رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (82) صـ472 إلى صـ 481 فصل إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط ; فأين يسوغ العمل على وفقها ؟ فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم ، وذلك على أوجه : أحدها : أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم . والثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل [ ص: 472 ] على نفسه ما لعله يخاف عاقبته ; فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره ، والكرامة كما أنها خصوصية ، كذلك هي فتنة واختبار ، لينظر كيف تعملون ، وقد تقدم ذكره ، فإذا عرضت حاجة ، أو كان لذلك سبب يقتضيه ; فلا بأس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه " يراهم من وراء ظهره " لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر [ ص: 473 ] كراماته ومعجزاته ; فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز ; لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه ، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ، ولا يخلو إخباره من فوائد ، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به ، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا . والثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا ، كما روي عن أبي جعفر بن تركان ; قال : كنت أجالس الفقراء ; ففتح علي بدينار ، فأردت أن أدفعه إليهم ، ثم قلت في نفسي : لعلي أحتاج إليه ، فهاج بي وجع [ ص: 474 ] الضرس فقلعت سنا ، فوجعت الأخرى حتى قلعتها ; فهتف بي هاتف : إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة . وعن الروذباري قال : في استقصاء في أمر الطهارة ; فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي ، فقلت : يا رب ! عفوك ، فسمعت هاتفا يقول : العفو في العلم ، فزال عني ذلك . وعلى الجملة ; فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق ، وهو المطلوب ، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته ، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر ، وهي :[ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء : منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة . والثاني : أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه . والثالث : أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " . وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا [ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " . هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية . وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له : أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان . [ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا . وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ، [ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟ والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب [ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها . وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] . وقال : هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] . إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها . [ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة . وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم . |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (87) صـ511 إلى صـ 524 المسألة السابعة عشرة المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها ، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة ، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها . والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها ; كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد ، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي ; فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ، ولا بحد معلوم يخصه ; فإن كان كذلك ، فهو راجع إلى أمر ضروري ، والاستقراء يبين ذلك ; فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه . إلا أن المصالح والمفاسد ضربان : أحدهما : ما به صلاح العالم أو فساده ; كإحياء النفس في المصالح ، وقتلها في المفاسد . والثاني : ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد ، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب ، وكذلك الأول على مراتب أيضا ، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ، ثم النفس ، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل [ ص: 512 ] والمال ; فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به ، وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها جاز لها ذلك ، وهكذا سائرها . ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل [ به ] على مراتب ; فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة ، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور ; فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا ; كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين ، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب ، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا ; فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية ، والمعصية صغيرة من الصغائر ، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا ، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد ، بل لكل منها مرتبة تليق بها . [ ص: 513 ] المسألة الثامنة عشرة الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني . أما الأول ; فيدل عليه أمور : منها الاستقراء ; فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة ، إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن [ ص: 514 ] طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ; كالصوم ، والحج ، وغيرهما ، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله ، والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص ; إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص ، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم ; إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا ، وليس كذلك باتفاق ، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود ، وأن غيره غير مقصود شرعا . والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد ; لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب [ ص: 515 ] العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه ; دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ; إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور ; فلا لوم على من اتبعه ، لكن ذلك قليل ; فليس بأصل ، وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع . وأيضا ; فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له ; كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره ، والجمع بين الصلاتين ، وما أشبه ذلك . وإلى هذا ; فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة [ ص: 516 ] الخصوص ; كقوله : " سها فسجد " ، وقوله : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ، ونهيه عن " الصلاة طرفي النهار " ، وعلل ذلك بأن [ ص: 517 ] الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان . وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها ; فتجب فيها النية قياسا على التيمم ، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع ، بل هو من المسمى شبها ، بحيث لا يتفق على القول به القائلون ، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه ، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة ; فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه [ ص: 518 ] الوقوف عند ما حد ، دون التعدي إلى غيره ; لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ، فكان أصلا فيها . والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ; فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك ، ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في [ ص: 519 ] عدم اهتدائهم ; فقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] . وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] . والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق ، والله أعلم ، فإذا ثبت هذا ; لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع ، وهو معنى التعبد ، ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب ، وأجرى على طريقة السلف الصالح ، وهو رأي مالك رحمه الله ; إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك ، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه ، والتسليم كذلك ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات ، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله ; فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه ، وركنا يلجأ إليه . [ ص: 520 ] فصل وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ; فلأمور : أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] . وقال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] . وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان . وقال : لا ضرر ولا ضرار . [ ص: 521 ] وقال : القاتل لا يرث . [ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر . وقال : كل مسكر حرام . وفي القرآن : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [ المائدة : 91 ] [ ص: 523 ] الآية . إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني . والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله . والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (88) صـ525 إلى صـ 538 فصل فإذا تقرر هذا ، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني ; فإذا وجد فيها التعبد ; فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص ; كطلب الصداق في النكاح ، والذبح في [ المحل المخصوص في ] الحيوان المأكول ، والفروض المقدرة في المواريث ، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية ; حتى يقاس عليها غيرها ; فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك ; لتمييز النكاح عن السفاح ، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت ، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنها أمور جملية ; كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات ، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك . فإن قيل : وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا ؟ [ ص: 526 ] فالجواب أن يقال : أما أمور التعبدات ; فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان ، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ; قالت للسائلة : " أحرورية أنت ؟ " إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا ; إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ، ثم قالت : كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة ، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع : " هي السنة يا ابن أخي " ، وهو كثير ، ومعنى هذا التعليل أن لا علة . وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا ; فلها معنى مفهوم ، وهو ضبط وجوه المصالح ، إذ لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط ، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي ، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل ، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة ، وأسبابا معلومة لا تتعدى ; كالثمانين في القذف ، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان ، وخص قطع اليد بالكوع وفي [ ص: 527 ] النصاب المعين ، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة ، وكذلك الأشهر والقروء في العدد ، والنصاب والحول في الزكاة ، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين ، وهو المعبر عنه بالسرائر ; كالطهارة للصلاة ، والصوم ، والحيض ، والطهر ، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر ; فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه . وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع ; لكن له نظران : نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه ، كما في مذهب مالك مثلا ، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف ; فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه . [ ص: 528 ] ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه ، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليه ، فليجر بحسب الإمكان في مظانه ، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه ، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح ; فلا بد من اعتباره ، ومن الناس من توسط بنظر ثالث ; فخص هذا المختلف فيه بالظاهر ، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته . [ ص: 529 ] المسألة التاسعة عشرة كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد ; فلا تفريع فيه ، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد ; فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه : أحدها : أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو مكلف ، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه ، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم ; فإنه عبد مكلف ، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء ، بخلاف المصلحة ; فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين ، وإذا كان كذلك ; فالتعبد لازم لا خيرة فيه ، واعتبار المصلحة فيه الخيرة ، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا ، وإذا وقع الأمر [ ص: 530 ] والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا ; فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق ، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق ، خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح . وأيضا ; فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين ; فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل ; يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا ; فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض ، فالأمران على مذهبهم لازمان ، ولا يقول أحد منهم : إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح ، بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد . والثاني : أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك ، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم ; فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن ; لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا ، إذ هو قطع على غيب بلا دليل ، وذلك غير جائز ; فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم ; فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد . [ ص: 531 ] فإن قيل : لو جاز ذلك لم نقض بالتعدي على حال ، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى ; لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها ، فإذا أمكن ذلك ; لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك ; فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة . فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد ; لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا ، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة ، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ، ولم نكلف أن ننفي ما عداها ; [ ص: 532 ] فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم ، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة ، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية ، أو صالح لكونه علة ، كاف في تعدي الحكم به . وأيضا ; فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل ، وجميعها معلوم ; فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه ، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر ، فإذا ثبت هذا ، لم يبق للسؤال مورد ; فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ، ولا علينا . والوجه الثالث ; أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين : أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة ; كالإجماع ، والنص ، والإشارة ، والسبر ، والمناسبة ، وغيرها . وهذا القسم هو الظاهر الذي [ ص: 533 ] نعلل به ، ونقول : إن شرعية الأحكام لأجله . والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطلع عليه إلا بالوحي ; كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام ، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو ، وقذف الرعب ، والقحط ، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي . وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف ; لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر ; إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة ، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل ; فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل ، وإذ [ ص: 534 ] ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان . والرابع : أن السائل إذا قال للحاكم : لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان ؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك ; كان مصيبا ، كما أنه إذا قال : لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم ; كان مصيبا أيضا ، والأول جواب التعبد المحض ، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى ، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما ; جاز القصد إلى التعبد ، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا ، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد ، فلما صح القصد مطلقا ; صح المقصود له مطلقا ، وذلك جهة التعبد ، وهو المطلوب . والخامس : أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع ، لا مجال للعقل فيه ، بناء على قاعدة نفي [ ص: 535 ] التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما ; فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا ; فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ، فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات ، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا . ومن هنا يقول العلماء : إن من التكاليف " ما هو حق لله خاصة " ، وهو راجع إلى التعبد ، وما هو حق للعبد ، ويقولون في هذا الثاني : " إن فيه حقا لله " ، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما ، وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه ، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة ، وإن كانت براءة رحمها حقا له ، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم ; فقد صار إذا كل تكليف حقا لله ، فإن ما هو لله ; فهو لله ، وما كان للعبد ; فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله ; إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا . [ ص: 536 ] ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء : " إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق " ، علمت مفسدة النهي أم لا ، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا ، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه ، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي ، فإذا لم يحصل ; فالعمل باطل بإطلاق ، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد ، وإذا لم يخل ; فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات . إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية ، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد ; كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ، ومنها ما لا يصح إلا بنية ، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله ; كالزكاة ، والذبائح ، والصيد ، والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها ; فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها ، وكذلك التروك إذا تركت بنية ، وهذا متفق عليه ، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق ، لما حصل الثواب فيها أصلا ; لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها ، والمأمور به متقرب إلى الله به ، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة ، وكل عبادة مفتقرة إلى نية ; فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية . [ ص: 537 ] فإن قيل : إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب ، لا من كونها طاعة متقربا بها . قيل : هذا غير صحيح ; إذ لو كان كذلك ; لصح الثواب بدون النية ; لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية ، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية . وأيضا ; فلو حصل الثواب بغير نية ، لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها ، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد ; فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة ، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه ، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ; ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة . وهو دليل سادس في المسألة . فإن قيل : فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية ، وأن لا يصح عمل من لم ينو ، أو يكون عاصيا . قيل : قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب ، وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة ، فما كان المغلب فيه التعبد ; فمسلم ذلك فيه ، وما غلب فيه جهة العبد ; فحق العبد يحصل بغير نية ; فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله ، فإن راعى جهة الأمر ; فهو من تلك الجهة عبادة ، فلا بد فيه من نية ; أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها ، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة ; كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم ، أو أقرض بقصد دنيوي ، وكذلك البيع والشراء ، والأكل والشرب ، والنكاح والطلاق ، وغيرها . ومن هنا كان السلف - رضي الله عنهم - يثابرون على [ ص: 538 ] إحضار النيات في الأعمال ، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (93) صـ53 إلى صـ 63 المسألة الخامسة : جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين : أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير . والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان : أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير . والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره . والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان : [ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر . والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع : أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك . والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك . والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين : أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك . والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام : فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء . وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا : وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه . وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة . وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به . وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال . [ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا . وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت . ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث . ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل . فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك . فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن . وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك . وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به . وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة . هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان : أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (96) صـ92 إلى صـ 100 فصل [ ص: 92 ] هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ، ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره . فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره ، فهي مسألة الترس ، وما أشبهها فيجري فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا ، وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه ، فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف . وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ ، فقد يترجح جانب المصلحة العامة ، ويدل عليه أمران : أحدهما : قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها ، فمثل هذا داخل تحت حكمها . والثاني : ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وقوله نحري دون نحرك ، ووقايته له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في [ ص: 93 ] مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به ، فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر; لأنه كان كالجنة للمسلمين . وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين ، وأهله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عدمه فتعم مفسدته الدين ، وأهله ، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدم إلى السياف ، وقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة . في القصة المشهورة . [ ص: 94 ] وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا ، فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا ، أو لا . فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير; لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا; لأن الحرج ، وتكليف ما لا يطاق مرفوع ، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع . وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كمالا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات ، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه ، وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه ، وينظر فيها بحكم الغلبة ، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش ، وهو في الصلاة ، ومن نحو هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني [ ص: 95 ] لأسمع بكاء الصبي الحديث ، وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع ، فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه ، وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا ، كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب ، وحب الرياسة ، وكذلك السلطان ، أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به ، أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ؟ فالقول هنا بتقديم العموم أولى; لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه ، أو ما يشق عليه ، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات; لأنها مجرد ترك ، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله ، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب ، وهو يسير ، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه ، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر; لأنه أمر قد تعين عليه ، فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى; إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة ، أو الجهاد عينا ، أو الزكاة ، فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب ، وما أشبه ذلك ، وإن فرض أنه يقع به ، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع . فإن قيل : كيف هذا ، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك ، فصار كالمتسبب [ ص: 96 ] لنفسه في الهلكة ، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه ؟ فالجواب : أنه لو كان كذلك ، وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات ، وذلك باطل باتفاق . نعم ، قد يقال : إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم ، أو غصب ، أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة ، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف ، وإنما حاصل هذا أنه واقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته ، وهو على تلك الحال . وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها ، فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض ، وقد يرجح جانب المصلحة العامة ، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء ، فلا ينحتم عليه طلب ، وبين من له قوة في إقامة المصلحة ، وغناء ليس لغيره ، وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم ، أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة ، فما رجح منها غلب ، وإن استويا كان محل إشكال ، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة ، أو مساوية . فصل وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة ، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع . حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة [ ص: 97 ] فلما وصل كتابه إليهما قال : الشيخ ابن مجاهد ، وبعض أصحابه : هؤلاء قوم كفرة فسقة; لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال : إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصا لله لنهضت . قال القاضي ابن الطيب : فقلت لهم : كذا قال المحاسبي ، وفلان ، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق لا نحضر مجلسه ، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر ، وتبين له ما هم عليه بالحجة ، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ، ويقولوا بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وها أنا خارج إن لم تخرج ، فقال الشيخ : إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج . إلى آخر الحكاية . فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد ، فلا يكون لها اعتبار ، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد ، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله . [ ص: 98 ] المسألة الثامنة التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال : أحدها : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد; لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد; إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه ، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد ، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية ، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها ، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد . وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر ، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي; إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا : لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم ، فإذا لم يثبت الحصر ، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره . والثاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه ، أو لم [ ص: 99 ] يطلع عليه ، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد ، والقصد إليه في التعبد ، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد ، فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر ، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد ، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق ، أو الوجاهة عنده ، أو نيل شيء من الدنيا ، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر ، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه ، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد . والثالث : أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة ، أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم . أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ، ومملوكا ملبيا; إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر . وأيضا فإنه لما امتثل الأمر ، فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة ، وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض ، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض . [ ص: 100 ] وأما كونه أسلم ؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة ، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد ، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح ، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ، ومصالحهم ، وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه ، وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي ، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل ، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (102) صـ163 إلى صـ 183 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنَّظَرُ فِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ . فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ . [ ص: 168 ] [ ص: 169 ] النظر الأول في كليات الأدلة على الجملة [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] المسألة الأولى لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب [ ص: 172 ] الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى; لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا; إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس ، أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما ، وخصوصا; لأن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] [ ص: 173 ] وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وفي الحديث : تركتكم على الجادة الحديث ، وقوله : لا يهلك على الله إلا هالك ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر ، وإيضاح السبيل ، وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات ، وهي أصول الشريعة فما تحتها [ ص: 174 ] مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس; إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه . وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات ، واستقرائها [ ص: 175 ] وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج ، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات ، فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي ، وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي ، والجزئي هو مظهر العلم به ، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام ، وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ، وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي ، أو توهم المخالفة له ، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه ، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي ، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ; [ ص: 176 ] لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا ، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة . فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة ، فلا بد من الجمع في النظر بينهما ; لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد; إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ، فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع ، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ، ويلغى الجزئي . فإن قيل : الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها ، أو أكثرها ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي; لأن الاستقراء قطعي إذا تم ، فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء ، وفرض مخالفته [ ص: 177 ] غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف ، وجد أو لم يوجد ، فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك ، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل ، وأشباهها . فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك ، وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه ، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال ; إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي ؟ فالجواب أن هذا صحيح على الجملة ، وأما في التفصيل فغير صحيح ، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل ، وقد لا يدركها ، وإذا أدركها ، فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال ، أو زمان دون زمان ، أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر [ ص: 178 ] به على حالة واحدة ، وهو القتل بالمحدد ، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ، ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض ، وسائر الرخص [ ص: 179 ] الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض ، وأشباه ذلك . فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات ، أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظا على تلك الرتبة ، وعلى غيرها من الكليات ، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ، ويخص بعضها بعضا ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من اعتبار الكل في مواردها ، وبحسب أحوالها . وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه ، [ ص: 180 ] وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات; لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم ، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ، بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى ، وتهدم قاعدة أخرى ، أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين وفي كل حال ، وبين من المصالح ما يطرد ، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ، ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح ، وهو مناقض لمقصود الشارع ؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات ; لأنها يخدم بعضها بعضا ، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها ، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال . فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها ، وبالعكس ، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق ، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ، وما قرر في السؤال على الجملة صحيح; إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما ، [ ص: 181 ] والجزئي محكوم عليه بالكلي ، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة ، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات ، وهي التحرك بالإرادة ، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض ، أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه ، وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي ، أو عدم جريانه ، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب ، وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم ، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس ، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة ، وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين ، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية ، وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع [ ص: 182 ] المعارض; لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء ، أو فيه له شفاء ولا يقال : إن هذا تناقض; لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي ، وعدم اعتباره معا; لأنا نقول : إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي ، وفي كل حال ، بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلى فيه كالعرايا ، وسائر المستثنيات ، ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام [ ص: 183 ] الجزئي ، أو تقييده لمطلقه ، وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق ، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر ، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل ، فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف ، فإن فيها جملة الفقه ، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع ، وأن تتبع نصوصه مطلقة ، ومقيدة أمر واجب . فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار ، وبالله التوفيق . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (103) صـ184 إلى صـ 191 المسألة الثانية كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا ، أو ظنيا ، فإن كان قطعيا ، فلا إشكال في اعتباره ، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل ، وأشباه ذلك ، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا ، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا ، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان : قسم يضاد أصلا قطعيا ، وقسم لا يضاده ولا يوافقه ، فالجميع أربعة أقسام . فأما الأول ، فلا يفتقر إلى بيان . وأما الثاني ، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر ، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج ، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب . [ ص: 185 ] وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا ، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] وقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية . إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد ، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ، ومنه أيضا قوله : - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات كقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ] ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [ الطلاق : 6 ] لا تضار والدة بولدها [ البقرة : 233 ] . ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار ، وضرار ، ويدخل تحته الجناية على [ ص: 186 ] النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك . وأما الثالث ، وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ، ومن الدليل على ذلك أمران : أحدهما : أنه مخالف لأصول الشريعة ، ومخالف أصولها لا يصح; لأنه ليس منها ، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها . والثاني : أنه ليس له ما يشهد بصحته ، وما هو كذلك ساقط الاعتبار ، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة . وهذا القسم على ضربين : أحدهما : أن تكون مخالفته للأصل قطعية ، فلا بد من رده . والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا ، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق ، وهو مما لا يختلف فيه والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] . وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر ، أو لقاعدة أخرى . أما على اعتبار المصالح ، فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها ، أو جهلناها ، وأما على عدم اعتبارها [ ص: 189 ] فأوضح ، فإن للشارع أن يأمر ، وينهى كيف شاء ، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير . فإذا تقرر هذا ، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا : خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟ فقال الشافعي : لا يجب; لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب ، وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى ، وهو قوله : إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق فاقبلوه ، وإلا فردوه . [ ص: 190 ] فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق ، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى . وللمسألة أصل في السلف الصالح ، فقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه [ ص: 191 ] لقوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ] https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (108) صـ231 إلى صـ 240 المسألة السادسة كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين : إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم . والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي . فالأولى نظرية ، وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية . والثانية نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي ، بل هذا جار في كل مطلب عقلي ، أو نقلي فيصح أن نقول : الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت إن كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود [ ص: 232 ] منه ليستعمل ، أو لا يستعمل ; لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون ، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل : له أهذا خمر أم لا ، فلا بد من النظر في كونه خمرا ، أو غير خمر ، وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر ، أو حقيقتها بنظر معتبر قال : نعم هذا خمر ، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه ، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء ، فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا ، وذلك برؤية اللون ، وبذوق الطعم ، وشم الرائحة ، فإذا تبين أنه على أصل خلقته ، فقد تحقق مناطه عنده ، وأنه مطلق ، وهى المقدمة النظرية ، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية ، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز ، وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا ، فإن تحقق الحدث ، فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء ، وإن تحقق فقده فكذلك ، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء ، وهى المقدمة النقلية . فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ، ومقيدة ، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين ، وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما [ ص: 233 ] تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق ، أو على التقييد ، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات . نعم ، وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا ، وأردنا أن نعرف ما الذي يرفع من الاسمين ، وما الذي ينصب ، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول ، فإذا حققنا الفاعل ، وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية ، وهى أن كل فاعل مرفوع ، ونصبنا المفعول كذلك; لأن كل مفعول منصوب ، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل; لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية ، وهكذا في سائر علوم اللغة ، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا ، فلا بد من تحقيق مناط الحكم ، وهو العالم فنجده متغيرا ، وهي المقدمة الأولى ، ثم نأتي بمقدمة مسلمة ، وهو قولنا : كل متغير حادث . لكنا قلنا في الشرعيات ، وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية ، وهي المفيدة لتحقيق المناط ، وذلك مطرد في العقليات أيضا ، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات ؟ هذا لا بد من تأمله . والذي يقال : فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق [ ص: 234 ] أنها نقلية ، فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة ، وهي الضروريات ، وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين ، وهي أن تكون مسلمة ، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا ، فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه ، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر ، وبالله التوفيق . [ ص: 235 ] المسألة السابعة كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف ، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات ، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهد في المنهيات . وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون ، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره; إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ، وكذلك في العوارض الطارئة عليها; لأنها من جنسها ، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية ، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية; لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه ، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة . [ ص: 236 ] المسألة الثامنة فنقول : إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه ، أو تكميلا لأصل كلي ، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال . أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة ، وما نشأ عنهما ، وهو أول ما نزل بمكة . وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الأنعام : 151 ] ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ التكوير : 8 ] ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] ، وأشباه ذلك . [ ص: 237 ] وأما العقل فهو ، وإن لم يرد تحريم ما يفسده ، وهو الخمر إلا بالمدينة ، فقد ورد في المكيات مجملا; إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ، ومنافعها من السمع والبصر ، وغيرهما ، وكذلك منافعها ، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة ، أو لحظة ، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه . [ ص: 238 ] وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات; لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن ، حيث قال :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان . وأما النسل ، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج ، أو ملك اليمين . وأما المال فورد فيه تحريم الظلم ، وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ، ونقص المكيال ، أو الميزان والفساد في الأرض ، وما دار بهذا المعنى . وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن أذايات النفوس . ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب [ ص: 239 ] الوجود حاصل ، ففي الأربعة الأواخر ظاهر ، وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح ، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي ، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا . وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة ، وذلك يحصل به معنى الانقياد ، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم . [ ص: 240 ] وكذلك الصيام أيضا ، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء ، فأحكمهما التشريع المدني ، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة . والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر [ لقمان : 17 ] ، وما أشبه ذلك . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (114) صـ297 إلى صـ 311 فصل ولتعين المناط مواضع . منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ] [ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم . وقوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك . وفي الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال : ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير . ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب عذب . [ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه . ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي : ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ . أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية . ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك . ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من [ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] [ ص: 300 ] وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة . فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا [ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين . لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟ فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل [ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه . فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق . [ ص: 303 ] وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول . [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] الأول في الإحكام والتشابه . وله مسائل . المسألة الأولى المحكم يطلق بإطلاقين : عام ، وخاص . فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة ، وهذه الآية منسوخة ، وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ ، وبالإطلاق الثاني : الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا ، وعلى هذا الثاني : مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] . ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث [ ص: 306 ] من قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات فالبين هو المحكم ، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد ; لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب ، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ ، وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم . [ ص: 307 ] المسألة الثانية التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور . أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات : هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل . [ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] . وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح . والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول . [ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] . وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام . ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك . وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده . وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ، [ ص: 311 ] ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه . ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا . وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين . إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثالث الحلقة (115) صـ312 إلى صـ 318 فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب . [ ص: 313 ] ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] . وتركوا مبينه ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] واتبع الخوارج نحو قوله تعالى : إن الحكم إلا لله [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] واتبع الجبرية نحو قوله : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله : جزاء بما كانوا يكسبون [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي . [ ص: 315 ] المسألة الثالثة وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين . أحدهما : حقيقي والآخر إضافي ، وهذا فيما يختص بها نفسها ، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام . فالأول هو المراد بالآية ، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه ، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة ، وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ، ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير ، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به ، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال ، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 316 ] قال ابن إسحاق : بعد ما ذكر منهم جملة ، ووصف من شأنهم ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله ; لأنه كان يحيي الموتى ، و يبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفح فيه فيكون طيرا ، ويقولون هو ولد الله ; لأنه لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ، ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال : إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم . قال : ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ آل عمران : 64 ] ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره ; إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد ، وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب ، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله ، وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا ، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى [ ص: 317 ] آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم . والثاني : وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية ، وإن كان في المعنى داخلا فيه ; لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد ، أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى ، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة ، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير ، أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل : إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية . ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج ، وغيرهم ، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال : سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين [ يوسف : 80 ] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب . قال الحميدي : فقلنا لسفيان : ما أراد بهذا ؟ فقال : إن الرافضة تقول إن عليا في السحاب ، فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي - : اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف . فهذه الآية أمرها واضح ، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ، ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع [ ص: 318 ] جابر الآية عما قبلها ، وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية . وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة ، وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله ، أو تحريمه ، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه ، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر ، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه ، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل ، فلا مدخل له في المسألة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
الساعة الآن : 12:03 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour