ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   فتاوى وأحكام منوعة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=109)
-   -   الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=260729)

ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:18 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (81)
صـ457 إلى صـ 471



المسألة الحادية عشرة

وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية ; فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام لا خاص ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة ; فهو فاسد باطل .

ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع .

[ ص: 458 ] وما روي " أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل .

وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه .

وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 459 ] ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث ; فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه .

وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ; وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ; لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه ; فذلك بالنسبة إلى العلم [ ص: 460 ] المستفاد من العادات ، لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، قال : " ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه " ، هذا ما قال ، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها .

فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :

أحدهما : أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها ، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين ; فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة : أن لا تأكل مني فإني ليهودي .

وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة ، فليلة الدخول وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ; فامتنع وخرج ، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج .

[ ص: 461 ] وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ; هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ; فيمتنع منه .

وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه : فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم ; فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث ; فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك القول ، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار .

وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها ; فأحياه الله وأخبر بقاتله ; فرتب عليه الحكم بالقصاص ، وفي قصة الخضر في خرق [ ص: 462 ] السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى ، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .

والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب ; فكذلك هاهنا ; إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي ; فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك ، [ ص: 463 ] ومن فرق بينهما ; فقد أبعد .

فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا ، وعملا بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :

أحدهما : الاعتبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيلحق به في القياس ما كان في معناه ، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به من حيث كان معجزا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا ، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء ، بناء على ما ثبت عنده من العادات ، أما قتل [ ص: 464 ] [ ص: 465 ] [ ص: 466 ] الغلام ; فلا يمكن القول به ، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند فلان .

والثاني : على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس ، ولكن إن قدرنا عدمه ; فنقول : إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ، فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند [ ص: 467 ] من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ; فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .

ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال : " خوفا أن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه " ; فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ; فلا حرج .

[ ص: 468 ] لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر ، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ; فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ; فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة [ ص: 469 ] في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه ; فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت ; فجعلها الله شهادتين ; فما ظنك بآحاد الأمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك ، والنمط واحد ; فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من الشيطان ، وإذا ثبت هذا ; فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة .

وما ذكر من تكليم الشجرة ; فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم ، كما لو وجد في الفلاة صيدا ; فقال له : إني مملوك ، وما أشبه ذلك ، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله ، أو ظن طعام بموضع آخر ، أو غير ذلك ، وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير [ ص: 470 ] ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى ; فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله ; فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به ، فلا حرج عليه ، ولا لوم ; إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض ، كيف وهي نتائج عن اتباعه ; فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع ، أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة .

وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين ; إذ قال عليه الصلاة والسلام : إن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ، وإن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ; فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه ، ومع ذلك ; فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها . والجواب على السؤال الثاني أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها ; [ ص: 471 ] فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ، إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به .

وأيضا ; فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة ، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة ، كمن يقال له : " لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله ، أو " افعل كذا " ، وهو منهي عنه ، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة ، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .

فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها .

قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها مع الموافقة ; فليس بمنفي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:18 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (82)
صـ472 إلى صـ 481


فصل

إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط ; فأين يسوغ العمل على وفقها ؟

فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم ، وذلك على أوجه :

أحدها : أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم .

والثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل [ ص: 472 ] على نفسه ما لعله يخاف عاقبته ; فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره ، والكرامة كما أنها خصوصية ، كذلك هي فتنة واختبار ، لينظر كيف تعملون ، وقد تقدم ذكره ، فإذا عرضت حاجة ، أو كان لذلك سبب يقتضيه ; فلا بأس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه " يراهم من وراء ظهره " لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر [ ص: 473 ] كراماته ومعجزاته ; فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز ; لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه ، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ، ولا يخلو إخباره من فوائد ، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به ، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا .

والثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا ، كما روي عن أبي جعفر بن تركان ; قال : كنت أجالس الفقراء ; ففتح علي بدينار ، فأردت أن أدفعه إليهم ، ثم قلت في نفسي : لعلي أحتاج إليه ، فهاج بي وجع [ ص: 474 ] الضرس فقلعت سنا ، فوجعت الأخرى حتى قلعتها ; فهتف بي هاتف : إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة .

وعن الروذباري قال : في استقصاء في أمر الطهارة ; فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي ، فقلت : يا رب ! عفوك ، فسمعت هاتفا يقول : العفو في العلم ، فزال عني ذلك .

وعلى الجملة ; فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق ، وهو المطلوب ، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته ، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر ، وهي :[ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة

إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء :

منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة .

والثاني : أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه .

والثالث : أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " .

وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا [ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " .

هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية .

وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له : أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان .

[ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا .

وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ، [ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟

والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب [ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها .

وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] .

وقال : هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] .

إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .

[ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة .

وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:20 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (83)
صـ482 إلى صـ 487

فصل

ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة ; فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها ، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام ; فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا ، فلا يمكن فيها غير ذلك ، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه ، وقال له ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر [ الصافات : 102 ] ، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم .

[ ص: 482 ] وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجاري العادات ، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا ; ساغت في نفسها ، وإلا فلا ; كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له ، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها ، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس ، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف ، وهو يقول : " أنا ربك " ، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له : " أنا ربك " ، أو يرى ويسمع من يقول له : قد أحللت لك المحرمات ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال ، ويقاس على هذا ما سواه ، وبالله التوفيق .
[ ص: 483 ] المسألة الثالثة عشرة

لما كان التكليف مبنيا على استقراء عوائد المكلفين ; وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف .

فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون ، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ، ولتعتبر بشريعتنا ; فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد ، وعلى مقدار واحد ، وعلى ترتيب واحد ، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر ، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك ، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه ، ولو اختلفت العوائد في الموجودات ; لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب ; فلا تكون الشريعة على ما هي عليه ، وذلك باطل .

والثاني : أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة ; كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما [ ص: 484 ] فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال ، وأن سنة الله لا تبديل لها ، وأن لا تبديل لخلق الله ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا ، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال ; فإن الخلاف بينهما محال .

والثالث : أنه لولا أن اطراد العادات معلوم ; لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه ; لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي ، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله ; فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق ، فلو كانت العادة غير معلومة ، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا ; لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي ، لكن العلم حاصل ; فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا ، وهو المطلوب .

[ ص: 485 ] فإن قيل : هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم ، بل إن كان فمظنون ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده ; لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر ، والإمداد ممكن أن لا يوجد ، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم ; فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن ، وعدمه كذلك ، فإذا كان كذلك ; فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده ، هل هذا إلا عين المحال ؟

والثاني : إن خوارق العادات في الوجود غير قليل ، بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك ، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات ، والوقوع زائد على مجرد الإمكان ، فهو أقوى في الدلالة ، فإذا لا يصح أن يكون مجاري العادات معلومة البتة .

فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا ، وإنما اندفع بالسمع القطعي ، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة ; لم يفد حكم الجواز العقلي .

ولا يقال : إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال .

لأنا نقول : إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد ، وليس كذلك هنا ، بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه في أصل الإمكان ، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع ، وكم من جائز غير واقع ؟ !

وكذلك نقول : العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم [ ص: 486 ] ويمكن أن يوجد ; فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة ، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد ; فواجب وجوده ، ومحال استمرار عدمه ، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ; ولذلك قالوا : من الجائز تنعيم من مات على الكفر ، وتعذيب من مات على الإسلام ، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون ، وأن المسلمين هم المنعمون ; فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد ، كذلك هاهنا ; فالجواز من حيث نفس الجائز ، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج ; فلا يتعارضان .

وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته ، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية ، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا في العمل على مقتضى العادات البتة ، ولولا استقرار العلم بالعادات ; لما ظهرت الخوارق كما تقدم ، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات ، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى ، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك ; دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي ، أو ولاية الولي إن لم تقترن ، أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية ، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال ; غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال ، [ ص: 487 ] وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية ، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي ، والعمل بخبر الواحد قطعي ، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي ، إلى أشباه ذلك ، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [ به ] ظنيا ، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا ، وكذلك سائر المسائل ، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية ، وهذا كله ظاهر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:21 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (84)
صـ488 إلى صـ 495

المسألة الرابعة عشرة

العوائد المستمرة ضربان :

أحدهما : العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا ، أو نهى عنها كراهة أو تحريما ، أو أذن فيها فعلا وتركا .

والضرب الثاني : هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي .

فأما الأول ; فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية ، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة ، وفي الأمر بإزالة النجاسات ، وطهارة التأهب للمناجاة ، وستر العورات ، والنهي عن الطواف بالبيت على العري ، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس ، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة ; فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع ; فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها ; فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا ، حتى يقال مثلا : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ، أو إن كان كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح ; فلنجزه ، أو غير ذلك ، إذ لو صح مثل هذا لكان [ ص: 489 ] نسخا للأحكام المستقرة المستمرة ، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل ، فرفع العوائد الشرعية باطل .

وأما الثاني ; فقد تكون تلك العوائد ثابتة ، وقد تتبدل ، ومع ذلك ; فهي أسباب لأحكام تترتب عليها .

فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب ، والوقاع والنظر ، والكلام والبطش والمشي ، وأشباه ذلك ، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع ، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما .

والمتبدلة :

منها : ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح ، وبالعكس ، مثل كشف الرأس ; فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ; فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ; فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح .

ومنها : ما يختلف في التعبير عن المقاصد ; فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة أخرى ، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم ، أو [ ص: 490 ] بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور ، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني ، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما ، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر ، أو كان مشتركا فاختص ، وما أشبه ذلك ، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده ، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق ، كناية وتصريحا .

ومنها : ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها ; كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول ، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة ، أو بالعكس ، أو إلى أجل كذا دون غيره ; فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه .

[ ص: 491 ] ومنها : ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف ، كالبلوغ ; فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض ، أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض ، وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لذات المرأة أو قراباتها ، أو نحو ذلك ; فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الانتقال .

ومنها : ما يكون في أمور خارقة للعادة ; كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة ، فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة ، بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى ; كالبائل أو المتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم ; فإنه إن لم يصر كذلك ; فالحكم للعادة العامة ، وقد يكون الاختلاف من أوجه غير هذه ، ومع ذلك ; فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات ، وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة ، جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه .
فصل

واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ; فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب ; لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي ، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك ، لم يحتج في الشرع إلى مزيد ، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها ; كما في البلوغ مثلا ، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف ; فسقوط [ ص: 492 ] التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد ، أو في الشواهد ، وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة ، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا ، بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في حكم ، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل ; فالقول قوله بإطلاق لأنه مدعى عليه ، وهكذا سائر الأمثلة ; فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق ، والله أعلم .
[ ص: 493 ] المسألة الخامسة عشرة

العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعا ، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية ; أي : سواء كانت مقررة بالدليل شرعا أمرا أو نهيا أو إذنا أم لا .

أما المقررة بالدليل ; فأمرها ظاهر ، وأما غيرها ; فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك ، فالعادة جرت بأن الزجر سبب الانكفاف عن المخالفة ; كقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .

فلو لم تعتبر العادة شرعا ; لم ينحتم القصاص ولم يشرع ; إذ كان يكون شرعا لغير فائدة ، وذلك مردود بقوله : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .

وكذلك البذر سبب لنبات الزرع ، والنكاح سبب للنسل ، والتجارة سبب لنماء المال عادة ; كقوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم [ البقرة : 187 ] .

وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .

وما أشبه ذلك مما يدل على وقوع المسببات عن أسبابها دائما ، فلو لم [ ص: 494 ] تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب ; لكان خلافا للدليل القاطع ، فكان ما أدى إليه باطلا .

ووجه ثان ، وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات ; فإنه جار هاهنا .

ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح ; لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد ; لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد ; دل [ ص: 495 ] على جريان المصالح على ذلك ; لأن أصل التشريع سبب المصالح ، والتشريع دائم كما تقدم ; فالمصالح كذلك ، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع .

ووجه رابع ، وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق ، وهو غير جائز أو غير واقع ، وذلك أن الخطاب ; إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف ، أو لا ; فإن اعتبر فهو ما أردنا ، وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر ، وعلى غير العالم والقادر ، وعلى من له مانع ومن لا مانع له ، وذلك عين تكليف ما لا يطاق ، والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:22 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (85)
صـ496 إلى صـ 501

فصل

وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا ; فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة ، وإنما ينظر في انخراقها .

ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي ; فيخلفها في الموضع حالة ; إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس ، أو من غير ذلك ، فإن كانت منخرقة بعذر ; فالموضع للرخصة ، وإن كانت من غير ذلك ; فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي ، كما في البائل من جرح صار معتادا ; فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم ، وإما إلى غير عادة ، أو [ ص: 496 ] إلى عادة لا تخرم العادة الأولى ، فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى ، فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص ، كالمرض المعتاد ، والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك ، وإن انخرقت إلى غير معتاد ; فهل يكون لها حكمها في نفسها ، أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ؟

ولا بد من تمثيلها أولا ، ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق .

فمن ذلك توقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن إكراه من منع الزكاة ، وقوله لمن كتب له بذلك : " دعوه " .

وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله ; فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره ، والأب عارف بما يراد من ابنه .

[ ص: 497 ] وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث .

وحديث أبي يزيد مع خديمه لما حضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي ; فقالا للخديم : كل معنا . فقال : أنا صائم . فقال أبو تراب : كل ولك أجر صوم شهر ، فأبى . فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى . فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله . فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة ، [ ص: 498 ] وقطعت يده .

ومنه دخول البرية بلا زاد ، ودخول الأرض المسبعة ، وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة .

فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها ، وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم ، كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم ، وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على ما يسوغ شرعا .

وعند ذلك ; فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريبا من جنس العادي ، أو لا يكون من جنسه .

فإن كان الأول ; لحق بجنس أحكام العادات .

[ ص: 499 ] مثاله الأمر بالإفطار ; فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه ، وهم الأكثر ; فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ، ومثل هذا مخوف العاقبة ، لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته ، وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة ، لعله كان نوعا من الاجتهاد ; إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ; ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به ، وكذلك وقع ; فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة ، بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله ، حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين .

ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط ; فلذلك سأله الحجاج عن ابنه ، والصدق من عزائم العلم ، وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها ، بل هو أعظم أجرا ; كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا ; فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ، ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو ؟ وقد قيل : " عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك ; فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك ; فإنه يضرك " ، وهو أصل صحيح شرعي .

ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم ; فإنه عقد على نفسه أن لا يعتمد على غير الله ; فلم يترخص ، وهو أصل صحيح ، ودل على [ ص: 500 ] خصوص مسألته قوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، ووكالة الله أعظم من وكالة غيره ، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم [ هود : 55 ] الآية ، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء ; لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

وأيضا ; فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسألوا أحدا شيئا ; فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ; فقال أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه ، وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا . قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة . . . إلى آخر الحكاية .

وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم ; إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه ; فليس بجار على غير الأصل الشرعي ، ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال : " فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ; فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا " .

وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد ; فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء ; فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها ; فمن كان هذا حاله ; فالأسباب عنده [ ص: 501 ] كعدمها ، فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ، [ ولا رجاء في مرجو مخلوق ] ; إذ لا مخوف ولا مرجو إلا الله ; فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك ، وإن قارب السبع هلك ، وأما إذا لم يحصل ذلك ; فلا ، على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والاقتيات بالنبات ، وكل هذا راجع إلى حكم عادي .

ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم ، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية ، بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:23 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (86)
صـ502 إلى صـ 510

فصل

وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي ; كالمكاشفة ; فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية ، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس ؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس ، وإن كانت مخالفة في الظاهر ; لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة .

والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا ، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما ، وقد مر ما يستدل به على ذلك ، ومن الدليل عليه أيضا أوجه :

أحدها : أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها [ ص: 502 ] قاعدة ، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت ; لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة ; فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد ; فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت ، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب ولا عقاب ، ولا إكرام ولا إهانة ، ولا حقن دم ولا إهداره ، ولا إنفاذ حكم من حاكم ، وما كان هكذا ، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح ، وهو الذي انبنت الشريعة عليه .

والثاني : أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه ; لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين ، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم ; فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم ، ولا أيضا تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم ; إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين ، أعني في نصب أحكام العامة ; إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه ، أو [ كشف ] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة ، ولا أيضا للوليين إذا ترافقا إلى الحاكم في قضية .

وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال ، كيف وهم يقولون : إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه ; فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان ; فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشروع ; لتطرق [ ص: 503 ] الاحتمالات .

وهذا هو الوجه الثالث .

والرابع : أن أولى الخلق بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك ; إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد إلى غيره وما سوى ذلك ، فقد أنكر على من قال له : " يحل الله لنبيه ما شاء " ، ومن قال : " إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . فغضب وقال : " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " .

وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه ، ولم يثبت أنه مس [ ص: 504 ] بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين ، وكانت النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط ، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها ، وقد مر من هذا أشياء ، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثن وليا من غيره ، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق ، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وهم الأولياء حقا ، والفضلاء صدقا .

وفي قصة الربيع بيان لهذا ; حيث قال وليها أو من كان : والله لا تكسر ثنيتها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : كتاب الله القصاص .

[ ص: 505 ] ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم ، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله ; فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله ، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي وهو العفو ، والعفو منتهض في ظواهر الحكم سببا لإسقاط القصاص .

والخامس : أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية ; فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر ، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات ، ونقض لمصالحها الموضوعات ، ألا ترى أن رسول الله قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم ، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام ، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار ; فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، فمثله يلغى في جريان أحكام الخوارق على أصحابها ; حتى لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى ، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى - رضي الله عنه - فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب [ ص: 506 ] أمورا يطلب بالتحرز منها شرعا ; فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور ، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة ، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم ، وهذا [ كله ] تعريض لهم إلى سوء المقالة .

وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا برآء من هذه الخوارق المنخرقة ، غير أن الكلام جرى إلى الخوض في هذا المعنى ; فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا ، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي ، المحافظون على اتباعها ، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق ، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل ; حتى يتقرر بحول الله ما يفهم به عنهم مقاصدهم ، وما توزن به أحوالهم ، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى ، نفعهم الله ونفع بهم .

ثم نرجع إلى تمام المسألة ; فنقول :

وليس الاطلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية ، والقدوة في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ما جرى عليه السلف الصالح ، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة ، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما ; لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، ولا غاية وراء هذا ، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر ، ويتوقى ما العادة أن يتوقى ، ولم يكن ذلك [ ص: 507 ] نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها ، بل هي أعلى .

وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله ; فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها .

وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكل ، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب ، ومع ذلك فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي ندبوا إليها ، ولم يتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد ، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها ; لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه ، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : قيدها وتوكل .

وقد كان المكملون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدبا بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونظرا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد ، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره ، وأما قصة الخضر عليه السلام ، وقوله : وما فعلته عن أمري [ الكهف : 82 ] ، فيظهر به أنه نبي ، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول ، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال ، وإن سلم ; فهي قضية عين ولأمر ما ، وليست جارية على شرعنا ، والدليل على ذلك [ ص: 508 ] أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم ، وإن علم أنه طبع كافرا ، وأنه لا يؤمن أبدا ، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وإن أذن له من عالم الغيب في ذلك ; لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي ، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى ، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخر لا يعلمها هو .

فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه ، بل هو على ضربين :

أحدهما :

ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها ; فهذا لا يصح العمل عليه البتة .

والثاني :

ما لم يخالف [ العمل ] به شيئا من الظواهر ، أو إن ظهر منه خلاف ; فيرجع بالنظر الصحيح إليها ; فهذا يسوغ العمل عليه ، وقد تقدم بيانه ، فإذا تقرر هذا الطريق ; فهو الصواب ، وعليه يربي المربي ، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ ، وأولى برسوخ القدم ، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدى به فيه ، والله أعلم .
[ ص: 509 ] المسألة السادسة عشرة

العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود :

أحدهما : العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال ; كالأكل والشرب ، والفرح والحزن ، والنوم واليقظة ، والميل إلى الملائم ، والنفور عن المنافر ، وتناول الطيبات والمستلذات ، واجتناب المؤلمات والخبائث ، وما أشبه ذلك .

والثاني : العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال ; كهيئات اللباس والمسكن ، واللين في الشدة والشدة فيه ، والبطء والسرعة في الأمور ، والأناة والاستعجال ، وما كان نحو ذلك .

فأما الأول ; فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية ; للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم ; فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا ، كانت العادة وجودية أو شرعية .

وأما الثاني ; فلا يصح أن يقضى به على ما تقدم البتة ، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج ، فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة ، وكذلك في المستقبل ، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية .

[ ص: 510 ] وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق ، حسبما بين ذلك الاستقراء ، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا ; فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة ، وأما الضرب الثاني ; فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية ، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم ، فإذا كان كذلك ; لم يصح أن يحكم بالثانية على من مضى لاحتمال التبدل والتخلف ، بخلاف الأولى .

وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون ، لتكون حجة في الآخرين ، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها ، ورد القضاء بالعامة إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق ، ولا فاسد بإطلاق ، بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم ، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه : هل يلحق بالأول فيكون حجة ، أم لا فلا يكون حجة ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:25 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (87)
صـ511 إلى صـ 524

المسألة السابعة عشرة

المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها ، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة ، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها .

والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها ; كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد ، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي ; فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ، ولا بحد معلوم يخصه ; فإن كان كذلك ، فهو راجع إلى أمر ضروري ، والاستقراء يبين ذلك ; فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه .

إلا أن المصالح والمفاسد ضربان :

أحدهما : ما به صلاح العالم أو فساده ; كإحياء النفس في المصالح ، وقتلها في المفاسد .

والثاني : ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد ، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب ، وكذلك الأول على مراتب أيضا ، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ، ثم النفس ، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل [ ص: 512 ] والمال ; فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به ، وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها جاز لها ذلك ، وهكذا سائرها .

ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل [ به ] على مراتب ; فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة ، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور ; فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا ; كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين ، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب ، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا ; فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية ، والمعصية صغيرة من الصغائر ، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا ، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد ، بل لكل منها مرتبة تليق بها .
[ ص: 513 ] المسألة الثامنة عشرة

الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني .

أما الأول ; فيدل عليه أمور :

منها الاستقراء ; فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة ، إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن [ ص: 514 ] طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ; كالصوم ، والحج ، وغيرهما ، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله ، والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص ; إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص ، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم ; إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا ، وليس كذلك باتفاق ، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود ، وأن غيره غير مقصود شرعا .

والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد ; لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب [ ص: 515 ] العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه ; دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ; إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور ; فلا لوم على من اتبعه ، لكن ذلك قليل ; فليس بأصل ، وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع .

وأيضا ; فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له ; كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره ، والجمع بين الصلاتين ، وما أشبه ذلك .

وإلى هذا ; فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة [ ص: 516 ] الخصوص ; كقوله : " سها فسجد " ، وقوله : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ، ونهيه عن " الصلاة طرفي النهار " ، وعلل ذلك بأن [ ص: 517 ] الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان .

وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها ; فتجب فيها النية قياسا على التيمم ، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع ، بل هو من المسمى شبها ، بحيث لا يتفق على القول به القائلون ، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه ، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة ; فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه [ ص: 518 ] الوقوف عند ما حد ، دون التعدي إلى غيره ; لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ، فكان أصلا فيها .

والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ; فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك ، ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في [ ص: 519 ] عدم اهتدائهم ; فقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] .

وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] .

والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق ، والله أعلم ، فإذا ثبت هذا ; لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع ، وهو معنى التعبد ، ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب ، وأجرى على طريقة السلف الصالح ، وهو رأي مالك رحمه الله ; إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك ، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه ، والتسليم كذلك ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات ، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله ; فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه ، وركنا يلجأ إليه .
[ ص: 520 ] فصل

وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ; فلأمور :

أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .

وقال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .

وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان .

وقال : لا ضرر ولا ضرار .

[ ص: 521 ] وقال : القاتل لا يرث .

[ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر .

وقال : كل مسكر حرام .

وفي القرآن : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [ المائدة : 91 ] [ ص: 523 ] الآية .

إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني .

والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله .

والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:25 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (88)
صـ525 إلى صـ 538



فصل

فإذا تقرر هذا ، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني ; فإذا وجد فيها التعبد ; فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص ; كطلب الصداق في النكاح ، والذبح في [ المحل المخصوص في ] الحيوان المأكول ، والفروض المقدرة في المواريث ، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية ; حتى يقاس عليها غيرها ; فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك ; لتمييز النكاح عن السفاح ، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت ، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنها أمور جملية ; كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات ، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك .

فإن قيل : وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا ؟ [ ص: 526 ] فالجواب أن يقال : أما أمور التعبدات ; فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان ، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ; قالت للسائلة : " أحرورية أنت ؟ " إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا ; إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ، ثم قالت : كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة ، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع : " هي السنة يا ابن أخي " ، وهو كثير ، ومعنى هذا التعليل أن لا علة .

وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا ; فلها معنى مفهوم ، وهو ضبط وجوه المصالح ، إذ لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط ، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي ، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل ، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة ، وأسبابا معلومة لا تتعدى ; كالثمانين في القذف ، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان ، وخص قطع اليد بالكوع وفي [ ص: 527 ] النصاب المعين ، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة ، وكذلك الأشهر والقروء في العدد ، والنصاب والحول في الزكاة ، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين ، وهو المعبر عنه بالسرائر ; كالطهارة للصلاة ، والصوم ، والحيض ، والطهر ، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر ; فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه .

وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع ; لكن له نظران :

نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه ، كما في مذهب مالك مثلا ، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف ; فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه .

[ ص: 528 ] ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه ، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليه ، فليجر بحسب الإمكان في مظانه ، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه ، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح ; فلا بد من اعتباره ، ومن الناس من توسط بنظر ثالث ; فخص هذا المختلف فيه بالظاهر ، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته .
[ ص: 529 ] المسألة التاسعة عشرة

كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد ; فلا تفريع فيه ، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد ; فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه :

أحدها : أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو مكلف ، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه ، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم ; فإنه عبد مكلف ، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء ، بخلاف المصلحة ; فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين ، وإذا كان كذلك ; فالتعبد لازم لا خيرة فيه ، واعتبار المصلحة فيه الخيرة ، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا ، وإذا وقع الأمر [ ص: 530 ] والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا ; فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق ، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق ، خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح .

وأيضا ; فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين ; فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل ; يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا ; فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض ، فالأمران على مذهبهم لازمان ، ولا يقول أحد منهم : إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح ، بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد .

والثاني : أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك ، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم ; فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن ; لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا ، إذ هو قطع على غيب بلا دليل ، وذلك غير جائز ; فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم ; فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد .

[ ص: 531 ] فإن قيل : لو جاز ذلك لم نقض بالتعدي على حال ، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى ; لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها ، فإذا أمكن ذلك ; لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك ; فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة .

فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد ; لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا ، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة ، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ، ولم نكلف أن ننفي ما عداها ; [ ص: 532 ] فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم ، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة ، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية ، أو صالح لكونه علة ، كاف في تعدي الحكم به .

وأيضا ; فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل ، وجميعها معلوم ; فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه ، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر ، فإذا ثبت هذا ، لم يبق للسؤال مورد ; فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ، ولا علينا .

والوجه الثالث ; أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين :

أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة ; كالإجماع ، والنص ، والإشارة ، والسبر ، والمناسبة ، وغيرها . وهذا القسم هو الظاهر الذي [ ص: 533 ] نعلل به ، ونقول : إن شرعية الأحكام لأجله .

والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطلع عليه إلا بالوحي ; كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام ، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو ، وقذف الرعب ، والقحط ، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي .

وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف ; لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر ; إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة ، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل ; فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل ، وإذ [ ص: 534 ] ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان .

والرابع : أن السائل إذا قال للحاكم : لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان ؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك ; كان مصيبا ، كما أنه إذا قال : لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم ; كان مصيبا أيضا ، والأول جواب التعبد المحض ، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى ، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما ; جاز القصد إلى التعبد ، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا ، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد ، فلما صح القصد مطلقا ; صح المقصود له مطلقا ، وذلك جهة التعبد ، وهو المطلوب .

والخامس : أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع ، لا مجال للعقل فيه ، بناء على قاعدة نفي [ ص: 535 ] التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما ; فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا ; فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ، فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات ، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا .

ومن هنا يقول العلماء : إن من التكاليف " ما هو حق لله خاصة " ، وهو راجع إلى التعبد ، وما هو حق للعبد ، ويقولون في هذا الثاني : " إن فيه حقا لله " ، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما ، وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه ، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة ، وإن كانت براءة رحمها حقا له ، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم ; فقد صار إذا كل تكليف حقا لله ، فإن ما هو لله ; فهو لله ، وما كان للعبد ; فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله ; إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا .

[ ص: 536 ] ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء : " إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق " ، علمت مفسدة النهي أم لا ، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا ، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه ، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي ، فإذا لم يحصل ; فالعمل باطل بإطلاق ، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد ، وإذا لم يخل ; فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات .

إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية ، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد ; كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ، ومنها ما لا يصح إلا بنية ، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله ; كالزكاة ، والذبائح ، والصيد ، والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها ; فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها ، وكذلك التروك إذا تركت بنية ، وهذا متفق عليه ، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق ، لما حصل الثواب فيها أصلا ; لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها ، والمأمور به متقرب إلى الله به ، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة ، وكل عبادة مفتقرة إلى نية ; فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية .

[ ص: 537 ] فإن قيل : إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب ، لا من كونها طاعة متقربا بها .

قيل : هذا غير صحيح ; إذ لو كان كذلك ; لصح الثواب بدون النية ; لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية ، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية .

وأيضا ; فلو حصل الثواب بغير نية ، لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها ، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد ; فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة ، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه ، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ; ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة .

وهو دليل سادس في المسألة .

فإن قيل : فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية ، وأن لا يصح عمل من لم ينو ، أو يكون عاصيا .

قيل : قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب ، وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة ، فما كان المغلب فيه التعبد ; فمسلم ذلك فيه ، وما غلب فيه جهة العبد ; فحق العبد يحصل بغير نية ; فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله ، فإن راعى جهة الأمر ; فهو من تلك الجهة عبادة ، فلا بد فيه من نية ; أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها ، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة ; كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم ، أو أقرض بقصد دنيوي ، وكذلك البيع والشراء ، والأكل والشرب ، والنكاح والطلاق ، وغيرها . ومن هنا كان السلف - رضي الله عنهم - يثابرون على [ ص: 538 ] إحضار النيات في الأعمال ، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:26 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (89)
صـ539 إلى صـ 547



فصل

ويتبين بهذا أمور ، منها أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى ، وهو جهة التعبد ; فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق ، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا ; فليس كذلك بإطلاق ، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية .

كما أن كل حكم شرعي ; ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا ، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ، ولذلك قال في الحديث : حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم ، وعادتهم في تفسير " حق [ ص: 539 ] الله " ; أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف ، كان له معنى معقول أو غير معقول ، " وحق العبد " ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا ، فإن كان من المصالح الأخروية ; فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ، ومعنى " التعبد " عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص ، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله ، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد .
فصل

والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام :

أحدها : ما هو حق لله خالصا كالعبادات ، وأصله التعبد كما تقدم ، فإذا طابق الفعل الأمر ; صح ، وإلا ; فلا .

والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى ، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس ، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى ، فإذا وقع طابق قصد الشارع وإن لا ; خالف ، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل ; فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل .

[ ص: 540 ] وأيضا ; فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع ; فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه [ وإن لم تحصل البراءة ] ، وعدم تحقق البراءة [ منه إن لم تحصل المطابقة ، وعدم تحقيق البراءة ] موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق ، لا بفعل غير مطابق .

والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر ; فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق ، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع ; إما بأصله ; كزيادة صلاة سادسة ، أو ترك الصلاة ، وإما بوصفه ; كقراءة القرآن في الركوع والسجود ، والصلاة في الأوقات المكروهة ; إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ، ولأمر به أو أذن فيه ; فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه .

فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع ، أو المأمور به من غير المطابق ; فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده ، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم ، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك ; كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك ، وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح ; فيجري على حكمه ، وقد مر أن هذا قليل ، وأن التعبد هو العمدة .

والثاني : ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد ، والمغلب فيه حق الله ، وحكمه راجع إلى الأول ; لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا ; فهو كغير المعتبر ، إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر ، والفرض خلافه كقتل النفس ; إذ ليس [ ص: 541 ] للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها ، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع ; فذلك للأمور الثلاثة الأول ، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب .

والثالث : ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب ، وأصله معقولية المعنى ، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي ; فلا إشكال في الصحة ; لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له ، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر ; أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد ، فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع ، على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ ، أو لا ; فإن فرض غير حاصل ; فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل ، وإن حصل - ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف - ; صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ، ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري ; لأن النهي لأجل فوت العتق ، فإذا حصل ; فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك ، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق [ ص: 542 ] الغير إذا أسقط ذو الحق حقه ; لأن النهي قد فرضناه لحق العبد ، فإذا رضي بإسقاطه ; فله ذلك ، وأمثلة هذا القسم كثيرة ، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع ; فذلك لأحد الأمور الثلاثة .
[ ص: 543 ] المسألة العشرون

لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ، ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها ، وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى ، حسبما بين لنا الكتاب والسنة ; اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة ، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا .

وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] .

وقوله : هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] .

[ ص: 544 ] وقال : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة : 152 ] .

وقوله : فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [ النحل : 114 ] .

وقال : لئن شكرتم لأزيدنكم [ إبراهيم : 7 ] الآية .

والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم ، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية ، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .

ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات .

أما العبادات ; فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة ; فهي مصروفة إليه .

وأما العادات ; فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات ; فقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] الآية .

وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة : 87 ] الآية .

فنهى عن التحريم ، وجعله تعديا على حق الله تعالى ، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام : من رغب عن سنتي ; فليس مني .

[ ص: 545 ] وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام [ المائدة : 103 ] .

وقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ الأنعام : 138 ] الآية .

فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها ، منها مجرد التحريم ، وهو المقصود هاهنا .

وأيضا ; ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع ; لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ، ولا خيرة فيه للعبد ; فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير ; حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات ، لا في [ ص: 546 ] الأمر الكلي ، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق ; إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف .

فإذا ; العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين :

أحدهما : من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات .

والثاني : من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق ، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة ; فصار الجميع ثلاثة أقسام .

[ ص: 547 ] وفيها أيضا حق للعبد من وجهين :

أحدهما : جهة الدار الآخرة ، وهو كونه مجازى عليه بالنعيم ، موقى بسببه عذاب الجحيم .

والثاني : جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا ، لكن بحسبه في خاصة نفسه ، كما قال تعالى : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:28 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (90)
صـ7 إلى صـ 22



بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الثاني من الكتاب

فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى :

إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر .

[ ص: 8 ] ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة ، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب ، وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام ، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ، ويقصد به شيء آخر فلا يكون [ ص: 9 ] كذلك ، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم .

وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية ، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون .

وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .

فاعبد الله مخلصا له الدين [ الزمر : 2 ] .

إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .

وقال : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ التوبة : 54 ] .

وقال : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ] بعد قوله : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [ البقرة : 231 ] .

وقال : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] .

وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلى قوله : [ ص: 10 ] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] .

وفي الحديث : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلى آخره .

وقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .

وفيه : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي .

وتصديقه قول الله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .

وأباح عليه الصلاة والسلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو [ ص: 11 ] [ ص: 12 ] يصد له ، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه .

لا يقال : إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال ، والدليل على ذلك أشياء ، منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا ، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع ، إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله ، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به ; لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه ، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح ، وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء ، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ، ويتسلسل ، أو يكون الإكراه [ ص: 13 ] عبثا ، وكلاهما محال ، أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب .

ومنها أن الأعمال ضربان : عادات ، وعبادات .

فأما العادات فقد قال الفقهاء : إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية ، بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها ، فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات .

وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا ، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها ، فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء ، وكذلك [ ص: 14 ] الصوم والزكاة ، وهي عبادات .

وألزموا الهازل العتق والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة .

وفي الحديث : ثلاث جدهن وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة .

[ ص: 15 ] وفي حديث آخر : من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق والعتاق والنكاح والنذر .

[ ص: 16 ] ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به ، وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر - أن صومه صحيح ، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم - أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة .

وأصل مسألة الرفض مختلف فيها ، فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة .

ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا ، وهو النظر [ ص: 17 ] الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به .

فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء ، فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية ؟ .

وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى ، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا; لأنا نجيب عن ذلك بأمرين :

أحدهما : أن نقول : إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان : ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار ، وهنا يصح أن يقال : إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به امتثال أمر الشارع أو لا ، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية ، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة ، فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا ، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا ، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة ، فليس هذا النمط بمقصود للشارع ، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار ، لا بد فيه من القصد ، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة .

وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين ، فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل ، أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه .

وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال ، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف ، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع ، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا ، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا ، وكذلك ما [ ص: 18 ] في معناه .

والضرب الثاني : ليس من ضرورة كل فعل ، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات ، فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك ، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه ، وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه ، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة; بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال في صحته; لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل ، فإنه محال ، فصار في عداد ما لا قدرة عليه ، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا .

والثاني من وجهي الجواب : بالكلام على تفاصيل ما اعترض به .

فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته ، فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدي الغصاب ، وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزئ فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة ، كالإكراه [ ص: 19 ] على الصلاة ، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها; لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد ، فلم يطالبوا بالشق عن القلوب .

وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال وإلا كانت باطلة . وبيان بطلانها في كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية ، فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى ، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى ، فالطهارة والزكاة من ذلك ، وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت ، فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه [ ص: 20 ] قصد سواه ولهذا نظائر في العاديات كنكاح الشغار ، فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه .

[ ص: 21 ] وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك; لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك .

وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات ، وإما قاصد أن لا يقع ، وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى .

وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه ، وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل ، وهو الإباحة أو غيرها ، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن ، فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله ، أو يقال : إنه قاصد بالعقد - الذي هو جد شرعي - اللعب ، فناقض مقصود الشارع ، فبطل حكم الهزل فيه ، فصار إلى الجد .

ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة ، فالنية الأولى [ ص: 22 ] مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي ، وهو لم يكن ، فصح الصوم ، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى ، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنفل لغوا لم يصادف محلا ، وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض .

وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال ، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:28 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (91)
صـ23 إلى صـ 33

المسألة الثانية :

قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ قد مر أنها موضوعة [ ص: 24 ] لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة ، هذا محصول العبادة ، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة .

وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك ، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات ، وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته [ ص: 25 ] ومقدار وسعه ، وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [ الحديد : 7 ] .

وإليه يرجع قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ البقرة : 30 ] .

وقوله : ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 129 ] .

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم [ الأنعام : 165 ] .

والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال : الأمير راع والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير [ ص: 26 ] مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة ، فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه ، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها ، وهذا بين .
فصل

وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام ، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب ، إذ مر هنالك خمسة أوجه ، منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف ، فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله .
[ ص: 27 ] المسألة الثالثة

كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض [ ص: 28 ] الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل .

أما أن العمل المناقض باطل فظاهر ، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .

وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، فالدليل عليه أوجه :

أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ، فإذا جاء الشارع [ ص: 29 ] بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه ، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد .

فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه ، فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع ، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا ، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا ، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة .

والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن ، وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن ، وهذه مضادة أيضا .

والثالث : أن الله تعالى يقول : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] الآية .

وقال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والأخذ في خلاف مآخذ [ ص: 30 ] الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة .

والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة; لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا ، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به .

والخامس : أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها [ ص: 31 ] في الأمر والنهي ، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد ، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة ، بل قصد قصدا آخر ، جعل الفعل أو الترك وسيلة له ، فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه .

والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها ، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون [ التوبة : 65 ] .

والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم ، والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية ، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ، والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا ، والسلف ليجر به نفعا ، والوصية بقصد المضارة للورثة ، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ، وما أشبه ذلك .

وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء :

منها ما تقدم في المسألة الأولى; كنكاح الهازل وطلاقه ، وما ذكر [ ص: 32 ] معهما ، فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما ، وقد تقدم جوابه ، ومن ذلك المكره بباطل ، فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر ، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك ، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه ، إلى مسائل من هذا النحو .

ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك - مقصود به خلاف ما قصده الشارع ، مع أنها عند القائل بها صحيحة ، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا .

والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ، ثم يصححه; لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي ، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء ، فكيف يقال : إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع ، هل هذا إلا عين المحال .

وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا ، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد ، بل الشريعة لهذا [ ص: 33 ] وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل ، فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه ، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب ، وفي سائر المصالح العامة والخاصة ، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة ، فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع ، خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 08-01-2022 09:29 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (92)
صـ34 إلى صـ 52

المسألة الرابعة :

فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته . فالجميع أربعة أقسام :

أحدها : أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها ، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه ، وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال ، فلا إشكال في صحة هذا العمل .

والثاني : أن يكون مخالفا ، وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك ، فهذا أيضا ظاهر الحكم .

والثالث : أن يكون الفعل أو الترك موافقا ، وقصده المخالفة ، وهو ضربان :

أحدهما : أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا .

والآخر : أن يعلم بذلك .

فالأول كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر ، فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة " من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل " وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل ; لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد ، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة ، فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطئ زوجته لم يختلط [ ص: 35 ] نسب من خلق من مائه ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة ، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة ، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل ، فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة .

فإن قيل : فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة ؟ فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه ، وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان في حقه ، لكنه عاص باتفاق ، هذا خلف ، وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر ، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر ، فكان يجب الحد على الواطئ ، والزجر على الشارب ، وشبه ذلك ، لكنه غير واجب باتفاق أيضا ، هذا خلف .

فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين ، فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة ، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي ، فهو عاص في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل ، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي; كالغاصب لما يظن [ ص: 36 ] أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه ، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد .

ولا يقال : إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله ، أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره; لأن المتوقع من ذلك غير موجود ، فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده ، خاصة لأنا نقول : لا يصح ذلك لأن هذا العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة ، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر ، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب ، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة ، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه ، وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد [ ص: 37 ] تعاطيا السبب على كماله ، فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد ، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم ، وأما الإثم فعلى وفق ذلك .

وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا ؟ هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ها هنا .

والثاني : أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ، ومثاله : أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك ، فهذا القسم أشد من الذي قبله ، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد - وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها ، فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى ، وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا ، فلا يصح جملة ، وقد قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ النساء : 145 ] وقد تقدم بيان هذا المعنى .

والقسم الرابع : أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا ، فهو أيضا ضربان :

أحدهما : أن يكون مع العلم بالمخالفة .

والآخر : أن يكون مع الجهل بذلك ، فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات [ ص: 38 ] المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة ، والموضع مستغن عن إيراده ها هنا ، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] .

وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] .

وفي الحديث : كل بدعة ضلالة وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر .

فإن قيل : إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة ، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم ، وأما المكروه فليس الذم فيه بإطلاق ، وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا ، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه ، والمباح حسن باعتبار .

فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول : إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع ، بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على المصحف العثماني والتجميع في قيام رمضان في المسجد ، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على [ ص: 39 ] حسنها ، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع; لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق ؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة ، خلاف المدعى .

فالجواب : أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه ، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع . وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال . بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين ، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما [ ص: 40 ] وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وفيه قال عليه الصلاة والسلام لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر .

[ ص: 41 ] فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد ، فلم يكن فيها مخالفة ، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة ، وهو باطل باتفاق ، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين ، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا ، كيف وهو يقول : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع ، فقد خرج هذا [ ص: 42 ] الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع ، وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك ، وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله .

وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان :

أحدهما : كون القصد موافقا ، فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ، ونية هذا العامل على الموافقة ، لكن الجهل أوقعه في المخالفة ، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا ، فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق .

والثاني : كون العمل مخالفا ، فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال ، فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل; لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه ولا طابق القصد العمل ، فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا ، فلا يحصل الامتثال .

[ ص: 43 ] وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح ، فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا المحل غامضا في الشريعة ، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه ، وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد ، عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته ، وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا ، فهو كالعبث ، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق; لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد .

فإن قلت : إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت في شرع بعد .

[ ص: 44 ] قيل لك : إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد ، فإن قلت باعتبار القصد كيف كان لزم ذلك في الأعمال ، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد ، وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها ، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح ، فإن قيل قوله عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال ، وإن خالفت قد تعتبر ، فإن المقاصد أرواح الأعمال ، فقد صار العمل ذا روح على الجملة ، وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل ، أو خالفا معا ، فإنه جسد بلا روح ، فلا يصدق عليه مقتضى قوله : الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل .

قيل : إن سلم فمعارض بقوله - عليه الصلاة والسلام - : كل عمل ليس [ ص: 45 ] عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره - عليه الصلاة والسلام - فلم يكن معتبرا ، بل كان مردودا .

وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد; لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة ، فهي في حكم العدم ، فبقيت النية منفردة في حكم عملي ، فلا اعتبار بها ، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا ، ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق ، وأبطلوا كل عبادة ، أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف ، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ، ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور .

أحدها : أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة [ ص: 46 ] القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ، ومخالفة الفعل; لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة ، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل ، وعدم الاعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا ، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه .

فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها ، فقد [ ص: 47 ] فاتت بمقتضى فتوى عمر ، ومعاوية والحسن وروي مثله عن علي رضي الله عنهم ، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها ، والثاني أولى بعد دخوله بها ، وفيما بعد العقد ، وقبل البناء قولان ، وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل [ ص: 48 ] باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها ، وعلى هذا يجري [ ص: 49 ] [ ص: 50 ] باب السهو في الصلاة ، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها .

والثاني : أن عمدة مذهب مالك ، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال ، أو الأقوال جهلا على حكم الناسي ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ، ومن وافقه وليس الأمر كذلك ، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا ، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج ، وغير ذلك من العبادات ، وكذلك في كثير [ ص: 51 ] من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة ، وغيرها .

ولا يقال : إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد; لأنا نقول : الحكم في التضمين في الأموال آخر; لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها .

والثالث : الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .

وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .

وفي الحديث : قال قد فعلت .

وقال : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

وفي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه .

وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه ، وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا ؟ فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح ، فإذا كان كذلك ظهر أن كل [ ص: 52 ] واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:28 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (93)
صـ53 إلى صـ 63


المسألة الخامسة :

جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :

أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .

والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :

أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .

والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .

والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :

[ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .

والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :

أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .

والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .

والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :

أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .

والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :

فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .

وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :

وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .

وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .

وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .

وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .

[ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .

وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .

ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .

ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .

فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .

فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .

وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .

وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .

وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .

هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :

أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:28 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (94)
صـ64 إلى صـ 85


وفي مسلم عن أبي سعيد قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل يصرف بصره يمينا ، وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .

[ ص: 64 ] وفي الحديث أيضا : إن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة ، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق ، وهو لا يقتضي استبدادا ، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع ، أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه [ ص: 65 ] ضررا ناجزا ، وإنما هو متوقع ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره ، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله : - عليه الصلاة والسلام - : المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله : المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه [ ص: 66 ] وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى ، وأسبابه ، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه ، أو أقل لخرج عن اعتداله ، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض ، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة ، وترك الفرقة ، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء ، وأشباهها مما يرجع إليها .

والوجه الثاني : الإيثار على النفس ، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين ، وإصابة لعين التوكل ، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله ، وهو من محامد الأخلاق ، وزكيات الأعمال ، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .

وقالت له خديجة : إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على [ ص: 67 ] نوائب الحق ، وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله ، فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف البشر في وجهه ، وقال : بهذا أمرت ذكره الترمذي ، وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . وهذا كثير .

[ ص: 68 ] وهكذا كان الصحابة ، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان : 8 ] ، وما جاء في الصحيح في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] ، وما روي عن عائشة ، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ ، وهو ضربان :

إيثار بالملك من المال ، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح .

[ ص: 69 ] وإيثار بالنفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت ، وهو معلوم من فعله - عليه الصلاة والسلام - ; إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه ، وهو يقول : لن تراعوا ، وهذا فعل من آثر بنفسه ، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم; إذ عزم الكفار على قتله مشهور .

[ ص: 70 ] وفي المثل السائر .


والجود بالنفس أقصى غاية الجود
، ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ يوسف : 51 ] فآثرته بالبراءة على نفسها .

قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ، ونحوه من أمور الدنيا ، وحظوظ النفس بخلاف القربات ، فإن الحق فيها لله .

وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ، ومن عمر النصف ورد أبا لبابة ، وكعب [ ص: 71 ] بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر ، وعمر . هذا ما قال .

وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي ، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس [ ص: 72 ] بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر ، وإما لأمر آخر ، أو لغير شيء فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء ، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي; لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر ، وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث ، وهو الحظ ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ . هذا تمام الكلام في القسم الرابع ، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ .

وأما القسم الخامس ، وهو أن لا يلحق الجالب ، أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران :

نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .

ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار; لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر .

وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين :

إما تقصير في النظر المأمور به ، وذلك [ ص: 73 ] ممنوع ، وإما قصد إلى نفس الإضرار ، وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدي ، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة ، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ، ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي [ ص: 74 ] صحيحا ، ويكون عاصيا بالطرف الآخر ، وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ، ومن قال : هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة .

وأما السادس ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن; لأن المصلحة إذا كانت غالبة ، فلا اعتبار بالندور في انخرامها ; إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية .

والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه ، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة ، وكذلك إعمال خبر الواحد ، [ ص: 75 ] والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب .

وأما السابع ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف ، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس ، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما ، وإن كان التخلف نادرا ؟ ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :

أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا .

والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] [ ص: 76 ] فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك ، فنزلت .

وفي الصحيح : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكف عن قتل المنافقين; لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ، ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا [ البقرة : 104 ] مع قصدهم الحسن لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله ، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه .

والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه ، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه [ ص: 77 ] فالأصل الجواز من الجلب ، أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للقصد أو مظنة للتقصير ، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه : هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا ؟ هذا نظر إثبات الحظوظ ، وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس ، فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة .

وأما الثامن ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي ، وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان; إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع ، وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة ، وغيرها عن كونها موجودة ، أو غير موجودة .

وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب ، أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن; لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما ، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا ، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه; لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في [ ص: 78 ] الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة ، وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة; لأنها مجال القصد ولهذا أصل ، وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم .

وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر ، فإنه مشروع للزجر ، والازدجار به كثير لا غالب ، فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل ، فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به ، وإيلامه ، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن ، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر ، وخرج عن [ ص: 79 ] الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع .

وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة ، فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك .

وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الخليطين ، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث ، [ ص: 80 ] وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها ، وبين - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس [ ص: 81 ] لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة ، وإن كثر وقوعها .

وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، وعن الصلاة إليها ، [ ص: 82 ] وعن الجمع بين المرأة ، وعمتها ، أو خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا [ النساء : 3 ] ، وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ، ونكاحها ، [ ص: 83 ] وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة ، وسائر دواعي النكاح ، وكذلك الطيب ، وعقد النكاح للمحرم ، [ ص: 84 ] ونهى عن البيع والسلف ، وعن هدية المديان ، وعن ميراث القاتل ، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم ، أو يومين ، وحرم صوم يوم عيد الفطر ، وندب إلى تعجيل الفطر ، وتأخير السحور [ ص: 85 ] إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة ، بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري ، أو حاجي ، أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:29 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (95)
صـ86 إلى صـ 91

المسألة السادسة

كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار والدليل على ذلك أوجه :

أحدها : أن المصالح إما دينية أخروية ، وإما دنيوية ، أما الدينية ، فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها; إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد ، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها ، فإذا فرضنا أنه مكلف بها ، فقد تعينت عليه ، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا .

والثاني : أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا المكلف ولا كان مطلوبا بها ألبتة; لأن المقصود حصول المصلحة ، أو درء المفسدة ، وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين ، هذا خلف لا يصح .

والثالث : أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين ، وإما على الكفاية ، وعلى كل تقدير فغير صحيح ، أما كونه على التعيين فكما تقدم ، وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة ، وهو محال [ ص: 87 ] اللهم إلا أن تلحقه ضرورة ، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح ، أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون ، وغسل الموتى ، ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم ، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها ، فعلى هذا يقال : كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر ، فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه ، والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده ، وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] الآية .
[ ص: 88 ] المسألة السابعة

كل مكلف بمصالح غيره ، فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا ، أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها ، فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه ، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجميع ، وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف ، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح; لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وأيضا فما تقدم في المسألة قبلها جار هنا ، ومثال ذلك السيد والزوج والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد ، والزوجة والأولاد ، فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ، ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به ، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح في هذا التقرير ، وإن لم يقدر على ذلك ألبتة ، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف ، فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة ، أو عامة ، فإن كانت خاصة سقطت ، وكانت مصالحه هي المقدمة; لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم في القسم الرابع من المسألة الخامسة ، فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه ، فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا .

[ ص: 89 ] وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة ، أو تزيد عليها ، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف : لا بد لك من القيام بما يخصك ، وما يعم غيرك ، أو بما يخصك فقط ، أو بما يعم غيرك فقط والأول لا يصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق ، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا .

والثاني أيضا لا يصح; لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه ، فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع في المسألة ، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة ، فذلك واجب عليهم ، وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة ، وهو باطل بما تقدم من الأدلة ، وإذا وجب عليهم ، تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة ، وهو الثالث من الأقسام المفروضة .
فصل

إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر .

[ ص: 90 ] وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح; إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت ، وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين; إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم ، وضرر على المقوم لهم .

أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات ، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول .

وقالت جماعة : إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك ، وأصله قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة ، وما ذاك إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه ، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب ، هذا وجه ، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام - أن يأخذوا من [ ص: 91 ] الخصمين ، أو من أحدهما أجرة على فصل

الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها - عليه الصلاة والسلام - من الغلول الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب .

وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين ، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت ، أو في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب ، أو على الأموال ، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها; إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر [ الشعراء : 109 ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ سبأ : 47 ] قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ]

إلى سائر ما في هذا المعنى ، وبالوجه الآخر علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين ، وهذا كله في غاية الظهور ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:29 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (96)
صـ92 إلى صـ 100

فصل

[ ص: 92 ] هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ، ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره .

فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره ، فهي مسألة الترس ، وما أشبهها فيجري فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا ، وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه ، فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف .

وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ ، فقد يترجح جانب المصلحة العامة ، ويدل عليه أمران :

أحدهما : قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها ، فمثل هذا داخل تحت حكمها .

والثاني : ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وقوله نحري دون نحرك ، ووقايته له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في [ ص: 93 ] مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به ، فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر; لأنه كان كالجنة للمسلمين .

وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين ، وأهله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عدمه فتعم مفسدته الدين ، وأهله ، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدم إلى السياف ، وقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة . في القصة المشهورة .

[ ص: 94 ] وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا ، فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا ، أو لا .

فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير; لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا; لأن الحرج ، وتكليف ما لا يطاق مرفوع ، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع .

وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كمالا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات ، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه ، وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه ، وينظر فيها بحكم الغلبة ، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش ، وهو في الصلاة ، ومن نحو هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني [ ص: 95 ] لأسمع بكاء الصبي الحديث ، وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع ، فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه ، وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا ، كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب ، وحب الرياسة ، وكذلك السلطان ، أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به ، أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ؟ فالقول هنا بتقديم العموم أولى; لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه ، أو ما يشق عليه ، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات; لأنها مجرد ترك ، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله ، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب ، وهو يسير ، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه ، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر; لأنه أمر قد تعين عليه ، فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى; إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة ، أو الجهاد عينا ، أو الزكاة ، فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب ، وما أشبه ذلك ، وإن فرض أنه يقع به ، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع .

فإن قيل : كيف هذا ، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك ، فصار كالمتسبب [ ص: 96 ] لنفسه في الهلكة ، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه ؟

فالجواب : أنه لو كان كذلك ، وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات ، وذلك باطل باتفاق .

نعم ، قد يقال : إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم ، أو غصب ، أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة ، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف ، وإنما حاصل هذا أنه واقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته ، وهو على تلك الحال .

وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها ، فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض ، وقد يرجح جانب المصلحة العامة ، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء ، فلا ينحتم عليه طلب ، وبين من له قوة في إقامة المصلحة ، وغناء ليس لغيره ، وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم ، أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة ، فما رجح منها غلب ، وإن استويا كان محل إشكال ، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة ، أو مساوية .
فصل

وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة ، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع .

حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة [ ص: 97 ] فلما وصل كتابه إليهما قال : الشيخ ابن مجاهد ، وبعض أصحابه : هؤلاء قوم كفرة فسقة; لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال : إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصا لله لنهضت .

قال القاضي ابن الطيب : فقلت لهم : كذا قال المحاسبي ، وفلان ، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق لا نحضر مجلسه ، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر ، وتبين له ما هم عليه بالحجة ، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ، ويقولوا بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وها أنا خارج إن لم تخرج ، فقال الشيخ : إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج . إلى آخر الحكاية .

فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد ، فلا يكون لها اعتبار ، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد ، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 98 ] المسألة الثامنة

التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد; لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد; إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه ، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد ، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية ، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها ، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد .

وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر ، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي; إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا : لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم ، فإذا لم يثبت الحصر ، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره .

والثاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه ، أو لم [ ص: 99 ] يطلع عليه ، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد ، والقصد إليه في التعبد ، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد ، فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر ، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد ، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق ، أو الوجاهة عنده ، أو نيل شيء من الدنيا ، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر ، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه ، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد .

والثالث : أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة ، أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم .

أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ، ومملوكا ملبيا; إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر .

وأيضا فإنه لما امتثل الأمر ، فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة ، وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض ، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض .

[ ص: 100 ] وأما كونه أسلم ؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة ، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد ، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح ، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ، ومصالحهم ، وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه ، وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي ، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل ، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:30 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (97)
صـ101 إلى صـ 119

المسألة التاسعة

كل ما كان من حقوق الله ، فلا خيرة فيه للمكلف على حال ، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة .

أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة ، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد ، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس ، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى ، أو حق الغير من العباد ، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان .

جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت ، أو صلاة من الصلوات المفروضات ، أو زكاة ، أو صوما ، أو حجا ، أو غير ذلك لم يكن له ذلك ، وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها ، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلا من غير ذكاة ، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك ، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق ، أو الربا ، أو سائر البيوع الفاسدة ، أو إسقاط حد الزنا ، أو الخمر ، أو الحرابة ، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه ، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه ، وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله ، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله .

[ ص: 102 ] فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا : إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده ، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا ، فإن قلت : لا ، وهو الفقه كان نقضا لما أصلت; لأنه حقه ، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه ، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك ، وإن قلت نعم خالفت الشرع; إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله ، فقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ثم توعد عليه ، وقال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية .

وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه ، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة ، وحجر على مبذر المال ، ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن إضاعة المال ، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة; لأنا نجيب بأن إحياء النفوس ، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد ، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك ، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه ، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به ، فلا يصح للعبد إسقاطه ، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه ، وفات بسبب [ ص: 103 ] ذلك نفسه ، أو عقله ، أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد; إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه; لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون ، فإن شاء استوفاه ، وإن شاء تركه ، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ]

وقال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] ، وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه ، أو جسده ، فإن حق الله قد فات ولا جبر له ، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات ، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب ، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه ، وقد قال تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [ البقرة : 280 ] بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه ، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع ، فلا ، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب .

وأما تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وما أشبهه فمن حق الله تعالى; لأنه تشريع مبتدأ ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم; إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به ، أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة .

فإن قيل : فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به ، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه ، [ ص: 104 ] فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا ، فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد .

فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم; لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل ، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب ، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق .

فأما ما هو لله صرفا ، فلا مقال فيه للعبد ، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جهة أنه مستقل بالاختيار ، وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها مما هو حلال له ، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق .

فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من [ ص: 105 ] غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات ، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 106 ] المسألة العاشرة

التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر ، أو غير سائغ على إسقاط حكم ، أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط ، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين :

إحداهما : قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر .

والأخرى : جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان - وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا ؟

وهو محل يجب الاعتناء به ، وقبل النظر في الصحة ، أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال .

وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء ، وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج ، وأشباه ذلك ، [ ص: 107 ] وكما حرم الزنا والربا والقتل ، ونحوها ، وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب ، وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك ، وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب ، أو المسروق ، وما أشبه ذلك ، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه ، أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر ، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا .

فهذا التسبب يسمى حيلة ، وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر ، أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها ، وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة ، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل ، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه ، أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج ، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها ، وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك ، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها ، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة [ ص: 108 ] ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل ، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح ، وحفر البئر ، ونحو ذلك ، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال ، أو إتلافه ، أو جمع متفرقه ، أو تفريق مجتمعه ، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام ، وإسقاط الواجب ، ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج ، أو الضرة لتحرم عليه ، أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين .

وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع .
[ ص: 109 ] المسألة الحادية عشرة

الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة ، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة ، لكن في خصوصيات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع .

فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر [ البقرة : 8 ] إلى آخر الآيات .

فذمهم ، وتوعدهم ، وشنع عليهم ، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم ، وأموالهم لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار ، وتصديق قلبي ، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار ، وقيل فيهم : إنهم يخادعون الله والذين آمنوا [ البقرة : 9 ] .

وقالوا عن أنفسهم : إنما نحن مستهزئون [ البقرة : 14 ] لأنهم تحيلوا بملابسة الدين ، وأهله إلى أغراضهم الفاسدة .

وقال تعالى في المرائين بأعمالهم : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب [ البقرة : 264 ] الآية .

وقال : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ النساء : 38 ] .

وقال : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142 ] فذم ، [ ص: 110 ] وتوعد; لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه ، وقال تعالى في أصحاب الجنة : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 17 - 20 ] لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم .

وقال : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] الآية ، وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره .

وقال تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .

وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها [ ص: 111 ] بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ، ثم يرتجعها ، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة ، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها .

وقد جاء في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة : 228 ] إلى قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] أن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ، ثم يطلقها ، ثم يرتجعها كذلك قصدا .

فنزلت الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] ، ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه .

وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله ، وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث ، أو يوصي لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة .

وقال تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ النساء : 6 ] ، وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [ النساء : 19 ] الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .

[ ص: 112 ] ومن الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب ، أو تقليله .

وقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل .

وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن تسبق فهو قمار .

وقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ، وأكلوا أثمانها .

[ ص: 113 ] وقال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير .

ويروى موقوفا على ابن عباس ، ومرفوعا : " يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت [ ص: 114 ] بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع " .

وقال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .

[ ص: 115 ] [ ص: 116 ] وقال : لعن الله المحلل والمحلل له .

وقال : لعن الله الراشي والمرتشي .

[ ص: 117 ] ونهى عن هدية المديان فقال : إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه ، أو حمله على الدابة ، فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه ، وبينه قبل ذلك .

[ ص: 118 ] وقال : القاتل لا يرث .

وجعل هدايا الأمراء غلولا ، ونهى عن البيع والسلف .

وقالت عائشة : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] إن لم يتب .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز ، وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:32 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (98)
صـ120 إلى صـ 132

المسألة الثانية عشرة

لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .

فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .

فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .

وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .

أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 124 ] فصل

فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها ، وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا ، وناقض مصلحة شرعية .

فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة ، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام :

أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .

والثاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها ، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك ، إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق ، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق; إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع ، فكان باطلا ، ومن هنا جاء في ذم النفاق ، وأهله ما جاء .

وهكذا سائر ما يجري مجراه ، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع .

[ ص: 125 ] وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض ، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول ، أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه .

فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه ، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز ، أو مخالف فالتحيل ممنوع ، ولا يصح أن يقال : إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع ، بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه ; لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى ، وعلماء الدين نفعنا الله بهم .

كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها ، وبالله التوفيق .

فمن ذلك نكاح المحلل ، فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، فقد نكحت المرأة هذا المحلل ، فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده ، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية .

وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك [ ص: 126 ] ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني : ذوق العسيلة ، وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه - عليه الصلاة والسلام - ولأن كونه حيلة لا يمنعها ، وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه ، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق ، فإذا ثبت هذا ، وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع .

وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة; لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين; إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد ; لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق ، وهو كنكاح النصارى ، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة ، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك .

وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة ، فهي طالق على رأي مالك فيهما ، وفي نكاح المسافر ، وغير ذلك .

هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال : بجواز الاحتيال هنا ، وأما تقرير [ ص: 127 ] الدليل على المنع فأظهر ، فلا نطول بذكره ، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة ، فإليك النظر فيه .

ومن ذلك مسائل بيوع الآجال ، فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل ، لكن بعقدين ، كل واحد منهما مقصود في نفسه ، وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع ; لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ، ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة ، فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح ، وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة ، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد ، وإنما مقصوده الثاني ، فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل ، وهذا منها ، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه ، وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق ، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل ، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل ، [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه في قوله - عليه الصلاة والسلام - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع ، لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد ، وعاقدين; إذ لم يفصل النبي - عليه الصلاة والسلام - .

وقول القائل : إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا ، [ ص: 131 ] فإن الذرائع على ثلاثة أقسام :

منها ما يسد باتفاق ، كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى ، وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب ، فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه ، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها ، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها .

ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه ، أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده ، بل كسائر التجارات ، فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها .

ومنها ما هو مختلف فيه ، ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه .

وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة ، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها ، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله; إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب ، وكذلك كتب الشافعية ، وغيرهم من أهل المذاهب ، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا ، وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم ، وتقدمهم في [ ص: 132 ] الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع ، وفهم أغراضه ، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:32 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (99)
صـ133 إلى صـ 142

فصل

هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا ، وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير ، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان ، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله ، فإن للقائل أن يقول : إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع ، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له ؟

والجواب : أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يقال : إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي ، إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال ، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح ، وإن وقعت في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام ، أو غير معروف [ ص: 133 ] ألبتة ، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس ، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا ، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله ، فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا .

والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان :

الأول : دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها ، وإنما المقصود أمر آخر وراءه ، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع ، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة ، وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء .

فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول ، وهو الضرب الثاني ، بأن يقال : إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق ، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح ، وقدم المعنى النظري ، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق ، أو على عدم الوجوب ، لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية ، وهو رأي المتعمقين [ ص: 134 ] في القياس المقدمين له على النصوص ، وهذا في طرف آخر من القسم الأول .

والثالث : أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع .

فنقول ، وبالله التوفيق : إنه يعرف من جهات : إحداها :

مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي ، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل ، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع ، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل ، أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له ، وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده ، فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح ، وهو الأصل الشرعي .

وإنما قيد بالابتدائي تحرزا من الأمر ، أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني .

فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا والزنا مثلا ، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به ، وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في [ ص: 135 ] الدار المغصوبة .

وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر ، أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء ، فإن النهي والأمر ها هنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول; إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر ، أو النهي المصرح به .

فأما إن قيل بالنفي فالأمر أوضح في عدم القصد ، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به ، المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به .

فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي .

والثانية : اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر ؟

والعلة إما أن تكون معلومة أو لا ، فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد ، أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الازدجار ، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه ، فإذا تعينت علم أن [ ص: 136 ] مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل ، أو عدمه ، ومن التسبب ، أو عدمه ، وإن كانت غير معلومة ، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا ، وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر .

أحدهما : أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين ، أو السبب المعين; لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل ، وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا; لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل .

والثاني : أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي; لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي; إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ، ووضع له مسلكا ، ومسالك العلة معروفة ، وقد خبر بها محل الحكم ، فلم توجد له علة [ ص: 137 ] يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع .

فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا; إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ، ويمكن أن لا يكون مقصودا له ، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ، ويحكم به علما ، أو ظنا بأنه غير مقصود له; إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود ، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ، ثم يطلع بعد على دليل ينسخ جزمه إلى خلافه .

فإن قيل : فهما مسلكان متعارضان; لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه ، وهما في النظر سواء ، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما ، فلا يبقى إلا التوقف ، وحده فكيف يتجهان معا ؟

فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل ، فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين ، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين ، أو مجتهد واحد في وقتين ، أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ، ومسلك النفي في مسألة أخرى ، فلا تعارض على الإطلاق .

[ ص: 138 ] وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات ، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد ، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق ، وفي رفع الأحداث النية ، وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه ، أو ما ماثله .

وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه : إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك ، وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه ، وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ، ومسلك التوقف متمكن في العادات .

وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الحنفية ، والتعبدات في باب العادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما [ ص: 139 ] تقدم ، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة .

والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

مثال ذلك : النكاح ، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ، ويليه طلب السكن والازدواج ، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه ، وعلى أولاده منها ، أو من غيرها ، أو إخوته ، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين ، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد ، وما أشبه ذلك ، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح ، فمنه منصوص عليه ، أو مشار إليه ، ومنه ما علم بدليل آخر ، ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص ، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ، ومقو لحكمته ، ومستدع لطلبه ، وإدامته ، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل ، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ، ومواصلة أرفع البيوتات ، وما أشبه ذلك ، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ ، وأن قصد التسبب له حسن .

وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق [ ص: 140 ] من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا ، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط; إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق ، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل ، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك .

وهكذا العبادات ، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود ، وإفراده بالقصد إليه على كل حال ، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة ، أو ليكون من أولياء الله تعالى ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول ، وباعثة عليه ، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم ، أو لينال من أوساخ الناس ، أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين ، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام ، بل هو مقو للترك ، ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه ، فإن بعد عليه تركه ، قال الله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] الآية .

فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله ، وإن كان [ ص: 141 ] مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد ، فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد ، يحصل له حفظ الدم والمال ، ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام ، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع .

فإن قيل : هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفى فيها بكونها لا تقتضي الموافقة ؟

وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا ، فلا يصح; لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة ، أو لأخذ مالها ، أو ليوقع بها ، وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة - مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي المخالفة عينا; إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح ، أو الحكم على الزوج ، أو زوال ذلك الخاطر السببي ، وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا .

فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها ، وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا ، فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد ، وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر ، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد ، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة ، وكنكاح التحليل عند من يصححه ، فإن هنا وجهين من النظر ، فإن القصد ، وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة ، فمن ترجح عنده جانب [ ص: 142 ] عدم الموافقة منع ، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ، ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة ، فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع .

فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه ، وهو في البقاء ، أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق فمن اعتبر هذا المقدار منع ، ومن لم يعتبره أجاز .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:33 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (100)
صـ143 إلى صـ 152

فصل

وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا .

أما في العادات فهو ظاهر ، وقد مر منه أمثلة ، وأما في العبادات ، فقد ثبت ذلك فيها .

فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه ، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه ، وتذكير النفس بالذكر له ، قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] .

وفي الحديث : إن المصلي يناجي ربه .

ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها [ ص: 143 ] من أنكاد الدنيا ، في الخبر أرحنا بها يا بلال ، وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وطلب الرزق بها قال الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

وفي الحديث تفسير هذا المعنى ، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة ، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهي الفائدة العامة الخاصة ، وكون المصلي في خفارة الله .

في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ، ونيل أشرف المنازل قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود .

وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة ، في الحديث : من استطاع منكم الباءة فليتزوج .

ثم قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء [ ص: 144 ] وقال : الصيام جنة ، وقال : ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .

وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية ، وهي العامة ، وفوائد دنيوية ، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية ، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم ، وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها ، وسواها ، وهي تابعة فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم .

فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام ، أو الخاص ، وضده كطلب المال والجاه ، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي ، بل هو على خلاف ذلك .

والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام ، وسائر [ ص: 145 ] ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ ، وينبغي تحقيق النظر فيها ، وفي الثاني : المقتضي لعدم التأكد ، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا ، وما لا يقتضيه عينا .

وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع ، وحلى يحليه بها ، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته; كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب; لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له ، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء ، فقد مر الكلام عليه ، ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد ، أو يعظم ، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم .

وأيضا فإن عمله على غير أصالة; إذ لا إخلاص فيه فهو عبث ، وإن فرض خالصا لله ، لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله ، بل هو مقو لترك الإخلاص .

اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء ، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس ، فلا إشكال في صحة هذا ، فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ، ومقو له ، وأصله قول الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] .

[ ص: 146 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية .

فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله ، وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي ، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته ، وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه ، وعدم من يقوم ذلك المقام ، فلا بأس به عندهما; لأنه قائم بما أمر به ، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس ، أو الإمامة ، أو نحو ذلك ، فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة; لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة .

ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية ، أو العلم ، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ، ودليل الجواز قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] ، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا ، وكذا .

[ ص: 147 ] وانظر في مسألة العتبية ترى أن اختلاف مالك ، وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين .

ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة ، وخوارق العادات ، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية ، وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول : إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز ، وسائغ; لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية ، وأن يكون من خواص الله ، ومن المصطفين من الناس ، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق .

وقد يقال : إنه خارج عن نمط ما تقدم ، فإنه تخرص على علم الغيب ، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك ، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة; لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11 ] .

كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة ، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين ، وقد روي أن [ ص: 148 ] بعض الناس سمع بحديث : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له [ ص: 149 ] بابها ، فبلغت القصة بعض الفضلاء ، فقال : هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله ، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ، ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور ، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه .

وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ، ثم يصير إلى حالته الأولى ؟ فنزلت : [ ص: 150 ] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال; لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه .

ولا يقال : إن المعرفة بالله ، وبصفاته ، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ، ومن جملتها العوالم الروحانية ، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى; لأنا نقول : إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات ، وما في عالم الشهادة كاف ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل ، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، فإن الجواب عن ذلك من وجوه :

أحدها : أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه ، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء ، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية ، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله ، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه ، فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل [ ص: 151 ] لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد ، فكيف يجعلان مثلين ؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل .

والثاني : أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات ، وأذل المخلوقات ، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه ، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [ الأعراف : 185 ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت [ الغاشية : 17 - 18 ] إلى آخرها .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:34 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (101)
صـ153 إلى صـ 162

أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] إلى تمام الآيات .

[ ص: 152 ] ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة ، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه ، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة ، وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها ، وعلى ذواتها ، وحقائقها .

فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا ، وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب .

والثالث : أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي ، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ، ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان ، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر; كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية ، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم ، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى .

والرابع : أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات ، وعجائب المغيبات كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى; لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد ، وخراسان ، وأقصى بلاد الصين ، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات .

والخامس : أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة ، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ، ومقصوده ، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها [ ص: 153 ] عباده; لينظر كيف يعملون .

فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء ، وبين مفسدة ما يعترض صاحبها ، كانت جهة العوارض أرجح ، فيصير طلبها مرجوحا ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدم .

وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ، ونحوها مما يقتضي وضعها الإخلاص التام ، فلا يليق به طلب الحظوظ ، فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها ، وهذا لا يوجد ، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه ، فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك ، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية .

فإن قيل : فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ ، فقال : ترك المعاصي ، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة ، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما في الحديث ، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان [ ص: 154 ] أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا ؟ فإن قلت : لا; كان على خلاف هذه القاعدة ، وإن قلت : نعم ; خالفت ما أصلت .

فالجواب أن هذا نمط آخر ، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه ، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه ، وقد قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ البقرة : 45 ] وقال : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] الآية .

ومسألة الحفظ من هذا ، وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة ، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ، ومعينا على أصل العبادة ، وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ ، وما لا فلا ، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها ، وحصول الرغبة فيها ، فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح .

والثاني : ما يقتضي زوالها عينا ، فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا ، فلا يصح التسبب بإطلاق .

[ ص: 155 ] والثالث : ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح في العادات دون العبادات .

أما عدم صحته في العبادات فظاهر ، وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب ، ويحتمل الخلاف ، فإنه قد يقال : إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ، وقصد الشارع التأكيد ، فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع ، فلا يصح ، وقد يقال : هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف ; إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه ، وإنما قصد في التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب ، فلذلك شرع في النكاح الطلاق ، وفي البيع الإقالة ، وفي القصاص العفو ، وأباح العزل ، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ، ومثله [ ص: 156 ] ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله .

وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال بالتسبب على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه ، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا في أصل التسبب .

وأما إذا أمكن أن لا ينخرم ، أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من كل وجه فهو محل اجتهاد ، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا ، وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم .

والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب ، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له ، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين :

[ ص: 157 ] أحدهما : أن يسكت عنه; لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ، ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها ، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها ، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف ، وتدوين العلم ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل .

والثاني : أن يسكت عنه ، وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص; لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ، ومخالفة لما قصده [ ص: 158 ] الشارع; إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .

ومثال هذا : سجود الشكر في مذهب مالك ، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا ، فقال : لا يفعل ، ليس هذا مما مضى من أمر الناس . قيل له : إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء ، فيقول : هذا شيء لم أسمع له خلافا . فقيل له : إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به . فقال : نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ; لأنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه . هذا تمام الرواية ، وقد احتوت على [ ص: 159 ] فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم .

وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا : إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو أمر خارج عن ذلك ، فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله ، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات ، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات ، والثاني : كالصيام مع ترك الكلام ، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة ، والثالث : كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ، وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي ، فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين .

[ ص: 160 ] وأما الضربان الأولان ، وهما في الحقيقة فعل ، أو ترك لما سكت الشارع عن فعله ، أو تركه ، فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع ، أو أنهما مما يخالف المشروع ، وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد ، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال .

أما القصد فمسلم بالفرض ، وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر ، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده ، وخلافه ، فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح ، فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة ، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا ، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة [ ص: 161 ] أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى . فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص ؟

وتقرير الجواب ما ذكره مالك ، وأن السكوت عن حكم الفعل ، أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل ، أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، وهو غاية في تحصيل هذا المعنى .

قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعني سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا; إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ، ولا [ ص: 162 ] أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه .

قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح; إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمروا بالتبليغ .

قال : وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ; لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه ، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .

[ ص: 163 ] وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها ، وهو أصل صحيح ، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع ، وما ليس منها ، ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل ، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:34 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (102)
صـ163 إلى صـ 183


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

وَالنَّظَرُ فِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ .

فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ .

[ ص: 168 ] [ ص: 169 ] النظر الأول

في كليات الأدلة على الجملة

[ ص: 170 ] [ ص: 171 ] المسألة الأولى

لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب [ ص: 172 ] الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى; لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا; إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس ، أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما ، وخصوصا; لأن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] [ ص: 173 ] وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وفي الحديث : تركتكم على الجادة الحديث ، وقوله : لا يهلك على الله إلا هالك ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر ، وإيضاح السبيل ، وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات ، وهي أصول الشريعة فما تحتها [ ص: 174 ] مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس; إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه .

وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات ، واستقرائها [ ص: 175 ] وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج ، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات ، فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي ، وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي ، والجزئي هو مظهر العلم به ، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام ، وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ، وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي ، أو توهم المخالفة له ، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه ، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي ، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ; [ ص: 176 ] لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا ، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة .

فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة ، فلا بد من الجمع في النظر بينهما ; لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد; إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ، فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع ، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ، ويلغى الجزئي .

فإن قيل : الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها ، أو أكثرها ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي; لأن الاستقراء قطعي إذا تم ، فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء ، وفرض مخالفته [ ص: 177 ] غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف ، وجد أو لم يوجد ، فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك ، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل ، وأشباهها .

فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك ، وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه ، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال ; إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي ؟

فالجواب أن هذا صحيح على الجملة ، وأما في التفصيل فغير صحيح ، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل ، وقد لا يدركها ، وإذا أدركها ، فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال ، أو زمان دون زمان ، أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر [ ص: 178 ] به على حالة واحدة ، وهو القتل بالمحدد ، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ، ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض ، وسائر الرخص [ ص: 179 ] الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض ، وأشباه ذلك .

فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات ، أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظا على تلك الرتبة ، وعلى غيرها من الكليات ، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ، ويخص بعضها بعضا ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من اعتبار الكل في مواردها ، وبحسب أحوالها .

وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه ، [ ص: 180 ] وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات; لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم ، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ، بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى ، وتهدم قاعدة أخرى ، أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين وفي كل حال ، وبين من المصالح ما يطرد ، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ، ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح ، وهو مناقض لمقصود الشارع ؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات ; لأنها يخدم بعضها بعضا ، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها ، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال .

فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها ، وبالعكس ، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق ، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ، وما قرر في السؤال على الجملة صحيح; إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما ، [ ص: 181 ] والجزئي محكوم عليه بالكلي ، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة ، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات ، وهي التحرك بالإرادة ، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض ، أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه ، وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي ، أو عدم جريانه ، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب ، وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم ، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس ، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة ، وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين ، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية ، وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع [ ص: 182 ] المعارض; لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء ، أو فيه له شفاء ولا يقال : إن هذا تناقض; لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي ، وعدم اعتباره معا; لأنا نقول : إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي ، وفي كل حال ، بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلى فيه كالعرايا ، وسائر المستثنيات ، ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام [ ص: 183 ] الجزئي ، أو تقييده لمطلقه ، وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق ، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر ، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل ، فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف ، فإن فيها جملة الفقه ، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع ، وأن تتبع نصوصه مطلقة ، ومقيدة أمر واجب .

فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:35 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (103)
صـ184 إلى صـ 191



المسألة الثانية

كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا ، أو ظنيا ، فإن كان قطعيا ، فلا إشكال في اعتباره ، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل ، وأشباه ذلك ، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا ، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا ، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان :

قسم يضاد أصلا قطعيا ، وقسم لا يضاده ولا يوافقه ، فالجميع أربعة أقسام .

فأما الأول ، فلا يفتقر إلى بيان .

وأما الثاني ، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر ، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ]

ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج ، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب .

[ ص: 185 ] وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا ، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ]

وقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية . إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد ، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ، ومنه أيضا قوله : - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات كقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ]

ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [ الطلاق : 6 ]

لا تضار والدة بولدها [ البقرة : 233 ] .

ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار ، وضرار ، ويدخل تحته الجناية على [ ص: 186 ] النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك .

وأما الثالث ، وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ، ومن الدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أنه مخالف لأصول الشريعة ، ومخالف أصولها لا يصح; لأنه ليس منها ، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها .

والثاني : أنه ليس له ما يشهد بصحته ، وما هو كذلك ساقط الاعتبار ، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة .

وهذا القسم على ضربين :

أحدهما : أن تكون مخالفته للأصل قطعية ، فلا بد من رده .

والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا ، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق ، وهو مما لا يختلف فيه

والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر ، أو لقاعدة أخرى .

أما على اعتبار المصالح ، فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها ، أو جهلناها ، وأما على عدم اعتبارها [ ص: 189 ] فأوضح ، فإن للشارع أن يأمر ، وينهى كيف شاء ، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير .

فإذا تقرر هذا ، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا : خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟

فقال الشافعي : لا يجب; لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب ، وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى ، وهو قوله : إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق فاقبلوه ، وإلا فردوه .

[ ص: 190 ] فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق ، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى .

وللمسألة أصل في السلف الصالح ، فقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه [ ص: 191 ] لقوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


ابوالوليد المسلم 13-02-2022 07:35 AM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (104)
صـ192 إلى صـ 206




وردت حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] [ ص: 192 ] وإن كان عند غيرها غير مردود لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية ، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية ، وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة .

وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به ، وهو رفع الحرج ، وما لا طاقة به عن الدين ، فلذلك قالا : فكيف يصنع بالمهراس ؟ [ ص: 193 ] [ ص: 194 ] وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم ، وقالت : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية; لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله ، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى .

ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها ، فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه ، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي ، قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا ، وهو أن الأسباب من قدر الله ، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة ، وأن الجميع بقدر الله ، ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين .

[ ص: 195 ] وفي الشريعة من هذا كثير جدا ، وفي اعتبار السلف له نقل كثير ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار .

ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا : جاء الحديث ولا [ ص: 196 ] أدري ما حقيقته ؟ وكان يضعفه ، ويقول : يؤكل صيده ، فكيف يكره لعابه ؟ وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال [ ص: 197 ] بعد ذكره : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه . إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا ، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع ؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي .

وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية ، وهى تعارض هذا الحديث الظني .

فإن قيل : فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك .

قيل : الطلاق [ ص: 198 ] يعلق على الغرر ، ويثبت في المجهول ، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع .

ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث : من مات ، وعليه صيام صام عنه وليه ، وقوله : أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث ؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر .

وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز [ ص: 199 ] أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج ، قاله ابن العربي .

ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه تعويلا على أصل سد الذرائع .

ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا; للأصل القرآني في قوله : [ ص: 200 ] وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] وفي مذهبه من هذا كثير ، وهو أيضا رأي أبي حنيفة ، فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس; إذ لا إجماع في المسألة ورد خبر القرعة; لأنه يخالف الأصول; لأن الأصول قطعية ، وخبر الواحد [ ص: 201 ] ظني والعتق حل في هؤلاء العبيد ، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا ، وقال ابن العربي : إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع; هل يجوز العمل به أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجوز العمل به ، وقال الشافعي : يجوز ، وتردد مالك في المسألة .

قال : ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به ، وإن كان وحده تركه ، ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال : لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين :

أحدهما : قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] والثاني : أن علة الطهارة هي الحياة ، وهي قائمة في الكلب ، وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف .

[ ص: 202 ] وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا .

[ ص: 203 ] قال ابن عبد البر : كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول .

قال : لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ، ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده ، وسماه شاذا .

[ ص: 204 ] وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة ، وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول ، فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف [ ص: 205 ] الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته ، وأما غرم جنس آخر من الطعام ، أو العروض ، فلا .

وقد قال مالك فيه : إنه ليس بالموطأ ولا الثابت ، وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر ، وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله .

[ ص: 206 ] وأما الرابع ، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر ، وبابه باب المناسب الغريب ، فقد يقال : لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود ، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق; لأنه في محل الريبة ، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع; إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود ، ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة ، وهذا فرد من أفراده ، وهو وإن لم يكن موافقا لأصل ، فلا مخالفة فيه أيضا ، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ، ويسلم أصل العمل بالظن ، وقد وجد منه في الحديث قوله : - عليه الصلاة [ ص: 207 ] والسلام - : القاتل لا يرث ، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس ، وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:17 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (105)
صـ207 إلى صـ 216



فصل

واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد ، أو بالقياس واجب مثلا ، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه ، وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم .
[ ص: 208 ] المسألة الثالثة

الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول والدليل على ذلك من وجوه :

أحدها : أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل على أنها جارية على قضايا العقول ، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ولو نافتها لم تتلقها فضلا عن أن تعمل بمقتضاها ، وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة ، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية ، وعلى الأحكام التكليفية .

والثاني : أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق ، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره ، بل يتصور [ ص: 209 ] خلافه ، ويصدقه ، فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة ، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق ، وهو معنى تكليف ما لا يطاق ، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول .

والثالث : أن مورد التكليف هو العقل ، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا ، وعد فاقده كالبهيمة المهملة ، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم; إذ لا عقل لهؤلاء يصدق ، أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به ، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا ، وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا .

والرابع : أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانوا يفترون عليه ، وعليها . فتارة يقولون ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة يكذبونه كما كانوا يقولون في القرآن سحر ، وشعر وافتراء ، وإنما يعلمه بشر ، وأساطير الأولين ، بل كان أولى ما يقولون : إن هذا لا يعقل ، أو هو مخالف للعقول ، أو ما أشبه ذلك فلما [ ص: 210 ] لم يكن من ذلك شيء دل على أنهم عقلوا ما فيه ، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان ولم يعترضه أحد بهذا المدعى فكان قاطعا في نفيه عنه .

والخامس : أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة ، وتنقاد لها طائعة ، أو كارهة ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام ، وهو المعني بكونها جارية على مقتضى العقول لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة ، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام .

فإن قيل : هذه دعوى عريضة يصد عن القول بها غير ما وجه .

أحدها : أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا كفواتح السور ، فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور ، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب ، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة ، وفيه ما لا يعرفه إلا الله ، فأين جريان هذا [ ص: 211 ] القسم على مقتضى العقول ؟

والثاني : أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ، أو لا يعلمها إلا الله تعالى كالمتشابهات الفروعية ، وكالمتشابهات الأصولية ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول ، فلا تفهمها أصلا ، أو لا يفهمها إلا القليل والمعظم مصدودون عن فهمها ، فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول ؟

والثالث : أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا ، وتحزبوا أحزابا وصار كل حزب بما لديهم فرحون فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار عقله ، ودينه .

فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى : فعلنا ، و قضينا ، و خلقنا ، ثم من بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف ، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع ، فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول لما وقع في الاعتياد هذا [ ص: 212 ] الاختلاف فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول ولو بوجه ما .

فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء ، وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال ، فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه ، وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا; لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه وليس كلامنا فيه إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما ، لكن على خلاف المعقول ، وفواتح السور خارجة عن ذلك; لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول ، وهو المطلوب .

وعن الثاني : أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول ، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك; لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] [ ص: 213 ] لا أنه بناء على أمر صحيح ، فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف ، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها ، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة ، وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف ، وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه ، وهو جاهل به ، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول ، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض ، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا ، فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما; إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما ، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة ولذلك مثال يتبين به المقصود ، وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس ، فقال له : [ ص: 214 ] إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] .

[ ص: 215 ] وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .

ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، فقد كتموا في هذه الآية .

وقال : بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 28 - 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض .

ثم قال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ فصلت : 9 - 11 ] فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء .

وقال : وكان الله غفورا رحيما [ الفرقان : 70 ] ، عزيزا حكيما ، سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى .

فقال ابن عباس : فلا أنساب بينهم [ المؤمنون : 101 ] في النفخة الأولى ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر : 68 ] ، فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .

وأما قوله : ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا [ ص: 216 ] نقول : ما كنا مشركين ، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض [ النساء : 42 ] .

وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض أي أخرج الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام ، وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السماوات في يومين ، وكان الله غفورا رحيما ، سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي لم أزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله .

هذا تمام ما قال في الجواب .

وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته ، وأتى من بابه ، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون ، وما أشكل على الطالبين ، وما وقف فيه الراسخون ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله ، وقد ألف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا ، فمن تشوف إلى البسط ، ومد الباع ، وشفاء الغليل طلبه في مظانه .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:17 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (106)
صـ217 إلى صـ 226


المسألة الرابعة

المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها ، وهذا لا نزاع فيه إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران .

[ ص: 218 ] اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج .

وبيان ذلك أن الفعل المكلف به ، أو بتركه ، أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة ، أو غير لازمة ، وهذا هو الاعتبار العقلي ، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة ، أو غير لازمة ، وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران ، وكذلك الطهارة والزكاة والحج ، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات ، وغيرها ، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها ، وكذلك سائر الأفعال .

فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو ، ألجهة [ ص: 219 ] المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج ؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف ، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين فمما يدل على الأول أمور .

أحدها : أن المأمور به ، أو المنهي عنه ، أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء ، وهذا أمر ذهني في الاعتبار; لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني ، فإن صدق عليه صح ، وإلا ، فلا .

ولصاحب الثاني أن يقول : إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمورا ذهنية ، بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ، ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل ، بل الانقياد وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية ، وعند ذلك ، فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك .

[ ص: 220 ] والثاني : أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام; لأن كل فعل ، أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ، ويلقى فيه جميع ما تقدم ، وقد مر بطلانه .

ولصاحب الثاني : أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق ، فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة ، وهو من هذا النمط وكذلك كل فعل سائغ في نفسه ، وفيه تعاون على البر والتقوى ، أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند [ ص: 221 ] طلوع الشمس ، أو عند غروبها ، وهذا الباب واسع جدا .

والثالث : أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر; إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض ، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته ، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة; لأنه ترك بها واجبا ، وهكذا كل من خلط عملا صالحا ، وآخر سيئا ، فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج ، وهو على خلاف قول الله تعالى : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط عملين ، بل صارا عملا واحدا إما صالحا ، وإما سيئا ، ونص الآية يبطل هذا ، وكذلك جريان [ ص: 222 ] العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج .

ولصاحب الثاني : أن يقول : إن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية تعقل ، أو ما لا تعقل لا يكلف به أما أن ما لا يعقل لا يكلف به فواضح ، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل مجردة فهو ظاهر أيضا .

في المحسوسات فكالإنسان مثلا ، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج; لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة ، وعرض الأظفار ، ونحوها ، وخواص شخصية ، وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ، ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة ، فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج .

وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا ، فإن حقيقتها المركبة من القيام ، [ ص: 223 ] والركوع والسجود والقراءة ، وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات ، وأحوال ، وهيئات شتى ، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال ، أو النقصان والصحة أو البطلان ، وهي متشخصات ، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك; إذ هي في الذهن كالمعدوم ، وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج ، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة ، وأمور على خلاف ذلك ، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج ، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها ، وهو المطلوب ، فإن حصلت بزيادة وصف ، أو نقصانه فلم تحصل إذا على حقيقتها ، بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد ، فإن قيل : فيشكل معنى الآية إذا ، وهو قوله : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] ، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة ، أو نقصان ، وتصح مع ذلك ، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة ، وهو الاعتبار الذهني .

قيل : أما الآية ، فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين ، وفي حالين ، وفي مثله نزلت الآية ، وإذا تلازمت حتى صار أحدها : كالوصف للآخر ، فإن كان كالوصف السلبي ، فلا إشكال في عدم التلازم; لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية ، وأما إن كانت [ ص: 224 ] صفة وجودية ، أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية ، وأما الزيادة غير المبطلة ، أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب ، وينبني عليه مسائل فقهية .
فصل

ويتصدى النظر هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران ، وما لا يصير كذلك ، فلا يجريان فيه .

[ ص: 225 ] وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة إما أن يصير أحدها وصفا للآخر ، أو لا ، فإن كان الثاني ، فلا تلازم كترك الصلاة مع ترك الزنى ، أو السرقة ، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر لعدم التزاحم في العمل; إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع ، أو غير مشروع ، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين على المكلف ، وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي ، والسلبيات اعتباريات لا حقيقية ، وإن كان الأول فإما أن يكون وصفا سلبيا ، أو وجوديا ، فإن كان سلبيا فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعا على الخصوص أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية كترك الطهارة في الصلاة وترك الاستقبال ، وإن كان الثاني ، فلا اعتداد بالوصف السلبي كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة ، فإن الصلاة ، وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا لا حقيقة له في الخارج ، وإن كان الوصف وجوديا فهذا هو محل النظر كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها ، وما أشبه ذلك .

فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج ، وكذلك [ ص: 226 ] الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة ، وأما الأفعال مع الأفعال ، فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل واحد موصوف فينظر فيه ، وفي وصفه كما تقدم والله أعلم .

ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:18 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (107)
صـ227 إلى صـ 230


المسألة الخامسة

الأدلة الشرعية ضربان :

أحدهما : ما يرجع إلى النقل المحض ، والثاني : ما يرجع إلى الرأي المحض .

وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة ، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر; لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل ، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة ، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق ، وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل [ ص: 228 ] به ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا; لأن ذلك كله ، وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد .

ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري ، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما يتبين في موضعه من هذا الكتاب بحول الله .
فصل

ثم نقول : إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول; لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل ، وإنما أثبتناه بالأول; إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه ، وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة ، وقد صار; إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين .

إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية .

فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود ، وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الإجماع حجة ، وعلى أن القياس حجة ، وأن قول الصحابي حجة ، وشرع من قبلنا حجة ، وما كان نحو ذلك .
فصل

[ ص: 229 ] ثم نقول : إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب ، وذلك من وجهين .

أحدهما : أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب; لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة ، وقد حصر - عليه الصلاة والسلام - معجزته في القرآن بقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله .

وأيضا فإن الله قد قال في كتابه : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، وقال : وأطيعوا الله ورسوله في مواضع كثيرة .

وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ، ومما ليس فيه مما هو من سنته ، وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] ، وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ النور : 63 ] [ ص: 230 ] إلى ما أشبه ذلك .

والوجه الثاني : أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ، وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، وقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [ المائدة : 67 ] ، وذلك التبليغ من وجهين :

تبليغ الرسالة ، وهو الكتاب ، وبيان معانيه .

وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله ، فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب هذا هو الأمر العام فيها .

وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد إن شاء الله فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ، ومدارك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى; لأنه كلام الله القديم ، وأن إلى ربك المنتهى [ النجم : 42 ] ، وقد قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ النحل : 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وبيان هذا مذكور بعد إن شاء الله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:18 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (108)
صـ231 إلى صـ 240


المسألة السادسة

كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين :

إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم . والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي .

فالأولى نظرية ، وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية . والثانية نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي ، بل هذا جار في كل مطلب عقلي ، أو نقلي فيصح أن نقول : الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت إن كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود [ ص: 232 ] منه ليستعمل ، أو لا يستعمل ; لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون ، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل : له أهذا خمر أم لا ، فلا بد من النظر في كونه خمرا ، أو غير خمر ، وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر ، أو حقيقتها بنظر معتبر قال : نعم هذا خمر ، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه ، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء ، فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا ، وذلك برؤية اللون ، وبذوق الطعم ، وشم الرائحة ، فإذا تبين أنه على أصل خلقته ، فقد تحقق مناطه عنده ، وأنه مطلق ، وهى المقدمة النظرية ، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية ، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز ، وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا ، فإن تحقق الحدث ، فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء ، وإن تحقق فقده فكذلك ، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء ، وهى المقدمة النقلية .

فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ، ومقيدة ، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين ، وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما [ ص: 233 ] تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق ، أو على التقييد ، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات .

نعم ، وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا ، وأردنا أن نعرف ما الذي يرفع من الاسمين ، وما الذي ينصب ، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول ، فإذا حققنا الفاعل ، وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية ، وهى أن كل فاعل مرفوع ، ونصبنا المفعول كذلك; لأن كل مفعول منصوب ، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل; لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية ، وهكذا في سائر علوم اللغة ، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا ، فلا بد من تحقيق مناط الحكم ، وهو العالم فنجده متغيرا ، وهي المقدمة الأولى ، ثم نأتي بمقدمة مسلمة ، وهو قولنا : كل متغير حادث .

لكنا قلنا في الشرعيات ، وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية ، وهي المفيدة لتحقيق المناط ، وذلك مطرد في العقليات أيضا ، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات ؟ هذا لا بد من تأمله .

والذي يقال : فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق [ ص: 234 ] أنها نقلية ، فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة ، وهي الضروريات ، وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين ، وهي أن تكون مسلمة ، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا ، فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه ، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر ، وبالله التوفيق .
[ ص: 235 ] المسألة السابعة

كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف ، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات ، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهد في المنهيات .

وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون ، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره; إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ، وكذلك في العوارض الطارئة عليها; لأنها من جنسها ، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية ، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية; لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه ، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة .
[ ص: 236 ] المسألة الثامنة

فنقول : إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه ، أو تكميلا لأصل كلي ، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال .

أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة ، وما نشأ عنهما ، وهو أول ما نزل بمكة .

وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الأنعام : 151 ] ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ التكوير : 8 ] ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] ، وأشباه ذلك .

[ ص: 237 ] وأما العقل فهو ، وإن لم يرد تحريم ما يفسده ، وهو الخمر إلا بالمدينة ، فقد ورد في المكيات مجملا; إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ، ومنافعها من السمع والبصر ، وغيرهما ، وكذلك منافعها ، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة ، أو لحظة ، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه .

[ ص: 238 ] وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات; لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن ، حيث قال :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان .

وأما النسل ، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج ، أو ملك اليمين .

وأما المال فورد فيه تحريم الظلم ، وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ، ونقص المكيال ، أو الميزان والفساد في الأرض ، وما دار بهذا المعنى .

وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن أذايات النفوس .

ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب [ ص: 239 ] الوجود حاصل ، ففي الأربعة الأواخر ظاهر ، وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح ، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي ، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا .

وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة ، وذلك يحصل به معنى الانقياد ، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم .

[ ص: 240 ] وكذلك الصيام أيضا ، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء ، فأحكمهما التشريع المدني ، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة .

والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر [ لقمان : 17 ] ، وما أشبه ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:19 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (109)
صـ241 إلى صـ 251

المسألة التاسعة

كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا ، وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا إلا ما خصه الدليل كقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، وأشباه ذلك ، والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليا ، أو جزئيا ، فإن كان كليا فهو المطلوب ، وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة .

[ ص: 242 ] منها عموم التشريع في الأصل كقوله تعالى : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] ، وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، وقد جاء في الحديث : بعثت للأحمر والأسود .

ومنها أصل شرعية القياس; إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى ، وهو معنى متفق عليه ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك .

ومنها أن الله تعالى قال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ الأحزاب : 37 ] الآية ، فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما ، أو غيره ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي ، فقال : لكيلا ولذلك قال : [ ص: 243 ] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له ، وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم ، وإن لم يكن لها صيغ عموم ، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة ، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله ، وفعله فالقول كقوله : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وقوله في قضايا خاصة سئل فيها : أهي لنا [ ص: 244 ] خاصة أم للناس عامة ؟ : بل للناس عامة كما في قضية الذي نزلت فيه [ ص: 245 ] وأقم الصلاة طرفي النهار [ هود : 114 ] ، وأشباهها ، وقد جعل نفسه - عليه الصلاة والسلام - قدوة للناس كما ظهر في حديث الإصباح جنبا ، وهو يريد أن يصوم ، والغسل من التقاء الختانين .

وقوله : إني لأنسى ، أو أنسى لأسن ، وقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي [ ص: 246 ] وخذوا عني مناسككم ، وهو كثير .
المسألة العاشرة

الأدلة الشرعية ضربان :

أحدهما : أن يكون على طريقة البرهان العقلي فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه ، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين ، وهو في أول الأمر موضوع لذلك ، ويدخل هنا جميع البراهين العقلية ، وما جرى مجراها كقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] ، وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته [ فصلت : 44 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ يس : 81 ] ، وقوله : قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] ، وقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم إلى قوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] ، وهذا الضرب يستدل به على الموالف والمخالف; لأنه أمر معلوم عند [ ص: 248 ] من له عقل ، فلا يقتصر به على الموافق في النحلة .

والثاني : مبني على الموافقة في النحلة ، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف ، ودلالة كتب عليكم القصاص في القتلى [ البقرة : 178 ] ، كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] ، أحل لكم ليلة الصيام الرفث [ البقرة : 187 ] ، فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين ولا أتي بها في محل استدلال ، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول ، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها ، فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق ، وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف .

فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه هو واضعه ، وإذا استدل بالضرب الثاني : أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما والتزاما ، فإذا أطلق لفظ الدليل على الضربين فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ; لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني ، فهو بالمعنى الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء ، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط .
[ ص: 249 ] المسألة الحادية عشرة

إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازى إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ ، وإلا فلا .

فمثال ذلك مع وجود الشرط قال تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة ، وبالعكس ، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه ، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه الآية [ الأنعام : 122 ] وربما ادعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ، ومجازه ، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة .

[ ص: 250 ] ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] .

فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة ، أو سكر النوم ، وهو مجاز فيه مستعمل ، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة ، وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه ، وأن الجنابة المراد بها التضمخ بدنس الذنوب والاغتسال هو التوبة ، لكان هذا التفسير غير معتبر; لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به ، لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة ، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] إشارة إلى خلع الكونين ، فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها وربما نقل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : تداووا ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء أن فيه إشارة إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير [ ص: 251 ] معتبر ، فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله ، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا ، وبلسان العرب ، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم ، وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله ، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:19 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (110)
صـ252 إلى صـ 261


المسألة الثانية عشرة

كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما ، أو أكثريا ، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا ، أو في وقت ما ، أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام .

أحدها : أن يكون معمولا به دائما ، أو أكثريا ، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا ، أو ندبا ، أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله : في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل ، والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع ، وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة ، وبينها - عليه الصلاة والسلام - بقوله ، أو فعله ، أو إقراره ، ووقع فعله ، أو فعل صحابته معه ، أو بعده على وفق ذلك دائما ، أو أكثريا ، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه ، فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية ، فلا معنى للإعادة .

والثاني : أن لا يقع العمل به إلا قليلا ، أو في وقت من الأوقات ، أو حال [ ص: 253 ] من الأحوال ، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما ، أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه ، وفي العمل على وفقه ، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر ، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي ، أو لغير معنى شرعي ، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي ، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به ، وإذا كان كذلك ، فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه ، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة ، فلا بد من تحري ما تحروا ، وموافقة ما داوموا عليه .

وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به [ ص: 254 ] يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير ، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة ، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول : في المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه; إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك ، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة فكذلك ما نحن فيه .

وإلى هذا ، فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في أنفسها ، وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ، ومن ذلك في كتاب الأحكام ، وما بعده ، فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين .

أحدهما : أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت ، [ ص: 255 ] أو أوقات عينت ، أو نحو ذلك .

كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين ، وبيان رسول الله [ ص: 256 ] صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر الوقت الاختياري الذي لا يتعدى ، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر ، وأشباه ذلك .

[ ص: 257 ] وكذلك قوله : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله - عليه الصلاة والسلام - : أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه ، وإن لم يصح فالأمر [ ص: 258 ] واضح ، وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان يفعل يقتضي الكثرة [ ص: 259 ] بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال : بهذا أمرت ، وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة ، وهو على المنبر أية ساعة هذه ، وأشباهه .

وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم ترك ذلك [ ص: 260 ] مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه .

وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها .

[ ص: 261 ] وفي رواية : وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل ، وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ، ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركتها .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:20 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (111)
صـ262 إلى صـ 272


فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى ، [ ص: 262 ] فلا حرج على من فعلها .

ونظير ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يواصل الصيام ، ثم نهى عن الوصال وفهم الصحابة من ذلك عائشة ، وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم ، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات .

وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان ، وترك القليل ، أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد ، وما أشبهه ، فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 263 ] ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك ، وأما غيره فكذلك أيضا ، ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة .

فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته ، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم ، فإن هؤلاء منتصبون; لأن يقتدى بهم فيما يفعلون ، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب ، وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع ، وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان ، فلا بأس ، وسنتهم سنة ماضية ، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ، ويتحرونه أيضا فكان على قولهم ، وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن ، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل [ ص: 264 ] تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم ، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة; لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة .

وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها ، وإنما داوم من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها ، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء .

ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق ، بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ، ونحوها ، وما سوى ذلك ، فقد بين - عليه الصلاة والسلام - أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل من [ ص: 265 ] صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهره فيهم ولا أكثر من ذلك ، بل كان عامة عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما انضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح ، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى ، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى ، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة [ ص: 266 ] في الرجلين والثلاثة ، ونحو ذلك ، وحيث لا يكون مظنة اشتهار ، وما سوى ذلك فهو يكرهه .

وأما مسألة الوصال ، فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال : بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع ، وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان الأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة ، وما واظبوا عليه ، وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الضرب .

[ ص: 267 ] والضرب الثاني : ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه .

منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه ، أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة ، وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له ، وتعظيما ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس ، فقال : إن تقوموا [ ص: 268 ] نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه ، وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم ، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم [ ص: 269 ] له ، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود ، أو للإعانة على معنى من المعاني ، أو لغير ذلك مما يحتمل .

وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة ، وبراءة ذمة باتفاق ، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر ، وذلك لا يقوى قوة معارضه .

ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة ، فإن مالكا قال له : كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا ، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين . فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي - عليه الصلاة والسلام - أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه .

وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا ، أو سلمنا صحة ما روي فيه ، فإنه لم يقع [ ص: 270 ] تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته .

ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك ؛ إذ نزلت توبته ، فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم .

ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث; إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك ، وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب [ ص: 271 ] أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في قوة المستمر .

وقد قيل لمالك : إن قوما يقولون إن التشهد فرض ، فقال : أما كان أحد يعرف التشهد ؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم .

وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك : وما حاجتك إلى ذلك ؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ، ثم قال له مالك : وكيف الأذان عندكم ؟ فذكر مذهبهم فيه ، فقال من أين لكم هذا ؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم ، فقال له مالك : ما أدري ما أذان يوم ؟ وما صلاة يوم ؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولده من بعده يؤذنون في حياته ، وعند قبره ، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده .

فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل ، وثبت مستمرا أثبت في الاتباع ، وأولى أن يرجع إليه .

وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه ، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل : له إن أبا بكر الصديق [ ص: 272 ] فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ، ثم قال : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد ؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ، فإنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه .

هذا ما قال ، وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان ، وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:21 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (112)
صـ273 إلى صـ 286

ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه ، أو بصاحبه الذي عمل به ، أو خاصا بحال من الأحوال ، فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه - عليه الصلاة والسلام - على ناصيته ، وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض ، وكذلك نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن ادخار لحوم الأضاحي [ ص: 273 ] بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا ، وهو قوله : إنما نهيتكم لأجل الدافة .

ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد ، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - عليه الصلاة والسلام - : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه .

[ ص: 274 ] فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما دواما ، فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه ، وهذا خاص بزمانه; إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي ، وقد انقطع بعده ، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه .

وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده ، فإذا العمل بمثله أشد غررا; إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته .

ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه; إذ كان في زمانه - عليه الصلاة والسلام - ولم يعلم به فيجيزه ، أو يمنعه; لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا ، وهو صائم في رمضان فقيل له : أتأكل البرد ، وأنت صائم ، فقال : " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا ، وإنه ليس بطعام ولا شراب " .

قال الطحاوي : ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 275 ] عليه فيعلمه الواجب عليه فيه . قال : وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير ذلك عمر شيئا; إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره .

فكذلك ما روي عن أبي طلحة قال : والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع قال : كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه ، فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - برأيك ، فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به ، فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب ، وأبي أيوب ورفاعة بن رافع فالتفت إلي عمر فقال ما يقول هذا الفتى ، فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله [ ص: 276 ] صلى الله عليه وسلم ، ثم لا نغتسل قال : أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقلت : لا ، ثم قال في آخر الحديث : لئن أخبرت بأحد يفعله ، ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة .

فهذا أيضا من ذلك القبيل ، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك .

ومنها إمكان أن يكون عمل به قليلا ، ثم نسخ فترك العمل به جملة ، فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام .

ومثاله حديث الصيام عن الميت ، فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة ، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس ، وهما أول من [ ص: 277 ] خالفاه فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت ، وعليها صوم ، فقالت : أطعموا عنها . وعن ابن عباس أنه قال : لا يصوم أحد عن أحد .

قال مالك : ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه .

[ ص: 278 ] فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ، ومن يليهم ، وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله .

وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل ، وقيل له : أتسجد أنت فيه فقال : لا ، وقيل له : إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه ، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه ، وإنما هو حديث من حديث الناس ، وأعظم من ذلك القرآن يقول الله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فالقرآن أعظم خطرا ، وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث .

وهذا مما لم يجتمع عليه ، وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر; إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 279 ] وروي عن ابن شهاب أنه قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه ، وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله .

وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره .

وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا ، وعند الحاجة ، ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل ، أو عدم صحة في الدليل .

[ ص: 280 ] أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة ، أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور :

أحدها : المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .

والثاني : استلزام ترك ما داوموا عليه; إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه .

والثالث : أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه; إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد .

الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان .

والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى ، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة ; إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ، ومعارض له ولو كان ترك العمل ، فما عمل به [ ص: 281 ] المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل ، أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر ، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .

ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده; لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه ، أو عدم اعتباره ; لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .

ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير [ ص: 282 ] في النقل عنهم ، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله ، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 8 ] .

وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين ، وحاش لله من ذلك .

ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة ، وذكر الله برفع الأصوات ، وبهيئة الاجتماع بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم الحديث . والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله . . إلخ ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر .

[ ص: 283 ] وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] الآية ، وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] .

وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد ، وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب ، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم : دونكم يا بني أرفدة .

واستدلال كل من اخترع بدعة ، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا ، وغلطوا واتبعوا ما [ ص: 284 ] تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين ، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك ، وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون ، أو حادوا عن فهمها ، وهذا الأخير هو الصواب ; إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة ، وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم ، وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة .

فيقال لمن استدل بأمثال ذلك : هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين ، أو لم يوجد ؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك ، فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له ، أو جاهلين به أم لا ؟ ولا يسعه أن يقول بهذا ; لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه ، وخرق للإجماع ، وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم ، وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه .

فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين ، وإذا كان مسكوتا عنه ، ووجد له في الأدلة مساغ ، فلا مخالفة ، إنما [ ص: 285 ] المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده ، وهو البدعة المنكرة قيل له : بل هو مخالف ; لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :

أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ; لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد .

والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ، ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ; إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .

وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء ، وكره أشياء ، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل ، فلا مزيد عليه ، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره .

[ ص: 286 ] فالحاصل أن الأمر ، أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب ، لكن على وجه آخر ، فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين ، وكفى بذلك مزلة قدم ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:21 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (113)
صـ287 إلى صـ 296

فصل

واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة ، بل فيها ما هو خفيف ، ومنها ما هو شديد ، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين :

أحدهما : أن يكون من أهل الاجتهاد ، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا ، فإن كان كذلك ، فلا حرج عليه ، وهو مأجور على كل حال ، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول .

والثاني : أن لا يكون من أهل الاجتهاد ، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا ، أو [ ص: 287 ] مغالطة ; إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم .

وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم ; لأن المجتهدين ، وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة من موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني : يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل .

أما القسم الثاني : فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان ، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع ، فإنه نوع من الإجماع فعلي ، بخلاف ما إذا خالفه ، فإن المخالفة موهنة له ، أو مكذبة .

[ ص: 288 ] وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة ; لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، وقد تقدم منه أمثلة ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة ، وقد مر من ذلك أمثلة ، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة ، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة .

وانظر في مسألة التداوي من الخمار في درة الغواص للحريري ، وأشباهها ، بل قد استدل بعض [ ص: 289 ] النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ الإسراء : 43 ] .

فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار ، وهي .
[ ص: 290 ] المسألة الثالثة عشرة

فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين :

أحدهما : أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم ، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه ، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن ، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة .

والثاني : أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة ، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع ، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة .

ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] فليس مقصودهم الاقتباس منها ، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم ; إذ هو السابق المعتبر ، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم ، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، [ ص: 291 ] ويقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم ، وهو أصل الشريعة ; لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله ، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا ، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد ، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .
[ ص: 292 ] المسألة الرابعة عشرة

اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :

أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .

والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ، ووجوبه على من خشي العنت ، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام ، أو لمن يدافعه الأخبثان ، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي .

فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضي للحكم الأصلي أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل .

فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا ، فإن أخذه مجردا صح الاستدلال ، وإن أخذه بقيد الوقوع ، فلا يصح ، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط [ ص: 293 ] المعين ، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين ، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها ; إذ ليس موضع الحاجة بخلاف [ ما ] إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال ، فلا بد من اعتباره .

فقول الله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة ، وإمكان الامتثال ، وهو السابق فلم ينزل حكم أولي الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء ، يستوي فيه ذو الضرر وغيره ، فخاف من ذلك وسأل الرخصة ، فنزل : غير أولي الضرر .

ولما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب بناء على [ ص: 294 ] تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] ; لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين - عليه الصلاة والسلام - أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إلخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا ، وتبين مناط الكراهية المرادة ، وقال الله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد ، وهو المرض بينه - عليه الصلاة والسلام - بقوله وفعله حين جحش شقه .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : أنا وكافل اليتيم كهاتين ، ثم لما تعين [ ص: 295 ] مناط فيه نظر ، قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر : لا تولين مال يتيم .

والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته - عليه الصلاة والسلام - لبعض أصحابه بشيء ، ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال : قل ربي الله ، ثم استقم ، وقال لآخر : لا تغضب ، وكما قبل من [ ص: 296 ] بعضهم جميع ماله ، ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg



ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:22 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (114)
صـ297 إلى صـ 311


فصل

ولتعين المناط مواضع .

منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ] [ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم .

وقوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك .

وفي الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال : ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير .

ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب عذب .

[ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه .

ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي : ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ .

أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية .

ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك .

ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من [ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] [ ص: 300 ] وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة .

فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا [ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين .

لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟

فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل [ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه .

فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق .
[ ص: 303 ] وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول .

[ ص: 304 ] [ ص: 305 ] الأول في الإحكام والتشابه .

وله مسائل .

المسألة الأولى

المحكم يطلق بإطلاقين : عام ، وخاص .

فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة ، وهذه الآية منسوخة ، وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ ، وبالإطلاق الثاني : الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا ، وعلى هذا الثاني : مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] .

ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث [ ص: 306 ] من قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات فالبين هو المحكم ، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد ; لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب ، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ ، وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم .
[ ص: 307 ] المسألة الثانية

التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور .

أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات : هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل .

[ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح .

والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول .

[ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] .

وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام .

ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك .

وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده .

وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ، [ ص: 311 ] ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه .

ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا .

وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين .

إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 22-03-2022 05:22 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (115)
صـ312 إلى صـ 318


فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب .

[ ص: 313 ] ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] .

وتركوا مبينه ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] واتبع الخوارج نحو قوله تعالى : إن الحكم إلا لله [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] واتبع الجبرية نحو قوله : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله : جزاء بما كانوا يكسبون [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي .
[ ص: 315 ] المسألة الثالثة

وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين .

أحدهما : حقيقي والآخر إضافي ، وهذا فيما يختص بها نفسها ، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام .

فالأول هو المراد بالآية ، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه ، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة ، وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ، ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير ، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به ، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال ، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 316 ] قال ابن إسحاق : بعد ما ذكر منهم جملة ، ووصف من شأنهم ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله ; لأنه كان يحيي الموتى ، و يبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفح فيه فيكون طيرا ، ويقولون هو ولد الله ; لأنه لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ، ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال : إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم .

قال : ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ آل عمران : 64 ] ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره ; إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد ، وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب ، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله ، وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا ، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى [ ص: 317 ] آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم .
والثاني : وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية ، وإن كان في المعنى داخلا فيه ; لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد ، أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى ، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة ، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير ، أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل : إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية .

ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج ، وغيرهم ، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال : سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين [ يوسف : 80 ] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب . قال الحميدي : فقلنا لسفيان : ما أراد بهذا ؟ فقال : إن الرافضة تقول إن عليا في السحاب ، فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي - : اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف .

فهذه الآية أمرها واضح ، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ، ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع [ ص: 318 ] جابر الآية عما قبلها ، وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية .

وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة ، وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله ، أو تحريمه ، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه ، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر ، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه ، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل ، فلا مدخل له في المسألة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg

ابوالوليد المسلم 27-05-2022 06:45 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (116)
صـ319 إلى صـ 329


فصل

فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول : قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص ، وما ذكر معه قليل ، وأن ما عد منه غير معدود منه ، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة .

وأما مسائل الخلاف ، وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها ، وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم [ ص: 319 ] يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه ، وأشباه ذلك .

وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم ، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها ، وهو ظاهر القرآن ; لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها ، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها ، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك ، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ، ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر ، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها [ ص: 320 ] بهذا الاعتبار ، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي ، وهو الثاني ، أو إلى التشابه الثالث .

ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه ، وما حصل له من علم الشريعة ، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل ; لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك ، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع ، وإن وقع الخلاف في مسائلها ، ومعترف بأن قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماعا على أن المتشابه في الشريعة قليل : وإن اعترفوا بكثرة الخلاف .

وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت ، وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا ، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة ، وإلى [ ص: 321 ] ذلك ، فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق ، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف ، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ، ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها - دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ، ومن يليهم من غيرهم - ، بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، ومن قبلهم ، أو بعدهم وأمثالهم ، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف .

ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا ، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى ، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده ، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل ، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب .
[ ص: 322 ] المسألة الرابعة

التشابه لا يقع في القواعد الكلية ، وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين .

أحدهما : الاستقراء أن الأمر كذلك .

والثاني : أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه ، وهذا باطل .

وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ، ويفسد بفساده ، ويتضح باتضاحه ، ويخفى بخفائه ، وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع ; إذ كل فرع فيه ما في الأصل ، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في [ ص: 323 ] التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها ، فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب .

فإن قيل : فقد وقع في الأصول أيضا ، فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم .

فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين ، أو في أصول الفقه ، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية ، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ، وإنما [ وقع ] في فروعها ؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو [ ص: 324 ] [ ص: 325 ] [ ص: 326 ] قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور ، وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن ، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط ، فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة ، وهي الأكثر ، فإذا اعتبر هذا [ ص: 327 ] المعنى ؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام ، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك ، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود هاهنا ولا هو مقصود صريح اللفظ ، وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم ; لأنه تعالى قال : منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] الآية فأثبت فيه متشابها ، وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة ، وإن نسب إليه فبالمجاز .
[ ص: 328 ] المسألة الخامسة

تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل ، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي ، أو من الإضافي ، فإن كان من الإضافي ، فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي ، وما أشبه ذلك ; لأن مجموعهما هو المحكم ، وقد مر بيانه ، وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله ; إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا ; لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح ، أو بالحديث الصحيح ، أو بالإجماع القاطع ، أو لا ، فإن وقع بيانه بأحد هذه ، فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه ، وهو الإضافي ، وإن لم يقع بشيء من ذلك ، فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم ، وهو غير محمود .

وأيضا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين [ ص: 329 ] تأويل من غير دليل ، وهم الأسوة والقدوة ، وإلى غير ذلك ، فالآية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه [ آل عمران : 7 ] الآية ، ثم قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] ، وقد ذهب جملة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل ، وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين ، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله : والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد ، وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف ، وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى ب ( إلجام العوام ) فطالعه من هنالك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


ابوالوليد المسلم 27-05-2022 06:48 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (117)
صـ330 إلى صـ 343



المسألة السادسة

إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة : أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ، ويكون اللفظ المؤول قابلا له ، وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أو لا ، فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه ، فلا يقبل التأويل ، وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا ، فإن جرى على ذلك ، فلا [ ص: 331 ] إشكال في اعتباره ; لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا ، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله ، أو مرجوحيته ، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم ، فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ، ورميا في جهالة ، فهو ترك للدليل لغير شيء ، وما كان كذلك فباطل .

هذا وجه .

ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع ، وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة ، وإما [ ص: 332 ] أن لا يبطله ، ويعتمد القول به على وجه ، فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك ، وإن لم يصح فهو نقض الغرض ; لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح ، فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل ، وذلك يقتضي بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا ، هذا خلف .

ووجه ثالث ، وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه ، وهو جمع بين النقيضين ، ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] بالفقير ؛ فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح ، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] [ ص: 333 ] أنه من غوي الفصيل لعدم صحة غوى بمعنى غوي ، فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ والأول لا يصح فيه من جهة المعنى ، ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان بن سمعان في قوله تعالى : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] .
وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل ، بل هو جار في باب التعارض والترجيح ، فإن الاحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما ، والدليل في الموضعين واحد .
الفصل الثاني : في الإحكام والنسخ .

ويشتمل على مسائل :

المسألة الأولى :

اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة ، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة ؛ كالصلاة وإنفاق المال ، وغير ذلك ، ونهى عن كل ما هو كفر ، أو تابع للكفر كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله تعالى ، وما جعل لله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله ، وسائر ما حرموه على أنفسهم ، أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله ، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ، ونحوها ، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي ، [ ص: 336 ] والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنا والقتل والوأد ، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية ، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر .

ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود ، وتحريم المسكرات ، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية ، وما يكملها ، ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص ، وما أشبه ذلك ، وإنما ذلك كله تكميل للأصول الكلية .

فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام ، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب [ ص: 337 ] العهد بالإسلام واستئلاف لهم ، مثل كون الصلاة كانت صلاتين ، ثم صارت خمسا ، وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ، ثم صار محدودا مقدرا ، وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ، ثم صارت الكعبة ، وكحل نكاح المتعة ، ثم تحريمه ، وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ، ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ، ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ، ثم أزيل ، أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ، ثم أحكم .
[ ص: 338 ] المسألة الثانية

لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير ; لأن النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا .

ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ [ ص: 339 ] لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها ، والجزئيات المكية قليلة .

وإلى هذا ، فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ، ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه ، وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .

فدخول النسخ في الفروع المكية قليل ، و هي قليلة فالنسخ فيها قليل في قليل ، فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر .

ووجه آخر ، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ; لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق ؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ؛ ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر ; لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى [ ص: 340 ] هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما .
فصل

وهكذا يقال : في سائر الأحكام مكية كانت ، أو مدنية .

ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ، ووجه ثالث ، وهو أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ، ومحتملا ، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل ، أو تخصيصا لعموم ، أو تقييدا لمطلق ، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني .

وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ، وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ، ثم اختلفوا في نسخها .

قال ابن النحاس : " فلما ثبتت بالإجماع ، وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع ، أو حديث يزيلها ، ويبين نسخها ولم [ ص: 341 ] يأت من ذلك شيء " . انتهى المقصود منه .

ووجه رابع يدل على قلة النسخ ، وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا ، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، ومثله رفع براءة الذمة بدليل .

وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] [ ص: 342 ] وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل قوله : الذين هم في صلاتهم خاشعون [ المؤمنون : 2 ] [ ص: 343 ] قالوا ، وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه ، وأكثر القرآن على ذلك ، معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا ، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية .

فإذا اجتمعت هذه الأمور ، ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر على أن هاهنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ ، وهي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 27-05-2022 06:52 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (118)
صـ344 إلى صـ 367



وذلك أنالذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين،فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ، أومنفصل نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكمالشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا ; لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ، وهو أنالنسخ في الاصطلاحالمتأخراقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء بهآخرا ؛ فالأول غير معمول به ؛ والثاني : هو المعمول به . وهذا المعنى جار في تقييد المطلق ، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ،فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد معمقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ ، وكذلك العام مع الخاص ; إذ كان ظاهرالعام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكمظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهملمدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ،[ ص: 345 ] وبقيالسائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كانكذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد . ولا بد من أمثلة تبين المراد ، فقد رويعنابن عباسأنه قال في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد[ الإسراء : 18 ] : إنه ناسخ لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها[ الشورى : 20 ] . وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله : نؤته منهامطلقا ، ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الآية الأخرى : لمن نريد، وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ . [ ص: 346 ] وقال في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوونإلى قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون[ الشعراء : 224 - 226 ] : هو منسوخ بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا[ الشعراء : 227 ] الآية . قالمكي: وقد ذكر عنابن عباسفي أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال : منسوخ . قال : وهو مجاز لا حقيقة ; لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرفالاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ[ ص: 347 ] منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه ، وهو بغير حرف . هذا ما قال ، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص . وقال في قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها[ النور : 27 ] إنه منسوخ بقوله : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة[ النور : 29 ] الآية . وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله : ليس عليكم جناحيثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة . وقال في قوله : انفروا خفافا وثقالا[ التوبة : 41 ] إنه منسوخ[ ص: 348 ] بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة[ التوبة : 122 ] والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع . وقال في قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول[ الأنفال : 1 ] منسوخ بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسهالآية [ الأنفال : 41 ] ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : لله والرسولوقال في قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء[ الأنعام : 69 ] إنه منسوخ بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها[ النساء : 140 ] الآية ، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار[ ص: 349 ] لا تنسخ ولا تنسخ . وقال في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه[ النساء : 8 ] [ ص: 350 ] الآية : إنه منسوخ بآية المواريث . وقال مثلهالضحاكوالسدي،وعكرمة، وقالالحسنمنسوخ بالزكاة ، وقالابن المسيبنسخه الميراث والوصية . والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال [ حمل ] الآية على الندب والمراد بأولي القربى من لا يرث بدليل قوله : وإذا حضرفقيد كما[ ص: 351 ] ترى الرزق بالحضور ، [ فدل أن ] المراد غير الوارثين ، وبينالحسنأن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم . وقال هووابن مسعودفي قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء[ البقرة : 284 ] : إنه منسوخ بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] ، مع أن الأخبار لا تنسخ ، وإنما المراد - والله أعلم - ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان ، وبينذلك قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] [ ص: 352 ] بدليل أنابن عباسفسر الآية بكتمان الشهادة ; إذ تقدم قوله : [ ص: 353 ] ولا تكتموا الشهادة[ البقرة : 283 ] ثم قال : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللهالآية [ البقرة : 284 ] فحصل أن ذلك من باب[ ص: 354 ] تخصيص العموم ، أو بيان المجمل . وقال في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ النور : 31 ] : إنه منسوخ بقوله : والقواعد من النساءالآية [ النور : 60 ] وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم . وعنأبي الدرداء،وعبادة بن الصامتفي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم[ المائدة : 5 ] أنه ناسخ لقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه[ الأنعام : 121 ] ، فإن كان المراد أن طعامأهل الكتابحلال، وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم ، وإن كان المراد أن طعامهمحلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص ، لكن آية الأنعام هي آيةالعموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس . [ ص: 355 ] وقالعطاءفي قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره[ الأنفال : 16 ] : إنه منسوخ بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين[ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيتين، وإنما هو تخصيص ، وبيان لقوله : ومن يولهمفكأنه على معنى : ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير . وقال في قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم[ النساء : 24 ] : إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وهذا من باب تخصيص العموم . [ ص: 356 ] وقالوهب بن منبهفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] : نسختها الآية التي في غافرويستغفرون للذين آمنوا[ غافر : 7 ] . وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى ; إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها . وقالابن النحاس: " هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ ; لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون ،وهب بن منبهأراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى " . قال : " وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه " . [ ص: 357 ] قال : والدليل على ما قلناه ما حدثناهأحمد بن محمد، ثم أسندعنقتادةفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] قال : للمؤمنين منهم. وعنعراك بن مالكوعمر بن عبد العزيزوابن شهابأن قوله : والذين يكنزون الذهب والفضةالآية [ التوبة : 34 ] منسوخ بقوله : خذ من أموالهم صدقة[ التوبة : 103 ] ، وإنما هو بيان لما يسمى كنزا ، وأن المال إذا أديتزكاته لا يسمى كنزا ، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية ، فليس من النسخ فيشيء . وقالقتادةفي قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] : إنه منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] ، وقالهالربيع بن أنسوالسديوابن زيد، وهذا من الطراز المذكور ; لأن الآيتين مدنيتان ولم[ ص: 358 ] تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه ، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] فيما استطعتم ، وهو معنى قوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن . وقالقتادةأيضا في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ البقرة : 228 ] : إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله : فما لكم عليهن من عدة تعتدونها[ الأحزاب : 49 ] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهرإلى قوله : أن يضعن حملهن[ الطلاق : 4 ] . وقالعبد الملك بن حبيبفي قوله : اعملوا ما شئتم[ فصلت : 40 ] [ ص: 359 ] وقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[ الكهف : 29 ] ، وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم[ التكوير : 28 ] : إن ذلك منسوخ بقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين[ التكوير : 29 ] ، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد ،وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره ، بلهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه . وقال في قوله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا[ التوبة : 97 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما[ التوبة : 98 ] إنه منسوخ بقوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر[ التوبة : 99 ] الآية ، وهذا من[ ص: 360 ] الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن . وقالأبو عبيد، وغيره إن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون[ النور : 4 ] [ ص: 361 ] منسوخ بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلكالآية [ النور : 5 ] . وقد تقدملابن عباسمثله . وقيل في قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا[ الزمر : 53 ] منسوخ بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك بهالآية [ النساء : 48 ] ، وقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنمالآية [ النساء : 93 ] ، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ . وفي قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم[ الأنبياء : 98 ] [ ص: 362 ] إنه منسوخ بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون[ الأنبياء : 101 ] ، وكذلك قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها[ مريم : 71 ] منسوخ بها[ ص: 363 ] أيضا ، وهو إطلاق النسخ في الأخبار ، وهو غير جائز . قالمكي: " وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون اللهكلهم النار ; لأن النسخ إزالة الحكم الأول ، وحلول الثاني محله ولا يجوززوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص ، وبيان " . [ ص: 364 ] وفي قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمناتالآية [ النساء : 25 ] إنه منسوخ بقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم[ النساء : 25 ] ، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات . والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان مافي تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهوأعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا ، وبالله التوفيق . [ ص: 365 ] المسألة الرابعةالقواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ،وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء ، فإن كل ما يعود بالحفظعلى الأمور الخمسة ثابت ، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجهآخر من الحفظ ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق ; إذ لايلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس . بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة ، وإن اختلفت أوجه الحفظبحسب كل ملة ، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات . وقد قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[ الشورى : 13 ] وقال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل[ الأحقاف : 35 ] وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] وقال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللهالآية [ المائدة : 43 ] . [ ص: 366 ] وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة ، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما . وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم[ الحج : 78 ] . وقال في قصةموسىعليه السلام : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري[ طه : 14 ] وقال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم[ البقرة : 183 ] وقال : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة[ القلم : 17 ] وقال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس[ المائدة : 45 ] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات . وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق ، هذا وإن كانوا قدكلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ، ومثل ذلك التحسينيات ،فقد قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر[ العنكبوت : 29 ] ، وقوله : فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن ، وغير ذلك . [ ص: 367 ] وأما قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[ المائدة : 48 ] ، فإنه يصدق على الفروع الجزئية ، وبه تجتمع معانيالآيات والأخبار ، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخفيها ، وثبتت ولم تنسخ ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولىوالله تعالى أعلم .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


ابوالوليد المسلم 27-05-2022 06:55 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (119)
صـ368 إلى صـ 378

الفصل الثالث في الأوامر والنواهي .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى

الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر ؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به ، وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه ، ومع [ ص: 370 ] هذا ففعل المأمور به ، وترك المنهي عنه يتضمنان ، أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل ، أو الترك ، أو لا يقع .

وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين .

أحدهما : الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان ، وما أراد أن لا يكون ، فلا سبيل إلى كونه ، أو تقول ، وما لم يرد أن يكون ، فلا سبيل إلى كونه .

والثاني : الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به ، وعدم إيقاع [ ص: 371 ] المنهي عنه ، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ، ويرضاه ، ويحب أن يفعله المأمور ، ويرضاه منه من حيث هو مأمور به ، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ، ويرضاه .

فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به ؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر ; إذ الأمر يستلزمها ; لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك ؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا ، وإلا لم يكن إلزاما ولا يتصور له معنى مفهوم .

وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور ، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول ، وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك ، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول ، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر ، فقد يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد ، وأما بالمعنى الثاني ، فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد .

والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة ؛ فقال تعالى في الأولى : [ ص: 372 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ الأنعام : 125 ]

وفي حكاية نوح عليه السلام : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ هود : 34 ] .

وقال تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله : ولكن الله يفعل ما يريد [ البقرة : 253 ] ، وهو كثير جدا .

وقال في الثانية : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ]

ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية [ المائدة : 6 ] .

يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 26 - 28 ] [ ص: 373 ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] ، وهو كثير جدا أيضا .

ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة ؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا ، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا ، وأثبتها في الأمر مطلقا ، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك .

وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق ، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين ، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير ، وهي أيضا إرادة التكليف ، وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف ، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان .
[ ص: 374 ] المسألة الثانية

الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .

وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .

ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن [ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .

والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .

فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .

أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .

[ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .

والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .

فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي المعتزلة .

[ ص: 377 ] وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .

وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .

[ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg




ابوالوليد المسلم 27-05-2022 06:58 PM

رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (120)
صـ379 إلى صـ 390



المسألة الثالثة

الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق .

وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، فإنه إذا قال الشارع : " أعتق رقبة " فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية ، فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة .

[ ص: 380 ] والثاني : أن الأمر من باب الثبوت ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص ، وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية .

والثالث : أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا ، أو غير معين ، فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا ، فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور ، وهذا محال ، وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا ; لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتحصل به امتثال ؛ فالتكليف به محال ، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد ، فلا يكون مقصودا له ; لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن [ ص: 381 ] قصده إيقاع المطلق ، هذا خلف لا يمكن .

فإن قيل : هذا معارض بأمرين :

أحدهما : أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا ; لأن المطلق لا يوجد في الخارج ، وإنما هو موجود في الذهن ، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج ; إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج ، وإذ ذاك يصير مقيدا لا مطلقا ، فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد ، وحينئذ يمكن الأمتثال فوجب المصير إليه ، بل القول به .

والثاني : أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف ; لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو ؛ فكان يكون الثواب على تساو أيضا ، وليس كذلك ، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك ، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم .

وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها .

[ ص: 382 ] وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا ، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل ، وأكثر ثوابا من غيره ، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات ؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع ، وإن حصل الأمر بالمطلقات .

[ ص: 383 ] فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني ، بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج ، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ [ بحيث ] لو أطلق عليه اللفظ صدق ، وهو الاسم النكرة عند العرب ، فإذا قال : " أعتق رقبة " فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس ، هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج ، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية .

وعن الثاني : أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق ، أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب ، أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق ، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم [ ص: 384 ] [ المطلق ] ، وهذا صحيح .

والثاني : مسلم ؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها ، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك ، وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ؛ ولذلك كان ندبا لا وجوبا ، وإن كان الأصل واجبا ; لأنه زائد على مفهومه ، فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق ، بل [ بدليل من ] خارج ؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد .

بخلاف الواجب المخير ، فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن ، فإذا أعتق المكلف رقبة ، أو ضحى بأضحية ، أو صلى صلاة ، ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق ؛ إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي ، وهو مطلق أيضا ، وإذا كفر بعتق فله أجر العتق ، أو أطعم فأجر الإطعام ، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل ، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [ به ] ، فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره ، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك .

وقد اندرج هنا أصل آخر ، وهي .
[ ص: 385 ] المسألة الرابعة

وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها .
المسألة الخامسة

المطلوب الشرعي ضربان :

أحدهما : ما كان شاهد الطبع خادما له ، ومعينا على مقتضاه بحيث يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها ، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ، ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم ، وما أشبه ذلك ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنا ، ونحوه مما [ ص: 386 ] يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب .

والثاني : ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج ، وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة ، وما أشبه ذلك .

فأما الضرب الأول ، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية ، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره ، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة ، وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ؟

ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن ، أو مندوب إليها ، أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى ؛ كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه .

[ ص: 387 ] وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا ، فلا إعادة عليه إلا استحسانا ، ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية ، فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا .

وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل ، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة ، أو الندب ؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك .

[ ص: 388 ] وأما الضرب الثاني ؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات ; إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب ، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه ، وينازعه كالعبادات ; لأنها مجرد تكليف .

وكما يكون ذلك في الطلب الأمري ، كذلك يكون في النهي ؛ فإن المنهيات على الضربين : فالأول كتحريم الخبائث ، وكشف العورات ، وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي ؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر ، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ، ومحاسن العادات ، فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في [ ص: 389 ] الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة ، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها ؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ، ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها ، بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة : " الشيخ الزاني وأخويه " ما جاء ، وكذلك فيمن قتل نفسه .

بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية : [ النساء : 17 ] .

أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب ؛ فكان الأمر فيه أشد ، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب [ ص: 390 ] حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع .

بخلاف ما خالف الطبع ، أو كان الطبع وازعا عنه ، فإنه لم يجعل له حد محدود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg


الساعة الآن : 12:03 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 536.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 534.68 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.33%)]