ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   اليقين ضد الشك (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=308288)

ابوالوليد المسلم 02-12-2024 02:38 PM

رد: اليقين ضد الشك
 
اليقين ضد الشك (11)

عبدالفتاح آدم المقدشي

بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه، ومَن تَبِعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاعلم - أرشدك الله - أنَّ مِن ثِمار التوحيد والاستقامة، واليقين والابتلاء: التمكينَ في الأرض، ولا يمكن أنْ يفوزَ أحدٌ بالتمكين في الأرض، إلا إذا اتَّصف بهذه الصفات، وقد قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

وسئل الشافعي رحمه الله: هل يُمكَّن قبل أن يُبتلى؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى، ولكن للأسف الشديد بعضُ الناس يحبُّون أنْ يأتي التمكين وهو محمول على طبقٍ مِن ذهبٍ مع هروبهم من السُّنَن الكونيَّة التي كتب الله على عباده، والتي لا يمكن أنْ تتحولَ أو تتبدَّلَ؛ كتمنِّيهم ألا يكون صراعٌ بين الحقِّ والباطل، وكاستعجال البعض النصرَ على الأعداء، مع قِلَّة التحمُّل للخسائر بالأنفس والأموال وهَلُمَّ جَرًّا، متناسين أو متجاهلين قول الله تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ ﴾ [البقرة: 217].

إذ سرُّ التمكين لا يمكن أنْ يأتي إلا بعد تَفَهُّمِ هذه الآية والتي بعدها، مع العمل بما فيهما؛ إذ الأُولى تُخبر أنَّ الفتنة أشدُّ من القتل؛ كما قال تعالى في موضعٍ آخرَ في نفس السورة: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، ولا فتنة أشدُّ وأكبرُ من أن يُفتن المسلمون عن دِينِهم، ولذلك عَلَّمنا الله بأن ندعو: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 85، 86]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250].

ولما طلب جد بن قيس - صاحبُ الجمل الأحمر، وهو المنافق الوحيد الذي تخلَّف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واختفى وراء جملِه وأخزاه الله - الرخصةَ عن الجهاد؛ لئلا يُفتن بنساء بني الأصفر، أخبَر الله أنَّ ما تركه مِن الجهاد والخير أعظم فتنة مما تخوَّفه، وهكذا أمرَنا الله أنْ نقاتلَ أعداءَ الله والدِّينِ الإسلامي؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلُّه لله، أما إذا كان نصف الدِّين قائمًا ومطبَّقًا، ونصفه الآخر تركناه لأجل الكفر؛ إرضاءً لهم، كما هو الحال اليوم، فلا تمكين ولا قرار ولا استقرار، وقد توعَّد الله مَن آمن ببعض الدِّين، وكفر بالبعض الآخر بالخِزي في الحياة الدنيا، وعذاب أكبر في يوم القيامة، وهكذا أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية التي بعدها أنَّ الذين يفعلون ذلك هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 85، 86]، وفي الحديث: ((يبيع دينَه بعَرَضٍ مِن الدنيا قليلٍ))، والسبب هو أنهم قالوا: آمنَّا، بأفواههم، ولم تؤمن قلوبُهم؛ أي: إنهم منافقون، فإذا كانوا مع المسلمين قالوا: آمنَّا، وإذا خَلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنَّما نحن مستهزئون، كما في آية سورة البقرة.

فمثل هؤلاء هم الذين أراد الله لهم الفتنة، ومَن أراد الله لهم فتنة، فلن تملِك لهم مِن الله شيئًا؛ لأن الله لم يُردْ أن يطهِّرَ قلوبَهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ [المائدة: 41].

ولمَّا ابتلانا الله باستمرارية تسلُّط الكفار بالمسلمين إلى يوم القيامة؛ حتى يردُّوهم عن دينهم، ولن يستطيعوا ذلك إلا نسبّيًا، أخبرنا اللهُ في الآية التي بعدها: أن نتمسَّك بثلاثة أمور؛ لنفوز برحمة الله، ونفلح في الدنيا والآخرة:
الأولى: الإيمان المصاحِب للإخلاص واليقين، والمحبة والعلم، والقبول والانقياد، والصدق والاستقامة على الحقِّ، مع نَبْذِ ما سِواه مِن الأباطيل.

الثاني: الهجرة مِن دار الكفر إلى دار الإسلام، ومِن دار الفِسْق والعهر، إلى دار العِفَّة والطُّهر، وإلى أرض العِزَّة والكرامة والحريَّة.

الثالث: الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام؛ لذا فلا يمكن أنْ يقومَ الإسلام إلا بالجهاد؛ فهو لازمٌ مِن لوازم الإسلام والإيمان، فأينما وُجِد الجهاد فالإسلام والإيمان في قوة، وأينما فُقِد الجهاد فالإسلام والإيمان في ضَعف.

فالمسلمون خيرُ أُمَّة أُخْرِجتْ للناس؛ فهم خيرُ الناس للناس على الإطلاق؛ لِما أنعم الله عليهم مِن صفات العدل والإحسان إلى الخَلْق، فهم يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، وخير ما يُؤْمَر به بالمعروف، ويُنْهَى به عن المنكر هو الجهاد في سبيل الله، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "الاستقامة".

قال أبو هريرة: (تأتونهم تقودونهم بالسلاسل، ثم تُدخلونهم الجَنَّة).

وما أكثر مَن أُتِي به بالسلاسل، وهو لا يَعرف عن سماحة الإسلام وحُسنه شيئًا، فعَلِمَ بذلك بحُكْم وجوده في أهل الإسلام، فأسلم فحَسُنَ إسلامه، كما حصل مثل ذلك لثمامة بن أثال، وغيرهم مِن المأسورين في عهد النبوة.

بل لقد أمَرَنا الله أنْ نُطعمَ الأسير الطعام الذي نحبُّه؛ إكرامًا لهم، وجَلْبًا وتأليفًا لهم إلى الإسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].

فسماحة الإسلام وعدالته وإحسانه هو ما شَهِد به الأعداءُ فلا نُطيل بتقرير مثل هذا الأمر.

وأخيرًا: أُوصي إخواني المسلمين بما يلي:
1- ألَّا يكون المسلمون حالهم كحال الكفَّار الذين جعل الله أعمالهَم: ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].

2- ألَّا يَتَّخذوا مِن عند أنفسهم منهجًا معوجًّا غير منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والسلف الصالح، فإذا فعَلوا ذلك أخطؤوا طريقَ التمكين الصحيح، وستكثُر فيهم الاختلافات والانشقاقات، والفتن والاقتتال، والمِحن كما هو مشاهَد ومعلوم؛ ففي الحديث: ((افترقَت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقَت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترِق هذه الأمَّة ثلاثًا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة))، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: ((هي التي كانت ما أنا عليه وأصحابي))، وفي رواية: ((الجماعة))، وفسَّر ابن مسعود رضي الله عنه ((الجماعة)): ما وافقَ الحقَّ ولو كنتَ وحدَك، ولا عِبْرة في كثرة العدد والأغلبية.
فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ ♦♦♦ وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

3- أن يتمسَّكَ المسلمون بما أوصانا الله به؛ مِن الإيمان، والهجرة، والجهاد في كثير مِن السوَر؛ كسورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال و الحج والحشر.

4- أن نكونَ أنصارًا ومهاجرين إلى الله، ثم اعلمْ أنه لا يجوز أبدًا التعصُّب بهذين الاسمين الشريفين المذكورين في القرآن، فكيف بما هو دُونهما؟! بل عندما قال أحد الشابَّين اللَّذَيْن اقتَتَلا: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، اعتبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى جاهليَّة، وقال: ((أَبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!)).

والحمد لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ.




ابوالوليد المسلم 03-12-2024 10:26 PM

رد: اليقين ضد الشك
 
اليقين ضد الشك (12)

عبدالفتاح آدم المقدشي

بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المرْسلين وآلِه وصحْبه ومَن تبِعه بإحسان إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد:
فاعلم - أيُّها الأخ الكريم، أرْشدني الله وإيَّاك - أنَّ الأنبياء ضَربوا أرْوع الأمثِلة في الابتِلاء، فمنهُم مَن ابتُلي بمرضٍ مُزمنٍ لازَمَه سبع سنوات فصبَر، كأيُّوب عليه السَّلام، ومنهم مَن ابتُلي بفقْد أوْلاده حتَّى عَمِي مِن شدَّة الحزْن، كيعقوب، ومنهم مَن ابتُلي بموْتِ أوْلاده وبناتِه في حياتِه، كنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام؛ إلَّا فاطمة رضِي الله عنْها الَّتي ماتتْ بعدَه بستَّة أشهُر، ومنهم مَن ابتُلي بالأمْر بذبْح ابنِه بعدما رزقه الله به وهو كبير في السِّنِّ، خصوصًا بعدما بلغ معه السَّعي والخِدمة؛ كما قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39].

ومنهُم مَن ابتُلي بالفقْر كنبيِّنا، ولقد خُيِّر بين أن يَكون ملِكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا، ومنهم مَن ابتُلي بالقتْل والذَّبح كيحيى وزكريَّا، ومنهم منم ابتُلي بابتِلاع الحوت له وبالمرض، كيونس عليه السلام.
ومنهُم مَن ابتُلي بعقوق ابنِه، كنوح عليه السَّلام، ومنهم مَن ابتُلي بعصْيان وخيانة أهلِه، كنوحٍ ولوطٍ عليهِما السَّلام، ومنهُم مَن ابتُلي بموت أخيه النَّبي، كموسى لمَّا مات هارون في حياتِه.

وكذلك تعرَّضَت الأنبياءُ كلُّهم مِن قِبَل الكفَّار لتهديداتٍ بالغة في النِّكاية بهم، كالقتْل والرَّجم والنَّفي والطرْد... إلخ.

ومنهُم مَن ابتُلي بالمُلْك والنِّعَم فشَكَر اللهَ، كداود وسليمان عليهما السَّلام.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بطول العناد والمكابَرة في دعوتِه، في ألفِ سنة إلَّا خَمسين عامًا، كنوح عليه السَّلام.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بامرأةٍ جميلة وهو غَريب مأْسور عندها، فصبَر لله وتَغلَّب على نزغات الشَّيطان والنَّفس الأمَّارة بالسُّوء، وهو يوسف عليه السَّلام، كما ابتلاه اللهُ بالسجْن وطول المكْث به، وابتلاه اللهُ بالعبوديَّة وخدمة النَّاس.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالجهاد كنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وموسى وداود عليهما الصلاة والسَّلام، بل قد أصابت نبيَّنا عليه الصَّلاة والسَّلام الجراحة المعروفة في سبيل الله في معركة أُحُد، واعلم أنَّه لَم يَحْدُث أنْ آتى اللهُ الملْك والحكمة والعِلم والنبوَّة لداود عليْه السَّلام إلَّا بعد ما قتل جالوت قائدَ الكفَّار في المعركة.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالخروج مِن الجَنَّة والهبوط إلى الدُّنيا دار الشَّقاء والابتلاء، كآدَم عليه السَّلام.
ومنهُم مَن ابتلاه اللهُ بالسِّحْر والسُّمِّ، كنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالطُّغاة ومُناظرتِهم، فأنجاه اللهُ مِن شرِّهم، كموسى وإبراهيم.
ومنهُم مَن ابتلاه اللهُ بإلْقائه بالحريق العظيم، فلَم يَسأل أحدًا إلَّا الله، وقال: (حسبُنا اللهُ ونعْم الوكيل)، فجعل كيد الكافرين هو الأسْفل والخاسر، وهكذا يحفظ اللهُ عبادَه الموحِّدين، ويُدافع عنهم.
ومنهم مَن ابتَلاه اللهُ بفقْد الذُّرِّيَّة، فسأل الله أن لا يَدَعَه فردًا، كزكريَّا عليْه السَّلام.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ برمْي الححارة عليْه حتَّى دَمِيَتْ قدَماه لمَّا سلَّطوا سفهاءهم وعبيدَهم عليه، فجعل يقولُ: ((اللَّهمَّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يَعلمون))، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بإلْقاء السَّلَا على رأسِه الشَّريف وهو ساجد لله عزَّ وجلَّ؛ فأخذ قومُه يتضاحكون عليه حتَّى مال بعضهم لبعض، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، والحديث في صحيح البخاري.
ومنهُم مَن ابتُلي بخنْقه بالثَّوب في عنُقه حتَّى أنقذَه اللهُ بأبِي بكْر، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بمواقف مُحْرجة جدًّا مِن قومه، كلوط عليه السَّلام؛ كمثل مجيئِهم إلى ضيوفه الملائكة ليفْعلوا بهم فاحشة اللِّواط.
ومنهم مَن تعرَّض للاستِهزاء والسُّخرية، بل لقد تعرَّضَت الأنبياء كلُّهم لهذه الظَّاهرة المزْرية، وسُبَّ الأنبياء ووُصفوا بأوْصافٍ بأغلظ الأوْصاف التي لا تليق بهم، بل وربَّما مدحوه بقصْد الاستِهزاء، كما قالوا لشعيب: ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87].
ومنهم... إلخ.

وإذا كان الله ابتَلَى أكرَمَ عبادِه بهذه الأمور الَّتي وصفتُها لك وغيرها، فما على العباد إلَّا أن يَقْتدوا بكلِّ حالةٍ مِن هذه الحالات المتنوِّعة، ويَصْبروا كما صبروا، ويرْجوا كما رجَوا؛ حتَّى ينجحوا بالابتِلاء في هذه الدَّار ويفوزوا في الدُّنيا والآخرة، وقد قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ﴾ [الممتحنة: 4]الآية، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

وانظُر واعتبِر يا أخي الكريم، على سبيل المثال، لمَّا ابتلى الله يعقوبَ عليْه السَّلام بفَقْد بَنِيه كيف صبر حتَّى استحقَّ صبرُه أن يُوصف بالصَّبر الجميل، وهو ما اشتمل بالخِصال الآتية:
أوَّلًا: الاستِعانة بالله، فقد قال: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، مع قوَّة الثِّقة واليقين أنَّ الله يَنصره ويُعينه فيما أراده.
ثانيًا: الرَّجاء وعدم القُنوط مِن رحمة الله؛ قال تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ [يوسف: 83]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
ثالثًا: عدم الشِّكاية لغير الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86].
رابعًا: ترْك الفزَع والتسخُّط على المصيبة، والاكتِفاء في كلِّ مرَّة بقوله: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18، 83].

وكذلك انظر واعتبِر، لمَّا ابتَلَى الله حبيبَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بِموت إبراهيم قال: ((إنَّ العين لتدْمع، وإنَّ القلب ليحْزنُ، وإنَّا لفراقِك يا إبراهيم لَمَحْزُونون)).

نعم، ما جاوز النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُعبِّر عن حُزنِه الجبلِّيِّ وحُنُوِّه لابنِه ورحمته له إلَّا بالتلفُّظ بهذه الكلمات، وهكذا كان حاله لمَّا أُتِي بابنٍ لِبِنْتِه يُحْتَضَر ونفسُه تقعْقَع، دمعت عيْناه رحمة لابنِ بِنتِه المحتضر، فقال له سعد بن معاذ: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((إنَّما يَرحَم اللهُ مِن عباده الرُّحماء))؛ رواه البخاري.

وتاللهِ، هذا هو الصَّبر الجميل الَّذي علَّمَنا اللهُ على لسان نبيِّه، وهو تطْبيقٌ عمليٌّ، فلا صياحَ، ولا ضرْبَ للخدود، ولا شقَّ للجيوب، ولا شكايةَ، ولا إظهار للتأسُّف أو الاعتراض على أمر الله كما ترى، وهلمَّ جرًّا.

وانظُر واعتبِر أخي الكريم لمَّا ابتَلَى اللهُ إبراهيمَ عليْه السَّلام بذبْح ابنِه، كيف فعل؟
أوَّلًا: بادرَ في تنفيذ الأمْر ولَم يقُل: واللهِ إنَّها مجرَّد رؤيا؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء كانت وحْيًا، بِخلاف سائر النَّاس.
ثانيًا: قدَّم مَحبَّة الله على مَحبَّته لابنه، وهو ما أراد اللهُ أن يُظهره لما ابتلاه؛ لذلك لمَّا شرَع في التَّنفيذ فَداه اللهُ بكبشٍ ما داما قد انقادا واستسْلما لأمر الله؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103].
ثالثًا: يُستفاد من القصَّة كثيرٌ من صفات الخير لإبراهيم عليْه السَّلام؛ منها: الصَّبر الجميل، تعْظيم أوامر الله وتقْديمها على كلِّ شيء، الشَّجاعة وقوَّة العزيمة في تنفيذ الأوامر الخطيرة كما في هذه القصَّة.

وهكذا كان للصَّحابة الكرام رضوان الله عليْهم اتِّخاذ القرارات الخطيرة، مثل ما في هذه القصَّة، ككون تقديمهم أوامرَ الله من كلِّ شيء إذا اعترضها أحدٌ، حتَّى ولو كان أقرَبَ أقربائِهم، وهذا سعدٌ يقول لأمِّه وقد كان يحبُّها جدًّا: (لو كانتْ لكِ مائةُ نفسٍ فخرجتْ واحدةً واحدةً ما أشركْتُ بالله)، وذلك لمَّا تَرَكَتِ الأكْلَ لِيكْفرَ بالله، وهذا أبو عبيدة بن الجرَّاح يَقتل أباه لمَّا اعترض أوامرَ الله وحارب اللهَ ورسولَه، وإنَّما قَتَلَ الشِّرك الذي كان في نفْس أبيه، كما فسَّره بذلك بعضُ السَّلف، وهذا أبو بكْر رضِي الله عنْه طلَب ابنَه عبد الرحمن في القتال لِيَقْتُلَه، ولكنَّه لَم يجدْه، وهلمَّ جرًّا.

والله وليُّ التَّوفيق.






ابوالوليد المسلم 07-12-2024 04:01 PM

رد: اليقين ضد الشك
 
اليقين ضد الشك (13)

عبدالفتاح آدم المقدشي

بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المرسَلين، وآله وصحْبِه ومَن تبِعه بإحْسان إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد:
فاعلَم أنَّ حلاوة الإيمان مِن أهمِّ النِّعَم الَّتي أنعَم اللهُ بها على عباده المسلمين؛ لذلك تجد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((ذاق طعمَ الإيمان: مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد نبيًّا))[1].

فالحديث يدلُّ على أنَّ مَن لَم يرْضَ بالله ربًّا، ودِينِ الإسلام دينًا، وبمحمَّد نبيًّا، لَم يذُق طعمَ الإيمان، كما هو ظاهر في سياق الحديث، ولكن اعلمْ أنَّ كلَّ هذا لا يكون إلَّا بعد العِلم، فمَن تذوَّق حلاوة شيء فلا بدَّ أن يتأثَّر به، وبالتَّالي لا بدَّ أنْ يَطلبه ويستَسيغه ويتلذَّذ به[2]، وقد قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19].

وقد تَرْجم البخاريُّ في كتابه الجامع لهذه الآية، فقال: باب العِلم قبل القول والعمل.

واعلم أيضًا أنَّ الرِّضا بأصول الدِّين هي النِّعْمة الحقيقيَّة التي يتنعَّم بها المسلم، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فإذا أخذْنا بِما رضِي اللهُ لنا، وهو الإسلام، واكتفيْنا بنعمته الَّتي أنعمها اللهُ عليْنا؛ بل وكمَّلها وأتمَّها عليْنا، فإنَّنا سنُرضي الله سبحانه كما ينبغي؛ بل وسيَحْدُث مثل ذلك الرّضا في الآخرة إن شاء الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8].

وعليْنا أن نعرف الخطوات الآتية؛ لِنرْتقي إلى الرِّضا المطْلوب منَّا كما يحبُّه الله ورسوله:
الخطوة الأولى: لا بدَّ مِن العِلم والعمَل بالأصول الثَّلاثة: وهي معرفة الله عزَّ وجلَّ بأنَّه هو الرَّبُّ الخالق الرَّازق، مدبِّر الأمور، مالك الدُّنيا والآخِرة، وهذا ما يُعرف بتوْحيد الربوبيَّة، ولا يكْفي هذا النَّوع من التَّوحيد؛ بل ولا يُنجي صاحبَه من النَّار؛ إذْ كانت كفَّار قريش تقرُّ به كما ورد في القُرآن في آيات كثيرة تبيِّن ذلك، كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].

وأمَّا توْحيد الألوهيَّة، فهو أن تَعبد الله بِما استَعبَدك به مِن العبادات بالتَّوحيد، وألَّا تشرك به شيئًا، ومنْه إفْراد الحكم لله وحْده، والدُّعاء، والنَّذْر له وحْده، إلى غير ذلك مِن سائِر العبادات.

وأمَّا توْحيد الأسماء والصِّفات، فهو أن تعتقِد وتعبد الله بالعِلْم والإقرار، بأسْمائه الحُسْنى وصفاته العُلا، مِن غير تحريف ولا تأويل، ولا تَمثيل ولا تَعطيل، ولا تكْييف ولا تفويضٍ لمعانيها المعلومة.

وكذلك لا بدَّ مِن معرفة دِين الإسلام بالأدلَّة، فدينُنا الإسلامي له مرجِعان أساسيَّانِ؛ وهما الكتاب والسُّنَّة، وما يلحقُهما من الإجْماع والقياس الصَّحيح والمصالح المُرْسلة؛ لذلك يطمئنُّ قلبُك وينشرح وتشْعُر بالحلاوة الإيمانيَّة؛ بل وتهتدي بتلك الأدلَّة راضيًا بها.

أمَّا مَن أتاك بآرائه الشَّخصيَّة، أو بالخرافات أو بالخزعبلات، فمِن السَّهل أن تضرب بأقواله عرض الحائط إنْ لم يأْتِ لك بدليل صريح صحيح مِن الكتاب والسُّنَّة، أو ما يلحقهما مِن أصول التَّشريع.

وكذلك لا بدَّ مِن معرفة حامل الرِّسالة العظيمة محمَّدٍ النَّبيِّ الأمِّيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرحمة المهداة، العاقب الذي يُحشر النَّاس على عقِبه، الماحي الضَّحوك القتَّال، الفارق بين الحقِّ والباطل، السِّراج المنير، مُخرِج النَّاس من ظُلمات الظلم والجهل والبغْي والمنكر والفساد، إلى سبُل السَّلام، وإلى نور العدْل والعِلم والصَّلاح والإحسان، والخير والكرامة والشَّرف والرِّفعة في الدنيا والآخرة.

فهذه الأمور الثلاثة سيُمْتحن بها المرء في قبرِه، فيُقال له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَن نبيُّك؟
قال البخاري: حدَّثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عرْوة، عن امرأتِه فاطمة بنت المنذِر، عن أسماء بنت أبِي بكر رضِي الله عنْهما؛ أنَّها قالت: أتيتُ عائشة رضي الله عنْها زوجَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين خسفَت الشَّمسُ، فإذا النَّاس قيامٌ يصلُّون، وإذا هي قائمة تصلِّي، فقلتُ: ما للنَّاس؟ فأشارَت بيدِها إلى السَّماء، وقالت: سبحان الله! فقلتُ: آية؟ فأشارَت: أي نعم، قالت: فقمتُ حتَّى تجلَّاني الغَشْيُ، فجعلتُ أصبُّ فوق رأسي الماء، فلمَّا انصرف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، حمِد اللهَ وأثنَى عليه، ثمَّ قال: ((ما مِن شيء كنتُ لَم أره إلَّا قد رأيتُه في مقامي هذا، حتَّى الجَنَّة والنَّار، ولقد أوحي إليَّ أنَّكم تُفتَنون في القبور مثلَ أو قريبًا مِن فِتْنة الدَّجَّال - لا أدري أيَّتهما قالت أسماء - يُؤتى أحدُكم فيُقال له: ما عِلْمُك بهذا الرَّجُل؟ فأمَّا المؤمن، أو الموقِن - لا أدْري أيَّ ذلك قالت أسماء - فيقول: محمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ جاءنا بالبيِّنات والهدَى، فأجبْنا وآمنَّا واتَّبعنا، فيقال له: نَمْ صالحًا، فقد علِمْنا إنْ كنتَ لموقنًا، وأمَّا المنافق، أو المرتاب - لا أدري أيَّتهما قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت النَّاس يقولون شيئًا فقلتُه))[3].

ولاحظ قولَه: "سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُه"؛ لأنَّه لم يَرفَع رأسَه بالهدَى الَّذي جاء به نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم.

الخطوة الثَّانية: شروط التَّوحيد؛ وهي العِلمُ المُنافي للجهل، والمحبَّةُ المنافية للكراهية، والصِّدقُ المنافي للتَّكذيب والنِّفاقِ، والإخلاصُ المنافي للشِّرْك، والقبولُ المنافي للرَّدِّ، والانقيادُ المنافي للإعراض، واليَقينُ المنافي للشَّكِّ، وهذا اليقين هو أعْظم شرطٍ - في نظَري - الَّذي يمكن أن تحقِّق به إيمانَك وتشعُر بسبَبِه بحلاوة الإيمان، أمَّا باقي الشروط فهي تبَع لهذا الشَّرط، فمَن أوْصل عِلْمه إلى درجة اليقين، فلا بدَّ أن ينتفع بعلمه، وأن يحبَّ ربَّه، وأن يَقبل شرْعه، وأن يُصدِّق إيمانه بالاعتقاد والقول والعمل، وأن يُخلص في دينه، وأن ينقاد له، والله أعلم.

الخطوة الثالثة: العِلم مع العمل، والدَّعوة إلى الله والصَّبر، وقد اشتملَت سورة العصْر على هذه المعاني الجليلة، وحكمتْ على مَن لم يتَّصف بها بالخسران، فتأمَّلها؛ لذلك نقول: لا يُمكن مَن أخلَّ بشيءٍ مِن هذه الأربعة في هذه السُّورة أن ينال رضا الله سبحانه مع كونِه سيشعر بدلًا مِن ذلك شعورًا منكَّدًا لا محالة، أمَّا مَن قام بكلِّ ما عليه مِن الواجبات والحقوق، وصبر في سبيل ذلك على الأذى وتحمَّله، فسيشعُر على الأقلِّ أنَّه قد ألقَى عن عاتِقه تبعة المسؤولية أو المؤاخذة عليه يوم القيامة.

فوالله الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ما ذُقْتُ حلاوة الإيمان إلَّا بعد ما وقع في يدي كتاب "فتح المجيد"، فعند ذلك فهِمْتُ لبَّ الرّسالة الَّتي يريدها الله سبحانه مِن البَشَر، وكذلك عندما وقع في يدي كتاب "العقيدة الواسطيَّة" عرفتُ ربي بأسمائِه وصفاته كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه؛ لهذا أُوصي كلَّ المسلمين أن يَعتَنوا بهذيْن الكتابين العظيمين؛ ليذوقوا ما ذقتُه.

من ثَمرات الرِّضا بالدِّين الإسلامي وحلاوة الإيمان:
1- التَّعظيم: أي تعظيم الله في أوامره ونواهيه، وتعظيم دينِه وشعائره ونبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.
2- الطُّمأْنينة والرَّاحة النفسيَّة: وهذا ما يَعرفه ويشعر به كلُّ مَن أنعَمَ الله عليه بنِعْمة الإيمان والإسلام، حتَّى كان يقول أحد السَّلَف: "إنَّنا لفي نعمة، لو كان يعْرِفُها أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، ويقول آخر: "إنَّ في الدنيا جنَّة، مَن لم يدخُل فيها لا يدخُلها في الآخرة"، أمَّا حديث: ((الدنيا سجن المؤمِن، وجَنَّة الكافر))، فهو بالنسبة لما ينْتَظر كلًّا منهما مِن الجَنَّة والعذاب في الآخرة.
3- التَّشمير عن ساعد الجدِّ للواجبات والمستحبَّات: مع كراهية الفسق والعصيان والكفر، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]، وهذه مِن أنعَم النِّعَم الَّتي يتنعَّم بها المؤمنون الرَّاشدون؛ لذلك قال تعالى بعدها: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8]، ومَن فقَد هذا الشعور والإحْساس أو التَّأثير، فليتَّهم نفسَه.
4- المحبَّة الخالصة للمُسلمين جميعًا: كما جاء في "صحيح البخاري":

حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثنَّى، قال: حدَّثَنا عَبْد الوَهَّاب الثَّقَفيُّ، قال: حدَّثَنا أيُّوبُ، عَنْ أبي قِلابَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَال: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَد حَلاوَةَ الإيمَان: أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأن يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّار))[4].

ومن المحبَّة الخالصة للمسلمين جميعًا أن يسلِّم المرْء على مَن لا يعرف.

والتصدّق عليه وهو لا يعرف، والدُّعاء له وهو لا يعرف، والزِّيارة له إذا مرض وهو لا يعرف؛ بل للعطف عليه وللمواساة فقط؛ ولذلك هذا هو خير الإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قال: حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَن أبي الخَيْرِ، عنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنْهُما؛ أنَّ رَجُلًا، سَأَلَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَال: ((تُطْعِمُ الطَّعامَ، وتَقْرَأُ السَّلامَ على مَنْ عَرَفْتَ ومَنْ لَمْ تَعْرِفْ))[5].

وأيضًا مِن ذلك أن يكون المسلم مسالمًا وآمنًا ومحافظًا، كما في الحديث: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه، والمؤمن مَن أمِنَه النَّاس على دمائِهم وأموالهم، والمُهاجر مَن هجَرَ ما نَهى اللهُ عنْه)).

وروى عبد الله بن عمرو في "صحيح البخاري" بلفظ:
حدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أبي إياسٍ، قالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ أبي السَّفَرِ، وإسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَال: ((المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِه ويَدِه، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ))[6].

وكذلك جاء في حديث أبي موسى بلفظ:
حدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القُرَشِيُّ، قال: حدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا أبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْنِ أبي بُرْدَةَ، عَن أبي بُرْدَةَ، عَنْ أبي مُوسَى رضي الله عنْه قال: قالُوا: يا رَسُولَ اللَّه، أيُّ الإسْلامِ أفْضَلُ؟ قال: ((مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِه ويَدِه))[7].

وأيضًا من ذلك أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، كما في "صحيح البخاري":
حدَّثَنا مُسَدَّدٌ، قال: حدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ رضِي الله عنْه، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

وعَنْ حُسَيْنٍ المُعَلِّمِ، قَال: حدَّثَنا قَتَادَةُ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قَال: ((لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِه))[8].

فكلُّ مَن أحبَّ لأخيه ما أحبَّ لنفسه، لا يُمكن أن يحسُده أو يحتقرَه، أو يتكبَّر عليه أو يفتخِر عليه، أو يغْمزه ويسخر منه، أو يبغضه... إلخ؛ لأنَّ كلَّ ذلك من خطوات الشَّيطان، ومن أجْل الافتتان بالدنيا؛ لذلك لا يُمكن أن تجِد عالِمَيْن مُخلصَين للهِ يتحاسدانِ، أو زوجين أحبَّ كلٌّ منهما الآخر في سبيل الله يتشاجران.

لذلك اعلم أيُّها الأخ الكريم أنَّ حبَّ المؤمنين بعضهم لبعض على مرتَبتَين:
المرتبة الأولى: درجة الإيثار؛ وهي أن تحبَّ له الخير أكثر ممَّا تحبُّه لنفسِك، ويندُر هذا؛ بل وقلَّما توجد هذه الصِّفة، ولا يُمكن أن يتحلَّى بها إلَّا الخلَّص الصبورون.

المرتبة الثَّانية: درجة الحبِّ العادل إن صحَّ التَّعبير؛ أي: أن تحبَّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك، أمَّا إذا ضعُفتْ فيك هذه الصِّفة فلا شكَّ أنَّك ستقع في الظُّلم، ولا بدَّ أيضًا أن تتَّصف بالصِّفات المذْمومة الآنفة الذِّكْر، ولا يخفى على اللَّبيب ما سينتج عن هذه الصِّفات مِن الشُّرور - إن عاجِلًا أو آجلًا - مِن الاختِلاف، وحمْل الإحَن والضَّغائن؛ بل والفتن والاقتِتال؛ لذلك أنقذَنا اللهُ بنعمة الإسلام الَّتي جعلتْنا كلَّنا إخوة في الله، كما قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].

5- أن يعيش المسلم حياة طيِّبة: كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 2]؛ أي: أصلح حالهم.

بل إنَّك تجد في القرآن أنَّ الكافر والمنافق ولو أُعطي أموالًا وفيرة، وبنين شهودًا، فإنَّه سيتعذَّب بهما، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55].

وإنَّك تجد المؤمن المصاب بالفقْر أو بالمرَض المزْمِن، أو بأيِّ مصيبة من المصائب صابرًا محتسبًا، ويعيش عيشةً هادئة طيِّبة حسنة، عن أبي سعيدٍ سعد بن مالك بن سنان الخُدْري رضِي الله عنْه؛ أنَّ ناسًا من الأنصار سألوا رسولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم؛ فأعْطاهم، ثمَّ سألوه فأعْطاهم، حتَّى نفِد ما عنده، فقال لهم حين أنفقَ كلَّ شيءٍ بيده: ((ما يكُن عندي مِن خيرٍ فلَن أدَّخِرَه عنكم، ومَن يَستَعفِفْ يُعفَّه الله، ومَن يَستغْنِ يُغْنِه الله، ومَن يَتصبَّر يصبِّرْه الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوْسَع مِن الصَّبر))[9]، وما ذاك كلُّه إلَّا نتيجة الرِّضا عن الله سبحانه ودِينِه ورسوله جملة، ونتيجة الإيمان الَّذي تزوَّدناه مِن تعاليم دِين الإسلام نفسِه، كالرِّضا بالقضاء والقدَر، والصَّبر والشُّكر على السَّرَّاء والضَّرَّاء... إلخ.

لذلك مِن الدُّعاء المأْثور عن ابنِ مسعود رضِي الله عنْه؛ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنَى))[10].

فكُلُّ مَن وَجد مِن نفسِه هذه الصفات الَّتي في هذا الدُّعاء، لَم يَفُتْه شيء، ومَن فاته شيءٌ مِن ذلك فاتَه خيرٌ كثير.

فإذا كان مجرَّد ذِكْرك لله - فضلًا عن عبادته سبحانه وطيب مُناجاته - يُطمْئِنُ قلبَك ويَشْرحُه، وتنزل عليك السَّكينة وتغشاك الرَّحمة؛ بل وتحسُّ أنَّ الله جليسُك ويذكرُك إنْ ذكرتَه وحدك، وإنْ ذكرتَه في ملأٍ ذكرَك في ملأٍ خير منه؛ بل ويُباهي بك الملائكة - كما ورد بذلك أحاديث - فما ظنُّك بفضائل الأعمال الأخرى؟

رُوي أنَّ أحد السَّلف زاره صاحبٌ له فقال له: ألا تستوحش؟ فقال له: كيفَ أستوحِش والله سبحانه وتعالى هو جليسي؟! لأنَّ في الحديث: ((أنا جليس مَن ذكرني)).

والله أعلم.
===============================
[1] رواه مسلم عن العبَّاس رضي الله عنْه.

[2] لذلك قد ترى بعض الناس يقرؤون القرآن - للأسف الشديد - بنفسيَّة ضعيفة ميتة، وعندما يفتح الجرائد أو المجلات فإذا به دبَّتْ فيه الحياة وانتعَش، وقرأها بمعنويَّات عالية، فسبحان الله! والسِّرُّ في ذلك هو فقْد طعْم الإيمان، والرضا به في قلبِه، وعدَم الشعور بقيمة الدِّين وأنَّه يحتاج إليه ويَنفعه في الدنيا والآخرة، والله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

[3] رواه البخاري برقم (1005).

[4] رواه البخاري برقم (16).

[5] رواه البخاري برقم (12).

[6] رواه البخاري برقم (10).

[7] رواه البخاري برقم (11).

[8] رواه البخاري برقم (13).

[9] متفق عليه.

[10] رواه مسلم.

ابوالوليد المسلم 15-12-2024 04:42 AM

رد: اليقين ضد الشك
 
اليقين ضد الشك (14)

عبدالفتاح آدم المقدشي

فضل الله ورحمته


بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشْرف المرسَلين، وآله وصحْبه ومَن تبِعَه بإحسان إلى يومِ الدِّين.

أما بعد:
فاعلمْ أنَّ رحمة الله وفضْله خيرُ ما يَظفر به المرءُ في دنياه وأُخراه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

فمَن فقَدَ رحمةَ الله وتوفيقَه وتيسيرَه، فقَدْ فقَدَ الخيرَ كُلَّه، ومَن وجَد ذلك فلا يُمْكن أن يضرَّه شيءٌ أبدًا، مهما كان، كما قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107].

ولذلك - للأسف الشديد - قد ترَى بعضَ الناس يجدُّ ويكْدح في الحياة، وكأنَّ هذا هو السبب الوحيد في نجاحه، وفي هذا مفاسدُ، منها ما يلي:
1- كونُه يعتقد اعتقادَ قارونَ؛ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]؛ أي: بمعرفتي بوجوه التجارة، أو بعِلم الله أنِّي أستحق بهذا المال.
2- كونه فقَدَ التوكُّل، وتعلَّق بهذه الأسباب المادِّيَّة، وقد قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].
3- كونُه مُستَدرَجًا، ولا يعلم أنَّ عاقبة أمره خسارة، وقد قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].
4- كونه أمِنَ مِنْ مَكْر الله، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].
5- كونُه فقَدَ الفَضْل والرحمة؛ أي: البركة، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

ولذلك اعلمْ - يا أخي، ويا أختي الكريمة - أنَّ كلَّ ما تَعْملُه في هذه الحياة الدُّنيا إنْ لم يُقارنْه فضْلٌ مِن الله ورحمة، فهو مَنزوعُ البركة، ولا خيرَ فيه، كما نَفْهم مِن قوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11].

فقد قرَن اللهُ سبحانه التجارة باللهوِّ؛ حيث شَغَلَتِ الناسَ عن سماع الخير؛ لذا فقدْ بيَّن اللهُ في هذا المقام أنَّه هو خيرُ الرازقين.

فعلى سبيل المثال: قد ترَى بعضَ التُّجَّار يُفتَن بكثرة الزبون عنده في أوقات الصلوات مثلًا، أو عند أذان الجمعة، فلا شكَّ أنَّه إذا ترَك التجارة لوجْه الله، وأغلَقَ المحلَّ ولم تفْتنْه الدُّنيا، أنَّ الله سبحانه سيُعوِّضه خيرًا مما ترك؛ لأنَّ الله هو خير الرازقين، وهو الذي يَرزق بغيْرِ حِساب، مع ما في ذلك الأمر مِن فضْل الله ورضوانه، ورحمته الواسعة.

وأيضًا مِن فضل الله ورحمته الواسعة أن يَرزقَك اللهُ وأهلَك العافيةَ في الدِّين والدنيا، فكم فُتِن كثيرٌ بجمْع الأموال مِن الحلال والحرام، فابتلاه اللهُ بمصائبَ أخرى؛ صِحِّيَّة وغير صِحِّيَّة.

وهكذا، فضْل الله ورحمته يجعل المرءَ موفَّقًا في أمور آخرته، فيؤدِّيها بأحسنِ الوجوه، مع الإخلاص وموافقة السُّنَّة، كما يجعله اللهُ قريبًا مِن الملائكة، بعيدًا مِن الشياطين والكفَّار والفُسَّاق.

ومِن ذلك الفَضْل والرحمة: التوبة ِمن الذنوب كلِّها؛ دقِّها وجليلها، وسرِّها وعلانيتها، والتي أكْبَرُها الشِّرْك بالله، فإنه سبحانه سيتقبَّلها منك تفضُّلًا منه، وامتنانًا ورحمة، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 10]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 20].

ومِن فضْل الله ورحمته أنْ أرسَل إلينا رُسلًا، وأنزل لنا كُتبًا؛ لئلَّا نتبع الشياطين، وأنَّه سبحانه لم يَجعلْ للشيطان علينا سُلطانًا، كما أنَّه سبحانه يحفظنا منهم ومن كلِّ سوء، قال تعالى: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64]، وأنه سبحانه غفور رحيم، وأنَّه توَّاب رحيم لِمَن تاب وأناب إلى الله بعدَ ذنْبه، وأنه سبحانه يَأجُر مَن همَّ بحسنةٍ بحسنةٍ مثلِها، وكذا مَن همَّ بسيئة فترَكَها لله، يَكتبُ اللهُ له حسنةً، كما يُبدِّل الله سيئاتِه حسناتٍ إنْ تاب إلى الله وأناب، وعمل عملًا صالحًا.

فالله سبحانه كريمٌ لطيف، رحيم بعباده، فلا ييْأَس مؤمِنٌ مبتلًى بمصيبة، مِن رحمته وفضْله، وإنَّما الكافر هو الشقيُّ، بل فليعملْ عملية السلام مع ربِّه، وليقل وليبتهل بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، وليقل: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 100، 101]، وليقل: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

وليقل: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47]، وليقل: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16]، وليقل إذا كان مريضًا مثلًا: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وليقل: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88]، يا ربِّ نجِّني إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين، وليقل: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فاستجبتَ دعاءَ الكفَّار فأنجيتَهم، وأنا أدعوك: إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين الموحِّدين إلَّا نجيتني، وأقول لك: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فنجِّني يا ربُّ.

ولكن لا بدَّ ألا تَنسَى هذا الوعْد بعدَ النجاة؛ بل عليك أن تكونَ مِن العابدين المخلِصين الشاكرين بتوفيق الله عزَّ وجلَّ، وهذا خيرٌ مِن النذر.

وليقل كذلك: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، فاكشف عني ما أنا فيه، وليقل: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147].

وممَّا يهوِّن عليك أيُّها المبتلَى: أنَّ الله لم يُصبْك بمصيبة أعظم، وأنَّ الله لم يجعلْها في دِينك، وأنَّ الله وفَّقك للشكر والصبر عليها، وأنَّ الله سيُكفِّر بهذه المصيبة عن ذنوبك، ويرفع لك بها الدَّرجات، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وأنَّ الله وعدَك - ووعْدُ الله حقٌّ - بالفرج، فقال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5، 6]، ولن يغلبَ يُسرَيْن عسرٌ إن شاء الله، كما قالَه أهل العِلم، وقال سبحانه: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].

وعليك بكثرة الإنابة، والتوبة الصادقة النصوح، مع البكاء المرِّ والندامة على ما فات، وعليك أن تُكثِرَ من الاستغفار، ومن قول: لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وجميع الأذكار، وأعظمُ الأذكار القرآن.

كما عليك أن تُكثِر من التضرُّعِ إلى الله في جميع الأوقات، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42].

ومُدَّ يديك إلى السماء متضرِّعًا قائلًا: اللهمَّ إنك تستحيي أن تردَّ يديْ عبادِك صِفرًا، فلا تردَّ عليَّ يدي صفرًا، وأنت ستِّير، استرني ولا تُشمت بي الأعداء، وأنت أكرمُ الكرماء، وأرحم الرحماء، وألطف اللطفاء، أنختُ مطاياي ببابك، وأنت أكرم مِن أن تردَّ مَن طَرَق بابك، وتجعله من الخائبين.

وعليك بالإكثارِ مِن الصَّدقات والعِبادات المتنوِّعة، كما عليك أن تتحرَّى ساعاتِ الإجابة، وألَّا تستعجل وتقول: دعوتُ اللهَ فلم يَستجِب لي، فإنْ زاد عليك البلاءُ فاستزدْ أنتَ من الصَّبر، فهو خيرُ زاد للمؤمن، بل هو تطهيرٌ وتصفية، وإظهار لمعدن المؤمن الجيِّد، فكما يُفتَن الذهبُ بالنار فيَزداد صفاءً ولمعانًا، فكذلك حال المؤمِن؛ يزداد بالمصائب والابتلاءات المتتالية صفاءً ولمعانًا، وثباتًا في دِين الله؛ بل وحبًّا وإرضاءً لله، ممَّا يجعله يُضاعِف أعمالَه وعباداتِه؛ ليُرضيَ ربَّه، كما في الدعاء المشهور: ((إنْ لم يكُن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي))، وإنَّما المصيبة الحقيقية مَن شقي ودخَل النار مع الداخلين.

وعليك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - المبتلَى/ المبتلاة - تفويضُ الأمْر إلى الله، فهو نِعمَ الموْلَى ونِعم النصير، وقُل: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، وتوسَّل إلى الله إنْ كان لك أعمالٌ صالحة قدَّمتَها لله؛ فإنها من مفاتيح الفرَج ومفاتيح الإجابة، فالمصائب لا تنزل عادةً إلا بسبب ذنوب العِباد، ولا يرفعها الله إلا برجوعهم إليه سبحانه، وما يعفو الله عنه أكثرُ، والدليلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].

والله المستعان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

عنِ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: أنه قال: ((إنَّ الله كتَب الحسناتِ والسيئاتِ، ثم بيِّن ذلك، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملْها، كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتبها الله عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة، وإنْ همَّ بسيئة فلم يعملْها، كتبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتَبها الله سيِّئةً واحدة))؛ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الحديث: واعلمْ أنَّ مَن همَّ بالحسنة فلم يعملْها على وجوه:

الوجه الأول: أن يسعى إليها بأسبابها، ولكن لم يدركْها، فهذا يُكتب له الأجر كاملًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100].
وكذلك الإنسان يَسْعى إلى المسجد ذاهبًا يُريد أن يصليَ صلاةَ الفريضة قائمًا، ثم يَعجز أن يصلي قائمًا، فهذا يُكتب له أجرُ الصلاة قائمًا؛ لأنَّه سعَى في العمل، ولكنَّه لم يدركْه.

الوجه الثاني: أن يهمَّ بالحسنة ويعْزِم عليها، ولكن يتركها لحسنةٍ أفضل منها، فهذا يُثاب ثوابَ الحسنة العليا التي هي أكمل، ويُثاب على همِّه الأول للحسنة الدنيا، ودليلُ ذلك أنَّ رجلًا أتى إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين فتَح مكة، وقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إنْ فتَح الله عليك مكة أن أصليَ في بيت المقدس؟ فقال: ((صَلِّ هَا هُنا))، فكرَّر عليه، فقال له: ((شَأنُكَ إذًا))، فهذا انتقل مِن أدْنى إلى أعْلى.

الوجه الثالث: أن يتركَها تكاسُلًا، مثل أن ينويَ أن يصليَ ركعتي الضُّحى، فقرَع عليه البابَ أحدُ أصحابه، وقال له: هيا بنا نتمشَّى، فترَك الصلاة وذهَب معه يتمشَّى، فهذا يُثاب على الهمِّ الأول والعَزْم الأول، ولكن لا يُثاب على الفعل؛ لأنَّه لم يفعلْه بدون عذْر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل.

((وإن هَمَّ بِها فَعمِلَها)): تُكتب عشر حسنات والحمد لله، ودليلُ هذا من القرآن قولُ الله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160].
((كَتَبَها اللهُ عِندَه عَشْرَ حَسَناتٍ)): هذه العشر الحسنات كتبَها الله على نفسه، ووعَد بها، وهو لا يُخلِف الميعاد.
((إلى سَبعمَائةِ ضِعْف)): وهذا تحت مشيئة الله تعالى؛ فإنْ شاء ضاعَف إلى هذا، وإنْ شاء لم يضاعف.
((إلى أضعافٍ كَثيرةٍ))؛ يعني: أكثر مِن سبعمائة ضِعْف.

قال: ((وإن هَمَّ بِسَيئةٍ فَلَم يَعمَلْها، كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسَنةً كامِلَةً)): جاء في الحديث: ((لأنه إنَّما تَرَكَها مِن جَرَّائي))؛ أي: مِن أجْلي، فتُكتب حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله.

واعلم أنَّ الهمَّ بالسيئة له أحوال:
الحال الأولى: أن يهمَّ بالسيئة؛ أي: يعزم عليها بقَلْبه، وليس مجرَّد حديث النفس، ثم يراجع نفسَه فيتركها لله عزَّ وجلَّ، فهذا هو الذي يُؤجَر، فتُكتب له حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله، ولم يعملْ حتى يكتبَ عليه سيئة.

الحال الثانية: أن يهمَّ بالسيئة ويعزم عليها، لكن يعجز عنها بدون أن يَسعَى في أسبابها، كالرَّجل الذي أخْبر عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ليتَ لي مثلَ مال فلان، فأعمل فيه مثل عمله، وكان فلان يُسرِف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يُكتب عليه سيِّئة، لكن ليس كعامل السيِّئة؛ بل يُكتب وزْر نِيَّته، كما جاء في الحديث بلفظه: ((فَهوَ بِنيَّته، فَهُمَا في الوِزرِ سواء)).

الحال الثالثة: أن يهمَّ بالسيئة ويَسعَى في الحصول عليها، ولكن يَعجِز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السيئة كاملًا، دليل ذلك قولُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا الْتَقَى المُسلِمانِ بِسيفَيهِما، فالقاتِل والمقْتول في النَّار))، قال: يا رسولَ الله، هذا القاتِلُ، فَمَا بالُ المَقتُول؟! - أي: لماذا يكون في النار - قَال: ((لأَنَّهُ كانَ حَريصًا عَلى قَتْلِ صاحبِه))، فكُتب عليه عقوبة القاتل.
ومثاله: لو أنَّ إنسانًا تهيَّأ ليسرقَ، وأتى بالسُّلَّمِ ليتسلَّق، ولكن عجَز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السارق؛ لأنه همَّ بالسيئة، وسعى في أسبابها، ولكن عجز.

الحال الرابعة: أن يهمَّ الإنسان بالسيِّئة، ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقَع كثيرًا، يهمُّ الإنسان بالسيئة، ثم تطيب نفسُه ويعزف عنها، فهذا لا يُثاب؛ لأنه لم يتركْها لله، ولا يعاقَب؛ لأنه لم يفعلْ ما يوجب العقوبة.

وعلى هذا فيكون قوله في الحديث: ((كتبَها عِندَهُ حَسَنَةً كامِلَةً))؛ أي: إذا تركَها لله عزَّ وجلَّ.

((وإنْ هَمَّ بِها فَعَمِلَها، كَتبَها اللهُ سَيئةً واحِدةً))؛ ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: ((إِنَّ رَحْمَتِيْ سَبَقَتْ غَضَبِي))، وهذا ظاهِر من الثواب على الأعمال، والجزاء على الأعمال السيئة.

رأى رجلٌ تائِب رؤيةً عجيبة، وهي أنَّه رأى رؤوس ناسٍ محترقين بالنار، متناثِرة في الأرْض، فقيل له: أما أنت فلستَ منهم؛ لأنَّك عملت عملية السلام مع ربِّك، فمَن ذا الذي يستطيع أن يُحارِب ربَّه؟! أمَّا مَن عمل الحسنة فتُضاعَف له عشْر حسنات إلى سبعمائة ضِعْف كما جاء ذلك في حديثٍ صحيح.

ومن ذلك أيضًا أنَّ الله لا يأخذ بكلِّ الذنوب التي يعملها المرء؛ بل يعفو ويصفح، وأنَّه سبحانه يحلم ويُمْهل للظالم؛ ليرجعَ إلى ربه ويتوب، ويعطيه فرصةً واسعة، وأنَّه سبحانه لا يأخذ أحدًابذنبِ ابنه وأبيه، ولا بذنب أيِّ أحدٍ من الناس؛ بل الله سبحانه بفضْله ورحمته يُلحِق الأبناءَ بآبائِهم إنْ كان الآباء في درجات عالية مِن الجَنَّة، والعكس صحيح إنْ شاء الله.
ومن ذلك أيضًا: أنه سبحانه جعل الناسَ يَشفع بعضُهم لبعض، كما جعَل الشهداءَ يشفعون لسبعين مِن أقاربهم، وهكذا جعَل الله سبحانه رسولَنا صلَّى الله عليه وسلَّم يشفع لنا بشفاعة عظيمة، ويتردَّد إلى ربه شافعًا لأُمَّته؛ حيث سيُخرِج مِن النار ما شاء الله أن يُخرِج، إلا مَن حبَسه القرآن، ثم كذلك الله سبحانه وتعالى بفضْله وبرحمته يُخرِج منها مَن كان في قلْبه مثقالُ ذرَّة مِن إيمان؛ بل وأدْنى وأدنَى مِن ذلك، ثم يُخرِج الله مِن النار كلَّ مَن لم يفعل خيرًا قط بفضْله ورحمته فحسْبُ.

ثم اعلم أنَّ الرحمة والفضْل لها عموم وخصوص، كما يدلُّ اسما الرحمن الرحيم مثلًا، ففضْل الله ورحمته عامٌّ لخلقه جميعًا، فيَرزقهم ويُعافيهم في الدنيا، بما فيهم الكفَّار الذين يسبُّونه، أما الرحمة والفضْل الخاص، فهو لعباده المؤمنين بتوفيقه وتأييده ونصره في الدنيا، وإدْخالهم الجَنَّةَ يومَ القيامة، كما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156].

قال الإمام الطبريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثَنا القاسم، قال: ثَنَا الحسين، قال: ثَنِي حجَّاج، عن ابن جريج، قال: لمَّا نزلت: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، قالَ إِبْلِيس: أَنَا مِنْ كُلِّ شيء، قال اللَّه: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156] الْآيَة، فقالتِ الْيَهُود: وَنَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْتِي الزَّكَاة، فأَنْزلَ اللَّه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ [الأعراف: 157]، قالَ: نَزَعَها اللَّه عن إبْلِيسَ وَعَنِ اليَهُود، وَجَعَلَها لأُمَّةِ مُحَمَّد، سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ قَوْمك.

بل إنَّنا نجد أنَّ الله سبحانه يُعَبِّر في القرآن عنِ الجَنَّة بأنها فضْل ورحمة، كما في آياتٍ كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175]، وقوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الإنسان: 31].

والمقصود هو أن نتذكَّر دائمًا فضْلَ الله ورحمته العظيمين، مع كرَمِه ولُطفه بعباده، وأن نكون متيقِّنين مِن ذلك، مهما استَعْصَتْ علينا الأمور واستَفحَلتْ، وإلا فسيغلبنا الشيطانُ وسنكُون فريسةً سهلةً لليأس مِن رُوح الله، المتسبِّب في الكفر بالله والعياذ بالله، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56].

وقد قال تعالى:﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14]، وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَق اللهُ الخَلْقَ كتَب في كتاب، فهو عندَه فوق العرش: إنَّ رحمتي تَغْلِب غضبي))؛ متفق عليه.
وفي رواية: ((سبَقتْ غضبي))، وفي رواية: ((غَلبَت غضبي)).

فالواجب إذًا ألَّا يقنطَ أحدٌ مِن رحمة الله، فمَهْما أسرفَ الإنسانُ في الذنوب، فإنَّ رحمة الله أوسعُ وأعظم؛ ولذلك لا يَنبغي أن يُتمادَى في العصيان، ويُستَمَعَ إلى وساوس الشيطان وقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]، قال الحسَن البصريُّ رحمه الله: (انظروا إلى هذا الكَرَم، قَتَلوا أولياءَه ويَدعوهم إلى التوبة!)[1].

ومِن كرَمِ اللهِ وحِلْمه العظيمين أن يَرزُق ويُعافِي مَن يسبُّه وينسب إليه آناءَ الليل وأطرافَ النهار الولدَ، وقد كادتِ السماوات أن يَتفطرْنَ مِن ذلك السبِّ، وتنشقَّ الأرض، وتخرَّ الجبال هدًّا، بل وأكثر مِن ذلك أنه سبحانه يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74] بعدَما قالوا ما قالوا، وفعلوا وما فعلوا!

ولكن لا بدَّ أن يكون المرءُ بيْن الخوف والرجاء، ولا يرجِّح أحدهما عن الآخَر - كما قرَّرته الشريعة - بل تجد أنَّ أسلوب القرآن كله بَيْن الرجاء والخوف، حتى إنك تجد الآية الواحدة منه فيها الرَّجاء والخوف، كما قد تجد مثلَ ذلك في آيتين أو آيات كثيرة بالأسلوب نفسه، كما قال تعالى على سبيل المثال: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: 3]، وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]، وقال تعالى:﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49، 50]، ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 12 - 14].

وأيضًا مِن فضْل الله ورحمته أنْ تَشكُرَ نِعَمَ الله عليك، الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20].

فمَن أنتَ يا ابنَ آدم، حتى تُجادِل ربَّك جهلًا وظلمًا وعدوانًا منك؟ حتى تنكرَ نِعمه الظاهرة والباطنة، وقد خلَقَك في ظلمات ثلاث، في هذا القرار المكين، وأخرجك مِن بطن أمِّك وأنت كقطعة لحم، وجعل لك السمعَ والبصر والفؤاد، ثم أنبتك نباتًا حسنًا، حتى سوَّاك بشرًا سويًّا؟!

واعلمْ أنَّ أعظم نِعمة على وجه هذه البسيطة نِعمةُ الهداية إلى الإسلام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120، 121].

فسببُ اجتباء الله لإبراهيم هو توحيدُه وعبادته، مع شُكْره لأنعُم الله المتنوِّعة كما ترى، ومِن ذلك الشكر العظيم أن يبقَى المرء شاكرًا متحسِّسًا بنعم الله، ولو ذهبتِ الدنيا وولَّت، بل حتى لو ابتلاه الله في جِسمه - نسأل الله السلامة والعافية - ما دام منعمًا بِنعمة الإسلام، وهَداه إلى الصِّراط المستقيم؛ ولذلك مِن السُّنَّة أن يقول المصاب: ((الحمد لله على كلِّ حال، وأعوذ بالله من حالِ أهل النار))، بل كل ذلك يدعو إلى أن ينظرَ المرء إلى الأمور بالتعمُّق وبالبصيرة وبالتيقُّن.

وانظر واعتبر - يا أخي/ ويا أختي الكريمة - كيف جعَل اللهُ ثمرةَ هذا التوحيد والعبادة، والشكر والتقوى لإبراهيم عليه السلام؛ فعاقبتها الاجتباء والهداية إلى الصِّراط المستقيم، وكيف جعَلَه اللهُ وحْدَه أُمَّةً؛ بل وإمامًا للمتقين، حتى أمَرَ اللهُ في كتابه العزيز خيرَ البشرية محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يتَّبع مِلَّة إبراهيم حنيفًا، والله أعلم.

ثم اعلم - أيها الأخ/ والأخت الكريمة - أنَّه لا يُمكن أن تدخل الجَنَّةَ بفضْل أعمالك - وإنْ كنتَ مأمورًا بها - إنْ لم يتغمَّدْك الله برحمته وفضْله يومَ القيامة؛ بل حتى الأنبياء لا يُمكن أن يدخلوا الجَنَّة بفضْل أعمالهم، فكيف بمَن هم دونهم؟!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قارِبوا وسدِّدوا، واعلموا أنَّه لن يَنجوَ أحد منكم بعمَلِه))، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أنْ يتغمَّدَني الله برحمة منه وفضْل))؛ رواه مسلم.

من ثمرات الرحمة والفضل:
التنعُّم في الدنيا بولاية الله وكلَئِه، وحِفْظه ورعايته.
التوفيق والسَّداد.
النصر والتأييد.
الرِّفْعة في الدنيا، ولو لم يقصدْها المؤمن ولم يطلبها.
خاتمة حَسَنة.
تيسير الله له السَّكرات.
والأمان مِن الفتَّانَيْن.
وأنْ يُيسِّر الله له ويُعينه على أهوال يوم القيامة، أما الكافر، فقدْ قال الله تعالى في حقِّه: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [المدثر: 8 - 10].
الدخول إلى الجَنَّة.

أمَّا موجبات الرحمة، فمنها:
الإخلاصُ والعمل بالدِّين: ((تركتُ فيكم ما إنْ تمسكْتُم لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّتي)).
الرَّحمة والإحسان، والعدل مع الخَلْق، كما في الأحاديث: ((مَن لا يَرْحم لا يُرْحم))، ((الرَّاحِمون يَرْحمهم الرحمنُ))، ((ارْحموا مَن في الأرض يَرْحمْكم مَن في السماء))، ((إنما يَرْحم اللهُ مِن عباده الرُّحماءَ)).

أما خصائص الرحمة والفضل، فهي:
صِفتان مقدمتان من الغضب.
منسوبتان إلى الرحمن حقيقة.
محبوبتان إليه.
وهُمَا واسعتان، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، وقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].

أما الفَضْل، فكقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130].

حدَّثَنا أبو اليمان، أخبرَنا شعيبٌ، حدَّثَنا أبو الزناد، عن الأعْرج، عن أبي هُريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يدُ اللهِ ملأى، لا يُغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ اللَّيْلَ والنهارَ، وقال: أرأيتُم ما أنفق منذ خَلَق السماوات والأرض، فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وقال: عرْشُه على الماء، وبيده الأُخرى الميزان يخفِض ويرفع))؛ رواه البخاري.

وقال تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].
والله سبحانه وتعالى أعْلى وأعْلم.
ـــــــــــــــ
[1] نصيحتي لك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - ملازمة الاستغفار، وكثرة التضرُّع والدعاء مع البكاء، وإصلاح ما أفسدته، بكثرة الأعمال الصالِحة؛ مِن حجٍّ وصَدقة، وبِرٍّ وصِلة، وجهاد، لا سيَّما كثرة الإحسان وتنويعه، ولقد ثبَت في الصحيحين: ((بينما كَلْب يُطِيف برَكِيَّة قد كاد يقْتلُه العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ مِن بغايا بني إسرائيل, فنزَعت مُوقَها، فاستقتْ له به فسقتْه، فغُفِر لها به)). "الموق": الخف، و"الرَكِيَّة": هي البئر.
وكذلك ثبت أيضًا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ((لقد رأيتُ رجلًا يتقلَّب في الجَنَّة؛ في شجرة قطعَها مِن ظهْر الطريق، كانت تُؤذِي المسلمين))؛ رواه مسلم.



الساعة الآن : 08:11 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 70.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.19 كيلو بايت... تم توفير 0.26 كيلو بايت...بمعدل (0.37%)]