رد: جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة
جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (12) د. أيمن محمود مهدي أدرَك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مكانة السنة النبوية المطهرة، وعرَفوا قدرها، واستوعبوا النصوص الآمرة بتبليغ العلم، وأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، فازدادوا قربًا من النبي صلى الله عليه وسلم، واستماعًا لأحاديثه، وتطبيقًا لها، ونقلوها إلى مَن بعدهم على أحسن ما يكون النقل. والناظر في كتب العلم يدرك - بوضوح - أن للصحابة رضوان الله عليهم جهودًا جبارة في خدمة الحديث النبوي، استطاعوا عن طريقها أن يحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوها إلى الأجيال التالية غضةً طرية، كما أرادها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستطاعوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة عن طريق جهودٍ ضخمة، ولقد أثمرت هذه الجهود حفظَ السنة في الصدور، وفَهْمَها بالعقول، وتدوينها في الكتب، ونشرها وإذاعتها بين الناس، وتطبيقها في كل مجالات الحياة. وسأذكر أبرز هذه الجهود، التي يتبين من خلالها الجهد الذي بذلوه من أجل خدمة السنة، والطريقة التي اتبعوها من أجل صيانتها والحفاظ عليها. الثاني عشر: الحرص على نقل اللفظ النبوي بنصِّه إلا عند الضرورة: أدرك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يساويه كلامُ غيره، وأنه أُوتي جوامع الكلم، وأن لكل حرفٍ فيه معنى، وأن عبارة غيره مهما كان بليغًا تقصُرُ عن عبارته، وأن الزيادة أو النقصان في كلامه صلى الله عليه وسلم قد توقع في الكذب عن غير قصد، فحرَصوا حرصًا شديدًا على رواية ألفاظ كلامه، دون زيادةٍ أو نقصان، ومن الصحابة رضوان الله عليهم مَن ترخص وسوَّغ الرواية بالمعنى لمَن علم المباني، وفهم المعاني، وعرَف مدلول الألفاظ، وما يحيل المعنى أو يغيِّره، فإن لم يذكروا نفس الألفاظ لنسيان اللفظ المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم - في غيرِ جوامع الكلم، وفي غير ما تُعبِّد بلفظه - ذكروا أقرب الألفاظ منها، ثم يتبعون الحديث بعبارةٍ تفيد نقل المعنى وليس اللفظ؛ كقولهم: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مثل ذلك، أو شبهه، أو نحوه، وهذه بعض الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى وتثبته: 1- عن عمرو بن ميمون، قال: ما أخطأني ابن مسعود رضي الله عنهعشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيءٍ قط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان ذات عشيةٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنكس، قال: فنظرت إليه فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك، أو شبيهًا بذلك[2]. وعن مسروق عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه:أنه حدَّث يومًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتعَد وارتعدت ثيابه، ثم قال: أو نحو هذا[3]. 2- وعن محمد بن سيرين، قال: كان أنسُ بن مالك رضي الله عنهإذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ففرَغ منه، قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[4]. 3- وكان ابن عمر رضي الله عنهماإذا سمع الحديثَ من الصحابي وفيه أدنى تغيير عما سمعه ردَّ عليه؛ فعن محمد بن علي بن الحسين قال: كان عبدالله بن عمر رضي الله عنهماإذا سمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، أو شهد معه مشهدًا، لم يقصِّر دونه، أو يَعْدُوه، قال: فبينما هو جالس وعبيد بن عمير رضي الله عنهيقص على أهل مكة، إذ قال عبيد بن عمير رضي الله عنه: (مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها)، فقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير رضي الله عنه، وفي المجلس عبدالله بن صفوان، فقال: يا أبا عبدالرحمن، كيف قال رحمك الله؟ فقال: قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين[5]، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها))، فقال له: رحمك الله هما واحد، قال: كذا سمعتُ[6]. وعن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر رضي الله عنهما،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمسةٍ: على أن يُوحَّدَ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج))، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان؟ قال: لا، صيام رمضان، والحج، هكذا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]. [1] أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالدمام. [2] أخرجه ابن ماجه في مقدمة سننه بلفظه باب التوقِّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 10 رقم: 23، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: إسناده صحيح، احتجَّ الشيخان بجميع رواته، وصححه الألباني؛ انظر: صحيح سنن ابن ماجه 1/ 10 رقم: 21، وأخرجه بنحوه: ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله ص: 111 رقم: 363، والحاكم في المستدرك كتاب العلم 1/ 111 وصحَّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قلت: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. [3] أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب العلم 1/ 111، وصحَّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قلت: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. [4] أخرجه ابن ماجه في مقدمة سننه باب التوقِّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 10 رقم: 24، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله ص: 111 رقم: 362، وأحمد في مسنده 11/ 95 رقم: 13057، كلهم بلفظه، قلت: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. [5] الربيضين: مثنى الرَّبيض، والرَّبيض هو: الغنم نفسها، والرَّبَضُ: موضعها الذي تربضُ فيه؛ أي: تجتمع فيه، والمعنى: أراد أنه مذبذبٌ كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مَربِضَيهما؛ النهاية في غريب الحديث 2/ 170. [6] أخرجه أحمد في مسنده بلفظه 5/ 105 رقم: 5546، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، والدارمي في مقدمة سننه نحوه باب من رخَّص في الحديث إذا أصاب المعنى 1/ 105 رقم: 318، وأصل الحديث عند مسلم من رواية عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بنحوه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2146 رقم: 2784، قلت: إسناد أحمد صحيح لغيره، فيه مصعب بن سلَّام، صدوق له أوهام؛ تقريب التهذيب 2/ 586 رقم: 6960، وقد تابعه في الرواية عن محمد بن سوقة سفيان بن عيينة، وإسناد الدارمي صحيح، ورجاله ثقات. [7] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/ 45 رقم: 16. |
رد: جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة
جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (13) د. أيمن محمود مهدي أدرك الصحابةُ الكرامُ رضوان الله عليهممكانةَ السُّنة النبوية المطهَّرة، وعرَفوا قدرها، واستوعبوا النصوص الآمرة بتبليغ العلم، وأحَبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، فازدادوا قربًا من النبي صلى الله عليه وسلم، واستماعًا لأحاديثه، وتطبيقًا لها، ونقلوها إلى مَن بعدهم على أحسن ما يكون النقل. والناظر في كتب العلم يُدرِك بوضوح أن للصحابة رضوان الله عليهم جهودًا جبَّارة في خدمة الحديث النبوي، استطاعوا عن طريقِها أن يحفظوا سُنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوها إلى الأجيال التالية غضَّةً طرية، كما أرادها الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم، واستطاعوا أن يصِلوا إلى هذه النتيجة عن طريقِ جهود ضخمة، ولقد أثمرت هذه الجهود حفظَ السُّنة في الصدور، وفهمَها بالعقول، وتدوينها في الكتب، ونشرها وإذاعتَها بين الناس، وتطبيقَها في كل مجالات الحياة. وسأذكرُ أبرز هذه الجهود، التي يتبيَّن من خلالها الجهدُ الذي بذلوه من أجل خدمة السُّنة، والطريقة التي اتَّبعوها من أجل صيانتها والحفاظِ عليها. الثالث عشر: نقد الرواة أو وضع قواعد علم الجرح والتعديل: حرَص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على حفظ السنة في الصدور، وتطبيقها في جميع مناحي الحياة، وبعضُهم لم يكتفِ بذلك فكتبها في صُحُفٍ خاصة؛ صيانةً لها من الإضافة والنقصان، والتحريف والنسيان، وقام بعضهم بالتجريح والتعديل حمايةً للسُّنة، ولكن الكلام في الرجال جرحًا وتعديلًا كان قليلًا في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، ومعظمُه منصرفٌ إلى الضبط، وهذا أمرٌ طبيعي؛ وذلك لأن الرواة في هذا الزمن كانوا من الصحابة، والصحابة رضوان الله عليهم كلُّهم عدول، بتعديل الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فلم يكونوا يعرفون الكذب في حديثهم، فضلًا عن أن يكذبوا على رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ثم نقلوها إلى التابعين كما سمِعوها من فمِ النبيصلى الله عليه وسلم. وقد أراد الصحابة رضوان الله عليهم بالاهتمام المُبَكِّر بقواعد الجرح والتعديل: الاحتياطَ من وقوع البعض في الخطأ، ولرسم قواعد قَبول الرواية لمن يأتي بعدهم. سأل عبدالله بن عمر رضي الله عنه أباه رضي الله عنه عن روايةٍ لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له عمر رضي الله عنه: إذا حدَّثك سعدٌ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تسأل عنه غيرَه[1]. وسأل عمر رضي الله عنه عبدَالرحمن بن عوف رضي الله عنه عن حديثٍ، فوجد عنده منه علمًا، فقال له: هَلُمَّ؛ فأنت العدل الرضا[2]. وظلَّ الأمر على ذلك حتى ظهرت الفتنة، وحاول البعض أن يُؤَيِّد موقفَه بأدلَّةٍ من السُّنة، فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم ينتبهون لهذا الأمر، ويسألون عن أسانيد الأحاديث، ويتثبَّتون في النقل، ويتحرَّون في الرواية، وقد وجَدوا في أدلة الشرع ما يُؤكِّد هذا المنهجَ ويوجبه؛ حمايةً للسنة، ودفاعًا عنها. فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم البحث والتفتيش عن حال الرواة، إلا أن الكلام في الرواة جرحًا وتعديلًا كان قليلًا في هذا الزمن المبارك؛ لقِلَّة بواعثه؛ ولأن أكثر الرواة صحابة، وهم عدول، وأكثر الرواة من التابعين ثقات، فلا يكاد يوجد في القرن الأول - الذي انقرض فيه الصحابة وكبارُ التابعين - ضعيفٌ، إلا الواحد بعد الواحد من التابعين، ولقد تكلَّم في الرواة عددٌ من صغار الصحابة[3]؛ كأنس بن مالك رضي الله عنه، وعبدالله بن عباس رضي الله عنه، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغيرهم، وسأضرب لك من الأمثلة ما يُؤكِّد هذا الأمرَ ويثبته: 1- عن أبي إسحاق قال: كنتُ مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم[4]، ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سُكْنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًّا من حصى، فحصبه به[5]، فقال: ويلك تُحدِّثُ بمثل هذا؟ قال عمر رضي الله عنه: لا نترك كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لقول امرأةٍ لا ندري لعلَّها حفِظَت أو نسيت، لها السكنى والنفقة؛ قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1][6]. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتاطُ في نقل هذه الرواية التي يراها مخالفةً للقرآن الكريم، ويُعلِّل سبب الرفض بخشيته مِن عدم ضبط راويهِ في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المعارضة التي رآها عمر رضي الله عنه ليسَتْ موضع تسليم عند الصحابة رضوان الله عليهم ومَن بعدهم؛ فإن هذه الآية إما أن تكون خاصة بالرجعية، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ [الطلاق: 1]، وقوله: ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [الطلاق: 2]، فلا تعارُضَ حينئذٍ؛ لأن الحديث في البائن، وإما أن تكون شاملةً للرجعية والبائنة، وعلى هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيًا للقرآن، بل غايته أن يكون مخصِّصًا لعمومه[7]، والأمر موضع خلافٍ بين العلماء، والذي يعنينا هنا: هو نقد الصحابة رضوان الله عليهم للرُّواة وللمتون. 2- قال محمد بن سيرين أحد أئمة التابعين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنْظر إلى أهل السُّنة فيُؤْخَذ حديثُهم، ويُنْظَر إلى أهل البِدَع فلا يُؤْخَذ حديثهم[8]. فهذا الأثر يُفيد وقوع العناية بالإسناد منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وهي تُمَثِّل نشأة بذوره فقط؛ لأن الإسنادَ وسيلةٌ للكشف عن الرواة لاختبار عدالتهم وضبطهم، وكلهم عدولٌ ضابطون، ولكن كان يروي بعضهم عن بعض، والقليل منهم كان يروي عن التابعين، كما روى السائب بن يزيد - وهو صحابي - عن عبدالرحمن بن عبد القاري، وهو تابعي[9]. فقد اعتنَوا بالإسناد؛ للوقوف على مخرج الحديث سليمًا، وكلما ظهرتِ الفتن زاد اهتمامهم بالإسناد. قال ابن حبان: ولو لم يكنِ الإسنادُ وطلب هذه الطائفة له، لظهَر في هذه الأمة من تبديل الدينِ ما ظهر في سائر الأمم؛ وذلك أنه لم يكن أمةٌ لنبي قط حفِظتْ عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمةُ، حتى لا يتهيَّأ أن يُزَاد في سُنةٍ من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلِفٌ ولا واوٌ، كما لا يتهيَّأ زيادة مثله في القرآن؛ لحفظ هذه الطائفة السُّننَ على المسلمين، وكثرة عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال مَن شاء ما شاء[10]. 3- عن مجاهد بن جبرٍ قال: جاء بُشَير العدوي إلى ابن عباس رضي الله عنه، فجعل يُحدِّثٌ ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس رضي الله عنه لا يأذَنُ[11] لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا بن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟! فقال ابن عباس رضي الله عنه: إنا كنَّا مرةً إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرَتْه أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركِب الناس الصعبَ والذلول[12]، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف[13]، فهذا ابن عباس رضي الله عنهيرفض الإصغاء لحديثٍ لا سند له، حتى يعرف رجاله، ويعرف أيُقْبَلُ حديثهم أم لا؟ 4- قال سعيد بن جبير:قلت لابن عباس رضي الله عنه: إن نَوْفًا البِكَالي[14] يزعم أن موسى عليه السلام ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدوُّ الله؛ حدثنا أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قام موسى النبي عليه السلام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئِل: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعَتَبَ الله عليه؛ إذ لم يردَّ العلم إليه...))؛ الحديث[15]. 5- عن ابن مُحيريز أن رجلًا من بني كنانة يُدعى المُخْدجي، سمع رجلًا بالشام يُدْعَى أبا محمد[16]، يقول: إن الوتر واجب، قال المُخْدجي: فرُحْتُ إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فأخبرتُه، فقال عبادة رضي الله عنه: كذب[17] أبو محمد؛ سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى العِبَادِ ...))؛ الحديث[18]. 6- عن عَمْرَة بنت عبدالرحمنأنها أخبرت عائشةَ أنعبدالله بن عمر رضي الله عنه يقول: ((إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ))، فقالتعائشة:يغفر اللهلأبي عبدالرحمن، أمَا إنه لم يكذب، ولكنه نسِي أو أخطأ، إنما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديةٍ يُبْكَى عليها، فقالصلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعذَّبُ فِي قَبْرِهَا))[19]. 7- عن محمود بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه أنه حدَّث عن عِتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: كنتُ أُصلِّي لقومي بني سالم...، الحديث، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ))، قال محمود رضي الله عنه: فحدَّثْتُها قومًا فيهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوته التي تُوفِّي فيها، ويزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم، فأنكرها عليَّ أبو أيوب رضي الله عنه، قال: والله ما أظنُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما قُلْتَ قط، فَكَبُر ذلك عليَّ، فجعلتُ للهِ عليَّ إن سلَّمني حتى أقفُلَ من غزوتي، أن أسأل عنها عتبان بن مالك رضي الله عنه إن وجدتُه حيًّا في مسجد قومِه، فقفلتُ: فأهللتُ بحجةٍ أو بعمرة، ثم سِرْتُ حتى قدمتُ المدينة، فأتيتُ بني سالم، فإذا عتبان رضي الله عنه شيخٌ أعمى يُصَلِّي لقومه، فلما سلَّم من الصلاة، سلَّمتُ عليه وأخبرته من أنا، ثم سألتُه عن ذلك الحديث، فحدَّثنيه كما حدَّثنيه أوَّلَ مرة[20]. ففي هذا الحديث: حلفُ أبي أيوب رضي الله عنه ونفيُه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث، وذلك على حسب ظنِّه، ويُمكِن أن يتذرَّع به مُتذرِّعٌ في أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وقد بيَّن العلماء وشرَّاح الحديث وجهَ إنكار أبي أيوب رضي الله عنه على محمود بن الربيع رضي الله عنه؛ وذلك أنه رأى الحديث بحسب علمه مخالفًا لآياتٍ كثيرةٍ من القرآن؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، وأحاديث شهيرة منها: حديث الشفاعة، الذي فيه أن المؤمنين يخرجون من النار[21]، ولم يدُرْ بخَلَدِه التوفيقُ بين النصوص، فظنَّ أن محمود بن الربيع رضي الله عنه أخطأ في نقله، فنفى الحديث وأنكره، بحسب ما غلب على ظنه، ومن السهل أن يُقَال لنفي هذا التعارض المُتَوَهَّم: إن التحريم محمولٌ على تحريم الخلود في النار؛ جمعًا بين النصوص الصحيحة. وعلى هذا: فإذا ورد على لسان أحدِ الصحابة نفيُ ما رواه نظيره، أو قوله في مثيله: كذب فلان، أو نحو هذا من العبارات - فالمراد به أنه أخطأ أو نسي؛ لأن الكذب عند أهل السنة هو: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه عمدًا، أو نسيانًا، أو خطأً، ولكن الإثم يختصُّ بالعامد فقط، وحاشا الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم أن يتعمَّد أحدهم ذلك، رضي الله عنهم وأرضاهم[22]. مِن كل ما مضى يتَّضِحُ لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم بلَغُوا الذروةَ في التثبُّت من الحديث، وأعملوا الرويَّة والأناة في تحمُّل الخبر وأدائه، ولم يحدِّثوا إلا عن ثقةٍ تامةٍ بصحة ما يحدِّثون به، وقد حرَصوا كلَّ الحرص على المحافظة على الحديث، وما تركوا وسيلةً تُبَلِّغُهُم هذه الغاية إلا أخذوا بها، وتحرَّوا أقوم المناهج وأدقَّها في الذبِّ عن السُّنة ودفعِ كل دَغَلٍ عنها[23]. [1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين 1/ 365، رقم: 202. [2] أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب السهو 1/ 324 وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. [3] راجع في هذا الموضوع: المتكلِّمون في الرجال؛ للسخاوي صـ: 93، وذكر من يُعْتَمد قوله في الجرح والتعديل؛ للذهبي صـ: 175. [4] يريد مسجد الكوفة؛ فإن أبا إسحاق والأسود والشعبي كلهم كوفيون. [5] أي رمى الأسود الشعبيَّ بالحصباء؛ إنكارًا منه على هذا الحديث. [6] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، 2/ 1118، رقم: 1480. [7] راجع في هذا الموضوع: كلام ابن القيم في تهذيبه لسنن أبي داود وشرحه لها، 3/ 190 - 193. [8] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/ 15. [9] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل 1/ 515، رقم: 747. [10] المجروحين؛ لابن حبان 1/ 25. [11] أي: لا يستمع ولا يُصغي، ومنه سُمِّيت الأذن؛ راجع: لسان العرب 1/ 105. [12] أصل الصعب والذلول في الإبل، فالصعب: العسر المرغوب عنه، والذلول: السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه، فالمعنى: سلك الناس كل طريقٍ مما يُحمد ويذم، وتركوا المبالاة في القول والعمل؛ راجع: النهاية في غريب الحديث 3/ 28. [13] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها؛ 1/ 13. [14] نَوْف - بفتح النون وسكون الواو - بن فَضَالة - بفتح الفاء والضاد المعجمتين - البِكَالي - بكسر الباء الموحدة وتخفيف الكاف، ابن امرأة كعب، كان إمامًا لأهل دمشق، كذَّب ابنُ عباس رضي الله عنه ما رواه عن أهل الكتاب، مات بعد التسعين؛ راجع: تهذيب التهذيب 8/ 562، رقم: 7493. [15] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب العلم، باب ما يُستحبُّ للعالم إذا سُئِل: أيُّ النَّاس أعلم؟ 1/ 263، رقم: 122، ومسلم في صحيحه بنحوه، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام، 4/ 1847، رقم: 2380. [16] أبو محمد هو: مسعود بن أوس، وقيل: ابن زيد، أنصاري، له صحبة؛ راجع: الإصابة 7/ 303، رقم: 10510. [17] قال ابن حجر: قال ابن حبان: وأهل الحجاز يُطْلِقُون (كذب) في موضع (أخطأ)، قال: ويؤيِّد ذلك إطلاقُ عبادة بن الصامت رضي الله عنه قوله: "كذب أبو محمد" لَمَّا أُخْبِر أنه يقول: "الوتر واجب"؛ فإن أبا محمد لم يقله روايةً، وإنما قاله اجتهادًا، والمجتهد لا يُقَال: إنه كذب؛ إنما يُقال: إنه أخطأ؛ هدي الساري صـ: 448. [18] أخرجه أبو داود في سننه بلفظه، كتاب الصلاة، باب فيمن لم يُوتر 2/ 63، رقم: 1420، وأخرجه بنحوه: النسائي في سننه، كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس 1/ 230، ومالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب الأمر بالوتر صـ: 120، وأحمد في مسنده 16/ 392، رقم: 22592، والدارمي في سننه، كتاب الصلاة، باب في الوتر 1/ 446، رقم: 1577، وابن حبان في صحيحه الإحسان، كتاب الصلاة، باب فضل الصلوات الخمس 3/ 115، رقم: 1728، وابن ماجه في سننه مختصرًا، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها 1/ 448، رقم: 1401، وصحَّحه الألباني؛ انظر: صحيح سنن ابن ماجه 1/ 235، رقم: 1150، وقال ابن عبدالبر: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابت؛ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 10/ 156، قلت: الحديث إسناده صحيح ورجاله ثقات. [19] أخرجه مسلم في صحيحه بلفظه، كتاب الجنائز، باب الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه 2/ 643، رقم: 932، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه بنحوه، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه))، 3/ 181، رقم: 1289. قال الإمام القرطبي: إنكار عائشة رضي الله عنها ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضًا ولم يسمع بعضًا - بعيدٌ؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجهَ للنفي مع إمكان حمله على محملٍ صحيح. وقال جمهور المحدثين بصحة ما رواه عمر وابنه رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن كلام عائشة رضي الله عنها لا يقـدح فيـه، وقد جمع كثيـرٌ من أهـل العلـم بين حديثَي عمـر وابنه عبدالله رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها بضروبٍ من أوجه الجمع؛ راجع: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم؛ لأحمد بن عمر القرطبي، 2/ 581، 582، وفتح الباري 3/ 184 وما بعدها، وتهذيب سنن أبي داود وشرحه؛ لابن قيم الجوزية 4/ 293، وما بعدها. [20] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب التهجُّد، باب صلاة النوافل جماعة 3/ 72، رقم: 1185، والحديث عند مسلم في صحيحه بدون القصة المذكورة، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة 1/ 455، رقم: 33. [21] أخرج البخاري في صحيحه من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ((يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ))؛ كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال 1/ 91، رقم: 22. [22] انظر: فتح الباري 3/ 74، ولمحات من تاريخ السنة؛ للشيخ عبدالفتاح أبو غدة صـ: 72، 73. [23] الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين؛ للدكتور أحمد محرم صـ: 92. |
رد: جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة
جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (14) نقد المرويات أو المتون د. أيمن محمود مهدي أدرك الصحابةُ الكرامُ رضوان الله عليهممكانةَ السُّنة النبوية المطهَّرة، وعرَفوا قدرها، واستوعبوا النصوص الآمرة بتبليغ العلم، وأحَبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، فازدادوا قربًا من النبي صلى الله عليه وسلم، واستماعًا لأحاديثه، وتطبيقًا لها، ونقلوها إلى مَن بعدهم على أحسن ما يكون النقل. والناظر في كتب العلم يُدرِك بوضوح أن للصحابة رضوان الله عليهم جهودًا جبَّارة في خدمة الحديث النبوي، استطاعوا عن طريقِها أن يحفظوا سُنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوها إلى الأجيال التالية غضَّةً طرية، كما أرادها الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم، واستطاعوا أن يصِلوا إلى هذه النتيجة عن طريقِ جهود ضخمة، ولقد أثمرت هذه الجهود حفظَ السُّنة في الصدور، وفهمَها بالعقول، وتدوينها في الكتب، ونشرها وإذاعتَها بين الناس، وتطبيقَها في كل مجالات الحياة. وسأذكرُ أبرز هذه الجهود، التي يتبيَّن من خلالها الجهدُ الذي بذلوه من أجل خدمة السُّنة، والطريقة التي اتَّبعوها من أجل صيانتها والحفاظِ عليها. الرابع عشر: نقد المرويات أو المتون: كان مِن حفظ الله عز وجل لسُّنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم أن مدَّ في أعمار أقطاب الصحابة رضوان الله عليهم؛ كابن عباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمر، وغيرهم رضوان الله عليهم؛ ليكونوا مرجعًا يَهْتدي الناس بهَدْيِهم، فلما وقع الخطأ في الحديث، والتساهلُ في الرواية والنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لجأ التابعون إليهم ليَعرِضوا عليهم هذه الروايات، ويستفتوهم فيما يسمعون من أحاديث، فقام الصحابة رضوان الله عليهم بالنقد والتمحيص للمتون التي يرَونَها متعارضةً مع الأصول الشرعية، والقواعد الثابتة، والقواطع المعلومة من دلائل الكتاب والسُّنة، أو العقل الذي يضبطه الشرع؛ لعلمِهم أنه يستحيل أن يُعارض حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ الكريم، أو يعارض بعضُه بعضًا؛ لاتِّحاد المصدر. وكان استعمالهم لهذه القواعد إنما يكون عند ارتيابهم في صحة الحديث، أو شكِّهم في سلامة مَخرجه؛ لأن الأصل عندهم قَبول الحديث، فإذا قامت أَمارة، أو جاءت قرينةٌ تدفع اليقين في صحة الحديث، عارَضوا هذا المتنَ بما عندهم من القواعد المعلومة. فلم يكونوا يقبَلون حديثًا يُخالِف كتاب الله عز وجل، أو يُناقض ما اشتَهَر من سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يناقض معلومًا من الدين بالضرورة، فإذا وُجِد التعارض الحقيقي واستحال الجمع، كان ذلك راجعًا حتمًا إلى أمرٍ خارجٍ عن النص؛ قد يكون خطأ الراوي، أو نسيانه، أو أنه روى بالمعنى فأخطأ، أو أن للحديث سببًا خاصًّا غفل عنه الراوي، أو أن الراوي اقتصر على رواية جزءٍ من الحديث، وما اقتصر على روايته له تَعلُّقٌ بما تركه، أو نحو ذلك، فطلبوا البيِّنة ممن يُحَدِّث بما لا يعرفون، واحتكموا إلى صاحب الواقعة، أو من يخصُّه الأمر، ورجَعوا إليه ونزلوا على قوله؛ لأنه أعلم بالأمر مِن غيره، وراجَعَ بعضُهم بعضًا، واستثبَتوا من صحة الأحاديث، فما اتفق على روايته الأكثر قدَّموه، وكانوا مُتَجَرِّدين للهِ رب العالَمين، وللحقِّ الذي أرادوا، فلم ينتصر أحدهم لنفسه، ولم يتعصَّب لِمَا ثبت له قطعًا مخالفتُه للحق[1]. ولقد اتَّبع الصحابة رضوان الله عليهم قواعدَ علميَّة في قَبول الأخبار، وإن كانوا لم ينصُّوا على كثيرٍ من تلك القواعد؛ وإنما استنبطها العلماء من منهجهم في قَبول الأخبار، والمقاييس التي استخدموها في نقد متون السُّنة، والأمثلة الدالة على قيام الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الأمر كثيرةٌ جدًّا؛ من أشهرها: 1- عن ابن أبي مُلَيكة قال: كتبتُ إلى ابن عباس رضي الله عنه أسأله أن يكتب لي كتابًا ويُخْفِي عني[2]، فقال: ولدٌ ناصحٌ، أنا أختار له الأمور اختيارًا وأُخْفِي عنه، قال: فدعا بقضاء عليٍّ رضي الله عنه، فجعل يكتب منه أشياء، ويمُرُّ به الشيءُ، فيقول: والله ما قضى بهذا عليٌّ رضي الله عنه، إلا أن يكون ضلَّ[3]. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل ناقشوا الروايات التي يرونَها تُعارض نصًّا عندهم، أو فهمًا لديهم دون حياءٍ أو خجل: 2- عن مجاهد قال: دخلتُ أنا وعروةُ بن الزبير المسجدَ، فإذا عبدالله بن عمر رضي الله عنه جالسٌ إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، فقال له عروة: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رضي الله عنه: أرْبَعًا، إحداهن في رجب، فكرِهنا أنْ نَرُدَّ عليه، قال: وسمِعنا استِنان عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين في الحُجْرَةِ، فقال عروة: يا أماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمرات، إحداهنَّ في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجبٍ قط[4]. 3- روى ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ المَيِّتَ يُعذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))، قال ابن عباس: فلمَّا مات عمرذكرتُ ذلك لعائشة رضي الله عنها، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليُعَذِّبُ المؤمنَ ببكاء أهله عليه، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))، وقالت: حسبُكُم القرآن: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [فاطر: 18][5]. 4- عن عمرة بنت عبدالرحمن أنها أخبرت عائشة أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: ((إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ))، فقالتعائشة:يغفرُ اللهلأبي عبدالرحمن، أمَا إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديةٍ يُبْكَى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعذَّبُ فِي قَبْرِهَا))[6]، فالسيدة عائشة رضي الله عنها ظنَّت وقوعَ عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما في الخطأ، الذي ليسا معصُومَيْن منه. ففي رواية عند مسلم عن القاسم بن محمد قال: لَمَّا بلغ عائشةَ رضي الله عنها قولُ عمر وابنه رضي الله عنهما، قالت: إنَّكم لَتُحَدِّثُوني عن غير كاذِبَيْنِ ولا مُكَذَّبَيْنِ، ولكن السمع يُخطئ[7]. وقد راجع الصحابة رضوان الله عليهم بعضُهم بعضًا فيما أَشكَل عليهم فهمُه، ونزلوا على الصواب بعد المدارسة والتمحيص، فكان هدفهم الوصولَ إلى الصواب دون تعصُّب: 1- عن أبي بكر بن عبدالرحمن قال: سمعتُ أبا هريرة رضي الله عنه يقُصُّ، يقول في قصصه: مَن أدركه الفجر جُنُبًا فلا يَصُمْ، فذكرتُ ذلك لعبدالرحمن بن الحارث (لأبيه)، فأنكر ذلك، فانطلق عبدالرحمن وانطلقتُ معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبدالرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصبِح جُنُبًا من غير حُلُم ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخَلْنا على مروان، فذكر ذلك له عبدالرحمن، فقال مروان: عزمتُ عليك إلا ما ذهبتَ إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فرددتَ عليه ما يقول، قال: فجِئْنا أبا هريرة رضي الله عنه، وأبو بكرٍ حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبدالرحمن، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم ردَّ أبو هريرة رضي الله عنه ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس رضي الله عنه، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعتُ ذلك من الفضل رضي الله عنه، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فرجع أبو هريرة رضي الله عنه عمَّا كان يقول في ذلك[8]. في هذا الحديث إشارةٌ بيِّنة إلى منهج نقد الأحاديث عند الصحابة رضوان الله عليهم، فعبدالرحمن لَمَّا أنكر ما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه، ولم يكن لديه ما يعارضه به، بادر إلى الاستثبات، فاستَوْثَق من أمهات المؤمنين؛ لأنهن أعلم الصحابة بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الخاصة، وإنما رجع أبو هريرة رضي الله عنه إلى حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وبادَر بالتصديق، ورجع عن قوله؛ لأنهما أعلم بذلك كما يقول، وهذا يدُلُّ على إنصاف أبي هريرة رضي الله عنه. 2- عن نافع قال: قيل لابن عمر رضي الله عنه: إن أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الأَجْرِ))، فقال ابن عمر رضي الله عنه: أكْثَرَ علينا أبو هريرة رضي الله عنه! فبعث إلى عائشة رضي الله عنها فسألها، فصدَّقت أبا هريرة رضي الله عنه، فقال ابن عمر رضي الله عنه: لقد فرَّطنا في قراريط كثيرة[9]. قال الإمام النووي: معناه أنه خاف لكثرة روايته أنه اشتبه عليه الأمر في ذلك، واختلط عليه حديثٌ بحديثٍ، لا أنه نسَبَه إلى رواية ما لم يسمع؛ لأن مرتبة ابن عمر رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه أجلُّ من هذا[10]. 3- عن طاوس قال: كنتُ مع ابن عباس رضي الله عنه، إذ قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: تفتي أن تَصْدُرَ الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إمَّا لا، فسَلْ فلانة الأنصارية، هل أمَرَها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنه يضحك وهو يقول: ما أراكَ إلا قد صدقتَ[11]. وبهذه الأمثلة - وغيرها كثير - يتَّضِحُ لنا: أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هم أول مَن وضع أصول قواعد علم الجرح والتعديل خاصة، وعلم مصطلح الحديث عامة، ثم جاء مَن بعدهم فسار على خطاهم، واقتفى أثرهم، حتى استقرَّت قواعدُ هذا العلم. [1] راجع، كتاب: اهتمام المحدثين بالسُّنة؛ للدكتور الخشوعي الخشوعي، صـ: 69. [2] يُخفي بالخاء المعجمة؛ أي: يكتم عني أشياء ولا يكتبها، إذا كان عليه فيها مقال من الشيع المختلفة وأهل الفتن، فإنه إذا كتبها ظهرت، وإذا ظهرت خولف فيها، وحصل فيها قال وقيل، مع أنها ليست مما يلزم بيانها لابن أبي مليكة، وإن لزم فهو ممكنٌ بالمشافهة دون المكاتبة، وقولُه: "ولدٌ ناصحٌ" مُشْعِرٌ بذلك؛ راجع: شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 82. [3] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء، والاحتياط في تحملها، 1/ 13. [4] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب الحج، باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ 3/ 701، رقم: 1755، ومسلم في صحيحه بنحوه، كتاب الحج، باب بيان عدد عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، 2/ 917، رقم: 1255. [5] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويعذب الميِّت ببعض بكاء أهله عليه))، 3/ 180، رقم: 1285، 1286. [6] أخرجه مسلم في صحيحه بلفظه، كتاب الجنائز، باب الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه 2/ 643، رقم: 932، وأخرجه البخاري في صحيحه بنحوه، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه))، 3/ 181، رقم: 1289. [7] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه، 2/ 641، رقم: 929. [8] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 779، رقم: 1109. [9] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها 2/ 653، رقم: 945. [10] شرح صحيح مسلم؛ للنووي 7/ 15، 16. [11] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، 2/ 963، رقم: 1328. |
رد: جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة
جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (15) د. أيمن محمود مهدي أدرك الصحابةُ الكرامُ رضوان الله عليهممكانةَ السُّنة النبوية المطهَّرة، وعرَفوا قدرها، واستوعبوا النصوص الآمِرة بتبليغ العلم، وأحَبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، فازدادوا قربًا من النبي صلى الله عليه وسلم، واستماعًا لأحاديثه، وتطبيقًا لها، ونقلوها إلى مَن بعدهم على أحسن ما يكون النقل. والناظر في كتب العلم يُدرِك بوضوح أن للصحابة رضوان الله عليهم جهودًا جبَّارة في خدمة الحديث النبوي، استطاعوا عن طريقِها أن يحفظوا سُنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوها إلى الأجيال التالية غضَّةً طرية، كما أرادها الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم، واستطاعوا أن يصِلوا إلى هذه النتيجة عن طريقِ جهود ضخمة، ولقد أثمرت هذه الجهود حفظَ السُّنة في الصدور، وفهمَها بالعقول، وتدوينها في الكتب، ونشرها وإذاعتَها بين الناس، وتطبيقَها في كل مجالات الحياة. وسأذكرُ أبرز هذه الجهود، التي يتبيَّن من خلالها الجهدُ الذي بذلوه من أجل خدمة السُّنة، والطريقة التي اتَّبعوها من أجل صيانتها والحفاظِ عليها. الخامس عشر كتابة الحديث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، ولقد تنافَس الصحابة رضوان الله عليهم في حفظِه في الصدور، وكتابته على الرقاع والحجارة والجِلد، وغير ذلك، حتى جُمِع في مصحفٍ واحد بعد ذلك. ورغم أهمية السُّنة، وحرص الصحابة رضوان الله عليهم على حفظها وصيانتها، فإنها لم تُدوَّن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تدوينًا رسميًّا كما دُوِّن القرآن، بل صحَّ في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن كتابتِها؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تكتُبوا عني، ومَن كتب عني غيرَ القرآن، فليَمْحُه، وحدِّثوا عني ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوَّأ مقعده من النار))[1]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه، فلم يأذن لهم)[2]، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن كتابة الحديث في هذا الوقت؛ لعدة أسباب؛ من أهمها: 1- الخوف من اختلاط القرآن بالسُّنة، فمِن الممكن أن تختلط بعضُ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم الموجَزة الحكيمة بالقرآن، سهوًا مِن غير عمد، وذلك خطر على القرآن، ويفتح بابَ الشك فيه، خاصة أنهما مِن الممكن أن يُكتبَا في صحيفة واحدة. 2- خشية انشغالهم بالسُّنن عن القرآن، ولم يحفظوه بعدُ. 3- قلَّة عدد الكتَّاب، والاحتياج إليهم لكتابة القرآن. وقد جاءت أحاديثُ كثيرةٌ تثبت جواز الكتابة، بل ووقوعها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيام بعض الصحابة رضوان الله عليهم بذلك؛ ومِن أشهر هذه الأحاديث: 1- عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهقال: كنتُ أكتب كل شيء أسمعُه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتبُ كل شيء تسمعه، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اكتُبْ، فوالَّذي نفسي بيده ما يخرُج منه إلا حقٌّ))[3]. 2- عن أبي جُحيفة قال: قلتُ لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتابٌ؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهمٌ أُعطِيَه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفـة، قال: قلتُ: فما في هذه الصحيفـة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتَل مسلمٌ بكافر[4]. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: ما مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو رضي الله عنه؛فإنه كان يكتب ولا أكتب[5]. 4- وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولًا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له حلق، قال: فأخرَج منه كتابًا، قال: فقال عبدالله: بينما نحن حولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب؛ إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدينتين تفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولًا))؛ يعني قسطنطينيَّة"[6]. 5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَمَّا فَتَح الله على رسولِه صلى الله عليه وسلم مكةَ، قام في الناسِ فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الله حبس عن مكةَ الفيل، وسلَّط عليها رسولَه والمؤمنين...))، الحديث، فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اكتبوا لأبي شاه))، قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمِعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]. 6- عن ابن عباس رضي الله عنهقال: لَمَّا اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعُه، قال: ((ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده))، قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتابُ الله حسبنا، فاختَلَفوا، وكثر اللغط، قال صلى الله عليه وسلم: ((قُوموا عنِّي، ولا ينبغي عندي التنازع))، فخرج ابن عباس رضي الله عنهيقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه[8]. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد جاء عن الصحابة ما يفيد كتابتهم للحديث، أو سماحَهم لمن يكتب عنهم، بل أمرهم بالكتابة أحيانًا؛ ومن ذلك: 1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قيِّدوا العلم بالكتاب[9]. ولا يعارض هذا ما جاء عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه- إن صح - أنه أراد أن يكتب السُّنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفِق عمر رضي الله عنهيستخير الله عز وجل فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله عز وجل له، فقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم، كتبوا كتبًا فأكَبوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا[10]. لأن الذي نُقل عن عمر رضي الله عنهمحمولٌ على: أولًا: خوفه أن يُتَّخَذ مع القرآن كتاب يضاهَى به. ثانيًا: خوفه أن يتَّكِل الكاتب على ما كتب، فلا يحفظ[11]، فتضعفَ مَلَكة الحفظ التي تميَّز بها العرب. ثالثًا: خوفه أن تقع هذه الكتب في أيدي مَن لا يفهمها، أو يضعها في غير موضعها، ويؤكد هذا ما جاء عن أبي نضرة قال: قُلْنا لأبي سعيد رضي الله عنه: لو كتبتُم لنا، فإنا لا نحفظ؟ قال: لا نكتبكم، ولا نجعلُها مصاحف، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيِّكم[12]. 2- وعن معن قال: أخرَج إليَّ عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود كتابًا، وحلف لي أنه خطُّ أبيه رضي الله عنه بيده[13]. 3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنهقال: قيِّدوا العلم بالكتاب[14]. 4- وعن سعيد بن جُبير قال: كنت أكتب عند ابن عباس رضي الله عنهفي صحيفة، وأكتب في نعلي[15]. وقال أيضًا: كنت أجلس إلى ابن عباس رضي الله عنه فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ، ثم أقلب نعليَّ، فأكتب في ظهورهما[16]. فالنهي عن الكتابة كان لأسبابٍ خاصة، ولظروف وملابسات خاصة، فلما زالت أسبابُ النهي، انعقَد الإجماع على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على مَن خشي عليه النسيان ممن يتعيَّن عليه تبليغ العلم[17]. وهناك تعارضٌ واضح بين الأحاديث الناهية عن كتابة الحديث، والأحاديث التي تبيحها، وقد حاول العلماء الترجيح أو التأليف والتوفيق بينها بعدَّة أوجه: 1- قال بعض العلماء: النهي متقدِّم والإذن متأخِّر؛ فالأول منسوخ والثاني ناسخ، واستدلوا على ذلك بأن حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا لأبي شاه متأخِّرٌ؛ لأنه كان عام الفتح سنة ثمانٍ من الهجرة، وكذلك إخبار أبي هريرة رضي الله عنهأن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهكان يكتب - متأخرٌ؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنهقدم المدينة سنة سبع من الهجرة، ونقل ذلك بعد إسلامه. 2- وقيل: النهي خاصٌّ بمَن خُشِي منه الاتِّكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك. 3- وقيل: النهي خاص بوقت نزول القرآن؛ خشية اختلاطه بالسُّنة، والإذن في غير ذلك. 4- وقيل: النهي خاص بكتابة القرآن والسُّنة في صحيفة واحدة، وجائز فيما دون ذلك. 5- النهي خاص بمَن لا يؤمن عليه الغلط والخلط بين القرآن والسُّنة، أما الإذن، فهو خاص بمن أمن عليه ذلك[18]. 5- ومِن الأقوال الوجيهة والجديرة بالاحترام في هذا الموضوع ما قاله الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله قال: "وأعتقد أنه ليس هناك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، إذا فهِمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي كما كان يُدوَّن القرآن، وأما الإذن، فهو سماح بتدوين نصوص من السُّنة لظروف وملابسات خاصة، أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السُّنة لأنفسهم، والتأمل في نص حديث النهي قد يؤيِّد هذا الفهمَ؛ إذ جاء عامًّا مخاطبًا فيه الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا"[19]. قال ابن الصلاح: اختلف الصدر الأول رضوان الله عليهم في كتابة الحديث، فمنهم مَن كره كتابة الحديث والعلم وأمَروا بحفظه، ومنهم مَن أجاز ذلك، ثم ذكر بعض مَن رُوي عنه كراهة الكتابة، ومَن روي عنه إباحة الكتابة، ثم قال: ولعله صلى الله عليه وسلم أذِن في الكتابة عنه لمَن خُشِي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه مَن وثق بحفظه مخافةَ الاتِّكال على الكتاب، أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم، وأذن في كتابته حين أمن من ذلك. ثم قال: ثم إنه زال ذلك الخلافُ، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة[20]. وقال الذهبي: انعقد الإجماعبعد اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم على الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة، والظاهر أن النهي كان أولًا؛ لتتوفر هممهم على القرآن الكريم وحده، وليمتاز القرآن الكريم بالكتابة عما سواه من السنن النبوية، فيؤمَن اللبس، فلما زال المحذور واللبس، ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس، أذن في كتابة العلم[21]. قال ابن القيم: قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخِّر، فيكون ناسخًا لحديث النهي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الفتح: ((اكتبوا لأبي شاه))؛ يعني: خطبته التي سأل أبو شاه كتابتَها، وأذِن لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهفي الكتابة، وحديثه متأخِّر عن النهي؛ لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسمِّيها الصادقة، ولو كان النهي عن الكتابة متأخرًا، لمحاها عبدالله رضي الله عنه؛ لأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم بمَحْوِ ما كُتِب عنه غير القرآن، فلما لم يَمْحُها وأثبتها، دلَّ على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح. ثم قال: وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابةِ غير القرآن في أول الإسلام؛ لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما عُلِم القرآن وتميَّز، وأُفرِد بالضبط والحفظ، وأُمنت عليه مفسدة الاختلاط، أذِن في الكتابة، وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة مخصوصة، وهي: أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة؛ خشية الالتباس، وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقًا، وكان بعضهم يُرخِّص فيها حتى يحفظ، فإذا حفِظ محاها، وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السُّنة إلا أقل القليل[22]. وهكذا اتَّضح لنا مِن خلال العرض السابق ما بذله الصحابة رضوان الله عليهم من جهود ضخمة، بُغْيةَ الحفاظ على السُّنة النبوية المطهرة، وحفظًا لها من الضياع، رضي الله عنهم وأرضاهم، وألحقنا بهم في الفردوس الأعلى بمنِّه وكرمه، آمين. [1] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب التثبُّت في الحديث، وحكم كتابة العلم 4 / 2298، رقم: 3004. [2] أخرجه الدارمي بلفظه في مقدمة سننه، باب مَن لم ير كتابة الحديث 1 / 131، رقم: 451، وأخرجه بنحوه: الترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في كراهية كتابة العلم 4/ 303، رقم: 2674، وأورده الألباني في صحيح الترمذي 2 / 339، رقم: 2147، قلتُ: إسناد الدارمي صحيح ورجاله ثقات، وإسناد الترمذي صحيح لغيره، فيه سفيان بن وكيع، صدوق؛ تقريب التهذيب 1/ 217، رقم: 2530، وقد تابعه في الرواية عن ابن عيينة أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهلالي، وهو ثقة مأمون؛ تقريب التهذيب 1/ 48، رقم: 448. [3] أخرجه أبو داود في سننه بلفظه، كتاب العلم، باب في كتاب العلم 3/ 317، رقم: 3646، وأخرجه بنحوه: الدارمي في مقدمة سننه، باب مَن رخص في كتابة العلم 1/ 136، رقم: 484، وأحمد في مسنده 6/ 68، رقم: 6510، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، والحاكم في المستدرك، كتاب العلم 1/ 105 وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، أصل في نسخ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، صـ: 1/ 99، رقم: 303، قلت: إسناده صحيح ورجاله ثقات. [4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 246، رقم: 111. [5] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 249، رقم: 113. [6] أخرجه أحمد في مسنده بلفظه 6/ 202، رقم: 6645 وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل، وهو ثقة؛ مجمع الزوائد 6/ 219، ورواه بنحوه: الدارمي في مقدمة سننه، باب مَن رخص في كتابة العلم 1/ 137، رقم: 486، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد 4/ 225، رقم: 19546، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة 1/ 8. [7] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة؟ 5/ 104، رقم: 2434. [8] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 251، رقم: 114، ومسلم في صحيحه بنحوه، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 3/ 1256، رقم: 1637. [9] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب من رخص في كتابة العلم 1/ 138، رقم: 497، والخطيب في تقييد العلم صـ: 87، 88، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله صـ: 102، رقم: 308، والحاكم في المستدرك، كتاب العلم 1/ 106 وصححه ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الأدب، باب من رخص في كتاب العلم 5/ 314، رقم: 26418، قلت: إسناده ضعيف؛ فيه عبدالملك بن عبدالله بن أبي سفيان، ذكره ابن حبان في الثقات ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وفيه ابن جريج، وهو مدلس، وقد صرح بالسماع عند الرامهرمزي؛ المحدث الفاصل صـ: 358. [10] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب الجامع، باب كتاب العلم 11/ 257، رقم: 20484، والخطيب البغدادي في تقييد العلم صـ: 49، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، صـ: 90، رقم: 272، وهو ضعيف؛ لأن عروة لم يصح له سماع من عمر رضي الله عنه؛ تهذيب التهذيب 5/ 548، وقد أخرجه الخطيب في تقييد العلم، صـ: 49 عن معمر عن الزهري عن عروة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه، فاتصل وصح سنده، والله أعلم. [11] راجع: جامع بيان العلم وفضله صـ: 96. [12] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب من لم ير كتابة الحديث 1/ 133، رقم: 471، والخطيب في تقييد العلم صـ: 36، 37، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، صـ: 89، رقم: 269، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الأدب، باب مَن كان يكره كتاب العلم 5/ 315، رقم: 26431، وإسناده صحيح، ورجاله ثقات. [13] أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله صـ: 102، رقم: 310، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الأدب، باب مَن رخص في كتاب العلم 5/ 314، رقم: 26420، قلت: إسناده صحيح ورجاله ثقات. [14] أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب العلم 1/ 106 وصححه، ووافقه الذهبي، وتقييد العلم للخطيب البغدادي صـ: 26، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله صـ: 103، رقم: 620، قلت: إسناده ضعيف؛ مداره على عبدالله بن المثنى الأنصاري، وهو صدوق كثير الغلط؛ تقريب التهذيب 1/ 310، رقم: 3664. [15] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه بلفظه، باب مَن رخص في كتابة العلم 1/ 138، رقم: 500، والخطيب في تقييد العلم بنحوه صـ: 102، قلت: إسناده حسن؛ فيه جعفر بن أبي المغيرة، صدوق يهم، ومدار الحديث عليه؛ تقريب التهذيب 1/ 91، رقم: 1003. [16] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب مَن رخص في كتابة العلم 1/ 139، رقم: 501، والخطيب في تقييد العلم صـ: 102، قلت: إسناده كسابقه. [17] راجع: فتح الباري 1/ 246، علوم الحديث؛ لابن الصلاح صـ: 181، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث؛ لابن كثير صـ: 176. [18] راجع: فتح الباري 1/ 251، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي صـ: 61. [19] السنة ومكانتها في التشريع صـ: 61. [20] علوم الحديث؛ لابن الصلاح صـ: 181 - 183. [21] سير أعلام النبلاء 3/ 80. [22] مختصر سنن أبي داود؛ للمنذري، ومعه معالم السنن للخطابي ومعه تهذيب الإمام ابن قيم الجوزية، 5/ 245. |
الساعة الآن : 01:20 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour