ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=321121)

ابوالوليد المسلم 21-11-2025 12:49 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ403 الى صــ 412

الحلقة (41)






بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى ما يحزنك أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه .
وقال : ابن إسحاق لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده فجلسوا بالأفنية وأصلت عليهم القوم السيوف فجعلوا يقتلونهم فهش موسى فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه فقال : لهم موسى انطلقوا إلى موعد ربكم فقالوا يا موسى ما من توبة قال بلى : اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم - الآية فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين .
قال : وبعث عليهم ضبابة قال فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضا قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري .
قال ويتنادون فيها رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه قال فقتلاهم شهداء وتيب على أحيائهم ثم قرأ "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم" .
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم

يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم كما قال ابن جريج قال : ابن عباس في هذه الآية "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال علانية وكذا قال : إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس أنه قال : في قوله تعالى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" أي علانية أي حتى نرى الله وقال قتادة والربيع بن أنس "حتى نرى الله جهرة" أي عيانا وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه قال فسمعوا كلاما فقالوا "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال فسمعوا صوتا فصعقوا يقول مالوا.
وقال : مروان بن الحكم فيما خطب به على منبر مكة الصاعقة صيحة من السماء وقال السدي في قوله "فأخذتكم الصاعقة" نار وقال : عروة بن رويم في قوله "وأنتم تنظرون" قال : صعق بعضهم وبعضهم ينظرون ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء وقال السدي "فأخذتكم الصاعقة" فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون .
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56)
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم وكذا قال : قتادة وقال : ابن جرير حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامري ما قال : وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا

إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم .
فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله قالوا : يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال : للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ "إنا هدنا إليك" فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم - هذا سياق محمد بن إسحاق - وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين أنهم بعد إحيائهم قالوا يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك فادعه أن يجعلنا أنبياء فدعا بذلك فأجاب الله

دعوته وهذا غريب جدا إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون وقد غلط أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه كيف
يناله هؤلاء السبعون .
القول الثاني في الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية قال : لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم فقال إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه فقالوا ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا ويقول هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى وقرأ قول الله "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال ثم أحياهم الله من بعد موتهم وقرأ قول الله "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" فقال لهم موسى خذوا كتاب الله فقالوا لا فقال أي شيء أصابكم ؟ فقالوا أصابنا أنا متنا ثم أحيينا قال خذوا كتاب الله قالوا لا فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا .
وقد حكى الماوردي في ذلك قولين أحدهما أنه سقط التكليف عنهم لمعاينته الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق والثاني أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف قال القرطبي وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح والله أعلم .
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم

فقال وظللنا عليكم الغمام وهو جمع غمامة سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون قال : ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس وقال الحسن وقتادة "وظللنا عليكم الغمام" كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس وقال : ابن جرير قال : آخرون وهو غمام أبرد من هذا وأطيب .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وظللنا عليكم الغمام" قال ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم .
وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال : قال ابن عباس "وظللنا عليكم الغمام" قال غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر .
قال ابن عباس وكان معهم في التيه : وقوله تعالى "وأنزلنا عليكم المن" اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا .

وقال مجاهد المن صمغة وقال : عكرمة المن شيء أنزله الله عليهم مثل الظل شبه الرب الغليظ وقال : السدي قالوا يا موسى كيف لنا بما هاهنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجرة الزنجبيل وقال : قتادة كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء وهذا كله في البرية وقال : الربيع بن أنس المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه .
وقال وهب بن منبه وسئل عن المن فقال خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر وهو الشعبي قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل وقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال :
فرأى الله أنهم بمضيع ... لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهم غاديات ... ويرى مزنهم خلايا وخورا
عسلا ناطفا وماء فراتا ... وحليبا ذا بهجة مزمورا
فالناطف هو السائل والحليب المزمور الصافي منه والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن فمنهم من فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كذا فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر ولكن ليس هو المراد من الآية وحده

والدليل على ذلك قول البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : قال النبي "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم من رواية الحسن العرني عن عمرو بن حريث به وقال : الترمذي حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا : حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد
بن عمرو ولا من حديث سعيد بن عامر عنه وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال - وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة فقال : حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي : روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها .
ثم قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط .

وروى النسائي أيضا وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر بقصة العجوة عند النسائي وبالقصتين عند ابن ماجه وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول جدري الأرض فقال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" وروى عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري قالا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" وقال النسائي في الوليمة أيضا حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة
عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" ثم رواه أيضا ابن ماجه من طرق عن الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به وقد رويا - أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي سلمة - كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش كابن ماجه وقال : ابن مردويه أيضا حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأعمش عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 12:53 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ413 الى صــ 422

الحلقة (42)






فقال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين"
وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به ثم ابن مردويه رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش به وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى وقد روى من حديث أنس بن
مالك رضي الله عنه كما قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا جويرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحجاب عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تداروا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فقال بعضهم نحسبه الكمأة فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكمأة من المن وماؤها شفاء العين والعجوة من الجنة وفيها شفاء من السم" وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئا من هذا والله أعلم : وروى عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضا في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين"

فقد اختلف كما ترى فيه على شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم فإن الأسانيد إليه جيدة وهو لا يتعمد الكذب وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه .
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السلوى طائر يشبه بالسماني كانوا يأكلون منه .
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة السلوى طائر يشبه السماني وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال السلوى هو السماني وكذا قال : مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك .
وقال قتادة : السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تغذى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وقال : وهب بن منبه : السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب وقال : سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحما فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريح فأذرت عند مساكنهم

السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبئوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبر وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما هاهنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب كل سبط من عين فقالوا هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام فقالوا هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى "وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى" وقوله "وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين" وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي وقال : سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا قال : ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله إنه العسل وأنشد في ذلك مستشهدا :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي : دعوى الإجماع لا يصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي هذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة

لأنه يسلى به ومنه عين سلوان وقال الجوهري : السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضا والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر :
شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه مفرج قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضا كما يقال سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك وقال الخليل واحده سلواة وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك هزة وكما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوي نقله كله القرطبي وقوله تعالى "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أمر إباحة وإرشاد وامتنان وقوله تعالى "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر .
فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب

سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58)
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين
يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بر مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكيا عن موسى "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا" الآيات .
وقال : آخرون هي أريحا ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر حكاه الرازي في تفسيره والصحيح الأول أن بيت المقدس وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ولما فتحوها أقروا أن يدخلوا الباب باب البلد "سجدا" أي شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس إنه كان يقول في قوله تعالى "وادخلوا الباب سجدا" أي ركعا وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وادخلوا الباب سجدا" قال ركعا من باب صغير

رواه الحاكم من حديث سفيان به ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل استاههم وقال الحسن البصري أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي وحكى عن بعضهم أن المراد هاهنا في السجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته وقال الخصيف : قال عكرمة قال ابن عباس كان الباب قبل القبلة وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة وقال خصيف قال عكرمة قال : ابن عباس فدخلوا على شق وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا فدخلوا مقنعي رءوسهم أي رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا وقوله تعالى "وقولوا حطة" قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال مغفرة استغفروا وروى عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه وقال الضحاك عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم وقال عكرمة قولوا "لا إله إلا الله"

وقال الأوزاعي. كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى "وقولوا حطة" فكتب إليه أن أقروا بالذنب وقال : الحسن وقتادة أي احطط عنا خطايانا "نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" وقال هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعي إليه روحه الكريمة أيضا ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر كما روي أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلا إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى وقال : بعضهم هذه صلاة الضحى وقال : آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم وقيل يصليها كلها بتسليم واحد والله أعلم .
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون
وقوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قال : البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن

معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - فدخلوا يزحفون على استاهم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة" ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسندا في قوله تعالى "حطة" قال فبدلوا وقالوا حبة وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على استاههم فقالوا حبة في شعرة "وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به وقال الترمذي حسن صحيح وقال محمد بن إسحاق كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا - يزحفون على استاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة "وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا"

وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم "ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا وقال : ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم"
وقال : سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء "سيقول السفهاء من الناس" قال : اليهود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا قال : ركعا وقولوا حطة أي مغفرة فدخلوا على استاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة فذلك قول الله تعالى "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة فقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة فأنزل الله "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال إنهم قالوا هطا سمعانا أزبة مزبا فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة

سوداء فذلك قوله تعالى "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى "ادخلوا الباب سجدا" قال ركعا من باب صغير فدخلوا من قبل استاههم وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع .
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجدا فدخلوا يزحفون على استاههم من قبل استاههم رافعي رءوسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزءوا فقالوا حنطة في شعيرة وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته.
ولهذا قال "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب وقال الشعبي الرجز إما الطاعون وإما البرد وقال سعيد بن جبير هو الطاعون وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم" وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 12:57 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ423 الى صــ 432

الحلقة (43)






وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم" وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد ابن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه .
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينا كل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.
وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال : ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون
الطويل .
وقال : عطية العوفي وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال : عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه كان لبني إسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا وقال قتادة كان حجرا طوريا من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه وقال : الزمخشري وقيل كان من رخام وكان ذراعا في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان يتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار قال وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل فقال : له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري محتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه قال وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون والله أعلم وقال يحيى بن النضر : قلت لجويبر كيف علم كل أناس مشربهم ؟ قال : كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين وقال الضحاك : قال ابن عباس لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارا وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس : قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتي عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون

منها وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية ; فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله - صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم .
وأما في هذه السورة وهي البقرة فهي مدنية فلهذا كان الخطاب فيها متوجها إليهم وأخبر هناك بقوله "فانبجست منه اثنتا عشرة عينا" وهو أول الانفجار وأخبر هاهنا بما آل إليه الحال آخرا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم .
وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده والأمر في ذلك قريب والله أعلم .
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم فقالوا "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها" وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير
كل يوم فهو مأكل واحد .
فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه بالثوم .
وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس عن الحسن في قوله "وفومها" قال : قال ابن عباس الثوم قال وفي اللغة القديمة فوموا لنا بمعنى اختبزوا قال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في عاثور شر وعافور شر وأثافي وأثاثي ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما والله أعلم وقال آخرون الفوم الحنطة وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال : ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس سئل عن قول الله "وفومها" ما فومها ؟ قال الحنطة .
قال ابن عباس.
أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير حدثنا علي بن الحسن حدثنا مسلم الجهني حدثنا عيسى بن يونس عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس في قول الله "وفومها" قال الفوم الحنطة بلسان بني هاشم

وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم الحنطة وقال سفيان الثوري : عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء "وفومها" قالا وخبزها.
وقال هشيم عن يونس عن الحسن وحصين أبي مالك "وفومها" قال الحنطة وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم فالله أعلم وقال الجوهري : الفوم الحنطة وقال ابن دريد : الفوم السنبلة .
وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز.
قال وقال بعضهم هو الحمص لغة شامية ومنه يقال لبائعه فامي مغير عن فومي قال البخاري .
وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى "قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع .
وقوله تعالى "اهبطوا مصرا" هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف .
قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك : وقال ابن عباس "اهبطوا مصرا" من الأمصار رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال : وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك وقال ابن جرير وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود "اهبطوا مصر" من غير إجراء يعني من غير صرف ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضا .

قال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضا .
ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى "قواريرا قواريرا" ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار وهذا الذي قاله فيه نظر والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثيرا في أي بلد دخلتموها وجدتموه فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه .
ولهذا قال "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم" أي ما طلبتم ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم يقول تعالى "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا أي لا يزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون .
وقال الضحاك عن ابن عباس "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" قال هم أصحاب القبالات يعني الجزية .
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قوله تعالى "وضربت عليهم الذلة" قال يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وقال الضحاك وضربت عليهم الذلة قال الذل .
وقال الحسن أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية

وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي المسكنة الفاقة .
وقال عطية العوفي الخراج وقال الضحاك الجزية وقوله تعالى "وباءوا بغضب من الله" قال الضحاك استحقوا لغضب من الله وقال الربيع بن أنس فحدث عليهم غضب من الله وقال سعيد بن جبير "وباءوا بغضب من الله" يقول استوجبوا سخطا وقال ابن جرير : يعني بقوله وباءوا بغضب من الله انصرفوا ورجعوا ولا يقال باء إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء ومنه قوله تعالى "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني .
فمعنى الكلام إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق" يقول تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكبر بطر الحق وغمط الناس" وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعد عن حميد بن عبد الرحمن قال : قال ابن مسعود كنت لا أحجب عن النجوى ولا عن كذا ولا عن كذا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته من آخر حديثه وهو يقول يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي ؟ فقال "لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمط الناس" يعني رد

الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبان حدثنا عاصم عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا وإمام ضلالة وممثل من الممثلين" وقوله تعالى "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به والله أعلم .
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون"

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدوي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قال سلمان رضي الله عنه سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" الآية وقال السدي إن "الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا" الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال : كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم "يا سلمان من أهل النار" فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا "قلت" هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" - قال - فأنزل الله بعد ذلك "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم

واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام "إنا هدنا إليك" أي تبنا فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض وقيل لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب وقال أبو عمرو بن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم وقد يقال لهم أنصار أيضا كما قال عيسى عليه السلام "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" وقيل إنهم سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة قاله قتادة وابن جريج وروي عن ابن عباس أيضا والله أعلم .
والنصارى جمع نصران كنشاوى جمع نشوان وسكارى جمع سكران ويقال للمرأة نصرانة قال الشاعر :
نصرانة لم تحنف
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق وجب عليهم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية وأما الصابئين فقد اختلف فيهم فقال سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه .
وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء جابر بن زيد والضحاك وإسحاق بن راهويه الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم.
وقال هشيم عن
مطرف : كنا عند الحكم بن عتبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين إنهم كالمجوس فقال الحكم ألم أخبركم بذلك وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال : هم قوم يعبدون الملائكة .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:00 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ433 الى صــ 442

الحلقة (44)






وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية قال فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة وقال أبو جعفر الرازي بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال : الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال : الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا .
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله قال ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم يعني في قوله لا إله إلا الله .
وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح أنهم قوم

تركب دينهم بين اليهود والمجوس ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنهم فاعلة ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم وأظهر الأقوال - والله أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه .
ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك وقال بعض العلماء الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي والله أعلم .
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63)
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رءوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال كما قال تعالى "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون" فالطور هو

الجبل كما فسره به في الأعراف ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد وهذا ظاهر وفي رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال وما لم ينبت فليس بطور وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا .
وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدوا فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر فرحمهم الله فكشفه عنهم فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك وذلك قول الله تعالى "ورفعنا فوقكم الطور" وقال الحسن في قوله "خذوا ما آتيناكم بقوة" يعني التوراة وقال أبو العالية والربيع بن أنس بقوة أي بطاعة وقال مجاهد : بقوة بعمل بما فيه وقال قتادة "خذوا ما آتيناكم بقوة" قوة الجد وإلا قذفته عليكم .
قال : فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطه عليكم يعني الجبل .
وقال أبو العالية والربيع "واذكروا ما فيه" يقول اقرءوا ما في التوراة واعملوا به .
ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64)
ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
قوله تعالى "ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم" يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه "فلولا فضل الله عليكم ورحمته" أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم "لكنتم من الخاسرين" بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة .
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
يقول تعالى "ولقد علمتم" يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك

قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليس بإنسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون" القصة بكمالها .
وقال السدي : أهل هذه القرية هم أهل أيلة وكذا قال قتادة وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة وقوله تعالى "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة .
وإنما هو مثل ضربه الله "كمثل الحمار يحمل أسفارا" ورواه ابن جرير عن المثنى عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به وهذا سند جيد عن مجاهد وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره

قال الله تعالى "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت" الآية وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير : وقال شيبان النحوي عن قتادة "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء وقال عطاء الخراساني نودوا يا أهل القرية كونوا قردة خاسئين فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم فيقولون برءوسهم أي بلى وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصة حدثنا محمد بن مسلم يعني الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل .
وقال الضحاك عن ابن عباس فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام قال ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء .
ويحوله كما يشاء وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله "كونوا قردة خاسئين" قال يعني أذلة صاغرين وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه

وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة قال : قال ابن عباس إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة - فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها مدين فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم حتى إذا ذهب السبت ذهبن فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعا حتى إذا ذهب السبت ذهبن فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت فانطلق به فأكله حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك ووجد الناس ريح الحيتان فقال أهل القرية والله لقد وجدنا ريح الحيتان ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل قال ففعلوا كما فعل وصنعوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق فقالت طائفة منهم من أهل البقية ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ولم تنه القوم عما صنعوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ؟ قالوا معذرة إلى ربكم بسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون قال ابن عباس : فبينا هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس

فلم يروهم قال : فقال بعضهم لبعض إن للناس شأنا فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم فوجدوها مغلقة عليهم قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد والمرأة بعينها وإنها لقردة والصبي بعينه وإنه لقرد قال : قال ابن عباس : فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم قال وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم ""
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر "الآية ."
وروى الضحاك عن ابن عباس نحوا من هذا وقال السدي في قوله تعالى "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال هم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت فذلك قوله تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك فقال لهم علماؤهم : ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم فقالوا إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه فقال الفقهاء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل قال وغلبوا أن ينتهوا .

فقال بعض الذين نهوهم لبعض "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" يقول لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم فقال بعضهم "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" فلما أبوا قال المسلمون والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ولعنهم داود عليه السلام فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطئوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض فذلك قول الله تعالى "فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" وذلك حين يقول "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" الآية فهم القردة "قلت" والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صوريا بل الصحيح أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم .
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
وقوله تعالى "فجعلناها نكالا" قال بعضهم الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم "نكالا" أي ما عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" وقوله تعالى لما بين يديها وما خلفها أي من القرى قال ابن عباس : يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون" ومنه قوله تعالى "أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" الآية على أحد الأقوال فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى وكذا قال سعيد بن جبير لما بين يديها وما خلفها قال من بحضرتها من
الناس يومئذ .
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي "فجعلناها نكالا لما بين يديها" قال ما قبلها من الماضين في شأن السبت وقال أبو العالية والربيع وعطية : وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم وكان هؤلاء يقولون المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تضر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ وهذا لعل أحدا من الناس لا يقوله بعد تصوره - فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان وهو ما حولها من القرى كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والله أعلم .
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها" أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم وقال ابن أبي حاتم : وروى عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية : لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم يخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها .
والثاني المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم .
والثالث أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن "قلت" وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى" الآية وقال تعالى "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" الآية وقال تعالى "أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم وموعظة لمن

يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم ولهذا قال "وموعظة للمتقين" : وقوله تعالى "وموعظة للمتقين" قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة وقال الحسن وقتادة "وموعظة للمتقين" بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها وقال السدي وعطية العوفي "وموعظة للمتقين" قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم "قلت" المراد بالموعظة هاهنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد وأحمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح والله أعلم .
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67)
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منه

"ذكر بسط القصة" قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:04 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ443 الى صــ 452

الحلقة (45)






فقال ذوو الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فقال "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا فأخذوها فذبحوها فضربوه ببعضها فقام فقالوا من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا فلم يورث قاتل بعد ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره أنبأنا يزيد بن هارون به ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به وقال آدم ابن أبي إياس في تفسيره : أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال : كان رجل من بني إسرائيل وكان غنيا ولم يكن له ولد وكان له قريب وكان وارثه فقتله ليرثه ثم ألقاه على مجمع الطريق وأتى موسى عليه السلام فقال له إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله قال : فنادى موسى في الناس فقال : أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا فلم يكن عندهم علم فأقبل القاتل على موسى عليه السلام فقال له أنت نبي الله فسل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فعجبوا من ذلك "فقالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض" يعني لا هرمة "ولا بكر" يعني ولا صغيرة "عوان بين ذلك" أي نصف بن البكر والهرمة "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" أي صاف لونها "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول" أي لم يذللها العمل "تثير الأرض ولا تسقي الحرث" يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث "مسلمة" يعني مسلمة من العيوب "لا شية فيها" يقول لا بياض فيها قالوا "الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ولولا أن القوم استثنوا فقالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون لما هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألت أضعاف
ثمنها فقال موسى إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها .
ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام فشكا إليه فقتله الله على أسوأ عمله وقال محمد بن جرير حدثني محمد بن سعيد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله في شأن البقرة وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم وكان الشيخ لا ولد له وكان بنو أخيه ورثته فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله .
وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله وتغرموا أهل المدينة التي لستم بهاديته وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا عمنا قتل على باب مدينتكم فوالله لتغرمن لنا دية عمنا .
قال أهل المدينة نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا وإنهم عمدوا إلى موسى عليه السلام فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا .
وأن جبريل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه السلام فقال قل لهم "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فتضربوه ببعضها .
وقال السدي "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن

أخيه ابنته فأبى أن يزوجه فغضب الفتى وقال والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته ولآكلن ديته فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل فقال يا عم انطلق معي فخذ من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم وقال قتلتم عمي فأدوا إلي ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية فقال له يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية فوالله إن ديته علينا لهينة ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى "وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون" فقال لهم موسى "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قالوا نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا وقال "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم فقالوا "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" والفارض الهرمة التي لا تلد والبكر التي لم تلد إلا ولدا واحدا والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها "فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" قال نقي لونها "تسر الناظرين" قال تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها" من بياض ولا سواد ولا حمرة "قالوا الآن جئت بالحق" فطلبوها فلم يقدروا عليها وكان رجل في بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح فقال له الرجل : تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا ؟
فقال له الفتى : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا قال الآخر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا .
فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف فلما أكثر عليه قال والله لا أشتريه منك بشيء أبدا وأبى أن يوقظ أباه فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن يجعل له تلك البقرة فمرت به بنو إسرائيل يطلبون

البقرة وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى فأعطوه ثنتين فأبى فزادوه حتى بلغوا عشرا .
فقالوا والله لا نتركك حتى نأخذها منك فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام فقالوا يا نبي الله إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنا .
فقال له موسى : أعطهم بقرتك .
فقال : يا رسول الله أنا أحق بمالي.
فقال صدقت .
وقال للقوم : أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبا فباعهم إياها وأخذ ثمنها فذبحوها قال اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه من قتلك ؟ فقال لهم ابن أخي قال : أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته .
فأخذوا الغلام فقتلوه وقال سنيد : حدثنا حجاج هو ابن محمد عن ابن جريج عن مجاهد وحجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا 2?ثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه وإذا أصبحوا أقام رئيسهم فنظر وأشرف فإذا له لم ير شيئا فتح المدينة فكانوا مع الناس حتى يمسوا قال : وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ولم يكن له وارث غير أخيه فطال عليه حياته فقتله ليرثه ثم حمله فوضعه على باب المدينة ثم كمن في مكان هو وأصحابه قال فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر فلم ير شيئا ففتح الباب فلما رأى القتيل رد الباب فناداه أخو المقتول وأصحابه هيهات قتلتموه ثم تردون الباب ؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذه فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض فأتوا موسى فذكروا له شأنهم قالوا : يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب قال أهل المدينة : يا رسول الله قد عرفت اعتزلنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا .
فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى "إن الله أمركم أن تذبحوا بقرة" وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف الظاهر أنها

مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدق ولا تكذب فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم .
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68)
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم وهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي" أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا هشام بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شددوا فشدد عليهم - إسناده صحيح - وقد رواه غير واحد عن ابن عباس وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد وقال ابن جريج : قال لي عطاء لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم

قال ابن جريج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد" قال "إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر" أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة وقاله ابن عباس أيضا وقال الضحاك عن ابن عباس : عوان بين ذلك يقول نصف بين الكبيرة والصغيرة وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك وقال السدي العوان النصف الثاني بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها : وقال هشيم عن جويبر عن كثير بن زياد عن الحسن في البقرة كانت بقرة وحشية وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها.
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69)
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين
قوله تعالى "تسر الناظرين" وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه كانت صفراء .
وعن ابن عمر كانت صفراء الظلف .
وعن سعيد بن جبير كانت صفراء القرن والظلف .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى "بقرة صفراء فاقع لونها" قال سوداء شديدة السواد

وهذا غريب والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه "فاقع لونها" وقال عطية العوفي "فاقع لونها" تكاد تسود من صفرتها وقال سعيد بن جبير "فاقع لونها" وقال صافية اللون .
وروى عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه .
وقال شريك عن معمر عن ابن عمر "فاقع لونها" قال صاف وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فاقع لونها" شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض .
وقال السدي "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس .
وقال وهب بن منبه إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها .
وفي التوراة أنها كانت حمراء فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول أنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد والله أعلم .
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70)
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون
قوله تعالى "إن البقر تشابه علينا" أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا "وإنا إن شاء الله" إذا بينتها لنا "لمهتدون" إليها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ابن أخي منصور بن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل قالوا" وإنا إن شاء الله لمهتدون "لما أعطوا ولكن استثنوا"

"ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن سرور بن المغيرة عن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن حديث أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لولا أن بني إسرائيل "قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبدأ ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم "وهذا حديث غريب من هذا الوجه وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم ."
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون
"قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث" أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلمة صحيحة لا عيب بها "لا شية فيها" أي ليس فيها لون غير لونها وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها وكذا قال أبو العالية والربيع وقال مجاهد : مسلمة من الشية.
وقال عطاء الخراساني : مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها قال مجاهد : لا بياض ولا سواد وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة : ليس فيها بياض .
وقال عطاء الخراساني : لا شية فيها قال لونها واحد بهيم وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك وقال السدي لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة .
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى "إنها بقرة لا ذلول" ليس بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال "تثير الأرض" أي يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره "قالوا الآن جئت بالحق" قال قتادة الآن بينت لنا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقبل ذلك والله جاءهم الحق

"فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال الضحاك عن ابن عباس كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها .
وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها وفي هذا نظر لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي ورواه العوفي عن ابن عباس قال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضا وقال ابن جرير وقال آخرون لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة وفي هذا نظر بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه وبالله التوفيق .
"مسألة" استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا"

تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها "وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم ."
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:07 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ453 الى صــ 462

الحلقة (46)






وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72)
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون
قال البخاري "فادارأتم فيها" اختلفتم وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى "وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها" اختلفتم وقال عطاء الخراساني والضحاك اختصمتم فيها وقال ابن جريج "وإذ قتلتم نفس فادارأتم فيها" قال : قال بعضهم أنتم قتلتموه وقال آخرون بل أنتم قتلتموه وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال مجاهد ما تغيبون وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم سمعت المسيب بن رافع يقول ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك في كلام الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون" .
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون
"فقلنا اضربوه ببعضها" هذا البعض أي شيء كان

من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فمن نبهمه كما أبهمه الله ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه قال فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها فقام تشخب أوداجه دم فقالوا له من قتلك ؟ قال قتلني فلان وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه ضرب ببعضها وفي رواية ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر قال : قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة ضربوا القتيل ببعض لحمها قال معمر : قال قتادة ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال قتلني فلان وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة "فقلنا اضربوه ببعضها" فضرب بفخذها فقام فقال قتلني فلان قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك .
وقال السدي فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه فقال قتلني ابن أخي وقال أبو العالية أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما من عظامها فيضربوا به

القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها وقيل بلسانها وقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى "كذلك يحيي الله الموتى" أي فضربوه فحي ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والعناد والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال "أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا" قال بلى : قال "كذلك النشور" أو قال "كذلك يحيي الله الموتى" وشاهد هذا قوله تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون" "مسألة" استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح فلان قتلني لوثا بهذه القصة لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال فلان قتلني فكان ذلك مقبولا منه لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ولا يتهم والحالة هذه .
ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين فقيل فعل بك هذا أفلان ؟ أفلان ؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين
وعند مالك إذا كان لوثا حلف أولياء القتيل قسامة وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا .
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى الله وإحيائه الموتى "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبدا ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط فقيل له من قتلك قال بنو أخي قتلوني ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبضه الله والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يبن جاريا ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه كما قال "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن

ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله" أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق "وما الله بغافل عما تعملون" وقال أبو علي الجياني في تفسيره "وإن منها لما يهبط من خشية الله" هو سقوط البرد من السحاب قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده الرازي وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل والله أعلم وقال : ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحكم بن هشام الثقفي حدثني يحيى ابن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" قال كثرة البكاء "وإن منها لما"
يشقق فيخرج منه الماء " قال قليل البكاء "وإن منها لما يهبط من خشية الله" قال بكاء القلب غير دموع العين وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة مثل ما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله " يريد أن ينقض "قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها "وقال" تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن "الآية وقال" والنجم والشجر يسجدان "" أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله "الآية" قالتا أتينا طائعين "" لو أنزلنا هذا القرآن على جبل "الآية" وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله "الآية وفي الصحيح" هذا جبل يحبنا ونحبه "وكحنين الجذع المتواتر خبره وفي صحيح مسلم" إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن "وفي صفة الحجر"

الأسود أنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه وحكى القرطبي قولا إنها للتخيير أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين .
وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر أنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل وقال آخر إنها بمعنى قول القائل كل حلوا أو حامضا أي لا يخرج عن واحد منهما .
أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .
"تنبيه" اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" بعد الإجماع على استحالة كونها للشك فقال بعضهم أو هاهنا بمعنى الواو تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" "عذرا أو نذرا" وكما قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد ونصفه قاله ابن جرير : وقال جرير بن عطية :
نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير يعني نال الخلافة وكانت له قدرا وقال آخرون أو هاهنا بمعنى بل فتقديره : فهي كالحجارة بل أشد قسوة وكقوله "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون "" فكان قاب قوسين أو أدنى " وقال آخرون معنى ذلك "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" عندكم حكاه ابن جرير : وقال آخرون المراد بذلك الإبهام على المخاطب كما قال أبو الأسود :"
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا
قال ابن جرير قالوا ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد

ولكنه أبهم على من خاطبه قال وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له شككت فقال كلا والله ثم انتزع يقول الله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" فقال أوكان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال ؟ وقال بعضهم معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها في القسوة .
قال : ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره "قلت" وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" مع قوله "أو كصيب من السماء" وكقوله "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" مع قوله "أو كظلمات في بحر لجي" الآية أي إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو كهذا والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" .
رواه الترمذي في كتابه الزهد من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب به وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم .

وروى البزار عن أنس مرفوعا "أربع من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" .
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75)
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
يقول تعالى "أفتطمعون" أيها المؤمنون "أن يؤمنوا لكم" أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" أي يتأولونه على غير تأويله "من بعد ما عقلوه" أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله وهذا المقام شبيه بقوله تعالى "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ثم قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس

قوله ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها .
وقال محمد بن إسحاق فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ثم خرج بهم حتى أتوا الطور فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل إن الله قد أمركم بكذا وكذا قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال هي التوراة حرفوها وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وقد قال الله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" أي مبلغا إليه ولهذا قال قتادة في قوله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "قال هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه وقال مجاهد الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم وقال : أبو العالية عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - فحرفوه عن مواضعه وقال السدي" وهم يعلمون "أي أنهم أذنبوا وقال ابن وهب قال : ابن زيد في قوله" يسمعون كلام الله ثم يحرفونه "قال : التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا وإذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله وإذا جاءهم المبطل"

برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق فقال الله لهم "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" .
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76)
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون
وقوله تعالى "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" الآية قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" أي إن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به يقول الله تعالى "أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" وقال : الضحاك عن ابن عباس : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا آمنا وقال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا .
وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن" فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق اذهبوا فقولوا آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهما بعد العصر .
وقرأ قوله الله تعالى "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره .
فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر فلما أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون

وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون بلى .
فإذا رجعوا إلى قومهم يعني الرؤساء فقالوا "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الآية .
وقال أبو العالية "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما أنزل الله في كتابكم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:10 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ463 الى صــ 472

الحلقة (47)






وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" قال كانوا يقولون سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض "فقالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" - قول آخر في المراد بالفتح قال : ابن جريج : حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة تحت حصونهم فقال "يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت" فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمدا ؟ ما خرج هذا القول إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" بما حكم الله للفتح يكون لهم حجة عليكم .
قال ابن جريج عن مجاهد هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب "ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم وقال عطاء الخراساني "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما قضى لكم وعليكم وقال الحسن البصري : هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم
به عند ربكم فيخصموكم .
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77)
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون
قوله تعالى "أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" قال أبو العالية : يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم وكذا قال قتادة وقال الحسن "إن الله يعلم ما يسرون" قال كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد وخلا بعضهم إلى بعض تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بما في كتابهم عند ربهم "وما يعلنون" يعني حين قالوا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا وكذا قال أبو العالية والربيع وقتادة .
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78)
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون
يقول تعالى "ومنهم أميون" أي ومن أهل الكتاب قاله مجاهد : والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة .
قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى "لا يعلمون الكتاب" أي لا يدرون ما فيه .
ولهذا في صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى "وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون" وقال عليه الصلاة والسلام "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث أي لا نفتقر في عبادتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تبارك وتعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" وقال ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه .
قال وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قول خلاف هذا وهو ما حدثنا به

أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ومنهم أميون" قال الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله ثم قال ابن جرير : وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب .
قلت ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر والله أعلم .
وقوله تعالى "إلا أماني" قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس إلا أماني الأحاديث وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "إلا أماني" يقول إلا قولا يقولون بأفواههم كذبا وقال مجاهد إلا كذبا : وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" قال أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب أماني يتمنونها وعن الحسن البصري نحوه وقال أبو العالية والربيع وقتادة إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إلا أماني قال تمنوا فقالوا نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم قال ابن جرير والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئا ولكنهم يتخرصون الكذب .
يتخرصون الأباطيل كذبا وزورا والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما تغنيت ولا تمنيت يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب .

وقيل المراد بقوله "إلا أماني" بالتشديد والتخفيف أيضا أي إلا تلاوة فعلى هذا يكون استثناء منقطعا واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى "إلا إذا تمنى" أي تلا "ألقى الشيطان في أمنيته" الآية وقال كعب بن مالك الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر :
تمنى كتاب الله آخر ليلة ... تمني داود الكتاب على رسل
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون" أي ولا يدرون ما فيه وهم يجحدون نبوتك بالظن وقال مجاهد "وإن هم إلا يظنون" يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع : يظنون بالله الظنون بغير الحق .
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون
وقوله تعالى "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا" الآية .
هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل والويل والهلاك والدمار وهي كلمة مشهورة في اللغة : وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمع أبا عياض يقول : ويل صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن

الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره" ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة "قلت" لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر والله أعلم .
قال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" قال "الويل جبل في النار" وهو الذي أنزل في اليهود لأنهم حرفوا التوراة زادوا فيها ما أحبوا ومحوا منها ما يكرهون ومحوا اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوراة ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال تعالى "فويل"

لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون "وهذا غريب أيضا جدا وعن ابن عباس الويل المشقة من العذاب وقال : الخليل بن أحمد الويل شدة الشر وقال سيبويه ويل لمن وقع في الهلكة وويح لمن أشرف عليها وقال الأصمعي الويل تفجع والويل ترحم وقال غيره : الويل الحزن وقال الخليل وفي معنى ويل ويح وويش وويه وويك وويب ومنهم من فرق بينها وقال بعض النحاة إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء ومنهم من جوز نصبها بمعنى ألزمهم ويلا" قلت "لكن لم يقرأ بذلك أحد وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم "قال هم أحبار اليهود وكذا قال سعيد عن قتادة هم اليهود وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم قال : نزلت في المشركين وأهل الكتاب وقال : السدي كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمنا قليلا وقال الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال : يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضا لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم رواه البخاري من طرق عن الزهري وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : الثمن القليل الدنيا بحذافيرها ."

وقوله تعالى "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء وويل لهم مما أكلوا به من السحت كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما فويل لهم يقول فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم .
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80)
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون
يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى "قل أتخذتم عند الله عهدا" أي بذلك فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ولكن هذا ما جرى ولا كان ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه .
قال محمد بن إسحاق بن سيف عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" إلى قوله "خالدون" ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه وقال العوفي عن ابن عباس "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة وقال الضحاك قال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا إن ما بين طرفي جهنم

مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي ثابتة في أصل الجحيم وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك .
فذلك قوله تعالى "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" وقال : عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على رءوسهم "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد" فأنزل الله عز وجل "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" الآية .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اجمعوا إلي من كان من اليهود هاهنا" فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أبوكم ؟" قالوا فلان قال "كذبتم بل أبوكم فلان" فقالوا صدقت وبررت ثم قال لهم "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟" قالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في ²?بينا فقال : لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أهل النار ؟" فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها فقال : لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا" ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟" قالوا : نعم يا أبا القاسم قال : "هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟" فقالوا نعم قال "فما حملكم على ذلك" فقالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك

ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه .
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81)
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
يقول تعالى ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة وهذا المقام شبيه بقوله تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا "قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس" بلى من كسب سيئة "أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره فما له من حسنة وفي رواية عن ابن عباس قال الشرك قال ابن أبي حاتم ."
وروي عن وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة

والربيع بن أنس نحوه وقال : الحسن أيضا والسدي السيئة الكبيرة من الكبائر .
وقال ابن جريج عن مجاهد "وأحاطت به خطيئته" قال بقلبه وقال : أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن "وأحاطت به خطيئته" قالوا أحاط به شركه .
وقال : الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خثيم "وأحاطت به خطيئته" قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب وعن السدي وأبي رزين نحوه وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس "وأحاطت به خطيئته" الموجبة الكبيرة وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى والله أعلم .
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا فأنضجوا ما قذفوا فيها

وقال ابن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:14 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ473 الى صــ 482

الحلقة (48)






والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82)
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له .
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ويذكرونه فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم كما قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير" وقال تبارك وتعالى "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" إلى أن قال "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال

"الصلاة على وقتها" قلت ثم أي ؟ قال "بر الوالدين" قلت ثم أي ؟ قال "الجهاد في سبيل الله" ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلا قال يا رسول الله من أبر ؟ قال "أمك" قال ثم من ؟ قال "أمك" قال ثم من ؟ قال "أباك ؟ ثم أدناك ثم أدناك" وقوله تعالى "لا تعبدون إلا الله" قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد وقيل كان أصله "أن لا تعبدوا إلا الله" كما قرأها من قرأها من السلف فحذفت أن فارتفع وحكي عن أبي وابن مسعود أنهما قرآها "لا تعبدوا إلا الله" ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه .
قال واختاره الكسائي والفراء قال "واليتامى" وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا" الآية .
وقوله تعالى "وقولوا للناس حسنا" أي كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى "وقولوا للناس حسنا" فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخراز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا"

تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق "وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخراز واسمه صالح بن رستم به وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة فقال :" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم ."
وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا" فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ولله الحمد والمنة .
ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه فقيل له : ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني ؟ فقال : إن الله تعالى "يقول وقولوا للناس حسنا" وهو السلام قال : وروي عن عطاء الخراساني نحوه "قلت" وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام والله أعلم .
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84)
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون

يقول الله تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام وكانت بينهم حروب كثيرة وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ولهذا قال تعالى "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه كما قال تعالى "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم" وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى "ثم أقررتم وأنتم تشهدون" أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .

ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
"ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية .
قال : أنبأهم الله بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به يفتدي بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه إلا من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة .

وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا : فلم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية .
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي : نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية .
وقال أسباط عن السدي عن عبد خير قال : غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة فلما مر برأس الجالوت نزل به فقال له عبد الله : يا رأس الجالوت هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني قال : نعم قال : أخذتها بسبعمائة درهم قال : فإني أربحك سبعمائة أخرى قال : فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف قال : لا حاجة فيها قال : والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه قال : ادن مني فدنا منه فقرأ في أذنه مما في التوراة : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم" قال : أنت عبد الله بن سلام ؟ قال : نعم قال : فجاء بأربعة آلاف فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين .
وقال آدم بن إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي حدثنا الربيع بن أنس أخبرنا أبو العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال عبد الله : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي

يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ولهذا قال تعالى "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب" جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وما الله بغافل عما تعملون "."
أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)
أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
"أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" واختاروها "فلا يخفف عنهم العذاب" أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ولا هم ينصرون أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه .
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء وأنهم إنما يتبعون أهواءهم فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء" الآية ولهذا قال تعالى "وقفينا من بعده بالرسل" قال السدي عن أبي مالك : أتبعنا وقال غيره : أردفنا .
والكل قريب كما قال تعالى "ثم أرسلنا رسلنا تترى" حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات .
قال ابن عباس : من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله وإبراء الأسقام وإخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به فاشتد تكذيب بني إسرائيل له

وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة البعض كما قال تعالى إخبارا عن عيسى "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم" الآية .
فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقا يكذبونه وفريقا يقتلونه وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال تعالى "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون" .
والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" ما قال البخاري وقال ابن أبي الزناد عن أبيه عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد فكان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك "فهذا من البخاري تعليقا وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري ثلاثتهم عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وهشام بن عروة كلاهما عن عائشة به قال الترمذي حسن صحيح وهو حديث أبي الزناد"

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "أجب عني اللهم أيده بروح القدس" فقال اللهم نعم وفي بعض الروايات أن رسول الله قال لحسان "اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك" وفي شعر حسان قوله :
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء
وقال محمد بن إسحاق حدثني عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا أخبرنا عن الروح فقال "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني ؟" قالوا نعم : وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" .

أقوال أخر : قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس "وأيدناه بروح القدس" قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى .
وقال ابن جرير حدثت عن المنجاب فذكره وقال ابن أبي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال : وهو الاسم الأعظم .
وقال ابن أبي نجيح : الروح هو حفظة على الملائكة وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى.
وهو قول كعب وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا : القدس هو الله تعالى وروحه جبريل .
فعلى هذا يكون القول الأول وقال السدي : القدس البركة .
وقال العوفي عن ابن عباس القدس الطهر وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى "وأيدناه بروح القدس" قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" ثم قال ابن جرير وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال الروح في هذا الموضع جبرائيل فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" الآية .
فذكر أنه أيده به فلو كان
الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله "وإذ أيدتك بروح القدس" "وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" تكرير قول لا معنى له والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به "قلت" ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق ولله الحمد وقال الزمخشري "بروح القدس" بالروح المقدسة كما تقول حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال "وروح منه" فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة وميل لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن "روحا من أمرنا" وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة وقال الزمخشري في قوله تعالى "فريقا كذبتم وفريقا تقتلون" إنما لم يقل وفريقا قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري" "قلت" وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png


ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:18 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ483 الى صــ 492

الحلقة (49)






وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)
وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي في أكنة : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي لا تفقه

وقال العوفي عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" هي القلوب المطبوع عليها وقال مجاهد وقالوا قلوبنا غلف عليها غشاوة وقال عكرمة : عليها طابع وقال أبو العالية : أي لا تفقه وقال السدي يقولون عليها غلاف وهو الغطاء : وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : فلا تعي ولا تفقه قاله مجاهد وقتادة : وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء "بل لعنهم الله بكفرهم" أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير "فقليلا ما يؤمنون" قال قتادة معناه لا يؤمن منهم إلا القليل "وقالوا قلوبنا غلف" هو كقوله "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقال عبد الرحمن بن أسلم في قوله غلف قال : تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء وقرأ "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري عن حذيفة قال "القلوب أربعة - فذكر منها - وقلب أغلف"

مغضوب عليه وذاك قلب الكافر "وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي أنبأنا أبي عن جدي عن قتادة عن الحسن في قوله :" قلوبنا غلف "قال : لم تختن وهذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير ."
قول آخر : قال الضحاك عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" قال يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره وقال عطية العوفي عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي أوعية للعلم وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها حكاه ابن جرير وقالوا قلوبنا غلف بضم اللام نقلها الزمخشري أي جمع غلاف أي أوعية بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بعلم التوراة ولهذا قال تعالى "بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون" أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال في سورة النساء "وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" وقد اختلفوا في معنى قوله "فقليلا ما يؤمنون" وقوله "فلا يؤمنون إلا قليلا"

فقال بعضهم فقليل من يؤمن منهم وقيل فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم إنما كانوا غير مؤمنين بشيء وإنما قال : فقليلا ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون كما تقول العرب قلما رأيت مثل هذا قط.
تريد ما رأيت مثل هذا قط وقال الكسائي : تقول العرب من زنى بأرض قلما تنبت أي لا تنبت شيئا حكاه ابن جرير رحمه الله والله أعلم .
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
يقول تعالى "ولما جاءهم" يعني اليهود "كتاب من عند الله" وهو القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "مصدق لما معهم" يعني من التوراة وقوله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم قال : فينا والله وفيهم يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" قالوا كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب

وهم يقولون إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به يقول الله تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" وقال يستنصرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون وقال محمد بن إسحاق أخبرني محمد بن أبي محمد أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم .
فأنزل الله في ذلك من قولهم "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم" الآية .
وقال العوفي عن ابن عباس "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" يقول يستنصرون بخروج محمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب فلما بعث محمد ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه .

وقال أبو العالية : كانت اليهود تستنصر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم .
فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" وقال قتادة "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" قال وكانوا يقولون إنه سيأتي نبي "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وقال مجاهد "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" قال هم اليهود .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
قال مجاهد "بئسما اشتروا به أنفسهم" يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبينوه وقال السدي "بئسما اشتروا به أنفسهم" يقول باعوا به أنفسهم يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - عن تصديقه وموازرته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية "أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" ولا حسد أعظم من هذا قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" أي إن الله جعله من غيرهم "فباءوا بغضب على غضب" قال ابن عباس في الغضب على الغضب فغضب عليهم في ما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم

"قلت" ومعنى "باءوا" استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب وقال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وعن عكرمة وقتادة مثله قال السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس مثله .
وقوله تعالى "وللكافرين عذاب مهين" ولما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار" .
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين

يقول تعالى "وإذا قيل لهم" أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب "آمنوا بما أنزل الله" على محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه واتبعوه "قالوا نؤمن بما أنزل علينا" أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك "ويكفرون بما وراءه" يعنى بما يعدوه "وهو الحق مصدق لما معهم" أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "الحق مصدقا لما معهم" منصوبا على الحال أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ثم قال تعالى" فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغيا وعنادا واستكبارا على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى" أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون "وقال السدي في هذه الآية يعيرهم الله تبارك وتعالى" قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين "وقال أبو جعفر بن جرير : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا : لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم ."
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
"ولقد جاءكم موسى بالبينات" أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا إله إلا الله والآيات البينات هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن

والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبودا من دون الله في زمان موسى وأيامه وقوله من بعده أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كما قال تعالى "واتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خوار" "وأنتم ظالمون" أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من بعده عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين" .
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا قالوا "سمعنا وعصينا" وقد تقدم تفسير ذلك "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" قال عبد الرزاق عن قتادة "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقال الإمام أحمد حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال "حبك الشيء يعمي ويصم"

ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال السدي أخذ موسى عليه السلام العجل فذبحه بالمبرد ثم ذراه في البحر ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب فذلك حين يقول الله تعالى "وأشربوا في قلوبهم العجل" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - قال : عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطئ نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب وقال سعيد بن جبير "وأشربوا في قلوبهم العجل" قال لما أحرق العجل برد ثم نسف فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران وحكى القرطبي عن كتاب القشيري أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن ثم قال القرطبي : وهذا شيء غير ما هاهنا لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم ووجوههم والمذكور هاهنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل يعني في حال عبادتهم له ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطير
وقوله "قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين" أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:21 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ493 الى صــ 502

الحلقة (50)






قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94)
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95)
ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
"ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات .
وقال الضحاك عن ابن عباس فتمنوا الموت : فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله : "فتمنوا"
الموت إن كنتم صادقين "."
قال : قال ابن عباس لو تمنى يهود الموت لماتوا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام سمعت الأعمش قال لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس وقال ابن جرير في تفسيره وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال قول الله : ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم .
قلت أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين ؟ قال : لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت وما كانوا ليتمنوه .
وقد قال الله ما سمعت "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" وهذا غريب عن الحسن ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين وهو الدعاء على

أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك فلما تأخروا علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة فقال الله تعالى "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا" أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى .
وأما من فسر الآية على معنى "إن كنتم صادقين" أي في دعواكم فتمنوا الآن الموت ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول : فإنه قال القول في تأويل قوله تعالى "قل إن"

كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس "الآية فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنع اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي في عيسى إذا دعوا للمباهلة من المباهلة."
فهذا الكلام منه أوله حسن وآخره فيه نظر وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل إذ يقال إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت فإنه لا علاقة بين وجود الصلاح وتمني الموت وكم من صالح لا يتمنى الموت بل يود أن يعمر ليزداد خيرا ويرتفع درجته في الجنة كما جاء في الحديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله"

ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا فهل أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم اعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونعته وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ولهذا قال تعالى "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" .
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96)
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون
"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" أي على طول العمر لما يعلمون مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم وهذا من باب عطف الخاص على العام قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "ومن الذين أشركوا" قال الأعاجم

وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
قال وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي وقال الحسن البصري "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" قال المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك على حياة "يود أحدهم" أي يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق وقال أبو العالية يود أحدهم أي أحد المجوس وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة .
قال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو كقول الفارسي "ده هزارسال" يقول عشرة آلاف سنة .
وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضا وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي عليا يقول حدثنا أبو حمزة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو الأعاجم هزارسال نوروزر مهرجان وقال مجاهد "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر وقال مجاهد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" أي وما هو بمنجيه من

العذاب وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي لو عرف ما له في الآخرة من الخزي ما ضيع ما عنده من العلم .
وقال العوفي عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" قال هذا الذين عادوا جبرائيل قال أبو العالية وابن عمر فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية يهود أحرص على الحياة من هؤلاء وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرا "والله بصير بما يعملون" أي خبير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عامل بعمله .
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97)
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله جمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته : "ذكر من قال ذلك" حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام" فقالوا ذلك لك .
فقال رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم" قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني ؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق فقال "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها" فقالوا : اللهم نعم .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اشهد عليهم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل" قالوا : اللهم نعم .
قال "اللهم اشهد وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا اللهم نعم .
قال "اللهم اشهد" قالوا : أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك.
قال "فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه" قالوا : فعندها نفارقك ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك.
قال : فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا فأنزل الله عز وجل "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" - إلى قوله - "لو كانوا يعلمون" فعندها باءوا بغضب على غضب وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به ورواه أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد

بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب فذكر مرسلا وزاد فيه قالوا فأخبرنا عن الروح قال "فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني" قالوا : اللهم نعم ولكنه عدو لنا وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء فلولا ذلك اتبعناك .
فأنزل الله تعالى فيهم "قل من كان عدوا لجبريل" - إلى قوله - "لا يعلمون" وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت يهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك.
فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال والله على ما نقول وكيل قال "هاتوا" قالوا فأخبرنا عن علامة النبي ؟ قال "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر .
قال "يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت" قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال "كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا" قال أحمد : قال بعضهم يعني الإبل فحرم لحومها قالوا صدقت قالوا أخبرنا ما هذا الرعد .
قال "ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى" قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال "صوته" قالوا صدقت قالوا إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من

صاحبك ؟ قال "جبريل عليه السلام" قالوا جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان .
فأنزل الله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" إلى آخر الآية ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال "جبرائيل" .
قالوا فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال.
فنزلت "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال ابن جرير : قال مجاهد قالت يهود يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو فنزل "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال البخاري قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال عكرمة جبر وميك وإسراف : عبد .
إيل : الله .
حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر حدثنا حميد عن أنس بن مالك قال سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال "أخبرني بهذه جبرائيل آنفا" قال جبريل : قال "نعم" قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك" "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ."
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة

فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت "قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ "قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا ."
قال "أرأيتم إن أسلم" قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا : هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
فقال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:32 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ503 الى صــ 512

الحلقة (51)






انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر عن أنس بنحوه وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل اسمه عبد الله إيل الله .
ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء وكذا قال غير واحد من السلف

كما سيأتي قريب ومن الناس من يقول إيل عبارة عن عبد والكلمة الأخرى هي اسم الله لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل فعبد موجودة في هذا كله واختلف الأسماء المضاف إليها وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف والله أعلم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم .
"ذكر من قال ذلك" حدثني محمد بن المثنى حدثني ربعي بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال نزل عمر الروحاء فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها فقال ما بال هؤلاء ؟ قالوا يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى هاهنا قال فكفر ذلك وقال أيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل فتركه ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ما من صحابك أحد أحب إلينا منك "قلت" ولم ذلك ؟ قالوا لأنك تغشانا وتأتينا .
فقلت : إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن قالوا : ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به .
قال : فقلت لهم عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من
حقه وما استودعكم من كتابه هل تعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا.
فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه قالوا فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت.
قال : أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
قلت : ويحكم إذا هلكتم .
قالوا : إنا لم نهلك قلت كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه .
قالوا إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة .
قلت ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل قالوا إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا قال : قلت وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالا أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره قال : فقلت فوالذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل .
قال : ثم قمت فاتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان فقال "يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل فقرأ علي" من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله "حتى قرأ الآيات قال : قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر ."

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر قال : انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم ؟ قالوا نعم قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كفل محمدا وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا .
قال : فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله .
قال عمر : وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل.
فبينما هو عندهم إذ مر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا هذا صاحبك يا ابن الخطاب فقام إليه عمر فأتاه وقد أنزل الله عز وجل : "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه والله أعلم.
وقال ابن جبير : حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به فقال لهم عمر : أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه فقالوا من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم جبرائيل .
فقالوا ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم فقال لهم عمر : هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمدا - صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" الآيات .

ثم قال حدثني المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة قال : بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه .
وهذا في تفسير آدم وهو أيضا منقطع وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه وهو منقطع أيضا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن يعني الدستلي حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا .
فقال عمر "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" قال فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي : وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال : قالت اليهود للمسلمين لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدو لنا قال فنزلت هذه الآية .
حدثنا يعقوب أخبرنا هشيم أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "قل من كان عدوا لجبريل" قال : قالت اليهود إن جبرائيل عدو لنا لأنه ينزل بالشدة والسنة وإن ميكائيل ينزل
بالرخاء والعافية والخصب فجبرائيل عدو لنا .
فقال الله تعالى "من كان عدوا لجبريل" الآية .
وأما تفسير الآية فقوله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل" فإنه نزله على قلبك بإذن الله أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك فهو رسول من رسل الله ملكي ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" الآيتين فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال "وما نتنزل إلا بأمر ربك" الآية وقال تعالى "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من عاد لي وليا فقد بارزني بالحرب" ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه فقال تعالى "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" أي من الكتب المتقدمة "وهدى وبشرى للمؤمنين" أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" الآية وقال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" الآية
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (98)
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
ثم قال تعالى "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين" يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة كما قال تعالى "الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" - وجبريل وميكال وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير

بين الله وأنبيائه وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان كما قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذاك بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وقد تقدم ما حكاه البخاري ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال جبر وميك وإسراف : عبيد وإيل : الله وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر عبد وإيل الله .
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال : أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم ؟ قلنا لا قال : اسمه عبد الله وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو

ذلك ثم قال : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال : اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله قال : فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض وقال : لهذا الحديث أحب إلي من كل شيء في دفتر كان بين يديه .
وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه أو يرجع الحكم في ذلك إليه وبالله الثقة وهو المستعان وقوله تعالى "فإن الله عدو للكافرين" فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال : "فإن الله عدو للكافرين" كما قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... سبق الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال الآخر :
ليت الغراب غداة ينعب دائبا ... كان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر الله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله ومن عادى الله فإن الله عدو له ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة كما تقدم الحديث "من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة" وفي الحديث الآخر "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" وفي الحديث الصحيح "من كنت خصمه خصمته" .
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99)
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون

قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" الآية أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فاطلع الله في كتابه الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيئا منه عن آدمي كما قال الضحاك عن ابن عباس "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" يقول فأنت
تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا القطويني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك فأنزل الله في ذلك من قوله "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون" .
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100)
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون
وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا أنزل الله تعالى "أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم" وقال الحسن البصري : في قوله "بل أكثرهم لا يؤمنون" قال نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا .
وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة : نبذه فريق منهم أي نقضه فريق منهم .
وقال ابن جرير أصل النبذ الطرح والإلقاء ومنه سمي اللقيط منبوذا ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء .
قال أبو الأسود الدؤلي :
طرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
قلت فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه وموازرته ونصرته كما قال تعالى "الذين يتبعون"

الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:35 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ513 الى صــ 522

الحلقة (52)






ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
قال هاهنا "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر ذروان وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه فأطلع الله على ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشفاه منه وأنقذه كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه .
قال السدي "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" قال : لما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله "كأنهم لا يعلمون" وقال قتادة في قوله "كأنهم لا يعلمون" قال : إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به .
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا فأنزل الله تعالى "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية

واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها .
قال : فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس .
قال فجاءها سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان قال فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به .
قال فانطلقت الشياطين فتكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها وقرءوها على الناس وقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب قال : فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا"

ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران وهو ابن الحارث قال : بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له من أين جئت قال من العراق قال من أيه ؟ قال من الكوفة قال فما الخبر ؟ قال تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم ففزع ثم قال ما تقول لا أبا لك ؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أما إني سأحدثكم عن ذلك إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها فإذا جرت منه وصدق كذب معها سبعين كذبة قال فتشربها قلوب الناس قال فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي .
فأخرجوه فقال هذا سحر فتناسخا الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" الآية وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير به وقال السدي في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي على عهد سليمان قال كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق وقال لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا من بني إسرائيل فقال لهم

هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته فقالوا له : فادن فقال لا ولكنني هاهنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني فحفروا فوجدوا تلك الكتب : فلما أخرجوها قال الشيطان إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار وذهب .
وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال الربيع بن أنس إن اليهود سألوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسده الناس عليه فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد خرجوا وقد أدحض الله حجتهم .
وقال مجاهد في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" قال كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته للناس وهو

السحر وقال سعيد بن جبير : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا نعم قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال محمد بن إسحاق بن يسار : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام فكتبوا أصناف السحر من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم .
ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا .
وأنزل الله في ذلك من قولهم "واتبعوا"

ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا "الآية وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا حسين بن حجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم ."
ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان عليه السلام قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا فقال المؤمنون بل كان نبيا مؤمنا .
فلما بعث الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - وذكر داود وسليمان فقالت اليهود انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان" الآية وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت عمران بن جرير عن أبي مجلز قال أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهدا فإذا أصيب رجل فسأله بذلك العهد خلى عنه فزاد الناس السجع والسحر فقالوا هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام فقال الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن

زياد مولى ابن مصعب عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين" قال ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة وقال حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم والله الهادي .
وقوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان عداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب وقال ابن جرير "على" هاهنا بمعنى في أن تتلو في ملك سليمان ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق "قلت" والتضمن أحسن وأولى والله أعلم.
وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود - صحيح لا شك فيه لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية ثم ذكر القصة بعدها وفيها "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة" وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما "أنت من المسحرين" أي المسحورين على المشهور قوله تعالى "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد"

حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه "اختلف الناس في هذا المقام فذهب بعضهم إلى أن" ما "نافية أعني التي في قوله" وما أنزل على الملكين "قال القرطبي ما نافية ومعطوف في قوله" وما كفر سليمان "ثم قال" ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين "وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله" هاروت وماروت "بدلا من الشياطين قال وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى" فإن كان له إخوة "أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده : يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ."
ثم قال وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "وما أنزل على الملكين ببابل" الآية يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله "وما أنزل على الملكين" قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون قوله "ببابل هاروت وماروت" من المؤخر الذي معناه المقدم .
قال : فإن قال لنا قائل كيف وجه تقديم ذلك قيل وجه تقديمه أن يقال "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت فيكون معنى بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما

نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر عن عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم .
هذا لفظه بحروفه وقد قال ابن أبي حاتم حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية "وما أنزل على الملكين" قال : ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر قال ابن أبي حاتم وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى يعني ابن أسد أخبرنا بكر يعني ابن مصعب أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها "وما أنزل على الملكين داود وسليمان" وقال أبو العالية لم ينزل عليهما السحر يقول علما الإيمان والكفر فالسحر من الكفر فهما ينهيان عنه أشد النهي رواه ابن أبي حاتم ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وأن ما بمعنى الذي وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به وهذا الذي سلكه غريب جدا وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم وروى ابن أبي حزم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها "وما أنزل على الملكين" ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى "وما"

أنزل على الملكين "كما قال تعالى" وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج "" وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد "" وينزل لكم من السماء رزقا "وفي الحديث" ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء "وكما يقال" أنزل الله الخير والشر "وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا" وما أنزل على الملكين "بكسر اللام قال ابن أبزى وهما داود وسليمان قال القرطبي فعلى هذا تكون ما نافية أيضا وذهب آخرون إلى الوقف على قوله" يعلمون الناس السحر "وما نافية : قال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله" يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت "فقال الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة لا أبالي أي ذلك كان إني آمنت به وذهب كثير من السلف"
إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفي قول إنه كان من الملائكة : لقوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك مع أن شأن هاروت وماروت على

ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى .
وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:40 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ523 الى صــ 532

الحلقة (53)






"ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه" قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي رب" أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون "قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبط بهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك فقالا والله لا نشرك بالله شيئا أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ."
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن عن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير - به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء وروي عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر

بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحرث ويحيى بن أيوب وروى له أبو داود وابن ماجه وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك شيئا من هذا ولا هذا فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي له متابع من وجه آخر عن نافع كما قال ابن مردويه حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثنا القاسم أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال يا نافع انظر طلعت الحمراء ؟ قلت لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت قد طلعت قال لا مرحبا بها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع .
قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب قال إني ابتليتهم وعافيتكم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم قال فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت" وهذان أيضا غريبان جدا .
وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لهم اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني أرسل

إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به ورواه ابن جرير أيضا حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع فدار الحديث ورجع إلى نقل الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم .
"ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين" قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال : سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا - وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا - وقال ابن أبي حاتم أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا

إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء يعني "وما أنزل على الملكين" ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعا وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال : ربنا لا تمهلهم فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم ولو نزلتم لفعلتم أيضا .
قال فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت قال فوقعا بالخطيئة فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا

وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا .
وقال : ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر فلما كان ذات ليلة قال لغلامه انظر هل طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين قالت الملائكة يا رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض .
قال إني ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون قالوا لا قال : فاختاروا من خياركم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله قالا : وما دينك قالت المجوسية قالا : الشرك هذا شيء لا نقربه فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى .
ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب .
فقالا : لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه فقال : رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء قالا : إنا قد ابتلينا قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه فقال : ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية

فأتياه فقال : اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله فقال أحدهما إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل.
وقال الآخر ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى.
فقال إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا قال لا : إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا قال : فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر - وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه وهذا أثبت وأصح إسنادا ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه وقوله إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جدا .
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل إنهم في غيب فلم يعذروهم فقيل لهم اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه السلام وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنما فقالت : هذا أعبده فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا فذهبا

فعبرا ما شاء الله ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم.
قالت : لهما اختارا أحد الخلال الثلاث إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذه النفس وأما أن تشربا هذه الخمر فقالا : كل هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة فخشيا أن تخبر الإنسان عنهما فقتلاها فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض" فقيل لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به : ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا سلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي فقال الله أنتم معي وهم في غيب عني فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض جعل فيهم شهوة الآدميين فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن فاستقال منهم واحد فأقيل فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها مناهية

فهوياها جميعا ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت : لهما لا حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري وتسجدا لوثني فقالا : لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا فأشرف أهل السماء عليهما وقالت : لهما أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق : قال معمر قال قتادة والزهري عن عبيد الله بن عبد الله "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا .
وقال معمر : قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .
وقال أسباط عن السدي أنه قال كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم فقيل لهما إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني قال : هاروت وماروت : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل فقال : لهما انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل ديناوند فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيدخت وبالفارسية أناهيد .
فقال أحدهما لصاحبه إنها لتعجبني قال الآخر قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك .
فقال الآخر هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله

فلما جاءت تخاصم زوجها ذكر إليها نفسها فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك فلما أراد الذي يواقعها قالت ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء وبأي كلام تنزلان منها فأخبراها فتكلمت فصعدت فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت فقال لهما حين أنزلهما أعجبتم من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء .
وإنكما ليس بيني وبينكما رسول فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمور ونهاهما ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة منزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه فقال أحدهما لصاحبه وجدت مثل الذي وجدت ؟ قال نعم فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك فلما رجعت قالا وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا ادع لنا ربك فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال : ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فثم عذابهما وزعم أنهما معلقان في
الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما.
وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال .
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه قال : الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى : أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حداثة ذلك تسأله أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به وقالت : عائشة رضي الله عنها لعروة : يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت : كان لي زوج فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا ما جاء بك ؟ قلت : نتعلم السحر فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت : لا قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما قالا : أفعلت ؟ فقلت : نعم فقالا : هل رأيت شيئا ؟ فقلت : لم أر شيئا فقالا .
لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فألببت وأبيت فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت : قد

فعلت فقالا : فما رأيت ؟ فقلت : لم أر شيئا فقالا : كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فألببت وأبيت فقالا : اذهبي إلى التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فجئتهما فقلت : قد فعلت فقالا : فما رأيت ؟ قلت : رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه فقالا : صدقت ذلك إيمانك خرج منك .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:44 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول

سورة البقرة
من صــ533 الى صــ 542

الحلقة (54)






اذهبي فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا فقالت : بلى لم تريدي شيئا إلا كان خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت : اطلعي فأطلع وقلت : احقلي فأحقلت ثم قلت : افركي فأفركت ثم قلت : ايبسي فأيبست ثم قلت : اطحني فأطحنت ثم قلت : اخبزي فأخبزت فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولا كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعله أبدا فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حداثة وفاة رسول الله وهم يومئذ متوافرون فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما .
قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان .
قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول : إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم .
فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها .
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .

وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى "سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" وقال تعالى "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة .
وقال أبو داود : أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري : أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة .
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال : خرج منها برز وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عليه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين

قال أصحاب الهيئة : وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة والله أعلم.
وقوله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر قال : فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول : يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع .
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر رواه ابن أبي حاتم .
وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر .
وقال السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنما نحن فتنة فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" الآية وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية لا يجترئ على السحر إلا كافر

وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر :
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا
وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حيث قال "إن هي إلا فتنتك" أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال : "من أتى كاهن أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -" وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر وقوله تعالى "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت" وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله أعلم .
وقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال سفيان الثوري إلا بقضاء الله وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد وقال الحسن البصري "وما"

هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله "قال نعم من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى وفي رواية عن الحسن أنه قال لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه وقوله تعالى" ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم "أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره" ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق "أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق قال ابن عباس ومجاهد والسدي من نصيب وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ما له في الآخرة من جهة عند الله وقال عبد الرزاق وقال الحسن ليس له دين وقال سعد عن قتادة" ما له في الآخرة من خلاق "قال ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقوله تعالى" ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "."
ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)
ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون
يقول تعالى "ولبئس" البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير" أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون" .
وقد استدل بقوله "ولو أنهم آمنوا واتقوا" من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف وقيل بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا : أخبرنا سفيان هو ابن

عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت قال الإمام أحمد بن حنبل صح عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل الساحر وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قالا لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفا قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعا والله أعلم وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه فقال الناس سبحان الله يحيي الموتى ورآه رجل من صالحي المهاجرين فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال : إن كان صادقا فليحي نفسه وتلا قوله تعالى "أتأتون السحر وأنتم تبصرون" فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه والله أعلم وقال الإمام أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا

يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال كان عند بعض الأمراء الرجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال أراه كان ساحرا وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا والله أعلم .
"فصل" حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر قال : وربما كفروا من اعتقد وجوده قال وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا إلا أنهم قالوا إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" ومن الأخبار بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر .
قال وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ثم قال بعد هذا .
"المسألة الخامسة" في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور - اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضا لعموم قوله تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا فكيف يكون حراما وقبيحا ؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله : العلم بالسحر ليس بقبيح إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة تبشيع

لتعلم السحر وفي الصحيح "من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي السنن "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله ولا محظور اتفق المحققون على ذلك .
كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرناه من الآية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" فيه نظر لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت إن هذا منه ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم

بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه والله أعلم .
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية "الأول" سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مبطلا مقالتهم ورادا لمذهبهم وقد استقصى في "كتاب السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم" المنسوب إليه كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره ويقال إنه تاب منه وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به .
قال "والنوع الثاني" سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجذع الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال : وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .
قال : وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" - قال فإذا عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء والانقطاع عن الناس والرياء "قلت" وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال : وهو على قسمين تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحرا في الشرع .
وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم كما أن الدجال له من خوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعا لعنه الله وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وبسط هذا يطول جدا وليس هذا موضعه .
قال "والنوع الثالث" من السحر والاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافا للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين .
مؤمنون وكفار وهم الشياطين .

قال واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:51 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ1 الى صــ 10

الحلقة (55)






"النوع الرابع" من السحر التخييلات والأخذ بالعيون والشعبذة ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله "قال" وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعا من أنواع الخلل أشد كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه .
"قلت" وقد قال بعض المفسرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" وقال تعالى "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر والله أعلم .
"النوع الخامس من السحر" الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد - ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل

قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل "قلت" يعني ما قاله بعض المفسرين : أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي : ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة قال : وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها "قلت" ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغا لهم وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقوله "حدثوا عني ولا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار"

ثم ذكر هاهنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر
عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
"قال الرازي : النوع السادس من السحر" الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات قال : واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد "قلت" يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات .
قال "النوع السابع من السحر" التعليق للقلب وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور إذا اتفق أن يكون ذلك السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء "قلت" هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .
قال "النوع الثامن من السحر" السعي بالنميمة التقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس "قلت" النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث "ليس بالكذاب من ينم خيرا" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث "الحرب خدعة" وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة : جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة وبالله المستعان .

ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه "قلت" وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ولهذا جاء في الحديث "إن من البيان لسحرا" وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل والسحر الرئة وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وقال تعالى "سحروا أعين الناس" أي أخفوا عنهم عملهم والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي : وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخييل قال : ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد لخفة سيره قال ابن فارس : وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية قال القرطبي : ومنه ما يكون كلام يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك قال : وقوله عليه السلام "إن من البيان لسحرا" يحتمل أن يكون مدحا كما تقوله طائفة ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة قال : وهذا أصح قال : لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث .

"فصل" وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه "الإشراف على مذاهب الأشراف" بابا في السحر فقال : أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال : لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر وقال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر .
قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد نعم وقال الشافعي وأبو حنيفة لا فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال يقتل والحالة هذه قصاصا قال وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل والله أعلم وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال قرأ على أبي عبد الله - يعني

أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها .
وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل والثانية أنه يقتل وإن أسلم وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه فإن قتل سحره قتل قال الشافعي : فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية
"مسألة" وهل يسأل الساحر حلا لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري وقال عامر الشعبي : لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت يا رسول الله هلا تنشرت فقال "أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرا" وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته "قلت" أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة الكرسي فإنها مطردة للشيطان .
يوجد نقص من 548 إلى نهاية الكتاب
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104)

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولوا راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب "وعليكم" وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم" وقال الإمام أحمد : أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا ثابت أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له 6@@@"
وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم "وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم أخبرنا ابن القاسم به" من تشبه بقوم فهو منهم "ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي فقال : إذا سمعت الله يقول" يا أيها الذين آمنوا "فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه ."

وقال الأعمش عن خيثمة قال : ما تقرءون في القرآن "يا أيها الذين آمنوا" فإنه في التوراة يا أيها المساكين .

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "راعنا" أي أرعنا سمعك وقال الضحاك : عن ابن عباس "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا" قال كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك
وقال مجاهد "لا تقولوا راعنا" لا تقولوا خلافا وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك .

وقال عطاء لا تقولوا "راعنا" كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها وقال الحسن : "لا تقولوا راعنا" قال الراعن من القول السخري منه نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام .
وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله وقال أبو صخر "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مسمع وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير مسمع غير صاغر وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا قال ابن جرير والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي" وما أشبه ذلك .
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)

ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

قوله تعالى "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم" يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودة بينهم وبينهم ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى "والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" .

ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106)

ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك وقال الضحاك "ما ننسخ من آية" ما ننسك وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها
وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا" وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه وقال الطبراني أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن وافد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" فكان الزهري يقرؤها "ما ننسخ من آية أو ننسها" بضم النون الخفيفة

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png







ابوالوليد المسلم 21-11-2025 01:54 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ11 الى صــ 20

الحلقة (56)






سليمان بن الأرقم ضعيف وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن
ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا ذكره القرطبي وقوله تعالى أو ننسها فقرئ على وجهين ننسأها وننسها فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ما ننسخ من آية" يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال مجاهد : عن أصحاب ابن مسعود أو ننسأها نثبت خطها ونبدل حكمها وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها نؤخرها ونرجئها وقال عطية العوفي : أو ننسأها : نؤخرها فلا ننسخها وقال السدي مثله أيضا وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك "ما ننسخ من آية أو ننسأها" يعني الناسخ من المنسوخ وقال أبو العالية ما ننسخ من آية أو ننسأها "نؤخرها عندنا وقال ابن حاتم : أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل يعني ابن أسلم عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير"

عن ابن عباس قال : خطبنا عمر رضي الله عنه فقال : يقول الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسأها" أي نؤخرها وأما على قراءة أو ننسها فقال عبد الرزاق عن قتادة في قوله "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء .
وقال ابن جرير : أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله "أو ننسها" قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي قال أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال ابن أبي حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري وقال عبيد بن عمير "أو ننسها" نرفعها من عندكم وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بنو ربيعة قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال : قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ "أو ننسأها" قال فقال سعد إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب قال : قال الله جل ثناؤه "سنقرئك فلا تنسى واذكر ربك إذا نسيت" وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم

وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال ابن أبي حاتم : وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد وقال الإمام أحمد أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر : علي أقضانا وأبي أقرءونا وإنا لندع من قول أبي وذلك أن أبيا يقول : ما أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يقول "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال البخاري : أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر : أقرءونا أبي وأقضانا علي وإنا لندع من قول أبي وذلك أن أبيا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله "ما ننسخ من آية أو ننسها" وقوله "نأت بخير منها أو مثلها" أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نأت بخير منها يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم وقال أبو العالية "ما ننسخ من آية" فلا نعمل بها "أو ننسأها" أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها وقال السدي "نأت بخير"
منها أو مثلها " يقول نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه وقال قتادة "نأت بخير منها أو مثلها" يقول آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي ."

ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107)
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء فله الخلق والأمر وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء .
ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه "قلت" الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة

وما بعدها وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في
المعنى إذ هو المقصود وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه السلام فلا يسمى ذلك نسخا لقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وقيل إنها مطلقة وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردا على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" الآية فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء ألا له الخلق والأمر وقرئ في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاب مع أهل الكتاب وقوع النسخ في وقوله تعالى "كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" الآية كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن وقوله ضعيف مردود مرذول وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والله أعلم .
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (108)
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل

الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم" أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ولهذا جاء في الصحيح "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ثم أنزل الله حكم الملاعنة .
ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال .
وفي صحيح مسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ."
وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ."
ثم قال عليه السلام "لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم" ثم قال "ذروني ما تركتكم" الحديث ولهذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء

فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب.
قال البزار : أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن "يسألونك عن الخمر والميسر" - و - "يسألونك عن الشهر الحرام" - "ويسألونك عن اليتامى" يعني هذا وأشباهه .
وقوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري وهو يعلم المؤمنين والكافرين فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع كما قال تعالى "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال : قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك .
فأنزل الله من قولهم "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" قال : قال رجل يا رسول الله

لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل" قال "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" وقال "الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن" وقال "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة واحدة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك" فأنزل الله "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" وقال مجاهد "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أن يريهم الله جهرة ؟ قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا قال "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل" فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا والله أعلم والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا.
قال الله تعالى "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" أي من يشتر الكفر بالإيمان "فقد ضل سواء السبيل" أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال .
وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار" وقال أبو العالية يتبدل الشدة بالرخاء .

ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109)
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الآية وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب" قال هو كعب بن الأشرف وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" إلى قوله "فاعفوا واصفحوا" وقال الضحاك عن ابن عباس أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا وكذلك قال الله تعالى "كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من

قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس "من عند أنفسهم" من قبل أنفسهم وقال أبو العالية "من بعد ما تبين لهم الحق" من بعد ما تبين أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غيرهم وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وقوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" مثل قوله تعالى "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"
والسدي وقوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" نسخ ذلك قوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "وهم صاغرون" فنسخ هذا عفوه عن المشركين وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي أنها منسوخة بآية السيف ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى "حتى يأتي الله بأمره" وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش هذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:34 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ21 الى صــ 30

الحلقة (57)






وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير
وقوله تعالى "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" ولهذا قال تعالى "إن الله بما تعملون بصير" يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا فإنه سيجازي كل عامل بعمله .
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى "إن الله بما تعملون بصير" هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر سرا وعلانية فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيرا وبالإساءة مثلها وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإنه وعد أو وعيد أو أمر أو زجر وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وليحذروا معصيته قال وأما قوله "بصير" فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني أبي لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية "سميع بصير" يقول "بكل شيء بصير" .
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا "نحن أبناء الله وأحباؤه" فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة ورد عليهم تعالى في ذلك وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال تلك أمانيهم وقال أبو العالية أماني تمنوها على الله بغير حق وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ثم قال تعالى "قل" أي يا محمد "هاتوا برهانكم" قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس حجتكم وقال قتادة بينتكم على ذلك "إن كنتم صادقين" أي فيما تدعونه قال تعالى "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن" أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له كما قال تعالى "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن" الآية .
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قال أبو العالية والربيع "بلى من أسلم وجهه لله" يقول من أخلص لله .
وقال سعيد بن جبير "بلى من أسلم" أخلص "وجهه" قال دينه "وهو محسن" أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فإن للعمل المتقبل شرطين : أحدهما أن يكون خالصا لله وحده والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام

فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" وقال تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" وقال تعالى "وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية" وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" وقال تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون" ولهذا قال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" وقال في هذه الآية الكريمة "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن" وقوله "فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور "فلا خوف عليهم" فيما يستقبلونه "ولا هم يحزنون" على ما مضى مما يتركونه كما قال سعيد بن جبير "فلا خوف عليهم" يعني في الآخرة "ولا هم يحزنون" يعني لا يحزنون للموت .
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
وقوله تعالى "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب" بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أبو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله

في ذلك من قولهما "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب" قال إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه وقال مجاهد في تفسير هذه الآية قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء وقال قتادة "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء" قال : بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا "وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" قال بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوا من علمهم بخلاف ذلك ولهذا قال تعالى "وهم يتلون الكتاب" أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ولكنهم تجاهدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها والله أعلم وقوله "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوه من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى "الذين لا يعلمون" فقال الربيع بن أنس وقتادة "كذلك قال"
الذين لا يعلمون "قالا : وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم"

وقال ابن جريج : قلت لعطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل وقال السدي كذلك "قال الذين لا يعلمون" فهم العرب قالوا ليس محمد على شيء واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى والله أعلم وقوله تعالى "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد" وكما قال تعالى "قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم" .
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين : أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" قال هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "وسعى في خرابها" قال هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى وقال سعيد عن قتادة : قال أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .

وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وروي نحوه عن الحسن البصري "القول الثاني" ما رواه ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها" قال هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم "ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده" فقالوا لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق وفي قوله "وسعى في خرابها" قال إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.
وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس "قلت" والذي يظهر - والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد .
وروي عن ابن عباس لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كأن دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول وأصحاب من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم

أن وشركهم كما قال تعالى "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون" وقال تعالى "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" وقال تعالى "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" فقال تعالى "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله" فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك .
وقوله تعالى "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى "ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" وهذا إذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وقال بعضهم ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها .
والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم.
وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة .

وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله وسلامه عليه وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ودعاء غير الله عنده والطواف به عرايا وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا وقال السدي فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها وقال قتادة لا يدخلون المساجد إلا مسارقة قلت وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد أخبرنا الهيثم بن خارجة أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث عن

بشر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب الستة وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه وسوى حديث لا تقطع الأيدي في الغزو .
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115)
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت

المقدس والكعبة بين يديه فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ولهذا يقول تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ : أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس قال : أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة قال الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها فقال "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : "كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله" قد نرى تقلب وجهك في السماء "إلى قوله" فولوا وجوهكم شطره "فارتاب من ذلك اليهود وقالوا" ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها "فأنزل الله" قل لله المشرق والمغرب "وقال" فأينما تولوا فثم وجه الله "وقال عكرمة عن ابن عباس" فأينما تولوا فثم وجه الله "قال قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا وقال مجاهد فأينما تولوا فثم وجه الله حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها"

الكعبة وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك وقال ابن جرير وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا
كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وإنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى "ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا" قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره وفي حال المسايفة وشدة الخوف حدثنا أبو كريب أخبرنا ابن إدريس حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية "فأينما تولوا فثم وجه الله" ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:37 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ31 الى صــ 40

الحلقة (58)






وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها .
ثم قال "فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم "مسألة" ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة وسفر العدوى فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري التطوع على الدابة في المصر وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي أيضا قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة فقال الله تعالى : لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجهكم فهنالك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية .
حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" الآية ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه .
ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان

ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث وقال الترمذي هذا حديث حسن وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان وأشعث يضعف في الحديث قلت وشيخه عاصم أيضا ضعيف .
قال البخاري منكر الحديث .
وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به وقال ابن حبان : متروك والله أعلم .
وقد روي من طريق آخر عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن قال : وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العرزمي عن عطاء عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر به وقال الدارقطني قرئ على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمر وأخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة وقال "قد أجازت صلاتكم"

ثم قال الدارقطني : كذا قال عن محمد بن سالم وقال غيره عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة فلما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هذه الآية "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" وهذه الأسانيد فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضا .
وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء والله أعلم.
قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه" "قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال فنزلت" وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله "قال قتادة فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله" ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله "وهذا غريب والله أعلم ."
وقد قيل إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة كما حكاه القرطبي عن قتادة وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب قال : وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه أحدها أنه

عليه السلام شاهده حين سوي عليه طويت له الأرض.
الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت وهذا جواب جيد .
الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك والله أعلم .
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق" وله مناسبة هاهنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخزومي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما بين المشرق والمغرب قبلة" ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
وحكى عن البخاري أنه قال هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح قال الترمذي وقد روي عن غير واحد من الصحابة "ما بين المشرق والمغرب قبلة" منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين .
وقال ابن عمر إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة ثم قال ابن مردويه حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف

مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقد رواه الدارقطني والبيهقي : وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله : قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قال مجاهد لما نزلت ادعوني أستجب لكم قالوا إلى أين ؟ فنزلت "فأينما تولوا فثم وجه الله" قال ابن جرير ومعنى قوله "إن الله واسع عليم" يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال : وأما قوله "عليم" فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم .
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون
اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولدا فقال تعالى "سبحانه" أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا "بل له ما في السموات والأرض" أي ليس

الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء .
والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" وقال تعالى : "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" وقال تعالى "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا" انفرد به البخاري من هذا الوجه .
وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد القروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي"

له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا .
وأنا الله الأحد الصمد "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم" وقوله "كل له قانتون" قال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال "قانتين" مصلين وقال عكرمة وأبو مالك "كل له قانتون" مقرون له بالعبودية.
وقال سعيد بن جبير : كل له قانتون يقول الإخلاص وقال الربيع بن أنس : يقول كل له قانتون أي قائم يوم القيامة وقال السدي كل له قانتون أي مطيعون يوم القيامة وقال خصيف عن مجاهد كل له قانتون قال مطيعون كن إنسانا فكان وقال كن حمارا فكان.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد كل له قانتون مطيعون قال طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقد روي كما قال تعالى "ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" وقد روي حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به كما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يوسف بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن

دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة" وكذا رواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه ورفع هذا الحديث منكر وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه والله أعلم وكثيرا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة فلا يغتر بها فإن السند ضعيف والله أعلم .
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وقوله تعالى "بديع السموات والأرض" أي خالقهما على غير مثال سبق قال مجاهد والسدي وهو مقتضى اللغة ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم "فإن كل محدثة بدعة" والبدعة على قسمين تارة تكون بدعة شرعية كقوله "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعمت البدعة هذه

وقال ابن جرير "بديع السموات والأرض" مبدعهما وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم والمسمع إلى السميع : ومعنى المبدع المنشئ والمحدث ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد قال ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره وكذلك كل محدث قولا أو فعلا لم يتقدم فيه متقدم فإن العرب تسميه مبتدعا ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي :
يدعى إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء قال ابن جرير : فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة : وقوله تعالى "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له كن أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" وقال تعالى "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وقال تعالى "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وقال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما ... يقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله قال الله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" .
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118)
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رافع بن حرملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله في ذلك من قوله "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" وقال مجاهد "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" قال النصارى تقوله وهو اختيار ابن جرير قال لأن السياق فيهم .
وفي ذلك نظر وحكى القرطبي "لولا يكلمنا الله" أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد قلت وهو ظاهر السياق والله أعلم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية هذا قول كفار العرب "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" قال هم اليهود والنصارى ويؤيد هذا القول أن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى "وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" الآية وقوله تعالى "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" إلى قوله "قل"

سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا "وقوله تعالى" وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا "الآية وقوله تعالى" بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة "إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة "وقال تعالى" وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة "وقوله تعالى" تشابهت قلوبهم "أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى" كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به "الآية وقوله تعالى" قد بينا الآيات لقوم يوقنون "أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك قال الله فيهم" إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم "."


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png


ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:41 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ41 الى صــ 50

الحلقة (59)






إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119)
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري عن شيبان النحوي أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت علي "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" قال بشيرا بالجنة ونذيرا من النار قوله "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم نقلهما ابن جرير أي لا نسألك عن كفر من كفر بك كقوله "فإنما عليك البلاغ وعلينا"

الحساب "وكقوله تعالى" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر "الآية وكقوله تعالى" نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد "وأشباه ذلك من الآيات وقرأ آخرون" ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "بفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حالهم كما قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ؟ "فنزلت" ولا تسأل عن أصحاب الجحيم فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل ورواه ابن جرير عن ابن كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله قد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي : وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان أي قد بلغ فوق ما تحسب وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به وأجبنا عن قوله "إن أبي وأباك في النار" "قلت" والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها وإسناده ضعيف والله أعلم .
ثم قال ابن جرير وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم "أين أبواي" ؟ فنزلت "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" وهذا مرسل كالذي قبله وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك لاستحالة الشك في الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه واختار القراءة الأولى وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما لما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار كما ثبت هذا في الصحيح ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم

وقال الإمام أحمد أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا .
انفرد بإخراجه البخاري فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه فعبد الله هذا هو ابن صالح كما صرح به في كتاب الأدب وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء عن المعافي بن سليمان عن فليح به وزاد : قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال : بلغته أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفا .
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120)
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير

قال ابن جرير يعني بقوله جل ثناؤه "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق وقوله تعالى "قل إن هدى الله هو الهدى" أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل قال قتادة في قوله "قل إن هدى الله هو الهدى" قال : خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة قال قتادة : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" "قلت" هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة عياذا بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله "حتى تتبع ملتهم" حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه وقال : في الرواية الأخرى كقول مالك إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث والله أعلم .
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون

وقوله "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : هم اليهود والنصارى وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير .
وقال : سعيد عن قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبد الله بن عمران الأصبهاني قال أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه عن عمر بن الخطاب "يتلونه حق تلاوته" قال : إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار وقال أبو العالية قال ابن مسعود والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية .
قال : "يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه" .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود نحو ذلك وقال الحسن البصري : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى
عالمه .
وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "يتلونه حق تلاوته" قال : يتبعونه حق اتباعه ثم قرأ "والقمر إذا تلاها" يقول اتبعها قال : وروي عن عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك .
وقال سفيان الثوري أخبرنا زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود في قوله يتلونه حق تلاوته قال يتبعونه حق اتباعه .
قال القرطبي وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "يتلونه حق تلاوته" قال يتبعونه حق اتباعه ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة وقال عمر بن الخطاب : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها قال : وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ وقوله "أولئك يؤمنون به" خبر عن الذين آتيناهم الكتاب "يتلونه حق تلاوته" أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" الآية .
وقال "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" أي إذا أقمتموها حق

الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الإخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته قادكم ذلك الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل" الآية .
وقال تعالى قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا "أي إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا وقال تعالى" الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون "وقال تعالى" وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد "ولهذا قال تعالى" ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون "كما قال تعالى" ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده "."
وفي الصحيح "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" .
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122)
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على
وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .

وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ولهذا قال "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليهم وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي "فأتمهن" أي قام بهن كلهن كما قال تعالى "وإبراهيم الذي وفى" أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى : "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين" وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع وأوامر ونواه فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام "وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" وتطلق ويراد بها الشرعية كقوله تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي كلماته الشرعية وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهيا ومن ذلك هذه الآية الكريمة "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" أي قام بهن قال "إني جاعلك للناس إماما" أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة وإماما يقتدى به ويحتذى حذوه .
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام فروي عن ابن عباس في ذلك روايات فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس : ابتلاه الله بالمناسك وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس

وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك "قلت" وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة .
قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" ولفظه لمسلم .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن

لهيعة عن ابن هبيرة عن ابن حنش بن عبد الله الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر .
فأما التي في الإنسان حلق العانة ونتف الإبط والختان وكان ابن هبيرة يقول : هؤلاء الثلاثة واحدة .
وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة والأربعة التي في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة.
وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قلت له وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال : الإسلام ثلاثون سهما منها عشر آيات في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية وعشر آيات في أول سورة "قد أفلح المؤمنون" و "سأل سائل بعذاب واقع" وعشر آيات في الأحزاب "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله "وإبراهيم الذي وفى" هكذا.
رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به وهذا لفظ ابن أبي حاتم وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمرود في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك كله وأخلصه للبلاء قال الله له "أسلم قال أسلمت لرب العالمين" على ما كان من خلاف الناس وفراقهم .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:45 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ51 الى صــ 60

الحلقة (60)







وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن يعني البصري "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بالقمر فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه .
وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول : أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه - ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس وقال : أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة أخبرنا أبو هلال عن الحسن "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فوجده صابرا : وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" فمنهن "قال إني جاعلك للناس إماما" ومنهن "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد بعث في دينهما :

وقال : ابن أبي حاتم أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال : تجعلني للناس إماما ؟ قال : نعم قال : ومن ذريتي ؟ "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال : نعم قال : وأمنا ؟ قال نعم : قال وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال : نعم قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال نعم : قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلي بالآيات التي بعدها "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال الكلمات "إني جاعلك للناس إماما وقوله" وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل "الآية ."
قوله "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية .
قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قال السدي الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ."
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم "وقال القرطبي : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن"

المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف وأول من قلم أظفاره وأول من قص الشارب وأول من شاب فلما رأى الشيب قال : يا رب ما هذا ؟ قال وقار قال : يا رب زدني وقارا وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام قال غيره وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف وأول من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من لبس السراويل وروي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وأن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" "قلت" : هذا الحديث لا يثبت والله أعلم ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
قال غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا راشد بن سعد حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله : الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى :" سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون "إلى"

آخر الآية قال والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا الحسن عن عطية أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإبراهيم الذي وفى" قال أتدرون ما وفى قالوا الله ورسوله أعلم ؟ قال "وفى عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين وهو كما قال فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما وضعفهما من وجوه عديدة فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه والله أعلم .
ثم قال ابن جرير ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قوله "إني جاعلك للناس"

إماما "وقوله" وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين "الآية وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم" قلت "والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم ."
وقوله قال "ومن ذريتي" قال "لا ينال عهدي الظالمين" لما جعل الله إبراهيم إماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله تعالى قال "لا ينال عهدي الظالمين" فقد اختلفوا في ذلك فقال خصيف عن مجاهد في قوله "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال إنه سيكون في ذريتك ظالمون وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون لي إمام ظالم وفي رواية لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون إمام ظالم يقتدى به .
وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله "ومن ذريتي" قال أما من كان منهم صالحا فأجعله إماما يقتدى به وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين وقال سعيد بن جبير "لا ينال عهدي الظالمين" المراد به المشرك لا يكون إماما ظالما يقول لا يكون إمام مشركا .
وقال ابن جريج عن عطاء قال "إني جاعلك للناس إماما" قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما قلت لعطاء ما عهده قال أمره .

وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي أخبرنا الفريابي حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال الله لإبراهيم "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي" فأبى أن يفعل ثم قال "لا ينال عهدي الظالمين" وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته وقال العوفي عن ابن عباس "لا ينال عهدي الظالمين" قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه وقال ابن جرير حدثنا إسحاق أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال لا ينال عهدي الظالمين عهد وإن عاهدته وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك : وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد وقال : عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش وكذا قال : إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال "وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق

وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال : جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني : وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الدامغاني أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال "لا طاعة إلا في المعروف وقال السدي" لا ينال عهدي الظالمين "يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره والله أعلم وقال ابن خويز"
منداد المالكي : الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا .
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" يقول لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثابة للناس يقول يثوبون .

رواهما ابن جرير : وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه ثم يرجعون قال : وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير في رواية عطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع بن أنس والضحاك نحو ذلك .
وقال ابن جرير حدثني عبد الكريم بن أبي عمير حدثني الوليد بن مسلم قال : قال أبو عمرو يعني الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .
وحدثني يونس عن ابن وهب قال : قال ابن زيد "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .
وما أحسن ما قال : الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي :
جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني مثابة للناس أي مجمعا وأمنا قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمنا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" يقول وأمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون .
وروي عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا من دخله كان آمنا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال "ربنا وتقبل دعائي" ويصفه تعالى بأنه جعله آمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له كما وصف في سورة المائدة بقوله تعالى "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس" أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض وما هذا الشرف إلا شرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا" وقال تعالى "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا" وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده.
فقال "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو فقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمرو بن شبة النميري حدثنا أبو خلف يعني عبد الله بن عيسى أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال مقام إبراهيم الحرم كله.
وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك .
وقال أيضا أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فقال سمعت ابن عباس قال : أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ثم قال ومقام إبراهيم يعد كثير مقام إبراهيم الحج كله .
ثم فسره لي عطاء فقال : التعريف

وصلاتان بعرفة والمشعر ومنى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة فقلت أفسره ابن عباس ؟ قال : لا ولكن قال مقام إبراهيم الحج كله .
قلت أسمعت ذلك لهذا أجمع ؟ قال نعم سمعته منه وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه .
وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه .
حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره حكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر هذا مقام أبينا ؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله عز وجل "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر قلت يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا ؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن مردويه أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا غيلان بن عبد الصمد أخبرنا مسروق بن المرزبان أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال : يا رسول الله أليس نقوم بمقام خليل ربنا ؟ قال "بلى" قال أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت "واتخذوا من مقام"

إبراهيم مصلى "وقال ابن مردويه أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني أخبرنا علي بن الحسين حدثنا الجنيد أخبرنا هشام بن خالد أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "قال" نعم "قال الوليد : قلت لمالك هكذا حدثك واتخذوا قال نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه وقال البخاري : باب قوله" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "مثابة يثوبون يرجعون ."
حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:48 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ61 الى صــ 70

الحلقة (61)






قال : قال عمر بن الخطاب وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب .
قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه قالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات" الآية وقال ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني حميد قال : سمعت أنسا عن عمر رضي الله عنهما هكذا ساقه البخاري هاهنا وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة وروى عنه الباقون بواسطة وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث وإنما لم يسنده لأن

يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء كما قال الإمام أحمد فيه هو سيئ الحفظ والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أخبرنا حميد عن أنس قال : قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب .
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في الغيرة فقلت لهن "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فذكره .
وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وابن ماجه عن محمد بن الصباح كلهم عن هشيم بن بشير به .
ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة والنسائي عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به .
وقال الترمذي حسن صحيح .
ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زريع عن حميد به .
وقال هذا من صحيح الحديث وهو بصري .
ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر فقال أخبرنا عقبة بن مكرم أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم .
وقال أبو حاتم الرازي : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في

ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله لو حجبت النساء فنزلت آية الحجاب والثالثة لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي على هذا الكافر المنافق .
فقال : إيها عنك يا ابن الخطاب فنزلت "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" وهذا إسناد صحيح أيضا ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه والله أعلم وقال ابن جريج أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن جرير حدثنا يوسف بن سليمان أخبرنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين.
وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي سماه في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل .
وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار : قال سمعت عمر يقول قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول

الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها ولهذا قال : أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما قال عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم قال رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه .
وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى "قلت" وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا : قال أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه

وقال عبد الرزاق أيضا عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو ثابت حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال : قال سفيان يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه كان المقام من سفع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه وقال سفيان لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله قال سفيان لا أدري أكان لاصقا بها أم لا ؟ فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه والله أعلم وقد قال
الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام أخبرنا آدم هو ابن أبي إياس في تفسيره أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال : قال عمر بن الخطاب يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
موضعه هذا .
قال مجاهد وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم والله أعلم .
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
قال الحسن البصري قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" قال أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده ؟ قال أمره .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه كذا قال والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال : من الأوثان وقال مجاهد وسعيد بن جبير طهرا بيتي للطائفين أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس .

قال ابن أبي حاتم .
وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة "أن طهرا بيتي" أي بلا إله إلا الله من الشرك وأما قوله تعالى للطائفين فالطواف بالبيت معروف .
وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى "للطائفين" يعني من أتاه من غربة "والعاكفين" المقيمين فيه وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال سعيد بن جبير .
وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله "والعاكفين" قال من انتابه من الأمصار فأقام عنده .
وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين .
وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال إذا كان جالسا فهو من العاكفين .
وقال : ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون .
قال لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون .
ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به "قلت" وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .
وأما قوله تعالى "والركع السجود" فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء

عن ابن عباس والركع السجود قال : إذا كان مصليا فهو الركع السجود وكذا قال : عطاء وقتادة قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ثم أورد سؤالا فقال : فإن قيل فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين : "أحدهما" أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد "أن طهرا بيتي" قال من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها "قلت" وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم "والجواب الثاني" أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما قال جل ثناؤه "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار" قال فكذلك قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي" أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب كما قال السدي "أن طهرا بيتي" ابنيا بيتي للطائفين وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله : الطواف به لأهل الأمصار أفضل .
وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام والمراد ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه"

للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم "ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم" سواء العاكف فيه والباد "وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى" إن هو إلا وحي يوحى "."
وتقدير الكلام إذا "وعهدنا إلى إبراهيم" أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال" ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك ولهذا قال عليه السلام "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة .
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل الملائكة قبل آدم روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة وقيل آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي وهذا غريب أيضا .
وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا

يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
وقوله تعالى "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال الإمام أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها "وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار عن بندار به وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري وقال ابن جرير أيضا : أخبرنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس وأخبرنا أبو كريب أخبرنا عبد الرحيم الرازي قالا جميعا سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبد الله ورسوله وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير "وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة وأصل الحديث في صحيح مسلم من"

وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان - لفظ مسلم ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به ولفظه كلفظه سواء وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة "التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل وقال في الحديث
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 21-11-2025 05:52 PM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ71 الى صــ 80

الحلقة (62)






ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال "هذا جبل يحبنا ونحبه" فلما أشرف على المدينة قال "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها"
وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة "رواه البخاري وهذا لفظه ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها .
وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة "وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين "الحديث رواه مسلم والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل وقيل إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم ."
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال سول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ."
وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها "فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه"

لقينهم ولبيوتهم فقال "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك ثم قال البخاري بعد ذلك : وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة : قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس : إلا الإذخر فإنه للبيوت والقبور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم ."
وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب "فقيل لأبي"

شريح ما قال لك عمرو ؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" الآية وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره .
ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن بدء أمرك .
فقال "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك كما سيأتي قريبا إن شاء الله .
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة .
وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال "رب اجعل هذا بلدا آمنا" أي من الخوف لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا .
كقوله تعالى "ومن دخله كان آمنا" وقوله "أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم" إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه : وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة "رب اجعل هذا البلد آمنا" أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب

هذا لأنه قبل بناء الكعبة .
وقال تعالى في سورة إبراهيم "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا" وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر الدعاء "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء" .
وقوله تعالى "وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله .
قال وقرأ آخرون "قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال : كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد "ومن كفر فأمتعه قليلا" يقول ومن كفر فأرزقه رزقا قليلا أيضا "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال محمد بن إسحاق لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك.
قال الله تعالى ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الذهبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر" قال ابن عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" رواه ابن مردويه وروى عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا
ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "وقوله تعالى" ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ "وقوله" ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين "وقوله" ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير "أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "وفي الصحيحين" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم "وفي الصحيح أيضا" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "ثم قرأ قوله تعالى" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "وقرأ بعضهم" قال ومن كفر فأمتعه قليلا "الآية جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة وتركيب السياق يأبى معناها والله أعلم فإن الضمير في قال راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور والسياق يقتضيه وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم وهذا خلاف نظم الكلام والله سبحانه هو العلام ."
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127)
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
وأما قوله تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" فالقواعد جمع قاعدة هي السارية والأساس يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل "ويقولان" ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "" قلت "ويدل على هذا قولهما بعده" ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك "الآية فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما كما روى ابن"

أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا" ثم يبكي ويقول يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك.
وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين الخلص في قوله "والذين يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقرابات "وقلوبهم وجلة" أي خائفة أن لا يتقبل منهم كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه .
وقال بعض المفسرين الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه .
وقد روى البخاري هاهنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا ؟ قال نعم قالت : إذا لا يضيعنا .
ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" حتى بلغ "يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط -

فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت "صه" - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا" قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائدا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم .
ولكن لا حق لكم في الماء عندنا قالوا : نعم.
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال

هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك وطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل قال ما طعامكم ؟ قالت : اللحم قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء .
قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك قال : وتعينني .
قال : وأعينك.
قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله محمد بن حماد الطبراني وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرا .

وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا بشر بن موسى أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج عن كثير بن كثير قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني فسألوه عن المقام فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من وراءه يا إبراهيم إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله قالت رضيت بالله .
قال : فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطا حتى أتمت سبعا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل عليه السلام قال : فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "لو تركته لكان الماء ظاهرا"

قال فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك وقالوا ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي قال فجاء فسلم فقال أين إسماعيل ؟ قالت امرأته ذهب يصيد قال : قولي له إذا جاء غير عتبة بابك فلما أخبرته قال : أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال إني مطلع تركتي قال فجاء فقال أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت ألا تنزل فتطعم وتشرب فقال ما طعامكم وما شرابكم قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "بركة بدعوة إبراهيم" قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال يا إسماعيل إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتا فقال أطع ربك عز وجل قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه فقال إذن أفعل - أو كما قال - قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام
فجعل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png


ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:31 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ81 الى صــ 90

الحلقة (63)






والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد الحنفي عن إبراهيم بن نافع به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع وكأن فيه اختصارا فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح وقد جاء في الصحيح إن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد
المقدسة والله أعلم والحديث - والله أعلم - إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا : أخبرنا مؤمل أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال : يا إبراهيم ابن على ظلي أو قال على قدري ولا تزد ولا تنقص فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالت هاجر يا إبراهيم إلى من تكلنا ؟ قال إلى الله قالت : انطلق فإنه لا يضيعنا قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا حتى أتت المروة فلم تر شيئا ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ففعلت ذلك سبع مرات فقالت : يا إسماعيل مت حيث لا أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم قال : فإلى من وكلكما ؟ قالت : وكلنا إلى الله قال : وكلكما إلى كاف قال : ففحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء فقال : دعيه فإنه روي ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما وقد يحتمل أنه كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا لا أنه بناه إلى أعلاه حتى كبر إسماعيل فبنياه معا كما قال الله تعالى .
ثم قال ابن جرير أخبرنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي رضي الله عنه فقال ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال لا ؟ ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم من دخله كان آمنا وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض

فضاق إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كطي الجحفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئا فقال إبراهيم لا ابغني حجرا كما آمرك قال فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه فقال : يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال : كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاما ومنه دحيت الأرض .
قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا وقال : فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا فقلت يا أبا محمد فإن الله يقول "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال كان ذلك بعد وقال السدي : إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود .
فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن.
قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا .
قال يا أبت إني كسلان لغب .
قال علي ذلك فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة

وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن فقال يا أبت من جاءك بهذا ؟ قال جاء به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه فقال "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم.
وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها وقد ذهب إلى هذا ذاهبون كما قال الإمام عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء ابن أبي رباح قال : لما أهبط آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاؤهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها فخفضه الله تعالى إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه .
وذلك قول الله تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال : قال آدم إني لا أسمع أصوات الملائكة قال بخطيئتك ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي وكان ربضه من حراء فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة والله أعلم .
وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن قتادة قال : وضع الله البيت مع آدم
أهبط الله آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال الله يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء .
وقال ابن جرير : أخبرنا ابن حميد أخبرنا يعقوب العمي عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال : وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت وقال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام أو خرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع وحملوا فيما حدثني على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم وخرج معه جبريل فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذا أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل امضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله "لعلهم يشكرون" وقال عبد الرزاق أخبرنا هشام بن حسان أخبرني حميد عن مجاهد قال : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد القواعد في الأرض السابعة وقال : ابن أبي حاتم حدثنا أبي أخبرنا عمر بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن

معاوية عن عبد المؤمن بن خالد عن علياء بن أحمر أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل فقال ما لكما ولأرضنا ؟ فقال نحن عبدان مأموران أمرنا ببناء هذه الكعبة قالا فهاتا بالبينة على ما تدعيان فقامت خمسة أكبش فقلن نحن فشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة فقال قد رضيت وسلمت ثم مضى وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت وهذا يدل على تقدم زمانه والله أعلم .
وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية القواعد أساسه واحدها قاعدة والقواعد من النساء واحدتها قاعدة حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم" فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر" فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام وقد رواه في الحج عن القعنبي وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به ورواه مسلم أيضا من حديث نافع قال سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله"

ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر "وقال البخاري أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود قال : قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا فما حدثتك في الكعبة قال : قلت قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم" يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه "ففعله ابن الزبير انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه وقال مسلم في صحيحه حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا "قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم : قال وحدثني محمد بن حاتم حدثني محمد بن مهدي أخبرنا سليم بن حبان عن سعيد يعني بن ميناء قال :"
سمعت عبد الله بن الزبير يقول حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضا.
"ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين" وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما

إلى يوم الدين قال : قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس قال ابن إسحاق والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قال ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من
ناحية

الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا : قال فحدثني بعض من يروي الحديث بأن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضا أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا "لعقة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا هذا محمد .
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي "الأمين" فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب تتلئب لها أنصباب
فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب
قال ابن إسحاق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعا وكانت تكسى القباطي ثم كسيت بعد البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
"قلت" ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه أخبرنا هناد بن السري أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء قال لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام فلما صدر الناس : قال يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها ؟ قال ابن عباس إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبير لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم عز وجل إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه وقال ابن الزبير إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم : قال "لولا أن الناس"

حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه "قال فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال : فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه أستقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر"
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:34 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ91 الى صــ 100

الحلقة (64)






إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاده في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه وقد رواه النسائي في سننه عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وددنا أنا تركناه وما تولى كما قال مسلم : حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قال : عبد الله بن عبيد : وفد الحارث بن عبيد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال عبد الملك : ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك"
ما تركوا منه "فأراها قريبا من سبعة أذرع هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم" ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها "."
قالت : قلت لا قال "تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبد الملك فقلت للحارث أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال نعم قال فنكت ساعة بعصاه ثم قال وددت أني تركت وما تحمل قال مسلم وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا أبو عاصم ح وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر قال : وحدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا .
قال لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيدا ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد

نقله عياض والنووي ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا" رواه البخاري وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحراني أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" - الفدع زيغ بين القدم وعظم الساق - وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج" .
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128)
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم قال ابن جرير يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصيني القرشي أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم "واجعلنا مسلمين لك" قال مخلصين لك "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال مخلصة وقال أيضا أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا المقدمي أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية "واجعلنا مسلمين" قال كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات .
وقال عكرمة "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال الله : قد فعلت "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال الله قد فعلت .
وقال السدي "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل وقد قال الله تعالى "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" .
"قلت" وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية .
والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم وقد بعث فيهم كما قال تعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" وغير ذلك من الأدلة القاطعة وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" وهذا القدر مرغوب فيه شرعا فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام "إني جاعلك للناس إماما" قال "ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وهو قوله "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"

"وأرنا مناسكنا" قال ابن جريج عن عطاء "وأرنا مناسكنا" أخرجها لنا وعلمناها وقال مجاهد "أرنا مناسكنا" مذابحنا وروى عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك وقال سعيد بن منصور : أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال : قال إبراهيم "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل فأتى به البيت فقال ارفع القواعد فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا قال هذا من شعائر الله ثم انطلق به إلى المروة فقال : وهذا من شعائر الله ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال : كبر وارمه فكبر ورماه ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه فكبر ورماه فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر الحرام فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاث مرات قال نعم وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك وقال أبو داود الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال : إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم ثم انطلق به
جبريل حتى أتى به منى فقال : هذا مناخ الناس فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جمعا فقال : هذا المشعر ثم أتى به عرفة فقال هذه عرفة فقال له جبريل أعرفت ؟

ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129)
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم أي من ذرية إبراهيم وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن كما قال الإمام أحمد أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك ; دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد وقال الإمام أحمد أيضا أخبرنا أبو النضر أخبرنا الفرج أخبرنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك ؟ قال "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام"

والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا وهو عيسى ابن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيبا وقال "إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" ولهذا قال في هذا الحديث "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم" .
وقوله "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل كان مناما رأته حين حملت به وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ولهذا جاء في الصحيحين "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وفي صحيح البخاري "وهم بالشام" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان وكذا قال السدي وقتادة وقوله تعالى "ويعلمهم" الكتاب "يعني القرآن" والحكمة "يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم وقيل الفهم في الدين ولا منافاة" ويزكيهم "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله والإخلاص وقال : محمد بن إسحاق" ويعلمهم الكتاب والحكمة "قال يعلمهم الخير فيفعلوه"

والشر فيتقوه ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته وقوله "إنك أنت العزيز الحكيم" أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها وحكمته وعدله .
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130)
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين
يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال يا قوم "إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" وقال تعالى "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" وقال تعالى "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم" وقال تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ولهذا وأمثاله قال تعالى : "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا كله قال تعالى : "إن الشرك لظلم"

عظيم "قال أبو العالية وقتادة : نزلت هذه الآية في اليهود أحدثوا طريقا ليست من عند الله وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى" ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين "."
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
أي أمره الله تعالى بالإخلاص والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا .
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
وقوله "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله "أسلمت لرب العالمين" لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى "وجعلها كلمة باقية في عقبه" وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفا على بنيه كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح والظاهر والله أعلم أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة لأن البشارة وقعت بهما في قوله "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت "ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" الآية وقال في الآية الأخرى ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وهذا يقتضي أنه وجد في حياته وأيضا فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال "المسجد الحرام" قلت ثم أي ؟ قال "بيت المقدس" قلت كم بينهما : قال "أربعون سنة" الحديث فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة وهذا مما أنكر على ابن حبان فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين والله أعلم وأيضا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا وهذا يدل على أنه

هاهنا من جملة الموصين وقوله يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ويبعث على ما مات عليه وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه ومن نوى صالحا ثبت عليه وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه"
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:40 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ101 الى صــ 110

الحلقة (65)







الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها "لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث" فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس "وقد قال الله تعالى" فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى "."
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون
يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى

بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم "ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه : قال النحاس والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي قد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبا وحجب به الإخوة كما هو قول الصديق حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري ولم يختلف عليه وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن ولتقريرها موضع آخر وقوله "إلها واحدا" أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئا غيره "ونحن له مسلمون" أي مطيعون خاضعون كما قال تعالى "وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون" والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم كما قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" والآيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" .
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (134)
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
وقوله تعالى "تلك أمة قد خلت" أي مضت "لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" أي إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم "ولا تسألون عما كانوا يعملون" وقال أبو العالية والربيع وقتادة "تلك أمة قد خلت" يعني إبراهيم وإسماعيل

وإسحاق ويعقوب والأسباط ولهذا جاء في الأثر "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" .
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد .
وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عز وجل "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" وقوله "قل بل ملة إبراهيم حنيفا" أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع "ملة إبراهيم حنيفا" أي مستقيما قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى ابن جارية وقال خصيف عن مجاهد مخلصا وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حاجا وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي وقال أبو العالية : الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا وقال مجاهد والربيع بن أنس : حنيفا أي متبعا وقال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم وقال قتادة : الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عز وجل والختان .

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم ولا يكونوا كمن قال الله فيهم "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا" الآية وقال البخاري : حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عثمان بن عمر أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله" وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر ب "آمنا بالله وما أنزل إلينا" الآية والأخرى ب "آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون" وقال أبو العالية والربيع وقتادة : الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط وقال الخليل بن أحمد وغيره : الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل وقال الزمخشري في الكشاف : الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنا عشر وقد نقله الرازي

عنه وقرره ولم يعارضه وقال البخاري : الأسباط قبائل في بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم كما قال موسى لهم "اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا" الآية وقال تعالى "وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا" قال القرطبي : وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة وقيل أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة قال الزجاج : ويبين لك هذا ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري حدثنا أبو نجيد الدقاق حدثنا الأسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد
عليهم الصلاة والسلام قال القرطبي : والسبط الجماعة والقبيلة والراجعون إلى أصل واحد وقال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نعمل بما فيهما .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري أخبرنا مؤمل أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن" .
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
يقول تعالى فإن آمنوا يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم "فقد اهتدوا" أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه "وإن تولوا" أي عن

الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم "فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله" أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم "وهو السميع العليم" .
قال ابن أبي حاتم قرئ علي يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرنا زياد بن يونس حدثنا نافع بن أبي نعيم قال : أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان ليصلحه قال زياد فقلت له إن الناس ليقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" فقال نافع : بصرت عيني الدم على هذه الآية وقد تقدم .
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
قوله "صبغة الله" قال الضحاك عن ابن عباس دين الله وكذا روي عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وانتصاب صبغة الله إما على الإغراء كقوله "فطرة الله" أي الزموا ذلك عليكموه وقال بعضهم بدلا من قوله "ملة إبراهيم" وقال سيبويه هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله "آمنا بالله" كقوله "وعد الله" وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن بني إسرائيل قالوا : يا رسول الله هل يصبغ ربك ؟ فقال اتقوا الله ."
فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك ؟ فقل نعم : أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي "وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم" صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة "كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم ."
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له
مخلصون
يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين "قل أتحاجوننا في الله" أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد واتباع أوامره وترك زواجره "وهو ربنا وربكم" المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له "ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أي نحن برآء منكم ومما تعبدون وأنتم برآء منا كما قال في الآية الأخرى "فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون" "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن" إلى آخر الآية وقال تعالى "إخبارا عن إبراهيم" وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله "إلى آخر الآية وقال تعالى" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه "الآية وقال في هذه الآية الكريمة" ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون "أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه ."
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140)
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون
ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية فقال "قل أأنتم أعلم أم الله" يعني بل الله أعلم وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" الآية والتي بعدها وقوله "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله" قال الحسن البصري : كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام وإن محمدا رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك

وقوله "وما الله بغافل عما تعملون" تهديد ووعيد شديد أي أن علمه محيط بعملكم وسيجزيكم عليه .
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (141)
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
قال تعالى "تلك أمة قد خلت" أي قد مضت "لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم "ولا تسألون عما كانوا يعملون" وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قيل المراد بالسفهاء هاهنا مشركو العرب قاله الزجاج وقيل أحبار يهود قاله مجاهد وقيل المنافقون قاله السدي والآية عامة في هؤلاء كلهم والله أعلم قال البخاري : أخبرنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون

فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم" انفرد به البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال محمد بن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم" وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "سيقول السفهاء من الناس" إلى آخر الآية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الل²?ه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو
الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عز وجل "فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر وقال كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة فسمي مسجد القبلتين وفي حديث نويلة بنت مسلم أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر قالت : فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم zآت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله وإبلاغه لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم ولما وقع
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:43 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ111 الى صــ 120

الحلقة (66)






هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" أي قالوا ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم في قوله "قل لله المشرق والمغرب" أي الحكم والتصرف والأمر كله لله "فأينما تولوا فثم وجه الله" و "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله" أي الشأن كله في امتثال أوامر الله فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال : قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا"

الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين "."
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" يقول تعالى إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت ؟ فيقول نعم فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم ؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته قال : فذلك قوله" وكذلك جعلناكم أمة وسطا "قال والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي

سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجيء النبي يوم القيامة ومعه رجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا ؟ فيقولون لا فيقال له هل بلغت قومك ؟ فيقول نعم فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون نعم فيقال وما علمكم ؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل" وكذلك جعلناكم أمة وسطا "قال عدلا" لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا "وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى" وكذلك جعلناكم أمة وسطا "قال" عدلا "وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن"
عتيبة بن نباس حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أنا وأمتى يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل" وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضا واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبد الله قال : شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : والله يا رسول الله لنعم المرء كان لقد كان عفيفا مسلما وكان وأثنوا

عليه خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت بما تقول" فقال الرجل : الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وجبت" ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظا غليظا فأثنوا عليه شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم أنت بالذي تقول " فقال الرجل الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وجبت" قال مصعب بن ثابت : فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا "ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال : أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتا ذريعا فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال : وجبت ثم مر بأخرى فأثني عليها شرا فقال عمر : وجبت فقال أبو الأسود ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "قال فقلنا وثلاثة قال : فقال" وثلاثة "قال : فقلنا واثنان ."
قال "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود ابن أبي الفرات به : وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة يقول "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا بم يا رسول الله ؟ قال "بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله في الأرض" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن

هارون ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمرو وسريج عن نافع عن بن عمل به .
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله
يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه أي مرتدا عن دينه وإن كانت لكبيرة أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة أي وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق كما قال الله تعالى "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم" وقال تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى" وقال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا القبلتين وقال البخاري في تفسيره هذه الآية : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي صلى الله عليه

وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فتوجهوا إلى الكعبة وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعا فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين .
وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم
وقوله "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ؟ فقال الناس ما حالهم في ذلك فأنزل الله تعالى "وما كان الله ليضيع إيمانكم" ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه .
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى أي ليعطيكم أجرهما جميعا "إن الله بالناس لرءوف رحيم" وقال الحسن البصري "وما كان الله ليضيع إيمانكم" أي ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف "إن الله بالناس لرءوف رحيم" وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين

ولدها فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه" قالوا : لا يا رسول الله قال : "فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها" .
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144)
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء" إلى قوله "فولوا وجوهكم شطره" فارتابت من ذلك اليهود وقالوا : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب" وقال "فأينما تولوا فثم وجه الله" وقال الله تعالى "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء .
فأنزل الله "فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى

بن قطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلا هذه الآية "فلنولينك قبلة ترضاها" قال نحو ميزاب الكعبة ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه : أن الغرض إصابة عين الكعبة والقول الآخر وعليه الأكثرون أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال شطره قبله ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم وكما تقدم في الحديث الآخر "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال القرطبي : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" وقال أبو نعيم الفضل بن دكين : حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر

على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت .
وقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت قد نرى تقلب وجهك في السماء فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وأنها الصلاة الوسطى والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت : صلينا الظهر - أو العصر - في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أولئك رجال يؤمنون بالغيب"

وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علاقة عن عمارة بن أوس قال : بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة .
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن
أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة وكذا في حال المسايفة في القتل يصلي على كل حال وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئا في نفس الأمر لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها .
"مسألة" وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال المالكية : بقوله "فول وجهك شطر المسجد الحرام" فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره .

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145)
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" ولهذا قال هاهنا "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" وقوله "وما أنت بتابع قبلتهم" إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره ولهذا قال مخاطبا للرسول والمراد به الأمة "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين" .
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)
يخبر تعالى أن العلماء من أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا كما جاء في

الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير ابنك هذا "قال نعم يا رسول الله أشهد به قال" أما إنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه "قال القرطبي : ويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدا كما تعرف ولدك ؟ قال نعم وأكثر نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته وإني لا أدري ما كان من أمه قلت وقد يكون المراد" يعرفونه كما يعرفون أبناءهم "من بين أبناء الناس كلهم لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي" ليكتمون الحق "أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم" وهم يعلمون "."
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:46 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ121 الى صــ 130

الحلقة (67)







الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147)
الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148)
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير
قال العوفي عن ابن عباس "ولكل وجهة هو موليها" يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون وقال أبو العالية : لليهودي وجهة هو موليها وللنصراني وجهة هو موليها وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة.
وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو

هذا وقال مجاهد في الرواية الأخرى والحسن : لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر "ولكل وجهة هو مولاها" وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا" وقال هاهنا "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير" أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149)
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات فقيل تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره وقيل بل هو منزل على أحوال فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة والثاني لمن هو في مكة غائبا عنها والثالث لمن هو في بقية البلدان هكذا وجهه فخر الدين الرازي وقال القرطبي الأول لمن هو بمكة والثاني لمن هو في بقية الأمصار والثالث لمن خرج في الأسفار ورجح هذا الجواب القرطبي

وقيل إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق : فقال أولا "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" إلى قوله "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها .
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150)
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون
قال في الأمر الثاني "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضا من الله يحبه ويرتضيه وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة إبراهيم التي هي أشرف وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار وقد بسطها الرازي وغيره والله أعلم : وقوله "لئلا يكون للناس عليكم حجة" أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس وهذا أظهر قال أبو العالية "لئلا يكون للناس عليكم حجة" يعني به أهل الكتاب حين قالوا صرف محمد إلى الكعبة : وقالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا وقال هؤلاء في قوله "إلا الذين ظلموا منهم" يعني مشركي قريش ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه والجواب أن الله

تعالى اختار له التوجه إلى البيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة فامتثل أمر الله في ذلك أيضا فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له وقوله "فلا تخشوهم واخشوني" أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه : وقوله "ولأتم نعمتي عليكم" عطف على لئلا يكون للناس عليكم حجة أي لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من
استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها "ولعلكم تهتدون" أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات يزكيهم أي يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة وقال تعالى "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم" الآية وذلك من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار" قال ابن عباس يعني بنعمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولهذا ندب الله المؤمنين

إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره .
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
قال مجاهد في قوله "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" يقول كما فعلت فاذكروني قال عبد الله بن وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك ؟ قال له ربه : تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني وإذا نسيتني فقد كفرتني قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس إن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره ويعذب من كفره وقال بعض السلف في قوله تعالى "اتقوا الله حق تقاته" قال هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا عمارة الصيدلاني أخبرنا مكحول الأزدي قال : قلت لابن عمر أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله وقد قال الله تعالى "فاذكروني أذكركم" قال إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت وقال الحسن البصري في قوله "فاذكروني أذكركم" قال اذكروني فيما أوجبت لكم على نفسي وعن سعيد بن جبير اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي وفي رواية برحمتي وعن ابن عباس في قوله اذكروني أذكركم قال ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه وفي الحديث الصحيح "يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي"
ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه "قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الله عز وجل يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك في ملإ من الملائكة - أو قال في ملإ خير منه - وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة "صحيح الإسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة وعنده قال قتادة الله أقرب بالرحمة : وقوله" واشكروا لي ولا تكفرون "أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "وقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة - رجل من قيس - حدثنا أبو رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه "وقال روح مرة : على عبده ."
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153)
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث "عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له" وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى والصبر صبران فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات والثاني أكثر ثوابا لأنه المقصود وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الصبر في بابين الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله : وقال علي بن الحسين زين العابدين إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال فيقوم عنق من الناس فيتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون إلى الجنة فيقولون وقبل الحساب ؟ قالوا نعم قالوا ومن أنتم ؟ قالوا نحن الصابرون قالوا وما كان صبركم ؟ قالوا صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله قالوا أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين

"قلت" ويشهد لهذا قوله تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وقال سعيد بن جبير الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر .
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154)
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون
وقوله تعالى "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء" يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال ماذا تبغون ؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله" إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون "."
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما .
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155)
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين

أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده : أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ولهذا قال لباس الجوع والخوف وقال هاهنا "بشيء من الخوف والجوع" أي بقليل من ذلك "ونقص من الأموال" أي ذهاب بعضها "والأنفس" كموت الأصحاب والأقارب والأحباب "والثمرات" أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه ولهذا قال تعالى "وبشر الصابرين" وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا خوف الله وبالجوع صيام رمضان وبنقص الأموال الزكاة والأنفس الأمراض والثمرات الأولاد وفي هذا نظر والله أعلم .
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156)
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم فقال الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة .
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
لهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" أي ثناء من الله عليهم قال سعيد بن جبير : أي أمنة من العذاب "وأولئك هم المهتدون" قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" فهذان العدلان "وأولئك هم المهتدون" فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا .
وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول "إنا لله وإنا إليه راجعون" عند المصائب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :

حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله حدثنا أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال : "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به" قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال "أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي" قالت : فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد : أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول" إنا لله وإنا إليه راجعون "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام

حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند"
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:49 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ131 الى صــ 140

الحلقة (68)






ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب "ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه" كذا "عن فاطمة عن أبيها وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي : ألا أبشرك قلت بلى قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عازب عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الله : يا ملك الموت قبضت ولد عبدي ; قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال نعم قال فما قال ؟ قال :
حمدك واسترجع قال : ابنو له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد "ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك فذكره وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان ."
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أخبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قال : قلت أرأيت قول الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قلت فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ; وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين وفي رواية عن الزهري أنه قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية وقال آخرون من الأنصار إنما أمرك بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبد الرحمن فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة ؟ قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله" وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية وقال الشعبي : كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية "قلت" ذكر
محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا

يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... لمفضى السيول من إساف ونائل
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال "أبدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدءوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول "كتب عليكم السعي فاسعوا"

وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا وسهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة وقيل بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس وحكي عن مالك في "العتبية" قال القرطبي واحتجوا بقوله تعالى "فمن تطوع خيرا" والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل والله أعلم وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها
وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام .
وقوله "فمن تطوع خيرا" قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع وقيل المراد تطوع خيرا في سائر

العبادات حكى ذلك الرازي وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم وقوله "فإن الله شاكر عليم" أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه "لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" .
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله قال أبو العالية نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي

سليم عن المنهال بن عمرو عن زاذان بن عمرو عن البراء بن عازب قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى" أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "يعني دواب الأرض" ورواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن عامر بن محمد به وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس وقال مجاهد إذا أجدبت الأرض قال البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله عصاة بني آدم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة "ويلعنهم اللاعنون" يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون وقد جاء في الحديث "إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم .
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم
استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة

نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161)
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن "عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها" أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي "لا يخفف عنهم العذاب" فيها أي لا ينقص عما هم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.
"فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له واستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين اختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف واستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم .
خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162)
خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
"لا يخفف عنهم العذاب" فيها أي لا ينقص عما هم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163)
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية وإنه لا شريك له ولا عديل له بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم .
وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم أنه قال اسم الله الأعظم في هذين الآيتين "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" و "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيها وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته .
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون
يقول تعالى "إن في خلق السموات والأرض" تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها - وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع واختلاف الليل والنهار هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها" كما قال تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون" - إلى قوله - "ومما لا يعلمون"

"وبث فيها من كل دابة" أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك كما قال تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" "وتصريف الرياح" أي فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه وتارة تجمعه وتارة تفرقه وتارة تصرفه ثم تارة تأتى من الجنوب وهي الشامية وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة وتارة دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة .
وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها وبسط ذلك يطول هاهنا والله أعلم والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي سائر بين السماء والأرض مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى "لآيات لقوم يعقلون" أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو سعيد الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد

بن جبير عن ابن عباس قال : أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح فنؤمن بك ونقاتل معك قال "أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي" فأوثقوا له فدعا ربه فأتاه جبريل فقال إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين قال محمد صلى الله عليه وسلم "رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم" فأنزل الله هذه الآية "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" الآية ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به وزاد في آخره : "وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا"
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:52 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ141 الى صــ 150

الحلقة (69)






وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" إلى قوله "لآيات لقوم يعقلون" فبهذا يعلمون أنه إله واحد وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء وقال وكيع بن الجراح : حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت "وإلهكم إله واحد" إلى آخر الآية قال المشركون إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله عز وجل "إن"
في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار "إلى قوله" يعقلون "ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي الضحى به"

ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" وقوله "والذين آمنوا أشد حبا لله" ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجئون في جميع أمورهم إليه .
ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا" قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه "وأن الله شديد العذاب" كما قال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال .
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166)
إذ تبرأ الذين اتبعوا من

الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرى المتبوعين من التابعين فقال "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا" وقال الخليل لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" وقال تعالى "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" وقال تعالى "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقوله "ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا .
قال عطاء عن ابن عباس "وتقطعت بهم الأسباب" قال المودة : وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح .
وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)
وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار
وقوله "وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا" أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة : وهم كاذبون في هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ولهذا قال "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات"

عليهم "أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا "وقال تعالى" مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف "الآية ."
وقال تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء" الآية ولهذا قال تعالى "وما هم بخارجين من النار" .
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168)
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري حدثنا المصري بن عبد الرحمن الاحتياطي حدثنا أبو عبد الله

الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا" فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به" .
وقوله "إنه لكم عدو مبين" تنفير عنه وتحذير منه كما قال "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" وقال قتادة والسدي في قوله "ولا تتبعوا خطوات الشيطان كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان" وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان وقال مجاهد خطؤه أو قال خطاياه : وقال أبو مجلز هي النذور في المعاصي وقال الشعبي نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال هذا من خطوات الشيطان وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم فقال لا أريده فقال : أصائم أنت ؟ قال لا قال : فما شأنك ؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفر عن يمينك رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال : غضبت يوما على امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل

مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك .
فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من خطوات الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك وقال عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم عن شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين .
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
قوله "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا .
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد .
قال الله تعالى منكرا عليهم "أولو كان آباؤهم" أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم "لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" أي ليس لهم فهم ولا هداية .
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله هذه الآية .
ثم ضرب لهم تعالى مثلا - كما قال تعالى - "للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء" .

ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
قال ومثل الذين كفروا أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط : هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا .
وقيل إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا اختاره ابن جرير والأول أولى لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها.
وقوله "صم بكم عمي" أي صم عن سماع الحق بكم لا يتفوهون به عمي عن رؤية طريقه ومسلكه "فهم لا يعقلون" أي لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه كما قال تعالى "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم" .
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"


وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم" وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ "ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق ."
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى "أحل لكم صيد البحر وطعامه" على ما سيأتي إن شاء الله وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"

وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة .
"مسألة" ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره لأنه جزء منها .
وقال مالك في رواية هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة وكذلك إنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس فقال القرطبي في التفسير هاهنا يخالط اللبن منها يسير ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع .
قد روى ابن ماجه عن حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان

النهدي رضي الله عنه : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أو مات حتف أنفه ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي .
وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له .
وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا فقال لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم .
ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه أي في أكل ذلك إن الله غفور رحيم "وقال مجاهد فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة أو خارجا في معصية الله فله الرخصة ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه وكذا روي عن سعيد بن جبير"

وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان : غير باغ يعني غير مستحله وقال السدي غير باغ يبتغي فيه شهوته وقال آدم بن أبي إياس حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني عن أبيه قال : لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ولا يأكل إلا العلقة ويحمل معه ما يبلغه الحلال فإذا بلغه ألقاه وهو قوله "ولا عاد" ويقول لا يعدو به الحلال وعن ابن عباس لا يشبع منها وفسره السدي بالعدوان وعن ابن عباس "غير باغ ولا عاد" قال "غير باغ" في الميتة ولا عاد في أكله وقال قتادة فمن اضطر غير باغ ولا عاد قال غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله فمن اضطر أي أكره على ذلك بغير اختياره .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:55 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ151 الى صــ 160

الحلقة (70)






"مسألة" إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف - كذا قال - ثم قال وإذا أكله والحالة هذه هل يضمن أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية سمعت عباد بن شرحبيل العنزي قال : أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ
ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل "ما أطعمته إذ كان جائعا ولا علمته إذ كان جاهلا" فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه" الحديث : وقال مقاتل بن حيان في قوله "فلا إثم عليه إن الله غفور" فيما أكل من اضطرار وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار وقال وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة قال أبو الحسن الطبري : المعروف بإلكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك .
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174)
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم

يقول تعالى "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم فكتموا ذلك على إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه وصاروا عونا له على قتالهم وباءوا بغضب على غضب وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا" وهو عرض الحياة الدنيا وأولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وقوله "ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه هاهنا حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر"

أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175)
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار
قال تعالى مخبرا عنهم "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي اعتاضوا عن الهدى وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم "والعذاب بالمغفرة" أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة : وقوله تعالى "فما أصبرهم على النار" يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك وقيل معنى قوله "فما أصبرهم على النار" أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار.
ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد
قوله تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته فاستهزءوا بآيات الله المنزلة على رسله فلهذا استحقوا العذاب والنكال ولهذا قال "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد" .
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبيد بن هشام الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان ؟ فتلا عليه "ليس البر أن تولوا وجوهكم" إلى آخر الآية قال : ثم سأله أيضا فتلاها عليه ثم سأله فقال : "إذا عملت حسنة أحبها قلبك وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك" وهذا منقطع فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر فإنه مات قديما وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر فقال ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية "ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها فقال الرجل ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده "المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" رواه ابن مردويه وهذا أيضا منقطع والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ولهذا قال "ليس البر"

أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر "الآية كما قال في الأضاحي والهدايا لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل المشرق فقال الله تعالى "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب" يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري : "ولكن البر من آمن بالله" الآية قال هذه أنواع البر كلها وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخذ بمجامع الخير كله وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله "والكتاب" وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله "وآتى المال على حبه" أي أخرجه وهو محب له راغب فيه نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر" .

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وآتى المال على حبه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
"قلت" وقد رواه وكيع عن الأعمش وسفيان عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح والله أعلم.
وقال تعالى "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" وقال تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وقوله "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له وقوله "ذوي القربى" وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة فهم أولى الناس بك ببرك وإعطائك" وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز "واليتامى" هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب وقد قال : عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يتم بعد"

حلم "" والمساكين "وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون"

ما تسد به حاجتهم وخلتهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" "وابن السبيل" وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ويدخل في ذلك الضيف كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان "والسائلين" وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عم مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها - قال عبد الرحمن حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "للسائل حق وإن جاء على فرس" رواه أبو داود ""

وفي الرقاب "وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله تعالى ."
وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي حدثتني فاطمة بنت قيس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت فتلا علي "وآتى المال على حبه" .
ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في المال حق سوى الزكاة" ثم قرأ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله - وفي الرقاب "وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور وقد رواه سيار لإسماعيل بن سالم عن الشعبي وقوله وأقام الصلاة أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وقوله" آتى الزكاة "يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله" قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها "وقول موسى لفرعون :" هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى "وقوله تعالى" وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ""

ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس "أن في المال حقا سوى الزكاة" والله أعلم .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 04:58 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ161 الى صــ 170

الحلقة (71)






وقوله "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" كقوله "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق" وعكس هذه الصفة النفاق كما صح الحديث "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وقوله "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أي في حال الفقر وهو البأساء وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء" وحين البأس "أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم وهو المستعان وعليه التكلان : وقوله" أولئك الذين صدقوا "أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا" وأولئك هم المتقون "لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات ."
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب

يقول تعالى كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم وعبدكم بعبدكم وأنثاكم بأنثاكم ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم وسبب ذلك قريظة والنضير كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يفادى بمائة وسق من التمر وإذا قتل القرظي النضري قتل وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي فأمر الله بالعدل في القصاص ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفرا وبغيا فقال تعالى "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى" يعني إذا كان عمدا الحر بالحر وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم والمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" منها منسوخة نسختها النفس بالنفس : وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "والأنثى بالأنثى" وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله "النفس بالنفس والعين بالعين" فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس "مسألة" ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة "من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده"

جدعناه ومن خصاه خصيناه "وخالفهم الجمهور فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لا يقتل مسلم بكافر "ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة ."
"مسألة" قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
"مسألة" ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد : قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ثم قال ابن المنذر وهذا أصح ولا حجة

لمن أباح قتل الجماعة وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر وقوله "فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال مجاهد عن ابن عباس "فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن يقبل الدية في العمد وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس "فمن عفي له من أخيه شيء" يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو "فاتباع بالمعروف" يقول فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية "وأداء إليه بإحسان" يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو عن مجاهد عن ابن عباس ويؤدي المطلوب بإحسان وكذا قال : سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان .
"مسألة" قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في أحد قوليه ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل وقال : الباقون له أن يعفو عليها وإن لم يرض .
"مسألة" وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي وخالفهم الباقون وقوله "ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو كما قال : سعيد بن منصور

حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو فقال الله لهذه الأمة "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن يقبل الدية في العمد ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" وقد رواه غير واحد عن عمرو وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه : وقال قتادة "ذلك تخفيف من ربكم" رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا وقوله "فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" يقول تعالى فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه أحمد
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية" يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله .
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم
وقوله "ولكم في القصاص حياة" يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة" قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان "يا أولي الألباب لعلكم تتقون" يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180)
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين

اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل من الموصي ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين قال : جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الآية "إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين" فقال نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس به ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرطهما

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "الوصية للوالدين" والأقربين قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت وقال : ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله "الوصية للوالدين والأقربين" نسختها هذه الآية "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا" ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله "يوصيكم الله في أولادكم" قال وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء قال : ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد "قلت" وبه قال أيضا سعيد بن
جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى وهذا إنما يأتي على قول بعضهم أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت فأما من يقول إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله

أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع بل منهي عنه للحديث المتقدم "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات يرفع بها حكم هذه بالكلية بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا وقال عبد بن حميد في مسنده أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان عن نافع قال : قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى يا ابن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك" وقوله "إن ترك خيرا" أي مالا قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم ثم منهم من قال الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال إنما يوصي إذا ترك مالا جليلا ثم اختلفوا في مقداره فقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال

لعلي رضي الله عنه إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص قال ليس بشيء إنما قال الله "إن ترك خيرا" وقال أيضا وحدثنا هارون بن
إسحاق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده فقال له أوص فقال له علي إنما قال الله "إن ترك خيرا الوصية" إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك وقال الحاكم : إن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس "إن ترك خيرا" قال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا قال : الحاكم قال طاوس لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا.
وقال قتادة كان يقال ألفا فما فوقها وقوله "بالمعروف" أي بالرفق والإحسان كما قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله كتب عليكم "إذا حضر أحدكم الموت" فقال نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال "لا" قال فبالشطر ؟ قال "لا" قال فالثلث ؟ قال "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"

وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال "الثلث والثلث كثير" وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية فقال : النبي صلى الله عليه وسلم "لا لا لا الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرون وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون" وذكر الحديث بطوله .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 05:01 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ171 الى صــ 180

الحلقة (72)






فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181)
فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم
يقول تعالى فمن بدل الوصية وحرفها فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى "فإنما إثمه على الذين يبدلونه" قال ابن عباس وغير واحد وقد وقع أجر الميت على الله وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك "إن الله سميع عليم" أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصى إليهم .
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182)
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو معتمدا آثما في ذلك فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي

وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم .
وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة أخبرني أبي عن الأوزاعي قال : الزهري حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به قال ابن أبي حاتم وقد أخطأ فيه الوليد بن يزيد وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة وقال ابن مردويه أيضا حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا هشام بن عمار حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الجنف في الوصية من الكبائر" وهذا في رفعه أيضا نظر وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل يعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر"

عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة "قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم" تلك حدود الله فلا تعتدوها "الآية ."
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم
يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال هاهنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت في الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له"
وجاء "ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات "فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروي عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم "في حديث طويل اختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت" كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عباس وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد"
وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك : وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني

بذلك أهل الكتاب وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الإطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الإطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" .
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها : قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان

قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاء كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى
قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا ؟ قال يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم "- إلى قوله -" ثم أتموا الصيام إلى الليل "وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت"

كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله .
وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروي أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة : وقال السدي عن مرة عن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه : قال عبد الله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهو خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا إسحاق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه

وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر - فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها
وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ و "على الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده

فقال حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه .
ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة .
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون
يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال هاهنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت في الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروي عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عباس وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن
جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك : وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الإطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الإطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" .
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها : قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاء كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى
قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا ؟ قال يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم "- إلى قوله -" ثم أتموا الصيام إلى الليل "وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله ."
وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروي أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة : وقال السدي عن مرة عن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه : قال عبد الله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهو خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا إسحاق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر - فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها
وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه .
ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة .
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون
يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء قال : الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي فليح عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الله"
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 05:05 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ181 الى صــ 190

الحلقة (73)






القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان "وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه :" أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة "والباقي كما تقدم رواه ابن مردويه وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى" إنا أنزلناه في ليلة القدر "وقال" إنا أنزلناه في ليلة مباركة "ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس كما قال إسرائيل عن السدي عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس أنه سأل عطية بن الأسود فقال : وقع في قلبي الشك قول الله تعالى" شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن "وقوله" إنا أنزلناه في ليلة مباركة "وقوله" إنا أنزلناه في ليلة القدر "وقد أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه وذلك قوله" وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة
واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا "وقوله" هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان "هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى"

لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه "وبينات" أي ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغي ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال إلا شهر رمضان ولا يقال رمضان قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة قال : لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان - قال ابن أبي حاتم وقد روي عن مجاهد ومحمد بن كعب نحو ذلك ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت "قلت" أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام المغازي والسير ولكن فيه ضعف وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا عن أبي هريرة وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه متروك وقد وهم في رفع هذا الحديث وقد انتصر البخاري رحمه الله في كتابه لهذا فقال : باب يقال رمضان وساق أحاديث في ذلك منها "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك وقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي وبإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة
للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" معناه ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال السفر فله أن يفطر فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام ولهذا قال "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية "إحداها" أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى عن جماعة من الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر والله أعلم فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر أخرجه صاحبا الصحيح "الثانية" ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله "فعدة من أيام أخر" والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير صلى الله عليه وسلم ليس بحتم لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان قال : فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال :

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة "الثالثة" قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقالت طائفة بل الإفطار أفضل أخذا بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : "من أفطر فحسن ومن صام فلا جناح عليه" وقال في حديث آخر "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وقالت طائفة هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في السفر ؟ فقال "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" وهو في الصحيحين وقيل إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه فقال : "ما هذا" قالوا صائم فقال "ليس من البر الصيام في السفر" أخرجاه فأما إن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار ويحرم عليه
الصيام والحالة هذه لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "الرابعة القضاء" هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق فيه قولان : "أحدهما" أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء والثاني لا يجب التتابع

بل إن شاء تابع وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر ولهذا قال تعالى "فعدة من أيام أخر" ثم قال تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" قال الإمام أحمد حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا أبو هلال عن حميد بن هلال العدوي عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن خير دينكم أيسره إن خير دينكم أيسره" وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عاصم بن هلال حدثنا عامر بن عروة الفقيمي حدثني أبي عروة قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دين الله في يسر" ثلاثا يقولها - ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن أبي تميم عن عاصم بن هلال به وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التياح سمعت أنس بن مالك يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا" أخرجاه في الصحيحين

وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى الي2?ن "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا" وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا أبو مسعود الحريري عن عبد الله بن شقيق عم محجن بن الأدرع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة فقال "أتراه يصلي صادقا ؟" قال قلت يا رسول الله : هذا أكثر أهل المدينة صلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسمعه فتهلكه" وقال ""
إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر "ومعنى قوله" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة "أي إنما أرخص لكم في الإفطار للمريض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم وقوله" ولتكبروا الله على ما هداكم "أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا "وقال" فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون "وقال" فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن

الليل فسبحه وأدبار السجود "ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية" ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر في قوله "ولتكبروا الله على ما هداكم" وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم وقوله "ولعلكم تشكرون" أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السختياني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت ورواه ابن جرير عن محمد بن حميد الرازي عن جرير به ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير به وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا ؟
فأنزل الله عز وجل "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه لما نزلت "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" قال الناس لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نعلو شرفا ولا نهبط واديا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا فقال "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن علي عنه بنحوه وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أنبأنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت ابن خشخاش المزنية قالت : حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" "قلت"
وهذا كقوله تعالى "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقوله لموسى وهارون عليهما السلام "إنني معكما أسمع وأرى" والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ولا يشغله عنه شيء بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب في الدعاء وأنه لا يضيع لديه كما قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان هو النهدي يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين" - قال يزيد : سموا لي هذا الرجل فقالوا : جعفر بن ميمون - وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون صاحب الأنباط به : وقال

الترمذي حسن غريب ورواه بعضهم ولم يرفعه قال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله في أطرافه : وتابعه أبو همام ومحمد بن أبي الزبرقان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي به : وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو عامر حدثنا علي بن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الأخرى وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا إذا نكثر قال "الله أكثر" وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير أن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"

ورواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف الفريابي عن ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقال الإمام مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي" أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وهذا لفظ البخاري رحمه الله وأثابه الجنة وقال مسلم في صحيحه : حدثني أبو الطاهر حدثنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد
عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" قيل يا رسول الله وما الاستعجال "قال يقول قد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل" قالوا وكيف يستعجل قال "يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي" وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير عن

عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط قال عروة قلت يا أماه كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت يقول سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب قال ابن قسيط وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء :
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 05:08 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ191 الى صــ 200

الحلقة (74)






وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي نافع بن معدي كرب ببغداد حدثنا ابن أبي نافع بن معدي كرب قال : كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية "أجيب دعوة الداع إذا دعان" قال "يا رب مسألة عائشة" فهبط جبريل فقال "الله يقرؤك السلام هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة وقلبه نقي يقول يا رب فأقول لبيك فأقضي حاجته"
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وروى ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالإجابة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أن وعدك حق"
ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنت تبعث من في القبور "وقال الحافظ أبو بكر البزار : وحدثنا الحسن بن يحيى الأزدي ومحمد بن يحيى القطعي قالا : حدثنا الحجاج بن منهال حدثنا صالح المزي عن الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" يقول الله تعالى يا ابن آدم واحدة لك وواحدة لي وواحدة فيما بيني وبينك فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شيء أو من عمل وفيتكه وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة ""

وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا أبو محمد المليكي عن عمرو وهو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة" فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه : حدثنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم عن إسحاق بن عبد الله المدني عن عبيد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" قال عبيد الله بن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي .
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" .
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم وعبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان : وقوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان : يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا قال الشاعر :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تداعت فكانت عليه لباسا
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية
"أحل لكم ليلة"
الصيام الرفث إلى نسائكم "- إلى قوله -" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر "ففرحوا بها فرحا شديدا ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم "وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن "الآية وكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشكوا إلى الله وإليك الذي صنعت قال" وما صنعت ؟ "قال إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعدما نمت وأنا أريد الصوم فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" ما كنت خليقا أن تفعل "فنزل الكتاب" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم "وقال سعيد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة في قول الله تعالى" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ثم أتموا الصيام إلى الليل "قال"
كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقام فأكل وشرب فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل الله عند ذلك "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" يعني بالرفث مجامعة النساء "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء" فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن "يعني جامعوهن" وابتغوا ما كتب الله لكم "يعني الولد" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل "فكان ذلك عفوا من الله ورحمة وقال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فنزل في عمر" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم "وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى حدثنا سويد أخبرنا ابن المبارك عن ابن لهيعة حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت إني قد نمت فقال ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن "الآية وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع وفي صرمة بن قيس فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا ."
وقوله "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك

وقتادة وغيرهم يعني الولد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني الجماع وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال ليلة القدر رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر قال : قال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم يقول ما أحل الله لكم وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال : قلت لابن عباس كيف تقرأ هذه الآية "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال أيتهما شئت عليك بالقراءة الأولى واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله .
وقوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله "من الفجر" كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري حدثني ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد "من الفجر" فعلموا أنما يعني الليل والنهار وقال الإمام أحمد حدثنا هشام أخبرنا حصين عن الشعبي أخبرني عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط"

الأسود "عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض قال فجعلتهما تحت وسادتي قال فجعلت أنظر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال" إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل "أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي ."
ومعنى قوله إن وسادك إذا لعريض أي إن كان ليسع الخيطين الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الآية تحتها فإنهما بياض النهار وسواد الليل فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن الشعبي عن عدي قال : أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي قال "إن وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" وجاء في بعض الألفاظ "إنك لعريض القفا" ففسره بعضهم بالبلادة وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض والله أعلم ويفسره رواية البخاري أيضا حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال "إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ثم قال لا بل هو سواد الليل وبياض النهار" .

وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسحروا فإن في السحور بركة" وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن أحدكم تجرع جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء تشبها بالآكلين ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال قدر خمسين آية وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن سالم بن غيلان عن

سليمان بن أبي عثمان عن عدي بن حاتم الحمصي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور" وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء المبارك وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زيد بن حبيش عن حذيفة قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود قاله النسائي وحمله على أن المراد قرب النهار كما قال تعالى "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف" أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن
ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وابن مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ولله الحمد وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع

الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها "قلت" وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" لفظ البخاري وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر" ورواه الترمذي ولفظهما "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 05:11 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ201 الى صــ 210

الحلقة (75)






عن بني قشير سمعت سمرة بن جندب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر" ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق" قال وحدثني يعقوب بن إبراهيم بن علية عن عبد الله بن سودة القشيري عن أبيه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير" رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره - أو قال - نداء بلال"
فإن بلالا يؤذن بليل - أو قال - ينادي

لينبه نائمكم وليرجع قائمكم وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا "ورواه من وجه آخر عن التيمي به وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام "وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس يقول : هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ولكن الفجر الذي يستنير على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعا في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رءوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله" مسألة "ومن جعل تعالي الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة"

وجمهور العلماء سلفا وخلفا لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا قال : يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ" فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى وهو في الصحيحين عن أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس
ولم يرفعه فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ومنهم من ذهب إليه ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه لحديث عائشة وأم سلمة أو مختارا فلا صوم له لحديث أبي هريرة يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه وأما النفل فلا يضره رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي وهو

رواية عن الحسن البصري أيضا ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ولكن لا تاريخ معه وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية وهو بعيد أيضا إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها والله أعلم وقوله "ثم أتموا الصيام إلى الليل" يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم" وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل "إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا" ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به وقال هذا حديث حسن غريب وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان حدثنا عبد الله بن إياد سمعت إياد بن لقيط سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين

مواصلة فمنعني بشير وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال "يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا" ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوما بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئا قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تواصلوا" قالوا : يا رسول الله إنك تواصل قال "فإني لست مثلكم إني أبيت"
يطعمني ربي ويسقيني "قال فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال فقال" لو تأخر الهلال لزدتكم "كالمنكل لهم وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر وعن عائشة رضي الله عنها قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا إنك تواصل قال" إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني "فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه"

كان يقوى على ذلك ويعان والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ولكن كما قال الشاعر :
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال "إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني" أخرجاه في الصحيحين أيضا وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو إسرائيل العنسي عن أبي سكر بن حفص عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام فقالت إني صائمة قال وكيف تصومين فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر" وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن علي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة والله أعلم ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة كما جاء في حديث عائشة رحمة له فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك

ويفعلونه لأنهم كانوا يجدون قوة عليه وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم وقال أبو العالية إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل وقوله تعالى "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء فقال الله تعالى "ولا تباشروهن" وأنتم عاكفون في المساجد "أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره ."
وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية .
قال ابن أبي حاتم روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل : قالوا لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه .
وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ولله الحمد والمنة

ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم .
وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبتت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليمشي معها حتى تبلغ دارها وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا وفي رواية تواريا أي حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون أهله معه فقال لهما - صلى الله عليه وسلم - "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال - صلى الله عليه وسلم - "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا - أو قال - شرا" قال الشافعي رحمه الله أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها لئلا يقعا في محذور وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا والله أعلم ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان قالت عائشة ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا

مارة وقوله "تلك حدود الله" أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله "تلك حدود الله" أي المباشرة في الاعتكاف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني هذه الحدود الأربعة ويقرأ "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" حتى بلغ "ثم أتموا الصيام إلى الليل" قال وكان أبي وغيره من
مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا "كذلك يبين الله آياته للناس" أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - "للناس لعلهم يتقون" أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم" .
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (188)
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون
قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو"

ليذرها "فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام ولا يحرم حلالا هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ولهذا قال تعالى" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون "أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم قال قتادة : اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود والقاضي بشر يخطئ ويصيب واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا ."
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 09:52 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ211 الى صــ 220

الحلقة (76)






يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون
قال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية بلغنا أنهم قالوا يا رسول الله لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم وكذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك وقال عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما"

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به وقال كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جعل الله الأهلة فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وكذا روي من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقوله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه فنزلت هذه الآية قال الأعمش : عن أبي سفيان عن جابر كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر من

الأنصار فقالوا يا رسول الله : إن قطبة بن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له "ما حملك على ما صنعت" قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال : إني أحمس قال له : فإن ديني دينك .
فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" رواه ابن أبي حاتم ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فقال الله تعالى : "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الآية .
وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أن ذلك أدنى إلى البر فقال الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" ولا يرون أن ذلك أدنى إلى البر وقوله "واتقوا الله لعلكم تفلحون" أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه "لعلكم تفلحون" غدا إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال .
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين

قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قال هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال هذه منسوخة بقوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وفي هذا نظر لأن قوله "الذين يقاتلونكم" إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" ولهذا قال في هذه الآية "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا .
وقوله "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : "اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال : "اخرجوا بسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد
ولأبي داود عن أنس مرفوعا نحوه وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان .
وقال الإمام أحمد حدثنا مصعب بن سلام حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش قال : سمعت حذيفة يقول ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر فضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها مثلا وترك سائرها قال "إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة"

هذا حديث حسن الإسناد ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا .
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل ولهذا قال : "والفتنة أشد من القتل" .
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191)
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قال هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال هذه منسوخة بقوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وفي هذا نظر لأن قوله "الذين يقاتلونكم" إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" ولهذا قال في هذه الآية "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا .
"والفتنة أشد من القتل" قال أبو مالك أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .
وقال : أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس في قوله "والفتنة أشد من القتل" .
يقول الشرك أشد من القتل وقوله "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام" كما جاء في الصحيحين "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل صلحا لقوله "من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"

"وقوله" حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين "يقول تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصائل كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم فقال" وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم "وقال" ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما "."
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192)
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم
أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه .
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار "حتى لا تكون فتنة" أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم "ويكون الدين لله" أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" .
وقوله "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا فقد

تخلصوا من الظلم وهو الشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها "" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به "ولهذا قال عكرمة وقتادة الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ."
وقال البخاري قوله : "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" الآية .
حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي قالا : ألم يقل الله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتقيم عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت .
قالوا يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله "" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان ؟ قال أما عثمان فكان الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه وأما علي فابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه فأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون.

الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين
قال عكرمة عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص" وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ .
هذا إسناد صحيح.
ولهذا لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة فكان ما كان .
وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما كما ثبت في الصحيحين عن أنس فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح ثم كر راجعا إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين .
وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه :

وقوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" أمر بالعدل حتى في المشركين كما قال "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقال "وجزاء سيئة سيئة مثلها" .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" .
نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ثم نسخ بآية القتال بالمدينة وقد رد هذا القول ابن جرير وقال : بل الآية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله وقوله "واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" أمر لهم بطاعة الله وتقواه وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين
قال البخاري حدثنا إسحاق أخبرنا النضر أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال نزلت في النفقة ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به مثله قال : وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة .
فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى

فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به وقال الترمذي حسن صحيح غريب وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يزيد بن فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب : يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا : لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها فأنزل الله هذه الآية وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال رجل للبراء بن عازب إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال : لا .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 09:56 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ221 الى صــ 230

الحلقة (77)






قال الله لرسوله "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" إنما هذه في النفقة رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء فذكره وقال بعد قوله "لا تكلف إلا نفسك" ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا
يتوب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر بن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه عمرو فرده وقال عمرو قال الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال : ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة .
قال حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير قال : كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال الحسن البصري "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال هو البخل وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يغفر لي فأنزل الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" رواه ابن مردويه .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك يعني نحو قول النعمان بن بشير إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة أي يستكثر من الذنوب فيهلك .
ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس التهلكة عذاب الله .
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرني

أبو صخر عن القرظي "محمد بن كعب" أنه كان يقول في هذه الآية "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال : كان القوم في سبيل الله فيتزود الرجل فكان أفضل زادا من الآخر أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وبه قال ابن وهب أيضا : أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي .
وقال لمن بيده فضل "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال وأحسنوا إن الله يحب المحسنين .
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما .
ولهذا قال بعده فإن

أحصرتم أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام مستقصى ولله الحمد والمنة .
وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية "وأتموا الحج والعمرة لله" قال : أن تحرم من دويرة أهلك .
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية : إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر قال في قول الله "وأتموا الحج والعمرة لله" من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر وأن تعتمر في غير أشهر الحج إن الله تعالى يقول "الحج أشهر معلومات" .
وقال هشام عن ابن عون : سمعت القاسم بن محمد يقول إن العمرة في أشهر الحج ليست بتمامه فقيل له فالعمرة في المحرم ؟ قال : كانوا يرونها تامة .
وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما الله وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في

ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ولكن قال لأم هانئ "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها والله أعلم .
وقال السدي في قوله "وأتموا الحج والعمرة لله" أي أقيموا الحج والعمرة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "وأتموا الحج والعمرة لله" يقول من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل .
وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة والعمرة الطواف .
وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله "وأتموا الحج والعمرة لله" قال هي قراءة عبد الله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت .
قال إبراهيم : فذكرت

ذلك لسعيد بن جبير فقال : كذلك قال ابن عباس .
وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت .
وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت .
وقرأ الشعبي "وأتموا الحج والعمرة لله" برفع العمرة وقال ليست بواجبة .
وروي عنه خلاف ذلك .
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في إحرامه بحج وعمرة .
وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : "من كان معه هدي فليهلل بحج وعمرة" .
وقال في الصحيح أيضا "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" .
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال : حدثنا

علي بن الحسين حدثنا أبو عبد الله الهروي حدثنا غسان الهروي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن صفوان بن أمية أنه قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال : كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي ؟ قال فأنزل الله "وأتموا الحج والعمرة لله" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين السائل عن العمرة" فقال ها أنا ذا .
فقال له "ألق عنك ثيابك ثم اغتسل استنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" هذا حديث غريب وسياق عجيب والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة فقال كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال : "أين السائل ؟" فقال : ها أنا ذا فقال "أما الجبة فانزعها وأما الطيب الذي بك فاغسله ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول هذه الآية وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية فالله أعلم .
وقوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الوصول إلى البيت وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة وأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - "رحم الله المحلقين" قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ فقال : في الثالثة "والمقصرين" وقد كانوا اشتركوا في

هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفا وأربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل بل كانوا على طرف الحرم فالله أعلم .
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا مرض ولا غيره على قولين .
فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى فإذا أمنتم فليس الأمن حصرا قال : وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك .
والقول الثاني : أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق .
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به وفي رواية لأبي داود وابن ماجه "من عرج أو كسر أو مرض" فذكر معناه.
ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن علية عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به ثم قال : وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه .
وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول

الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث قال البيهقي وغيره من الحفاظ وقد صح ولله الحمد .
وقوله "فما استيسر من الهدي" قال الإمام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول "فما استيسر من الهدي" شاة .
وقال ابن عباس الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن .
وقال الثوري عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال شاة .
وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك وهو مذهب الأئمة الأربعة : وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر قال وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك "قلت" والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال بقدر يسارته

وقال العوفي عن ابن عباس : إن كان موسرا فمن الإبل وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم وقال هشام بن عروة عن أبيه "فما استيسر من الهدي" قال إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هديا والهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم .
كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما.
وقوله "ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله "وأتموا الحج والعمرة لله" وليس معطوفا على قوله "فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق "حتى يبلغ الهدي محله" ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 09:59 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ231 الى صــ 240

الحلقة (78)





وقوله "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" .
قال البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت عبد الله بن معقل قال : قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال : حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال "ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاة" قلت : لا .
قال : "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك" فنزلت في خاصة وهي لكم عامة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال : أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال "يؤذيك هوام رأسك ؟" قلت نعم.
قال : "فاحلقه وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة" قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ .
وقال أحمد أيضا : حدثنا هشام حدثنا أبو بشر عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي فمر علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : "أيؤذيك هوام رأسك" فأمره أن يحلق قال ونزلت هذه الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك .
وكذا رواه عثمان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به وعن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة فذكر نحوه .
وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح عن الحسن البصري أنه سمع كعب بن عجرة يقول : فذبحت شاة ورواه ابن مردويه وروي أيضا من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - "النسك شاة والصيام ثلاثة أيام والطعام فرق بين ستة" وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه وقال "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان أو انسك شاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك" وهكذا روى ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال إذا كان أو فأيها أخذت أجزأ عنك .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم النخعي والضحاك نحو ذلك "قلت" وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أي ذلك فعل أجزأه ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة بالأسهل فالأسهل "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال : "انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام" فكل حسن في مقامه ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش قال : ذكر الأعمش قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فأجابه بقول يحكم عليه طعام فإن كان عنده اشترى شاة وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق وإلا صام لكل نصف صاع يوما .
قال إبراهيم

كذلك سمعت علقمة يذكر قال : لما قال لي سعيد بن جبير من هذا ما أظرفه ؟ قال : قلت هذا إبراهيم فقال ما أظرفه كان يجالسنا قال : فذكرت ذلك لإبراهيم قال : فلما قلت يجالسنا انتفض منها .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن أبي عمران حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء والصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكا من تمر ومكوكا من بر والنسك شاة .
وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال : إطعام عشرة مساكين .
وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة وإن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا والله أعلم .
وقال هشام : أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام فبمكة وما كان من صيام فحيث شاء وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن وقال هشام : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر قال : حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان.
قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه قال : فقلت أيها النائم ! فاستيقظ فإذا الحسين بن علي قال فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا قال : فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة قال : قال علي للحسين ما الذي تجد ؟ قال :

فأومأ بيده إلى رأسه قال : فأمر به علي فحلق رأسه ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة .
وإن كانت عن التحلل فواضح .
وقوله "فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح فإن من الرواة من يقول : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر يقول : قرن ولا خلاف أنه ساق هديا وقال تعالى "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وله أن يذبح البقر لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن نسائه البقر وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات رواه أبو بكر بن مردويه وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء .
قال البخاري : يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله "وأتموا الحج والعمرة لله" وفي نفس الأمر لم يكن عمر - رضي الله عنه - ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه.
وقوله "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" يقول تعالى : فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك .
قال

العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر قاله عطاء أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال قاله طاوس ومجاهد وغير واحد وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم أبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان .
وقال العوفي عن ابن عباس : إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله وكذا روى ابن إسحاق عن وبرة عن ابن عمر قال : يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضا فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء وهما للإمام الشافعي أيضا القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما .
ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير وإنما قالوا ذلك لعموم قوله "فصيام ثلاثة أيام في الحج" والجديد من القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل" وقوله "وسبعة إذا رجعتم" فيه قولان : "أحدهما" إذا رجعتم إلى رحالكم


ولهذا قال مجاهد هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق وكذا قال عطاء بن أبي رباح والقول "الثاني" إذا رجعتم إلى أوطانكم .
قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم سمعت ابن عمر قال : "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم" قال : إذا رجع إلى أهله .وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة فأهل بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس : "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" .
وذكر تمام الحديث قال الزهري : وأخبرني عروة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به وقوله "تلك عشرة كاملة" قيل : تأكيد كما تقول العرب رأيت بعيني وسمعت بأذني وكتبت بيدي وقال الله تعالى "ولا طائر يطير بجناحيه" وقال "ولا تخطه بيمينك" وقال "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة"

وقيل معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها .
اختاره ابن جرير وقيل معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي قال هشام عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله "تلك عشرة كاملة" قال : من الهدي .
وقوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال ابن جرير : واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله "لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .
حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان هو الثوري قال : قال ابن عباس : هم أهل الحرم وكذا روى ابن المبارك عن الثوري وزاد الجماعة عليه وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم إنما يقطع أحدكم واديا أو قال يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم .
وكذا قول الله عز وجل "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال : وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس .
وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت كما قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن عطاء قال : من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع وقال عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول في قوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال : من كان دون الميقات .

وقال ابن جريج عن عطاء : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .
قال : عرفة ومزدلفة وعرنة والرجيع .
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع .
وفي رواية عنه اليوم واليومين .
واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا والله أعلم .
وقوله "واتقوا الله" أي فيما أمركم ونهاكم "واعلموا أن الله شديد العقاب" أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره .
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي
اختلف أهل العربية في قوله "الحج أشهر معلومات" فقال بعضهم تقديره الحج حج أشهر معلومات فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها وإن كان ذاك صحيحا والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وبه يقول إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد .
واحتج لهم بقوله تعالى "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" وبأنه أحد النسكين فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة .
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به وهل ينعقد عمرة فيه قولان عنه .
والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر وبه يقول عطاء وطاوس ومجاهد رحمهم الله والدليل عليه قوله "الحج أشهر معلومات" وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة وهو أن وقت الحج أشهر معلومات فخصصه بها من بين سائر شهور السنة فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة .

وقال الشافعي رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج من أجل قول الله تعالى "الحج أشهر معلومات" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين عن حجاج بن أرطاة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس أنه قال من السنة أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج وهذا إسناد صحيح .
وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن وهو ترجمانه .
وقد ورد فيه حديث مرفوع قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي حدثنا نافع حدثنا الحسن بن المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج" وإسناده لا بأس به لكن رواه الشافعي والبيهقي من طريق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل أيهل بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال لا .
وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع ويبقى حينئذ مذهب صحابي يتقوى بقول ابن عباس عن السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره والله أعلم .
وقوله "أشهر معلومات" قال البخاري قال ابن عمر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا الذي علقه البخاري بصيغة الجزم رواه ابن جرير

موصولا : حدثنا أحمد بن حازم بن أبي زغرة حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر "الحج أشهر معلومات" قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة إسناد صحيح .
وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه عن الأصم عن الحسن بن علي بن عفان عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر فذكره وقال هو على شرط الشيخين "قلت" وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن الزبير وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وابن سيرين ومكحول وقتادة والضحاك بن مزاحم والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور رحمهم الله واختار هذا القول ابن جرير قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب كما تقول العرب رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" وإنما تعجل في يوم ونصف يوم وقال الإمام مالك بن أنس والشافعي في القديم هي شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله وهو رواية عن ابن عمر أيضا قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب

أخبرني ابن جريج قال : قلت لنافع أسمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج ؟ قال نعم كان عبد الله يسمي شوالا وذا القعدة وذا الحجة .
قال ابن جريج : وقال ذلك ابن شهاب وعطاء وجابر بن عبد الله صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج وقد حكي هذا أيضا عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير والربيع بن أنس وقتادة وجاء فيه حديث مرفوع لكنه موضوع رواه الحافظ ابن مردويه من طريق حصين بن مخارق وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة" وهذا كما رأيت لا يصح رفعه والله أعلم .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png




ابوالوليد المسلم 22-11-2025 10:03 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ241 الى صــ 250
الحلقة (79)






وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ليس فيها عمرة وهذا إسناد صحيح .
قال ابن جرير : وإنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي للحج وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى.
كما قال محمد بن سيرين : ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج .
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج فقال كانوا لا يرونها تامة "قلت" وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كان يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج والله أعلم.
وقوله "فمن فرض فيهن الحج" أي أوجب بإحرامه حجا - فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه .
قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فمن فرض فيهن الحج" يقول من أحرم بحج

أو عمرة .
وقال عطاء : الفرض الإحرام وكذا قال إبراهيم والضحاك وغيرهم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : "فمن فرض فيهن الحج" فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وعكرمة والضحاك وقتادة وسفيان والثوري والزهري ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال طاوس والقاسم بن محمد : هو التلبية وقوله "فلا رفث" أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به بحضرة النساء .
قال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .
قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب مثله قال ابن جرير وحدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن رجل عن أبي العالية الرياحي عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم وهو يقول :
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
قال أبو العالية : فقلت تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء.
ورواه الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس فذكره .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف حدثني زياد بن حصين حدثني أبي حصين بن قيس قال : صعدت مع ابن عباس في الحج وكنت خليلا له فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس : فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه ويرتجز ويقول :

وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
قال : فقلت أترفث وأنت محرم ؟ فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء .
وقال عبد الله بن طاوس عن أبيه سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل "فلا رفث ولا فسوق" قال : الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث .
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش .
وكذا قال عمرو بن دينار وقال عطاء : كانوا يكرهون العرابة وهو التعريض وهو محرم .
وقال طاوس : وهو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك .
وكذا قال أبو العالية.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وإن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك .
وقال ابن عباس أيضا وابن عمر : الرفث غشيان النساء .
وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية عن عطاء ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطية وإبراهيم النخعي والربيع والزهري والسدي ومالك بن أنس ومقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم .
وقوله "ولا فسوق" قال مقسم وغير واحد عن ابن عباس هي المعاصي .
وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والزهري والربيع بن أنس وعطاء بن يسار وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا أو غيره .
وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .
وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب.
قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد

والسدي وإبراهيم النخعي والحسن وقد يتمسك هؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ولهذا رواه هاهنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن زبيد عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الفسوق هاهنا الذبح للأصنام .
قال الله تعالى "أو فسقا أهل لغير الله به" وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب .
والذين قالوا الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي الصواب منهم .
كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع السنة منهيا عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال : "منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وقال في الحرم : "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد وحلق الشعر وقلم الأظفار ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر وما ذكرناه أولى والله أعلم : وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .
وقوله "ولا جدال في الحج" فيه قولان : "أحدهما" ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه وقد بينه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح كما قال وكيع عن العلاء بن عبد الكريم سمعت مجاهدا يقول "ولا جدال في"

الحج "قد بين الله أشهر الحج فليس فيه جدال بين الناس ."
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ولا جدال في الحج" قال لا شهر ينسأ ولا جدال في الحج قد تبين ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به .
وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن مجاهد في قوله "ولا جدال في الحج" قال قد استقام الحج فلا جدال فيه وكذا قال السدي وقال هشام : أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس "ولا جدال في الحج" قال المراء في الحج .
وقال عبد الله بن وهب قال مالك : قال الله تعالى "ولا جدال في الحج" قال فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ويقول هؤلاء : نحن أصوب .
فهذا فيما نرى والله أعلم .
وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك .
وقال ابن وهب عن أبي صخر عن محمد بن كعب قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم وقال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم .
وقال حماد بن سلمة عن جبير بن حبيب عن القاسم بن محمد أنه قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم الحج غدا ويقول بعضهم الحج اليوم .
وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال وهو قطع التنازع في مناسك الحج والله أعلم .
"والقول الثاني" أن المراد بالجدال هاهنا المخاصمة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن حسان حدثنا إسحاق عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود في قوله "ولا جدال في الحج" قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق عن التميمي سألت ابن عباس عن الجدال قال : المراء تماري صاحبك حتى تغضبه.
وكذلك روى مقسم والضحاك عن ابن عباس .
وكذا قال أبو العالية وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني ومكحول والسدي ومقاتل بن حيان وعمرو بن دينار والضحاك والربيع بن أنس وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار والحسن وقتادة والزهري .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ولا جدال في الحج المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك وقال إبراهيم النخعي "ولا جدال في الحج" قال كانوا يكرهون الجدال وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : الجدال في الحج السباب والمنازعة .
وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج السباب والمراء والخصومات.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير والحسن وإبراهيم وطاوس ومحمد بن كعب قالوا : الجدال المراء.
وقال عبد الله بن المبارك عن يحيى بن بشير عن عكرمة "ولا جدال في الحج" والجدال الغضب أن تغضب عليك مسلما إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه فلا بأس عليك إن شاء الله "قلت" ولو ضربه لكان جائزا سائغا .
والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلست إلى جنب أبي وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة مع غلام أبي بكر فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن

يطلع عليه فاطلع وليس معه بعيره فقال : أين بعيرك ؟ فقال أضللته البارحة .
فقال أبو بكر بعير واحد تضله ؟ فطفق يضربه ورسول الله يتبسم ويقول "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" وهكذا أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن إسحاق ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضرب الجمال ولكن يستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر - رضي الله عنه - "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك والله أعلم .
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيد الله عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه" .
وقوله "وما تفعلوا من خير يعلمه الله" لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة .
وقوله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال العوفي عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟ فقال الله تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة أن ناسا كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وكذا رواه ابن جرير عن عمرو وهو الفلاس عن ابن عيينة قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال وما يرويه عن ابن عيينة أصح

"قلت" قد رواه النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس كان ناس يحجون بغير زاد فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري عن يحيى بن بشر عن شبابة وأخرجه أبو داود عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ومحمد بن عبد الله المخزومي عن شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن شبابة .
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار عن نافع عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادا آخر فأنزل الله تعالى "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الدقيق والسويق والكعك وكذا قال ابن الزبير وأبو العالية ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله وعطاء الخراساني وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان : وقال سعيد بن جبير : فتزودوا الدقيق والسويق والكعك .
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير "وتزودوا" قال الخشكنانج والسويق .
وقال وكيع أيضا : حدثنا إبراهيم المكي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر وزاد فيه حماد بن سلمة عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجودة.

وقوله "فإن خير الزاد التقوى" لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال "وريشا ولباس التقوى ذلك خير" لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا وأنفع .
قال عطاء الخراساني في قوله "فإن خير الزاد التقوى" يعني زاد الآخرة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا عبدان حدثنا هشام بن عمار حدثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة" وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية "وتزودوا" قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ما نجد ما نتزوده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تزود ما تكف به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى" رواه ابن أبي حاتم وقوله "واتقون يا أولي الألباب" يقول : واتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام .

ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)
قال البخاري : حدثنا محمد أخبرني ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج .
وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به ولبعضهم فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده وهكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال وكيع : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج .
وقال عبد الرحمن عن ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد : سمعت ابن الزبير يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png


ابوالوليد المسلم 22-11-2025 10:06 AM

رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...cdf76dc237.png

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الثانى

سورة البقرة
من صــ251 الى صــ 260
الحلقة (80)







وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا شعبة عن أبي أميمة قال : سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" وهذا موقوف وهو قوي جيد وقد روي مرفوعا .
قال أحمد : حدثنا أسباط حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا نكري فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم قال قلنا بلى فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "أنتم حجاج" وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب عن رجل من بني تميم قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن إنا قوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج قال : ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى قال : فأنت حاج ثم قال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما سألت عنه فنزلت هذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق به وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعا .
وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعا فقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى

مكة وإن أناسا يزعمون أنه لا حج لنا فهل ترى لنا حجا ؟ قال ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك ؟ قال : قلت بلى قال "فأنتم حجاج" ثم قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه أو قال : فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعا الرجل فتلاها عليه وقال "أنتم حجاج" وكذا رواه مسعود بن سعد وعبد الواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب به مرفوعا .
وقال ابن جرير : حدثني طليق بن محمد الواسطي حدثنا أسباط هو ابن محمد أخبرنا الحسن بن عمر وهو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا قوم نكري فهل لنا من حج ؟ فقال : أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم ؟ قلنا بلى قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنتم حجاج" وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا غندر عن عبد الرحمن بن المهاجر عن أبي صالح مولى عمر قال : قلت يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟ وقوله تعالى "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" إنما صرف عرفات وإن كان علما على مؤنث لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف اختاره ابن جرير وعرفة موضع الوقوف في الحج وهي عمدة أفعال الحج ولهذا روى الإمام أحمد

وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ."
وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه "ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال :" لتأخذوا عني مناسككم "وقال في هذا الحديث" فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك "وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبلي طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ""

رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي.
ثم قيل : إنما سميت عرفات لما رواه عبد الرزاق أخبرني ابن جريج قال : قال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحج به حتى إذا أتى عرفة قال عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فلذلك سميت عرفة .
وقال ابن المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : إنما سميت عرفة لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول : عرفت عرفت فسميت عرفات .
وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي مجلز فالله أعلم وتسمى عرفات المشعر الحرام والمشعر الأقصى وإلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له ... إلال إلى تلك الشراج القوابل
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن الحسن بن عيينة حدثنا أبو عامر عن زمعة هو

ابن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا فأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدفعة عن عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث زمعة بن صالح وزاد : ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر دفع وهذا أحسن الإسناد وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك" هكذا رواه ابن مردويه وهذا لفظه والحاكم في مستدركه كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي عن عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج .
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه ممن له رؤية بلا سماع وقال وكيع عن شعبة عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن المعرور بن سويد قال : رأيت عمر - رضي الله عنه - حين دفع من عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول : إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع .
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه : - فلم يزل

واقفا يعني بعرفة حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى "أيها الناس : السكينة السكينة" كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل كيف كان يسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دفع ؟ قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص .
والعنق هو انبساط السير والنص فوقه وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو محمد بن بنت الشافعي فيما كتب إلي عن أبيه أو عمه عن سفيان بن عيينة قوله "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهي الصلاتين جميعا وقال أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام .
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم قال : قال ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها .

وقال هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن قوله "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" قال فقال : هذا الجبل وما حوله .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن المغيرة عن إبراهيم قال : رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح فقال : علام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما هاهنا مشعر .
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا : هو ما بين الجبلين .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر قال وليس المأزمان مأزمي عرفة من المزدلفة ولكن مفضاهما قال : فقف بينهما إن شئت قال وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس "قلت" والمشاعر هي المعالم الظاهرة وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث عروة بن مضرس ؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم ؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا والله أعلم .
وقال عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة وجمع كلها موقف إلا محسرا" هذا حديث مرسل وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا سعيد بن عبد العزيز حدثني سليمان

بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" وهذا أيضا منقطع فإن سليمان بن موسى هذا وهو الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبد العزيز عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان فقال الوليد عن جبير بن مطعم عن أبيه وقال سويد عن نافع بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره والله أعلم .
وقوله "واذكروه كما هداكم" تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قيل من قبل هذا الهدي وقيل القرآن وقيل الرسول والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
ثم هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات كما كان جمهور الناس يصنعون يقفون بها إلا قريشا فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ويقولون نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن حازم حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله "من حيث أفاض الناس"

وكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم واختاره ابن جرير وحكى عليه الإجماع .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن مجاهد عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : أضللت بعيرا لي بعرفة فذهبت أطلبه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقف قلت إن هذا من الحمس ما شأنه هاهنا ؟ أخرجاه في الصحيحين ثم رواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار فالله أعلم .
وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط .
قال : والمراد بالناس إبراهيم عليه السلام وفي رواية عنه : الإمام .
وقال ابن جرير : ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح .
وقوله "واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا.
وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين .
وقد روى ابن جرير هاهنا حديث ابن عباس بن مرداس السلمي في استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأمته عشية عرفة وقد أوردناه في جزء جمعناه في فضل يوم عرفة .

وأورد ابن مردويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ."
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6630858ac6.png





الساعة الآن : 10:56 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 855.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 854.17 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.21%)]