رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الاول الحلقة (41) صـ539 إلى صـ 550 المسألة التاسعة أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ، ومقصوده الرفع ; لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية ، فهي : إما موانع للتحريم أو التأثيم ، وإما أسباب لرفع الجناح أو إباحة ما ليس بمباح ، فعلى كل تقدير إنما هي موانع لترتب أحكام العزائم مطلقا ، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع ، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب ; ففعله غير صحيح ، ويجري فيه [ ص: 539 ] التفصيل المذكور في الشروط ; فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص ، من غير فرق . المسألة العاشرة إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة ، صارت العزيمة معها من الواجب المخير ; إذ صار هذا المترخص يقال له : إن شئت فافعل العزيمة ، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة ، وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه ، على وزان خصال الكفارة ; فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة . وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج ، فليست الرخصة معها من ذلك الباب ; لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع ، فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق ، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة ، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة ; فذلك بالقصد الثاني ، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة . والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان ، إحداهما في نفس الأمر عادلة ، والأخرى غير عادلة ; فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . [ ص: 540 ] وقال : ممن ترضون من الشهداء . فإن حكم بأهل العدالة ; أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين ، وإن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر ، وله أجر في اجتهاده ، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين ، فكما لا يقال في الحاكم : إنه مخير بين الحكم بالعدل ، والحكم بمن ليس بعدل ; كذلك لا يقال هنا : إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة . فإن قيل : كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني ؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول ; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . وجاء بعد تقرير الرخصة : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] . قيل : كما يقال : إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول ، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني ، مع قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] . وقوله : وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف : 189 ] . وأيضا ; فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه ، مع [ ص: 541 ] كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة ; فهو تيسير أيضا ورفع حرج . وأيضا ; فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات ; فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة ، وهو مقتضى قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ; ، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات ; فكذلك نقول في محال الرخص : إنها ليست بكليات ، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة . فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول ، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية ; إن قصده الشارع بالرخصة ; فمن جهة القصد الثاني ، والله أعلم . المسألة الحادية عشرة إذا اعتبرنا العزائم مع الرخص ; وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية ، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد . أما الأول ; فظاهر ، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها ، [ ص: 542 ] وبالصيام في وقته المحدود له أولا ، وبالطهارة المائية ، على [ حسب ] ما جرت به العادة : من الصحة ، ووجود العقل ، والإقامة في الحضر ، ووجود الماء ، وما أشبه ذلك ، وكذلك سائر العادات والعبادات ; كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة ، والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها ، إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي ، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر ولا إشكال فيه . وأما الثاني : فمعلوم أيضا من حيث علم الأول ، فالمرض والسفر وعدم الماء أو الثوب أو المأكول ، مرخص لترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه ، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر من المسائل ، ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب " المقاصد " بحمد الله . إلا أن انخراق العوائد على ضربين : عام ، وخاص ; فالعام ما تقدم ، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها ; فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة ; كانقلاب الماء لبنا ، والرمل سويقا ، والحجر ذهبا ، وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض ; فيتناول المفعول له ذلك [ ص: 543 ] ويستعمله ; فإن استعماله له رخصة لا عزيمة ، والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها ; كان الأمر فيها كذلك ; إذ كان مخالفة هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع ; إذ ليس من شأنه أن يترخص ابتداء ، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر ; فهاهنا أولى ; لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية ، وإنما وضعت لأمر آخر ، فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها ، وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى . وأيضا ; فقد ذكر في كتاب " المقاصد " أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة ، بمعنى أنها عامة في كل مكلف ، لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض ، والحمد لله . ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم ـ لإظهار الخارق كرامة ومعجزة ; لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس ، وكذلك نقول : إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه ، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بأن يكون بحسب القصد ، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال ، حسبما دل عليه الاستقراء ، فأما إذا لم يكن هذا ; فالشرط معتبر بلا إشكال ، وليس بمختص بالعموم ، بل هو في الخصوص أولى . فإن قيل : الولي إذا انخرقت له العادة فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة ; فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساو لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي ، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي : إنه في التناول مترخص ، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة ; [ ص: 544 ] إذ لا فرق بينهما ، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط . فالجواب من وجهين : أحدهما : إن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا إيجابا ، ولكن على غير ذلك ; فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير بين الملك والعبودية ; فاختار العبودية ، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة ; فلم يختر ذلك ، وكان [ ص: 545 ] عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة فلو شاء [ له ] لدعا بما يحب فيكون ، فلم يفعل ، بل اختار الحمل على مجاري العادات : يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ، ويشبع يوما فيحمده ، ويثني عليه ; حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر ، وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يري أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين وكفاية من أزمات الأوقات ، وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ، ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله ، فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية ، والطلبات محضرة له ; حتى قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما أرى الله إلا يسارع في هواك ، وكان ـ لما أعطاه الله من شرف المنزلة - متمكنا منها فلم يعول إلا على مجاري العادات في الخلق ، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق ، ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء ; لم يكن [ ص: 546 ] حتما على الأولياء ; لأنهم الورثة في هذا النوع . والثاني : [ إن ] فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين ، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم للتكاليف كلها ، وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد ; فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه ; لأنها آيات من آيات الله تعالى ، برزت على عموم العادات ، حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة ; كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى الآية [ البقرة : 260 ] ، وكما قال نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر : يرحم الله أخي موسى ، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما فإذا كانت هذه [ ص: 547 ] فائدتها ; كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج ; فهو في التناول والاستعمال بحكم الخيرة ; فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد ; صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة ، وإن قبل الصدقة ; فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها . وأيضا ; فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات ، وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء ، وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها ، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا ; فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب وتخفيف عنه ، فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف [ بالكسب وتخفيفا عنه ] فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر ، وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها ، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله ، كما كانت النعم العادية الاكتسابية ابتلاء أيضا ، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ [ ص: 548 ] الرخص كما تبين وجهه ، فهذا من ذلك القبيل ; فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين ! فلأجل هذا لم يستندوا إليها ، ولم يعولوا عليها من هذه الجهة ، بل قبلوها واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله ، وتركوا منها ما سوى ذلك ; إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة ; تضمنت تكليفا وابتلاء . وقد حكى القشيري من هذا المعنى : فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات ; قال : فحملت معي شيئا وطلبته ، فلما وقعت عينه علي تبسم ، وأشار بيده إلى الأرض ، فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع ، ثم قال : هات ما معك ، فناولته ، وهالني أمره وهربت . وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة ; فوجدها وقد التزق الشطان ، فانصرف وقال : وعزتك لا أجوزها إلا في زورق . وعن سعيد بن يحيى البصري ; قال : أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل ، فقلت له : لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل . فقال : ربي أعلم بمصالح عباده ، ثم أخذ حصى من الأرض ، ثم قال : اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت ، فإذا هي والله في يده ذهب ، فألقاها إلي [ ص: 549 ] وقال : أنفقها أنت ; فلا خير في الدنيا إلا للآخرة . بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها ، والتشوف إليها ، كما يحكى عن أبي يزيد البسطامي ، ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة ، وواردة من جهة مجرد الإنعام ; فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات ; فكيف يتشوف إلى خارقة ، ومن بين يديه ، ومن خلفه ، ومن فوقه ، ومن تحته مثلها ، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد ، وعدوا من ركن إليها مستدرجا ، من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة . حكى القشيري عن أبي العباس الشرفي ; قال : كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة ، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابنا : أنا عطشان . فضرب برجله الأرض ، فإذا عين ماء زلال ; فقال الفتى : أحب أن أشربه بقدح ، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا ، وما زال القدح معنا إلى مكة ; فقال لي أبو تراب يوما : ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده ؟ فقلت : ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها ، فقال : من لا يؤمن بها فقد كفر ، إنما سألتك من طريق الأحوال ، فقلت : ما أعرف لهم قولا فيه ، فقال : [ ص: 550 ] بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق ، وليس الأمر كذلك ; إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين . وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة ، لا في حكم العزيمة ; فليتفطن لهذا المعنى فيها ; فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل : منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم ، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد ، ولا تعد من المقامات ، ولا هي معدودة في النهايات ، ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية ، والانتصاب للإفادة ، كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية ، ولا هي دليل على بلوغ النهاية ، والله أعلم . الاستدراكات ( استداراك 1 ) : ذكره عنه ابن كثير في " تفسيره " ( 1 \ 212 ، البقرة : 173 ) ، وقال : " وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ، قال أبو الحسن الطبري المعروف بـ ( ألكيا الهراسي ) رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك " . ( استدراك 2 ) : كذا في ( ط ) ، و " الناسخ والمنسوخ " ( 1 \ 171 ) ، لابن العربي ، وفي سائر النسخ : " رجاء الأبدية " . ( استدارك 3 ) : قلت : أخرج سبب النزول المذكور البخاري في " صحيحه " ( كتاب التفسير ، باب ليس عليكم جناح ، 8 \ 186 \ رقم 4519 ) ، وأبو داود في " السنن " ، ( 2 \ 75 ) ، والحاكم في " المستدرك " ( 2 \ 277 ) ، وابن جرير في " التفسير " ، ( 2 \ 273 ) ، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما . ( استدراك 4 ) : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم ـ الضمن : الزمن المبتلى ـ ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم ، فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس ؛ فأنزل الله ـ عز وجل ـ : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه ، رواه البزار في " مسنده " ؛ كما في " كشف الستار " ( رقم 2241 ) ، ورجاله رجال الصحيح ؛ كما في " المجمع " ( 7 \ 83 ) ، وقال السيوطي في " لباب النقول : " سنده صحيح " ، وقال ابن حجر في " مختصر زوائد البزار " ( 2 \ 97 \ رقم 1490 ) : " صحيح " . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (43) صـ24 إلى صـ 43 المسألة الثانية كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة ، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية . فأما الأولى; فنحو التماثل في القصاص; فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ، ولكنه تكميلي ، وكذلك نفقة المثل ، وأجرة المثل ، وقراض المثل ، والمنع من النظر إلى الأجنبية ، وشرب قليل المسكر ، ومنع الربا ، والورع اللاحق في المتشابهات ، وإظهار شعائر الدين ، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن ، وصلاة الجمعة ، والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في البيع إذا قلنا : إنه من الضروريات . [ ص: 25 ] وأما الثانية; فكاعتبار الكفء ، ومهر المثل في الصغيرة ، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة ، وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات; فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ، ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله; فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة ، إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف . وأما الثالثة; فكآداب الأحداث ، ومندوبات الطهارات ، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة ، والإنفاق من طيبات المكاسب ، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق ، وما أشبه ذلك . ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات ، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات; فإن الضروريات هي أصل المصالح حسب ما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى . [ ص: 26 ] المسألة الثالثة كل تكملة فلها - من حيث هي تكملة - شرط ، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال ، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها; فلا يصح اشتراطها عند ذلك; لوجهين : أحدهما : أن في إبطال الأصل إبطال التكملة; لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف ، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف; لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا ، فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها ، وهذا محال لا يتصور ، وإذا لم يتصور ، لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غير مزيد . والثاني : أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت . وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي ، وحفظ المروءات مستحسن ، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس ; كان تناوله أولى . وكذلك أصل البيع ضروري ، ومنع الغرر والجهالة مكمل ، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع ، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية ، [ ص: 27 ] واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر; منع من بيع المعدوم إلا في السلم ، وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها ، والإجارة محتاج إليها; فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما . وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه ، قال مالك : لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين ، فالجهاد ضروري ، والوالي فيه ضروري ، والعدالة فيه مكملة للضرورة ، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 28 ] اوكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء ; فإن في ترك ذلك [ ص: 29 ] ترك سنة الجماعة ، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة ، والعدالة مكملة لذلك المطلوب ، ولا يبطل الأصل بالتكملة . ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها ، فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلى - كالمريض غير القادر - سقط المكمل ، أو كان في إتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل ، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة ، وستر العورة من باب محاسن الصلاة ، فلو طلب على الإطلاق; لتعذر أداؤها على من [ ص: 30 ] لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر ، كلها جار على هذا الأسلوب . وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة ، واحمل عليه نظائره . [ ص: 31 ] المسألة الرابعة المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية . فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ، ولا يلزم من اختلالهما أو اختلال أحدهما اختلال الضروري بإطلاق ، نعم ، قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما ، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما ، فلذلك إذا حوفظ على الضروري ، فينبغي المحافظة على الحاجي ، وإذا حوفظ على الحاجي ، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي ، وأن الحاجي يخدم الضروري; فإن الضروري هو المطلوب . فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها : أحدها : أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي . والثاني : أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق . والثالث : أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق . والرابع : أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما . والخامس : أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني [ ص: 32 ] للضروري . بيان الأول : أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم ، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها ، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني : ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - ، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك . فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ، ولو عدم العقل لارتفع التدين ، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ، ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها ، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات ، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء ، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا ، وأنها زاد للآخرة . وإذا ثبت هذا; فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى ، إذ هي تتردد على الضروريات ، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات ، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور; حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط . وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع ، وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا [ ص: 33 ] ومضطجعا ، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته ، وكذلك ترك المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك ، فإذا فهم هذا ، لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية ، وهكذا الحكم في التحسينية; لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري ، فإذا كملت ما هو ضروري ، فظاهر ، وإذا كملت ما هو حاجي ، فالحاجي مكمل للضروري ، والمكمل للمكمل مكمل; فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه . بيان الثاني : يظهر مما تقدم ; لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود ، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه; لزم من اختلاله اختلال الباقيين; لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى . فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة; لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص ، لم يمكن اعتبار المماثلة فيه ، فإن ذلك من أوصاف القصاص ، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف ، وكما إذا سقط عن المغمى عليه ، أو الحائض أصل الصلاة; لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها ، أو التكبير ، أو الجماعة ، أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ، ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ، ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ، ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل; من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك; لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض ، فلا يصح أن يقال : إن أصل الصلاة هو المرتفع ، وأوصافها بخلاف ذلك . [ ص: 34 ] وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا ، أو الصيام كذلك ، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار ، والنهي عن الصيام في العيد ، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي; من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع; لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك ، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها; فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل . ولا يقال : إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الاعتبار ، فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا ، وإذا لم تكن منهيا عنها على الإطلاق; لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له ، فلا يلزم من اختلال الأصل اختلال الفرع ، كما أصلت . وأيضا; فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة; كالطهارة مع الصلاة ، وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد ، كجر الموسى في الحج على رأس من لا شعر له ، فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها ، فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل . لأنا نقول : إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران : اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة . واعتبار من حيث أنفسها . فأما اعتبارها من الوجه الثاني; فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة ، وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ، ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف ، إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا ، فكذلك ما كان في الاعتبار مثله ، فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل ، وهو المطلوب ، [ ص: 35 ] وكذلك الصوم وأشباهه . وأما مسألة الوسائل; فأمر آخر ، ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله ، فلا يمكن والحال هذه - أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد ، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها ، فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها ، وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر ، فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على رأس من لا شعر له . وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموسى على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه ، وإلا لم يصح ، فالقاعدة صحيحة ، وما اعترض به لا نقض فيه عليها ، والله أعلم بغيبه وأحكم . بيان الثالث : أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ، ومن المعلوم [ ص: 36 ] أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه; فكذلك في مسألتنا لأنه يضاهيه . مثال ذلك : الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة . وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر ، لا يبطل أصل البيع; كما في الخشب ، والثوب المحشو ، والجوز ، والقسطل ، والأصول المغيبة في الأرض; كالجزر واللفت ، وأسس الحيطان ، وما أشبه ذلك . وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص; لم يبطل أصل القصاص ، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف ، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها ، كذلك ما نحن فيه ، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية ، بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف ، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية ، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل ، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده ، كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة ، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها ، بالنسبة إلى القادر عليها ، هذا لا نظر فيه ، والوصف [ ص: 37 ] الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ، ولا من الحاجيات ، بل هو من الضروريات . لا يقال : إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية ألا تكون في دار مغصوبة ، وكذلك الذكاة من تمامها ألا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ، ومع ذلك ، فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة ، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف; لأنا نقول : من قال بالصحة في الصلاة والذكاة ، فعلى هذا الأصل المقرر بنى ، ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي ، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها; من حيث كانت أركانها كلها - التي هي أكوان - غصبا; لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة ، وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان; فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها ، كالصلاة في طرفي النهار ، والصوم في يوم العيد . وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها; لأن العمل بها غصب ، كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل; بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار . [ ص: 38 ] ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور ، إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي ، وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به . بيان الرابع من أوجه : أحدها : أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار; فالضروريات آكدها ، ثم تليها الحاجيات والتحسينات ، وكان مرتبطا بعضها ببعض; كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ، ومدخل للإخلال به ، فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فالمخل بما هو مكمل ، كالمخل بالمكمل من هذا الوجه . ومثال ذلك الصلاة; فإن لها مكملات ، وهي هنا سوى الأركان والفرائض ، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان; لأن الأخف طريق إلى الأثقل . ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام : كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [ ص: 39 ] وفي الحديث : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده . وقول من قال : " إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أخرقها " . وهو أصل مقطوع به متفق عليه ، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب . فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه ، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات; فإذا قد يكون في [ ص: 40 ] إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما . ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق ، بحيث لا يأتي بشيء منها ، وإن أتى بشيء منها كان نزرا ، أو يأتي بجملة منها إن تعددت; إلا أن الأكثر هو المتروك والمخل به ، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن ، وكانت إلى اللعب أقرب ، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله ، وكذلك نقول في البيع : إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة ، أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود ، فكان وجود العقد كعدمه ، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده ، وكذلك سائر النظائر . والثاني : أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض ، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه ، وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة . وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ، ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة ، بالنسبة إلى أصل إقامة البنية ، وإحياء النفس - كالنفل . وكذلك كون المبيع معلوما ، ومنتفعا به شرعا ، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع - كالنافلة . وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل ، فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب; لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب ، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به - فمن هذا الوجه أيضا - يصح أن يقال : إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما . [ ص: 41 ] والثالث : أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات ، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول ، مكملة الأطراف ، حتى يستحسن ذلك أهل العقول ، فإذا أخل بذلك; لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت ، واتصف بضد ما يستحسن في العادات ، فصار الواجب الضروري متكلف العمل ، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة ، وذلك ضد ما وضعت عليه ، وفي الحديث : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فكأنه لو فرض فقدان المكملات; [ ص: 42 ] لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك ، وذلك خلل في الواجب ظاهر ، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسير منه ، بحيث لا يزيل حسنه ، ولا يرفع بهجته ، ولا يغلق باب السعة عنه ، فذلك لا يخل به ، وهو ظاهر . والرابع : أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ، ومؤنس به ، ومحسن لصورته الخاصة; إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا ، وعلى كل تقدير ، فهو يدور بالخدمة حواليه ، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته . وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم ، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه ، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ، ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن; لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه ، وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب ، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه ، والوقوف بين يديه ، وهكذا إلى آخرها ، فلو قدم قبلها نافلة ، كان ذلك تدريجا للمصلي [ ص: 43 ] واستدعاء للحضور ، ولو أتبعها نافلة أيضا ، لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة . ومن الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل; ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد ، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد ، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل; لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ، ودخول وساوس الشيطان . فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ، ومقوية لجانبه ، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره ، لكان خللا فيها ، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها . بيان الخامس ظاهر مما تقدم ، لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته ، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ، ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها ، كان من الأحق أن لا يخل بها . وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها ، وهو قسم الضروريات ، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة ، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع ، فهي أصول الدين ، وقواعد الشريعة ، وكليات الملة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://i.imgur.com/6PJG69Z.gif الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (47) صـ91 إلى صـ 99 المسألة الثانية عشرة إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة . ويتبين ذلك بوجهين : أحدهما : الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا; كقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] . وقوله : كتاب أحكمت آياته [ هود : 1 ] . وقد قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته [ الحج : 52 ] ; فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل ، والسنة وإن لم تذكر ، فإنها مبينة له ودائرة حوله ، فهي منه وإليه ترجع في معانيها ، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ، ويشد بعضه بعضا ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] . حكى أبو عمرو الداني في " طبقات القراء " له عن أبي الحسن بن المنتاب; قال : كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق ، فقيل له : لم [ ص: 92 ] جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة : بما استحفظوا من كتاب الله [ المائدة : 44 ] فوكل الحفظ إليهم; فجاز التبديل عليهم ، وقال في القرآن : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ; فلم يجز التبديل عليهم ، قال علي : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي ، فذكرت له الحكاية ، فقال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا . وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء ، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر ، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء ، فكذلك في الأرض ، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة [ ص: 93 ] من مثله وهو كله من جملة الحفظ ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة ، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل . والثاني : الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن ، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة ، والمناضلة عنها ، بحسب الجملة والتفصيل . أما القرآن الكريم ، فقد قيض الله له حفظة; بحيث لو زيد فيه حرف واحد ، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر ، فضلا عن القراء الأكابر . وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة ، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم . فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب ، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث - وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة ، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب - . ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا ، وجرا وجزما ، وتقديما وتأخيرا ، وإبدالا وقلبا ، وإتباعا وقطعا ، وإفرادا وجمعا ، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب ، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان ، فسهل الله بذلك [ ص: 94 ] الفهم عنه في كتابه ، وعن رسوله في خطابه . ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة ، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم ، وتعرفوا التواريخ ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله . وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة ، وعما كان عليه السلف الصالحون ، وداوم عليه الصحابة والتابعون ، وردوا على أهل البدع والأهواء ، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى . وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة ، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف ، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس . ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ، ويدفعون الشبه ببراهينه ، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض ، واستعملوا الأفكار ، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا ، واتخذوا الخلوة أنيسا ، وفازوا بربهم جليسا ، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه ، وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه ، فإن عارض دين الإسلام معارض ، أو جادل فيه خصم [ ص: 95 ] مناقض ، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة ، فهم جند الإسلام وحماة الدين . وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول ، وتارة من معناه ، وتارة من علة الحكم ، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر ، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه . وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة ، وبالله التوفيق . المسألة الثالثة عشرة كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول : إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها; فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ، وذلك الجزئيات ، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع . والدليل على ذلك أمور : منها : ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر ، كترك الصلاة ، أو الجماعة ، أو الجمعة ، أو الزكاة ، أو الجهاد ، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه ، كان العتب وعيدا أو غيره ، كالوعيد بالعذاب ، وإقامة الحدود في الواجبات ، والتجريح في غير الواجبات ، وما أشبه ذلك . ومنها : أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث ، والأمر والنهي فيها قد جاء حتما ، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها ، أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة; إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم ، وحين كان ذلك كذلك ، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها . ومنها : أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي; لم يصح الأمر بالكلي من أصله ، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه; لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات ، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق ، [ ص: 97 ] وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله ، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات; فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات . وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي; فإنه مع الإهمال لا يجري كليا بالقصد ، وقد فرضناه مقصودا ، هذا خلف; فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات ، وليس البعض في ذلك أولى من البعض ، فانحتم القصد إلى الجميع ، وهو المطلوب . [ ص: 98 ] فإن قيل : هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات . فالجواب : أن القاعدة صحيحة ، ولا معارضة فيها لما نحن فيه ، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض ، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي ، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي ، حتى إن تخلف الجزئي هنالك ، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى ، كما نقول : إن حفظ النفوس مشروع - وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه - ، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس ، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه ، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس; فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا ، وهو النفس المجني عليها; فصار عين اعتبار الجزئي في كلي هو عين إهمال الجزئي ، لكن في المحافظة على كليه من وجهين ، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب . [ ص: 99 ] فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض; فلا يصح شرعا ، وإن كان لعارض ، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى ، أو على كلي آخر; فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي ، والثاني لا يكون تخلفه قادحا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (52) صـ151 إلى صـ 162 المسألة الخامسة إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟ أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول . وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر . فللمصحح أن يستدل بأوجه : أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب . والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين . والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها . واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره . وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر . وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب . واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] . وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد . واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص . واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع . وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر . إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به . وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه : أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] . وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] . فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال . والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن . [ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى . لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب . وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره . والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك . فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام . ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب . فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (54) صـ170 إلى صـ 179 النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ويحتوي على مسائل المسألة الأولى ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا; فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ، ولكن نبني عليها ونقول : إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه; [ ص: 172 ] فقول الله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وقوله في الحديث : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، وقوله : " لا تمت [ ص: 173 ] وأنت ظالم " ، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة ، وهو الإسلام ، وترك الظلم ، والكف عن القتل ، والتسليم لأمر الله ، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل . ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا [ ص: 174 ] تشرف يا رسول الله ، لا يصيبوك الحديث; فقوله : " لا يصيبوك " من هذا القبيل . [ ص: 175 ] المسألة الثانية إذا ثبت هذا; فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها ، فإنه من تكليف ما لا يطاق ، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ، ولا تكميل ما نقص منها; فإن ذلك غير مقدور للإنسان ، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل ، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل ، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب . [ ص: 176 ] المسألة الثالثة إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان ; فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان : منها : ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم . ومنها : ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ، ومثاله العجلة ، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه; لقوله تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] . وفي الصحيح : إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك . وقد جاء أن : " الشجاعة والجبن غرائز " . و " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها " . [ ص: 177 ] إلى أشياء من هذا القبيل ، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات . وجاء : " يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " . [ ص: 178 ] وإذا ثبت هذا; فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام : أحدها : ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا ، وهذا قليل; كقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به . والثاني : ما كان داخلا تحت كسبه قطعا ، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه ، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها . والثالث : ما قد يشتبه أمره; كالحب والبغض وما في معناهما; فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها ، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه ، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا; إما لأنها من أصل الخلقة ، فلا يطلب إلا بتوابعها; فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية ، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه ، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب ، وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر ، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه; فالطلب يرد عليه كقوله : " تهادوا تحابوا " فيكون كقوله : " أحبوا [ ص: 179 ] الله لما أسدى إليكم من نعمه " مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى [ ص: 180 ] على العبد وكثرة إحسانه إليه ، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل ، وعين الشهوة لم ينه عنه ، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه; [ ص: 181 ] فالطلب يرد على اللواحق; كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (55) صـ180 إلى صـ 190 فصل ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ، وما ينشأ عنها من آفات اللسان ، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره . وعليه يدل كثير من الأحاديث ، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة; كالعلم ، والتفكر ، والاعتبار ، واليقين ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وأشباهها مما هو نتيجة عمل ، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها ، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا ، فليس تحصيله بمقدور أصلا ، فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات ، فهو حاصل ولا يمكنه الانصراف عنه ، وإن كان غير ضروري لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر ، وهو المكتسب دون نفس العلم; لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة ، لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هو المكتسب ، فيكون المطلوب وحده ، وأما العلم على أثر النظر ، فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها ، كما هو رأي المحققين ، أم لم نقل ذلك ، فالجميع متفقون على [ ص: 183 ] أنه غير داخل تحت الكسب نفسه ، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال . وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا ، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل ، وإذا كانت على هذا الترتيب; لم يصح التكليف بها أنفسها ، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك; فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها ، أو يتأخر عنها ، أو يقارنها ، والله أعلم . المسألة الرابعة الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين : أحدهما : ما كان نتيجة عمل ، كالعلم والحب في نحو قوله : " أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه " . والثاني : ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل ، كالشجاعة ، والجبن ، والحلم ، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس ، وما كان نحوها . فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة ، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة ، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها ، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض ، على ذلك الترتيب . والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين : إحداهما : من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له . والثانية : من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع ؟ فأما النظر الأول; فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما [ ص: 185 ] الله : الحلم ، والأناة . وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما ، وفي بعض الحديث : " الشجاعة والجبن غرائز " . [ ص: 186 ] وجاء : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية [ ص: 187 ] وفي الحديث : الأرواح جنود مجندة; فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وهذا معنى التحاب والتباغض ، وهو غير مكتسب . وجاء في الحديث : وجبت محبتي للمتحابين في . وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [ ص: 188 ] من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر ، والضعف خلاف ذلك . وجاء : إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها . [ ص: 189 ] وجاء : يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب . وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] . وجاء في معرض الذم والكراهية ، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة . ولا يقال : إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال; لأن ذلك : أولا : خروج عن الظاهر بغير دليل . وثانيا : أنهما يصح تعلقهما بالذوات ، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات; كقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية . أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه . و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله . [ ص: 190 ] ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال : إن المراد حب الأفعال فقط; فكذلك لا يقال في الصفات - إذا توجه الحب إليها في الظاهر - إن المراد الأفعال . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (56) صـ191 إلى صـ 203 فصل وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال; كقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] . ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] . أبغض الحلال إلى الله الطلاق . ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه . [ ص: 191 ] وهذا كثير . وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] . والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] . والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] . وفي الحديث : إن الله يبغض الحبر السمين . [ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل . وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟ هذا يتصور في ثلاثة أوجه : أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب . والثاني : أن يتعلقا معا بها . والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر . أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما . فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين : أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب . والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب . وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين : أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب . والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك . [ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك . وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا . [ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل . أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، ومن أتى عرافا; فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل . وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه . ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته : أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها . وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات . وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب . فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (57) صـ204 إلى صـ 213 المسألة الخامسة تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق . وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم . [ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة . ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] . والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية : أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة . والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة . إلا أن هذا الوجه على ضربين : أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك . والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا . وقوله : القصد ، القصد تبلغوا . والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي . [ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا . والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق . فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة : فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به . وأما الثاني : وهي : [ ص: 210 ] المسألة السادسة فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : النصوص الدالة على ذلك; كقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] . وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] الآية . وفي الحديث : " قال الله تعالى : قد فعلت " . وجاء : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] . [ ص: 211 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] . ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية . وفي الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة . وما خير بين شيئين; إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما . [ ص: 212 ] وإنما قال : " ما لم يكن إثما " ; لأن ترك الإثم لا مشقة فيه ، من حيث كان مجرد ترك ، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ، ولكان مريدا للحرج والعسر ، وذلك باطل . والثاني : ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص ، وهو أمر مقطوع به ، ومما علم من دين الأمة ضرورة; كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة ، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف ، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف . والثالث : الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف ، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه ، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض [ ص: 213 ] والاختلاف ، وذلك منفي عنها; فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة ، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير; كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا ، وهي منزهة عن ذلك . وأما الثالث : وهي : https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (58) صـ214 إلى صـ 221 المسألة السابعة فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف . وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة . [ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا . فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه : أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه . والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا . والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية . وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] . وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " . وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك . فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب . فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين : أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة . والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا . [ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب . وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي . [ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله . وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا . وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة . وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها . والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك . [ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (59) صـ222 إلى صـ 232 فصل ويترتب على هذا أصل آخر : وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل . أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب . وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض . [ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! . وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا . وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة . وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه . وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر . وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم . وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " . فالجواب أن نقول : أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات . وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " . وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه . [ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى . وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله . [ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني . وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا . ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس . وقال : هلك المتنطعون . [ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق . فصل وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر . وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا . فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين . وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص . ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين : أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش . وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر . [ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان . وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان . وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] . إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف . والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة . [ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية . وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (64) صـ274 إلى صـ 286 فصل قال ابن العربي : " إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس ، فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الشافعي اعتباره " انتهى ما قال . وهو مما ينظر فيه ، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد ، فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه إن كان من المعتاد ، فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه ، وإلا لزم في أصل التكليف ، فإن تصور وقوع اختلاف; فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد ، أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما . وأيضا; فتسميته خاصا يشاح فيه ، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص; إذ [ ص: 274 ] ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض . وإن عنى بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة; فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه ، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم ، وقد شرع فيه التخفيف ، فهذا عام ، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام ، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض ، إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ، ومنهم من يقدر على ذلك ، ومنهم من يقدر على الصوم ، ومنهم من لا يقدر ، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ، ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة ، فالظاهر أنه خاص ، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي; إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد ، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا ، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص ، وإلا; فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام ، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد ، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين; فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة; فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك . فإن قيل : لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم ، وما كان خاصا ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض الناس ، وما أشبه [ ص: 275 ] ذلك . فالجواب : إن هذا أيضا مما ينظر فيه ; فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص ; لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين ، أو بعض الأزمان المعينة ، أو الأمكنة المعينة ، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة ، أو على وجه لا يقاس عليه غيره ; كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة ، وكتخصيص الكعبة [ ص: 276 ] بالاستقبال ، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد ; فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت . فإن قيل : ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره . قيل : وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر ; فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم ، بل جهة العموم أولى ; لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم ; فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده ; فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض ، وإن سقط ، سقط في البعض ، وهذا متفق عليه بين الإمامين ، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك . فإن قيل : لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا ، وهو عام ; كالتراب والطحلب وشبه ذلك ، أو خاص كما إذا كان عدم [ ص: 277 ] الانفكاك خاصا ببعض المياه ، فإن حكم الأول ساقط لعمومه ، والثاني مختلف فيه لخصوصه ، وكذلك اختلف في ماء البحر : هل هو طهور أم لا ؟ لأنه متغير خاص ، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف ، والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط ، وإن كان خاصا ففيه خلاف ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها من بني فلان ، أو من البلد الفلاني ، أو من السودان ، أو من البيض ، أو كل بكر أتزوجها ، أو كل ثيب ، وما أشبه ذلك ، فهي طالق ، ومثله كل أمة اشتريتها ، فهي حرة ، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص ، كما لو قال : كل حرة أتزوجها طالق ، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط ، فإن قال فيه : كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا ، وجرى فيه الخلاف ، وأشباه ذلك من المسائل . فالجواب : أن هذا ممكن ، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه ; إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عنمالك بعدم الاعتبار ، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة ، وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه ، لا [ ص: 278 ] بالنسبة إلى نظر الأصول ، إلا أنه إذا ثبت الخلاف ، فهو المراد هنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال ; فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه ، كالأمثلة المتقدمة ، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه ; فليس بحرج عام بإطلاق ، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر ، وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة ، لاختلاف أحوال الناس في ذلك . وأيضا ; فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها ; فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين ، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة : الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية ، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه ، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد ، والله أعلم . [ ص: 279 ] المسألة الثانية عشرة الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال ; كتكاليف الصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والزكاة ، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك ، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل ; كقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون [ البقرة : 215 ] . يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] . وأشباه ذلك . فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف ، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين ; كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل ، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه ، فعلى الطبيب الرفيق [ أن ] يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته ، وقوة مرضه وضعفه ، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله . أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب [ ص: 280 ] التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم ، وتكمل بها تصرفاتهم ; كقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] . وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] . وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ النحل : 10 ] . إلى آخر ما عد لهم من النعم ، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا ، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر ، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران ، وشكوا في صدق ما قيل لهم ; أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته ، فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة ; أخبروا [ ص: 281 ] بحقيقتها ، وأنها في الحقيقة كلا شيء ; لأنها زائلة فانية . وضربت لهم الأمثال في ذلك ; كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ يونس : 24 ] الآية . وقوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو [ الحديد : 20 ] [ إلى آخر الآية ] وقوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ العنكبوت : 64 ] . بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام : إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا . ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته ; قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] . وقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] . [ ص: 282 ] ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم ، والوعيد فيه والتشديد ، وقال تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فنزل : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ; فخفف عنهم بسبب ذلك ، مع أن قليل الظلم وكثيره منهي عنه ، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية لقوله : " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " [ الأنعام : 82 ] . ولما قال عليه الصلاة والسلام : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ; شق ذلك عليهم ، إذ لا يسلم أحد من شيء منه ، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر . وكذلك لما نزل : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ البقرة : 284 ] الآية ; شق عليهم ; فنزل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] . وقارف بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له ، فسئل في ذلك [ ص: 283 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فأنزل الله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] الآية . [ ص: 284 ] ولما ذم الدنيا ومتاعها ; هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا ، وينقطعوا إلى العبادة ، فرد ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : من رغب عن سنتي ; فليس مني . ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ التغابن : 15 ] والمال والولد هي الدنيا ، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها ; إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه ، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه ; فلا . ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة ، وأنه جزاء لأعمالهم ; فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 17 ] . ونفى المنة به عليهم في قوله : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] . فلما منوا بأعمالهم قال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ الحجرات : 17 ] . فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه ; لأنه مقطع حق ، وسلب [ ص: 285 ] عنهم ما أضاف إلى الآخرين ، بقوله : أن هداكم للإيمان [ الحجرات : 17 ] ، كذلك أيضا ، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به ، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار ; فقال عليه السلام : اسق يا زبير - فأمره بالمعروف - ، وأرسل الماء إلى جارك . فقال الرجل : إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر ، واستوفى له حقه ; فقال الزبير : إن هذه الآية نزلت في ذلك : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية . وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها . وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر ، يعطي الغذاء ابتداء [ ص: 286 ] على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي : أهو غذاء ، أم سم ، أم غير ذلك ؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط ; قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ، ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي ، والصحة المطلوبة ، وهذا غاية الرفق ، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (65) صـ287 إلى صـ 295 فصل فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط ، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف ، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر . فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين . وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد ، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ، ومسلك الاعتدال واضحا ، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه . وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط ; فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى ، [ ص: 287 ] وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما ، وما قابلها . والتوسط يعرف بالشرع ، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء ; كما في الإسراف والإقتار في النفقات . [ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة ويشتمل على مسائل المسألة الأولى المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا . والدليل على ذلك أمور : أحدها : النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله ، والدخول [ ص: 290 ] تحت أمره ونهيه ; كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] . وقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] . وقوله : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] . ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة ; كقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله : وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] . وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام ، وقوله : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ النساء : 36 ] . إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وبتفاصيلها على العموم ، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال ، والانقياد إلى أحكامه على كل حال ، وهو معنى التعبد لله . والثاني : ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله ، وذم من أعرض عن الله ، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات ، والعذاب الآجل في الدار الآخرة ، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة ، والشهوات الزائلة ; فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق ، وعده قسيما له ، كما في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] . [ ص: 291 ] وقال تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ النازعات : 37 - 39 ] . وقال في قسيمه : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] . وقال : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] . فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك ; فهما متضادان ، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق . وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] . وقال : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] . وقال : الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ محمد : 16 ] . ، وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] . وتأمل ; فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ; أنه قال : " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه " . فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن [ ص: 292 ] اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى . والثالث : ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى ، والمشي مع الأغراض ; لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك ، الذي هو مضاد لتلك المصالح ، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته ، وسار حيث سارت به ، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها ، أو كان له شريعة درست ، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي ، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم ، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا ، وهي التي يسمونها السياسة المدنية ; فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة ، وهو أظهر من أن يستدل عليه . وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم ; إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة ، أما الوجوب والتحريم ; فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار ; إذ يقال له : " افعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، و " لا تفعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق ، وهوى باعث على [ ص: 293 ] مقتضى الأمر أو النهي ، فبالعرض لا بالأصل ، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - ; فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض ، وقد لا يكون ؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار ، بل في رفعه مثلا ، كيف يقال : إنه داخل تحت اختياره ؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا ; حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه ، كما يطرأ للمتنازعين في حق . وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول ، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس ، فيحب الآن ما يكره غدا ، وبالعكس ، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق ، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى ; فسبحان الذي أنزل في كتابه : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] . فإذا ; إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف ، إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي ، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله . فإن قيل : وضع الشرائع ; إما أن يكون عبثا ، أو لحكمة ; فالأول باطل باتفاق ، وقد قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] . [ ص: 294 ] وقال : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] . وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] . وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ; لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام ، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد ، وذلك مقتضى أغراضهم ، لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف ; فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ؟ وأيضا ; فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد ، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون ، أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة ، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا ; كان ما ينافيه باطلا . فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ; فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع ، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ; ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس ، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك ، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه ، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع ، وهذا هو المراد ، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض ، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في [ ص: 295 ] العاجل والآجل ، فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع ، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم ; لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ; لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة ، وذلك ما أردنا هاهنا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (66) صـ296 إلى صـ 304 فصل فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد : منها : أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو باطل بإطلاق ; لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه ، وداع يدعو إليه ، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل ، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة ، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق ; لأنه خلاف الحق بإطلاق ، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة ، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الموطأ : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن ، وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون في الصلاة ، ويقصرون في الخطبة ، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم ، [ ص: 296 ] وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم . فأما العبادات ; فكونها باطلة ظاهر ، وأما العادات ; فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي ، فوجودها في ذلك وعدمها سواء ، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به ، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب . وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو صحيح وحق لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع ; [ ص: 297 ] فكان كله صوابا ، وهو ظاهر . وأما إن امتزج فيه الأمران ; فكان معمولا بهما ; فالحكم للغالب والسابق ، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع ; فلا إشكال في إلحاقه بالقسم الثاني ، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة ; لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد ، فإذا جعل الحظ تابعا ; فلا ضرر على العامل . إلا أن هنا شرطا معتبرا ، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض ، وإلا ; فليس السابق فيه أمر الشارع ، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه . وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع ; فهو لاحق بالقسم الأول . وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك ; فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع ; فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع ، وهواه تبع ، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه ; فالغالب والسابق له الهوى والشهوة ، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده ; فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه ، أو لإذن الشارع ، فإن حاضت فانكف ، دل على أن هواه تبع ، وإلا دل على أنه السابق . [ ص: 298 ] فصل ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود ; لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة ; فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا . أما أولا ; فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي ; لأنه مضاد لها . وأما ثانيا ; فإنه إذا اتبع واعتيد ، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به ، حتى يسري معها في أعمالها ، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج ; فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له ، وإذ صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه ; فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ، ودليل التجربة حاكم هنا . وأما ثالثا ; فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه ، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم ، وانفتاح مغاليق العلوم ، وربما أكرم ببعض الكرامات ، أو وضع له القبول في الأرض ; فانحاش الناس إليه ، وحلقوا عليه ، وانتفعوا به ، وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم ، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة ; من الصلاة ، والصوم ، وطلب العلم ، والخلوة للعبادة ، وسائر الملازمين لطرق الخير ، فإذا دخل عليه ذلك ، كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم ، بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما ، قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " ، أو كما قال ، وإذا كان كذلك ; فلعل النفس تنزع [ ص: 299 ] إلى مقدمات تلك النتائج ، فتكون سابقة للأعمال ، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله ، هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة ; فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين ; فلا حاجة إلى تقريره هاهنا . فصل ومنها : أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه ; كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس ، وبيان هذا ظاهر ، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا ، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها ، دون توخي مقاصد الشرع . [ ص: 300 ] المسألة الثانية المقاصد الشرعية ضربان : مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة . فأما المقاصد الأصلية ; فهي التي لا حظ فيها للمكلف ، وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وإنما قلنا : إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية ; لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة ، لا تختص بحال دون حال ، ولا بصورة دون صورة ، ولا بوقت دون وقت ، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية ، وإلى ضرورية كفائية . فأما كونها عينية ; فعلى كل مكلف في نفسه ، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا ، وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه ، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ، ولحيل بينه [ ص: 301 ] وبين اختياره ، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ ، محكوما عليه في نفسه ، وإن صار له فيها حظ ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي . وأما كونها كفائية ; فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ; لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، إلا أن هذا القسم مكمل للأول ; فهو لاحق به في كونه ضروريا ; إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق ; فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ، لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط ، وإلا صار عينيا ، بل بإقامة الوجود ، وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته ، وما هيئ له من ذلك ، فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله ، فضلا عن أن يقوم بقبيلة ، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض ; فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض . ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك ; فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم ، ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه ، ولا لحاكم على حكمه ، [ ص: 302 ] ولا لمفت على فتواه ، ولا لمحسن على إحسانه ، ولا لمقرض على قرضه ، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة ، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية ; لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات . وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام ، ويصلح النظام ، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام ، وهدم قواعد الإسلام ، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها ، ولا قصد المعاوضة فيها ، ولا نيل مطلوب دنيوي بها ، وأن تركها سبب للعقاب والأدب ، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة ; لأن في تركها أي مفسدة في العالم . وأما المقاصد التابعة ; فهي التي روعي فيها حظ المكلف ، فمن جهتها [ ص: 303 ] يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات ، والاستمتاع بالمباحات ، وسد الخلات ، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه ، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها ، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار ، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هنا ، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه ، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده ، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور ، فطلب التعاون بغيره ، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه . فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها ، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة ، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا ، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ ، فإنه المالك وله الحجة البالغة ، [ ص: 304 ] ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا ، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به ، فبهذا الحظ قيل : إن هذه المقاصد توابع ، وإن تلك هي الأصول ; فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية ، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (67) صـ305 إلى صـ 312 المسألة الثالثة قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان : أحدهما : ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود ، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات ، واتخاذ السكن ، والمسكن ، واللباس ، وما يلحق بها من المتممات ; كالبيوع ، والإجارات ، والأنكحة ، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية . والثاني : ما ليس فيه حظ عاجل مقصود ، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية ; من الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وما أشبه ذلك ، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة ; من الخلافة ، والوزارة ، والنقابة ، والعرافة ، والقضاء ، وإمامة الصلوات ، والجهاد ، والتعليم ، وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام . فأما الأول ; فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل ، وباعث من نفسه يستدعيه [ ص: 306 ] إلى طلب ما يحتاج إليه ، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك ; لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه ، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب ، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة ، كقوله : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] . فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] . ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] . قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] . كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 172 ] . وما أشبه ذلك ، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك ; لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب ، فهذا من الشارع ; كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية ، كما [ ص: 307 ] لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب ، وما أشبه ذلك . فالحاصل أن هذا الضرب قسمان : قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة ; كقيامه بمصالح نفسه مباشرة . وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير ; كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والاكتساب بما للغير فيه مصلحة ; كالإجارات والكراء ، والتجارة ، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات ، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه ، فيقوم بذلك حظ الغير ، خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا ، حتى تحصل المصلحة للجميع . ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر ، وهذه حكمة بالغة ، ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه ، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم ، بل هو على الضد من ذلك ; [ ص: 308 ] أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا ، والإيعاد بالنار في الآخرة ; كالنهي عن قتل النفس ، والزنا ، والخمر ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل ، والسرقة ، وأشباه ذلك ; فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ، ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء . وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه ; فإن عز السلطان ، وشرف الولايات ، ونخوة الرياسة ، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه ، فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب ، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها ، وأكد النظر في مخالفة الداعي ; فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها ; كقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] إلى آخرها . وفي الحديث : لا تطلب الإمارة ; فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال . وجاء النهي عن غلول الأمراء ، وعن عدم النصح في الإمارة ; لما كان [ ص: 309 ] هذا كله على خلاف الداعي من النفس ، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل ، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات . وأما قسم الأعيان ; فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود ، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب ، ونفيه بالتحريم ، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية ، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [ الباعث عليه ، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب ] ; فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها ، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات ، بل هي خالصة لله رب العالمين ، ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] . وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ، ونخوة الولاية ، وشرف الأمر والنهي ، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع ، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر ، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا ، من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به ، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع ، بل هو مطلوب متأكد ، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة ، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك ، وقد قال تعالى : [ ص: 310 ] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] الآية . وقال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] . وفي الحديث : من طلب العلم ، تكفل الله برزقه . إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق . فصل فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع ، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول [ ص: 311 ] يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ . وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله ، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة ، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية ، وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم ، ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم ، وما يخصون به من انشراح الصدور ، وتنوير القلوب ، وإجابة الدعوات ، والإتحاف بأنواع الكرامات ، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة : من آذى لي وليا ، فقد بارزني بالمحاربة . وأيضا ; فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه ; وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ، ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم ، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص ، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه ، وما له في الآخرة من النعيم أعظم . وأما الثاني ; فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر ; فإن أكل المستلذات ، ولباس اللينات ، وركوب [ ص: 312 ] الفارهات ، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة ، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه . وأيضا ; فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير ، وإن كان في طريق الحظ ; فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه ، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه ، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته ، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل ، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب ، والله أعلم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (68) صـ313 إلى صـ 327 فصل وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية ; وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام : قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال ، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة . وقسم اعتبر فيه ذلك ، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه ; كالصناعات والحرف العادية كلها ، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه في خاصة نفسه ، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض . وقسم يتوسط بينهما ; فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذي لا حظ [ ص: 313 ] فيه ، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمخض في العموم وليست خاصة ، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام ، والأحباس ، والصدقات ، والأذان ، وما أشبه ذلك ، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ، ولا تناقض في هذا ، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ ; فيؤمر انتدابا أن يقوم به لحظ ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة ، حين لا يكون ثم قائم بالانتداب ، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] . وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية ، وتعليم العلوم على تنوعها ; ففي ذلك ما يوضح هذا القسم . [ ص: 314 ] المسألة الرابعة ما فيه حظ العبد محضا - من المأذون فيه - يتأتى تخليصه من الحظ ; فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا ; فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به ، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد ; صار مجردا من الحظ ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ ، وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف . وإذا كان كذلك ; فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد ؟ هذا مما ينظر فيه ، ويحتمل وجهين من النظر : [ ص: 315 ] أحدهما : أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد ; لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد ، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم ، أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق ، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به ; كذلك هاهنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده ; كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف ، وما سوى ذلك يبذله من غير عوض ; إما بهدية ، أو صدقة ، أو إرفاق ، أو إعراء ، أو ما أشبه ذلك ، أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير ; لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير ; لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة . ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء ، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ; فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات ، لكن لا ليدخروا لأنفسهم ، ولا ليحتجنوا [ ص: 316 ] أموالهم ، بل لينفقوها في سبيل الخيرات ، ومكارم الأخلاق ، وما ندب الشرع إليه ، وما حسنته العوائد الشرعية ; فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال ، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم ; فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة . ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ ; أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين ، فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية ، وانتفاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم ، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به ; فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة ، والمسامحة في المكيال والميزان ، والنصيحة على الإطلاق ، وترك الغش كله ، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع ، وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا ; فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ . هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا ; فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله ؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال ، لا [ ص: 317 ] بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات ، وهو مجمع عليه ; فكذلك فيما صار بالقصد كذلك . وأيضا ; فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ ، وإذا كان كذلك ; فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به ، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ ، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به ، سواء علينا أقلنا : إنه مطلوب به طلبا شرعيا ، أم لا ، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة ، وهذا ظاهر ; فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما ، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : الدين النصيحة ، وتوعد [ ص: 318 ] على تركه في مواضع ، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل ; لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما . وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله ; فكونه معمولا به على عوض لا [ ص: 319 ] يتصور أن يكون إيثارا ; لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس ، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل ، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية ، فهذا وجه نظري في المسألة ، يمكن القول بمقتضاه . والوجه الثاني أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ ، لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله ، وجعله المقدم على غيره ، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا ، وكان له أن يدخره لنفسه ، أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة ; فهي هدية الله إليه ، فكيف لا يقبلها ؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع ، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ، ومن حيث جعل له ، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه . وأيضا ; فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ ; فهي وسيلة وطريق إلى حظه ، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات ; فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه . [ ص: 320 ] وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه ، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم ، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة ، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم . وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم ; لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ، ويعملون في أخراهم كذلك ، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ ، وهو المطلوب ، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها . وأيضا ; فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه ، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ، ولذلك قال تعالى : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] ، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة . [ ص: 321 ] وقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه [ الفتح : 10 ] . وفي أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر الظلم وتحريمه : يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها . ولا يختص مثل هذ بالآخرة دون الدنيا ، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه ، لقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] . وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] . والأدلة على هذا تفوت الحصر ; فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه ، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة . وقد يمكن الجمع بين الطريقين ، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب : منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه ; فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ، ولا يدخر لنفسه من [ ص: 322 ] ذلك شيئا ; بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ ; إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى ، وإما قوة يقين بالله ; لأنه عالم به وبيده ملكوت السماوات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه ، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه ، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى ، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال ، وفي مثل هؤلاء جاء : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] . وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي : أراه ثمانين ومائة ألف ، فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة ، فجعلت تقسمه بين الناس ، فأمست وما عندها من ذلك درهم ، فلما أمست قالت : " يا جارية هلمي أفطري " ، فجاءتها بخبز وزيت . فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ فقالت : لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت . وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ; فقالت لمولاة لها : اعطيه إياه . فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه . فقالت : اعطيه إياه . قالت : ففعلت . [ قالت ] : فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان [ ص: 323 ] - ما [ كان ] يهدي لنا شاة - وكفنها ; فدعتني عائشة ، فقالت : كلي من هذا . هذا خير من قرصك . وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها ، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ، ثم أفطرت على خبز الشعير ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة ، فلا يأخذ إلا من الملك ، لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم ، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه ، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها ، [ ص: 324 ] وهؤلاء هم أرباب الأحوال . ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم ; إن استغنى استعف ، وإن احتاج أكل بالمعروف ، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه ; فقد يكون في الحال غنيا عنه ; فينفقه حيث يجب الإنفاق ، ويمسكه حيث يجب الإمساك ، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار ، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب ; فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره ، وهو لم يفعل ، بل جعل نفسه كآحاد الخلق ، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم . وفي الصحيح عن أبي موسى ; قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة ، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ; فهم مني وأنا منهم . [ ص: 325 ] وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور ، فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، [ ص: 326 ] بل يحمل على الاستقامة في حالتين . فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة ، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ ; إذ للقصد إليه أثر ظاهر ، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ، ولم يفعل هنا ذلك ، بل آثر غيره على نفسه ، أو سوى نفسه مع غيره ، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءاء من الحظوظ ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة ، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم ; لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم ; فأين الحظ هنا ؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم ; فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول ، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء . ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء ، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن ، وامتنعوا مما منعوا منه ، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة ; [ ص: 327 ] فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها ، فإن قيل في مثل هذا : إنه تجرد عن الحظ ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي ، وهذا هو الحظ المذموم ، إذ لم يقف دون ما حد له ، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ، ولا كلام في هذا ، وإنما الكلام في الأول ، وهو لم يتصرف إلا لنفسه ، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة على المسلمين ، بل هو وال على مصلحة نفسه ، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام ، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ; فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به ، لكن على نسبة القسمة ونحوها . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (70) صـ338 إلى صـ 343 فصل ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات ، كانت من قبيل العبادات أو العادات ; لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا ، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم ، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ، ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب . أما باليد ; فظاهر في وجوه الإعانات . [ ص: 338 ] وأما باللسان ; فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين ، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم . وبالقلب لا يضمر لهم شرا ، بل يعتقد لهم الخير ، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم ، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد . بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها ، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : في كل ذي كبد رطبة أجر ، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها ، وحديث : إن الله كتب الإحسان على كل مسلم ، فإذا قتلتم ; [ ص: 339 ] فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك . فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه ، واقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام ; فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها ؟ بخلاف من كان عاملا على حظه ; فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه ، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق ، بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه ، والمباح لا يتعبد إلى الله به ، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع ; فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة ، وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة . فصل ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب ; إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب ، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق ، وإذا كانت كذلك ; صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة ، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل ، وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله ; فقد صار عاملا بالوجوب . [ ص: 340 ] فأما البناء على المقاصد التابعة ; فهو بناء على الحظ الجزئي ، والجزئي لا يستلزم الوجوب ، فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب ; فقد يكون العمل مباحا ; إما بالجزء ، وإما بالكل والجزء معا ، وإما مباحا بالجزء مكروها ، أو ممنوعا بالكل ، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام . فصل ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة ; فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع ; إما بعد فهم ما قصد ، وإما لمجرد امتثال الأمر ، وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع ، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها ، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ ; كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا ، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع ; فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة . وأما القصد التابع ; فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه ، وخص عمومه ; فلا ينهض نهوض الأول . شاهده قاعدة " الأعمال بالنيات " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : الخيل لرجل أجر ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر ; فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من [ ص: 341 ] المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حسنات ; فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول ; لأنه قصد بارتباطها سبيل الله ، وهذا عام غير خاص ، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ; فهي له ستر ، فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه ; كان حكمها مقصورا على ما قصد ، وهو الستر ، وهو صاحب القصد التابع ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ; فهي على ذلك وزر ; فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ، ولا كلام فيه هنا . [ ص: 342 ] ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بالصحابة أو التابعين ، لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء ، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به ; كما في قول بعض الصحابة في إحرامه : " بما أحرم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال . فصل ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم ، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم . أما الأول ; فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [ العام ] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق ; لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر ، وإذا فعل [ ذلك ] جوزي على كل نفس أحياها ، وعلى كل مصلحة عامة قصدها ، ولا شك في عظم هذا العمل ، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا ، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه ، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده ; لأن الأعمال بالنيات ، فمتى كان قصده أعم ; كان أجره أعظم ، ومتى لم يعم قصده ; لم يكن [ ص: 343 ] أجره إلا على وزان ذلك ، وهو ظاهر . وأما الثاني ; فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام ، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام ، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر ; فالعامل على ضده يعظم به وزره ، ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة ; لأنه أول من سن القتل ، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ، و من سن سنة سيئة ; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها . فصل ومن هنا تظهر قاعدة أخرى ، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية ، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها ، ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا ; فإنك تجده مطردا إن شاء الله . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الثانى الحلقة (71) صـ344 إلى صـ 360 المسالة السادسة العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة ; فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية ، أو لا . فأما الأول ; فعمل بالامتثال بلا إشكال ، وإن كان سعيا في حظ النفس . وأما الثاني ; فعمل بالحظ والهوى مجردا . والمصاحبة إما بالفعل ، ومثاله أن يقول مثلا : هذا المأكول ، أو هذا الملبوس ، أو هذا الملموس ، أباح لي الشرع الاستمتاع به ; فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه ، وإما بالقوة ، ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه ، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله ، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني ، فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول ، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا ; إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ، ويجري غير المباح مجراه في الصورتين . فإذا تقرر هذا ; فبيان كونه عاملا بالحظ والامتثال أمران : [ ص: 345 ] أحدهما : أنه لو لم يكن كذلك ; لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر ، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك ، بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك ، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها ، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى ; فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال . فإن قيل : كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها ؟ قيل : معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع ، لا يقصد بها عمل جاهلي ، ولا اختراع شيطاني ، ولا تشبه بغير أهل الملة ; كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر ، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم ، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية ، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك . كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن [ ص: 346 ] إسماعيل المخزومي أجرى عينا ، فقال له المهندسون عند ظهور الماء : لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها ، فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم ، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام ، فأكل وأكلوا ، وقسم سائرها بين العمال فيها ، فقال ابن شهاب : بئس والله ما صنع ، ما حل له نحرها ولا الأكل منها ، أما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن ؟ ; لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح [ ص: 347 ] على النصب وسائر ما أهل لغير الله به . وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب ، وهي أن يتبارى الرجلان [ ص: 348 ] فيعقر كل واحد منهما ، يجاود به صاحبه ; فأكثرهما عقرا أجودهما ، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به . قال الخطابي : وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان ، وأوان حوادث يتجدد لهم ، وفي نحو ذلك من الأمور . وخرج أبو داود : " نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل " ، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه ; فهذا وما كان نحوه إنما [ ص: 349 ] شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل ، فإذا زيد فيه هذا القصد ; كان تشريكا في المشروع ، ولحظا لغير أمر الله تعالى ، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز ، وقوله فيها : إنها مما [ ص: 350 ] أهل لغير الله به وهو باب واسع . والثاني : أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية ; لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق ، وذلك باطل قطعا ; فيبطل ما يلزم عنه . أما بيان الملازمة ; فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ ; إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل ، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة فيه ، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا . وأما بطلان التالي ; فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي ، واعملوا يدخلكم الجنة ، واتركوا تدخلوا الجنة ، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ، ومن يعمل كذا يجز بكذا ، وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس ، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل ، وذلك باطل باتفاق ، فكذلك ما يلزم عنه . وأيضا ; فإن النبي كان يسأل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار ; فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك ، وقد أخبر الله تعالى عمن قال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ الإنسان : 9 ] . [ ص: 351 ] بقولهم : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ الإنسان : 10 ] . وفي الحديث : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث ، وهو نص في العمل على الحظ . وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك واشترط لنفسك . فلما اشترط ; قالوا : فما لنا ؟ قال : الجنة الحديث . [ ص: 352 ] وبالجملة ; فهذا أكثر من أن يحصى ، وجميعه تحريض على العمل بالحظ ، وإن لم يقل : اعمل لكذا ; فقد قال : اعمل يكن لك كذا ، فإذا لم [ ص: 353 ] يكن مثله قادحا في العبادات ; فأولى أن لا يكون قادحا في العادات . فإن قيل : بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول . أما المعقول ; فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة ، لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه ، وقد فرضناه أنه يعمله ليصل به إلى غيره ، وهو حظه ; فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة ، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها ، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل ، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها ، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار ، بل كانت تكون كالعبث ، وإذا ثبت هذا ، فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس ، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد ، فأشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك ، والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها ، فإذا أخذت من جهة [ ص: 354 ] الحظوظ سقط كونها متعبدا بها ; فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ، ينبغي أن يسقط التعبد بها ، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به ; فحظ النفس متعلق به ، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة ; فصار مهمل الاعتبار في العبادة ، فبطل التعبد فيه ، وذلك معنى كون العمل غير صحيح . وأيضا ; فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه ، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ ؟ ! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا ؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه ; فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة ، وعلى هذا نبه القائل بقوله : هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق ويعني بالوجوب بالشرع ، فإذا جعل وسيلة ; أخرج عن مقتضى المشروع ، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع ، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل ، والعمل المبني ، عليه مثله ; فالعمل المبني على الحظ كذلك . ثناء العباد على المنعم وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ، ولا حجة له عليه ، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه ، بل لو عذب أهل السماوات والأرض لكان له ذلك بحق الملك ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] ; فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد ; فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه . [ ص: 355 ] وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر ; فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله ، وعلى أن ما لم يخلص لله منها ; فلا يقبله الله ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] . وقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] . وفي الحديث : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . وفيه : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ; أي : ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء ، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ; ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله ; فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء ، وفي الآثار من ذلك أشياء ، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] . وأيضا ; فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال ; فقال الغزالي : كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ، ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل ، تكدر به صفوه ، وقل به [ ص: 356 ] إخلاصه . قال : " والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة [ من هذه الأجناس ] ، ولذلك [ قيل ] : من سلم له في عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا ، وذلك لعز الإخلاص ، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب ، بل الخالص هو الذي لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى " . ثم قال : " وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها ، حتى يتجرد فيه قصد التقرب ; فلا يكون فيه باعث سواه " . قال : " وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر ، مستغرق الهم بالآخرة ، بحيث لم يبق ل [ حب ] الدنيا في قلبه قرار ، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا ، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة ; فلا يشتهي الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على العبادة ، ويتمنى [ أن ] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل ; فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية ; فلا يكون له هم إلا الله تعالى ، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته ; كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته ، فلو نام مثلا ليريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده ; كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ، ومن ليس كذلك ; فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور " . ثم تكلم على باقي المسألة ، وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله ، فإذا كان كذلك ; فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على [ ص: 357 ] خلاف ما وقع الكلام عليه . فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين : أحدهما : العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة ، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات . والثاني : العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق ، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق ، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ، وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى ، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا ، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم . فأما الأول ; فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا . فإن كان أخرويا ; فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم ، وإذا ثبت شرعا ; فطلبه من حيث أثبته صحيح ، إذ لم يتعد ما حده الشارع ، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ، ولا قصد مخالفته ; إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال ; فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي ، وذلك غير قادح في [ ص: 358 ] إخلاصه ; لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره ; لأنه عز وجل يقول : إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم [ الصافات : 40 - 43 ] الآية . فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص - ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره - ; فهذا قد عمل على وفق ذلك ، وطلب الحظ ليس بشرك ، إذ لا يعبد الحظ نفسه ، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب ، وهو الله تعالى ، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد ; فهذا هو الذي أشرك ، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل ، والله لا يقبل عملا فيه شرك ، ولا يرضى بالشرك ، وليست مسألتنا من هذا . فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها ، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى ; فذلك باعث له على الإخلاص ، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك . وأيضا ; فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة ، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله ; لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه ، والتلذذ بمناجاته ، وذلك حظ عظيم ، بل هو أعظم ما في الدارين ، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك ، فإن الله تعالى غني عن العالمين ، قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ العنكبوت : 6 ] . [ ص: 359 ] وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد ، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص ، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص ، وذلك قليل ، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق ، وهذا شديد . وعلى أن بعض الأئمة قال : " إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ، ومن ادعاه فهو كافر ، قال أبو حامد : وما قاله حق ، ولكن القوم إنما أرادوا به - يعني الصوفية - البراءة عما يسميه الناس حظوظا ، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط ، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة ، والنظر إلى وجه الله العظيم ; فهذا حظ هؤلاء ، وهذا لا يعده الناس حظا ، بل يتعجبون منه " . قال : " وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة ، وملازمة الشهود للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة ، لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها ; فحركتهم لحظ ، وطاعتهم لحظ ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره " . هذا ما قال ، وهو إثبات لأعظم الحظوظ ، ولكن هؤلاء على ضربين : [ ص: 360 ] أحدهما : من يسبق له امتثال أمر الله الحظ ، فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ ، وأصحاب هذا الضرب على درجات ، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء . والثاني : من يسبق له الحظ الامتثال ، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء ، وسبق له الخوف أو الرجاء ، فلبى داعي الله ، فهو دون الأول ، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا ; إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه ، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه ، من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg |
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
|
الساعة الآن : 09:12 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour