقائق أو ربع ساعة ثم تنطلق إلى عملها.لكنهم قالوا: لا نستطيع.أسألكم بالله، أنا أريد أن أعرف: هل أقيمت الصلاة إجبارية في أي بلد غير هذا البلد، في سوريا .. في العراق .. في مصر .. في المغرب .. في باكستان؟ والله ما كان، وأنا أسأل وحيران، أما خلقنا لها؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].والله لو أقيمت الصلاة في أي إقليم إسلامي لتجلت أنوار الرحمة، ومحاسن الكمال الإسلامي، وقل الخبث والظلم والشر والفساد، ولا آلمهم فقر ولا جوع -أبداً- وهم مع الله.لكن ما أقيمت الصلاة، وكأنهم تعمدوا ألا تقام، ولعل هناك سحراً يهودياً، فما يدرينا.

ثمرات إقامة الصلاة

نحن إذا أقمنا الصلاة فإن كثيراً من الأمور ستحصل:أولاً: كل خبث وظلم وشر وفساد ينتهي، وإياك أن تفهم أن عبداً يقف بين يدي الله زاكياً، واعياً، بصيراً، يناجي ربه، ويتكلم معه، ويطرح حاجته بين يديه، ثم يخرج يفسق! والله ما كان، فكل ما تشكوه في العالم الإسلامي من الخبث، والسرقة، والجرائم، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وعدم الرحمة مرده إلى أنهم ما أقاموا الصلاة؛ لأن الله العليم الحكيم يقول: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] أي: أيها المسلمون! اقرءوا القرآن في بيوتكم، وفي بيوت ربكم، فيزداد إيمانكم، ومعارفكم، وعلومكم، وتسمون، وترتفعون، ثم قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلن يستطيع بوليس، ولا شرطة، ولا ساحر، ولا غشاش، ولا .. أن يقوم اعوجاج الشعب أو الأمة في القرية أو المدينة كما تقوم الصلاة.ودائماً نقول: تفضلوا وادخلوا أي مكتب من مكاتب الشرط والمسئولين من المحافظات و.. و.. واسألوهم عن عدد الجرائم في هذا الأسبوع؟ قالوا: والله سجلنا مائة جريمة، بعضها سرقة، وبعضها سب وشتم، وبعضها كذا، وبعضها كذا .. نقول: اسمعوا، إن وجدتم من بين المائة أكثر من خمسة من مقيمي الصلاة اذبحوني، وأنا أقول هذا دائماً، وهناك (95) من تاركي الصلاة، والمصلون العابدون بصدق ما عرفوا إقامة الصلاة، تجده يقف بين يدي الله وهو مشغول عن الله، وصارت الصلاة كالعادة فإذا قال: السلام عليكم خرج يدخن عند باب المسجد.وكم صحنا وبكينا أكثر من أربعين سنة، فهل تحرك إقليم واحد وقال: نقيم الصلاة؟ والله ما كان؛ وفقط إقليم واحد.وهذه الدولة المباركة يعمل ليل نهار على إحباطها وإفسادها وتخريبها متعاونون عليها والعياذ بالله، حتى مع الكفار، والله لولا أنهم بنوها على إقام الصلاة ما شاهدوا فيها نوراً ولا كان فيها خير، لكن رحمة الله على مؤسسها عبد العزيز فقد أقامها على ما أراد الله أن تقام عليه الدولة الإسلامية، وذلك من خلال بعض آية فقط: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فهذه أربع دعامات.فإقام الصلاة أن لا يبقى عسكري، ولا مدني، ولا رجل، ولا امرأة يعيش في ديار الإسلام وهو لا يصلي، فإن شاهدت قريبك أو جارك لا يصلي، فاتصل بالهيئة يأخذوه ويؤدبوه أو يحبسوه حتى يصلي.أما إيتاء الزكاة فهي فريضة الله، ولا بد من رجال مهمتهم أن يجبوا هذه الصدقة من أجل إقامة الدولة.أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتقام هيئات في كل قرية .. في كل مدينة .. في كل حي يأمرون بالخير وينهون عن الشر.لكن ما المانع من إقامة كل هذا؟! فما استطاع إقليم واحد من المسلمين أن يفعل هذا، كأنهم ضد الله، ولا يؤمنون بكلام الله، وهم ليسوا في حاجة إلى القرآن.ثم ماذا جنى المسلمون من استقلالاتهم؟ فازوا؟ كملوا؟ سعدوا؟ نموا؟ تربوا؟سلوهم، وسلوني أخبركم، إنها -والله- محن وبلايا ورزايا، أمرّ مما كانوا عليه أيام الاستعمار.وما أفقنا إلى الآن، ومتى نفيق؟ابدءوا فقط بإقامة الصلاة، وما قلنا لكم افعلوا شيئاً آخر، وإنما أقيموا الصلاة ينفتح باب الهبة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (80)
الحلقة (87)




تفسير سورة البقرة (5)


أخبر الله تعالى أن من صفات المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا ما ذهبوا إلى رفقائهم وأسيادهم ولاموهم كان جواب المنافقين أنهم ما يزالون باقين على كفرهم، وأنهم ما قالوا ذلك إلا استهزاء بالمؤمنين، وسخرية بالمسلمين، فكان أن جازاهم الله بالمثل، فالله يستهزئ بهم ويزيدهم حسب سنته أن السيئة تلد سيئة، فهؤلاء قد استبدلوا الكفر بالإيمان، فما ربحوا دنيا ولا أخرى.

القرآن نور ومنهج حياة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن ليلتنا هذه ليلة القرآن العظيم، ليلة الروح الإلهي والنور الرباني، وذلكم أن القرآن روح، ولا حياة بدون روح، وأن القرآن نور، ولا هداية بدون نور، والله كما تسمعون.قال تعالى في كون القرآن روحاً به تتم الحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].وها نحن نشاهد الواقع، فالبشرية في الشرق أو الغرب إذا لم تقبل على هذا الإسلام، وتأخذ كتابه وتقرؤه وتفهم ما يحمله، وتعمل بما فيه، والله ما سعدت ولا كملت، وحياتها حياة البهائم، ولا فرق بينها وبين البهائم، بل هي شر، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية الخليقة، بمعنى: المخلوقة. من شر الخليقة؟ القردة، الخنازير، الكلاب، الذئاب، السباع، القطط؟ لا لا، هم الذين كفروا بربهم، وأعرضوا عن ذكره وكتابه.ومن أراد أن يستقصي الخبر: أيخلقك، ويرزقك، ويهبك حياتك ثم تنكره وتكفر به، وتتعمد الفسق والفجور والعصيان عن أمره؟ هذا ينبغي أن يطحن طحناً، فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15].فمن هنا وهب الله تعالى هذه الأمة القرآن الكريم الروح؛ الإلهي والنور الرباني، واحتال عليها خصومها وأعداؤها من أهل الشرك والكفر فزحزحوها وأبعدوها وتركوها تعيش في أغلب أحوالها كما يعيشون، بل بلغ بنا السحر والكيد والمكر حتى أصبحنا نتعشق حياة الكافرين، ونتسابق إليها، وأرقانا من تشبه وأصبح مثلهم.أليس هذا واقعاً يا بني الإسلام؟ فكيف المخرج من هذه الفتنة؟ كيف نعود؟

المخرج من الفتنة

ليس هناك سحر، ولا طاقات، ولا قدرات، ولا ولا.. ليس هناك إلا أن نحقق إيماننا، أنت مؤمن؟ إي نعم مؤمن. صادق الإيمان؟ قال: نعم. إذاً فهيا بنا إلى مصدر قوتنا، وهيا بنا إلى الروح وإلى النور لنحيا ونهتدي إلى الكمال والإسعاد، فنأتي إلى بيت ربنا سواء كنا في رءوس الجبال أو في السفوح والوهاد، كنا في المدن أو القرى، في البادية أو الحاضرة، أردنا أن نقبل على الله ليقبل علينا فيكرمنا ويسعدنا، نجتمع بنسائنا وأطفالنا ومسئولينا في بيت ربنا كل ليلة من المغرب إلى العشاء، طول الحياة. الكفار، المشركون، المجوس، الدنيويون، إذا فرغوا من العمل ذهبوا إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب ودور الباطل يروحون عن أنفسهم كما يزعمون، ويخففون آلام النفس والتعب، وأين يذهب المسلمون؟ يجب أن يذهبوا إلى بيت ربهم، فيجتمعون ويتلقون الكتاب والحكمة؛ قال الله وقال رسوله، وما تمضي سنة ولا سنتان أو ثلاث إلا وقد تغير وضع المسلمين، وتغيرت نفسياتهم وآمالهم وأطماعهم واتجاهاتهم، وعادت كلها إلى اتجاه واحد: أن يرضى الله عز وجل ويكرمنا ويسعدنا، فلم يبق زنا، ولا خمر، ولا حشيشة، ولا كذب، ولا كبر، ولا رياء، ولا عجب، ولا نفاق، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا ظلم، ولا اعتداء، فلا يبقى من هذا شيء، لأن العلاج قوي، فهو روح الله ونوره، وحينئذ تدين الدنيا كلها لنا، وتخضع بين أيدينا؛ لسمونا وارتفاعنا.والله! لو أن أهل إقليم أو بلد حققوا هذا المبدأ لكان يأتي الكفار ويشاهدون الأنوار ويسلمون بالمشاهدة، وخاصة في هذا الظرف العالمي الذي أصبح الصوت يسمعه كل إنسان، والمنظر يشاهده كل إنسان، وتطير من الشرق إلى الغرب، في يومك وقد طفت بالعالم، فلو يدخلون فقط على أهل قرية وهم زي واحد، سمت واحد، نظام واحد، طهر كامل، صفاء، إخاء، محبة، نظام وعمل لبهرتهم هذه الأفعال.يا شيخ! ما الدليل؟الدليل أنه في خمس وعشرين سنة فقط اتسعت رقعة العالم الإسلامي من وراء نهر السند إلى الأندلس، فهل أجبروا الناس بالحديد على الإسلام؟ لا والله، لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] ولا يوجد مسلم أسلم بالعصا والضرب والتجويع، والله ما كان.دخلوا في الإسلام لأنهم شاهدوا الربانية، وشاهدوا الأنوار تتلألأ، وشاهدوا الصفاء، الرحمة والإخاء، العدل والصدق، فانبهروا ودخلوا في الإسلام. وقد صح هذا، ولا يرده إلا مكابر معاند، نعم كانوا يتلصصون، يجرمون، يسرقون، يكذبون، يتكبرون و.. لكنهم شاهدوا العدل، الرحمة، الإخاء، الطهر، الصفاء، ومن يرفض هذا؟

الدعوة في البلاد غير الإسلامية

بالمناسبة دعنا نقل: بكينا مرات، ومسحنا دموعنا وسكتنا وقلنا: لا تبك، أمة هابطة، من يرفعها سوى الله. وقلنا: هذه الجاليات الموجودة في قارة أمريكا، قارة أوروبا، في اليابان، في الصين، في كل مكان. هذه الجاليات لو نظمت لهم لجنة عليا عالمية إسلامية، وجمعت لهم الدينار والدرهم من المسلمين، ضريبة الإسلام علي وعليك، كل يوم ريال، وكانت ميزانية، ثم وضعت خارطة لتلك الجاليات: هنا مسجد، هنا مدرسة، هنا جماعة من المسلمين، هنا كذا.. ثم قدم لهم أئمة هدى ودعاة نور على حساب اللجنة، وأعطوا كتاباً واحداً لا مذهبية، ولا طرقية، ولا انتظام في حال من الأحوال، مسلم فقط، وأخذت تلك الجاليات تلتئم وتتجمع، والنور يغمرها، فلم يبق هرج ولا مرج، ولا شر ولا فساد ولا باطل، فما تمضي عليهم خمس وعشرون سنة وهم في تلك الأنوار إلا وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وجماعات.ما المانع من هذا؟ من الذي يمكن أن يقوم بهذا؟رابطة العالم الإسلامي تصدق وتزور العالم الإسلامي، وتكون هذه الجماعة، وتوحد الإمام الداعي والكتاب الذي يدرس، وما تمضي فترة إلا والنصارى بالذات يدخلون في دين الله.ومن قال: كيف؟ نقول: الآن دخل من النصارى مئات الآلاف، مع أن الدعوة ليست بشيء، وإذا شاهدونا يضحكون: مسلم يسرق، مسلم يشرب الخمر، مسلم يفجر ويزني، مسلم معلق صليب، كيف هذا الإسلام؟!وقد فتح الله تلك البلاد فبدل ما نغزو وترسوا بواخرنا الحربية في الموانئ وندخل قال: لا .. لا، البلاد مفتوحة، ادخلوا. لكن كتب الله هذا الهبوط، لم ما يكون هذا؟ أليس واجباً على المسلمين أن يدخلوا الكفار في دين الله؟! من ينقذهم؟ من يهديهم؟ من المسئول؟ المسلمون، القرآن في أيديهم أو لا؟ إذاً هم المسئولون.لو كان لا بد من سلاح وقتال نقول: حتى نتجمع، وحتى نقوى، وحتى.. أما الآن لا، بالمال فقط، والكلمة الطيبة وتحكيم الكتاب والسنة، وإذا بالإسلام ينمو، ومع هذا فيه نماء، من كان يحلم أن فرنسا يوجد فيها ثلاثمائة مسجد؟! من كان يحلم أن بريطانيا عدوة الإسلام الأولى يوجد فيها مئات المساجد؟! وعلى هذا فقس. سمعتم هذه؟ بلغوها، قالوا: لا نستطيع.إذاً نعود إلى النواة الأولى كتاب (المسجد وبيت المسلم) فهيا يا علماء، ويا بصراء، ويا طلاب العلم، كل واحد يجمع كل أهل قرية في جامعها ومسجدها ويأخذ في تربيتها وتطهيرها، غاضاً الطرف عن الخلافات والصراعات والحزبية والجماعات، بل إخوة مؤمنون مسلمون في بيت الله، فتستنير تلك القرية ويستنير ذلك البلد، شيئاً فشيئاً وإذا النور يغمرها، أو ننتظر ماذا؟ عيسى عليه السلام! إذا نزل ابن مريم انتهى الإسلام وغير الإسلام، المسلم مسلم، والكافر كافر، فهو آية من آيات قرب الساعة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

باسم الله! ما زال السياق الكريم في بيان عورات المنافقين، والصواب: في علاج مرض المنافقين، رجاء أن يشفوا ويبرءوا من سقمهم، ويدخلوا في رحمة ربهم.

صنف المؤمنين المتقين

أشير إلى ما سبق وهو: أن الآيات التي ندرسها صنفت البشرية ثلاثة أصناف: مؤمنون متقون، وهم المفلحون، وانظر إليهم وهم متمكنون من هداية الله، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5]. وهل الذي متمكن من هداية الله يسرق، يحسد، يبغض، يغتاب وينمم، يفجر ويقتل؟! كيف الهداية هذه؟ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ، هؤلاء هم المفلحون، سواء كانوا من البيض أو الصفر أو الحمر، العجم أو العرب، بل حتى من الجن. الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى [البقرة:1-2] لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] من هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:3-4] فدخل اليهود والنصارى أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] هؤلاء أسلموا لله القلوب والوجوه، منهم الكافر واليهودي، والنصراني، والعرب، والعجم. هذا صنف السعداء.

صنف الكفار

هناك صنف آخر قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ لأنهم توغلوا في الكفر، وضربوا في الفساد والشر، فطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ولا يفقهون، وبين تعالى العلة فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] فلا يدخلها إيمان ولا نور القرآن ولا حكمة محمد صلى الله عليه وسلم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فما يسمعون أبداً، يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا الأذان. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] غطاء أسود فما يشاهدون آية من آيات الله، وهؤلاء لا يؤمنون، وهم أصحاب النار، وأهل الجحيم والخسران.أما الكافرون الذين ما انتهوا إلى هذا المستوى فهم الذين يدخلون في رحمة الله، ويسلمون قبل أن يأتي الطبع والختم.

صنف المنافقين

الصنف الثالث: هم المنافقون، قال تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس عرفهم الله، ناس من أسوأ الناس يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، وقد عرفتم أن ركيزة الإيمان التي بها يقوى العبد على أن يفعل ويترك هو تحقيق الإيمان بالله وبلقاء الله. أما الإيمان بالرسالة، بالقدر، بالكتب، فأمرها أهون. لكن الإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره، يعلم ظاهرك وباطنك، بيده أمرك، حياتك .. مماتك، سعادتك .. شقاؤك، إن شاء أخذ أنفاسك وأماتك، وإن شاء أبقاك وأحياك، والذي لا يملك معه كائن ذرة بالكون. هذا الإيمان بالله، ثم الإيمان بلقائه وجهاً لوجه في ساحة فصل القضاء. ويؤمن بالدار الآخرة، وما يتم ويجري فيها من حساب دقيق وجزاء عظيم، إما نعيم مقيم، وإما جحيم وعذاب أليم. وهذا الإيمان إذا ضعف في النفس ما يستطيع صاحبه حتى يبصق في المزبلة.وهنا نذكر هذه الحقيقة: قوِ يا عبد الله إيمانك بربك، وتعرف إليه، واسأل عنه، وتصفح كتابه، واسمع ما يقول القرآن في صفاته، حتى تكتسب نوراً عظيماً يتولد منه حبك لله وخوفك من الله، فمتى أصبح الآدمي يحب الله أكثر من حبه لنفسه وماله وولده والناس أجمعين، وأصبح يرهبه ويخافه، أصبح يستطيع أن يغض بصره، ويستطيع أن ينطق بالكلمة الطيبة دون الخبيثة، يستطيع أن يموت جوعاً ولا يمد يده، يستطيع أن يعيش أربعين سنة عزباً، ولا يفكر في زنا ولا باطل.قوة الإيمان: حب الله والخوف منه.والإيمان بيوم القيامة وما يجري فيه إذا نماه العبد، وزاده بالنظر في الملكوت، بالنظر في الكتاب، بسماع كلام الله، صير صاحبه وجعله لا يدخل إلى بيته قشة أو إبره وهي حرام أبداً، وما يستطيع أن يسب مؤمناً أو يشتمه فضلاً على أن يذبحه ويمزق بطونه.فالإيمان بالله وباليوم الآخر هو الركن الركين في أركان الإيمان الستة.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فما استقر هذا الإيمان في قلوبهم، ولا صدقوا الرسول، ولا كتابه، ولا آمنوا. إذاً: كيف؟ قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] هؤلاء هم المنافقون.كان المنافقون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، أما مكة فلم يكن فيها نفاق، والمدينة كان فيها يهود، وفيها عرب مشركون قلوبهم ميتة، وضمائرهم ممزقة، يحبون الدنيا، ويحبون المال والسلطان، فلما وجدوا نور الإسلام غشى البلاد وغطاها أظهروا الإيمان فقط بألسنتهم، أما قلوبهم فليس فيها ذرة من إيمان، فينافقون ويقولون: نحن مؤمنون.كان عبد الله بن أبي يدخل الروضة ويعلن: والله إنك لرسول الله. حتى يزيل التهم عن نفسه، والله يقول: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] أي: وقاية فقط، وهؤلاء عالجهم القرآن فأذهب تلك الأمراض من نفوسهم من يوم إلى آخر، ومن عام إلى آخر، وما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة منافق، فانتهوا. هذا علاج أو لا؟ هذا هو القرآن، هذا هو الشفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].اسمع ما يقول عنهم؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:8-10] يعني: سرطان؟! مرض القلب هذا هو مرض حب الدنيا والشهوات والأطماع الكاذبة، مرض الشرك والكفر، وحب الباطل، وهذا أخطر من الأمراض العادية. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] نعم، سنة الله أنه إذا استشرى الداء ينتشر بالجسم، وما دام وجد المرض فكل يوم يزدادون مرضاً جديداً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] وفي قراءة: (يكذِّبون)، عرفتم العلة؟ بما كانوا يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين بدعوى أنهم مؤمنون، وبما كانوا يكذبون في باطنهم لله ورسوله، فمنهم من يكذِّب ومنهم من يكذِب، والقرآن جمَّاع المعاني.



يتبع

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الادعاء الكاذب من صفات المنافقين

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] من يقول لهم: لا تفسدوا في الأرض؟ أي: لا ترتكبوا المعاصي. مؤمن وتشرب الخمر سراً؟! مؤمن وتغتاب أبا بكر وفلاناً وفلاناً؟! مؤمن وتؤخر الصلاة؟! ما لك! لا تفسد في الأرض، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لسنا بمفسدين، وفعلنا كذا وكذا من أجل الإصلاح، لأنهم يبيتون مع الزملاء، فيتآمرون على الحق ودعوته، وإذا قيل: لم هذا؟ يقول: نحن مصلحون، هذا من أجل الإصلاح. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] هذا البيان ممن؟ من الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] من هم المفسدون اليوم وغداً؟ هم الذين يعملون بمعاصي الله، والله العظيم لهم المفسدون، وما من نعمة تزول إلا بعصيانهم وفسقهم وفجورهم.فهمتم هذه أو لا؟!ولهذا نقول للمسلمين: يا عباد الله! لا ينجيكم من نقم الله وعذابه وسلب نعمه إلا أن تعتصموا بحبله، ما ترضى أبداً أن يكون في بيتك فاسق، ولا أن يكون جارك فاسق ولا مع فاسق، اعمل على تطهير القرية والحي والبلاد، وبهذا تستطيع أن تفرح بنعمة الله ولا تزول.فالذين يعملون بالمعاصي دعوني مع واحد منهم: أنا في حيرة، ما فهمت، هنا مقابل المسجد النبوي بيت متهشم، ما هو عمارة، فيه دش عرض وطول كذا، فما استسغنا أن يكون هذا أمام الرسول، أمام مسجده، في طريق المؤمنين، لم هو عامل ذلك الدش؟ ما بلغه أنه حرام! صدرت الفتيا من كبار العلماء، من أعلم أهل الأرض ولا فخر سماحة الشيخ عبد العزيز وقرأتموها أن الدش حرام، لم؟ لأنه يورث مفاسد عظاماً. فكتبنا له رسالة، وكلما مررنا الدش منصوب، قلنا له: أنت تتحدى رسول الله، كأنك تقول: رغم أنفك يا محمد! أنت كنت تغضب للصورة، أنا آتي بصور الكفار والعواهر في بيتي أمامك، فهل هذا يبقى له إيمان أو وجود؟ أنت يا محمد! تضطرب لما تشاهد الصورة لأن المصور يغاضب ربك عز وجل، وتقول لـعائشة : ( أخرجي، أبعدي عني هذه؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، وأنت تتحدى رسول الله؛ لأنه ميت. تصورتم هذا أو لا؟إذا كان يستفيد ريالاً واحداً في اليوم نقول: معذور، فقير يأكل بالريال، والله ما يفيده ريال، لو كان يهذب أخلاقه وأخلاق بناته وامرأته وأولاده فيسمون ويرتقون، ويصبحون أصفياء نقول: نعم، ولكن -والله- ما يزيدهم إلا دماراً فقط.لعل الشيخ واهم! إن النظرة فقط تدخل على النفس أو على القلب ظلمة قد يهلك معها.إذاً: ما ندري لم؟ إلا إذا أراد الله أن يزيل هذه النعمة وأسبابها، فننتحر بأيدينا، فهم ما يحضرون الدروس، وما يطلبون العلم، ما يسألون، بهائم أو ماذا؟ نحن عشنا على مبدأ: لا يحل لمؤمن أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. هل سأل أهل العلم؟ يقولون: لا بأس، كيف يقولون: لا بأس؟ ما هي النتيجة إلا أنه يترك الصلاة؟ ما هي النتيجة إلا أنه يحب الزنا والفجور؟ ما هي النتيجة إلا أن تصاب بيته بالخراب والدمار؟ كيف؟ إلا أنه يتحدى رسول الله، هذا الواقع.ما هي العلة؟ النفاق، إيمان صوري فقط، مؤمن .. مسلم، تعال نستعرض إيمانك على ضوء ونور الكتاب والسنة، وانظر أنت مؤمن أو لا؟إذاً: هذه الآية ما هي خاصة بتلك الجماعة على عهد الرسول، هذه آيات هداية للبشر إلى يوم القيامة، نماذج حية وباقية. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ [البقرة:11-13] فلان وفلان، أنت مؤمن؟ لم فلان ما يفعل كذا وكذا؟ آمن إيمانه. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هؤلاء رجعيون، متخلفون، متأخرون. منهم هذا الشيخ الذي يتمنطق ويتمشدق في المسجد النبوي، ويسمع له البهاليل، الأمم رقت وطارت في السماء وحلقت في كذا وهو يرجع بنا إلى الوراء، يقول: الصور حرام وكذا. والله لهذا منطقهم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] ما السفيه؟ خفيف الإرادة، قليل العلم، الذي يتخبط في أودية الشر والفساد، ويظن أنه مترقي، ناجح، خفة العقل والحلم، وقلة العلم هي عناصر السفه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)

ثم يقول الله تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط، هذه الحلقة موجودة الآن أيضاً ولا تنقطع، يبقى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] إذا جمعهم مجلس فيه مؤمنون قالوا: نحن مؤمنون، آمنا. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى [البقرة:14] من؟ شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من هؤلاء الشياطين؟ الشيطان إنسي أو جني، من بعد عن الخير وساحاته كلها، وانغمس في الشر بكله، سواء كان من الآدميين أو من الجن، مأخوذ من شطن الحبل في البئر إذا بعد، فكل من بعد عن الخير، وأصبح لا يميل إلى الخير، ولا يدعو إليه، ولا يفكر فيه، وأصبح همه الشر، والشر هو الذنوب والمعاصي والجرائم، فالذي يغتاب مؤمناً ويمزق عرضه هذا خير؟! الذي يفجر بامرأة أخيه وإلا بنته فيفسد عليها هذا خير؟!إذاً: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الذين لا خير فيهم، ولا يفكرون في الخير، ولا يعملون على إيجاده، ولا على العيش فيه بل يكرهون رؤيته، هؤلاء إذا اجتمعوا معهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. أنت كنت مع الجماعة الفلانيين؟ قال: نعم ولكن الظروف فقط، الظروف فقط وإلا نحن كما عهدتمونا على المبدأ ملتزمون، وإنما للظروف جلسنا معهم، قلنا مثل ما يقولون ونحن نسخر منهم، هل يقع هذا اليوم؟ والله ليقعن، لم؟ لأن القضية قضية إيمان وكفر فقط، فإذا ذهب الإيمان واضمحل أو ما آمن من أول ما عرف الإيمان، هل سأل عن الله أو عن لقائه؟ إذاً فالوضع هو هو. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: من الإنس لا من الجن، هل هناك شياطين الجن يعقدون اجتماعات؟ لا، هؤلاء إخوانهم في بيوتهم، وفي مجالسهم الخاصة، وفي البساتين، إذا خلوا إليهم أي: أفضوا إليهم، وما قال: خلوا بهم، بل ذهبوا إليهم فعدى بـ(إلى) قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)

ثم ماذا قال تعالى لهم؟ قال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يا ويلهم! يستهزئون بأولياء الله فيتركهم الله! وهو القائل: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) يستهزئون بأوليائه فيسكت؟ بل يعاملهم بالمثل، إلا أن استهزاء الله كما هي ذاته وصفاته، فلا نشبهه بصفات المحدثين وأخلاق الهابطين.قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] أي: يغمسهم ويدفعهم في بحر الضلال والظلام. فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] العمه يكون للقلوب، والعمى يكون للعيون، وعمى القلب أخطر من عمى العين. وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15] والطغيان هذا هو العصيان، وعدم الطاعة لله والرسول وللمؤمنين، هذا هو الطغيان، أي: مجاوزة حدهم، فبدل أن يؤمنوا ويستقيموا وينهجوا منهج الله كسائر المؤمنين يحتالون ويفكرون، ويعدون العدد، ويتصلون باليهود والنصارى في الشرق والغرب، فيدبرون المؤامرات.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)

ثم يقول تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] البعداء من ساحة الإيمان والمؤمنين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعطوا الهدى، وتسلموا الضلالة. والهدى هو الإيمان بالله ولقائه، والاستقامة على منهجه، نهوضاً بالتكاليف، وابتعاداً عن المحرمات والمنهيات، هذا هو الهدى، لكنهم باعوه بالكفر -والعياذ بالله- وبغض الإيمان والمؤمنين، وحرب الإيمان والمؤمنين في الخلوات والجلوات. هل هذا البيع يصلح؟! هذه هي التجارة: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعوذ بالله! كالذي يشتري الموت بالحياة؛ يعطي الحياة ويأخذ الموت.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هذا التعقيب فمن عقب؟ الله العليم الخبير، خالق كل شيء، ما ننطق حتى يأذن لي فأنطق، هذا الذي أخبر بهذا الخبر، هذا هو التوقيع الأخير.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] أو ربحت؟ والله لقد عاشوا على عهد الرسول في ذل وكرب، وهم وغم حتى أسلموا، والذين ماتوا على همهم ومصائبهم إلى جهنم، فلا يعرفون السعادة أبداً، لكن الآن الذي نأسف له أنه ما عندنا دعوة في قرانا ومجتمعاتنا تعالج أمراض المنافقين، أمراض العلمانيين، أمراض الشهوانيين. لا يوجد علاج! هذه هي المحنة.أيام كان الرسول موجوداً، والقرآن ينزل، والمؤمنون ينقلون هذا، تنزل آية ما تبيت إلا في كل بيت، عجب! ينزل خبر تجده في كل بيوت المدينة.فلهذا قلنا: ما في إلا كتاب (المسجد وبيت المسلم) سيقال: لعل الشيخ مصاب بشيء من الجنون؟! والله إني لعلى عقل كامل والحمد لله، ووالله لن يرتفع لهذه الأمة راية ولا شأن إلا إذا عادت من جديد إلى العلم بمعرفة الله، ومعرفة ما يحب، وما يكره، ونهضت بذلك. ما الطريق؟ المدارس والكليات! دلوني على بلد إسلامي ليس فيه مدارس وكليات، هل أجدت شيئاً؟ هل نفعت؟! فقط كل ما تقول: هي خير من لا شيء، لكن إذا أردنا أن يحبنا الله، وأن نكون أولياء الله وأن يرهب أعداءنا ويفزعهم بنا فهذا عندما نرجع الرجعة الحقة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.أهل القرية في المسجد بانتظام لا يتخلف أحد إلا إنسان مريض أو امرأة حائض أو نفساء، من المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة؛ أنوار الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، عاماً أو عامين إلا والدنيا كلها أنوار، وينتهي الفقر والبلاء والمحائن والجرائم، وتنمحي، هذه سنة الله، القرآن روح أو لا؟ أحيوا. القرآن نور أو لا؟ اهتدوا. مَن مِن العلماء من يفكر هذا التفكير؟ وكلنا الأمر إليكم يا علماء، يا طلاب العلم! دلونا على قرية جمعتم أهلها فنزورها لله تعالى، ودلونا على بلد نسافر لنشاهد هذا النور، ونأتي بالكفار ليشاهدوه: انظروا إلى الإسلام كيف تتلألأ أنواره، انظروا إلى العدل، والصفاء، والرحمة، والطهور، والإخاء. قلتم: ما استطعنا. إيه، تكليف عظيم هذا! بدل أن تلهوا وتلعبوا بين المغرب والعشاء اجتمعوا في بيت الله، ابكوا فقط ولا تقرءوا، فقط البكاء والنحيب بين يدي الله حتى يرفع هذا البلاء. قالوا: ما نستطيع. إذاً ما الذي نستطيع؟ نرد الأمر إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [شرح الكلمات: لَقُوا [البقرة:14] اللقاء والملاقاة المواجهة وجهاً لوجه. آمَنُوا [البقرة:14] الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق. خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الخلو بالشيء الانفراد به. شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الشيطان: كل بعيد عن الخير قريب من الشر، يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان، والمراد بهم هنا: رؤساؤهم في الشر والفساد.(مستهزئون) الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.(الطغيان): مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.(العمه): للقلب كالعمى للبصر، عدم الرؤية، وما ينتج عنه من الحيرة والضلال. اشْتَرَوُا [البقرة:16]: استبدلوا بالهدى الضلالة، أي: تركوا الإيمان وأخذوا الكفر. تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه. والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنىً في الدنيا فخسروا ولم يربحوا، إذ ذلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم.(المهتدي): السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء، والضال خلاف المهتدي وهو السالك سبيلاً غير قاصدة، فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول والعياذ بالله].

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم، إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى (14) أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادعوه من الإيمان قالوا لهم: إنا معكم على دينكم وما آمنا أبداً، وإنما أظهرنا الإيمان استهزاءً وسخرية بمحمد وأصحابه.كما أخبر في الآية الثانية (15) أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاءً وفاقاً، ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم؛ لتزداد حيرتهم، واضطراب نفوسهم، وضلال عقولهم.كما أخبر في الآية (16) أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر، والإخلاص بالنفاق، فلذلك لا تربح تجارتهم، ولا يهتدون إلى سبيل ربح أو نجح بحال من الأحوال ].

هداية الآيات


قال: [من هداية الآيات: أولاً: التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه، وفي الحديث الشريف: ( شراركم ذو الوجهين ) ] يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وإن شاء الله لا يكون بيننا واحد من هذا النوع.[ ثانياً: إن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ].موجودون هؤلاء. أعيد فأقول: من هداية الآية: إنها تخبر أن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ينهون عن الصلاة، أبداً: كيف تغلق دكانك أنت وتصلي؟ أليس هذا نهياً عن المعروف؟ الذين يهربون الحشيش والمسكرات ويبيعونها في مدينة الرسول أليسوا هم؟ الذين يوردون الصور الخليعة ويبيعونها أليسوا هم؟قال: [ ثالثاً: بيان نقم الله وإنزالها بأعدائه عز وجل ] طال الزمان أو قصر.والله أسأل أن يعافينا، ويحفظ ديارنا من هذه المحنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (81)
الحلقة (88)




تفسير سورة البقرة (50)


هناك يوم كثير منا لا يحسب حسابه، ولا يُعدّ له جوابه، إنه يوم الدين، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يوم تجدب فيه عاطفة الأبوة والبنوة، ويغدو الذهب والفضة حطاماً بعد أن كان سوقاً رائجة، يوم يهرع فيه الناس يمنة ويسرة باحثين عن شفيع لهم، عن منقذ لهم من عذاب لم يكن يدور بخلدهم؛ لأنهم كانوا في حلم عميق، اسمه الدنيا، فمتى سنفيق؟!

تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:122-123].

نعمة القرآن الكريم والعمل به

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122]؟ والله إنه الله، فهذا كلامه، وهذا كتابه، وذاك رسوله، ونحن شهداء له على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالحمد لله أن عندنا كلام الله، وقد حرمه الأبيض والأصفر، ونحن أكرمنا الله فأعطانا كلامه، فها نحن نتلو ونسمع، والحمد لله.وهذه نعمة الله، لنا سببها الإيمان، ولو أننا ما آمنا لكنا مبعدين .. ملعونين .. مطرودين .. محرومين، فلا نعرف الله ولا نعرف عنه شيئاً، كما هو مشاهد في (99%) من العالم أبيضه وأسوده، أما نحن فالحمد لله.ربنا .. خالقنا .. رازقنا .. خالق الكون .. مدبر حياتنا .. الذي رزقنا أسماعنا، وأبصارنا، وعقولنا، ينزل كتابه إلينا، وها نحن نتلوه، ونتدبره، ونفهم ما فيه، ونعمل بما فيه، فأي نعمة أجل وأعظم من هذه؟ لا نعمة.فهيا بنا ندرس هذه الآيات الثلاث.

نسب بني إسرائيل

يقول تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] من هم بنو إسرائيل؟ إنهم اليهود، وقال فيهم: بنو إسرائيل؛ لأنهم قطعاً من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب عليه السلام يلقب بإسرائيل، كعبد الله وعبد الرحمن.وإسرائيل مضى عليه آلاف السنين، وهكذا أولاده، وأحفاده، وأحفاد أحفاد أحفاد أحفاد .. فهم سلسلة، وقد ماتوا، والذين بقوا أحياء على عهد نزول هذا الكتاب كانوا يسكنون هذه المدينة، فهو يخاطبهم تعالى بوصفهم سلسلة ما انقطعت من إسرائيل عليه السلام.وقد علمتم أنهم يحتفظون بأنسابهم، ويحتفظون بيهوديتهم البدعة الباطلة، فلا يفتحون باباً للتهويد كما فعل النصارى الذين فتحوا أبواباً للتنصير، ولا يريدون أن يدخل الناس في دينهم، وهم يعتقدون تلك الفرية الباطلة؛ أنهم شعب الله المختار، في حين أننا علمنا علماً يقينياً أن الله قد غضب عليهم ولعنهم، وما من مؤمن منا ولا مؤمنة إلا ويقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، فصراط غير المغضوب عليهم هم والله اليهود، فغضب الله عليهم.

أسباب غضب الله على بني إسرائيل

فإن قال قائل: هل لك -يا شيخ- أن تبين لنا أسباب غضب الله عليهم حتى نتقيها؛ لأننا نخشى أن يغضب الله علينا ويطردنا من رحمته؟ فبين لنا -يا شيخ- شيئاً مما استوجب غضب الله على اليهود حتى لعنهم وغضب عليهم؛ خشية أن نقع نحن في ذلك الإثم، وتلك المعاصي، فيغضب الجبار علينا ويلعننا؟الجواب: مما استوجب غضب الله تعالى على اليهود -بني عمنا- يا أولاد إسماعيل عليكم السلام، أنهم قتلوا الأنبياء والعلماء، ونحن ما قلتنا الأنبياء؛ لأنهم غير موجودين، ولو كانوا موجودين من يضمن أننا لا نقتلهم، وقد قتلنا العلماء؟!ثانياً: استوجبوا غضب الله؛ لأنهم أكلوا الربا، واستباحوه، وأشاعوه بينهم، ونشروه في العالم اليوم، فغضب الله عليهم؛ لأنهم تحدوه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، فاستباحوا الربا، وتعاملوا به، وأكلوه.وهل المسلمون اليوم سلموا من هذه؟الجواب: كلكم يعلم، وما يدرينا أن الله قد غضب، فما هناك وحي جديد أبداً، لكن الرسول والكتاب بيَّنا لنا موجبات الغضب، فالذي يتحدى الجبار، ويخرج عن أمره، ويفسق عن طاعته يغضب عليه.ومن موجبات غضب الله وسخطه أنهم يستبيحون المحرمات بفتاوى يفتونها، ويلصقونها بكتاب الله.وهل فعل المسلمون هذا؟نعم ألفوا كتباً بالقناطير .. بالأطنان، وحشوها كلها باطلاً ونسبوها إلى الله وإلى الإسلام، ففعلوا مثلما فعل اليهود.وعطل المسلمون شرائع الله، واستبدلوها بأهوائهم، وشهواتهم، وأطماعهم، فاستوجبوا غضب الله.وكذلك فعل المسلمون في الجملة فعطلوا شرع الله، وأوقفوه، وأبعدوه من ساحة القضاء والحكم، واستباحوا ما حرم الله، ومن يضمن أننا غير مغضوب علينا؟!

مظاهر غضب الله على بني إسرائيل

غضب الله على بني إسرائيل فسلط الله عليهم ضربتين قاسيتين:الأولى: على يد البابليين، فشردوهم ومزقوهم ونكلوا بهم، وبعد مرور القرون تراجع من تراجع، وتابوا إلى الله وأنابوا، فعادوا وقالوا لأحد أنبيائهم: عين لنا ملكاً نقاتل تحت رايته، ونسترد مجدنا، ونظامنا، ودولتنا، فاستجاب الله، وانتصر داود عليه السلام في تلك المعركة الخالدة، وما إن مات ذلك الحاكم حتى أصبح داود الحاكم والنبي المرسل، وتكونت دولة اتسع نطاقها على يد ولي عهده سليمان عليه السلام، فساد بنو إسرائيل العالم؛ الشرق والغرب، وكانت أنوار الإله، والأنبياء، والحكمة، والحكم، والكتاب تغمر الدنيا.ثم لما شبعوا وسكنت نفوسهم واطمئنوا ومات سليمان تمردوا على الله، وفسقوا عن أمره، ولبس نساؤهم الكعب العالي.فإن قال قائل: يا شيخ! لكن الكعب العالي وجد عندنا نحن أيضاً؟!هذا صحيح ولست أنا القائل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدثنا عنهم.ولبست المرأة الإسرائيلية الكعب العالي؛ لأنها قصيرة القامة فتريد أن تطول وترتفع، فيصنع لها حذاء كعبه طويل.وقد قال لي أحد الأبناء: يا شيخ! ليست القضية أن الكعب عال ومرتفع حتى تظهر للرجال، لا؛ ولكن القضية أنها إذا لبسته تتغنج، وتتكسر، وتتمايل لتفتن القلوب، وقد فعل نساء المؤمنين اليوم ما هو أفضع وأبشع، فانتهى الحياء إلا من رحم الله.ثم أصبح نساء بني إسرائيل يبعن ويشترين في البيع، فصدر الأمر بطردهن.قالت عائشة رضي الله عنها: قد يطرد نساء اليوم كما طرد نساء بني إسرائيل.فما إن فسق بنو إسرائيل -وفسق هذه الأمة اليوم ليس بأقل- حتى سلط الله عليهم الرومان، فأذاقوهم مر العذاب، وشتتوهم، ومزقوهم، ويدلك على تشتيتهم أنهم نزلوا بهذه الصحراء القفراء .. بهذه المدينة السبخة، هاربين من سطوة وسلطان الروم في الشمال.وفعل الله هذا ببني إسرائيل؛ لأنهم فسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولا أحسبهم أنهم كانوا أسوأ منا وأهبط منا أبداً. ومن هنا غضب الله عز وجل فسلط الكافرين على المسلمين.فإن قال قائل: أحقيقة هذا يا شيخ؟ هل الكفار أعداء الله وأولياء الشيطان يسلطهم الرحمن على المؤمنين؟!الجواب: إي والله، ولقد حكمونا في الشرق والغرب، في ممالك الهند العظيمة، وفي جزر جاوة، وفي الشرق الأوسط، وما نجا إلا هذه البقعة، وهذه آية من آيات الله فقط.إذاً: فعل الله بنا كما فعل ببني إسرائيل، فلسنا أفضل منهم، وأين يذهب بعقولنا؟!إن أولاد الأنبياء يناديهم الله بهذا النداء الثالث: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يريد أن يسترجعهم .. يريد أن يردهم من تيهانهم ليكملوا ويسعدوا: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122].إذاً: ما هناك فرق أبداً بيننا وبينهم إلا فرق واحد، وهو أنه يوجد بيننا مؤمنون ومؤمنات، أطهار، أصفياء، هم أهل الله وأولياؤه، وهؤلاء هم أهل دار السلام، وهم بقيت فيهم بقايا، لكن قليلة؛ لأن عددهم قليل، فهذا الفرق بيننا وبينهم اليوم.

المسلمون أولى بالموعظة من بني إسرائيل

قدمت هذه المقدمة؛ لأني سبق أن قلت لكم: نحن أولى بهذه الموعظة من بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل لا وجود لهم معنا، ولو كانوا معنا لوجهنا إليهم هذا النداء الإلهي، لكن الله نجانا منهم، وطردهم من الحجاز والمملكة، ولو كنا قادرين على أن نبلغهم لبلغناهم، وذهبنا إلى ديارهم، لكننا عاجزون، فنحن الآن أحق بهذا النداء؛ لأن حالنا كحالهم.فيا أمة الإسلام! يا أهل القرآن! يا أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم! اذكروا نعمة الله عليكم، أن كنتم مشركين؛ وثنيين، يهوداً، نصارى، بوذا، صابئة، لا تعرفون الله ولا لقاءه، ولا تعرفون نوراً ولا هداية، فأنعم عليكم بأعظم نعمة؛ أن أنزل كتابه وبعث رسوله، وجمعكم على الإيمان والتقوى.

المراد من ذكر النعم

فإن قال قائل: هل المراد من الذكر أن نقول: إن الله أنعم علينا.. إن الله أنعم علينا .. إن الله أنعم علينا؟ هل هذا المقصود؟الجواب: المقصود: اذكروها بقلوبكم؛ لتشكروها بألسنتكم وجوارحكم.واذكروا النعمة من أجل أن تشكروا المنعم جل جلاله وعظم سلطانه، وهذا هو الطلب.واذكر النعمة لتشكر المنعم، فيزيدك، ولا يغضب عليك، ولا يسلبك ما أعطاك.ونحن أية نعمة نشكرها؟أخبرنا الله أن نعمه علينا لو أردنا إحصاءها والله ما قدرنا، ولا بالآلات العصرية، إذ قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].ومن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام بشرائعه، وقوانينه، وآدابه، لكننا تخلينا عنه، وتحللنا، وبعدنا، وما أصبح لنا هيكل ولا ذات، ولا شخصية، وعلى الأقل يقال: هؤلاء مسلمون، إلا من رحم الله، فكأننا ذبنا ذوباناً، فما أصبح للعالم الإسلامي ذات ولا شخصية.



يتبع

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
نعم الله تستلزم الشكر

إذاً: المطالبة بذكر النعمة المقصود منها الشكر.لكن ما هو الشكر يا شيخ؟الشكر هو الاعتراف بالقلب، وفي قرارة نفسك، أن لا تنسى أن ما بك من نعمة فهي من الله، وابدأ بسمعك .. ببصرك .. بمنطقك .. بلسانك .. بيديك .. برجليك .. ببطنك.. بذاتك كلها، هو منعم بها عليك، فهل أنت خلقت نفسك؟ وهل أنت أوجدت سمعك وبصرك؟ وهل أنت أوجدت عقلك، وفهمك، وذوقك؟إذاً: هذه الحياة نعمة كاملة أهديتها، فاذكر هذا بقلبك، ثم احمد واشكر المنعم، ولا تنس قولك: الحمد لله في صباحك ومسائك .. في ليلك ونهارك .. في مرضك وصحتك .. في جوعك وشبعك .. وفي كل أحوالك .. فدائماً تقول: الحمد لله.ومن معاني الشكر أن تصرف النعمة فيما من أجلها أنعم الله بها عليك. وهيا بنا نبدأ بنعمة البصر، فهل أذن الله لك -يا عبد الله- أن تفتح عينيك وتبصر ما لا يحل لك؟أما بلغك قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].أما قال للمؤمنات بلغ يا رسولنا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ [النور:31].. هذا الكلام جديد أم قديم؟ فيا رسولنا بلغ، فاللهم اشهد فإنه قد بلغ، وهذا كتاب الله بين أيدينا.وهل شكرنا نعمة البصر فغضضنا أبصارنا، وغض نساؤنا أبصارهن؟ قلنا: لا نطيع.أما نعمة اللسان، ولو تصفي حالنا، وتغربل وضعنا، وتستخرج أضغاننا، وأمراضنا، وأحقادنا، وباطلنا، وتشاهد ذلك يغمى عليك، في حين -اسمع وبلغ- يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، وهل طبقنا هذا الأمر؟أقول: لو تسجل أقاويلنا، وأحاديثنا، وهراؤنا سيملأ الكون، وإن شئتم انظروا إلى النقد، والطعن، والشتم، والسب، والانتقاد، والسخرية و.. و.. كأننا لسنا بالمؤمنين، أليس هذا الواقع؟ إنه لهو الواقع.واسمع إلى غيرك في المجالس واذكر شخصاً، فإذا الجالسون ينهالون عليه، وقل من يغلق أذنيه ويقول: لا تغتابوا، لا تذكروا كذا.فأين نعمة اللسان وهي من أجل النعم.لقد أعطيت هذا اللسان لتفصح عما أنت في حاجة إلى بيانه فيقول: أمي أعطني الماء .. أبي ناولني كذا .. فلان اربط كذا، وكل ذلك من أجل أن تخدم نفسك بلسانك، لا أنك تكفر به نعم الله.لعلي واهم؟ولو كنت واهماً لأشرت إلى وحدة المسلمين، وتحابهم، وتعانقهم، وتلاقيهم كأنهم جسم واحد، لكن انظروا إلى بلداننا: حكومات، أحزاب، منظمات، جمعيات، قبائل، طوائف، فهي تأكل بعضها بعضاً، فأين آثار طاعة الله عز وجل؟

نعمة الدين ووحدة المسلمين

قد قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، وقال: ( المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يقتله، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، عرضه، ماله ).وتبلغني عجائب عنا كمسلمين، فأقول: والله إن عذاباً يجري في بلاد العرب لا يوجد يوم القيامة .. إن عذاباً يجري في بلاد العرب -فضلاً عن العجم- في سفنهم لا يوجد في النار.إذاً نحن أولى بهذا النداء من اليهود.يا بني الإسلام! اذكروا نعمة الله عليكم. ماذا كنتم؟كنتم بهائم في الغابات ورءوس الجبال، لا تعرفون الله ولا الدار الآخرة، ولا إيمان، ولا إحسان، ولا إسلام، فأنعم الله عليكم بنعمة أعزكم على البشر، ورفعكم إلى مستوى لا يصل إليه إلا مثلكم، فلِمَ ننتكس، ونرجع إلى الوراء، ونغير مجرى حياتنا، ونصبح عرضة لغضب الله علينا؟!وقد أرانا الله آية، فاستعمار الشرق والغرب لنا آية، ونحن الآن تحت النظارة، والله العظيم، فالله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].والآن لا وجود لكلمة صحوة، بل سكارى، وكل يوم والعالم الإسلامي هابط، فإذا دقت الساعة وغضب الجبار فسوف ينزل بالموجودين بلاء أعظم مما سبق، فما صحوا، ولا استفاقوا، ولا رجعوا، والأيام تمضي، والخطايا والذنوب والخبث تعفن الجو والكون منه.

معنى قوله تعالى: (وأني فضلتكم على العالمين)

قال تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122]، والمراد من العالمين: عالَم زمانهم، والله لكانوا أفضل من العالم وسكان العالم.ونحن أعطينا هذا الخير، فيقول الله لنا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، هذا الخبر إلهي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ نكرة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، بسبب إيماننا واستقامتنا على منهج الله، فلما فجرنا عن أمر الله وفسقنا عن طاعته اختلط أمرنا، وتحللنا، وتمزقنا، وفقدنا تلك الروحانيات، وأصبحنا عرضة لسخط الله.ولا تقولوا: هذا الشيخ يؤيسنا ويقنطنا.أقول: هذا كلام باطل فلا تذكروه، فما أيَّسنا أحداً ولا قنطناه.فيا عبد الله! ويا أمة الله! الزم باب الله، وأقم الصلاة، واذكر الله، وكف لسانك وبصرك، واذكر ربك، فلم يبق بينك وبين الجنة إلا أن تموت.وقوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ونحن فضلنا فقال: خير أمة أخرجت للناس ، وهي أفضل من قوله: فضلناكم على العالمين، أي: فضلناهم بالمآكل .. بالأنبياء .. بكذا، لكن نحن جعلنا خير الناس: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].أسألكم: باستثناء هذه المملكة التي نحاربها ليل نهار والعياذ بالله، وأعوذ بالله منا، هل وجدت هيئة تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر في غير المملكة؟أجيبوا. لم؟ من منعنا؟فإن قال قائل: يا شيخ! نحن مستعمرون.أقول: لا، أيام الاستعمار ما قلنا هذا، ولكن قلنا هذا أيام الاستقلال والسيادة الوطنية، والحكومات ذات الوزارات المتعددة، فلم لا توجد هيئات في القرى والأحياء تأمر الغافل، وتذكر الناسي، وتعلم الجاهل.الجواب: لا نريد هذه، فهذه صفة الرجعيين!
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ...)

معنى قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)

قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:123]، يا أمة الإسلام! اتقي يوماً عظيماً، صفه لنا: يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، فلو يأتي أبوك، وهو رجل رباني صالح فيقول: أي رب! هذا ولدي، لا تدخله النار، فأنا قد عبدتك ثمانين سنة. فوالله لا يجزي عنك أبداً.ولو تأتي الأم فتقول: أي رب! عبدتك سبعين سنة وهذا ولدي أو هذه ابنتي تقاد إلى جهنم! فشفعني فيها يا رب، فوالله لا تقبل لها شفاعة.واسمع ما يقصه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في استعراض قد شاهده بأم عينيه: ( لما يحشر الله الخليقة لساحة فصل القضاء يقول إبراهيم عليه السلام: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا في هذا اليوم؟ فيقول له الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: أي إبراهيم! انظر تحت قدميك -وفي الأصل أنه يبكي- فينظر فإذا والده آزر البابلي في صورة ضبع، بل في صورة ذكر الضباع، أقبح صورة وأبشعها، وهو ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم )، فهذا أبو الأنبياء .. هذا خليل الله .. هذا إبراهيم ما شفع في والده، ونحن نطمع.وأخبرنا أيضاً أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عندما يوضع الميزان، فتوضع حسنات الأب فلا ترجح، وتبقى السيئات أرجح منها، فيأتي إلى بعض أولاده إن كان له أولاد: أي ولدي! إني .. وإني .. وأنا الآن في حاجة إلى حسنة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول الولد: إيه يا أبتاه! أعلم أنك كنت خير الآباء لي، ولكن نفسي نفسي، وتأتي الأم تقول لولدها كذلك، ولا يستطيع أحد أن يعطي حسنة من حسناته؛ لما يعرف أنه إذا رجحت كفة السيئات هلك.

معنى قوله تعالى: (ولا يقبل منها عدل)

قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:123]، وهل يوجد العدل المقابل قنطار من الذهب والفضة وبنوك العالم بأسره ما يُقبل، وأنى لها ذلك، لو قلت: أي رب! هذا ولدي أدخله النار بدلاً عني -والله- لا يقبل.

معنى الشفاعة

قال تعالى: وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123].يعيش المسلمون في قرون الظلام ألف سنة معولين على الشفاعة، والشفاعة هي الوساطة، أي: ضم جاه إلى جاه ليقبل الطالب للشفاعة.وهذا وقت بيان ومعرفة الشفاعة. وينبغي أن نعرف هذا، ولا يحل لنا أن نقوم من مجلسنا هذا وما عرفنا الشفاعة التي جاء بها الكتاب وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نغش أنفسنا، ونخدع بعضنا بعضاً.

لا شفاعة للكافرين

لا شفاعة لمن مات على الشرك والكفر، فالذي مات على الكفر والشرك لا شفاعة له أبداً يرجوها، ولا تتحقق له، وليست شفاعة أن يخرج من النار، بل شفاعة أن لا يخلد في النار؟ والله لا تقبل منه، وقد قضى بهذا العليم الحكيم فمن يرد على الله قوله: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وهذا كلام الله، فشر الخليقة هم من يكفرون بالرحمن .. وشر الخليقة مطلقاً من يكفر بالله، ولقائه، ورسوله، وكتابه.واسمع قول الله تعالى في خاتمة سورة النبأ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هذه الأمنية الغالية أو الرخيصة؛ والكافر: هو من مات على الكفر والشرك والعياذ بالله وإن كان ابناً لنبي أو أباً لرسول، ولا تفكر أن هناك نسباً يغني: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].والكافر لا شفاعة له ترجى، ولا يخرج بها من النار قط، وقد رأيتم آزر وما قال فيه الرسول.

الشفاعة العظمى

يبقى المؤمن الموحد، لا مؤمن مشرك، فهذا له شفاعة، وإليكم بيان الشفاعة العظمى.أولاً: الشفاعة العظمى الكبرى التي لا تسمو إليها شفاعة ولا تدانيها، وهذه اختص الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، الرسول إلى البشرية كلها؛ أبيضها وأسودها، بل إلى الإنس والجن معاً، وما حصل على هذه الشفاعة إلا ببذل الجهد والطاقة، ولو رأيته عندما يصلي ويبكي، والدموع تسيل، وتعمل خطوطاً على الحصير، ولو عرفت كيف يلبس درعه، ويخرج لسبعة عشر معركة يخوضها في خلال عشر سنوات، ولو عرفت أنه ما شبع من خبز شعير في يوم واحد مرتين حتى لقي الله، ولو رأيته وهو يضع الحجر على بطنه، ويشدها بالحزام، حتى يتماسك ويقوى على المشي والصلاة.ولما أعلمه الله بهذا المقام المحمود قال له: (( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))[الإسراء:79].وقالت عائشة : ( كنت ألتمسه في الليالي الباردة في الشتاء، فلا أجده، فأطلبه، فأجده قد اغتسل بالماء البارد من الجنابة وهو يصلي ويبكي والدموع تسيل على حصيره )، وهل تستطيع أن تفهم أنه ما قال كلمة سوء طيل حياته، فكله نور وأدب.وهذه الشفاعة أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها بنفسه، وأنه يأتي إلى العرش فيخر ساجداً تحت عرش الرحمن، قال: ( فيلهمني ربي محامد، ألفاظ حمد وثناء وشكر ما كنت أعرفها ، فلا أبرح أحمد الله، وأثني عليه، وأمجده بها -لا أدري مقدار الزمن- حتى يقول لي: أي محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، يشفع في من؟ في أبويه أن يدخلا الجنة؟ لا والله، يشفع في أعمامه وأخواله؟ لا والله، فقد ماتوا على الكفر مشركين كافرين.هذه الشفاعة ليقول لله: اقض بين عبادك، فقد طال موقفهم، وامتد النهار، وسال العرق، وألجم من ألجم، فاقض بينهم، وكيف جاء لهذا، فالبشرية كلها جاءت إليه: أنت الذي يمكنك أن تكلم الله، والله لقد ذهبوا إلى آدم ونحن معهم: ( يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عنده ليقض بيننا ) وهم حفاة عراة، واليوم يوم مقداره خمسين ألف سنة من أيامكم هذه، ( فيعتذر آدم عليه السلام ويقول: أنى لي وقد غضب اليوم ربي غضباً لم يغضب قلبه ولا بعده أبداً )، ويذكر آدم خطيئة، ومن منكم يقول: أنا عندي عشر خطايا فقط، وفي العمر سبعون سنة؟ وآدم خطيئة واحدة فقط هي تلك التي أكل فيها من الشجرة المنهي عنها، وغررته امرأته، وزين الشيطان لها وله ذلك، فقال آدم لهم: ما أستطيع. عليكم بنوح، فهو أبو البشر الثاني.فيأتون نوحاً -والله العظيم- مائجين هائجين: يا نوح أنت.. أنت .. أنت، اشفع لنا عند ربك يقض بيننا، فيدخل الجنة من يدخل، ويدخل النار من يدخل، لقد طال وقوفنا، فوالله ليعتذر نوح، ويذكر خطيئة واحدة، وقد عاش ألفاً ومائة سنة وزيادة، منها تسعمائة وخمسين عاماً وهو قائم بدعوة الله، وقالوا فيه ما لا تقدر أنت على عشره ولو على (1%) من السخرية، والاستهزاء، والضحك، والكلام الباطل و.. و.. ومن العجائب.فيذكر نوح كلمة فقط: (( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ))[نوح:26]، فلم تدع بهذه الدعوة العامة يا نوح؟! أما ترحم البشرية؟ فيذكر هذه الدعوة ولا يستطيع أن يقف أمام الله فيسأله ويطلب منه، فيحولهم إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم أبا الأنبياء؛ خليل الرحمن، فيقول: أنا كذبت ثلاث كذبات، فكيف أواجه ربي وأخاطبه؟والله لكذبات إبراهيم خير من صدقنا نحن؛ لأنها كانت لله، ونحن نكذب لشهواتنا، وأطماعنا، وأهوائنا.فيقول: عليكم بموسى، فيأتون موسى فيقول: كيف أكلمه وقد قتلت نفساً.وهل قتله عمداً؟ والله ما هو بعمد، إنما قتله خطأ، فقد أراد أن يفصل بين اثنين متضاربين، فلما رأى شدة القبطي لكمه في صدره، وكان الأجل، فمات.يقول: عليكم بعيسى، ويخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( فلم يذكر عيسى خطيئة قط )، فعاش ثلاثاً وثلاثين سنة لم يقارف خطيئة قط، وسينزل ويعيش بقية العمر والغالب أنها ثلاثين سنة، ولم يذكر خطيئة قط، لا كلمة ولا نظرة.وسر هذه العصمة هي في دعوة جدته يوحنا امرأة عمران عليه السلام عندما سألت ربها وقالت: (( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))[آل عمران:35-36]، فأُغلق الباب على الشيطان، فلم يصل إلى قلب عيسى، ونفعته دعوة الجدة؛ لأنها جدة تساوي الملايين من جداتنا.وأخبر بهذا أبو القاسم، فإذا هز المرأة الطلق، وجاءها المخاض، جاء الإسعاف من الشيطان وأعوانه، فينتظرون متى يسقط هذا الجنين، ليطبعه أنه من أتباعه، فما إن يخرج من فرج المرأة حتى ينغز في خاصرته فيصرخ.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:11 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (82)
الحلقة (89)




تفسير سورة البقرة (51)



في بلدة بعيدة جثم فيها الشيطان وفرّخ، وأصبح الإنسان فيها يعبد حجراً، لم يكن الوضع سليماً، فقام نبي الله إبراهيم مبيناً الحق، رافعاً به صوته، ثم ما لبث أن اتخذ خطة أخرى، فغافل قومه وحطم الأصنام، جاء القوم فرحين، متبركين، فإذا بهم يصعقون لهول ما رأوا، وعرفوا الفاعل، وعزموا على عقوبته، لكن الله نجاه وحفظه وجعله إماماً للعالمين.

تفسير قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

إبراهيم هو الأب الرحيم بالسريانية

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من هذا إبراهيم الذي ابتلاه الله واختبره وامتحنه فنجح حتى أصبح إماماً؟ألا إنه إبراهيم الخليل؛ الذي فاز بالخلة بينه وبين الله عز وجل.وهو الأب الرحيم؛ لأن كلمة إبراهيم باللغة السريانية هي الأب الرحيم، وقد تجلت رحمته في مواقف شتى، فحقاً كان أباً رحيماً.ومن مظاهر تلك الرحمة أنه لما سأل الله عز وجل قائلاً: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فتتجلى حقائق الرحمة في هذا الكلام، وقبلها يقول من سورة إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، يا رب! إن هذه الأصنام التي عبدها البشر الجهال أضللن كثيراً من الناس، حيث عبدوها وتركوا الخالق المعبود الحق، ثم يقول: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وأنا منه: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فلم يقل: فاضربه .. فانتقم منه .. فأنت العزيز الجبار .. أنت العزيز الحكيم وهو كذلك، ولكن قال: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، كأنما قال: فاغفر له وارحمه.أما عيسى عليه السلام فقال ما سجل القرآن له في تلك الوقفة العجيبة في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء والله يقول له: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118]، فانظر ما بين الموقفين، فهنا ما قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ بل أنت العزيز القوي، القادر، الذي لا يعجزه شيء، الحكيم فتضع الشيء في موضعه؛ فالكافر الخبيث، المنتن، المجرم لا يضعه الحكيم بين أولياء الرحمن في دار السلام، بل يضعه في أتون الجحيم.والخلاصة أن الأمة التي سمت إبراهيم أباً رحيماً وفقت في ذلك الاسم، حقاً هو أب رحيم.

إبراهيم هو أبو الضيفان

هذا إبراهيم يكنى بأبي الضيفان، وهو ما ولد ضيفاً، ولكن كني بأبي الضيفان، والضيفان: جمع ضيف، يقال: ضيوف وضيفان.وإليكم سورة شاهدوا فيها كرم إبراهيم، فبعد هجرته واستقراره بدار القدس وأرض الطهر، شاء الله عز وجل أن يضرب المؤتفكات وبها قوم لوط عليه السلام؛ لأن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، وهاجر معه أيام هجرته، فلم يخرج من أرض بابل سوى إبراهيم وزوجه الكريمة سارة وابن أخيه لوط.ونبأ الله لوطاً، وأرسله رسولاً إلى المؤتفكات: سدوم وعمورة، وهي مدن البحر الميت المنتن، فلما دعاهم إبراهيم إلى أن يعبدوا الله وحده، وأن يتخلوا عن الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ وهي إتيان الذكور من العالمين، وتم وعد الله، وبذل لوط صلى الله عليه وسلم أقصى جهده، ولم يستجب له، فلم يسلم أحد ما عدا أهل بيت فقط .. أهل بيت لا غير، واقرءوا لذلك: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات:31-34].. الشاهد: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36].وقد كانت هناك مدن في ذلك العالم لكن: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، ولا حرج، فنوح قبله دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وحصيلة الدعوة كانت نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة لا أقل ولا أكثر، وتخيلوا في تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو الليل والنهار، في السر والعلن، فلم يتابعه على ملة الإسلام إلا نيف وثمانون رجلاً وامرأة، فيا عجب!وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن النبي يبعث يوم القيامة ومعه النفر والنفران، ويبعث وليس معه أحد )، لأنهم ما استجابوا.فلما أراد الله إنهاء ذلك الوجود العفن الخبيث المنتن؛ أرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ فنزلوا ضيوفاً على إبراهيم؛ لأن فلسطين والأردن متصلتان، فلما نزلوا بإبراهيم أهلّ وسهّل ورحّب: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] فهم ثلاثة أنفار، فقام إبراهيم بذبح عجل سمين وقدمه مشوياً أيضاً، ثم قال: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]، فتأدب معهم، فما قال: كلوا، كأنه أعلاهم يأمرهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ فأبوا أن يأكلوا: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28] لم لا يأكلون!وهذه إن شئتم قولوا: عادة بشرية، حتى في الإسلام، فإذا أراد الشخص بالآخر سوءاً لا يسلم عليه؛ لأنه لو قال: السلام عليكم أمنه، ولو أراد به خيراً لسلم عليه وأكل طعامه، فإذا رفض أن يأكل فهذا معناه أنه ما جاء للأكل، بل جاء ليذبحه أو يسلبه ماله، فإبراهيم أوجس في نفسه خيفة، لم؟ أَلا تَأْكُلُونَ .وكانوا في صورة رجال، كرام، حسان الوجوه؛ لأن الملك يتشكل كما أراد الله، فقال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه.وهل تأكلون طعاماً بدون حقه؟ وهل تدخل المطبخ فتأكل وتشبع ثم تخرج؟ هذا من غير المعقول.قال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، فقال إبراهيم عليه السلام: كلوه بحقه. فقالوا له: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.أيها المستمعون والمستمعات! هل بلغكم إنه لا حق لك في طعام الله ولا شرابه إلا بأن تذكر اسمه أولاً وتحمده أخيراً، وإلا فأنت آكل ما لا يحل لك.هل يفهم الواعون هذه؟هذا الطعام من خلقه .. من أوجده .. من وضعه بين يديك، أفتأكل بدون إذنه، وهل يحل لك أن تأكل طعاماً بدون إذن صاحبه، أسارق أنت أم لص؟فمن هنا لابد إذا أراد عبد الله أو أمته أن يأكل أن يقول: بسم الله، أي: باسمه إذ هو الذي أذن لي فيه، ولو لم يأذن لي فيه والله ما أكلته، كأنك تأكل ميتة أو خنزيراً أو مغصوباً محرماً؟إذاً: لا تأكل؛ لأنه ما أذن لك فيه، ولهذا أيأكل المؤمن ما حرم الله؟ لا يقدر، أما إذا أذن له فيه فإنه يقول: بسم الله، ويأكل.كذلك إذا فرغ من الأكل يحمد المنعم فيقول: الحمد لله.ومن الأسف أن ملايين المؤمنين لا يعرفون هذا، ومن عرفه عرفه تقليداً أعمى فقط، لا عن علم وبصيرة، فلهذا لا يبالي أسمى الله أم لم يسم، حمد أو لم يحمد.وهل يجوز لعبد من عباد الله أن يتناول كأس الخمر ويقول: بسم الله ويشرب؟والله لا يجوز، كَذِب، كَذَبَ على الله وزَوّر، آلله أذن له بذلك، كيف يكذب على الله ويقول: بسم الله؟ ومن أذن لك حتى تقول: بسم الله، فتكون قد كذبت على الله مرتين: الأولى حين تشرب ما حرم أو تأكل ما حرم والثانية حين تقول: بسم الله.والرسول صلى الله عليه وسلم كان بين يديه غلام صغير يأكل الطعام فقال له: ( يا غلام! سم الله )، فيعلم هذا الطفل وهو في السادسة من عمره أو أقل: ( يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك )، فهل علمنا أطفالنا هذا؟ آه.وا حر قلباه! هل علم المسلمون غلمانهم أن يبتدئوا طعامهم: بسم الله، وأن يتناولوه بأيديهم اليمنى لا اليسرى، وإذا فرغوا أن يحمدوا الله.أي فلانة! أي بني! أي بنيتي! فرغت من الأكل؟ قالت: نعم أبتاه، قال لها: قولي: الحمد لله.ومن قص هذه القصة؟ وهل عاصر النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم ولوطاً وبينهما أربعة آلاف سنة؟إنه الوحي الإلهي.فلما قالا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، قال: كلوا بحقه، قالوا: فما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره، فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقالا: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً. فمن ثم عرفنا أن إبراهيم كان خليلاً للرحمن.والشاهد عندنا في أبي الضيفان فهو حقاً أبو الضيفان.

إبراهيم هو أبو الأنبياء

ويكنى إبراهيم أيضاً بأبي الأنبياء، فإذا سئلت: من أبو الأنبياء؟ فقل: إبراهيم، لأنه ما من نبي ولا رسول نبئ وأرسل بعده إلا من ذرية إبراهيم، وما من نبي نبأه الله بعد إبراهيم إلا من ولد إبراهيم.إذاً إبراهيم هو أبو الأنبياء .. أبو الضيفان .. خليل الرحمن.

استجابة الله لدعاء إبراهيم

إبراهيم عليه السلام دعا الله عز وجل دعوة مباركة واستجابها الرحمن، ولو تذكرونها من سورة الشعراء؛ حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:78-89].. عجب هذه الكلمات! دعوه إلى أن يعبد الأصنام والأوثان والأوهام، فرفض وقال: أعبد الذي خلقني فهو يهديني، والذي هو يطعمني ويسقيني.يطمعني ويسقيني؟ وأنتم الآن من يطعمكم ويسقيكم؟ أمهاتكم وآباؤكم!أيها الغافلون! من الذي يطعم ويسقي سوى الله خالق المادة، ومسخر أسبابها.وإياك أن تفهم أنك تطعم نفسك، وتسقي نفسك، فمن خلق الماء، ومن عرفك أنه يرويك، ومن خلق الطعام وهداك إلى أكله، وعلمك كيف تأكله؛ لتعرفوا أننا لاصقون بالأرض.من منا يعرف هذه الحقيقة: أنا آكل .. أنا أشرب .. أنا أطعم .. أنا كذا!! أنت أنت؟! وأنت ما كنت شيئاً يذكر.عجب هذا الكلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَِ [الشعراء:78-79] لا غيره يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:79-84] واستجاب الله، فاليهود والنصارى والمجوس .. وكل أهل العالم يعترفون لإبراهيم بالمقام الأسمى، والمنزلة العليا، وأنه أبو الأنبياء؛ استجابة الله له.وفي السياق الكريم تقدم لنا ما قال اليهود، وما قال النصارى، وما قال المشركون، وهم يتشبثون بالنسبة إلى إبراهيم، فكلهم يقول: إبراهيم منا، وإبراهيم بريء منهم؛ وإبراهيم يقول تعالى عنه من آخر سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] ويقول عنه من سورة النحل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، فتمزقت تلك الخيوط الباطلة التي يتشبث بها المشركون في مكة، ويدعون أنهم أتباع إبراهيم وما هم في حاجة إلى محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، ومن سورة آل عمران قالت اليهود: إن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى ادعت نفس الدعوى: إن إبراهيم كان نصرانياً، فأبطلها الله، ورد هذا وأبطلهم.إذاً: إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، مائلاً عن كل الباطل وضروبه، وأنواعه، وعباداته، وآلهته إلى الحق مسلماً قلبه ووجهه لله رب العالمين، فأبطل دعواهم، وهم ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركون من العرب.



يتبع

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:11 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
وفاء إبراهيم

وهاهو ذا تعالى يريهم صورة حقيقية لإبراهيم، فقال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، ابتلاه: امتحنه واختبره، (بكلمات) جمع كلمة، وهي كما يقولون: أوامر ونواهي؛ لأن الأمر يكون بالكلمة: افعل، والنهي يكون بالكلمة: لا تفعل.إذاً: فإبراهيم امتحن ونجح.قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:124] أي: واذكر يا رسولنا لهؤلاء الطوائف الضالة من اليهود والنصارى والمشركين اذكر لهم ليسمعوا ويعوا ويشاهدوا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] وفاهن: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] تمام التوفية في كل ما أسند إليه، وأمر به، ودعي إليه، ولم يثبت من أتم ما عهد إليه ووفاه سوى إبراهيم، ولهذا أثنى الله عليه بقوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى .

إبراهيم يحطم الأصنام

من الكلمات الشاقة الصعبة التي لا ينهض بها إلا مثل إبراهيم ذلك الموقف الذي وقفه في بابل العراق، يوم هاجم الأصنام والأوثان بمعول .. بفأس، فحطمها وكسرها وتركها شذراً مذراً، ومن يقوى على هذا؟فإبراهيم عرف أن قومه سيخرجون في الربيع إلى عيد الفصح كما يسميه النصارى اليوم، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89].قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:83-89]، فأوهمهم أنه ينظر إلى النجوم؛ لأنهم يعبدون الكواكب، وقال: إني سقيم، لا أستطيع الخروج معكم.نعم عرضوا عليه الخروج للفصح؛ للأكل، والشرب، والقصائد الماجنة، فلما تركوه جاء بمعول أعده من قبل، ودخل بهو الآلهة وصالونها الفخم وكسرها وحطمها، وعلق المعول في عنق أكبرها وانصرف.فإبراهيم خرج عن نظام الدولة بكامله، فحارب الأمة وسلطانها، وهو وحده.عشنا وما زال العرب في جاهليتهم في بعض البلاد، هناك في يوم من الأيام وخاصة أيام الخريف عندما توجد الحمى الفصلية ينادي المنادي في القرية: إن إخواننا من الجن قد عسكروا عندنا فكيف نتقيهم؟يقولون: بالنشرة.لكن ما هذه النشرة؟يقولون: اذبحوا، واطبخوا الطعام واللحم، وضعوه في البيوت، وأغلقوا الأبواب حتى يأكل إخواننا من الجن ويرحلون، وبذلك نسلم نحن وأولادنا ونساءنا من أذاهم.والله العظيم!فإذا وضعت السيدة طعامها وأغلقت باب الغرفة، وبعد ساعة يأخذون الطعام ويأكلونه بما فيه من البركة، وهذا موروث عن البابليين من ستة آلاف سنة.فإن سأل سائل: كيف نقل إلينا؟الجواب: مضى في الدرس الماضي أن قلوب الكافرين متشابهة عرباً وعجماً؛ لأن الداعي إلى الباطل واحد، وهو إبليس. وإبراهيم بيننا وبينه أربعة آلاف سنة أو ستة آلاف فقط، وعندنا في قرية من قرانا الإسلامية يعبد يعوق ونسر من عهد نوح، أما قال نوح لما أمرهم بعبادة الله: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، جبلان رأيناهما: هذا يعوق وهذا نسر، وإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض خرج أهل البلاد بالنساء والرجال، فيذبحون ليعوق ونسر، ويأكلون الزاد والطعام حتى يسقوا.كيف نتخطى أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟ كيف يتم هذا؟!لأن الداعي إلى الشرك والباطل هو إبليس، فلا عجب ولا غرابة أن ينتقل هذا إلى العالم الإسلامي من عهد البابليين؛ إذ يخرجون ويتركون أطباق الطعام والحلويات بين يدي الآلهة لتباركها، فإذا رجعوا من عيد الفصح أخذوها.وأظن أن النصارى يعملون هذا إلى اليوم، فيضعون أطباق الحلويات عند الآلهة.فإبراهيم استغل الفرصة وحطم الأصنام والآلهة الباطلة، وعاد إلى بيته، فجاء المغرورون؛ المخدوعون ليتناولوا الأطعمة المباركة، فوجدوا الآلهة متناثرة: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60]، (سمعنا فتى) أي: شاباً (يذكرهم) أي: بالسوء، وعدم الرضا، والغضب، فما هو راضٍ عنه: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، هناك نوع من الحق أو العدالة ما هم هابطين تماماً: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أن هذا الذي فعل هذه الفعلة، وجيء به، واستنطقوه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، وهذه كذبة من الكذبات الثلاث، فهو قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] يشير إلى يده، وهم ظنوا أنه يشير إلى الإله الذي ما حطم: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فبكتهم، فَاسْأَلُوهُمْ إله لا يجيب؟ كيف ترجو أن يرحمك وأن يدفع العذاب عنك، وهو ما ينطق؟ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:64-67]؟!

توكل إبراهيم

فهذا الغلام الشاب هو إبراهيم، قالوا: إذاً حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، فلما عجزوا عن البيان والحجة والبرهان رفعوا الهراوة عليه، وهذا واقع البشر، تجده يجادل يحاج بالمنطق، فإذا فشل: آه اقتلوه، فهذا النوع من البشرية هي هي، وإياك أن تفهم أننا في القرن العشرين، والله إن الأخلاق والأفكار والسياسة التي منذ سبعة آلاف سنة هي الموجودة الآن، فما تغير الآدمي، فالبشر ما تغيروا، وما صار هناك مخ جديد أو عقل آخر.إذاً: إبراهيم الخليل وقف هذا الموقف فألقوا القبض عليه وسلسلوه وغللوه ودعوه وتركوه في السجن أكثر من أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب ويؤججون النار، وهذا الأسلوب معروف من أجل إرهاب الشعب حتى لا يقلد إبراهيم أو يمشي وراءه أو يرحمه، انتبه.وبلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الوزغ الملعونة كانت والله تنفخ في النار لتتقد وتشتعل، فهي تكره التوحيد والموحدين.وكانت المرأة تنذر النذر للآلهة بحزمة حطب إذا نجح ولدها أو حصل له كذا حتى تساعد على إشعال النار، فأججوها كذا يوماً وأصبح الطير لا يستطيع أن يطير فوقها للهبها؛ وكل ذلك من باب الإرهاب والتخويف لعل إبراهيم يتراجع، فأبى.لكن كيف يلقون إبراهيم في هذا الجحيم؟ ومن يقوى على الوصول إليه؟فما كان منهم إلا أن وضعوه في منجنيق، ورموا به بالآلة؛ لأنهم ما يستطيعون أن يصلوا إلى النار.واسمع كأنك حاضر تشاهد كلام الرب؛ رب العالمين، فيبينه رسول رب العالمين، فلما وضعوه في المنجنيق أو في العقال ورموه وفي الطريق قبل أن يصل وصلت برقية عاجلة، فقد اتصل به جبريل عليه السلام وقال: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ وبالمصري: عاوز خدمة يا إبراهيم؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. يكفيني الله، ما أنا في حاجة إلى غيره، ونعم وكيلي هو الله.وهذه الكلمة أول من قالها إبراهيم، وقالها الطيبون الطاهرون، من صفوة هذه الأمة، من الأنصار والمهاجرين قالوها هنا، في هذا البلد، فإنهم لما عادوا من أحد وكانت هزيمة مُرَّة، فقد سقط فيها سبعون قتيلاً، واستشهد حمزة ، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، ولصق المغفر برأسه، وسببها لا أقول ذنب، بل ذنيب، وهو بالنسبة إلى ذنوبنا ليس بشيء، ولا واحد إلى مليون، وهذا الذنب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رماة! الزموا الجبل، ولا تهبطوا، وإن رأيتم ما رأيتم. فلما أن شاهدوا الهزيمة تمت للمشركين وفر نساؤهم ورجالهم، واندفع المسلمون يجمعون الغنائم هبطوا من على الجبل، فرآهم خالد قائد القوات الكافرة يومئذ -وهو آية من آيات الله في قيادة الحروب- فاحتل الجبل وصب البلاء على المسلمين، وكانت هزيمة، وانتهت المعركة، فما عادوا إلى المدينة إلا جرحى، دماؤهم، ودموعهم، وآلامهم تسيل، ومن يضحك، ومن يأكل والرسول جريح؟وفجأة جاء خبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان عزم على أن يعود إليهم ليصفي حسابهم، وينهي وجودهم بالمرة، وقد عسكر على نحو ثلاثين كيلو متر خارج المدينة. فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلن التعبئة والخروج وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، واقرءوا ذلك في قوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:171-173] فقال الرسول: ( قالها من قبل إبراهيم ).أيها المسلمون! يا أبطال الدنيا! تريدون أن تنتصروا على إسرائيل؟ كم ذنباً عندنا؟إن أصحاب رسول الله كان معهم ذنب واحد .. مخالفة واحدة، ونحن خالفنا الله، ورسوله، وشرع الله، وما أبقينا شيئاً إلا وعكسناه، ونريد في الأخير أن ننتصر؟! كيف يمكن هذا؟ نغالط أنفسنا، هذه فكرة عابرة فقط.والشاهد: في البرقية أن جبريل اتصل بإبراهيم باللاسلكي: ( هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ) ويصدر أمر الله إلى النار المتأججة: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] وهذه آية من سورة الأنبياء، ولولا أنه ألحق الأمر بكلمة (سلاماً) لتحولت تلك النار إلى كتلة من الثلج، ومات إبراهيم من شدة البرد، لكن لما قال: وَسَلامًا والله ما أتت النار إلا على رجليه ويديه، ولم تمس النار جسمه.وقد ذكرت لكم كرامة أخرى: أن أحد الصالحين الربانيين داهمه الدرك الفرنسي وهو على كرسي الدرس، وأدخل يديه في الحديد، وأخذ يضغط عليه، فقال الشيخ رحمة الله عليه: لقد وسعه الله، ولن تستطيع أن تضيقه، ويحلف ما مس يده.فهذا ولي من أولياء الله، وعالم رباني، وخريج هذا المسجد، قد تربى وتنشأ في هذا المكان الطاهر، وما عرف قومه وأهله حقه ولا قيمته، كصالح في ثمود.إذاً: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70] خسروا ونزلوا. وهذا الموقف امتحن فيه إبراهيم فنجح، وأتم الأمر كما أراد الله.

ابتلاء إبراهيم بالهجرة

هنا أمر آخر: إلى أين يذهب إبراهيم؟ فلا مواصلات ولا ولا ولا، ولا عرف البلاد، إلى أين يذهب؟وكانت أول هجرة عرفتها البشرية، فأول من هاجر في سبيل الله إبراهيم بشهادة أبي القاسم الحفيد الكريم، فأول هجرة كانت لله في العالم هجرة إبراهيم، وهاجر من أرض بابل في العراق ومعه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه، ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام فقط، فترك الأهل، والمال، والآباء والإخوان، والدنيا وخرج، لا يملك شيئاً. وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] وهذه كلمة من الكلمات، أو الهجرة لا تعدونها شيئاً؟المهاجرون الأولون أثنى الله تعالى عليهم، فيخرج الرجل ويترك أهله، وماله، ومعارفه، ويخرج لا يملك شيئاً، إلى أين يذهب؟ كيف يعيش وهو لا يعرف أحداً؟ ولكن لوجه الله .. طلباً لمرضاة الله .. فراراً بدينه، حتى لا يعبد غير الله.وعندما تقدم المسلمون نحو جنوب أوروبا حصلت معركة فاستشهد فيها من استشهد، فجيء بهم إلى مدينة دخلت في الإسلام على ساحل البحر، فخرج أهل البلاد مع المجاهد، ولم يخرج مع المهاجر إلا عدد قليل في الجنازة، فقام أحد المؤمنين وقال: أما أنا فو الله! لا أبالي أن أقبر في قبر مجاهد أو قبر مهاجر، إذ لا فرق بين المهاجر والمجاهد، وقرأ هذه الآية من سورة الحج: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58] أي: في الجنة، فما هناك فرق بين المهاجر والمجاهد.فقوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [الحج:58] قتلوا مجاهدين أو ماتوا على فرشهم كما مات هذا، ثم قال: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] فليرزقنهم وليدخلنهم الجنة.فالهجرة ليست لأن العيش ضاق، وما وجدنا شغلاً، الهجرة في الله هي أنك تحرم من أن تعبد الله، فأنت خلقت لهذه العبادة، فإذا عرض عارِض ومنعك أن تعبد الله فيجب أن تهاجر، ولتترك كل شيء؛ لأنك لم تخلق إلا لأن تعبد الله، فإذا منع مانع من العبادة وجبت الهجرة، وقد هاجر أصحاب الرسول من مكة، وتركوا أهليهم وذريتهم وأولادهم، وخرجوا بأيديهم ونزلوا على أهل المدينة، فآووهم ونصروهم، واقرءوا القرآن، فالهجرة لها شأنها لو كنا نفقه ذلك.واسمع يا عبد الله! واسمعي يا أمة الله! لو نزلت في عمارة ووجدت نفسك لا تستطيع أن تستقيم في هذا المنزل، وقد تصاب بارتكاب معصية فيجب أن تهاجر.وإن نزلت منزلاً وعرفت أنك ستنظر بعينيك إلى ما لا يحل لك، وأنك ستسمع ما لا يجوز لك أن تسمعه، وأنك سترتكب معصية من المعاصي، وما هناك سبيل إلا أن تغشى هذا الذنب فيجب أن تهاجر من هذا المنزل إلى آخر.وجدت نفسك في بلد لا تستطيع أن تقيم به دهراً، أياماً أو ليالي إلا وقد تركت واجبات أو فعلت محرمات، فيجب أن تهاجر إلى بلد آخر، ولو خمسين كيلو، وليس بشرط أن يكون إقليماً آخر أو من بلد إلى بلد، أما هاجروا من مكة إلى المدينة؟ هما بلد واحد، ولا تقل الهجرة: الانتقال من بلد إلى بلد أو من دولة إلى دولة أو من إقليم إلى إقليم. فالهجرة أن تترك مكاناً وجدت نفسك لا تعبد الله فيه، ولا تستطيع أن تقيم على منهجه، فارحل.وهذه الهجرة -كما علمتم- كالجهاد، فلا فرق بين المهاجر والجهاد: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59].والسر هل خلقنا لأن نأكل ونشرب وننكح؟! لا، إنما خلقنا لأن نعبد الله، فإذا منعت من عبادة الله يجوز أن تبقى في ذلك المكان؟والعلة التي خلقت من أجلها تعطلت فيجب أن تهاجر.إذاً: إبراهيم هاجر مع سارة ومع لوط من أرض العراق إلى أرض الشام. فهذه كلمة ابتلاه الله بها وهي أعظم ابتلاء.

ابتلاء إبراهيم بأمره بذبح ابنه إسماعيل

يأتي ابتلاء آخر، وهذا الابتلاء جاء بحكم رقة قلب إبراهيم، وفيضان رحمته على حواسه ومشاعره وأحاسيسه، فيبتليه الله تعالى بأن يذبح ولده، وأي امتحان أعظم من هذا؟ فلو كان قاسي القلب، شريراً من أهل الشر لذبح أمه وأخاه ولا يبالي، ما هناك شيء أن يذبح طفلاً ويرفسه، لكن قلب إبراهيم المفعم بالرحمة، يوحي إليه تعالى امتحاناً له أن اذبح ولدك، وفعلاً يقول لـهاجر: أعديه، وطيبيه، وطهريه، ونظفيه ويخرج به من حجره ملاصقاً للبيت إلى منى ليريق دمه هناك: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فقال الغلام: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] افعل ما تؤمر يا أبتاه، وخرج به، وتله للجبين على الأرض، والمدية في يده، ووضعها، فلم تقطع، ووقف الحديد، وبطلت سنة الله، وهذه آية من آيات الله، فناداه مناد: أن اترك هذا وخذ هذا يا إبراهيم وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] وهذه أصعب من الأولى.

ابتلاء إبراهيم وابنه إسماعيل بأمرهما ببناء البيت

وأخرى: لما أخذ إسماعيل يقوى على العمل في الثامنة أو التاسعة من عمره أمره الله أن يبني له بيتاً.وكيف أن الدولة تكلف فرداً يبني بيتاً؟ فأين الأموال، وأين الرجال، وأين وأين؟وأيضاً في صحراء، وفي وادٍ خال: ابن لنا بيتاً.فينهض إبراهيم، والله كأنكم تشاهدونه وهو يضع اللبن، حجرة فوق الأخرى، وهو يتقاول مع ولده: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] فهما يتقاولان هذا الكلام وهما يبنيان البيت، فإبراهيم يأخذ الحجر من إسماعيل ويبني.

معنى قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما)

هنا لم يبق إلا الجائزة العظمى، فقد نجح إبراهيم، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] لما نجح أعطاه جائزة لم تحلم الدنيا بمثلها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا أي: قدوة يقتدي بك الأبيض والأسود طول الحياة.ثم قال تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فما نعطيك عهداً مطلقاً، فيأتي من أولادك المشرك، والكافر والظالم، والفاسق، ويصبحون -إذاً- أئمة، لا، قال: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. قالت العلماء: من هذه الآية أخذ ما يعرف بولاية العهد.وغداً إن شاء الله نواصل الحديث. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:13 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (83)
الحلقة (90)




تفسير سورة البقرة (52)


قال بعض السلف: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فهذان هما ركنا الإمامة، وقد حصلا لنبي الله إبراهيم، حيث صبر على معاداة قومه له، وصبر على طاعة ربه، وصبر على الابتلاءات التي ابتلاه الله بها، وكان في كل تلك الحالات موقناً بصدق وعد الله، فكان حقاً إماماً، وكان حقاً من أولي العزم.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

القرآن الكريم هو كلام الله المعجز

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات تشهد شهادة الحق أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إذ هذه كلمات الله عز وجل.أيوجد كلام بدون متكلم؟ لا، مستحيل.هل هناك من ادعى أن هذه الكلمات من كلامه؟ لا أحد.والبشرية كلها طأطأت رأسها لهذا الكلام الإلهي، الحاوي للعلوم والمعارف التي تعجز البشرية عن محاكاتها، فضلاً عن الإتيان بمثلها.وهذا الكلام الإلهي على من نزل؟الذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، وآي القرآن ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، ومن هنا كل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم رجل أمِّي؛ لم يقرأ ولم يكتب، حتى بلغ أربعين سنة من عمره، فأوحى الله إليه هذا الكتاب، وتم وحيه في خلال ثلاث وعشرين سنة.

تحدي الله للإنس والجن بالإتيان بمثل القرآن

هذا الكتاب العظيم اذكروا أن الله تعالى قد تحدى به الإنس والجن، وطلب إليهم أن يتظاهروا، ويتعاونوا على أن يأتوا بمثله، فعجزوا، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] والزمان يمضي والقرون تتوالى فما استطاعت البشرية مستعينة بالجن على أن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب.وتحدى الجبار جل جلاله وعظم سلطانه العرب، وهم أهل هذا اللسان، وبلسانهم نزل هذا القرآن، فقال لهم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] سورة فقط، وتحداهم بعشر فعجزوا.وآخر ما نزل في هذا الشأن بالمدينة النبوية في هذه السورة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] قالت العلماء .. قال البصراء .. قال أرباب هذا الدين وأهله: هذه الجملة (ولن تفعلوا) يستحيل أن تكون من غير كلام الله.يا معشر العقلاء والبصراء والمفكرين! لم؟قالوا: كلمة: وَلَنْ تَفْعَلُوا لن يقولها إلا الله، إذ ليس هناك من يملك السيطرة على القلوب والعقول البشرية اليوم بعد اليوم، والعام بعد الآخر، والقرن بعد القرن حتى يقول: ولن تفعلوا، ولن يكون هذا إلا الله.سبحان الله! هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا تصرخ بأعلى صوتها أن هذا من كلام الله، ويستحيل أن يكون من كلام غيره.والأمثلة القريبة التي نوردها أحياناً: هل تستطيع دولة صناعية كاليابان في هذه الأيام أن تنتج آلة من الآلات وتقول: أتحدى البشرية لمدة سبعين سنة إن استطاعت أن تنتج مثل هذه؟ وهل تستطيع أمريكا وقد سيطرت على مصانع القدرة الصناعية أن تنتج أي نتاج وتقول: أتحدى العالم لمدة ثمانين سنة أو مائة سنة أن ينتجوا مثل هذا المصل أو مثل هذه القطعة من الحديد؟ أيكون هذا؟ لن يكون.إذاً القائل: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] لن يكون إلا الله.وهل فعل العرب فأتوا بسورة من رجل أمِّي مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ومضى القرن الأول والثاني والثالث والعاشر وأيسوا، فمستحيل أن يأتوا بمثل هذه السورة؛ لأن القلوب بين يديه يقلبهم في ليلة واحدة، ويصبحون وهم مجانين، وهل يقدرون على أن يحفظوا عقولهم؟ فليحفظوا أرواحهم إذا أراد إماتتهم. آمنا بالله، آمنا بالله.وهذه كلمة عظيمة سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على كرسي التدريس أو على منبر الخطابة يحدثهم ويقول: ( آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله ) لم؟قال: ( كان في من كان قبلنا رجل يركب على بقرة، فرفعت البقرة إليه رأسها ملتفتة إليه: ما لهذا خلقت ) أي: ما خلقني الله لتركبني، إنما خلقني للسني والحراثة، وخلق الخيل، والبغال، والحمير للركوب، فلم تخرج عن الفطرة؟! ( فيمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بلحيته ويقول: آمنت به، وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهما غائبان.فهذه الثقة في هذين الشيخين الجليلين: أبي بكر وعمر ، وقد كانا غائبين في المجلس وقال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهذا من الغيب الذي لا يقبله إلا من شرح الله صدره ووسعه وأناره، وكيف تصدقني إذا قلت لك: إن بقرة قالت: ( ما لهذا خلقت ) بلسان عربي وأفهمتني؟ من يصدق؟ ولكن لما كان غيباً بادر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان عن الإيمان به وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به ).

معنى (ربّ)

قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أتدرون ما معنى ربه؟إنه سيده .. مولاه .. خالقه .. مالك أمره .. إلهه الحق، ومعبوده بصدق.وما ألطف هذه الإضافة، وما أحسنها، وما أجملها! ناداه ربه، فابتلاه .. امتحنه .. اختبره، من؟ إنه ربه.والحمد لله رب العالمين. هل تفرحون بأن لكم رباً خلقكم .. رزقكم .. وهبكم عقولكم وأسماعكم وأبصاركم، وخلق كل شيء من أجلكم.آمنتم بالله؟ الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.وخلق كل شيء في العالم العلوي والسفلي من أجلكم.واسمعوا هذا الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي ).ولو عرفت البشرية التائهة في أودية الضلال هذه الجملة فقط: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ).وإن قلت: هذا الحديث قد لا يصح، فاسمع الله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] من هذه السورة المباركة الميمونة، فخلق لكم يا بني آدم ما في الأرض جميعاً، ومن سورة أخرى يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].إذاً: عرفتم قدر هذا الإنسان وقيمته متى ما عرف ربه، وأناب إليه، وأقبل عليه، فصفي، وطاب، وطهر، وأصبح يسامي أهل الملكوت الأعلى في طهارة روحه، وصفاء نفسه، وزكاتها.فهذا الآدمي الذي هو أكرم المخلوقات على الله، إذا كفر الله، وجحده، وغطاه، وتنكر لإنعامه وإفضاله وإحسانه إليه، وعبد فرجه أو شهوته أو عبد هواه سواء تمثل في حجر أو صنم أو إنسان، أتدري كيف تهبط قيمته حتى يصبح شر الخلق على الإطلاق؟ واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6] وقد اشتملت الآية على أصناف البشرية باستثناء أهل الإيمان وصالحي الأعمال إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة [البينة:6] والبريئة بمعنى الخليقة، وبريئة بمعنى مبروءة، والله هو البارئ الخالق المصور، ومن قرأ البرية فقد حول الهمزة إلى ياء وأدغمها في أختها، فقال: برية.فمن شر الخليقة على الإطلاق؟ الكفار.وما مصيرهم؟ الخلود في النار.وأين النار؟ تسألني أين النار! وهذا الجزء الذي تتعاطاه مع إخوانك، وتوقده، وتنتفع به، أأنت خلقته؟ آباؤك وأجدادك هم الذين خلقوه؟!إذاً: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك.الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فلولاكم أيها المستمعون ما كانت شمس ولا قمر، ولا كان حر ولا برد، ولا كان عنب ولا تمر، ولا كان ولا كان، إي نعم، بله ما كانت جنة، ولا كانت نار من أجلكم يا بني آدم.

سر الحياة في خلق الإنس والجن

السؤال الذي يطرح الآن: ونحن من أجل من خلقنا؟علة الوجود وسر الحياة أنه خلقه لنا، لكن نحن لم خلقنا؟ لنرقص .. لنلهو .. لنلعب .. لنفرفش ونفرح؟ لم؟الجواب: يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) ماذا يبغي الله منا؟ ماذا يريد منا؟يا معشر المستمعين! من يحمل هذه الأمانة؟ من يستطيع أن يرفع رأسه في وسط العالم بأسره؟لن يستطيع ذو عقل بشري أن يرد هذا أو ينقضه بأي واسطة إلا بالمكابرة والعناد.أتدري لماذا خلق الله كل شيء.. كل العوالم؟ من أجلنا.المطلب هو: أن الله تعالى أراد أن يذكر ويشكر، فأعد هذه الفنادق والنزل وهيأها، سماواتها وأرضونها، وأوجد كل شيء، ثم أتى بابن آدم ليعيش، ليحيا هنا من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره.وفكروا! أراد الله تعالى أن يذكر ويشكر، فأوجد الكون كله، وأوجد من يقوى على الذكر والشكر، وأنزل الكتاب، وبعث الرسل من أجل أن يذكر في هذا الكون ويشكر، فمن أعرض عن ذكر الله وتخلى عن شكره أصبح شر الخلق على الإطلاق.وتأملوا! كثيراً ما يخطر ببال أحدنا ويقول: قد يعيش الإنسان ألف سنة إلى ألف ومائتي سنة ثم يعذب بليارات السنين، فيلقى في عالم لا ينتهي عذابه أبداً، فكيف هذا؟ والجواب: هذا العبد الذي لم يذكر الله ولم يشكره، فعصاه وتمرد عليه، وخرج عن طاعته، وفسق عن أمره، هذا ليس معناه أن ذنبه أنه ما ذكر الله ولا شكر فقط، هذا جريمته أنه نسف الجنة؛ دار السلام، وحولها إلى بخار، ونسف النار وعالم الشقاء ودمره، وحوله إلى سديم، ومسخ الأرض وحولها، وأفسد الكون كله.وهذا الفعل لو فعله إنسان كم تحكمون عليه من سنة بتعذيبه؟ أجيبوا.هذا ما أحرق قرية، ولا دمر إقليماً، ولا أفسد سماء من السماوات، بل هذه العوالم كلها نسفها، إذ هذه العوالم كلها خلقت من أجله، من أجل أن يَذكر ويَشكر، فلما كفر وترك الذكر والشكر كانت جريمته أنه أفسد الكون كله.لكن يا قضاة! احكموا عليه بالسجن .. بالعذاب، كم؟ لا يمكن مليارات السنين.هل عرفتم معنى الخلود في عذاب الشقاء للكافر أو لا؟وهو ما قتل إنساناً أو أهل قرية أو دمر إقليماً أو أفسد الأرض، لكن خرب العوالم كلها، إذ العوالم كلها خلقت من أجله هو؛ ليذكر الله ويشكره، فلما كفر الله وترك ذكره وشكره بكم تعذبونه من قرن؟وهذا معنى الخلود عندما تقرءون: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .لكن هل نحن من الذاكرين الشاكرين؟أتدرون كيف كان يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرفوا معنى الذكر، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلسة الواحدة، نعد له قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، في الجلسة الواحدة مائة مرة ) من ساعة أن يستيقظ من فراشه ونومه وهو يذكر الله إلى أن يعود إلى فراشه فيضع جنبه الأيمن على الأرض، كله ذكر.وهذا هو معنى الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فإذا قام .. إذا قعد .. إذا مشى .. إذا ركب .. إذا أعطى .. إذا أخذ .. إذا قرأ .. إذا علم، فكل ساعاته مملوءة بالذكر.أما اللهو، والباطل، والفراغ فهذا يتنافى مع سر الوجود، وعلة هذه الحياة، إنها الذكر والشكر.وقد عرفتم أن إبراهيم وفّى ونجح: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].



يتبع

ابوالوليد المسلم 09-09-2020 06:13 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
بعض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله

هيا معنا نستعرض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله.اسمعوا هذا الخبر العظيم الجليل، فالمخبر هو الله، والخبر مدون ومسجل في كتابه، وشاهدوا أنفسكم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] تأكد يا عبد الله! تأكديِ يا أمة الله! أتمت هذه البيعة؟ أتمت هذه الصفقة أو لا؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] بقي وراء نفسك ومالك شيء؟ ما بقي شيء.قال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] هذا هو الثمن، والبضاعة هي النفس والمال، والبائع أنت يا عبد الله، والمشتري هو الله، وما أعظم كرمه وأوفاه، يهبك حياتك ومالك ويشتريهما منك.وقد حدث هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما اشترى من جابر بن عبد الله بعيره لما كلّ وانحصر وما قدر على المشي، واشتراه منه في السفر، ثم اشترط جابر على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل به إلى المدينة. وعاد الجمل كما كان آية من آيات النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى المدينة قال: أعطنا البعير، فهذا بعيرنا. فوهبه البعير والثمن، والله عز وجل هكذا عاملنا، أعطانا أموالنا وأنفسنا واشتراها منا، وبأي ثمن؟ اسمع يا عبد الله! بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] ثلاثة سجلات .. فدُوِّنت هذه الصفقة في ثلاثة كتب إلهية: التوراة والإنجيل والقرآن.ثم قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أيوجد؟ لا والله. إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].من هؤلاء الرابحون، أصحاب الصفقة العظيمة؟اسمع الآن -وهو محل الشاهد- لننظر هل نحن بينهم؟ هل نحن منهم؟ هل نحن معهم؟ ومتى نصل إليهم؟اسمع: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] هذه مما وفاه إبراهيم لله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، وهل نحن وفينا؟الحمد لله، وبشراكم أيها المؤمنون، هذه ثمان صفات.ولعل بعض السامعين والسامعات يقولون: ما السياحة؟ إلى أين؟ إلى هولندا .. إلى كندا؟!السياحة هي هنا: الصيام، فسياحة الروح البشرية للصائم، لما يترفع عن الشهوة واللذة من الطعام والشراب والجماع، فتسيح روحه في عالم الطهر والصفاء.معاشر المستمعين والمستمعات هل نحن معهم؟فإن قيل: يا شيخ! نحن ما نأمر بمعروف، ولا ننهى عن منكر.أقول: لم؟ أما عندك امرأتك وأولادك فتأمر بينهم بالمعروف وتنهى عن المنكر.أما عندك أصدقاؤك وأقاربك يحترمونك وتحترمهم، فإن رأيتهم تركوا معروفاً فامرهم حتى يفعلوه، وإن رأيتهم فعلوا منكراً فانههم حتى ينتهوا ويتركوه، وليس شرطاً أن تكون موظفاً حكومياً، وليس شرطاً أن تأمر عامة الناس وتنهاهم لقصورك عن ذلك، ولكن لو كان المجتمع ربانياً من هذا النوع لأمرت ونهيت في أي مكان وجدت من شعب آمن بالله ولقائه، ولكن إذا حصل الذي حصل فعلى الأقل تؤدي هذا الواجب، وتثبت أنك من الوارثين لدار السلام، فأمر بالمعروف في بيتك والمحيط الذي تعيش فيه، وتقدر فيه على أن تأمر وتنهى.وأنت تستطيع أن تأمر وتنهى في دار الكفر فضلاً عن دار الإيمان؛ لأنك عندما تبتسم وتقول: يا مسيو! يا سيد! هذا لا ينبغي لك وأنت من أنت في كمالك وبشريتك، فإنه لا يغضب.وأنت تستطيع أن تقول: يا سيد! أنا أحبك .. أنا أخوك، لو تفعل كذا لكان خيراً لك، فلا يغضب؛ لأن الكلمة الطيبة ينفتح لها الصدر، وتقبلها الجوارح.أما قوله تعالى: التَّائِبُونَ [التوبة:112] فيا من يزاولون المعصية الكبيرة توبوا، ومن الآن بالعزم والنية والتصميم.إذاً: قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] وإبراهيم قد وفى في هذه.وموقف آخر: اسمع قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] من هم؟ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:2-10] الوارثون للدينار والدرهم! لا إنهم الوارثون للجنة دار السلام أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] وقد وفى إبراهيم في هذه، فهل وفينا؟ قولوا: إن شاء الله وفينا ونوفي.وموقف آخر: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].كيف أنتم أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات؟ حتى المؤمنات ذكرن هنا؛ لأن المطلوب أن يوفين لله كما وفى إبراهيم.وآخر عرض وكل هذا نسب إلى إبراهيم حتى قيل فيه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37].قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا [المعارج:19-22] هذا النوع الجديد إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:22-35].كيف حالكم معاشر المستمعين والمستمعات؟ أنتم هم؟

كيفية الوصول إلى الإمامة في الدين

وهنا سؤال: هل تريدون الإمامة؟ هل أعطيكم صكاً بالإمامة؟ هل تريدون أن تكونوا أئمة؟أما سمعتم عباد الرحمن وهم يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]؟ أي: يقتدون بنا، ويأتسون بحالنا، ويمشون وراءنا، ونقودهم إلى ساحات العز، والكمال، والسيادة، وبلوغ الآمال.أتريدون أن تكونوا أئمة؟اسمعوا الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] أي: قادة يقتدى بهم، ويمشى وراءهم، وهم يقودون، لم؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلذا يقول بعض الحكماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.فإن قيل: ما الصبر يا شيخ؟ كيف نصبر؟أقول: الصبر حبس النفس وهي تصرخ كارهة غير راضية في ثلاثة مواطن، فلا يسمح لها أن تهرب .. أن تشرد .. أن تفر وتتخلى عن موقفها:الموطن الأول: أن تحبسها على ما أوجب الله، وما فرض الله من الطاعات والعبادات، فلا تسمح لها أن تتخلى عن كلمة مما فرض الله أن تقوله، أو عن التفاتة مما أمر الله تعالى أن تلتفت، فاحبسها وهي كارهة على طاعة الله. هذا موطن.الموطن الثاني: أن تحبسها دون معصية الله، فلا تسمح لها أن تنطلق فتفجر أو تفسق أو ترتكب ما يغضب الله مما نهى عنه وحرمه أبداً وطول العمر، فهو صبر متوالي، وأنت حابس لها، وغاصب لها حتى لا تتجاوز ما حد الله، وما أذن الله فيه.الموطن الثالث: أن تصبر على ما تجري به الأقضية والأقدار، إذ قد تمتحن من قبل سيدك ليظهر باطنك، وينصع طيبك، ثم تنتقل إلى درجة الإمامة.إذاً: صبر على ما تجري به الأقدار الإلهية فقد تمرض .. تجوع .. تضرب .. تسجن .. تبتلى، لكنك مع الله، فلم يتغير فيك شيء عن الله، فلسانك ذاكر، وقلبك شاكر، وبعد فترة من الزمن ينزل القبول من السماء.فهذه هي مواطن الصبر مع اليقين، فلا تتردد، ولا تشك، ولا يخطر ببالك سوء، فأنت عبد الله ووليه، وبعدها تتخرج إماماً يقتدى بك ويؤتسى بك بين الناس.

إبراهيم إماماً للبشرية

وإبراهيم عليه السلام قد ظفر بهذا المقام، بسبب الابتلاء وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ من ابتلاه؟ رَبُّهُ [البقرة:124] فامتحنه واختبره، فلما فاز نزل من عند الله صك القبول: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فكان -والله- إماماً للبشرية، فما اكتحلت عين الوجود بمثلك يا إبراهيم.وإبراهيم قد وفى في هذا كله لله، وأعظم من ذلك موقفه الصلب الثابت القوي في تلك الأمة المشركة التي تعبد غير الله، وتؤله سوى الله، وهو وحده يعلنها مدوية: لا إله إلا الله.ولو نستعرض مواقفه في القرآن، فاقرءوا قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:52-57] ونفذ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] ومن يقف هذا الموقف؟فهو كأنما وقف في بهو موسكو أيام الشيوعية، وهم مجتمعون يدبرون لتحطيم العالم، وتخريب الدنيا، وتخريب البشرية، فقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.أو وقف في عاصمة الصليبية: الفاتيكان، وفي قاعة الفاتيكان وقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.وهل يستطيع البشر لو اجتمعوا أن ينقضوا هذه الجملة بالمنطق والعقل؟ والله ما استطاعوا، ولن يستطيعوا أبداً.يستطيعون أن يقولوا: لا إله بالمرة؟ هذه أضحوكة وسخرية.من يقول: لا إله وهو مخلوق أو لا؟فإن قال: أنا غير مخلوق .. غير موجود. قلنا: هذا مجنون أخرجوه، ما أنت بمخلوق ولا موجود، فمع من نتكلم.فإن قال: نعم مخلوق، موجود. قلنا له: من أوجدك؟ من خلقك؟فإن قالوا: الطبيعة. قلنا: هذه هي اللعبة الأخيرة، فهل الطبيعة ذات إرادة .. ذات علم .. ذات قدرة، إنها تفاعلات كيماوية، هل هي التي خلقت الكون؟ وانفضحوا.قالوا: إذا لم نقل الطبيعة وقلنا: الله، قلتم: صلوا، ونحن لا نريد هذا. فانفضحوا في آخر ساعة.إذاً: لا إله إلا الله فقط.وإذا قال الفاتيكان: الآلهة ثلاثة، فهذه سخرية أكبر من الأولى.فلم ما تحاربوا وتنازعوا إلى هذا الوقت؟ فهم ثلاثة سلاطين في الكون، أما يحدث بينهم خلاف؟! قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] وهذا ليس في عام، ولا قرن، ولا ألف سنة، بل آلاف السنين فلو كان الآلهة ثلاثة لتحاربوا، وانتهت الهزيمة بمن ليس بإله، وثبت الحق للإله الأعظم الله لا إله إلا هو.ثم ما هذه الآلهة؟قالوا: عيسى، أمه، الأقنوم الأول، ابنه، الروح القدس. وهذه شعوذة، وخرافات، وأباطيل حافظ عليها رجال الكنيسة ليستعبدوا البهائم، ويقودوا البشرية إلى أهوائهم وشهواتهم.ولا إله إلا الله لا تنقض أبداً على مدى الحياة، إذ لا يوجد إله مع الله قط، ولا يقال: لا إله كما قال الشيوعيون، وانتهت فتنتهم وهبطوا إلى الحضيض. وقد دامت الشيوعية خمساً وسبعين سنة فقط، وقد بينا من عشرات السنين أنها لعبة يهودية حتى يخففوا ضغط النصارى عليهم، فأوجدوا فتنة الإلحاد في ديارهم فخف الضغط على اليهود، بل واستفادوا وسادوا، وبالفعل تم الصلح بين الفاتيكان واليهود، واعترف النصارى باليهود. يا جماعة! القرآن من ألف وأربعمائة سنة يقول: إن اليهود ما قتلوا عيسى أبداً، ولا صلبوه، وأنتم النصارى كالبهائم، ألف وأربعمائة سنة تقولون: اليهود قتلوا عيسى؟ أيقتلون الله؟! كيف هذا الإله الذي يقتل ويصلب؟لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والقرآن يصرخ بأعلى صوته: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] ومنذ خمس عشرة سنة قال بولس الثامن : اليهود برآء من دم السيد المسيح، إيه، الآن أفقتم فقط، وهذا هو السحر اليهودي.ونحن نأسف أنه انتقل أيضاً إلينا، وحطمنا، وفرقنا، ومزقنا، وما صحونا بعد.وسنصحو في اليوم الذي نجتمع اجتماعنا هذا في صدق على كتاب الله، وهدي رسول الله، في كل قرية، وفي كل مكان، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فأهل البلد أجمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت ربهم، وذلك كل ليلة، وطول العمر، وطول الحياة، ويومها حقاً نصحو ونفيق، ونعرف الحياة على حقيقتها؛ لأننا أصبحنا مبصرين؛ نسمع ونعي.فإن قيل: يا شيخ! لم تقول هذا الكلام؟أقول: والله الذي لا إله غيره لا ترتفع لنا راية حق، ولا يسمع لنا صوت، ولا نري الكون والحياة إلا إذا عدنا إلى كتاب الله وسنة الرسول، ومستحيل أن نرتفع على وجه الأرض بدون هذا النور الإلهي.

ابتلاء إبراهيم بالختان

وأخيراً مما فادى به إبراهيم: الختان، فلما بلغ إبراهيم من العمر ثمانين سنة قال له الله: اختتن يا إبراهيم.لكن كيف يعمل؟ أين الأطباء، وأين الإسعاف؟ وكيف يقطع غلفة ذكره؟ كيف وعمره ثمانون سنة؟الجواب: بواسطة القدوم، فوضع غلفة ذكره على حجر وضرب.من يقوى على هذا؟هذا الامتحان فاز به إبراهيم. فهو أول من اختتن في الأرض، وأولاده هم المختتنون، ونحن والحمد لله منهم، وإن كان اليهود يختتنون لكن لا تنفع عبادة بعد ما أضاعوا ألف عبادة، لكن نعترف أنهم يختتنون، ونحن أمة الختان.وممن ولد مختوناً نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع من الأنبياء قد مضوا وما لنا بهم تاريخ، لكن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم والله لقد ولد مختوناً.والختان واجب، ومن أهمله وأضاعه فهذا معناه أنه هدم الدين.والختان يبتدئ من يوم السابع، فيختن للذكر بقطع تلك الغلفة، ويذبح له شاتان، وإذا كان المولود أنثى فتذبح لها شاة واحدة، وهذه هي العقيقة، وهي شكر الله على الولد، فمن رزق ولداً ذكراً يوم سبعة من ميلاده يذبح عنه شاتين، ويحلق شعر رأسه، ويجمع ويزنه في ميزان الصيدليات الدقيق، ويتصدق بوزنه ذهباً، وكل هذا شكراً لله أن أحيا منهما ولداً، فمن أنتما؟ لو اجتمعت الدنيا على أن يخلقوا ولداً ما قدروا عليه، ولا استطاعوا، وأنت وامرأتك تنتجان هذا الولد.إذاً: السنة في يوم السابع أن يحلق الرأس، ويوزن الشعر، وممكن يكون وزنه ربع جرام .. نصف جرام، والجرام سعره أربعين ريالاً اليوم، والشاة والشاتان إن أمكن، فإن لم يستطع لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.أما البنت فقط شاة واحدة، لم هذا؟ لأن الله يعلم ما في قلوبكم، كيف وهو خالقها، وخالق دقاتها، فهو يعرف أن ميلك إلى الذكر أولى فضاعف الشكر بذبح شاتين، والأنثى بذبح شاة واحدة.هل عرف المسلمون هذا؟ لا يعرفون، لم؟هل يجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله كل عام، طول الحياة هكذا، حتى يصبحوا علماء ربانيين رجالاً ونساءً؟ لا، كانوا لا يجتمعون على القرآن إلا لسماعه؛ لأنه ليلة الميت.وإخواننا يعرفون هذا، والله لا يجتمعون على القرآن ليدرسوه، ولكن فقط ليسمعوا ليلة الميت فقط، متنا وأماتونا.

معنى قوله تعالى: (قال ومن ذريتي ...)

قوله تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] هذه سياسية وأنتم لا تقبلون السياسة.فقد سأل إبراهيم ربه ولاية العهد، فقال: أنت إمام. قال: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة.ومن هذه الآية استنبط أهل العلم أن للحاكم الرباني المؤمن الصالح إذا خاف الوفاة أو الموت فعليه أن يوصي بمن هو أهل لحمل الأمانة، فيكون ولي عهده، يساعده وهو حي، وإذا مرض يقوم مقامه، وإذا مات تولى أمر المسلمين بعده، وهذا من باب الرعاية، والعناية، وحفظ العهد؛ لأنه لو مات وما ترك شيئاً فإنهم يتقاتلون في ظروف معينة، ومن الجائز في يوم من الأيام أنهم لا يقتتلون، لكن هذه الأمة تمر بها القرون والعصور والدهور ومن الممكن أنهم يقتتلون.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 15-09-2020 05:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (84)
الحلقة (91)




تفسير سورة البقرة (53)


بأمر من الله خرج إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة، وهناك حيث لا ماء، ولا زرع، ولا ضرع تركهما، تركهما في حفظ الله ورعايته، ومرّت السنون ويعود إلى مكة ليجد ابنه يافعاً، ويأتيه الأمر الإلهي ببناء البيت الحرام برفقة ابنه إسماعيل، فوفيا بالمهمة، وكان البيت الذي غدا مثاباً ومرجعاً للناس، يؤدون فيه صلواتهم، ويستيغيثون حوله بربهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] هذا خبر، وكأن الله تعالى يقول لرسوله: اذكر لهم إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً.وقد سبق أن عرفنا دعوى اليهود، والنصارى، والمشركين أنهم حنفاء، وأنهم أتباع إبراهيم، وإبراهيم مقدس عندهم مطهر، مبجل، مرجل، وكل طائفة تنتسب إليه، وتدعي أنها من أتباع إبراهيم، وهم كاذبون، فأزاح الله الستار عنهم، وكشف عورتهم، وليس لهم بإبراهيم إلا النسبة الفارغة، وإبراهيم كان موحداً وهم مشركون، وما بقي بعد هذا شيء.فها هو تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة:125] أيُّ بيت هذا يرحمكم الله؟ إنه الكعبة المشرفة .. إنه البيت العتيق، فـ(أل) للعهد، فهو المبيت المعروف، إذ حج هذا البيت آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، ومن بعده من الأنبياء.وهذا البيت أول بيت بني في الأرض، وذلكم أن آدم عليه السلام لما نزل من سماء الكمال إلى الأرض استوحش، فقد كان في أنس، ثم أصبح غريباً في هذه الديار مع زوجه حواء، وقيل: إنهما تلاقيا في عرفة، وكل عرف الآخر، فبنى الله تعالى بواسطة ملائكته أو من شاء من خلقه هذا البيت، فكان آدم إذا استوحش يأتي إلى ربيت ربه يسأله حاجته، ويطلب من الله مراده، فكان ملاذاً، ونِعْمَ الملاذ لآدم وحواء ولذريتهما من بعدهما.وسبب كون إبراهيم عليه السلام بناه؛ لأن السيول والأودية هدمته، وبقي زمناً طويلاً وهو عبارة عن كوم من التراب، فهذا هو البيت.

معنى قوله تعالى: (مثابة للناس)

يقول تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي: اذكر يا رسولنا، والمبلغ عنا! إذ جعلنا البيت مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى مثابة؟المثابة: مصدر ثاب إليه يثوب إذا جاء ورجع إليه، والمثابة مصدر زيدت فيه التاء.ومعنى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أي: مرجعاً، يروحون ويعودون، فيذهبون ويجيئون الدهر كله. أي: للطواف به، ولسؤال ربهم حاجاتهم، فهم عبيده، وهذا بيت مولاهم، وإلى الآن إذا عظمت عليك مسألة ولم تجد لها حلاً فافزع إلى الله واغتسل، وتطهر، وتجرد، ولبِ وامشِ، وبين المقام والحجر اسأل الله، فلن تخيب.وقوله: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أولهم وآخرهم، أبيضهم وأسودهم، فليس للعرب ولا للعجم فقط، فلفظ الناس يعني لكل إنسان، فهذا بيت ربه.

معنى قوله تعالى: (وأمناً)

قال تعالى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] البيت هو الأمن .. الحرم هو الأمن، وهذه لا يقدر عليها إلا الله، فالرجل يمر بقاتل أبيه أو قاتل أخيه أو سالبه ماله وحياته، ويمر به في الحرم يطأطئ رأسه، ولا ينظر إليه.والذي غرز هذه الغريزة في قلوب الجهلة في الجاهلية هو الله!قال تعالى من سورة المائدة: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97] أي: معايشهم قائمة عليها، فالتجارة الفخمة العظيمة هي تجارة الحج، فيأتي العرب من أنحاء ديارهم يسوقون أموالهم وتجاراتهم، ويبيعون، ويشترون، ويتزوجون لمدة سنة، فيقطعون المسافات ولا يعترضهم أحد، ولا تشن عليهم غارة، ولا ينصب لهم كمين أبداً، وذلك في الأشهر الحرم: القعدة، والحجة، ومحرم، ثلاثة أشهر يوضع فيها السلاح، وشهر رجب وإن كان بعيداً لكن تدبير الله أن جعله في الوسط، فقد يحتاجون إلى رحلات في الشرق والغرب، فهذا الشهر -أيضاً- شهر الأمان، فاركب ناقتك، واحمل ذهبك، ولا يصدك صاد.قال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، فكانوا يهدون الإبل، والغنم، والأموال إلى الحرم .. إلى سكان بيت الله وحرمه .. إلى جيرة الكعبة، وقد سمعتم أن رجلاً واحداً كان ينحر كل موسم ألف بعير! وليس بصاحب بنك كأنتم، ولا صاحب مصانع، ولا بصاحب تجارة مع أوروبا، لا، إنما عبد جاهل هو الآن في النار، فيذبح ألف بعير للحجيج؛ نساء ورجالاً! ويكسو ويوزع كل سنة ألف حلة للفقراء والمساكين، والحلة: ثوبان من نوع واحد.وها هو عبد الله بن جدعان الذي انعقد في بيته حلف الفضول التاريخي الذي ما عرفت الدنيا نظيره، وشهده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، تقول عنه أم المؤمنين رضي الله عنها للرسول: ( أرأيت يا رسول الله عبد الله بن جدعان فقد كان يفعل ويفعل هل هو في الجنة؟ قال: لا، إنه في النار ) لم؟ ( لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) فما كان مؤمناً، بل كان كافراً لا يؤمن بالبعث والجزاء، ولا بالنبوة، والرسالة، والوحي الإلهي.إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! من القائل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]؟ الله.نسمع كلام الله؟ إي والله! هذا كلامه.الحمد لله! الحمد لله أن عرفنا ربنا، ونسمع كلامه، ونحن -والله- جالسون في بيته! وملايين البشر تائهون في أودية الضلال كالبهائم، لا بصيرة، ولا نور، ولا هداية، ولا معرفة، فهم أشبه بالحيوانات، والحيوانات أطهر منهم! فهم يعملون الليل والنهار من أجل -فقط- قضاء شهوة البطن والفرج.وأية نعمة أكبر من نعمة الإيمان؟! واقرءوا قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] هذه نزلت في عرفات.وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى الأمن؟ الأمن بكامله، فمن دخل الحرم أو دخل في الأشهر الحرم فهو آمن، وهذا كان في الجاهلية، حيث لا قانون، ولا شريعة، ولا نبي، ولا رسول! فلما جاء الإسلام، وساد الأرض، وظهرت أعلام العدل فيه كان المسلمون هم المسئولون عن تحقيق الأمن في ذلك البلد الآمن.نعم، الآن يوجد سراق، فيأتي حجاج لهذه المهمة، يسرقون، ويأخذون أموال الحجاج وهم يطوفون بالبيت! والله العظيم.فلم ما فعل الله بهم كما فعل بالأولين؟الجواب: لأن الأولين لا شرع لهم، ولا قانون، ولا رسالة، ولا دولة، ولا حكومة، فلا بد وأن يرحمهم، فيلقي في قلوبهم مخافة الله والهيبة من الله؛ حتى لا يعتدوا على حاج أو معتمر.

معنى قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

ثم قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه قراءة سبعية، وقرأ نافع بصيغة الماضي واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى .يقول عمر رضي الله عنه: ( وافقت ربي في ثلاث )، وزاد: وافق في خمس!ومما وافق فيه الله تعالى أو وافقه الله تعالى فيما قال، ونزل القرآن به، أنه الذي اقترح وقال: ( يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟! فنزلت هذه الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] )، والمصلى مكان للصلاة، وها نحن -والحمد لله- نصلي خلف المقام، فأيما طائف أو طائفة بالبيت إذا فرغ من الأشواط السبعة، ولا يكون الطواف إلا سبعة أشواط، فلا يصح ستة ولا ثمانية، ومن زاد أو نقص بطل مفعول هذه العبادة، ومعنى بطل مفعولها: لم تولد الطاقة المطلوبة، فهي تعب فقط؛ لأن العبادة إذا قننها الحكيم، واختل أداؤها بالزيادة، أو النقص، أو التقديم، أو التأخير؛ فإنها لا تولد الحسنات!وليس معنى لا تولد الحسنات أن الله لا يعطي حسنات، أو أن الملائكة لا يكتبون، إنما المعنى أن هذه العبادة توجد نوراً وطهراً في قلب العبد؛ فلهذا كم من مصل، وكم من صائم، وكم من متصدق، وكم من طالب علم، وكم من مجاهد، وكم من مرابط، وكم من ذاكر، وكم من راكع وساجد؛ يخرجون كما يقال: أصفار اليدين لا شيء!وإن قلت: كيف؟أقول: لأن هذه العبادات مقننة تقنيناً أعظم من تقنين الكيمياويات وتراكيبها، ومتى حصل فيها خلل فإنها لا تنتج أبداً.ولو عرف المسلمون هذا ما بقي مسلم لا يطلب العلم أبداً، نعم، وفي القرون الذهبية كان النساء كالرجال، فكل مؤمن يعرف كيف يعبد ربه! لكن لما صرفنا، واستجبنا للصرفة، وصرفونا، ما وجد من يعرف.فإذا سألت الفقيه: يا شيخ! أنا صليت المغرب وزدت ركعة متعمداً؟ فيقول: صلاتك باطلة، أعد صلاتك، وهذا الذي يملكه الفقيه!وآخر يقول: أنا تكاسلت فصليت العصر ثلاث ركعات فقط؟ فيقول الفقيه: صلاتك باطلة.أما نحن ففهمنا من قوله: باطلة أنها ما أنتجت، وما ولدت، فأعد الصلاة!فقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وافق فيها عمر ربه.
يتبع


ابوالوليد المسلم 15-09-2020 05:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
من موافقات عمر لربه

كذلك لما نزلت آية من سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] إلى آخر الآية، قال عمر : الله أحسن الخالقين، وما زال كذلك حتى نزلت: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].الثالثة: كانت غزوة بدر هي أول معركة إسلامية ظهر فيها أبطال بدر، ورجالات الجهاد، فلما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وبعض الصحابة، فرأوا أنهم يفادون الأسرى، لقلة ذات اليد، فلا ميزانية، ولا دولة، ولا مال، والبلاد محاصرة؛ فالأحسن أن يفادوا، فالأسير بكذا ألف وبكذا وكذا، فقال عمر : لا، لا نفاديهم، إنما نقيم عليهم القتل! فما هناك أنفع من قتلهم.فلما كان المستشارون الأولون جماعة ما استطاع أن يفعل شيئاً، فسكت! فنزل القرآن يؤيد عمر في القتل، فقال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67]، أي: ما كان لنبي من الأنبياء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، ويفتح الشرق والغرب، أما الواجب في أول معركة هو قتلهم حتى يرهب العدو في الشرق والغرب، أما إذا بعتموهم بالمال فسيقولون: هؤلاء ماديون! لا نبالي بهم، فوافق عمر ربه في هذه أيضاً.ورابعاً: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! نساؤك يدخل عليهن البار والفاجر، لو أمرتهن بالحجاب؟ ) فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ [الأحزاب:53] ونزل قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] سواء ستارة أو باب أو جدار، المهم الحجاب الحجاب!إذاً: ولا تعجبوا من عمر !تريدون أن تكونوا عمريين؟فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) فما يطيق الشيطان أن يمشي معه في شارع واحد، ولو كان عرضه ستين متراً، فما يقوى بل يهرب وله ضراط!ويقول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة- لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، لم؟ لصفاء روحه، وهو كتلة من نور لزكاة نفسه!فهذه النفس ما زكت بالصابون إنما زكت بصدق الإيمان وصالح الأعمال، والبعد كل البعد عما يدسيها أو يلوثها أو يصيبها بظلمة أو عفن أو نتن، إذ كل الذنوب هذا شأنها.وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما قال.فإذا نظر إلى الحادثة وقال كذا فإنه لا يخطئ! وكم من آت ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطي لسلاحه فيقول له عمر : أخرج سلاحك. وهذه هي كما قال الرسول: ( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله )، فهذا نور القلب الذي طاب وزكا وطهر! وما تلوث بالقاذورات والأوساخ الهابطة.

تقوى عمر

وأخيراً لما ولي أمر المسلمين دعاه أحد الولاة إلى طعام، فوضع له مائدة فيها كذا نوع من الطعام، وطعامنا الآن أوسع منها، فنظر إلى تنوع الطعام فاضطرب وقام كالأسد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما لك لا تطعم؟! قال: إني خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم من سورة الأحقاف: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].وهذه الآية تزن الدنيا وما فيها، فالزبانية في جهنم تقول لهذا النوع: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أي: أكلتموها في الدنيا، فما تركتم حلاوة، ولا طعاماً، ولا شراباً، ولا لباساً إلا أخذتموه، فماذا بقي؟! وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا والاستمتاع معلوم فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي: العذاب الذي فيه الإهانة، وكسر المروءة، وتحطيم الشرف بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ والاستكبار في الأرض بمعنى العلو والارتفاع، وكيف يستكبر مَن أصله نطفة قذرة، ويحمل في بطنه العذرة المذرة، ونهايته جيفة قذرة منتنة؟! كيف يستكبر هذا؟!والاستكبار هو: غمص الناس وبطر الحق، فالمستكبر لا يذعن .. لا ينحني .. لا ينتصح، فهو دائماً مع هواه!والاستكبار في الأرض من أعظم الذنوب؛ لأنه تعدٍّ على الله عز وجل، فالكبر لله، والذي يريد أن يكون كبيراً متكبراً فقد نازع الله عز وجل في صفته؛ ولهذا يأتي الوعيد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، ولا تعجب! فإن هذا المثقال من الكبر يجعل صاحبه لو حضره الموت وقيل له: أي فلان! قل: لا إله إلا الله، فسيقول: لا أقول. ويموت كافراً.ولا تعجب فإن مثقال ذرة من كبر يفعل العجب، فيحمله على ألا يركع ولا يسجد، ويحمله على ألا يعترف بحقوق الناس، ويأكلها ويظلمهم.وأي حق لك أن تتكبر وأنت عرفت أصلك، ومادة خلقك، وعرفت مصيرك؟! من أين لك يا ابن آدم أن تتكبر؟! فالكبرياء لله، ومن نازع الله في كبريائه قصمه ولا يبالي.فإذا حصل نزاع بينك وبين أخيك، وعرفت أن الحق له لكنك تتكبر، وتمنعه حقه، فأنت متكبر!ونعود إلى السياق الكريم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه مما وافق فيها عمر ربه تعالى، قال: ( أرأيت يا رسول الله! لو نتخذ من مقام إبراهيم مصلى -مكاناً نصلي فيه- فنزلت الآية )، فالطواف بالبيت سبعة أشواط كالسلام من الصلاة، فإذا صليت ركعتين أو أربع تخرج من الصلاة بقولك: السلام عليكم. أما الطواف فإنك لما تطوف فإنك تخرج من الطواف بصلاة ركعتين، ومن استطاع أن يصلي عند المقام فذاك، وإن عجز أو كانت امرأة فما دام في الحرم متجهاً إلى الكعبة يصلي؛ للزحام والضرورة، أما خارج الحرم فقد سئل عمر عن ذلك فقال: لا يصلي، ولا ينفع ذلك.

معنى مقام إبراهيم

قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] أي: تصلون فيه، والمقام: مكان قيام، فهذا الحجر .. هذا المقام سببه أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت بأمر الله، وهذه واحدة من الأوامر التي نجح فيها وفاز بالإمامة، وكان إسماعيل الغلام، الزكي، النقي يساعده، فيأتي بالحجارة من جبل أبي قبيس ومن المروة، والجبال قريبة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر يقف فوقه ليواصل البناء، وليس بشرط، له أن يبنيه كما هو الآن مبني، كقامة الإنسان وبقدر ما يستطيع، فكان كلما بنى قطعة دعس الحجر أمامه وعلا فوقه، وواصل البناء، فلما انتهى كان الحجر بين الركن الشامي والحجر الأسود، عند الباب، وبقي الحجر إلى أن جاءت السيول وزحزحته؛ فوجد في مكانه الآن.وهذا المقام بلغتنا العصرية (قدم خدمة لله)، فجزاه الله بأعظم وسام؛ لأن الله لا يضيع المعروف عنده.انتبه! والله لا يضيع المعروف عند الله! وما من عبد يعمل شيئاً لله إلا ويأخذ جزاءه وثوابه.فهذا الحجر قدم خدمة وهي أن بني البيت بواسطته في علوه وارتفاعه، فشرفه الله بأن جعل أعظم عبادة تؤدى دونه.ولعل بعض السامعين أو السامعات ما فهموا.

لا يضيع المعروف عند الله

أقول: ثقوا في أن الله لا يضيع المعروف عنده، فمن فعل معروفاً لله وبالله فلن يحرمه الله مثوبته أبداً وجزاءه، فتعاملوا مع ربكم بما شئتم.فهذا الحجر لما بنى إبراهيم البيت بواسطته ارتفع البناء، وتركه حيث انتهى البناء، ما بين الركن الشامي والحجر الأسود، فجاءت السيول وأخرته إلى المقام الذي فيه هو الآن، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتركوه هناك، فكل طائف أو طائفة بالبيت يصلي ركعتين خلفه؛ امتثالاً لأمر الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].وأشرف عبادة على الإطلاق هي الصلاة، فما فوقها عبادة؛ لأن فيها ركوعاً وسجوداً في الأرض بين يدي الله، ومن الغريب أن أحد الأبناء أو الإخوان أراني الآن مجلة فيها صورة زعيم عربي كان راكعاً ومنحنياً أمام يهودي يصافحه!وكل هذا بسبب الجهل، فما عرف أنه لا انحناء ولا ركوع إلا للجبار .. إلا لخالق الليل والنهار .. إلا لرب السماوات والأرض وما بينهما.ومع الأسف هناك الكثيرون يركعون، فلم شرفت الصلاة وعظم شأنها، وأصبحت العبادة الوحيدة التي تولد أعظم طاقة؟الجواب: لأن فيها الانكسار، والذل، والانحناء، وتعفير الوجه في التراب لله عز وجل!وأنت عندما تصافح شخصاً تصافحه ورأسك مرفوعة، ولا تركع.ثم هذا الزعيم -حقنا كما يقول العامة- كان مع يهودي! ونحن نقول: لا يجوز، لا مع اليهودي، ولا مع علي بن أبي طالب . فما نقول: لو كان مع مسلم لا بأس، بل المصيبة أعظم حينئذ، لأن هذا المسلم الذي ركع له وسكت فهو أيضاً دخل في جهنم! أما هذا اليهودي فشأنه، هو من أهل النار، لكن المؤمن لا يركع لغير الله عز وجل.وهذه الظاهرة أيضاً موجودة عند لاعبي الكرة، وعند الملاكمين، وعند لاعبي الكاراتيه، فإذا فرغوا يركعون، وقد أخذوها من المجوس الذين لا دين لهم، وللأسف أنهم لا يسألون، ولا يستفتون، ولا يبحثون، فإذا فرغوا سألوا: أيجوز هذا؟والمعلوم أن المسلم يقتل ويصلب ولا يسجد ولا يركع لغير الله.فإن قيل: لكن ما العلة يا شيخ؟!الجواب: الجهل، فمن رباهم؟ وفي حجور من جلسوا، وتعلموا، وتربوا؟وسيجيب بعض الناس: نحن كالبهائم نعيش في الصحارى، فلا تلمنا يا شيخ!والشاهد عندنا أن في هذا المقام تؤدى أشرف عبادة وهي الصلاة! إكراماً من الله له؛ لأنه قدم (خدمة جليلة لله عز وجل)، فما ضاع المعروف عند الله.إذاً: فائدة: يا عبد الله! يا أمة الله! إذا قدمت لله شيئاً من قلبك، ورغبة في ما عند الله، وفي حب الله؛ فاعلم أنه لن يضيع معروفك، ولن يضيع المعروف عند الله، وهذا هو الشاهد، ونحن الآن كلنا نصلي الركعتين خلف المقام؛ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا المقام من آيات الله فإن إبراهيم لما كان عليه غاصت قدماه فيه وهو صخرة؛ لتبقى آية إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله عز وجل: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] (فيه) أي: في الحرم (آيات) علامات كالشمس (بينات) دلائل، وبراهين ساطعة، ومنها: أن قدم وأصابع إبراهيم كانت على هذا الحجر، وبكثرة تمسح الناس وتقبيلها في الجاهلية انطمست. وإلا كيف تغوص قدما إبراهيم في الصخر. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا أي: الحرم. وإذا كان الفعل بالماضي فهذا إخبار بما هو مفروغ منه وسيكون، وقد كان.

قصة تسري إبراهيم عليه السلام بهاجر

ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أي: أوصيناهما.وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وأمه هي هاجر ، وهي قبطية مصرية، كانت أمة.لكن كيف حصل عليها إبراهيم؟لما كان إبراهيم عليه السلام مع سارة يمشيان في الأرض، وقد تركا ديارهما، فساحا مهاجرين؛ وانتهت بهم السياحة إلى مصر، من طريق غزة وسيناء، فلما وصل إبراهيم الديار المصرية في ذلك الزمن، ولا تنظروا إلى القاهرة والاسكندرية، وشى به بعض المرضى إلى السلطان، وقال: إن غريباً بالدار نزل عندنا، ومعه امرأة حسناء لا تصلح إلا لك.والعامة في المغرب يسمون هذا قواداً، أي: يقود إلى الفاحشة، ويسمى عندنا الجرار، وأيهما أعظم: القواد أم الجرار؟ القواد أخف، لأنه يقوده، والجرار يسحبه، ويجره جراً حتى يوصله، وأعوذ بالله أن يكون في ديار الإيمان والإسلام القوادون والجرارون، موقدو نار الشهوات، والفتن، والأهواء.وتلك الأمة كافرة فلا عتاب ولا لوم، وإنما كيف يوجد هذا بين المسلمين، ونظيره الذي يفتح ماخور للدعارة.إذاً: لما وشى هذا الجرار بعث إلى إبراهيم بعسكري، وقال لإبراهيم: هات المرأة، فقال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض اليوم مؤمن إلا أنا وأنت -وهو كذلك- فإذا سألك عني فقولي: أخي، ولا تقولي: زوجي، لأنها إذا قالت: زوجي إبراهيم سيقتله، وكيف يستحل امرأة بزوج، فهذا لا بد من إعدامه، لكن قولي: أخي، ولا يوجد يومئذ على الأرض مؤمن إلا هو وهي.ورفعوها إلى المقام السامي، وجلست إلى جوار السلطان، وأخذ يداعبها ويراودها، وكلما وضع يده عليها سواء كتفها أو فخذها أو رأسها يصاب بالشلل الفوري، والله العظيم! وتيبس يده! وفي المرة الأولى ماذا فعلت؟ تدعو الله فتعود يده، وهكذا في المرة الثانية والثالثة، ثم نادى في العسكر: أخرجوا هذه عني، واصنعوا لها من اللباس والكرامة والمأكل، وأكرمها بأن أعطاها هاجر خادمة مصرية تخدمها؛ لأنه شاهد آيات الله.فسألها إبراهيم: ما فعل الطاغية؟ قالت: كذا وكذا، وهذه هي هاجر أهدانيها.وتبرعت سارة لإبراهيم ابن عمها وزوجها، قالت له: خذ هذه وتسراها.قلب رحيم! أتوجد هذه المرأة الآن؟! امرأة اليوم إذا سمعت به يخطب فقط فيا ويله، ويا ويلها!فقالت سارة : خذها وتسراها يا إبراهيم! لأن سارة لا تنجب، وتسراها إبراهيم، فأنجبت إسماعيل في أرض القدس، ولما أنجبت إسماعيل تضايقت سارة عليها السلام وحزنت: كيف أن هذه الجارية تلد، وأنا كيف أعيش هكذا؟ فأوحي إلى إبراهيم أن يبعد هاجر مع طفلها؛ إكراماً لسارة حتى لا تتألم وتعيش في حزن صباح مساء، وعاشت سارة كذا سنة ما ولدت، وبعد سنين أنجبت لما جاء الملائكة لتدمير المؤتفكات، فنزلوا ضيوفاً وبشروها، وهي تسمع؛ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ [الذاريات:29-30]، أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]. وذلك بعدما تجاوز إبراهيم مائة وعشرين أو مائة وثلاثين سنة.فرحمة بهذه المؤمنة قال: أبعدها عنها؛ حتى لا تشاهد الطفل، وذهب بها إلى جبال فاران .. إلى الوادي الأمين .. إلى بكة، فركب براقاً، والله لقد ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وربطه في حلقة باب المسجد الأقصى! يخلق الله ما يشاء.والعجب أن الذي حدثنا بهذا الحديث هو أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.

قصة ماء زمزم

لما دخل إبراهيم مكة مع هاجر والطفل الصغير رضيع، جلس معهما والبيت لا وجود له، عبارة عن كوم من التراب، ولكن تحت شجرة من السدر، وشجر السدر ينبت في الصحراء، وأراد أن يعود فقفل راجعاً؛ فنظرت إليه هاجر وقالت له هذه الكلمة: آالله أمرك بهذا يا إبراهيم! أن تتركني وطفلي في هذه الصحراء؟! لا أنيس، ولا ماء، ولا طعام، آالله أمرك بهذا؟ فالتفت إليها وقال: نعم يا هاجر ! قالت: إذاً: اذهب، فإنه لن يضيعنا.يا من يتذوق طعم التوكل على الله! انظر إلى قولها: اذهب فإنه لن يضيعنا، فما دام أنه قد أمرك بأن تتركني وطفلي في واد ليس فيه أنيس، ولا طعام، ولا شراب، فالله لا يضيعنا إذاً.وعندما نعود إلى نماذج من مجتمعنا! فتقول مثلاً: يا فلان! أنت مؤمن .. أنت مسلم في المدينة، ما يجوز لك أن تبيع في دكانك مجلات فيها صور الخلاعة .. أو تبيع الدخان، خفف عن المسلمين، فيقول: إذا ما بعت المجلة والدخان من يشتري؟ الزبناء يطلبون غيرنا، هذا توكل على من؟!وإذا قلت: يا فلان! الربا حرام، واخرج من هذه الفتنة، وأغلق هذا الباب، وحول هذا الربا إلى إسلام صحيح، يقول: كيف نصنع مع الظروف والأزمنة ؟!وإذا قلت لصاحب صالون حلاقة يحلق وجوه الرجال: يا عبد الله! أنت فحل، لا تحلق وجوه الفحول، أصلح اللحية وحسنها، واحلق شعر الرأس، أما تحلق وجوه الرجال فلا، يقول: وهذا الصالون والعمال كيف نعيش؟ لا بد! هذا ما توكل على الله، إنما توكل على صالون الحلاقة.ومظاهر هذا كثيرة، فما سر هذا؟الجواب: ما آمنا حق الإيمان، ولا عرفنا الرحمن، ولا امتلأت قلوبنا بخشيته، ولا بحبه، ولا رغبة لنا في لقائه، فلا تلمنا إذاً، أما تلك المؤمنة فقد عاشت أياماً في حجر إبراهيم، وعلى فراش إبراهيم، وقد انتقلت أنواره إليها، ولازمته سنة أو أكثر، فعرفت أن الله ما دام قد أمره فلن يضيعنا!وما هي إلا أربع وعشرون ساعة ونفد الماء الذي كان في القربة أو الشن، ونفد الخبز الذي كان في المزود، وبقي -والله العظيم- إسماعيل يتلوى في الأرض من شدة العطش! وليس في تلك الديار أحد، فلما شاهدت إسماعيل في تلك الحال نظرت إلى أقرب جبل منها وهو الصفا، ولهذا لما نسعى الآن تعبداً نبدأ بالصفا، إذ بدأت به هاجر . فطلعت فنظرت يميناً وشمالاً ولم تر شيئاً في ذلك الوادي، فهبطت فرأت جبل المروة أمامها على قرابة كيلو متر أو نصف كيلو، وما هناك من الجبال إلا هو، فذهبت إلى الجهة الشمالية علها تشاهد شيئاً، وكان ما بين الجبلين واد، والآن الوادي مضبوط بالمليمتر، ما بين الميلين الأخضرين، وقبل وجود الكهرباء كانوا يصبغون العمود بالصبغة الخضراء؛ الميلين الأخضرين، والآن بالكهرباء خضراء، بينهما هذا الوادي، فلما تصل إليه تسرع لهفة، تسرع حتى تخرج من المنخفض إلى المرتفع؛ لعلها تشاهد أو ترى.ومن ثم خلد الله ذكر هاجر ، فما من فحل منا قادر على أن يخب في ذلك الوادي إلا وخب! أو هجر السنة وتركها.أرأيتم كيف يحيي الله ذكرى الصالحين وصنعتهم؟فلما صعدت المروة ما شاهدت شيئاً حتى اكتملت سبع مرات، وإذا بهاتف يهتف، وتقول: أسمعت، أسمعت، هل من مغيث، نظرت وإذا برجل على رأس إسماعيل واقف، على أحسن ما يكون الرجال ثياباً وجمالاً، وكان جبريل عليه السلام، كما كان يدخل أمام الصحابة.فلما دنت من جبريل قال بعقبه هكذا في الأرض، فصار زمزم، والله الذي لا إله غيره، بعقبه هكذا فقط سال وخرج الماء، فأخذت تزمه حتى لا يسيح في الأرض، وشفقة على الماء؛ خافت أنه ينقطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) يسيل دائماً، أما الآن فلا بد من الحبال والدلاء، وبعدها الآلات أيضاً لسحب الماء، ولو تركته يسيل دائماً، وقوله: ( رحم الله أم إسماعيل ) هذه كلمة تساوي الكثير، وهل يستطيع أحدنا أن يقولها؟ ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) هذا زمزم.وزمزم مما سجله القرآن وأذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن من طاف بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب ماء زمزم، وإن كان رياناً؛ تخليداً للذكريات، فإذا طاف المرء منا بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب من ماء زمزم، ويكثر منه في حدود طاقته، ولقد رأيت حاجاً انقطع من حجاجنا قديماً أيام كان الدلو فيشرب الدلو بكامله، ويوسع بطنه بيديه، ولو يشرب هذا الماء من النيل أو الفرات أو من ماء كذا لا يبيت إلا في المستشفى! ولكن ( زمزم لما شرب له )، ( زمزم شفاء سقم وطعام طعم ).وهذا كله كان ببركة الصابرة المتوكلة اليقينية هاجر أم إسماعيل عليه السلام، جدة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.إذاً: هذه تابعة للسعي: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] بم؟ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] إلى غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 15-09-2020 05:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (85)
الحلقة (92)




تفسير سورة البقرة (54)


كما أن الله يصطفي من الملائكة رسلاً، فهو كذلك يصطفي من الناس رسلاً، وهو أيضاً يخص ما شاء من البقاع والأماكن والأزمان بما شاء من تشريف وتكريم، وقد اصطفى الله إبراهيم وابنه إسماعيل ليكونا نبيين، وليطهرا بيته -الكعبة- للطائفين والعابدين، وجعل الله بلدة بيته آمنة مطمئنة، ورزق أهلها من الثمرات والله ذو الفضل العظيم.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها, سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!ها أنتم تدرسون كتاب الله، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجائزة إنها والله لعظيمة، واسمعوا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). ولو بذلنا ملء الأرض ذهباً على أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى ما حققنا ذلك.وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).ها نحن مع كتاب الله عز وجل إذ قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أن افعلا كذا وكذا.والقائل: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هو الله جل جلاله.من هو الله؟هو خالقنا .. رازقنا .. خالق العوالم كلها .. رب السماوات والأرض وما بينهما .. ولي المؤمنين، ومتولي الصالحين، ومرسل المرسلين، ومنبئ الأنبياء، فهذا الله الذي لولاه ما كنا.يقول: (وعهدنا) أي: نحن رب العزة، والجلال، والكمال.عهدنا إلى من؟ إلى إبراهيم وابنه إسماعيل.وعهدنا بمعنى: أوصينا، لأنه عدي بـ (إلى)، فأمرنا موصين مؤكدين، مَن؟ إبراهيم.

معنى إبراهيم

من هذا إبراهيم؟هذا أبو الأنبياء، هذا أبو الضيفان، هذا خليل الرحمن.وهذه الكلمة (إبراهيم) حقيقتها بالعبرية: أب رحيم، وحقاً والله إنه لأب رحيم، ويدلك على رحمته أن ابتلاه سيده ومولاه بأن يذبح فلذة كبده ويقدمها قرباناً لله رب العالمين!ولعل الغافلين ما يتنبهون، ولو كان قلبه قاسياً -مثلي- ما هناك حاجة إذا قال له: اذبح، فإنه يذبحه وهو يغني! لكن من له قلب رحيم، رقيق، وعواطف جياشة كيف يقوى على أن يذبح ولده؟!وهذا شأن الاختبار والامتحان، فإذا نجح صاحبه وفاز انتهى إلى أسمى قمة في الكمال البشري.أما سمعتم الله تعالى يقول على لسان إبراهيم: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] أسلما ماذا؟ أعطيا ماذا؟ أمرهما وقلباهما ووجهاهما لله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:103-105].هذا هو إبراهيم، أبو الأنبياء، وما من نبي بعده إلا من ذريته.إذاً: عهد إليه الله جل جلاله، رب العزة والجلال.

معنى إسماعيل

أما إسماعيل فهو ابن إبراهيم, كان ما زال صغيراً، لكنه ناهز البلوغ، وأصبح يناول أباه الحجارة وهو يبني البيت.قالت العلماء: ومعنى إسماعيل بالسريانية لا العبرية: سمع الله دعاءك يا إبراهيم وأعطاك ولداً، فهو إسماعيل؛ لأن إيل معناها: الله, ويدلك لذلك: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل، كما نقول: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم.

معنى قوله تعالى: (أن طهرا بيتي)

عهد إليهما بماذا؟ كلفهما بماذا؟قال: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125].إذاً: أخطأت وغلطت في أن إسماعيل هنا ليس غلاماً مناهزاً للبلوغ، بل أصبح رجلاً في هذا السياق أن ينهض بهذا التكليف بعد والده ومع والده. أن طهرا أي: يا إبراهيم وإسماعيل! أيها النبيان والرسولان! طهرا بيتي. وذلك بعدما بني البيت ممكن بسنين أو بأيام، أما أثناء بناء البيت فكان إسماعيل مناهزاً للبلوغ فقط، وما شب، ولا ترعرع.وإبراهيم هو الذي كان يبني، أما إسماعيل فكان يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء، وما أصبح يقوى على أن يصل بالحجرة إلى الجدار؛ جاء الله بهذا الحجر -مقام إبراهيم- بما شاء من وسائل، فأصبح يعلو فوقه، ويواصل البناء، حتى أكمل البناء.إذاً: في هذا السياق كان إبراهيم وإسماعيل نبيين رسولين.قوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] لمن يطهرانها؟ قال: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].والتطهير معروف عندنا، يكون بالماء والصابون، فتطهر ثوبك وبدنك من النجاسة كالبول، والعذرة، والدم، والقيح وما إلى ذلك.إذاً: يا إبراهيم ويا إسماعيل! طهرا بيتي، ونظفاه، ونقياه من كل ما هو نجاسة معنوية كالشرك، والكفر، والتلصص، والخيانة، والزنا، والفجور، ومن كل ما هو نجاسة حسية كالجيف والنجاسات من بول وما إلى ذلك.فالتطهير هنا تنقية كاملة لما هو مكروه لله، ومبغوض لرب العالمين من النجاسات الحسيات والمعنويات.

معنى قوله تعالى: (للطائفين والعاكفين)

قوله: (للطائفين) أي: إذا جاء الطائف لا يخاف أن أحداً ينهشه أو أن يزلق في مستنقع ماء أو بول أو كذا أو كذا؛ لأنه جاء يطوف ببيت ربه.وقوله: (والعاكفين) جمع عاكف، والعُكوف لم يبق له أثر في العالم الإسلامي إلا أيام رمضان، والسنة أنه في رمضان، ويصح في كل السنة، فمن قال: لله علي أن أعكف شهراً في المسجد الحرام؛ فيجب أن ينفذ.والعكوف معناه: انقطاع كامل إلى الله عز وجل، فلا يخرج من المسجد إلا لقضاء الحاجة البشرية، أو إذا لم يكن له ولي أو مولى يتولاه؛ فيخرج إلى السوق يأخذ قرص الخبز أو عنقود العنب ويأتي إلى المسجد, وطول الليل والنهار وهو مع الله: ذاكراً، مسبحاً، مكبراً، راكعاً، ساجداً، فإذا غلبه النوم نام، وإذا ذهب قام.وانظر قيمة هذا العكوف -أي: انقطاع كامل إلى الله- فقد لا يتخرج إلا وهو نوراني، فقلبه كله نور، ولم تبق عليه خطيئة ولا سيئة مدونة عليه، فتمحى، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي مُعتكَف الحبيب صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (والركع السجود)

قوله: وَالرُّكَّعِ [البقرة:125] جمع راكع، و السُّجُودِ [البقرة:125] جمع ساجد، كقاعد وقعود.ولم خص الركوع والسجود؟إنها الصلاة، فالصلاة معراج الوصول إلى الملكوت الأعلى، ومن أراد منكم أيها السامعون! أيتها السامعات! أن يتصل بذي العرش جل جلاله في أي ساعة من ليل أو نهار باستثناء الأوقات التي لا مقابلة ولا مناجاة فيها؛ فليتطهر ولينظف ثيابه وبدنه، وليغسل جسمه، والطهارة معروفة بالوضوء أو بالغسل، ويستقبل بيته، ويقول: الله أكبر! فقد انفتح الباب، فأنت مع الله حتى تستأذن وتقول: السلام عليكم.لكن من منا يشعر بهذا الشعور؟وقد يقول قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما جلسنا في حجور الصالحين.أليس كذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر هذه المعاني السامية ويقول: ( المصلي يناجي ربه ) فإذا قلت: لا لا، فإنك تكفر.فقوله: ( المصلي يناجي ربه )، كيف يناجيه؟ يتكلم معه سراً، والمناجاة عندنا معروفة، ومن أحكامها: لا يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا أربعة دون الخامس؛ لأنهم يتكلمون سراً فيما بينهم، فيخشى أن يكونوا قد تآمروا عليه أو أرادوا به سوءاً، ومعنى هذا أننا آذيناه، وأذية المؤمن حرام، ولا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بحال كهذه، فإذا كنتم ثلاثة ولويت رأسك إلى أخيك وتحدثت معه سراً، فإن أخوك يقول: أخشى أن هذان يتآمرن علي.فأوجدوا في نفسه ألماً أم لا؟وكيف يؤذى المؤمن؟!فإن قال قائل: يا شيخ! إنهم يذبحون المؤمنين، فماذا نصنع؟ هل نصرخ؟!أقول: يبلغنا -اللهم بلغ عنا- أن سجون العرب تجري فيها ألوان من العذاب، والله ما توجد في النار يوم القيامة.وما نلوم يا أبنائي! فنحن ما علمناهم وما ربيناهم, أين جلسوا؟ في حجور من؟ قولوا لي!فكيف يصبحون ربانيين، حلماء، كرماء؟!وكيف يتم هذا؟ بالتربية أو بدون تربية؟والله ما كان، ولن يكون إلا بالتربية.أمامنا آية كريمة في إبراهيم حيث قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] تزكية النفوس .. تطهير الأرواح .. تهذيب الأخلاق .. السمو بالآداب، وهذا ما يتم أبداً إلا أن تجلس بين يدي المربي جلسة كجبريل عليه السلام، وأنت تستقي المعاني والمعارف، وتمتزج بلحمك ودمك، ويمتلئ بها قلبك، وما تخرج من المسجد إلا وأنت تمثلها، وهي ظاهرة في سلوكك!آه! وا حسرتاه! وا أسفاه! ما الطريق يا عباد الله؟!العالم الإسلامي هبط من علياء الكمال فلصق بالأرض، منذ قرون ومئات السنين، ومن يوم أن كاد له الثالوث فصرفوهم عن هذه المجالس، وعوضوهم بالمقاهي، والملاهي، والملاعب، وبغضوا إليهم كلام الله، وكلام رسوله، فقالوا في القرآن: صوابه خطأ، وخطؤه كفر!فأصبح الرجل إذا سمع العبد يقول: قال الله؛ يغلق أذنيه!فهل من عودة؟ عائدون إن شاء الله.ما الطريق يرحمكم الله؟! ما الطريق؟

طريق العودة إلى الله

الطريق فتح الله لنا به بابه، وهو كتاب: (المسجد وبيت المسلم).لعل أبا مرة يلقي في نفس أحد السامعين والسامعات فيقول: هذا الشيخ قائم بدعاية لكتابه ليحصل على الريالات, أسألكم بالله: هل بِيع هذا الكتاب؟ أما طبع منه سبعون ألفا؟! وننادي في العالم: اطبعوه، ووزعوه.كتاب: (المسجد وبيت المسلم) حيلة مما فتح الله تعالى به علينا.كيف أجمع أهل البيت؟ لو تعطّى الملايين ما تنتفع!كيف تعهد إلى أهل بيت إذا صلوا المغرب أو العشاء يجلس الفحل وامرأته إلى جنبه، وأمه إلى يمينه، وأطفاله من بنين وبنات بين يديه، ويتغنون بآية، فيقرءونها .. يرددونها .. يتلذذون بها، وأنوارها تغمر قلوبهم، وخلال نصف ساعة حفظوها؟! فيقول الأب: حفظت يا بنيتي! فتقول: إيه يا أبتاه! اسمع، فتقرؤها. ويقول: حفظت يا أماه! فتقول العجوز: نعم، اسمع يا بني! فحفظوا الآية.هذه الآية من الملكوت الأعلى، هذا من كلام الله رب العالمين.وماذا في هذه الآية؟أولاً: ما سميت آية بمعنى: علامة إلا لأنها تدل دلالة قطعية على وجود الرب تعالى، وعلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.ولن يستطيع أحد تحت الأرض أن ينقض هذا الكلام! فهذا كلام عالٍ سامٍ.أيتصور وجود كلام بدون متكلم؟! مستحيل! فهذا الكلام كلام الله، وهل هناك من ادعى وقال: كلامي؟! والدنيا تصرخ ألفاً وأبعمائة سنة: هذا كلام الله.إذاً: كلام الله آية على وجود الله وعلمه، وقدرته ورحمته، وولايته لأوليائه، وقل ما شئت من الكمال الإلهي.وهل الذي نزلت عليه هذه الآية يكون غير رسول؟! مستحيل! فلولا أنه هيأه وهو في أصلاب وأرحام أمهاته وآبائه لذلك، وأوحى إليه، كيف يوحي إليه كلامه؟ فهو رسول!إذاً: كل آية في كتاب الله الذي تقرءونه على الموتى، كل آية تصرخ بأنه: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكل آية تحمل الهدى .. تحمل النور، فلما تحفظها الأسرة حفظاً جيداً، ويشرحها لهم الأب: أبنائي! أمي! يا أم فلان! هذه الآية لها معانٍ ودلالات؛ لأن الله أنزلها بالعلم والبيان، فهذه الآية تأمرنا أن نعتقد الحق، ونكفر بالباطل! وهذه الآية تدعونا إلى حسن الخلق، وهذه الآية تدعونا إلى أن نقيم الصلاة، وهذه الآية تدعونا إلى أن نرحم إخواننا المؤمنين والمؤمنات.وهكذا يعطيهم ما تدعو إليه الآية، وما نزلت له من أجله، وإن شاء الله تتمسكوا بهذا النور، وبهذه الهداية الإلهية.ومن الغد أيضاً يجلسون في البيت الطاهر، والملائكة تعمره وتحفه، فيقرءون حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي متوفرة بعشرات الآلاف كأنه نطق بها الآن، إذ لا تنقض أبداً، مهما طال الزمان، فيقرءون الحديث، اسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيتغنون بذلك الحديث؛ لتنشرح صدورهم، وتطمئن نفوسهم، ويجدون روحانية في نفوسهم، فيحفظونه بعد بربع ساعة.يقول: أعيدي يا فلانة الحديث، فتعيده. ويقول: وأنت يا غلام حفظت؟! قال: نعم، أسمعني، حفظتم؟ حفظنا.احفظوا فلن يضيع هذا بعد اليوم، احفظوا فلا ينسى: ماذا يريد الرسول من قوله هذا وهو المعلم المربي، والسائس الحكيم؟ يريد منا كذا وكذا، ويريد منا أن نفعل كذا، وأن نتجنب كذا، فيحفظون الحديث ومعناه، وقد وطنوا أنفسهم، وأشرقت أرواحهم بأن يعملوا بما علموا على الفور بلا تأجيل.ويوماً بعد يوم، يوماً آية ويوماً حديثاً، وسنة .. سنتين .. ثلاث سنوات .. كيف يصبحون؟أسألكم بالله: أهل هذا البيت كيف يصبحون؟ أليسوا علماء .. ربانيين .. صلحاء .. أولياء لله تعالى؟ فهل مثل هؤلاء يذلهم الله أو يهينهم الله؟ والله ما كان وهو ناصر أوليائه.آه! بيوت المسلمين احتلتها الشياطين.
يتبع


ابوالوليد المسلم 15-09-2020 05:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
غلبة المعاصي على بيوت المسلمين

أبشركم أو أنذركم: نعم بيوت المسلمين حتى في مدينة الرسول في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرم رب العالمين في مكة احتلتها الشياطين، وخرجت الملائكة.فإن قال قائل: كيف هذا يا شيخ؟! أصحيح هذا؟أقول: والله الذي لا إله غيره إنه لصح، وكما سمعتم! فالبيت الذي يجلس الرجل وامرأته وبناته، والعاهرة ترقص أمامهم، وتتغنج وتتكسر، وتغني وهم جالسون، والله لا يبقى المَلك.واقرءوا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم واحفظوا، فقد دخل يوماً حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، الحبيبة بنت الحبيب، أم المؤمنين، فيجد في حجرتها سهوة نافذة، غير نافذة للخارج، تضع فيها بعض أمتعتها، وما عندها خزائن كما عندكم، ولا دواليب، وسترتها بخرقة كتان فيها صورة، وما هي التي رسمتها بل النساجة هي التي نسجتها، فدخل وتمعر وجهه! وظهر الغضب عليه، وقال: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة! فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ).وكان جبريل عند الباب فأبى أن يدخل! وقال: طهر البيت يا رسول الله! هناك جرو كلاب تحت السرير لابن فاطمة الطفل الصغير، ولن أدخل حتى تخرجوا ذلك الجرو. ثم دخل جبريل.وهذه يقينيات كأننا موجودون.كيف بيوتكم أيها المؤمنون؟! كيف هي؟رحلت الملائكة، إلا من رحم الله.أنا لا أنكر أن يوجد مؤمنون ومؤمنات يكرهون كل ما يكرهه الله ورسول الله، ويحبون كل ما يحب الله ورسول الله، ولكن هذا هو العالم الإسلامي، فطردوا الملائكة من بيوتهم، وحلت الشياطين.إذاً: كيف تتحقق لهم ولاية الله؟! كيف ينصرهم الله؟ كيف يهدي قلوبهم؟ كيف يأخذ بأيديهم من وحلتهم؟الجواب: غير ممكن.إذاً: وهذا الصحن الهوائي في بلادنا له سنة، وفي بلاد العرب صار له أربع سنوات .. خمس سنوات، وقد أحدث فتنة.وقد قلت لكم: إن الذي يستمر على هذا الوضع سوف يموت على سوء الخاتمة!والذي يجلس مع امرأته وأولاده من صلاة العشاء إلى نصف الليل .. إلى قبل الفجر وهم يشاهدون الأفلام الخليعة الدمارة المدمرة للعالم كاملاً، ففي ليلة واحدة تنطبع تلك الأخلاق في قلوبهم، فكيف إذا كان كل ليلة وطول العام؟! وشيئاً فشيئاً حتى ينكروا وجود الله, وإن لم ينطقوا, ما يقولون: لا إله، إنما لا يوجد في قلوبهم إيمان بالله، ولو وجد الإيمان بالله لبكوا، وخروا ساجدين.وترتفع مستويات الفساد في قلوبهم حتى يصبحوا مؤمنين بالاسم، ويأتي الأجل وهو ينكر وجود الله، فيموت على سوء الخاتمة.وهذا الكلام بلغناه، وسمعه الناس أم لا؟نعم يسمعه بهذه الأذن، ويخرج من هذه. لا إله إلا الله.

حين يكون البيت مدرسة إسلامية

نحن نقول: كتاب: (المسجد وبيت المسلم)، اشغل بيتك بهذا الكتاب، واجمع أهلك، واقرأ معهم ليلة آية وليلة حديثاً، فترتفع أنت وإياهم، ويصبح البيت كتلة من النور، ووالله جل جلاله لينتهي السرف والعبث في المأكل والمشرب والملبس، ويتوفر لكم مالكم ويزيد، مع البركة التي تحل!ثم أهل المدن والقرى في العالم الإسلامي، فإذا التزم أهل قرية من القرى بأن يجتمعوا كل ليلة في بيت ربهم، وإن كان ضيقاً وسعوه بالخشب لا بالحديد والاسمنت، كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلسون فيه بنسائهم وأطفالهم من المغرب إلى العشاء كل ليلة، فإذا مالت الشمس إلى الغروب قلنا لهم: هيا! اتركوا العمل، فارم المسحاة يا فلاح! وارم المرزبة يا حداد! وارم القلم يا كاتب، وأغلق الباب يا تاجر!فإذا قيل: إلى أين؟ إنها دعوة ربانية! فنحن ذاهبون إلى الرب جل جلاله في بيته.وإن قيل: ماذا نصنع؟ نقول: نتلقى الكتاب والحكمة ونستمطر رحمات الله، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، والمربي أمامهم، وآية يرددونها حتى تحفظ، ويشرح لهم معناها، وتوضع أيديهم على المطلوب منها: فهمتم أبنائي! إخوتي! أبائي! أمهاتي! قالوا: فهمنا، فمن الليلة نطبق هذا الواجب، ونجتنب هذا المكروه لله ورسوله والمؤمنين. وهكذا الغد وبعده، وعام بعد عام.لكن كيف تصبح تلك القرية؟!سلوني أخبركم: تصبح كتلة من نور ككوكب في السماء، لم يبق فيها من يشرب حراماً، ولا من يأكل حراماً، ولا من يستبيح حراماً، ولا حسد، ولا غل، ولا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا رياء، ولا سمعة، ولا شح، ولا بخل، ولا خبث، فيصبحون كأسرة واحدة وأطهر!فإن قال قائل: كيف يتحقق هذا يا شيخ؟!أقول: تريد كيف؟هل إذا أكلت تشبع أم لا؟ تشبع, فهذه السنة ما تبدلت.وإذا شربت ترتوي أم لا؟ ترتوي.وإذا أدخلت إصبعك في النار أحرقته أم لا؟ تحرقه.وإذا قطعت بالحديد شيئاً انقطع أم لا؟ ينقطع.فهذه سنن لا تتبدل، كيف تتبدل هذه السنة؟ لن تتبدل! فبمجرد ما يجتمعون في صدق على تعلم الهدى الكتاب والحكمة وتزكية النفس؛ إلا ويصبحون كتلة من النور، وما تبقى جريمة في تلك القرية.ولو تريد أن تلزم الناس بالحديد والنار على أن يستقيموا؛ والله ما استطعت! ولن يستطيع إلا على منهج الله.هذا الله تعالى يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] اسمعوا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يبنيان البيت، وهذا التقاول موجود عند العمال عندنا الذين يبنون أو يشتغلون شغلاً واحداً، فيسلون أنفسهم بالأغاني، لكن الصالحين يسلون أنفسهم بذكر الله وسؤال الله.اسمع إبراهيم وإسماعيل يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] وهما يبنيان البيت!هل استجاب الله دعوتهما؟إيه، بعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم.وهل فعل الرسول هذا؟ والله كأنكم تشاهدونه، يجلس في ذاك المجلس وحوله الناس، فالنساء من وراء، والرجال أمامه، وهو يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرج من حجره .. من مسجده رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم قط! وإن شوه المبطلون ذلك الجمال وذلك النور وأرادوا أن يطفئوه، ولكن والله ما اكتحلت عين الوجود برجال تخرجوا من حجور الصالحين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.واستدام ذلك الكمال مع الكيد والمكر لهم من كل جهة، ثلاثة قرون، وثلاثة أجيال: الصحابة، وأبناؤهم، وأبناء أبنائهم، فلم تعرف الدنيا أمثال أولئك.كيف تعلموا؟ وكيف تخرجوا؟ ماذا درسوا؟درسوا الكتاب والسنة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم أخلاقاً وأرواحاً.

الجهل بالقرآن والسنة موقع في الفساد

والآن؟ آه! من ينقل هذا الكلام إلى العالم الإسلامي؟ ما هناك أحد، لو كان هناك من ينقل كلامنا؛ لغيروا سلوكهم في سجونهم، في بلادهم.فإن قيل: ولم تعيد هذا الكلام؟أقول: يأتيني واحد من بعيد يظل أمامي ويبكي ويبكي. فأقول له: ما لك؟يقول: فعلوا بي الفاحشة في السجن.إذاً: كيف لا تتمزق قلوبنا؟!وجاءني أحدهم من سنوات فقلت له: أين فمك؟ قال: قلعوا أسناني سناً بعد سن.هؤلاء مؤمنون، مسلمون؟ أيصدر هذا عن مؤمنين بالله .. عن مسلمين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله؟!ولا نلومهم فمن علمهم؟ ومن رباهم؟ لقد جلسوا في حجور البلاشفة، واليهود، والنصارى، وتعلموا وتخرجوا على أيديهم هنا وهناك، فكيف ترجو منهم الخير، وإليكم بيان الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا، فهو مجنون، فهذا خبر الله أو لا؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا من هم؟ المختصون في علم النفس، والقانون، والسياسة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ، أنا لا أستطيع أن أقتنع بأن شخصاً يأخذ مواطنه ويكسر وجهه، ويسلب لحيته، ويفعل، ويفعل. هذا حيوان .. هل هذا إنسان مسلم؟ هذا كافر، هذا لا يوجد في قلبه بصيص من إيمان، والرسول يقول: ( وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته )، حتى في الشاة لا يعذبها، وهؤلاء يدعون أنهم مواطنون، ويفعل بالمواطنين هذا، وكلما جاء واحد من الخارج يقص علينا هذا البلاء.سمعتم هذا البيان؟أعيده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، حق أو لا؟ثم يقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، من غير المعقول أن نرتد ما دمنا نجلس هذا المجلس طول العام نتلقى الكتاب والحكمة.هل فهم السامعون والسامعات؟أين توجد الحصانة؟ في كتاب المسجد وبيت المسلم.الجماعة التي تجلس كل ليلة منذ طفولتها إلى شيخوختها في بيت ربها ساعة أو ساعة ونصف تتعلم الكتاب والحكمة، هذه الجماعة لا يستطيع واحد تكفيرها، والله لا بالسحر، وهل يستطيع قوم أو أمة أن يردوها على أعقابها فتخرج من دينها وإسلامها؟ والله ما كان ولن يكون، لكنهم عرفوا نور الكتاب وهداية السنة فصرفوهما عنا، فعشنا قروناً كالبهائم.إذاً: عرفتم قيمة كتاب: (المسجد وبيت المسلم)؟وليس بشرط أن يكون هذا الكتاب، الشرط: ليلة آية وليلة حديثاً من البخاري .. من الموطأ .. من مسلم أو من أي كتاب، وكل ما في الأمر أن الأحاديث موجودة ومتوفرة، وهذا أحسن من أن تبحث عنها من جديد، وهي مشروحة ومبينة، لا أقل ولا أكثر.وقد قلت غير ما مرة: لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي التزموا بهذا، وأخبرونا عن نورهم، والله لنحجنّ ونذهب إليهم لنشاهد أنوارهم، وكيف أصبحت تلك القرية، وإن كان سكانها أقل من ألف نسمة، فنشاهد النور، إذ لا يتخلف وعد الله بحال من الأحوال.وإلى الآن ما بلغنا؛ فآه على الهبوط قروناً، وهذا كتاب الله بين أيدينا.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال رب اجعل هذا بلداً آمناً ...)

دعوة إبراهيم لمكة وأهلها

نعود إلى السياق: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ [البقرة:126] يا رب اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، أي بلد هذا؟ مكة. بلد أو لا؟ بلد، وقد أقسم الله به فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، أي: الآمن المحقق للأمن لمن دخله، وقال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] إنها مكة بلد الله.دعوة الخليل: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، ولما قال إبراهيم هذا كانت مكة ليس فيها نخلة، ولا تين، ولا عنب، ولا زرع: لا بر، ولا شعير، وهذا هو حال جبال فاران والوادي بينها، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وشاء الله أن يتحقق ذلك، فقد شهدت مكة أمناً لم تشهده بلدة أخرى في العالم، ففي أيام الجاهلية، حيث لا إسلام، ولا شرع، ولا قانون، ألقى الله في قلوبهم الرعب والخوف، فيمر الرجل بقاتل أبيه لا يفتح عينيه فيه أبداً، أمنهم، والله على كل شيء قدير. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ فأصبحت تأتيهم الأموال والثمار من أنحاء العالم وإلى الآن.ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، هذا احتراز احترزه إبراهيم، لأنه في السابق لما قال تعالى له .. لما توجه بتاج الملك، وأصبح إماماً للعالم، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أوامر فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وهذه الشهادة لو تدرسونها مليون سنة -والله- ما تحصلون عليها في مدارس الدنيا كلها، كلمات وأوامر معدودة، وقد استعرضناها، ومنها أن يذبح ولده فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، يقتدى بك، وحقق الله هذا فلا يهودي ولا نصراني ولا أحد على الأرض إلا ويقدس إبراهيم ويود الانتساب إليه على الإطلاق.ثم قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] طمع، والطمع في الله لا بأس به، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً اجعل منهم أئمة. فقال تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، إذا أولادك ظلموا، وأشركوا، وكفروا، وأحلوا ما حرم الله، واستباحوا ما حرم الله، فما لهم حق.وهنا تكلمنا على ولاية العهد، وقلنا: لا بأس للحاكم والسلطان والملك عندما تحضره الوفاة أو يخاف الفتنة أن يعين أحسن واحد في البلاد من أقاربه أو من غيرهم، فهذه أمانة حتى لا تضيع الأمة.ورد الله تعالى عليه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: ما نعطيك عهداً يناله الظالمون، أما من كان مؤمناً، حنيفاً، موحداً، مستقيماً فهو معك، مثلك، أما من كان مشركاً؛ كافراً فاسقاً فلا يعطى هذا.أرأيتم هذا الرد؟فإبراهيم الآن خاف، فتذكر هذه الآداب، فقال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، أما الكافر فلا تعطه ولا شربة ماء، ولا أكل، ولا خبز.

معنى قوله تعالى: (ومن كفر فأمتعه قليلاً)

بناءً على ما سبق قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126]، بالطعام والشراب حتى يموت ثم إلى جهنم، فكفره لا يمنع من أن يأكل، ويشرب، ويلبس، ويركب أبداً، وإنما إذا أعلن الحرب وحارب فإنه يقتل، وأما إذا سالم فإنه يأكل ويشرب حتى الموت، ولا نقول: لأنه كافر لن يأكل ولن يشرب.ولولا هذا لكان من حق المسلمين ألا يطعموا كافراً ولا يسقوه حتى يموت، لأن هذا الكافر مخلوق للعبادة فعطلها وقال: أنا ما أعبد الله، إذاً يجب أن يموت، فلماذا يعيش؟هذا سر آخر.أتعرفون لم نأكل ونشرب؟من أجل أن نذكر الله ونشكره، فإذا عطلنا الذكر والشكر تعطلت الحياة، ولا قيمة لوجودنا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فلهذا يهان الكافر، ولا يكرم، ولا يعز، ولا يبجل، ولا يعظم، لم؟ لأنه ترك علة الحياة وسر الوجود، فقط لا يقتل، وما يدريك أنه ينجب ولداً يعبد الله؟ وما يدريك أنه يدخل في رحمة الله؟ فما تملك هذا، إذاً دعهم يأكلون ويشربون حتى نهاية آجالهم، والمصير معروف.أرأيتم كيف رد الله على إبراهيم؟ إبراهيم تحفَّظ؛ لأنه سمع في الآية الأولى: لا ولاية إلا لمؤمن، طاهر، صالح، فهنا لما تحفظ قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة:126]، تعرفون التمتع؟ بالأكل والشرب واللباس إلى أن ينتهي الأجل، فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126] قليلاً فقط، هذا شيء آخر، أما أهل الإيمان، والصلاح، والاستقامة فيمتعهم كثيراً؛ لأننا نجد اللذة في الطعام بسم الله ومن أجل الله، فهؤلاء الكفار يأكلون كما تأكل الأنعام، ولا يعرفون لم يأكلون، ولا لم يشربون، ولا يعرفون لم وجدوا، وإلى أين يصيرون، فمتاعهم ولو ألف سنة ما هو إلا قليل.

معنى قوله تعالى: (ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)

قوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126]، أي نار هذه؟ ما تعرفون النار يرحمكم الله. أما تشعلونها في بيوتكم؟ والفحم موجود.ومن قال: أي نار هذه تجمع البشرية؟قلنا له: ارفع رأسك إن شاء الله في وقت الضحى للشمس، وانظر وتأمل والحرارة نازلة، واسأل الخبراء يقولون: هذا الكوكب أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، ولو جمعنا البشرية ورميناها في الشمس ما سدت زاوية ولا كملتها، فكيف بالعالم الآخر، وراء هذه الأكوان؟ آه.ثم قال: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126]، مصير يصل إليه عبد الله أو أمة الله إذ يلقى في عالم الشقاء يخسر كل شيء.وعندنا أيضاً بعض المعلومات فإنه يؤتى بالرجل من أمثالنا، ضرسه كجبل أحد، وعرضه -والله- كما بين مكة وقديد، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فتأكله النار مليارات السنين.وقد أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وقد كنا نعجب كيف هذا الضرس؟ وكيف هذا الجسم؟ حتى قال: ( وما بين كتفيه كما بين مكة وقديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً تقريباً، فيؤخذ هذا الرجل ويوضع في صندوق وتابوت من حديد، ويغلق عليه، ويرمى في زاوية من زوايا الشمس في ذلك العالم، والله لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلم، ولا يموت، وهو معذب، ملايين السنين في هذا العذاب.انظر البشرية مقبلة على ماذا، انظر المؤمنين الضائعين جهلوهم، وكفروهم، وأنسوهم لقاء ربهم، وأصبحت حياتهم كحياة غيرهم، لا هم لهم إلا الفرج والبطن.فهيا نعود، والله لا عودة ولو جاء عمر بن الخطاب والله لا يردهم، ولا يقوى عليهم في أي بلد.لا نرجع إلا إذا أردنا الله والدار الآخرة، فقط عرفنا الحياة ونجتمع في بيوت ربنا، فنبكي كل ليلة بنسائنا وأطفالنا، ونتعلم الكتاب والحكمة، وما يمضي زمان إلا ونحن ربانيون.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 15-09-2020 05:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (86)
الحلقة (93)




تفسير سورة البقرة (55)


إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء الذي خرج بأهله مهاجراً في سبيل الله، حتى استقر بهم بواد غير ذي زرع وتركهم فيه بأمر الله عز وجل، فلما كبر ابنه إسماعيل وصار غلاماً جاءه الأمر من ربه بذبحه، فأذعن الأب وامتثل الابن فأثابهما الله عز وجل بأن فدى الابن وأكرم الأب فكان خليل الرحمن، ثم أمرهما الله ببناء بيته الحرام، والنداء في الناس ليحجوا إليه، فجعل الله عز وجل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، وجعل هذه الأرض المباركة مبعثاً للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، فمع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى اسم إبراهيم وكنيته

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، عرفنا من هو إبراهيم، إنه الأب الرحيم، وهو مركب من كلمة: أب، ورحيم، إبراهيم باللغة السريانية: أب رحيم، (أب راهيم)، وقد عرفتم أنه خليل الرحمن، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، فالخلة نهاية الحب، فإذا تخلل الحب القلب وتعمق فيه كان المحبوب خليلاً.إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه يكنى بأبي الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده إلى خاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذريته، فهو -إذاً- أبو الأنبياء. وله كنية أخرى أيضاً فاز بها، وهي أنه: أبو الضيفان، والضيفان والضيوف بمعنى واحد، وقد عرفنا لم كني بهذه من قصة جاءت مبينة في كتاب الله، إذ نزل عليه جبريل وميكائيل وإسرافيل ضيوفاً، وهو لا يدري؛ إذ كانوا في صورة رجال حسان، فماذا فعل؟ ما كان منه إلا أن مال إلى عجل فذبحه وشواه، وقدمه مصلياً، وقال: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، فمن ثم كني بأبي الضيفان.

ذكر خبر إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه من ديار العراق من أرض بابل، وأنه قام بدعوة الله وحده، كانت الديار كلها تفيض بالشرك والكفر، يعبدون الكواكب، ووضعوا لها تماثيل وصوراً في الأرض، فقام بدعوة التوحيد، وكان من جراء ما دعا إليه وواجه به الظلم والظالمين أن حكم عليه بالإعدام، اتخذت الحكومة الكافرة البابلية حكماً بإعدام إبراهيم، ليس بالسيف ولا بالعصا، وإنما بإحراقه في النار، فقد أججوا النار وأوقدوها مدة من الزمان، حتى إن الطير لا يمر فوقها إلا احترق؛ لشدة اللهب المتصاعد منها، وتم لهم ما أرادوا، وجعلوه في معلاق كالمنجنيق؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار حتى يدفعوه، فوضعوه في هذه الآلة ورموا به من مسافة بعيدة، واعترضه جبريل عليه السلام قائلاً: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقبل أن يصل إلى بؤرة الجحيم صدر أمر الله جل جلاله وعظم سلطانه بالكلمة الآتية المسجلة في كتاب الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله! ما أتت النار إلى على كتافه في رجليه ويديه. وقالت العلماء: لولا قول الله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لكان البرد يقتله، والبرد كالحر، كلاهما إذا تجاوز مستواه قتل.

خروجه عليه السلام بهاجر وإسماعيل إلى مكة

وخرج من الفتنة، وودع الديار والأذى فهاجر في سبيل الله، فكانت هذه أول هجرة في الأرض لله عز وجل، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وخرج معه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه المؤمنة الصالحة، وابن أخيه لوط بن هاران، ودخلوا أرض الشام.وبإيجاز: لما أنجبت هاجر إسماعيل -ومعناه: سمع الله، أو: اسمع يا الله- أخذت الغيرة سارة وما أطاقت، وهي عاقر عقيم لا تلد، والجارية القبطية المصرية أنجبت ولداً، فبتدبير الله وقضائه أمر إبراهيم أن يرحل بهاجر إلى وادي مكة؛ ليضع هاجر وطفلها هناك، وما هي الواسطة التي ركباها؟ نترك هذا لله، وحسبنا أن نقول: الله أعلم، والله يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، فالذي رفع خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في لحظات، ومن المسجد الأقصى إلى دار السلام في لحظات أو دقائق معدودات لا يسأل كيف يفعل، إن الله على كل شيء قدير.إذاً: فتركها وإسماعيل وليس معهما سوى قليل من الخبز وإداوة فيها ماء أو شن فيه ماء قليل قليل، وقفل راجعاً، فنظرت إليه وهي وطفلها في واد خال ما به إنس ولا جن، قالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا!وكم وقفنا هذا الموقف، ولكن ما استفدنا، ما عندنا ذاك التوكل الذي هو سلم النجاة وجسر الخلاص من هذه الفتن في هذه الحياة، من فقد التوكل على الله هام وتاه في الحياة، أصبح يخاف كل شيء، ويرهب كل شيء، لكن كيف نحصل على هذا التوكل؟ لا بد أن تمتلئ قلوبنا بذكر الله ومراقبة الله، ومعرفة أسماء وصفات الله، منها أنه على كل شيء قدير، منها أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، منها أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، هذه المراقبة تجعل العبد يفوض أمره إليه ويتوكل عليه.ونحن لسنا مطالبين بأن نترك العمل، نعمل من أجل توفير الغذاء والكساء، من أجل أن نذكر الله ونشكره، لكن إذا تعارض هذا المطلوب مع معصية الله جب أن نتركه ولنطلب رضا الله عز وجل، فكم من مؤمن لا يسهل عليه أن يتوكل على الله فيغشى المعصية ويرتكب الكبيرة ويغضب الله ويسخطه، بحجة أنها الظروف أو الحال أو كذا أو كذا، وكل هذا ضعف في عقيدة التوكل، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].إبراهيم قالت له هاجر : إلى من تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا. وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( من ترك شيئاً لله -أي: من أجل الله- عوضه الله خيراً منه )، ما من عبد مؤمن يترك شيئاً لوجه الله إلا عوضه الله تعالى خيراً منه، فـهاجر حسبنا أن نذكر من شأنها أن جبريل هو الذي ضرب الأرض بعقبه ففاضت زمزم.وأما قبيلة جرهم فما إن رأت الماء في المنطقة حتى جاءت، وطلبت النزول في جوارها، وهذه أيضاً نذكر بها الغافلين، قبيلة جرهم جاءت من اليمن فلما رأوا الماء في المنطقة نزلوا واستأذنوا هاجر الغريبة، الوحيدة، الأنثى، التي ليس معها إلا الله ثم ذاك الطفل الصغير، استأذنوها: هل تسمحين لنا أن ننزل بجوارك من أجل هذا الماء؟ قالت عليها السلام: على شرط: ألا حق لكم في الماء، قالوا: نعم! أمة برجالها ونسائها وعتادها وعدتها يستأذنون من امرأة، وتقول: على شرط: ألا حق لكم في الماء، الماء مائي والبئر بئري، قالوا: نعم. فلو كان أولئك كهذا النوع فوالله ليلوُنَّ رأسها.أما بلغناكم عن سجون العرب والمسلمين ماذا يفعلون؟ إذاً: فسبحان الله! كلما نتأخر في الزمان تغلظ أكبادنا، ويشتد -والعياذ بالله- طغياننا، فالأولون كانوا أحسن حالاً، أما سمعتم محاكمة إبراهيم؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:60-63]، ودار حوار كامل، ولو كانوا من جماعة البلاشفة لقالوا: اركلوه في الأرض.إذاً: هذا الذي وجدنا أنفسنا فيه، والحمد لله أننا مؤمنون مسلمون، فهذه النعمة لا تعادلها أخرى، وإنما الجهل هو الذي هبط بنا ففقدنا نور الإيمان وبراهينه ودلائله في الحياة.

الوحي إلى إبراهيم بذبح إسماعيل

ولما كبر إسماعيل وأصبح غلاماً يدخل بيت أمه ويخرج أوحى الله تعالى إلى والده إبراهيم بأن يذبحه، بأن يتقرب به إلى الله، وما كان من إبراهيم إلا أن عرض الأمر على طفله الصغير: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وبالفعل أخذه إلى منى حيث تراق الدماء، وأضجعه على الأرض، ومديته في يده، ووضعها على عنقه وقال: باسم الله، فأصبحت كعود الخشب لا تقطع، وبالأمس أما تحولت النار إلى برد وسلام؟ إذاً: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام

وكبر إسماعيل، وجاء إبراهيم بأمر الله ليبني البيت، وهذه من الكلمات التي ابتلاه الله بها، وها نحن معه في هذه الساعة وهو يبني البيت، واسمعوا قول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [البقرة:127]، أي: الأسس التي بني عليها البيت.وهذه البيت بناه الله عز وجل بواسطة من شاء، والذي عليه أكثر أهل العلم والبصيرة أن الملائكة هم الذين بنوا هذا البيت، فآدم استوحش، وحق له أن يستوحش، بعد أن كان في أنس في الملكوت الأعلى نزل إلى هذا العالم المظلم، ليس فيه أحد، ما هناك إلا هو وزوجه حواء، فهذه الوحشة كيف تزول؟ فبنى الله تعالى له بيتاً، فإذا استوحش أو احتاج إلى شيء أو رغب في مطلوب فليأت بيت ربه وليسأل مولاه ليعطيه ما أراد وطلب، وأنجب آدم وحواء البنين والبنات، وأصبح البيت من تلك الأيام يحج ويقصد لطلب الحاجات، هذا بيت الرب جل جلاله، وكلما انهدم بسبب عواصف أو بسبب أمطار أو أودية يجدد في تلك الأحقاب من السنين، فإبراهيم عليه السلام نزل بمكان البيت، كان البيت عبارة عن تل من تراب، السيول عن يمينه وشماله قد هدمته، فأمره الله تعالى أن يجدد بناءه، واقرءوا هذه الآية: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، القواعد التي بني عليها أولاً من كذا ألف سنة، وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، أيضاً يساعده ويعاونه، اثنان فقط: إبراهيم وإسماعيل، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، يا ربنا! تقبل منها هذا الجهد، هذه الطاقة التي نبذلها في بناء بيتك، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ [البقرة:127] لأقوالنا وأدعيتنا، الْعَلِيمُ [البقرة:127] بحالنا، بضعفنا وقوتنا وقدرتنا، هكذا قالا توسلا إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته.والمسلمون من عهود وعصور ما يعرفون التوسل بأسماء الله وصفاته أبداً، لا يتوسلون إلا بحق فلان وجاه فلان، علماؤهم كجهالهم في أغلب ديارهم، لا يحفظون من أنواع الوسيلة إلا: اللهم إنا نسألك بحق فلان أو بجاه فلان، وهي وسيلة باطلة باطلة باطلة لا تنفع صاحبها قط، بل تورطه في الإعراض عن الله والإقبال على غيره عز وجل. إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت وهما في حاجة إلى عون وإلى مدد وإلى مساعدة، فتوسلا إلى الله بماذا؟ هل بحق نوح وأولاده؟ لقد قالا: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، توسلا إلى الله باسمه وبصفته. فلهذا بعد هذه الأنوار التي لاحت في أفق العالم الإسلامي لوجود عوامل، منها: انتشار الكتاب، وانتشار العلماء، وإلا فما كان آباؤنا وأمهاتنا يعرفون وسيلة إلا: بحق فلان وجاه فلان، يدعون الليل والنهار ولا يستجاب لهم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127] يقولان: رَبَّنَا [البقرة:127]، أي: يا ربنا، تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، فلكونه يسمع ويعلم يستجيب ويتقبل.
يتبع



الساعة الآن : 11:30 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 808.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 806.63 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.22%)]