ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:14 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور)
(وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أوجد الظلمات والنور أيضاً، هل تستطيع الخليقة أن توجد ظلمة؟ ما تستطيع. هل تستطيع أن توجد نوراً؟ ما تستطيع. من جعل الظلمات والنور؟ والحياة البشرية متوقفة على هذا، لولا الظلمة والنور لما استطاعت البشرية أن تعيش وتوجد، والظلمات والنور من الأجرام المحسوسة، وهناك ظلمات الجهل والكفر والظلم، ظلمات أشد حلوكة وظلاماً من ظلام الليل، وهناك أيضاً نور أشد من نور الشمس وأقوى وأصفى كثيراً، هو نور العلم والإيمان. فمن جعل الظلمات والنور؟ هل ثم من يرفع يده ويقول: فلان الفلاني، أو بنو فلان، أو بنو فلان؟ فاحمد يا ألله نفسك، فأنت أهل الحمد والثناء، ونحن نحمدك يا ربنا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1].
فالسموات السبع وما فيهن والأرضون السبع وما فيهن من مخلوقات الله عز وجل الله خالقها وموجدها، هذه الأجرام المحسوسة، وظلمات البر والبحر، الظلمات في الليل والنهار، والأنوار التي نعيش عليها في أيامنا من أوجدها؟ الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، ومع ذلك فالذين كفروا يعدلون بربهم، يا للعجب؟! يا للغرابة؟! مع هذا يعدلون بربهم أوثاناً وأصناماً، مخلوقات هابطة ساقطة، ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] به غيره من المخلوقات، هذا يعبد الملائكة، وهذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد النار، وهذا يعبد الظلام، هذا يعبد عبد القادر ، هذا يعبد عيسى، هذا يعبد أمه، لأنهم كفروا فلهذا عدلوا غير الله بالله، وأقبلوا على غير الله يتضرعون ويبكون ويسألون ويتمسحون، معرضين عن الله عز وجل، حالهم تستدعي التعجب لنا، ولهذا جيء بـ(ثم) للفصل والبعد: ( الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يعدلون به غيره، عدل بفلان فلان، عدل بفلانة امرأته الأخرى، فالذين أقبلوا على غير الله يركعون، يسجدون، يسبحون، يغنون، يصلون، يدعون، يتقربون بذبيحة بكذا ولو بشمعة يوقدونها، والله لقد عدلوا بربهم سواه، وسبب ذلك ظلمة الكفر، لو كانوا مؤمنين حق الإيمان، صادقين في إيمانهم لمعرفتهم بربهم وجلاله وعظمته وكماله، ولمعرفتهم بأن المخلوقات كلها مفتقرة إلى الله محتاجة إليه، لولا الله ما كانت ولن تكون، هؤلاء المؤمنون لا يعدلون بربهم، لكن ظلمة الكفر، وظلمة الجهل هي التي تجعل الإنسان يغمض عينيه عن خالق السموات والأرض وهذه المخلوقات، ويفتح عينيه في حجرة أو شجرة يستغيث بها ويدعوها، سواء كانت من الملائكة أو من البشر والرسل، أما عبدوا عيسى عليه السلام؟ أما استُشهِد يوم القيامة: ( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116]، معنى هذا أنهم اتخذوه إلهاً، عبدوه، أعطوه قلوبهم، ونياتهم، وأقوالهم، وعكفوا على عبادته.
الجهل وأثره على المسلمين في إيجاد مظاهر الشرك والبعد عن الهداية القرآنية
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا عبد الله! ما معنى يعدلون؟ يعدلون به غيره. بدل أن يطرح بين يديه يطرح تحت صنم، بدل أن يرفع يديه إلى ربه يستغيث به يرفع يديه يستغيث بـعبد القادر ، بـمبروك ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي البدوي ، يا عيدروس ، يا فلان يا فلان! هذا الجهل عم ديار الإسلام أكثر من ثمانمائة عام، وهذه اليقظة الجديدة لها عوامل وأسباب، وإلا فالقرية الواحدة تجد فيها كذا معبوداً يُعبد من دون الله، القرية الواحدة تجد فيها كذا طريقة، تجانيون وقادريون وعلوانيون وفلانيون، والقرية صغيرة، أصاب الأمة ظلام لا حد له، وعلة ذلك أن الثالوث الأسود -المجوس، واليهود، والنصارى- عرفوا سر حياة هذه الأمة وسر هدايتها، ألا وإنه القرآن العظيم، كتاب الله النور الإلهي، فصرفوهم عن الاجتماع عليه من تلاوته وتدبره، وفهم مراد الله وما يريد لهم في كتابه، وجعلوه موقوفاً على الموتى، لا يجتمع اثنان على قراءة القرآن إلا على الميت، من إندونيسيا إلى موريتانيا، حتى مدينة الرسول ومكة بلد الله، قبل هذه الدولة دولة عبد العزيز كانوا كغيرهم من العالم الإسلامي، لا يجتمعون على قراءة القرآن إلا ليلة الميت، وإياك أن تقول: قال الله، فإنك تكفَّر، وقالوا القاعدة: (تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر)، فتقول: قال سيدي فلان، قال الشيخ، قال كذا، أما قال الله فلا! فكمموا هذه الأمة، وألجموها وأسكتوها، فانتظمها الجهل من الشرق إلى الغرب، وظهرت جاهلية أفظع من جاهلية الأولين، ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي كانوا يكفرونه ويقولون: صاحب مذهب خامسي أيام الظلام العاتي، والآن خفَّ هذا، يقول رحمه الله تعالى: المشركون إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه سبب إسلامه أنه لما فتح رسول الله مكة بإذن الله هرب رؤساء الطواغيت وشردوا، ومن بينهم عكرمة هرب إلى البحر، ما يريد أن يرى وجه محمد بعد يومه، وصل إلى ميناء من الموانئ، فوجد سفينة تريد أن تقلع، وسفن ذاك الوقت بلا بنزين، فركب، وتعمقت السفينة في البحر كيلو متر أو كذا، قال ربان السفينة أو ملاحها: يا معشر الركاب! الحمولة ثقيلة، فانظروا ماذا تصنعون أو نرجع. قالوا: نرجع.
سبحان الله! ربان السفينة غير ربانها مع يونس، سفينة يونس عليه السلام قال ربانها: يا إخواننا! الحمولة ثقيلة، ولا بد من إسقاط واحد، من منكم يتبرع ويحيي الآخرين فيلقي بنفسه في البحر، وينجو إخوانه. فما استطاع واحد أن يتبرع، قالوا: إذاً: القرعة، فمن خرجت القرعة عليه نرميه بالقوة، فاقترعوا، فوقعت على يونس بن متى، ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ )[الصافات:141]، جمعوا ثيابه عليه ودفعوا به في البحر، فأمر الله سمكة من عظام السمك ففتحت فاها فدخل يجري فيها، لا مضغته ولا آذته، ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )[الصافات:142]، لأنه هرب من الدعوة، ما واصلها، ما كان من حقه أن يخرج من بلاد نينوى، هذه حادثة.
والذي نريده شاهداً لما نقول ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، قال: يا للعجب: مشركو العرب كانوا يوحدون الله في الشدة، ويشركون به في الرخاء، أما مشركو اليوم ففي الرخاء والشدة على حد سواء!
ومن ذلك خبر عكرمة ، فـعكرمة لما فتح الله على رسوله مكة هرب حتى لا يواجه الرسول ويؤمن به أو يذل، فوجد سفينة تريد أن تقلع فركب، لما ركب السفينة واضطربت بموج البحر قال الربان: يا قوم! ادعوا الله، ارفعوا أيديكم لينجيكم من الغرق، فعكرمة تفطَّن فقال: سبحان الله! أنا هربت من التوحيد، والآن يلحقني حتى في البحر! ارجع بي إلى الشاطئ حتى أذهب إلى محمد وأسلم، أنا ما هربت إلا من كلمة: لا إله إلا الله، والآن في حال البحر تقول: ادعوا الله ولا تدعوا غيره لينجيكم؟ فقال: والله لترجعن بي إلى الساحل. ورجع وأتى الرسول وبكى، وشهد إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال تعالى: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )[العنكبوت:65]، أيُّ حال أحسن: حال المشركين الأولين، أم حال المشركين المحمديين المنسوبين إلى الإسلام؟ الأولون على الأقل في حال الشدة يفزعون إلى الله وحده، هذا ما هو كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، هذا -والله- كلام الله: ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )[العنكبوت:65]، لماذا دعوه؟ لأن السفينة تضطرب والأمواج تكاد تغرقها، ففزعوا إلى الله عز وجل فأنجاهم، فإذا نجاهم إلى البر رجعوا إلى الشرك والتبرك بالأحجار.
ذكر قصة الحجيج المستغيثين بغير الله تعالى لاضطراب سفينتهم
ورحم الله الشيخ رشيد رضا صاحب المنار، حقاً إن تفسير المنار منار هداية، يذكر أن شيخه محمد عبده قال: كنا أيام الدولة العثمانية، وكانت سفينة كبيرة تجمع الحجاج، تبدأ من طرابلس في الغرب، إلى الإسكندرية إلى اللاذقية أو أحد هذه الموانئ على البحر الأبيض، وتحمل الحجاج من كل إقليم خمسة أو عشرة في ذاك الزمان.قال: فلما مشت السفينة وتعرضت لهزة شديدة من الأمواج أخذ الحجاج يستغيثون: يا سيدي عبد القادر ، يا رسول الله، يا فاطمة ، يا حسين ، يا بدوي ! أنجنا.. أنقذنا، نحن بكم وبالله! وكان بينهم رجل، فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك.
كأنكم حاضرون، وجربنا هذا، أنا قلت لكم: كان سائق يسوق بي من أهل العلم، فالسيارة خرجت بنا عن الطريق، وإذا به: يا رسول الله.. يا رسول الله! ولو هلك لكان إلى جهنم، فلا عجب في هذا أبداً.
أما قلت لكم -والله يشهد- الرجل يذكر الله بالألف وأكثر: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، ثم حين تأخذه سنة من نوم فتسقط المسبحة من يده إذ به يقول: يا رسول الله! أو يأتي بـعبد القادر ، فما معنى: لا إله إلا الله إذاً، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وعند الحاجة: يا سيدي فلان!
هذا هو معنى ظلمة الجهل، فالإيمان ليس مجرد أن تقول: أنا مؤمن، أو تكون ابن مؤمنين، الإيمان أن تسأل عن الله وتعرفه بأسمائه وصفاته، وجلاله وكماله، وعظمته ورحمته، فتمتلئ نفسك وقلبك بحبه والخوف منه، ثم حينئذ إذا قلت: الله لا تبالي بأي مخلوق من المخلوقات، هذا هو الإيمان وهذا هو المؤمن، لا مجرد مؤمن ما عرف من هو الله، ولا كيف الله، فتأتي أدنى محنة فينسى الله ويفزع إلى غير الله عز وجل.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، يا للعجب! يا للغرابة! ماذا نقول؟ هذا كلام الله، لكن نلفت النظر إلى العلة، قال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[الأنعام:1]، عرفت السبب أم لا؟ ظلمة الكفر هي التي رمت بهم في هذه المزبلة، فأصبحوا يعدلون بالرب العظيم مخلوقات لا تبدي ولا تعيد، ولا تحيي ولا تميت، ولا أوجدت ذرة من الكون، يسوونها بالله فيستغيثون بها وينادونها، كما نقول: يا الله! ويتقربون إليها بالقرب التي لا تكون إلا لله، من الذبح، والنذر، والحلف، وما إلى ذلك.
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون)
ثم قال تعالى ( هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره ( الَّذِي خَلَقَكُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم، أبيضكم كأسودكم، أولكم كآخركم، ( خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، إذ خلق أبانا آدم من مادة الطين، تراب مبلل حتى يتغير ويصبح كالحمأة، ومنه صنع الله عز وجل بيديه آدم عليه السلام، ونفخ فيه من روحه، وخلق أنثاه حواء من ضلعه الأيسر، ونحن تناسلنا من آبائنا وأمهاتنا، أصلنا من طين، والفواكه.. الحبوب.. الثمار.. كلها من الطين، دماؤنا من الطين، أعصابنا وعظامنا مكونة من الطين. هذا الذي خلقنا من الطين نغمض أعيننا عنه، ولا نسأل عنه، ونلتفت إلى غيره ونعبده بالتمجيد والتعظيم والطاعة!
المراد بالأجلين في الآية الكريمة
(خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، هذه أعظم من الأولى، قضى أجل الموت، هل استطاع الحزب الشيوعي لما شاب لينين وبعده ستالين هل استطاعوا أن يحتفظوا بحياة هذا الزعيم؟ وزعماء العرب الذين قدسناهم ورفعناهم إلى السماء حتى ضلوا هل استطعنا أن نحفظ حياتهم، ينقلونهم إلى روسيا للعلاج وما نفع.(ثُمَّ قَضَى )[الأنعام:2]، حكم وقدر، ( أَجَلًا )[الأنعام:2] ألا وهو أجل كل إنسان ذكر أو أنثى، محدد -والله- باللحظة، بأقل من الدقيقة والثانية، هل استطاعت البشرية أن تنقض هذا الحكم لو كان لها علم أو قدرة، أو لها آلهة تستطيع أن ترد على الله هذا القضاء وتحيي من تشاء، هل تم هذا أو وجد؟ ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، هذا قضاء الله وحكمه، قضى أجلاً وأجل آخر مسمى عنده، وهو أجل نهاية هذه الحياة.
آجالنا كما تشاهدون: توفي فلان، توفيت فلانة، آجال محدودة باللحظة، وقبل أن يخلق الله السموات والأرض كتب في كتاب المقادير.
والأجلُ الآخر معروف لله تعالى ولم يطلع عليه أحد سواه، أجل نهاية الحياة وبداية الحياة الآخرة، هذا لا يعرفه إلا الله، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً )[الأعراف:187]، هذا الأجل الثاني، ( قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، ولو كان إنسان يستحي لذاب حياء من الله، ثم أنتم يا بني آدم تشكون في ربكم، وفي لقائه وقدرته، وفي رسله وشرعه وكتابه، أين يذهب بعقولكم؟
والامتراء: الشك والعصيان، فكل من عبد غير الله شك في الله وارتاب، كل من عصى الله وخرج عن طاعته وفسق عن أمره ما آمن الإيمان الحق، ما عرف الله معرفة تجلب حبه في قلبه والرهبة منه في نفسه فيخافه ولا يعصيه.
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون)

(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ
)[الأنعام:3] المعبود في السموات كما هو المعبود في الأرض، إذ قال تعالى من سورة الزخرف: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، وهنا يقول: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، سواء كنتم في السموات، في الجبال، في السحب، أو في أعماق الأرض، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ )[الأنعام:3] أي: ما تخفونه من كلام، وما تجهرون به، وفوق ذلك: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3].(وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من الكلمة، أو بعض الكلمة، من الحركة والخطوة ودونها، كل ما نكسبه بأسماعنا، بأبصارنا، بألسنتنا، بأيدينا، بفروجنا، ببطوننا، إذ هذا هو الكسب، كل ذلك معلوم عند الله عز وجل، ويجزي به، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، لكن رحمته قائمة على مبدأ عدله، وتعذيبه كذلك.
فيا معشر المؤمنين! هيا نقبل على ربنا صادقين، نذكره، نمجده، نحمده، نعمل على طاعتنا له، حتى يتوفانا وهو راض عنا، اللهم حقق لنا ذلك، اللهم توفنا وأنت راض عنا، إنك ولينا وولي المؤمنين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.








ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:17 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (2)
الحلقة (369)
تفسير سورة المائدة


النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر، وتظهر بشريته في حزنه وتألمه حين يعرض عنه المشركون ويكذبونه، والله عز وجل يعزيه ويواسيه بإخباره أنهم إنما يكذبون بآيات الله ورسالاته، وحالهم هذا شبيه بحال من أنكروا الرسالات السابقة، وكذبوا الأنبياء الذين جاءوا من قبل، فما عليه إلا الصبر على ما يلاقي في سبيل دعوته؛ لأنه لا يمكنه أنه يأتيهم بغير ما آتاه الله من الآيات والبراهين، ولو شاء الله لهم الهداية جميعاً لهداهم، ولكنها حكمة بالغة منه سبحانه بأن يكون من عباده المؤمن والكافر، وهو الحكيم الخبير.
تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي علمنا أنها زفت بسبعين ألف ملك من ملائكة الله، ولهم زجل وتسبيح، وعلمنا أنها تقرر تلك الأصول الثلاثة:
أولاً: توحيد الله عز وجل بألا يعبد في الملكوت سواه.
ثانياً: تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته.
ثالثاً: تقرير مبدأ البعث الآخر أو الحياة الآخرة، البعث والجزاء.
فهذه السورة على جلالتها تقرر هذه الأصول الثلاثة، وقد علمنا أن العبد إذا عرف الله ثم عبده وحده حيي وأصبح حياً يسمع ويبصر ويعطي ويأخذ، فإذا آمن بالله رباً لا رب غيره وإلهاً لا إله سواه، فكيف يعبده؟ لا بد من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فآمن بالرسالة، ولِمَ يعبده؟ يعبده لأن يكرمه يوم يلقاه، وينزله في منازل الأبرار، فهو -إذاً- مؤمن بهذه القواعد أو الأصول الثلاثة، وهنا هذه الآيات الثلاث قبل الشروع في تفسيرها نسمع تلاوتها من أبي بكر المدني تلميذ شيخكم فتح الله عليه وعليكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:33-35].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، وفي قراءة سبعية: (ليُحزِنُك) من: أحزنه يحزنه، وقراءة (لَيحزُنَك) من: حزنه يحزنه.
من القائل: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]؟ إنه الله تعالى، والله إنه الله، إذ هذا كلامه في كتابه، من المخاطب بهذا؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قَدْ نَعْلَمُ )[الأنعام:33]، وعزتنا وجلالنا ( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، ومعنى يحزنك: يصيبك بالحزن والغم والكرب، لماذا؟ لأنهم يقولون: كذاب، ساحر، شاعر، مجنون، مفتر، ويأتون بالأباطيل والترهات وكلها يضفونها عليك، فنحن نعلم منك هذا.
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )[الأنعام:33]، أي: يدخلونك في دائرة الحزن والغم والكرب، ونحن أرحم بك منك بنفسك، فاصبر يا رسولنا! وهذا يتفق -أيضاً- مع كل مؤمن يدعو إلى الله ليعبد وحده، فيجد من يسخر منه ويهزأ به، ويكذبه ويعترض طريقه، إذاً: فليذكر هذا فيجد فيه الأسوة والقدوة فيتحمل ويصبر على دعوة الله.
تكذيب الكفار ليس لشخص النبي وإنما لما جاء به من دين
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، وقرئ: ( فإنهم لا يَكْذِبونك )، والكل صحيح، ( لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33] عندما يردون عليك ويقولون كذا وكذا هم في نفس الوقت يعلمون أنك ذو الصدق وأنك أصدق الخلق، وأنك لا تكذب، وما جربوا عليك كذبة واحدة قط، فإذا اعترضك المعترضون وأخذوا يطعنون ويصفونك بتلك الصفات الباطلة فلا تفهم أنهم يعتقدون ذلك، بل يعلمون أنك رجل الصدق، وكبارهم كالأخنس بن شريق وأبو جهل وأبو سفيان كلهم يعرفون أنه صادق فيما يقول، وحاشاه أن يكذب، ولكن الدفاع عن المصلحة عن الموقف عن الشرف عن المركز أصحابه يقولون الباطل، لكن -يا عبد الله- لا تحزن ولا تكرب إذا هم وصفوك بما أنت بريء منه؛ لأنهم لا يعتقدون ذلك فيك أبداً، وإنما حملهم على ذلك أن يبقوا على ألهتهم وعبادتهم وعاداتهم، وأن تبقى الأمة مجتمعة عليهم، فيدفعون بهذا القول، وهذا فيه تسلية لرسول الله وتعزية له، فإذا لم يعزه الله ويصبره فكيف سيصبر؟ كيف سيثبت وهو فرد ضده العالم بأسره.
عماية الظالمين عن الحق مكابرة وعناداً
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ )[الأنعام:33]، ماذا؟ ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33]، هذه صفتهم، هذه شنشنتهم وعادتهم، الظالمون يكذبون، ولكن الظالمين يكذبون بآيات الله، ومنها أنت يا رسول الله، أنت آية من آيات الله، يكذبون بآيات الله المقررة للتوحيد والداعية إليه، الآيات المبطلة للشرك والمحاربة له، ظلمهم يحملهم على التكذيب، وهذه أيضاً سنة بشرية، فالظالم الذي يعيش على غير صراط الله المستقيم لا بد أن يجحد وينكر ويكذب، ديدنه: لا أعترف، لا أقول بهذا، هذا باطل، هذا كذا، دفاعاً عما يحميه ويذود عنه، هل تتبدل هذه السنة؟ لا تتبدل.إذا أصبح المرء ظالماً يضع الأمور في غير موضعها، وظلم نفسه وظلم غيره؛ فهذا الذي يدافع عن الباطل ويكذب بكل آية، لو شاهد الملائكة تنزل لقال: ما شاهدنا. كما قال تعالى في سورة الحجر: ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، رحلة إلى الملكوت الأعلى هذا صاعد وهذا هابط، نزهة يوم كامل، ففي المساء لن يعترفوا، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:14-15]، فقط أصاب أبصارنا السكر فهي فاقدة الشعور فظننا أننا نصعد إلى السماء ونهبط، أو لقالوا: سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا )[الحجر:14] طول النهار ( فِيهِ يَعْرُجُونَ )[الحجر:14]، والذي يعرج يهبط، ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ )[الحجر:15]، من أخبر بهذا؟ إنه خالق قلوبهم وغارز غرائزهم وطبائعهم، وإلى يوم القيامة، هذا شأن المنكرين للحق المحاربين له ولأهله، لا ينفعهم آي ولا ينفعهم معجزة، ما يريدون أن يتبعوا.
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )[الأنعام:33]، هذا يسليك، ما اتهموك بالكذب أبداً، بل يعرفون أنك صادق أمين، ما جربوا الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل النبوة، ويعترفون بهذا ويقررونه حتى أبو جهل ، ولكن العلة أن الظالمين يجحدون بآيات الله؛ لأنها تتنافى مع ظلمهم وما هم عليه.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ...)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، هذه هي التعزية والتسلية وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يثبت ويصبر؛ لأنه يعاني شدائد وآلاماً ما عرفناها، وأنت طول عمرك لو يكذبك أحد يوماً من الأيام ويتهمك تكرب وتحزن.(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:34]، كذب نوح، كذب هود، كذب صالح، كذب شعيب، كذب موسى، كذب هارون، كذب إبراهيم، رسل كذبوا من قبلك، ( فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا )[الأنعام:34]، فاصبر أنت يا رسولنا كما صبر إخوانك الذين سبقوك من الرسل، اصبر على دعوة الله لا تتركها أو تتنكر لها، أو تصبح تدعو يوماً وتغيب آخر تطلب إجازة وراحة، بل صبر متواصل.
ذكر خبر نبي الله يونس عليه السلام
وقد أعلمنا الله عن نبيه ذي النون، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) من باب إكرام الرسول له، فيونس عليه السلام ما أطاق وما اصطبر فترك القوم وهرب، وشاء الله أن يحدث له حادث في البحر، ثم يعود فيجدهم كلهم مؤمنين، ولا يوجد على سطح الأرض أمة آمنت كلها إلا قوم يونس، والقصة كما هي في سورة: ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا )[الصافات:1]، حين تألم وضاق وما أطاق، هذا يسب وهذا يكذب وهذا يشتم، يستجيب واحد وينكر مائة، فهرب إلى ساحل البحر -البحر الأحمر هذا أو الأسود- ووجد سفينة مبحرة أوشكت أن تبحر فركب، لما ركب السفينة صاح ربانها وقال: الحمولة ثقيلة ولا بد من غرق السفينة أو تسقطون واحد منها تخففون حملها. من يتطوع.. من يتبرع لإنقاذ الركاب؟ ما وجدوا أحداً، فاضطروا إلى الاستهام -أي: الاقتراع- فاستعملوا القرعة، فمن خرجت القرعة عليه كان هو الذي يلقى في البحر وتسلم السفينة بركابها، فاقترعوا فجاءت على يونس: ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )[الصافات:141-144] إلى يوم القيامة، ولكن كان في ظلمات البحر وبطن الحوت يسبح: لا إله إلا أنت سبحانك إنك كنت من الظالمين، كما قال تعالى: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:87-88].وورد أن من أصابه غم أو هم أو كرب ففزع إلى الله بهذا الذكر فرج الله ما به، لكن يصبر، ما هي ساعة أو ليلة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما استجاب الله له ولفظه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة اليقطين الدباء؛ لأن ورقها ناعم من جهة، ومن جهة أخرى لا يقع الذباب عليها، وهو قد نضج لحمه من الحرارة في بطن الحوت، فبقي حتى تماثل للشفاء وهو تحت تلك الشجرة، ومن أين يشرب ويأكل؟ سخر الله له وعلاً من الوعول تأتي من الجبل فتقرب منه وتدنو منه فيرتضع ثديها بفمه حتى تماثل للشفاء وعاد وإذا بأهل القرية كلهم مؤمنين، أسلم أهل القرية كلهم.
والشاهد عندنا ماذا؟ ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، السخرية التي تلقاها نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما سخرت أمة برسولها كما سخرت أمة نوح بنوح، ومن أراد أن يرى فرعون يسخر من موسى فليقرأ القرآن.
أهمية الصبر في حياة الأنبياء والدعاة
الشاهد عندنا أن الله تعالى يوجه رسوله أن: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فقد كذبوا وأوذوا ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، إذاً: فاصبر أنت فلا بد أن يأتي نصرنا، وهكذا دعاة الخير والحق إذا صبروا لا بد أن ينتصروا.
أخشى أن يفهم هؤلاء المكفرون للمسلمين والمدعون للجهاد أنهم الذين سينتصرون، والله لا ينتصرون، ما هم بأولياء الله، ما هم بدعاة إلى الله، بل دعاة الفتنة والضلال.
فقول ربنا جل ذكره وهو يخاطب مصطفاه وحبيبه: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، ما هو بتكذيب فقط، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة لما سجد جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، والسلا: ما يخرج من بطن البهيمة عند الولادة، حيث نتجت ناقة عند الصفا وبقي سلاها، فجاء بالسلا ووضعه بين كتفي رسول الله وهو ساجد، هل هناك أعظم من هذا الأذى؟ أما في أحد فقد كسرت رباعيته وشج وجهه ودخل خوذتا المغفر في وجنتيه.
والشاهد عندنا: ( وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، اسمع! ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، كلمات الله التي فيها الوعد والوعيد هل تتبدل؟ إذا وعد بالنصر تحقق النصر، وإذا أوعد بالعذاب نزل العذاب.

يتبع



ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:35 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
النصر نتيجة المسلك الصحيح في الدعوة لا مسلك العنف
أقول: إن الدعاة الصالحين البررة دعاة الحق الذين يسلكون مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الحق والهدى، لا بالاغتيالات والسب والشتم والتكفير، هؤلاء لو صبروا ينصرهم الله، لهذا الوعد الإلهي: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا )[الأنعام:34]، إلى متى؟ ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34]، وإن ارتبت أو شككت فالله يقول: ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:34]، إذا قضى الله تعالى أمراً فلن تستطيع دولة ولا أمة ولا شخص أن يمحوه ويستبدله بآخر، إذا قدر أمراً ينفذ كما أراد الله، وقد قضى أن ينصر أولياءه، ما وجد أولياء لله في صدق وحق يدعون إلى الله وإن أوذوا وإن كذبوا إلا نصرهم الله، ولا نشك في نصرة الله لهم، لكن الآن أين هؤلاء؟ أين هؤلاء الدعاة؟أما جماعة التكفير والتفجير فهؤلاء أبرأ إلى الله من أن يكونوا أولياء الله أو يكونوا مع الله حتى ينصرهم، ولن ينتصروا، هل فهمتم هذا التعقيب أم لا؟
هم يقولون: كذبت رسل قبلنا وأوذوا حتى نصرهم الله ولا مبدل لكلمات الله، وسينصرنا الله، ونقول: الذي يقول هذا القول هو الذي يدعو إلى الله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول في مكة مكث ثلاث عشرة سنة، فهل أمر صلى الله عليه وسلم أن يغتال واحداً من المشركين؟
لقد أوذي وأوذي أصحابه، وكان يمر بهم وهم يعذبون ويقول: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )، فلِمَ لم يوعز إلى حمزة البطل أو عمر أن: اغتل أبا جهل وأرحنا منه؟ فأين الاغتيالات؟
ولما جاء إلى المدينة ماذا فعل؟ صالح اليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكتب عقداً عجباً لو تقرءون وتعرفون ما فيه، لكن لما نقضت كل قبيلة عقدها استحلت العقاب والعذاب، فأول من نقض بنو قينقاع فأجلاهم، وما قتلهم ولا صلبهم ولا سلب أموالهم، أجلاهم وأبعدهم عن المدينة، فالتحقوا بديار الكفر.
وبنو النضير كذلك هموا بقتله وتآمروا عليه وأرادوا أن يقتلوه، وحاصروهم وانقادوا واستسلموا وأخذوا أموالهم وما يملكون والتحقوا بالشام.
وبنو قريظة لما انضموا إلى المحاربين قتلهم، لكن ما قتل أطفالهم ولا قتل نساءهم، وإنما قتل مقاتلتهم من رجالهم، فهذا دين الله يشوهونه ويدوسونه بنعالهم ويقولون: هذا دين الله.
معنى قوله تعالى: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)
(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، ولقد جاءك -يا رسولنا- من نبأ المرسلين السابقين، قص عليه قصة موسى وهارون، فموسى دعا إلى الله أربعين عاماً، ونوح دعا تسعمائة وخمسين عاماً، وإبراهيم دعا ثمانين أو ومائة وعشرين سنة، وهكذا جاء من نبئهم، وكذلك يوسف عليه السلام، كل الأنبياء صبروا، فحين تجيئك أنباؤهم تحملك على الصبر والثبات كما صبروا وثبتوا. (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، جاءه بأي واسطة .. بأي طريق؟ بطريق القرآن والوحي الإلهي، مفرقاً في سور القرآن هنا وهناك.
تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ...)
وقوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، هل هذا فيه عتاب للرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا. بل فيه حمل له على زيادة الصبر والثبات، وإن كان كبر عليك إعراض قومك وما استطعته وما أطقته، إعراضهم عن دينك وعما جئت به، يسمعون كلمة لا إله إلا الله فيلوون رءوسهم ويلتفتون إلى غيرك، إذا كبر عليك هذا الإعراض وما أطقته لضعفك لبشريتك؛ فماذا تصنع؟(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، أي: سرباً تحت الأرض وتغوص فيه وتبحث عن آية من الآيات، ( أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، درجة بعد أخرى؛ حتى تصل إلى الملكوت الأعلى وتأتيهم بآية فافعل، لكن ما هو من شأنك وما ذلك في قدرتك ولا تستطيع، إذاً: ما عليك إلا الصبر. أرأيتم هذه المواجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذه لو قيلت لواحد منا لذاب؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يعاني في مكة ما يعاني.
وإن استطعت أن تبتغي تطلب لك نفقاً في الأرض سرباً من الأسراب فتأتي بآية، أو تتخذ سلماً إلى السماء فتأتيهم بآية فافعل، ولكن ما هو شأنك هذا ولا تستطيعه ولا تقدر عليه، فلم يبق -إذاً- إلا التحمل والصبر على الأذى، لكن وعد الله آت ونصرته حقيقية، فقد مكث ثلاث عشرة سنة، أضف إليها سنة في المدينة، وفي السنة الخامسة عشرة هزمهم في بدر، قتل فيها سبعون طاغوتاً من طواغيت المشركين وعلى رأسهم أبو جهل .
هكذا يقول تعالى له: ( وَإِنْ كَانَ )[الأنعام:35]من باب الفرض ( كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35]، وما أطقته، وما المراد من إعراضهم؟
إعطاؤه عرضهم، أي: لا يسمعون كلامه، ولا ينظرون إليه، إما أن يدخلوا أصابعهم في آذانهم، إما أن يستغشوا ثيابهم، إما أن يقولوا: اتركوه فإنه يقول الباطل، فهل هذا يؤلم أم لا يؤلم، أنا مقبل عليكم، أدعوكم إلى ربكم، إلى سعادتكم وأنتم إما تضحكون وإما تقولون: دعوه يصيح، سبحان الله! هذا يتكرر مع البشرية إلى يوم القيامة، والله لا يوجد داع بحق إلا وسيلحقه هذا الأذى، وما عليه إلا أن يصبر فينصره الله، فالعاقبة له، وإلى الآن ما ظهرت جماعة تدعو وتصبر، ما رأينا.
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35]، النفق: هو السرب في الأرض، والجمع: أنفاق.
(أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ )[الأنعام:35]، قالوا: السلم مأخوذ من السلامة؛ لأن الهابط لا يسلم، لكن الصاعد يسلم.
(فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:35]، ما المراد من الآية؟ ما هي آية قرآنية، الآية هنا هي المعجزة، كأن ينزل ملك الموت ويميت عشرة أو عشرين منهم، أو ينشق القمر، أو يخرج ميت من المقبرة، أو ينزل الذهب من السماء وهم يشاهدون، فالآية: هي الخارقة للعادة التي ما جرت العادة بها، وهي المعجزة؛ من أجل أن يؤمنوا، وقد أعلمه الله أنهم لا يؤمنون ولو رأوا كل آية؛ لأن الله كتب عذابهم في جهنم.
معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، فلهذا لا يكلفك الله ولا تكلف نفسك بما هو غير مطاق ولا مستطاع، لا تبحث في الأرض ولا في السماء، فوض الأمر إلى الله، فالله لو شاء هدايتهم لهداهم، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وقد فعل؛ فما هي إلا ثلاث عشرة سنة وأضف إليها ثماني وإذا مكة كلها أنوار لله، ليس هناك من يقول: يا عزى ولا يا لات، كلهم يعبدون الله عز وجل، وقبل أن يقبض والجزيرة كلها على: لا إله إلا الله، فهل جاء النصر أم لا؟ ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، وهم الآن مجتمعون على الباطل، والهدى متفرقون عنه معرضون، لكن لو أراد الله لصرف قلوبهم عن الباطل إلى الحق، ولأصبح كل من يسمع لا إله إلا الله يجيب، لو شاء تعالى ذلك، لكن لم لا يشاء؟ لقد عرفنا أن الله حكيم، أوجد عالم الشقاء وعالم السعادة، النار والجنة، الجنة فوقنا والنار تحتنا، أوجد هذين العالمين وأوجد لكل إنسي وجني منزلاً فيه، منزل في الجنة وآخر في النار، هذا ملكه وتدبيره، فهل إذا قمت تبني في دارك يقال لك: لماذا؟ أو تغرس فيه غرس يقال: لا تفعل هذا؟ فهكذا أراد الله هذا، فأعد الجنة والنار، ثم وضع القانون الذي يدخل الجنة والذي يدخل النار، هذا القانون أن يبعث الرسول في أمة من الأمم، في جماعة من الجماعات، يدعوهم إلى الله، يحببهم إلى ربهم، يعرفهم به، فإن استجابوا وأقبلوا وتابوا وطهروا فمنازلهم دار السلام، وإن استكبروا وأعرضوا وأدبروا وحاربوا فمآلهم دار البوار جهنم، أليس كذلك؟
إذاً: فلو شاء لهدى الناس أجمعين، لكن إذا هداهم فمن سيدخل النار؟ ولماذا أوجدهاسبحانه؟! لا بد من وجود الكافرين، فلو شاء الله لهداهم أجمعين، لكن تلك الهداية القسرية القهرية بأن يدخل الإيمان في قلوبهم لا تنفعهم، لكن لا بد من هداية يطلبونها، ويجرون وراءها؛ حتى يظفروا بها ويحصلون عليها.
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، ومعنى هذا: خفف من كربك وحزنك وألمك يا رسولنا! وهذه الآيات ما نزلت إلا للتخفيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الآيات الثلاث ما فيها إلا معنى التخفيف عن رسول الله؛ لما يعاني من الكرب والحزن والألم.
معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الجاهلين)
وقوله أخيراً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، هذه صفعة على وجوهنا، هل الجهل محمود أم مذموم؟ والجواب: مذموم، لو كان محموداً لما قال الله لرسوله: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، ولقال: كن من الجاهلين، قال: إياك أن تكون من الجاهلين، وكل كافر جاهل، كل مشرك جاهل، كل ظالم فاسق فاجر -والله- جاهل، إذ لو علم لما فسق ولا فجر، ولما كذب ولما كفر. إذاً: هذه الآية تذم الجهل، فهيا نبتعد عنه، ووالله العظيم! للكروب والآلام والمصائب التي تنزل بالمسلمين اليوم وقبل اليوم منذ مئات السنين سببها الجهل، فهل قيل: العالم الفلاني عالم بحر وهو فاجر؟ والعالم الفلاني يقتل الناس؟ والعالم الفلاني يعذب امرأته؟ والله لأعلمنا أتقانا، قرر هذا الله في كتابه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، والرسول قال: ( أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له )، لكن العلم خلاف الجهل، فالعلم بم يكون، بصنع البقلاوة والحلاوة؟
يكون بمعرفة الله معرفة يقينية، وبما يحب الله وبما يكره الله، وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، هذا العلم هو الذي تتم به سعادة الفرد والجماعة، أما الجهل فيقول الله لرسوله عنه: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35] الحمقى الذين فقدوا الحلم والبصيرة، الذين فقدوا المعرفة والطريق إلى الله، لا تكن منهم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات فتأملوا، وقد قلت لكم: إنها نزلت من أجل ماذا؟ تسلية رسول الله وتعزيته حتى يخف عليه الحمل الذي هو عليه.(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[الأنعام:33-34]، وقد يأتيك نصرنا إذ وعدك الله به، ( وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ )[الأنعام:34]، قصص تضمنها القرآن الكريم فيها العزاء وفيها الحمل على الصبر، فيها ما فيها من عجائب الدعوة، جاءته صورة القصص بما فيها، الشعراء، النمل، ثم قال له: ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ )[الأنعام:35] يا رسولنا وما أطقت وما استطعت، فماذا تفعل؟ ( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ )[الأنعام:35] فافعل، وهل يستطيع؟ وحين يحفر في الأرض ألف كيلو هل يجد ما يريد؟ أيجد آية، أخرجها؟ ولو غاص في الأرض وجاءهم بعجيبة ما صدقوا، ما كانوا مستعدين لأن يؤمنوا، أو سلماً في السماء، فتصعد وتأتي بعجيبة من السماء ولا يؤمنون؛ لأنهم ظالمون وعارفون أنك على حق، لكن يريدون البقاء على حالهم ومركزهم وديانتهم.
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ )[الأنعام:34-35]، فافعل ولكن لا تستطيع، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35].

إذاً: فلا تكرب ولا تحزن، وادع فقط، وبَيِّن، استجاب من استجاب فما أنت بمسئول، وهذه هي دعوة الله إلى اليوم، فإذا رأيت شخصاً على وسطه برنيطة فقل له: يا عبد الله! ما ينبغي هذا. فإن نزعها حمدت الله، وإن قال: ماذا فيها؟ فاسكت، وكذلك تقول: يا أمة الله! غطي وجهك، لا ترفعي صوتك، فإن سكنت ورضيت فالحمد لله، وإن قالت: ماذا في ذلك؟ فاسكت؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل، واذكر قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى )[الأنعام:35]، إذاً: ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
هداية هذه الآيات نسمعكموها، أربع هدايات تأملوا فيها: [ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ]، فالرسول بشر، فكيف ثبتت بشريته؟ لأنه يكرب ويحزن، فهذا بشر أم ملك؟ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ )[الأنعام:33]، يقع في الحزن.
[ أولاً: ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك ]، كما يحزن الناس لذلك.
[ ثانياً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر ]، وصبر ثلاثاً وعشرين سنة وجاء النصر.
[ ثالثاً: بيان سنة الله في الأمم السابقة ]، فالتكذيب والعناد والوقوف في وجه الدعوة هذا شأن الأمم السابقة، ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )[الأنعام:34].
[ رابعاً: إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين ]، ( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[الأنعام:35]، وعلى كل مؤمن ومؤمنة ألا يكون مع الجاهلين في فسقهم وظلمهم وفجورهم وخطئهم وباطلهم، وبهذا يجب أن نجتمع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا وبيوت ربنا؛ حتى نخرج من هذه المحنة فتنة الجهل والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:37 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (3)
الحلقة (370)
تفسير سورة المائدة


يرسل الله عز وجل الرسل وينزل معهم الكتب لتبليغ شرعه سبحانه للناس، لكن سنة الله التي لا تتبدل أنه لا يقبل هذه الدعوة كل أحد، ولا يذعن لها كل المدعوين، فمن كان قلبه حياً قبلها وانتفع بها، أما من كان أصم لا يسمع وأبكم لا ينطق فإنما يعيش في ظلمات الكفر وحاله كحال الميت الذي لا ينتفع بدعوة ولا ذكرى، وهؤلاء وأولئك داخلون تحت مشيئة الله، فمن أراد له الله الهداية اهتدى، ومن أراد له الضلالة هلك في مهاوي الردى.

تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن نستمع إلى تجويد الآيات الثلاث التي ندرسها إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:36-39].
الاستجابة للحق لا يكون إلا ممن يسمعون
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، إي والله، إنما يستجيب لدعوة الحق ويقبلها ويأخذ بها الذين يسمعون، أما الذين لا يسمعون فأولئك الذين يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين يستغشون ثيابهم حتى لا يسمعوا، أولئك الذين إذا سمعوا صوت الحق أو كلمته أدبروا وأعرضوا، ما يريدون أن يسمعوا، فهؤلاء لا يستجيبون، فلا تأسف يا رسولنا ولا تكرب ولا تحزن عليهم.(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ )[الأنعام:36]، والسماع بواسطة هذه الحاسة أو الآلة: الأذنين، ولو شاء الله ما سمع أحد، ولكن وهبنا الله هذه الآلة التي نسمع بها، فإذا أراد المرء أن يسمع سمع، ولكن إذا أبى أن يسمع كره كلام المتكلم؛ لتعارضه مع مصالحه وفوائده، فهذا لا يستجيب أبداً، فادع أنت بأعلى صوتك: أيها الناس! توبوا إلى الله إلى ربكم. فالذين يسمعون النداء لأنهم متهيئون وليس هناك موانع ولا حجب تحجبهم سيستجيبون لك، والذين لا يسمعون لإعراضهم وكبرهم وعدم رغبتهم في الدعوة الإسلامية، هؤلاء لا يستجيبون، فلا تتألم ولا تحزن ولا تكرب.
فحصر الله تعالى استجابة دعوة الداعي فيمن يسمعونه، أما الذين فقدوا حاسة السمع بمكرهم وكفرهم وخداعهم وباطلهم؛ فهؤلاء لا يستجيبون ولو ظللت يومك كاملاً تقول: أيها الناس! أنقذوا أنفسكم، زكوا أرواحكم، هذبوا عقولكم، لا يستجيبون.
تشبيه حال المعرضين عن سماع الحق بالموتى
فبهذا خفف الله تعالى عن رسوله ألم النفس الذي يلحقه من إعراض المتكبرين واستكبار المشركين: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، فالذين لا يسمعون في الحقيقة هم الموتى، ضع ميتاً بين يديك وناده: يا فلان ثلاثاً أو سبع مرات فإنه لا يستجيب؛ لأنه ميت.والذين أعرضوا عن الحق وتعمدوا الإعراض؛ لأنه تنافى مع ما هم عليه من الباطل والشر شأنهم شأن الموتى، فهم موتى وسوف يبعثهم الله ويحاسبهم ويجازيهم.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36]، أي: يرجعهم الملائكة ويقودونهم إلى ساحة فصل القضاء، فالجملة -كما بينت لكم- فيها تخفيف عن رسول الله، وعن كل مؤمن يدعو إلى الله ويعارض، ولا يسمع له ولا يستجاب لدعوته، فليذكر هذا ليخف ألمه عن نفسه، إذ الذين يستجيبون هم أهل السمع المتهيئون لأن يسمعوا الحق والخير ويقبلوه، والموتى لا يستجيبون، ومصيرهم أن يحشرهم الله إليه ثم يجمعوا إلى ساحة فصل القضاء ليلقوا جزاءهم، فاتركهم لذلك.
وقوله تعالى: ( وَالْمَوْتَى )[الأنعام:36] فيه لطيفة: هي أن الذي لا يسمع الحق ويعرض عنه كالميت؛ لأن الميت -والله- لا يسمع أبداً، أما الحي فالمفروض أنه يسمع، فإذا كان لا يسمع وأنت تصرخ في وجهه وتدعوه إلى الحق والخير والفضيلة وهو مكب على الباطل والرذيلة فإنه ميت.
(وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ )[الأنعام:36] من قبورهم، ثم يساقون ويجمعون في ساحة فصل القضاء ليجزيهم الله عز وجل على كفرهم وشركهم وعنادهم، هكذا يسلي الله تعالى رسوله، ويبين للمؤمنين هذه الحقيقة، فالذي لا يسمع نداء الحق والخير اعتبره من الأموات؛ إذ لو كان حياً لكان يسمع، واتركه إلى الله فسوف يحشره الله عز وجل في ساحة فصل القضاء ويرجع إليه ويجزيه بما هو أهل له، هذا معنى قوله تعالى: ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )[الأنعام:36].
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه...)
ثم قال تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، من القائل هنا؟ المشركون، أبو جهل وعقبة بن أبي معيط والأخنس بن شريق ، أولئك الطغاة العتاة، ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، وبذلك نؤمن ونتبعه ونمشي وراءه، أما إذا لم يعط الآية وما شاهدناها فلا نؤمن، والمراد من الآية كأن يحيي لهم ميتاً، أو أن يروا الملائكة ينزلون وهم يشاهدونهم، أو يأتيهم بخارقة من خوارق العادات التي تعجز الناس عادة، وبذلك يقولون: نؤمن، والله يعلم أنهم لا يؤمنون.(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، بمعنى: هلا أنزل عليه آية من ربه، كما كانت تنزل على أنبياء ورسل من قبله. ‏
معنى قوله تعالى: (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون)
فعلم الله تعالى رسوله الجواب كيف يرد عليهم، فقال لهم: ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ولو كانت كوكباً من السماء ينزل إلى الأرض، أو الملائكة يشاهدونهم، أو ينادي أهل القبور فيأتون أحياء يمشون، وقد طالبوا بانشقاق القمر فانشق القمر.(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، وهذا هو السر والحكمة في عدم استجابة الله لهم، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، لو كانوا يعلمون لعلموا أولاً: أنهم إذا نزلت الآية ولم يؤمنوا يهلكون ويدمرون كما هي سنة الله، فلو كانوا يعلمون الحكمة في عدم إنزال الآية ما طالبوا بها، ولكن جهلهم هو الذي حملهم على أن يطالبوا بهذه المطالب.
ثانياً: لو كانوا يعلمون الحكمة والسر في عدم إنزال الآية لعلموا أن الله عز وجل يبعث رسوله وينزل عليه كتابه ويأمره بالبيان والبلاغة والدعوة إليه، فمن استجاب فزكى نفسه وطيبها وطهرها بالإيمان والعمل الصالح فاز بولاية الله وكرامته، وأسكنه الله فسيح جناته، ومن استكبر وآثر الدنيا والشهوة وأعرض اسودت نفسه وخبثت روحه وكان من أهل الجحيم والعياذ بالله.
لكن هم لا يعلمون هذا، ولهذا قال تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، كلهم لا يعلمون، ولكن من باب الاحتراز قال: (أكثرهم)، فقد يكون بينهم من يعلم شيئاً من هذا.
عظيم جهل المشركين في طلب الآيات الكونية وإعراضهم عن الآيات القرآنية
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، هم يؤمنون بالله رب محمد والعالمين ورب البيت العتيق، وهذه المطالبة كانت ليصروا على كفرهم وشركهم وعنادهم، وحتى يصرفوا الجهلاء والعوام والأتباع عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هذا الكلام يقوله بعضهم لبعض؛ حتى لا يؤمن أحدهم ولا يستجيب، فقالوا: ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ )[الأنعام:37]، لو كان كما يدعي أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله؛ فهلا أنزل عليه آية تدل على ما يقول؟ وسبحان الله! إن الآيات القرآنية النازلة أعظم من الآيات المطلوبة؛ لأن الآية المطلوبة أن تنشق السماء أو ينزل مطر أو ينطق ميت ثم تنتهي بعد ساعة، لكن آيات القرآن خالدة، كيف يكون لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يتكلم بهذا الكلام، ويتلقى هذه العلوم والمعارف؟ إنها ليست من عنده، بل من الله.فكيف لا يكون نبياً ورسولاً؟ كيف يطلب الحجة على أنه رسول الله وهو يتكلم بكلام والله يأمره ويقول: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ) [الأنعام:109]، ولكن من كتب الله شقوتهم وضلالهم لا يستجيبون، بل يعاندون ويكابرون حتى يموتوا على كفرهم وعنادهم وشركهم.
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ )[الأنعام:37] يا رسولنا، قل لهم: ( إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً )[الأنعام:37]، ما هو بعاجز أبداً، الذي رفع السموات فوق بعضها، الذي أوجدهم وأطعمهم وسقاهم وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً هل هو عاجز عن أن ينزل آية؟ وآياته في الكون كله ظاهرة، ليرفعوا رءوسهم إلى السماء فيشاهدوا الشمس والقمر والكواكب، ولكنه الجهل: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )[الأنعام:37]، فأكثر المعاندين والمجادلين والمخاصمين والمحافظين على الباطل وعلى الفساد والشر أكثرهم -والله- لا يعلمون العلم الحقيقي، العلم الذي هو أسرار وحكم الله عز وجل في خلقه وعباده.
تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ...)
ثم قال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، هذا خبر من أخبار الله تعالى، يقول عز وجل: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38]، والدابة كل ما دب دبيباً على الأرض، أسرع في مشيه أو تباطأ، يدخل في هذا الإنسان والحيوانات التي تمشي على الأرض.(وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ )[الأنعام:38] في الملكوت الأعلى في السموات، في الكون كله ( بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] احتراس؛ لأن العرب يقولون: طار فلان ويطير فلان مبالغة في سرعته، فأعلمهم أن الطائر الذي يطير بجناحيه، ويدخل فيه أنواع الطير على اختلافها، وهي أنواع وأمم، انظر إلى العصافير وانظر إلى الغربان والبازات، كل هذه الطائرة وكل هذه الدابة على الأرض ( أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، والأمم: جمع أمة، والأمة ما يجمعها وقت واحد، أو يجمعها لسان واحد، أو يجمعها إقليم وأرض ومكان واحد، يقال فيه: أمة.

فارفعوا رءوسكم وانظروا إلى الكون، افتحوا أعينكم وأبصاركم في هذا الخلق العظيم، ومن ثم تستحون أن تقولوا: لو أنزل الله عليه آية وهذه الآيات كلها بين أيديكم.
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:38] تدب وتمشي من إنسان أو حيوان، ( وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38].

يتبع



ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:37 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
من تكون لها الرسالة من أمم الأرض
وهنا سؤال: هل يرسل الله تعالى إلى تلك الأمم رسلاً يدعونهم إليه ويعرفونهم به ليعبدوه وحده؟ أما الإنس فهذا أمر مقطوع به، وهذا رسول الله وهذا كتاب الله، أما الجن فلم يرسل الله تعالى إليهم رسلاً بمعجزات، ولكن يرسل إليهم من ينذرونهم، وهم النذر، يفهمون عن عيسى وموسى أو نوح ويبلغون إخوانهم من الجن، ويعلمونهم ما يعمله الآدميون بواسطة نبيهم أو رسولهم، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آخر سورة الأحقاف: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأحقاف:29-32].
أقول: يجب أن نعلم أن عالم الإنس يرسل الله تعالى فيهم الرسل، وقد بلغت الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، والأنبياء عشرات الآلاف، والجن عالم وأمة من أمم خلق الله، هؤلاء يأتيهم الحديث والنبأ والخبر والعلم من طريق الرسول الذي يرسله الله في البشر، إخوانهم ينقلون عنه ويبلغونهم.
وأما الدواب -الطير في السماء، والحيتان في الماء، وباقي الحيوانات على الأرض- فالذي نعلمه يقيناً أنها تسبح الله عز وجل: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، والتسبيح تنزيه الله وتقديسه عن كل النقائص وعن الإشراك به والعياذ بالله، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )[الإسراء:44]، فالحيوانات تسبح الله عز وجل.
لكن كيف وصلها ذلك؟ هل هي غرائز غرزها الله فيها؟ هذا معقول، أن يكون فطرها على هذا، وإن شاء الله عَلََّم منها من شاء من جنسها وبلغها.
جمع الله الحيوانات يوم القيامة وتصييره لها تراباً بعد القصاص بينها
والذي يجب القطع به أن هذه الحيوانات أمة من أمم الخلق مثلنا، وسوف تجمع يوم القيامة ويقتص منها، ولهذا تحرم أذية الحيوان، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يؤذي حيواناً من الحيوانات إلا ما أذن فيه الشارع مما هو ضار مؤذ، فهذا يقتل ولكن قتله لا يكون بصورة بشعة كالتمثيل به مثلاً أو قطع بعض أجزائه، بل بالقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، وعلمنا أن الله تعالى: ( يقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء ) التي ليس لها قرن، فكل هذه الدواب وهذه المخلوقات تحشر في ساحة فصل القضاء ويجزي الله تعالى المحسنين ويعاقب المسيئين.وهل تدخل الدواب الجنة دار النعيم أو النار دار العذاب؟ الجواب: بعدما يتم فصل القضاء ويقتص للضعيف من القوي يقول الله تعالى لتلك الأمم: كوني تراباً. فتتحول كلها إلى تراب، لا يبقى أسد ولا ثعلب ولا ذئب ولا طير ولا أحد، ودليل ذلك قول الله تعالى من آخر سورة النبأ: ( يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا )[النبأ:40]، حين يشاهد تحول تلك الحيوانات المخلوقات العظيمة إلى تراب يتمنى لو كان مثلها.
أما الإنس والجن فهم يدخلون الجنة ويدخلون النار بأجسام عرفنا الرسول بها، أجسام خلقها الله لذلك العالم، عالم الخلد والبقاء.
إذاً: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ )[الأنعام:38] في السماء، ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )[الأنعام:38]، في ماذا؟ في الأكل والشرب، في المرض في الصحة، في قبول الحق في الإعراض عنه أمثالكم.
معنى قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)
ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:38]، والتفريط: الإهمال والترك وعدم المبالاة بالشيء، ما فرطنا في الكتاب الذي هو كتاب المقادير، الذي هو اللوح المحفوظ، الذي هو الإمام المبين، كتب فيه الشقاوة والسعادة، وكتب فيه الأشقياء والسعداء، وكتب فيه عوامل السعادة وعوامل الشقاء، أسباب الشقاء وأسباب السعادة، كل هذا مكتوب مدون محصى قبل أن يخلق الله الإنس والجن، وسوف يتم الجزاء بحسب ذلك الكتاب اللوح المحفوظ والإمام المبين.ثم هنا لطيفة أخرى: قد يراد بالكتاب القرآن العظيم، نعم ما فرط الله عز وجل في القرآن من شيء تحتاج إليه العقول أو الأفكار أو الفهوم أو الأبدان إلا وبينه تعالى، إما بالتنصيص عليه أو بالإشارة إليه أو بالقياس عليه، لا يوجد شيء تفتقر إليه البشرية من أجل تزكية نفوسها أو إصلاح أعمالها أو دنياها ولم يشر إليه تعالى في القرآن، وبالتتبع ظهر هذا، لا توجد عبادة من شأنها تنقية النفس ولا عمل من شأنه إصلاح البدن إلا وفي القرآن ما يشير إليه ويذكره، فلهذا صارت هذه الجملة صالحة لكون المراد اللوح المحفوظ الكتاب المبين، وللقرآن العظيم.
ولك أن تقول: ما فرط الله في كتابه القرآن من شيء، كل ما تحتاج إليه الأمة موجود مبيّن يعرفه من عرفه ويجهله من جهله، وهذا فضل الله تعالى وإنعامه علينا والحمد لله.
معنى قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون)
ثم قال تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38]، ثم إلى خالقهم ومالك أمرهم ومدبر حالهم -وهو الله- يحشرون كلهم: الإنس، والجن، والحيوانات على اختلافها وتنوعها، الكل يحشر إلى الله، من يحشره ويجمعه؟ الملائكة المكلفون بالحشر والجمع، هم الذين يرجعون بالناس إلى ربهم، هذا الحشر، هذا الجمع في ساحة فصل القضاء ليتم القضاء والحكم العادل بين تلك الخلائق إنسها وجنها وحيواناتها.ولا تنسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا في غير حديث، من ذلك: أن الله يقتص للشاة القرناء من الشاة الجماء التي لا قرن لها، ثم يقول بعد ذلك لتلك العوالم من الحيوانات: كوني تراباً فتكون تراباً.

دلالة حمل الكتاب في الآية الكريمة على القرآن الكريم
فلنتأمل قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[الأنعام:38].
وهنا إذا قلنا: الكتاب هو القرآن فمعناه أنه لم تبق حجة لإنسان يحتج بها على الله يوم القيامة إذا هو قرأ القرآن وآمن به، ويقول: ربنا ما بينت لنا كذا، أو ما علمتنا كذا. فكل ما من شأنه تزكية النفس وتطهيرها موجود في القرآن، وكل ما من شأنه أن يحفظ الجسم الآدمي سليماً والعقل البشري كذلك في القرآن، فجميع محاب الله وما يأمر به هو لتزكية النفس والحفاظ على الجسم والعقل والبدن، وكل ما حرم الله من السحر، والغش، والخداع، والقتل.. كله من أجل الحفاظ على تزكية النفس وتطهيرها، فما فرط الرحمن في القرآن من شيء.
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ...)
ثم قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] يعني: بعد هذا البيان كله فالذين كذبوا بالآيات هم الصم الذين لا يسمعون، البكم الذين لا ينطقون، العمي الذين لا يبصرون؛ لأنهم يمشون في الظلام، والماشي في الظلام هل يهتدي إلى شيء؟ لا يهتدي. آية البقرة قالت: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ )[البقرة:18]، وهنا قال: ( صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] من باب تلوين العبارة، فالماشي في الظلام لا يشاهد شيئاً، وقد فقد سمعه فهو لا يسمع ونطقه فهو لا ينطق، ويضاف إلى ذلك أنه لا يرى شيئاً، وإلا فكيف يكفر الإنسان بربه؟ هو يعلم أنه مخلوق، يعلم أن الله عز وجل هو الذي أوجد له هذه الأقوات التي يأكل ويشرب، هو الذي أوجد له هذه الأرض عليها يسكن، هو الذي رفع السماء فوقه، فكيف يجحده وينكره؟ كيف يتأتى؟
ولكن التكذيب الذي ينشأ أولاً عن الجهل، ثم عن الاغترار والتقليد الأعمى، واتباع أصحاب الهوى، فإذا كذب وعرف بين الناس بأنه ينكر هذا الدين أو هذه الملة أو هذا الخلق؛ فحينئذ يفقد سمعه، تتكلم معه طول الليل فلا يسمع صوتك، يفقد لسانه فلا ينطق بمعروف أبداً، أبكم لا يستطيع أن يقول: يا بني فلان، أو يا فلان! الحق كذا وكذا. ثم هو يمشي في الظلام لا يعرف الحق ولا يهدي إليه غيره؛ وذلك لتكذيبه.
ماذا قال تعالى؟ قال: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:39] القرآنية التنزيلية، وآيات الله الكونية العلوية والسفلية؛ إذ كل كائن آية على وجود الله، البعوضة دلالة على وجود خالقها، السمكة في بطن البحر وعمقه من خلقها؟ من أوجدها؟ من غذاها؟ لا بد أن تقول: الله، فالمحنة كما كانت أولاً في الجهل هي الآن في التكذيب، المكذب من هو؟ الذي يعرف الحق وينكره، هذا التكذيب، يعرف ما تقوله أنه حق، ويقول: هذا كذاب فلا تسمعوا له. فهذا المكذب هو بمثابة الأصم الذي لا يسمع كلمة، والأبكم الذي لا يقوى على النطق بحرف واحد، والأعمى الذي لا يبصر أو الماشي في الظلام الذي لا يشاهد شيئاً. ‏
عاقبة الجهل والتكذيب بالحق
معاشر المستمعين والمستمعات! عرفتم الجهل والتكذيب، البلاء والشقاء كله من هاتين الفتنتين: الجهل: وهو عدم معرفة الأسرار والحقائق والأحكام، هذا من شأنه أن يجعل العبد يتكبر ويعرض ولا يسمع، ولكن التكذيب أعظم من ذلك، إذا كذّب الإنسان بالشيء فإنه لا يستجيب، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39] ظلمات الحياة، بمعنى إنهم عميان لا يبصرون.ومرة ثانية: لماذا يكذب الإنسان؟ أنا أخبركم أننا في المسجد النبوي، فهل هناك من يقول: لا؟ فالذي يكذب يقول: أنت تكذب، ما أنت في المسجد النبوي! لفائدة، لمصلحة، لغرض يتعلق به، هذا المكذب -والعياذ بالله تعالى- يفقد سمعه وبصره ولسانه، لا ينطق بالحق أبداً؛ لأنه كذب فكيف يعترف به؟ يفقد بصره فما يرى شيئاً كأنه في الظلام، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ )[الأنعام:39]، فالتكذيب: هو إنكار الحق الثابت من أجل صرف الناس عنه، أو تحقيق فائدة ومصلحة للمكذّب.

فهذا الذي يصاب بهذا الداء -داء التكذيب- مثله مثل الأصم الأعمى الأبكم، لا يقول كلمة الخير أبداً، ما يعرف أن ينطق بها، فاقد حاسة النطق، لا يبصر ولو عرض عليه الكون كله، لا يشاهد والعياذ بالله تعالى، هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ).
معنى قوله تعالى: (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)
وأخيراً يقول تعالى: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ )[الأنعام:39] رد الأمر إليه عز وجل، من يشأ الله إضلاله أضله، بيده الهداية وبيده الإضلال، ثق في هذا واطمئن، من يشأ الله أن يضله أضله، فيصبح لا يسمع ولا يبصر ولا يرى، في متاهات لا يسمع كلمة الحق ولا ينطق بها، ولا يبصر آية من آيات الله الدالة عليه؛ لأن الله أراد إضلاله: ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].معاشر المستمعين! أريد أن أقول: الهداية والإضلال بيد الله، فهو الخالق المدبر للكون والحياة، من شاء إضلاله أضله، ومن شاء هدايته هداه إلى الصراط الموصل إلى سعادته ونجاته.
وهنا ما الذي ينبغي أن ننتقل إليه بعدما علمنا أنه لا يملك الهداية والإضلال إلا هو؟ والله العظيم إنه لهو الذي بيده الهداية وبيده الإضلال، كما بيده أن الموت وبيده الحياة على حد سواء.
ثانياً: إذا آمنا بهذا واطمأنت إليه نفوسنا يجب أن نطلب الهداية منه ونستعيذ به من الضلال، نطرح بين يديه في كل صلاة وفي كل سجود، نسأله هدايتنا ونستعيذ به من إضلالنا؛ لأنه يملك الإضلال ويملك الهداية، هذه الثانية، وهي بعد اعترافنا بأن الهداية والإضلال بيد الله، يجب أن نعرف أن للهداية أسبابها وللإضلال أسبابه.
ويجب أن نطلب الهداية من الذي يملكها، وأن نستعيذ به من الإضلال الذي يملكه، ومعنى هذا: أنه لا بد من الافتقار اللازم للعبد، فلا تستغن أبداً عن الله.
الهداية لها أسباب، فما أسبابها؟ أن تصغي، أن تسمع، أن تستخدم حواسك وتنظر، أن تجرب فتظهر لك النتيجة فتحصل على هدايته، تسأل فقط: أنا أريد مكة فدلوني على الطريق، فيقال لك: خذ كذا وكذا ولا تلتفت إلى كذا وكذا؛ لأنك راغب في الهداية.
والذي يطلب الضلال ويعرض عن الهداية يسلك سبل الضلال: الكذب، والجهل، والعناد.. هذه كلها عوامل إضلاله، فلا تفهم أن الله عز وجل يضل مهتدياً أبداً، أو طالب هداية يحرمه لأنه قادر على إضلاله! ما قرع باب الله أحد يريد الهداية إلا هداه، ما طلب إنسان الهداية إلى الصراط المستقيم إلا هداه الله إلى ذلك، ومن أعرض واستكبر وعاند وأعرض ضل بسبب إعراضه واستكباره وعناده وتكذيبه.
هكذا يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) كيف يهتدون؟ ( مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:39].
تسلية الرسل والدعاة إلى الله تعالى في حزنهم لإعراض المدعوين عن الحق
أخيراً: هذه تعزي المؤمنين والدعاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكربوا ويحزنوا؛ لعلمهم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، من كتب الله ضلاله فلن يهديه، ومن كتب هدايته فلن يضله، ولكن لا بد من أن تقرع باب الله وتسأله الهداية، ولا بد أن تستعيذ به من الضلال.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً وإياكم بما ندرس من كتاب الله ونسمع.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.







ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:02 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
الحلقة (371)
تفسير سورة المائدة (4)


كان العرب في الجاهلية يؤمنون بالله عز وجل رباً، ويلجئون إليه في الشدائد والملمات، أما حين يكونون في حال من اليسر والأمن انشغلوا بعبادة الأصنام والأوثان، وقد عاب الله عز وجل عليهم هذا الفعل، مخبراً إياهم أنه إنما يبتلي عباده ليتضرعوا إليه، ويتذللوا وينكسروا بين يديه، فمن تاب وآب قبله الله، ومن استبد به شيطانه، واستمر في طريق الغواية أملى له الله سبحانه وفتح عليه من خير الدنيا، حتى إذا فرح بها واطمأن إليها أخذه الله بغتة، ومن أخذه الله لم يفلته.
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي تعالج أصول العقيدة: التوحيد، النبوة المحمدية، البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، إما بالجنة دار النعيم، وإما بالنار دار البوار والعذاب الأليم.
وها نحن مع هذه الآيات فليتفضل الابن بتلاوتها ونحن مصغون مستمعون، نسأل الله أن ترق قلوبنا ونحصل على أجر ومثوبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:40-45].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] من الآمر؟ الله جل جلاله، فالقائل الله عز وجل، والمأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يأمره أن يقول حتى يقرر مبدأ لا إله إلا الله: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أيها العادلون بربكم أصناماً وأحجاراً وتماثيل، أخبروني ) إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] بالقحط والجدب، بالأوبئة والأمراض، بالصواعق وألوان العذاب ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة الموت، حشرجت النفس وغرغرت، ساعة القيامة ونهاية الحياة، في هذه الحالة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ والله لا تدعون إلا الله.
وهذه حال العرب المشركين، قد يختلفون مع بعض الأمم، فالعرب والمشركون سكان هذه الجزيرة كانوا يؤمنون بالله رباً لا رب غيره، وكانوا يلجئون إليه ويدعونه عند الشدائد، ولكن إذا كانوا في حال يسر وخير ينشغلون بالتماثيل والأصنام.
فها هو تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] والعذاب ألوان وأنواع كما بينا: مرض عام، فقر، قحط، حرب، ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] الساعة هي ساعة القيامة أو ساعة الموت أيضاً، ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ )[الأنعام:40] وتستغيثون، وتبكون، وترفعون أيديكم (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40]؟ الجواب: لا يدعون مع الله يومها غير الله.
ذكر خبر إسلام عكرمة بن أبي جهل لاستغاثة راكبي السفينة بالله خشية الغرق
ولنذكر تلك اللطيفة التي رويت عن عكرمة بن أبي جهل ، ورضي الله عن عكرمة ولعن أبا جهل ، لما فتح الله على رسولنا مكة ودخلها بجيشه الغازي الفاتح فر غلاة الظلمة، ومن بينهم -كما تقول الرواية- عكرمة ، فنزل على ساحل البحر الأحمر يريد الخروج من الجزيرة، فوجد سفينة أوشكت على الإقلاع، فركب، ولما توسطت السفينة البحر قال الملاح: أيها الركاب! ادعوا ربكم، أخلصوا له الدعاء لينقذكم من الغرق، فأخذوا يدعون: يا ربنا! يا إلهنا! يا رب إبراهيم! يا رب العالمين! ولم يذكروا اللات ولا العزى ولا مناة ولا هبل، ففكر عكرمة وقال: هذا الذي هربت منه يلحقني حتى في البحر؟ والله لترجعن بنا إلى الساحل، وأمشي إلى محمد وأسلم بين يديه.
صور وقصص من شرك بعض المسلمين في حال الشدة

وهذه الحقيقة واضحة عندنا كالشمس، مشركونا لجهلهم لا يخلصون الدعاء لله وحده في الرخاء ولا في الشدة، والمشركون من العرب يخلصون لله الدعاء في الشدة ويشركون في الرخاء، وآيات القرآن في هذا كثيرة وواضحة، آيات القرآن المثبتة أن المشركين كانوا يستغيثون بالله ويفزعون إليه في حال الشدة، ولا يدعون اللات ولا هبل ولا إلهاً آخر، أما عوامنا وضلالنا في فترة سبعمائة سنة فكانوا يشركون في حال الشدة والرخاء على حد سواء، وقد قلت لكم: كانت المرأة تمسك بحبل الوضع في الولادة وهي تقول: الله يا سيدي فلان! فهل هناك موقف أصعب من هذا؟ وسفينة الحجاج التي ركب فيها الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مبحرة من طرابلس في طريقها إلى الإسكندرية، وهي تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية، يقول: اضطربت السفينة وخافوا الغرق، فأصبحوا يرفعون أصواتهم: يا رسول الله! يا بدوي ! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! وبينهم رجل معلم بصير، فما تمالك نفسه حتى قام ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك! وماذا يفعل غير هذا؟ في حال الموت ما عرفوا الله!
وذكرت لكم حادثة السيارة التي خاف صاحبها أن تنقلب وهو من إخواننا الموحدين، لكن دخله التوحيد على كبر سنه، وإذا به يقول: يا ألله، يا رسول الله.. يا ألله، يا رسول الله؛ خشية أن تنقلب، هذه صورة ومثلها ملايين.
أمة أبعدوها عن هذا الكتاب، هذه الآيات ما عرفوها ولا سألوا عنها قط، فكيف -إذاً- تهتدي بدون هذه؟ كيف تمشي بدون نور وتهتدي؟ لا يمكن.
إذاً: فلنستمع إلى هذه الآيات الست تقرر أنه لا إله إلا الله، لا أحد يدعى ولا يستغاث به ولا يستعاذ بجنابه ولا يطلب منه إلا الله في حال الخير والشر، والرخاء والشدة، في البأساء والضراء.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:40] قل لهم، حدثهم ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:40] وقد عرفنا العذاب ألوانا وأنواعاً: فقر، مجاعة، قحط، عدو يتسلط عليهم، وباء يجتاح بلادهم، ( عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ )[الأنعام:40] ساعة القيامة أو ساعة الموت، في هذه الحالة حالة الشدة ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا والله لا يدعون إلا الله.
تفسير قوله تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)
قال تعالى: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ )[الأنعام:41] اسبقهم إلى الجواب، بل إياه جل جلاله وعظم سلطانه تدعون لا تدعون غيره ولا سواه؛ لأنكم تعرفون أنه لا يكشف كربكم ولا يزيل همكم وغمكم إلا الله، أما هذه التماثيل فلا قيمة لها.إذاً: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41]، يكشف ما تدعون إليه من الغم والكرب إن شاء، ما هو بمقهور أو ملزم ولا بد؛ لأنه يعذب بحكمة ويرحم بحكمة، يعطي بحكمة ويمنع بحكمة، فلهذا كان التقييد من ألطف ما يكون ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ )[الأنعام:41] أي: ما تدعونه لكشفه وإبعاد ما نزل بكم ( إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، لا يبقى في ذهنهم اللات، ولا العزى، ولا مناة، ولا سيدي عبد القادر، ولا العيدروس ، كل هذا يزول من آذانهم، إلا عند ضلالنا نحن فلا يزول أبداً، ولعل من الحاضرين من يشك في هذا الكلام! هل تتصور أن شخصاً يكذب على المسلمين في مسجد رسول الله؟ من جرب علينا كذباً منذ أربعين سنة؟ انزعوه من أذهانكم، إن لم يكن هذا هو الحق فما هو الحق؟

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] أنتم ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41] به، فما تقولون: يا هبل، ولا يا إبراهيم، ولا إسماعيل.. هذه حقيقة واضحة أم لا؟ المشركون العرب بخلاف مشركي النصارى أو غيرهم؛ لأن بعضهم يتصور الله في الشمس أو في القمر ويعبدهما، ولا يستغيث بالله ولا يعرفه، هذه أمة أخرى تتصور أن الله حل في جسم عيسى، فهم يدعون عيسى كأنهم يدعون الله، وهذا شرك هابط، شرك العرب الذي نزلت الآيات فيه شرك معقول، يؤمنون بخالقهم ورازقهم، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ما ينكرون هذا أبداً، يحلفون بالله وينذرون له أيضاً، فشركهم أخف من شرك الذين ألهوا عيسى والذين يؤلهون الشمس والقمر والمخلوقات.

يتبع


ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:03 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)
ثم قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، البأساء مؤنث البؤس والشدة، كالحرب، كالجوع، والضراء ما يضر ويهلك الأجسام والعقول من أنواع العذاب، فعلنا بهم ذلك لحكمتنا العالية، هم عبيدنا، لكن ابتلاءهم وامتحانهم لأجل صالحهم، سنتنا أننا بلوناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون إلينا، والتضرع هو التذلل والانكسار أمام الجبار بالصوت المنهزم، والهيئة المنهزمة، وقد بينا أيضاً في يوم من الأيام حول قوله تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55] وقلنا: إن العنز ربيناها وعشنا معها في قرانا، حين تلد الجدي تراه بعينيك يأتي وله نغم خاص يطلب اللبن ليرضع، فالعنز تدنوا من الجدي، والجدي تسمع له نغماً ورعدة وصوتاً، هذا الذي بينه تعالى، هذا التضرع، فلهذا دعاء الله ما هو بالعنترية، ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا )[الأعراف:55] أي: متضرعين، متذللين، مرتعدين، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنا إذا دعوت عرفت أنه استجيب دعائي أو لم يستجب، فقيل لها: كيف تعرفين؟ قالت: إذا أخذتني الرعدة وسالت الدموع عرفت أن دعوتي استجيب لها.وهذا ربنا يدعونا إلى هذا: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )[الأعراف:55].
إذاً: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ )[الأنعام:42] يا رسولنا، أمة نوح، أمة هود، أمة صالح، أمة إبراهيم .. ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ )[الأنعام:42] أي: بالبلاء والشقاء وبالعذاب امتحاناً لهم ( لَعَلَّهُمْ )[الأنعام:42] أي: كي ( يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، رجاء أن يتضرعوا، فما تضرعوا، والمفروض أنهم يتضرعون، فإذا تضرعوا رفع الله عنهم العذاب والبلاء.
تفسير قوله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)
يقول تعالى: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]. فالمفروض فينا نحن -أبناء الإسلام- إذا أصابنا كرب، هم، غم أن نفزع إلى الله عز وجل، وأن نتضرع ونبكي وترتعد فرائصنا، وتوجل قلوبنا حتى يفرج الله ما بنا، لكن هذا الباب ما فتح، أغلق عن المسلمين، هل بلغنا أن أهل إقليم مصابون بكذا وكذا فزعوا إلى الله وتضرعوا وبكوا؟ ما فعلوا، حصل عندنا في هزات اليهود حين يضربون العرب، حيث كان في الزمان الماضي يفزع العرب إلى الله، ومن مظاهر ذلك: ترك الغناء والمزامير في الإذاعات، وتبقى فقط تبث ذكر الله والكلام الطيب، وما إن يعلن عن وقوف الحرب والمصالحة حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وضع سيئ كأننا لا نعرف كلام الله ولا كتاب الله.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا وبكوا واطرحوا بين أيدينا وسألونا العفو أو النجاة؟ ولكن العكس هو الذي كان، حيث قست قلوبهم، لهذا لم يبكوا بين أيدينا ولم يسألونا، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي والفسوق والظلم والكفر، الشيطان زين لهم ما كانوا يعملونه، فلم يتخلوا عنه ولم يتركوه مع أنهم أصابهم ما أصابهم.
تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ )[الأنعام:44] الذي ذكرتهم به أنبياؤهم ورسلهم من وعيد الله ووعده نسوه، ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44]، فالمياه تدفقت والأمطار والنباتات والزروع والضروع؛ لأنهم ممتحنون.(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] مما هو معروف بين الناس من المال، والذرية، والسلطان.. وقل ما شئت، ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ([الأنعام:44] وزغردوا وولولوا، وصفقوا وعقدوا حفلات الرقص ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44]. ‏

الواجب على العبد حال تقلبه في الرخاء والبلاء
هذه الآية يقول عنها الحبر وغيره: إنها تبين لنا امتحان الرب لنا. فيا أمة الله، يا عبد الله! إن كنت في خير وعافية فإنك مبتلى، وإن كنت في شر وبلاء فإنك مبتلى، فاعرف كيف تعيش، إذا كنت في عافية ونعمة فأكثر من العبادة والطاعة والتضرع لله عز وجل والدعاء، لا تصرف تلك النعم في معاصي الله، ولا تشتغل بها فتنسى ذكر الله؛ فإنك مهيأ لأن تسلب من يديك، ثم تيأس -والعياذ بالله* وتبلس، وينقطع رجاؤك، وإذا كنت في بلاء فاعلم أن هذا البلاء له سبب هو الذنب، إذاً: فاصبر على طاعة الله، وواصل البكاء بين يدي الله وكلك صدق حتى يفرج الله تعالى ما بك، أما أنك في ساعة الرخاء تشتغل باللهو والباطل والغناء وتنسى ذكر الله، وإذا جاءتك المحنة والبلاء تفزع إلى غير الله، أو تصاب باليأس والقنوط وتعرض عن ذكر الله؛ فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يفعله مؤمن حق أبداً.
الخيرية الكلية في حياة المؤمن في السراء والضراء
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( عجباً لأمر المؤمن ) المؤمن بحق وصدق ( إن أمره كله له خير )، سواء أكان شراً أو خيراً، كله خير ( وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء ) حالة مسرة مفرحة، غنى وراحة وأمن وطمأنينة ( شكر فكان خيراً له )؛ ليبقى ذلك الخير، ( وإن أصابته ضراء ) من الضر والأذى ( صبر فكان خيراً له ).( عجباً لأمر المؤمن ) عجباً لأمر من؟ المؤمن، و(أل) تدل على الوصف المتين العريق، ما قال: عجباً لأمر مؤمن، بل قال: المؤمن، أي: الحق الثابت الإيمان ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر ) ما السراء؟ الحالة المسرة المفرحة التي تفرح وتسر، سواء صحة في بدن، أو مال في الجيب، عز في البلاد، كرامة.. قل ما شئت من أنواع السراء.
ففي هذه الحالة ماذا يصنع المؤمن؟ يغني، يرقص، يكثر من الطعام والشراب، يتنقل في عواصم الدنيا يتبجح؟ أهذا هو المؤمن؟
إن المؤمن حينئذ يشكر بقلبه ولسانه، لا يفتأ يحمد الله على كل لقمة يأكلها، على كل خطوة يخطوها، شكر الله فامتثل أوامره في صدق واجتنب نواهيه في صدق كذلك، وهو لا يبرح أن يحمد الله ويثني عليه طول يومه وطول عامه، هذا كان خيراً له، تلك النعمة من صحة بدن، أو مال، أو جاه أنفقها في مرضاة الله، أنفقها في سبيل الله، ليزيد رضا الله عنه، فهو في خير.
حال غير المؤمن في تقلبه في السراء والضراء
( وليس ذلك إلا للمؤمن )، غير المؤمن إذا حصل له دولة صال وجال وظلم وفعل كما نشاهد ونسمع، وإذا أصابه ذل انكسر وتحطم؛ لأنه فاقد البصيرة أعمى، ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ )[البقرة:18]؛ لأن الإيمان الحق هو بمثابة الروح للإنسان، المؤمن الحق حي والحي لا يسلك إلا مسالك الخير والرحمة والهدى، ويتجنب مسالك الشر والباطل والفساد؛ لأنه حي، وغير المؤمن ومن كان إيمانه لا يساوي شيئاً، إيمان عن تقليد وجهل، ما عرف الله ولا سأل عنه ولا بكى يوماً بين يديه، هذه الصور كالجنسيات. أذكركم بحادثة مضت، وهذه الحوادث هي عظات وعبر لمن يعتبر، قال كاتب في مجلة أو صحيفة منذ حوالي ثلاثين سنة: إنه لقي فتاة في جدة، فسألها عن جنسيتها فقالت: مصرية، قال: والتدين؟ قالت: أظنني مسلمة! فهل هذه مؤمنة؟ أهذا هو المسلم؟
بل بأذني سمعت خارج البلاد من بين إخواننا هنا من يقول: إنما هي أوقات محدودة، وسوف ترتقي ديارنا، ويزول الحجاب والعمى ويقع ويقع ويقع! والله بأذني سمعته، انتبهتم؟ يقول: إنما هو زمن، ولن تستمر المملكة هابطة هكذا، سيأتي يوم ليس فيه هذا الحجاب وهذا التستر ، فهل هؤلاء مؤمنون مسلمون؟ ما عرفوا الإيمان ما هو ولا الإسلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن ) بحق ( إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر )، بينوا لنا الشكر يرحمكم الله؟
هو الاعتراف بالنعمة بالقلب، والنطق باللسان: الحمد لله.. الحمد لله، وتسخير تلك النعمة في مرضاة الله، أعطيت ملايين الريالات فلا تنفق ريالاً واحداً في معصية الله أبداً، أعطيت صحتك وبدنك وكل هذه الطاقة فلا تمش خطوة واحدة في سخط الله، أعطيت بصرك فلا تفتح عينيك مرة واحدة في غير ما يرضي الله.. هذا هو شكر الله على نعمه.

معنى قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)
يقول تعالى: ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا )[الأنعام:44] والذي آتاهم هو الله تعالى، أعطاهم من الخير والأمن، ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) بدون علامات سابقة ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ )[الأنعام:44] آيسون قانطون، لاصقون بالأرض كلهم كروب وهموم، يقال: أبلس الشيء: إذ أيس وانقطع أو تهشم وتحطم.
تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
وختم الله عز وجل بيانه لعباده المؤمنين بقوله: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45].(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا )[الأنعام:45] الظالمون قطع دابرهم، فأخْذ من وراءهم ومن أمامهم من باب أولى، بمعنى: لم يبق منهم شيء، آخرهم أخذ فكيف بالوسط والأول؟ ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ )[الأنعام:45] ماذا فعلوا؟ ( ظَلَمُوا )[الأنعام:45]، ماذا تقولون في الظلم؟ هل ينجون؟

الظلم أعلاه الشرك بالله عز وجل، كل من صرف عبادة الله لغير الله فقد ظلم ربه وأخذ حق مولاه وأعطاه لمن لا يستحقه، كل من عبد غير الله بعبادة ولو كانت الدعاء فقط، أو الذبح فقط، أو النذر فقط، أو الاستغاثة فقط.. كل من وضع عبادة الله التي تعبد بها عباده وأنزل بها كتابه وبعث بها رسوله وصرفها لولي من الأولياء، لصالح من الصلحاء، لملك من الملائكة فقد ظلم؛ إذ الظلم -كما علمنا وتقرر عندنا- وضع الشيء في غير موضعه.
فالعبادة التي شرع الله لتزكية النفوس وتطهير الأرواح هذه ليس من حق أحد أن يصرفها لغير الله عز وجل، إن صرفها لغير الله أظلمت نفسه وخبثت، وأنتنت وتعفنت، ولكن لا يرضى الله تعالى بهذا، أيخلقه ويرزقه ويغدق عليه نعمه، ثم يلتفت إلى غيره يدعوه ويرفع إليه يديه هكذا ويترك ربه؟ هذا ينبغي أن يقطع دابره.
بهذا لا يبقى بيننا من يفكر في الظلم أو يحاول أن يظلم، وإذا خطر بباله خاطر الظلم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وفزع إلى الله ولجأ إليه.
درسنا الليلة عرفنا أن الله يمتحن ويبتلي بالسراء والضراء، لا تقل: نحن في خير وعافية والأموال كذا وكذا..وهذا دليل أنه مرضي عنا! والله ما هو إلا اختبار، فإن شكرنا دامت مدة النعمة، واستمر زمانها، ويوم نكفرها قد نمتحن فترة من الزمن -السنة والسنوات والعشر-، فإذا لم نرجع سلبت من بين أيدينا ولا ترد، إلا أن هذه الأمة لا تؤخذ بعذاب الاستئصال والإبادة الكاملة، لكن تؤخذ بألوان من العذاب، ومن مظاهر ذلك العذاب أن أذلنا وسلط علينا الكفار قرناً من الزمان وهم يسوسوننا، أليس هذا من عذاب الله؟ بلى.
لزوم المؤمن حمد الله تعالى في سائر أحواله
وأخيراً يقول تعالى: ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] هذه الجملة تقال عند كل خير وغيره، عندما تتجلى وتظهر آيات الله، إنعامه، عذابه، قل: الحمد لله رب العالمين، شبعت فقل: الحمد لله، نزلت من على دابتك سليماً فقل: الحمد لله رب العالمين، بلغك أن إسرائيل أخذتها العواصف وغرق اليهود فقل: الحمد لله رب العالمين.. وهكذا كلما تجددت نعمة أو ظهرت نقمة من الله لخصومه وأعدائه تقول: الحمد لله رب العالمين، علمنا الله هذا؛ إذ قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:45] على قطع ذلك الدابر، وإنهاء أولئك المجرمين، وكم من ظالم وجبار ومفسد بين العرب عاشرناهم نحمد الله إذ قطع دابرهم. نتلو الآيات مرة أخرى: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[الأنعام:40] لا يدعون غير الله ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )[الأنعام:41] دعوه لرفع المرض، أو لكذا فيكشفه إن شاء ( وَتَنسَوْنَ )[الأنعام:41] في تلك الحالة ( مَا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:41]، ما يبقى من يقول: سيدي عبد القادر، ولا مبروك. وهذا حال المشركين الأولين، أما جماعتنا فيزدادون شركاً أكثر، لأنهم جهال ما عرفوا، لقد أضلوهم.
هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لولا الحرس ولولا البوليس والهيئة لرأيتهم يركعون ويسجدون كأنهم ما هم بمؤمنين، أما الاستغاثات فحدث ولا حرج: يا رسول الله! يا أبا فاطمة ! يا كذا افعل وافعل، وينسون الله نهائياً، وذلك للجهل وظلمته، حرموا هداية القرآن وأبعدوا عنها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[الأنعام:42]، والبأساء والضراء أنواع من العذاب. ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:43]، إذاً: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )[الأنعام:44] من الخير ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:44-45].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.







ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:06 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (5)
الحلقة (372)
تفسير سورة الانعام

يذكر الله عز وجل عباده في هذه الآيات بالنعم التي أنعم بها عليهم في أنفسهم، سائلاً إياهم عمن يمكنه أن يعوضهم عنها من المخلوقات إن أخذها الله منهم وحرمهم منها، وإن انتقم الله من أهل قرية أو أمة من الأمم فإنه لا يهلك إلا الظالمين المكذبين، وينجي الله المؤمنين من عباده، المصدقين بآياته ورسالاته، ويأتون يوم القيامة آمنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، سورة التوحيد، تلكم السورة التي زفت من الملكوت الأعلى بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة التي تعالج أركان العقيدة الضرورية:
أولاً: توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلا رب غيره ولا إله سواه، ولا يشبهه كائن من الكائنات لا في صفاته ولا في أفعاله.
ثم تقرير النبوة المحمدية، وهي: أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسول الله حقاً وصدقاً.
ثالثاً: عقيدة البعث والجزاء، البعث من تحت الأرض للوقوف في ساحة فصل القضاء من أجل الحساب الدقيق ثم الجزاء الأوفى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه )[الزلزلة:7-8]، هذه السورة بآياتها تقرر هذه الحقيقة، وها نحن مع هذه الآيات بعد أن نسمع تلاوتها من الأستاذ أبي بكر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:46-49].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] من الآمر لرسول الله أن يقول؟ إنه الله جل جلاله، والآن نحن نسمع كلام الله، إي والله، ما أسعدنا، ما أرفعنا وأسمانا، وصلنا إلى أن أصبحنا نجلس فنسمع كلام الرب! وأعجب من هذا أن ملايين الخلق لا يسمعون كلام الله ولا يعرفونه.
خطاب المعرضين عن ربهم ببيان عجز الأوثان عن رد ما ذهب الله تعالى به من أبدانهم

يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) لقومك العادلين بنا أصناماً وأوثاناً، قل لهؤلاء المشركين المعرضين عن الله: ( أَرَأَيْتُمْ ): أي: أخبروني، ( إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ) ففقدتم السمع فأصبحتم لا تسمعون، وفقدتم البصر فأصبحتم لا تبصرون، ( وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ) فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون، ولا يصل إلى قلوبكم شيء، أصبحتم كالأصنام وكالحجارة، إن فعل الله بكم هذا هل هناك من إله غير الله يأتيكم بهذه التي أخذت منكم؟ والله لا أحد. خطاب يصل إلى أعماق النفس، ما فيه تهيج، ولا فيه تنطع، ولا فيه إهانة، ولا فيه إذلال، فقط أخبروني إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم هل يوجد إله غير الله يأتيكم بذلك؟ والله لا يقول أحد: نعم يوجد إله عندنا يفعل بنا هذا، وقل هذا اليوم وبعد اليوم ولكل إنسان في الحياة ممن يعرضون عن الله عز وجل فلا يذكرون ولا يشكرون، قل لهم: أخبرونا أيها المعرضون، أيها الملاحدة، أيها العلمانيون، أيها الشهوانيون، أيها الماديون الذين لا تذكرون الله ولا تدعونه، ولا تستغيثون به، أخبرونا إن أصابك الله بفقد بصرك، والله لو اجتمعت أطباء الدنيا كلها ما ردوا بصرك، أو أخذ سمعك فأصبت بالصمم، والله لا يوجد من يرد إليك سمعك أبداً، أرأيت إن فقدت العقل وأصبحت كالمجانين تهرف بما لا تعرف، وتعمل ما لا تريد أن تعمل، هل هناك من يرد عليك عقلك؟ والله ما كان إلا الله، إذاً: لم لا نؤمن به ونعبده، ونتحبب إليه ونتملقه بفعل محابه واجتناب مكارهه؟
لا تقل: هذه نزلت في كفار مكة! فهذا كتاب الله للإنس والجن، لهدايتهم ما داموا على سطح الأرض، ولن يفقد هذا النور تأثيره إلا يوم يرفعه الله.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ الجواب: لا أحد، أولاً: لا يوجد إله حق مع الله، لا إله إلا هو، والآلهة المدعاة المفتراة المكذوبة سواء كانت من الملائكة، أو الإنس، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين، أو من الجمادات.. كل هذه لا تملك أن ترد سمعكم وأبصاركم، ولا أن ترد إليكم وعيكم في قلوبكم.
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46]؟ والله لا أحد.
معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون)

ثم قال لرسوله ومصطفاه: ( انظُرْ )[الأنعام:46] يا رسولنا ( كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ )[الأنعام:46]، يا للعجب! انظر كيف نلون الأساليب والعبارات، ونضرب الأمثلة المتنوعة لعلهم يرجعون، لعلهم يفيقون، لعلهم يصحون، ومع هذا هم يصدفون، يغلقون آذانهم ولا يسمعون! حالة تدعو إلى العجب.ونقتبس من نور الله فنقول: ما لإخواننا الذين انغمسوا في المعاصي بيننا يسمعون المواعظ والهداية والآيات والسنة من إذاعة القرآن، ما لهم صادفين معرضين عن بيوت الله وذكر الله، منهمكين في اللهو واللعب والباطل والشهوات، ما لهم وقد صرف الله الآيات، وها نحن نسمعها ليل نهار، لم نصدف ونعرض ولا نلتفت؟
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون)
ثانياً: قل لهم: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ )[الأنعام:47] أي: أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] أي: أخبروني إن جاءكم عذاب الله عز وجل سواء بالإبادة والاستئصال أو بفقد السمع والبصر، أو بفساد القلب ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون لا شعور ولا تأمل ولا فكر في نفوسكم، فجأة يأتي العذاب، أو يأتيكم بعدما تلوح آياته في الآفاق وعلامته بينكم، أو يأتيكم ليلاً وأنتم نائمون، أو نهاراً وأنتم يقظون تعملون، لا فرق بين هذا وذاك.أخبروني ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ الجواب: لا والله، لا يهلك إلا الظالمون؛ لأنهم ظالمون بأفحش الظلم وأقبحه، وهو أخذ حق الله عز وجل بالعبادة وصرفها للأصنام والأحجار، حق الله الذي ما خلق الإنسان إلا ليعبده بذكره وشكره، يسلب هذا الحق ويعطى لغير الله.
الشرك أفحش الظلم وأقبحه
ولهذا -كما علمتم- فلا ظلم أعظم من ظلم الشرك، ظلمك لأخيك الإنسان بأخذ دابته أو ضربه على وجهه ظلم، لكن أخذ حق الله وإعطاءه لمن ليس له بحق أي ظلم أعظم منه! ظلمك لنفسك ظلم، ظلمك لأخيك ظلم، ولكن أفحش وأقبح الظلم هو من يأخذ حق الله الذي أوجد الكون كله من أجله، بل أوجدك -أيها الظالم- من أجل أن تذكره وتشكره، فتعرض عن الله وتكفر، ولا تلتفت إليه وتعبد غيره.ولهذا لما نزلت آية الأنعام -وعما قريب نصل إليها إن شاء الله- في أي الفريقين أشد ظلماً: نحن الموحدون أم أنتم المشركون، كما في خطاب إبراهيم الخليل لقومه، فكان الجواب: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، فلما تليت هذه الآية على أصحاب رسول الله قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ خافوا، لأنه لا يتحقق الأمن والنجاة والسلامة بالبعد عن عالم الشقاء ودخول الجنة إلا للذين آمنوا حق الإيمان ولم يخلطوا إيمانهم بأي ظلم، فكبر هذا على المؤمنين لما سمعوا هذه الآية، فوجههم رسول الله الحكيم إلى ما قال لقمان الحكيم لابنه وهو بين يديه يعظه ويقول له: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )[لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13].
ونحن نقول: لا أعظم من الشرك، فظلمك لنفسك شيء، ظلمك للناس شيء، ظلمك للحيوان شيء، لكن ظلمك لخالقك واهب وجودك المنعم عليك تسلب حقه الذي من أجله أعطاك وجودك وتعطيه لغير الله! تصوروا هل هناك أبشع من هذا؟!
شخص يكسوك، يطعمك، يسقيك، يسكنك، يؤويك ويحفظك يحرسك، فتترك خدمته وتخدم آخر تتملق إليه وتتزلف، كيف يقبل هذا؟ الذي يطعمك ويسقيك ويؤويك ويرعاك ويحفظك يقول لك: اخدمني ساعة أو ساعتين في اليوم، فتعرض عن ذلك ويزين لك الشيطان خدمة من يعاديه وتخدمه، فهل فينا من يقبل هذا؟ هذا هو عين الشرك، فلهذا كان أقبح أنواع الذنوب وأسوأها.
الهلاك عاقبة الظالمين
فماذا قال تعالى لرسوله؟ قال: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ )[الأنعام:47] عذاب الله بالاستئصال والإبادة، أو بفقد السمع والبصر، أو بالقحط أو بما شاء الله من أنواع العذاب، ( بَغْتَةً )[الأنعام:47] وأنتم غافلون، ( أَوْ جَهْرَةً )[الأنعام:47] وأنتم يقظون، ( هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ اللهم لا، والله لا يهلك إلا القوم الظالمون.مجموعة على حصير قدم لهم طعام فيه سم، وقيل لهم: احذروا، من أكله مات، فأكل منهم البعض وترك البعض، فهل يهلك غير الآكل؟ والله ما يهلك إلا الآكل وإن كانوا على حصير واحد والطعام بين أيديهم، فلا يقتل السم إلا الذي شربه أو أكله فقط.

يتبع



ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:07 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
كثرة الخبث سبب للهلاك
علمنا الله عز وجل أنه إذا جاء عذاب الاستئصال والإبادة للأمم السابقة ينجي الله المؤمنين مع نبيهم ورسولهم، يرحلون قبل نزول العذاب بيومين أو ثلاثة من تلك الديار وينزل العذاب بالآخرين، إلا أن عذاب هذه الأمة هو عذاب غير استئصال ولا إبادة كاملة، فإنه إذا كثر الفسق والفجور والشر والفساد وأنزل الله نقمته بهم يتأذى ويهلك بها الفاسق والبار والصالح، والفاسقون هذا جزاؤهم، والصالحون يثابون ويؤجرون على هذه المصيبة، وترتفع درجتهم يوم القيامة، قال تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً )[الأنفال:25] من شأنها ( لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[الأنفال:25]، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( نعم إذا كثر الخبث ) لأم المؤمنين زينب حين سألته: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ وذلك أنه قال: ( ويل للعرب من شر قد اقترب ثلاث مرات وهو فزع، لما شاهد الغيوم والسحاب والعواصف، فقالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ).
أهمية اتقاء نقمة الله تعالى بتوسيع دائرة الصلاح وتضييق دائرة الفسق في المجتمعات
ولهذا نقول لأبناء هذه الديار فقط؛ لأن إخواننا في بلادنا الأخرى الفسق فيهم أكثر من الصلاح، لكن هذه البلاد التي فيها الصلاح أكثر، ويظهر فيها الفسق، نقول لهم: اعملوا ليل نهار على تقليل هذا الفسق وتقليل أصحابه وفاعليه بوعظهم، بإرشادهم، بالاتصال بهم، بكل وسيلة فيها رفق ورحمة وعطف، بإبعاد هذه الموجبات للفساد، يا عبد الله! لا تدخل الدخان في دكانك، من ألزمك يا بائع الفيديو، لم تبيع الفيديوهات في مدينة الرسول؟ يا بائع الأشرطة الباطلة! من حملك على هذا؟ يا عبد الله المؤمن! لم تفتح بنكاً ربوياً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عجل فحوله إلى مصرف إسلامي وارفع رأسك إلى السماء، ويغفر الله لك ذنبك ويرفع درجتك، ويغنيك بأكثر مما في يدك.على كل مواطن أن يعمل على إصلاح بيته، أولاده، أقربائه، حتى نعيش دائماً والفسق أقل نسبة من الصلاح، فما دام الصلاح أكثر فالأمن حاصل، لكن إذا كان جانب الفسق أكثر فإننا ننتظر الساعة لا محالة.
من ألزمنا *-أيها المواطنون السعوديون- بمعصية الله؟ أنرغب فقط بواسطة الشياطين فنستجيب؟ لم لا نعمل على صيانة أنفسنا؟ يا رب البيت! احفظ بيتك، زوجتك وأولادك، أمك وأباك، لقنهم الهدى وعلمهم، اجتمع معهم على آية من كتاب الله يطهر بيتك من الخبث.
أولادكم من حين يخرجون من المدرسة استقبلوهم في باب المدرسة وهم معكم ملازمون لكم، يصلون العصر معكم، يصلون المغرب والعشاء، يتعلمون في هذه الأوقات، لا يلعبون بالكرة ويعبثون في الشوارع ويصيحون ويتعلمون أوسخ الكلام وأفسده، فيصبح الجيل من أسوأ وشر جيل، لم لا نعرف هذا؟
(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47]؟ والله ما يهلك إلا القوم الظالمون، هذا كلام الله أم لا؟ فالظالمون الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، فبدل أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر أطاعوا الشيطان والشهوات والهوى والدنيا، كيف لا يهلكون؟
قل لهم: أخبروني ( أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:47] والجواب: لا. لا يهلك إلا الظالمون كما بينا، الذي يحتسي السم هو الذي يموت.
تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ...)
ثم قال تعالى مسلياً رسوله: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48]، ما نرسلهم لأجل أن يهدوا الخلق، ويصلحوا الفاسد، ما هذه مهمتهم، لا يقدرون، فرسول في مليون شخص ماذا يصنع؟ فالمرسلون نرسلهم مبشرين المستجيبين للدعوة، المقبلين عليها، العاملين بها، يبشرونهم بسعادة الدنيا والآخرة، ومنذرين الذين يستكبرون ويعرضون ويشتغلون بأهوائهم وشهواتهم ويعبدون الشياطين، ينذرونهم العذاب قبل أن يحل بهم وينزل بساحتهم، ما لهم مهمة سوى هذه.فالرسول يبشر قطعاً، ولا بد أن يبين كيف تتم البشارة، وينذر ولا بد أن يبين ما ينذر: الشرك، اللواط، الجرائم.. يحذر منها، هذه مهمة الرسل من نوح ومن بعده إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي عمارة الدنيا! إن مهمته التبشير للمقبلين على الله، والإنذار والتحذير ممن يعرضون عن الله عز وجل، فلا تكرب -يا رسولنا- ولا تحزن، وأنتم -أيها المشركون- لم تطالبونه بالآيات والخوارق والمعجزات؟ فما هذه مهمته، ما يستطيع أن يدخل يده في قلوبكم ويقلبها، هذا ليس له، إنما هو مبشر من أجاب الدعوة، ومنذر من أعرض عنها وكفر بها، هذا معنى قوله تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48].
عدد الرسل وذكر بعض خبر من أشبههم في العدة من فئات المؤمنين
كم عدد الرسل؟ ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة أهل بدر، وعلى عدة قوم طالوت الذين قاتلوا ومعهم داود وانتصروا على جالوت ، لما هبط بنو إسرائيل بسبب سفور النساء، حيث كشف النساء عن وجوههن وأصبحن يتجولن في الأسواق كنساء العالم الإسلامي اليوم إلا من رحم الله، ولبسن الكعب العالي، أتعرفون الكعب العالي؟ اذهبوا إلى الدكاكين التي هبط أصحابها، فهم يوردونه بشعور أو بدون شعور ليباع ويهلك به المؤمنون، الكعب العالي هذا أول من لبسه نساء بني إسرائيل، الكعب العالي: حذاء أسفله رقيق وطويل، فحين تمشي تصبح تتبختر وتتمايل، فيذوب قلب الحاضر وراءها، والشيطان هو الذي زين هذا.فلما فسقوا وأضاعوا الصلاة وتعاطوا الربا سلط الله عليهم البابليين فاجتاحوا ديارهم ومزقوهم وأبعدوهم، مضى قرنان أو ثلاثة فنشأت ناشئة جديدة وقالوا: هيا نعيد ملكنا وديننا وسيادتنا، فأتوا أحد أنبيائهم -والأنبياء فيهم بالآلاف- فقال: أنا أخاف ألا تستطيعوا أن تقاتلوا، شاهد فيهم الهبوط والخلاف والفرقة والفسق، فألحوا عليه، فعين لهم بأمر الله طالوت يقودهم، لما عين طالوت قالوا: كيف يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ لا تول علينا قائداً من هذا النوع.
فقال لهم نبيهم: الآية التي تدل على أن الله هو الذي اختاره لكم أن يأتيكم التابوت الذي فيه بقية من بقايا موسى وهارون من دار الكفر، من عاصمة البابليين، وجاءت فشاهدوها معجزة خارقة، فآمنوا ومشوا في أربعين ألفاً، امتحنهم في الطريق قبل وصولهم إلى نهر الأردن، فقال: إن نهراً سيأتي أمامكم ولم يأذن الله لكم بالشرب منه، إلا من اغترف غرفة بيده فقط، فإياكم. فلما وصلوا إلى النهر أكبوا عليه كالبهائم يشربون، فلما شربوا بقي منهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والباقون كلهم انهزموا، ما يستطيعون القتال، قالوا: كيف نقاتل هذه الأمة وكيف وكيف؟ وقاتل الموحدون المؤمنون ونصرهم الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
يقول تعالى: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48]؛ لأن الإيمان والصلاح هما دعائم الولاية، كقول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] من هم؟ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63]، وهنا ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكل مؤمن صادق الإيمان يعمل الصالحات تحققت له ولاية الله، فإذا والاه الله وأصبح وليه فمن يقوى على أذاه؟ فلا خوف عليهم في الدنيا ولا في القبر ولا يوم القيامة ولا حزن في كل ذلك.هكذا يقول تعالى في مكة: فمن آمن وعمل صالحاً مع أي نبي ومع أي رسول، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48].
وقد بينا أن أولياء الله بيننا لا يخافون عندما يخاف الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، إن جاءت فاقة فنفوسهم طيبة مرتاحة، والآخرون في حزن وكرب وألم، وإن جاءت حرب أو فتنة فأولياء الله مع الله نفوسهم طيبة، نفوسهم طاهرة، قلوبهم ساكنة يفزعون إلى الله، والآخرون ترتعد نفوسهم، وتتمزق قلوبهم، فهذا عام في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، أولياء الله لا يخافون ولا يحزنون، وقد ذكرت لكم ولياً شاهدناه، ابتلاه الله بوفاة أبنائه وأطفاله، كانوا يدفنون الطفل وهو يبتسم والناس على القبر يبكون، ولا يبكي ولا يحزن، يخرج ماله كله فلا يبكي عليه ولا يحزن ولا يكرب، وهذا تحقيق قول الله تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62].
فالله تعالى يقول: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )[الأنعام:48] ثم ( فَمَنْ آمَنَ )[الأنعام:48] بهم وبالله ووحد الله ( وَأَصْلَحَ )[الأنعام:48] نفسه وزكاها بطاعة الله ورسوله ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[الأنعام:48] في الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49] جحدوا بها، لم يعترفوا بها أو لم يعملوا بما تدعو إليه وتأمر به أو تنهى عنه وتحذر منه، ليس بشرط أن يقول: لا أؤمن، قد يقول -كالمنافق-: أنا مؤمن، ثم لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، ولا ينهض بواجب، ولا يتخلى عن مكروه، فأين الإيمان؟ لا قيمة لدعوى الإيمان إذا لم تتحقق بالاستجابة لله والرسول في طاعتهما بفعل الأوامر وترك المناهي.(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )[الأنعام:49]، ما قال: كفروا بالله، كذبوا بآياتنا الحاملة لشرائعنا وتعاليمنا وهدايتنا، فلهذا لم يعملوا بها، ( يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49] أي: عذاب الدنيا والبرزخ والآخرة، لا بد أن يمسه ويذوق ألمه ومرارته.

ثم قال تعالى مبيناً العلة: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، أي: بسبب فسقهم. فالباء سببية، ما معنى (يفسقون)؟ يرقصون ويغنون، يلهون ويلعبون، يشركون ولا يوحدون، يعصون ولا يطيعون، فالفسق: هو الخروج عن طاعة الله ورسوله.
أتدرون ما الفويسقة؟ الفأرة، سماها الرسول الفويسقة؛ لأنها تفسق وتخرج على أهل البيت في الليل، فتفسد عليهم طعامهم أو تحرق عليهم بيتهم.
إذاً: فكل من ترك واجباً متعمداً وهو قادر عليه، أو فعل محرماً بدون إكراه عليه فقد فسق، أي: خرج عن الطاعة، فإن فسق في الأمر كله والنهي كله فهو الفاسق بـ (أل) الدالة على الوصف العريق المتين، ففرق بين (فاسق) وبين الفاسق، فسق فلان فهو فاسق بترك واجب أو فعل معصية، لكن الفاسق ذاك الذي أعرض عن أحكام الله وشرعه وأخذ لا يلتفت إلى أمر يقوم به ولا إلى نهي ينتهي عنه ويجتنبه.
إذاً: قال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ )[الأنعام:49]، هل بمجرد التكذيب؟ لا؛ لأن التكذيب يحول بينك وبين فعل مزكيات النفس، فالعبد إذا آمن أصبح قادراً على أن يزكي نفسه بأدوات التزكية والتطهير، لكن إذا كذب لا يستعمل أدوات التزكية، إذاً: فالذين كذبوا ما استعملوا أدوات التزكية أبداً، والله يقول: ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )[الأنعام:49]، ما استعملوا أدوات التزكية والتطهير.
معاشر المستمعين والمستمعات هل عرفتم أن زكاة النفس ضرورية؟ إن ربنا تبارك وتعالى يقول: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، فلنعمل على تزكية أنفسنا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح بعد البعد الكامل عن الشرك والكفر والفسق والفجور، وبذلك يتحقق الهدف لمن طلب الله ومشى يطلب هدايته.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
لهذه الآيات هداية فتأملوا هل تهتدون إليها:[ أولاً: افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه ]، وهل نملك نحن أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا؟ [ وفي كل حياته]، هذا الافتقار وهذا العجز وهذا الضعف [موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه]، فما دمت عاجزاً عن حفظ سمعك وبصرك وقلبك إذاً فاعبد الذي يحفظ لك ذلك ويهبه لك. فمن أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ )[الأنعام:46] لا أحد.
[ ثانياً: هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً ]، والله العظيم! إن هلاك الظالمين لا بد منه، إما أن يكون عاجلاً أو يؤجل إلى أمد محدود، فالظالمون الآن الخارجون عن طاعة الله ورسوله هم تحت النظارة، يمهلهم الله ولكن لا يهملهم، يوم تدق الساعة تنزل المحنة وينزل العذاب.
[ ثالثاً: بيان مهمة الرسل ]، ما هي؟ البشارة والنذارة، ما معنى البشارة؟ تبشير من أطاع بالمستقبل الحسن والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة لمن عصى وكذب وأعرض، هذه مهمتهم.
[ بيان مهمة الرسل، وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى، والهداية والجزاء على الله تعالى ]، فعلى الرسول البشارة والنذارة، أما الهداية فليست له، والذي يجازي العباد هو الله، ليس الرسول، فالرسل ليست مهمتهم الجزاء أبداً، وإنما مهمتهم البشارة والنذارة.
[ رابعاً: الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب والطاعة ثمرة الإيمان ]، فمن شك في كتاب الله أو في سنة فإنه لا يعمل، هذه سنة الله، كل الذين لا يستقيمون سبب ذلك شكهم وعدم إيمانهم اليقيني في قلوبهم، ومن صدق واطمأن لا يستطيع أن يفسق، إن فسق الآن يتوب غداً ولا يستمر على فسقه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.







ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:09 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (6)
الحلقة (373)
تفسير سورة الأنعام


النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه سبحانه وتعالى ليبلغ دينه للناس، وليتبع ما أوحى الله إليه دون زيادة أو نقصان، وما أعطاه الله عز وجل خزائنه، ولا أطلعه على الغيب الذي يختص به سبحانه، ولا جعله ملكاً، وإنما جعله بشراً يمشي بين الناس، ويتكلم بلسانهم، لينذرهم ويخوفهم من عذاب الله ونقمته إن هم أعرضوا وكذبوا، ويبشرهم بالجنة والنعيم إن هم أطاعوا وصدقوا.
تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
هذا وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات التي نسمعها من مرتلها علينا ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد ربنا منها:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:50-53] بلى.
أمر الله تعالى رسوله بنفي اختصاصه بخزائن الله وعلم الغيب وكونه ملكاً
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات، هيا نتدارس هذه الآيات:أولاً: من القائل: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50]؟
هذا كلام الله عز وجل، يأمر رسوله ونبيه ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لخصومه لأعدائه لنفاة التوحيد والعادلين بربهم، لأولئك الذين كذبوا بنبوته ونفوها ونسبوه إلى السحر والشعر والأساطير التي مضت في الزمان السابق، هؤلاء هم رؤساء الشرك في مكة، والله ولي رسوله والمؤمنين، فها هو ذا تعالى يوجه رسوله ويبين له كيف يدحض حججهم الباطلة وكيف يبطل تخرصاتهم وأكاذيبهم التي لا وجه لها من الصحة.
قل يا رسولنا: ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، تطالبونني بالأموال وتطالبونني بكذا وكذا وأنا ما عندي خزائن ذلك، ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ )[الأنعام:50]، والخزائن مستودعات الأرزاق، خزانة وخزائن، فخزائن الله التي أودع فيها أرزاق العباد لا أملكها وما هي عندي.
ثانياً: ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ )[الأنعام:50].
الغيب استأثر الله تعالى به، هو الذي يعلم ما ينزل بكم وما يصيبكم في المستقبل، وأنا لا أعلم الغيب، ومرده إلى الله، فلا تطالبوني بما لا قدرة لي عليه، بما ليس في طوقي ولا في استطاعتي، وقوفكم هذا وقوف المعرضين فقط، وإلا فليس من شأني أنني أملك خزائن الله وأفتحها على من أشاء وأحجبها عمن أشاء، ولست أنا أبداً بالذي يدعي علم الغيب فيقول: سيصيبكم كذا، سينزل بكم كذا. أنا لا أملك هذا وليس عندي منه شيء.
ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50]، ما قال: أنا ملك أستطيع أن أزيل الجبال، أو أضرب الجبال برءوسكم، بل قال: أنا بشر ما أنا بملك من الملائكة.
فعلمه ربه أن ينفي عنه هذه الثلاث الصفات:
الأولى: أن ينفي عنه أنه يملك خزائن المال وغير ذلك، هذا استأثر الله به.
ثانياً: أنه لا يعلم الغيب، ما غاب عن العيون لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغيب الحقيقي، وهو ما في الملكوت الأعلى وما تجري به أقضية الله وأقداره.
ثالثاً: ( وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ )[الأنعام:50] حتى تطالبوني بأن أحول الجبال أو أن أفعل كذا وكذا، هذا ما هو بشأني.
حصر مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في اتباع ما يوحى إليه
يقول تعالى له: انف هذه الثلاثة وقرر شيئاً واحداً، وهو: ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، هذه مهمتي، أنا عبد الله ورسوله مهمتي أن أتبع ما يوحي الله إلي، فإن قال: اسكت سكت، وإن قال: تكلم تكلمت، إن قال: بلغ بلغت، إن قال: أنذر أنذرت، إن قال: اترك تركت، ما أنا إلا متبع لما يوحي ربي إلي من الأوامر والنواهي. وهذا لا ينفي أن يجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل أيام التشريع، فإن أصاب وأقره الله فذاك، وإن لم يصب فالله عز وجل يرشده إلى الصواب، لكن بالصورة العامة رسول الله لا يقول ولا يفعل، لا يأمر ولا ينهى إلا بما يوحي الله إليه، لا يتبع غير ما يوحي الله إليه، ومعنى هذا: أنه لا يتبع رأي ذي رأي ولا فكر ذي فكر، بل يتبع فقط ما أوحاه الله إليه وأذن له فيه، سواء قاله صلى الله عليه وسلم أم فعله أم أمر به أم نهى عنه، وهكذا.(إِنْ أَتَّبِعُ )[الأنعام:50] ما أتبع ( إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ )[الأنعام:50]، من الموحي إليه سوى الله؟
وقد عرفنا طريق الوحي: إما أن يلقي في روعه الكلمة فيفهمها عن الله، أو يخاطبه الله من وراء حجاب، أو يرسل إليه ملكاً يجلس إليه ويعلمه عن الله ويبلغه.
معنى قوله تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)
ثم قال له أيضاً: ( قُلْ )[الأنعام:50] لهم، وهذه هي صور الحجاج وإبطال الباطل ودحض المنكر، قل لهم يا رسولنا: ( هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] هل يستوي الجاهل والعالم؟ هل يستوي الحي والميت؟ هل يستوي المهتدي والضال؟ هل يستوي الجائع والشبعان؟ من يقول بالاستواء؟ ومعنى هذا: أنكم ضلال وأنا مهتد فكيف نتفق معكم؟ إنكم عميان لا تبصرون الحق لعمى قلوبكم وأنا على بصيرة، أنا على نور من ربي وأنتم على ظلمة الشياطين، فكيف نستوي معكم؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50] يا عباد الله! لو تفكروا لقالوا: لا يستوي من يوحى إليه ويعلم ومن لا يوحى إليه شيء ولا يعلم شيئاً، أنت رسول ونحن عباد الله، آمنا برسالتك، آمنا بما جئت به. ومن ثم يهتدون ويدخلون في رحمة الله، ولا تظن أن هذا الكلام ما كان له أثر، بل كل من اهتدى في مكة اهتدى بهذه الآيات الربانية.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ )[الأنعام:50] الجواب: لا. إذاً: ( أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ )[الأنعام:50]، تفكروا فمن استخدم فكره عرف الحق، أما من يريد ألا يتفكر ولا يتأمل ولا يتذكر فإنه يبقى أعمى ويبقى في الضلال.
وهذه لفتة عندكم: هل يستوي الأعمى بينكم والبصير؟ الجواب: لا. هل يستوي الضال والمهتدي؟ لا. هل يستوي الحي والميت؟ لا. إذاً: كيف تهتدون وأنتم معرضون عن نور الله؟ كيف تهتدون وأنتم لا تؤمنون بوحي الله ولا برسول الله؟ فكروا.
وهذه مظاهر رحمة الله بعباده، لو شاء الله لأنزل الهداية في قلوبهم، لو شاء لولدتهم أمهاتهم مؤمنين، ولكن هذه حكمته، يدخل في رحمته من يشاء، ولكن يعلم ويهدي ويبين، فمن أجاب الله واستجاب له هداه، ومن أدبر وأعرض أضله وأشقاه، وهذا إلى يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)
ثم قال تعالى: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51].هذه الآية تكون للمؤمنين، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مؤمنون أقلاء، هؤلاء هم الذين تنذرهم بالقرآن الكريم وتخوفهم بما فيه من الأحكام والشرائع، وما يهدي إليهم من الهداية وما يبين من الضلال؛ لأن المؤمنين -كما علمتم- أحياء مبصرون، والحي المبصر السميع يستجيب، إذاً: اترك هؤلاء الضلال -يا رسولنا- وأنذر بالقرآن من هم مؤمنون أحياء غير أموات، كقوله تعالى من آخر سورة ق: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، هذا الذي إذا ذكرته ذكر، أما الذي قلبه ميت وهو في ظلمة فإنك تقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فلا يسمع شيئاً ولا يستفيد، وهذه كرامة المؤمنين وإن كان منهم المذنبون، فإنظارهم يستفيدون منه، إذا خوفهم يوم القيامة وخوفهم بعذاب الله يتوبون إلى الله، من كان على معصية من تلك اللحظة أو الساعة يعزم على تركها فيستفيد بإنذارك بالقرآن يا رسولنا، أما الأموات المشركون الكفرة فكيف يستفيدون؟
وقد يدخل في هذا بعض اليهود والنصارى، إذ هم يؤمنون بالله وبلقائه، كذلك أنذرهم، وأنذر به ( وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن العظيم، أو بيوم القيامة ( الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ )[الأنعام:51]، والحشر إلى الله هو السوق بواسطة الملائكة إلى ساحة فصل القضاء، واقرءوا لهذا: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا )[الزمر:68-69]، إذا جاء الرب لفصل القضاء استنارت تلك الأرض كلها بنور الله، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ )[الزمر:69-70]، ثم سيق أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة، كما في آخر سورة الزمر.
(وَأَنذِرْ بِهِ )[الأنعام:51] أي: بالقرآن، أو بيوم القيامة، كل ذلك صالح، فالقرآن حمال الوجوه، الذين يؤمنون بيوم القيامة أنذرهم به حتى يقللوا من الشر والفساد ويقللوا من الباطل، فينتفعوا بهذا.

يتبع



ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:10 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
جهة ما يثبت من الشفاعة وجهة ما ينفى منها
(وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51]، هل لأحد يوم القيامة في عرصات القيامة في ساحة الحكم والقضاء، هل هناك من له شفيع وولي سوى الله؟ والله لا أحد، فإذا أراد الله أن يكرم أحدنا قال: أي فلان! شفعناك في فلانة أو فلان. إذا أراد الله أن يشفع امرأً قال: شفعناك فاشفع. ويحدد له فيمن يشفع، ولا تظن -كما يقول المبطلون وكما زور الضالون وضللوا أمة المؤمنين والمسلمين- أن فلاناً القطب هو الذي يشفع، فهذا كله باطل. فنحن لا ننفي وجود من يشفع يوم القيامة لبعض الناس، ولكن ننفي أن يقول أحد: أنا أشفع لفلان، ومن الآن أعطني بستانك أو أعطني منزلك لأشفع لك، فهم يخرجون من بيوتهم وبساتينهم للمشايخ ليشفعوا لهم، يضمنون لهم الشفاعة.
إذاً: لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحد إلا الله، هو الذي يأذن لمن شاء أن يشفع تكريماً له، ويبين له من يشفع فيه أيضاً، فلو أراد محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- أن يشفع في أبي جهل وعقبة بن أبي معيط فلا يصح ذلك ولا يأذن الله له، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] عمن يشاء، فلا بد أن يأذن الله لك بأن تشفع، ولا بد وأن يرضى عمن تشفع له، فإذا لم يرض له أن يدخل جنته فلن تستطيع أنت أن تشفع له.
ولا ننسى ذاك المنظر العجيب الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء، فإن إبراهيم عليه السلام يقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا جاء في كتاب الله في سورة الشعراء- وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي يا رب؟ أراد أن يشفع في أبيه، فما كان إلا أن قال الله له: انظر تحت قدميك، فنظر فإذا والده آزر في صورة ذكر من ذكران الضباع ملطخ بالدماء، فما إن نظر إليه إبراهيم حتى اقشعر جلده وصاح: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فأخذته الملائكة من قوائمه الأربع وألقوه في اصل الجحيم وطابت نفس إبراهيم.
التقوى غاية الإنذار بالقرآن الكريم
إذاً: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:51] يتولى أمرهم، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:51] يشفع لهم، بل الله هو الولي وهو الشفيع.ثم علل لهذا بقوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51] الله فلا يعصونه، بم يتقى الله يا عباده؟ بتقواه، لا بالحصون ولا بالأسوار ولا بالسحر ولا بالجيوش أبداً، إنما يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط، لا شيء آخر إلا بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله -أي: أطاعه فلم يعصه- فقد زكت نفسه وطابت وطهرت وأصبحت كأرواح الطاهرين، فهذه الروح لا يمكن أن يتلاءم معها العذاب أو الخزي والعار، بل تتلاءم مع أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

(وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، أنذر بالقرآن يا عبد الله، أنذروا أيها المؤمنون بالقرآن من يخافون الله ويخشون الوقوف بين يديه؛ رجاء أن يتقوه فيتركوا معاصي الله، فكل من يخالط معصية ويباشرها وأنت تعلم ذلك فعلمه وأنذره وخوفه بلقاء الله، فأنت نائب عن رسول الله.
تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ...)
ثم قال تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52].
سبب نزول الآية الكريمة
هذه نزلت في حادثة معينة وقد تكررت، وهي أنه أيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة جاءه وفد من المشركين من غلاتهم وكبارهم، وقالوا: إن أردت أن نسمع منك ونفهم ما تقول فأبعد عنا هؤلاء الفقراء والمتسخين لنجلس إليك جلسة خاصة ونفهم ما تقول، أما أن نجلس مع بلال وصهيب وفلان وفلان فلا نستطيع، وقالوا: اكتب لنا بهذا صكاً، وتقول الرواية: استدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب، فلما هم صلى الله عليه وسلم بهذا الفعل رجاء أن يدخل هؤلاء الرؤساء في الإسلام فيتبعهم الجهال والعوام وتنتهي هذه الحرب، وهذا من باب الرشد والفهم والبصيرة، فلو أسلم أبو جهل وعقبة وفلان وفلان لأسلمت مكة كلها، هكذا فهم ورغب وأراد أن يطبق، قال سعد بن أبي وقاص : أنا وعبد الله بن مسعود وفلان واثنان معنا لا أسميهما، فلما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطبق هذه المسألة أنزل الله تعالى قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، لا تطردهم من أين؟ من مجلسك ليجلس الطغاة والمشركين، إذ كان يجلس حول الكعبة ويجلس حوله الفقراء، وأما الأغنياء فيلوون رءوسهم متكبرين، يقال لهم: اجلسوا لتسمعوا، فيقولون: لن نسمع؛ فهؤلاء يجترئون علينا ويقولون فينا. وهذه الصفة باقية إلى يوم القيامة، أهل الكبر لا يجلسون في مجالس العلم ولا يجالسون الفقراء بحال من الأحوال إلى يوم القيامة، والكتاب كتاب هداية للأبيض والأصفر إلى يوم القيامة.إذاً: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الكهف:28]، لما أمر بألا يفعل أصبح يجلس مع المؤمنين ثم يقوم عنهم ليتعرض لأولئك الطغاة لعلهم يهتدون، فأنزل الله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ )[الكهف:28] احبسها، ( مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )[الكهف:28-29]، هداية من هذه؟ هداية الله، قولوا: آمنا بالله، كيف يكفر بالله؟
ذكر خبر عتاب الله تعالى لنبيه في شأن ابن أم مكتوم
ولا ننسى أيضاً عتاب الله له صلى الله عليه وسلم في سورة عبس، تلك حادثة خاصة؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم كبار الطغاة ويدعوهم ليهديهم وعبد الله بن أم مكتوم الأعمى وراءه بعصاه يقول: يا رسول الله! علمني، يا رسول الله! أجبني، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت لأنه مشغول لعل الله يهدي عمرو بن هشام أو عقبة بن أبي معيط ، فأنزل الله تعالى فيه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى )[عبس:1-2]، عبس بوجهه وتولى وأعرض، يلتفت إليه ثم يتركه، ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )[عبس:1-11]، ما إن نزلت هذه حتى كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء ابن أم مكتوم فرش له بعض ردائه وأجلسه إلى جنبه، ويقول: مرحباً بالذي عاتبني ربي من أجله! هل تستطيعون هذا؟ هل تقدرون عليه؟ لو أخذتم قبساً من الأخلاق النبوي فذلك يمكن، شخص سجنت أو اتهمت أو أوذيت من أجله ثم تنسى ذلك كله وترحب به وتؤهل وتسهل وتكرمه، من له نصيب من الخلق النبوي من خلق محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يفعل هذا.
المراد بالدعاء في الآية الكريمة وبيان مقصد الداعين
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، وهنا الدعاء بمعنى الذكر والصلاة: صلاة الصبح وصلاة العصر، والغداة قال أهل العلم: هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي: من العصر إلى غروب الشمس.قال تعالى: ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ )[الأنعام:52]، يسألونه ما يريدون أن يكملوا به ويسعدوا، هؤلاء تعرض عنهم وهم يدعون ربهم بالغداة والعشي وتلتفت إلى الآخرين!
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )[الأنعام:52]، أي: وجه الله عز وجل، فحين يصلون ويذكرون ويبكون ويدعون هل يريدون الدينار والدرهم؟ يريدون ماذا؟ أن ينظر الله إليهم ويحبهم ويغفر لهم ويرفعهم، ما يريدون ديناراً ولا درهماً ولا شهوة، يريدون وجه الله فقط، هؤلاء ( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، لن تحاسب عليهم أنت أبداً، ( وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52] وهم كذلك لا يحاسبون عليك من شيء، إذاً: أنت في طريقك إلى الله وهم في طريقهم إلى الله عز وجل.
حكم طرد الفقراء والمساكين من مجالس الأغنياء ونحوهم
قال تعالى: ( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، إذاً: فطرد الفقراء أو المساكين من مجالس أهل العلم أو مجالس أهل الفضل محرم عندنا لا يجوز، بل إذا جلس فقير ثيابه رثة تكرمه كما تكرم الغني إذا جلس وثيابه جميلة، عرفتم هذه؟ لا تقل: أبعدوه فهذا وسخ فيه كذا، وإذا دخل الغني تهش في وجهه وتفرح!كنت اليوم عند باب المعارج هذه، وكان هناك اثنان أو ثلاثة على رأسهم إمامنا الشيخ علي ، فنزلت من العربة وصافحت الشيخ علياً وأولئك الأغنياء، وكان أمامي فقير لاصق فجئت وسلمت عليه، فتعجب؛ لأنه ليس معتاداً أن يسلم عليه، فذكرت هذه.
يجب ألا ننسى هذه الهداية الربانية، لا فرق بين الغني والفقير، وإن كان هناك فرق بين العاصي والمطيع، بين المذنب والسليم من الذنوب والآثام، أما النسب والحسب والمال واللباس فهذا لا قيمة له أبداً، ها هو الله يؤدب رسوله بقوله تعالى: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:52]، ما أنت بمسئول عنهم ولا هم بمسئولين عنك يوم القيامة.
(فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ )[الأنعام:52] من أين؟ من جماعة الظلمة. فهل بعد هذا شيء؟ ( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:52]، وجزاء الظالمين معروف، ومن تلك الساعة والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين شريف ووضيع، وكذلك أصحابه وأتباعه إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ...)
ثم قال تعالى في بيان حكمة الفقر والغنى: ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، ابتلاء واختبار من الله لعباده، هذا سليم وهذا مصاب، وهذا مريض وهذا مبتلى، هذا غني وهذا فقير، هذا جميل الوجه وهذا ذميمه، لم فعل الله هذا؟ ما الحكمة؟ ما السر؟ لِمَ لَمْ يخلق الكل على أجمل إنسان؟ لم جعلنا كذا وكذا؟ لم فرق بيننا: هذا أسود وهذا أصفر، هذا مريض وهذا صحيح، هذا فقير وهذا غني، هذا جاهل وهذا كذا، ما الحكمة؟قال: ليختبرهم؛ لأنهم مهيئون لحياة الخلد والبقاء في عالم السماء وعالم الأرض، إذاً: فهذه الدنيا دار امتحان واختبار؛ فلهذا يوجد الفقير والغني والمتسخ والنظيف، وأنت مبتلى بذلك.
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا )[الأنعام:53]، من القائل؟ إنه الله. ( بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ )[الأنعام:53]، الأغنياء بالفقراء، والصالحين بالفاسدين، فتنا بعضهم ببعض ( لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )[الأنعام:53]، أهؤلاء منَّ الله عليهم وأكرمهم وأعزهم ونحن ما فعل بنا هذا؟
معنى قوله تعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)
قال تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ بلى. من هم الشاكرون؟ الذين يعترفون بنعمة الله عليهم ويذكرونها بقلوبهم، ويترجمون ذلك بألسنتهم، ويفصحون عن ذلك بكلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.ثم إن تلك النعمة إذا كانت جاهاً، بحيث صار فلان عنده جاه عند الدولة وعند الأغنياء، أو إذا كنت ذا جاه وجاهك يرتفع ويقبل؛ فأعط للناس شكراً لله عز وجل، إذا كنت ذا صحة بدنية فاشكر نعمة الله، فإذا وجدت من يحمل زنبيلاً ثقيلاً فاحمله معه، أو رأيت من يدفع سيارته فتجرد وادفعها معه، رأيت من يبني جداراً وأنت ليس عندك عمل فشمر ثيابك واشتغل معه في جداره شكراً لله على نعمة هذه الصحة، أو كان عندك مال، أغناك الله وفضلك على غيرك من الناس فاشكر الله بأن تنفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل ويحبه، لا تبخل به، عندك علم فضلك الله به فاشكر الله عز وجل واحمده وعلم، وإذا سألك مؤمن فأجبه ولا تقل: اذهب عني. وبذلك يتم شكرك لله على نعمته، ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام:53]؟ الجواب: نعم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، إنك ولينا ووليهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.







ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:11 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (7)
الحلقة (374)
تفسير سورة الأنعام


على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله عز وجل، وبتوحيده ووعده ووعيده، وبأحكام شرعه ودينه، وأن يكون عالماً بما يحبه سبحانه وبما يكرهه، وأن يوطن نفسه على الصبر في سبيل دعوته، فيصبر على مدعويه والمقبلين عليه، ويتلطف بهم، ويقربهم إليه، ويصبر على معارضيه من أهل الزيغ والضلال، والله عز وجل كاف عباده الصالحين.
تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة ومع هذه الآيات التي نسمع تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، وبعد ذلك نأخذ في شرحها وبيان ما جاء فيها من الهدي الإلهي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:54-58].
توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بالحفاوة بمن يجيئه من المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نحن الآن مع ربنا تعالى جل جلاله وعظم سلطانه، ومع نبينا ومصطفانا محمد صلى الله عليه وسلم، فلنستمع، فيا لها من حضرة ربانية لقوم يفقهون، اسمع ما يقول ربنا تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، وإذا جاءك يا رسولنا ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54] الحاوية لشرائعنا وأحكامنا، المبينة لسبيل النجاة، فماذا تعمل معهم؟ أهل لهم ورحب بهم وسهِّل: ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54]، ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].تقدم بالأمس أنه هم بإبعاد فقراء المؤمنين الذين طالبه المشركون بأن يبعدهم عنه ليخلو لهم رسول الله ويجلس إليهم وحده، فلما هم ولم يفعل أنزل الله قوله: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ )[الأنعام:52]، والآن ها هم قد جاءوا، فقال له: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ )[الأنعام:54].
و(السلام عليكم) و(سلام عليكم) بمعنى واحد، وهي كلمة تدل على الأمن والستر وعدم الأذى بحال من الأحوال، أي: سلمتم، فالسلامة من نصيبكم.
بيان ما كتبه تعالى على نفسه من الرحمة بالمذنب عن جهالة بعد توبته وإصلاحه
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، أي: أوجبها على نفسه، ولا يوجد من يوجب على الله شيئاً؛ إذ هو القاهر فوق عباده، ولكن لما اعتدنا نحن كلمة: كتب على نفسه كذا، أو كتب له بكذا، بطريق الوجوب؛ خاطبنا بما يزيد في علمنا ومعرفتنا: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ )[الأنعام:54] أي: خالقكم ورازقكم ومدبر حياتكم، كتب إلهكم الذي لا إله غيره ( عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )[الأنعام:54]، فلهذا من تاب إليه مهما جنى وقارف وارتكب من عظائم الذنوب؛ فإنه إذا تاب إليه وأصلح ما أفسده يجد الله غفوراً رحيماً، هذا الخطاب للبشرية كلها إلى يوم القيامة ونحن من بينهم.(كتب) أي: أوجب تعالى على نفسه الرحمة، من مظاهر تلك الرحمة أن من أذنب منا أعظم الذنوب ثم تاب ورجع وعاد إلى الحق والطهر وأصلح ما أفسد، وكان ارتكابه ذلك الإثم بجهالة، لا عن تعمد واستهزاء وكبرياء وكفر والعياذ بالله؛ إذ مثل هذا قد لا يتوب عليه، كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )[البقرة:6].
لكن هذا ارتكب الذنب جهالة، ما عنده علم بأن الله يكره كذا أو لا يحب كذا، ما عنده علم أن الله يغضب لأجل كذا أو كذا، غلبته شهوته فارتكب معصية كبيرة أو صغيرة، هذا أوجب الله تعالى على نفسه الرحمة له بأن يغفر له ويرحمه إذا تاب.
أثر اقتراف المحرمات على النفس في غير حالة الإكراه والنسيان
وتأملوا الآية الكريمة: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ )[الأنعام:54] لأنه في جواب (إذا)، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ )[الأنعام:54]، والسوء: كل ما يسيء إلى النفس البشرية، يخبثها ويعفنها ويفرض عليها الظلم والنتن، إذ كل معصية لله بترك واجب أو بفعل حرام يتولد عنها هذا الأذى للنفس والقلب، واحلف على ذلك بالله ولن تحنث، اللهم إلا إذا كان فاعل المعصية غير متعمد، أو كان مكرهاً بالحديد والنار، فالمكره كالناسي لا يتأثر أحدهما بهذا، فالمكره على أن يقول كلمة الباطل أو يرتكب جريمة معفو عنه، لأنه لا إرادة له، والناسي غير متعمد كذلك فما يتأثر قلبه بهذا العمل.أقول: المعصية لله والرسول تكون إما بترك واجب يجب أن يفعل، أو بارتكاب منهي يجب أن يترك، هذه هي المعصية، إذا ارتكبها عبد ناسياً كما لو أفطر ناسياً أن اليوم من رمضان، أو ارتكبها مكرهاً بالحديد والنار، فهل هذا تؤثر فيه تلك المعصية؟ لا تؤثر، لا تنتج خبثاً ولا تنتن قلبه ونفسه؛ لأنه فاقد الإرادة أو ناس، وفي الحديث: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، قاعدة مبينة، أما إذا ارتكب ذلك بجهالة، كأن يقول: سوف أتوب، أو لعل هذا لا يغضب ربي، أو أنا معذور.. أو نحو ذلك من أنواع الجهالات كثيرة، ليخرج ذاك الذي يحارب الله وشرعه علناً وعمداً، إذ هذا لا يتوب الله عليه، فهذا الذي فعل هذه المعصية بجهالة ثم تاب وأصلح، أي: أنه ترك المعصية ونفسه مظلمة ليزكيها ويطهرها بالصلاة بالصدقات بالذكر بالدعاء حتى يزول ذلك العفن والنتن في نفسه، وأصلح ما أفسد، سواء أفسد أموال الناس أو أفسد قلبه ونفسه؛ فإن الله تعالى يتوب عليه.
توجيه الرسول وأتباعه المؤمنين إلى الهدي الرباني في التعامل مع المعترف بذنبه الراغب في التوبة
(ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله عز وجل ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه، أمر الرسول أن يبلغ هذا للمؤمنين، أيما مؤمن يجيء ويعتذر ويقول: أذنبت يا رسول الله، يقول له الرسول: مرحباً وأهلاً وسهلاً، سلام عليكم، توبوا يتوب الله عليكم، استغفروا يغفر لكم، ما يواجههم بغلظة ولا بشدة ولا بعنف ولا بغضب أبداً، وهذا منهج الرسول الذي سلكه ويجب أن نسلكه نحن، إذا أذنب أخوك أو أذنبت أختك من المؤمنين والمؤمنات فلا تواجه بالمواجهة القاسية أو الشديدة وهو يقول: قد فعلت فاستغفر الله لي، ادع له بالمغفرة وبشره وهنئه بالتوبة التي رزقهم الله إياها، عملاً بهذا التوجيه الإلهي.ماذا قال تعالى؟ ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا )[الأنعام:54]، هؤلاء ليسوا بمشركين ولا كافرين، ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، وقرئت: (فإنه غفور رحيم) يغفر له ويرحمه، يستر ذلك الذنب ويمحوه ويرحمه، هذه بشرى عاجلة، وهل من المؤمنين من لا يذنب طول الدهر؟ أيما مؤمن يذنب ذنباً ويأتيك يستفتيك أو يعرض عليك ذنبه ويسألك عما يصنع فلا تغلظ القول عليه ولا تعبس ولا تقطب، بل قل: مرحباً وسلام عليك، واصبر وتحمل وإنك كذا وكذا، هذه هداية الله للمؤمنين.
(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ )[الأنعام:54] أي: الله ( غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، يغفر له ذلك الذنب ويرحمه برضاه وإدخاله جنة النعيم مع الأبرار والصالحين، أما تفرحكم هذه؟
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، كهذا التفصيل الذي نفصل به الآيات المبينة للشرائع والأحكام والعبادات؛ كهذا التفصيل نفصل الآيات من أجل أن تظهر طريق المجرمين وتترك وتهجر ويبتعد عنها.(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55]، أي: كهذا التفصيل بذكر الحادثة أو ذكر ما يتبعها وما يترتب عليها، وطريق التوبة والنجاة، هذا التفصيل من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] تتضح ( سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] فيتركها المؤمنون ويهجرونها ولا يلتفتون إليها، ولو لم يكن هناك تفصيل وبيان فسنقع فيما يقع فيه الآخرون، ومن هنا نستنبط أن طلب العلم واجب وفريضة، حتى تعرف طريق الحق من طريق الباطل، حتى تعرف سبيل النجاة من سبيل الخسران، فالله عز وجل يمتن علينا ويقول: هكذا نفصل الآيات من أجل ماذا؟ ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] وتتضح، ويعرف الإجرام والمجرمون والكفرة والكافرون حتى يتجنب طريقهم ويبتعد عنهم، فهل هذه منة إلهية أم لا؟ لو ما بين لنا طريق الهدى فكيف سنهتدي؟ لو ما بين لنا طريق الضلال وفصلها في الكتاب بعد ذلك فسنفعل ما يفعله الناس ونحن لا ندري؟
أقول: الحمد لله أن فصل الله آياته فبين طريق الهدى وطريق الضلال، فمن أخذ في طريق الهدى اهتدى، ومن أخذ في طريق الضلال ضل أحب أم كره.
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ )[الأنعام:55] وفي قراءة: (سبيلَ المجرمين) لتعرف يا رسولنا سبيل المجرمين، من هم المجرمون؟ اللصوص والسراق والزناة والمشركون الكافرون، هذا اللفظ يشمل كل معصية، إذ كل من أذنب ذنباً فقد أجرم على نفسه، لوثها وعفنها وأبعدها عن رضا الله ومحبته، كل من أجرم جريمة على نفسه فهو مجرم، وفعلته جريمة.
(سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55] سبيل الظالمين الكافرين المشركين اللصوص، قل ما شئت، وقد بين تعالى هذا في كتابه، ما بقي إثم غير معلوم في القرآن، ما بقيت جريمة غير مبينة في القرآن بسبب هذا التفصيل.
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ )[الأنعام:55] أي: كهذا التفصيل، ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55].
أطرح هذا السؤال: ما زلت أشك أن كثيرين لا يفهمون معنى الجريمة، فما الجريمة؟ كل من أذنب ذنباً ولو بنظرة محرمة فقد أجرم على نفسه، أفسدها، صب عليها الدخن والنتن والعفن، فهو مجرم، كل من ضرب أخاً أو سلب ماله أو سبه أو شتمه فقد أجرم أم لا؟ فهو مجرم مرتين: أجرم على ذلك العبد وأجرم على نفسه؛ فلهذا كان كل مذنب مجرم.
(وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )[الأنعام:55]، لولا هذا الكتاب فهل سنعرف الذنوب والمعاصي؟ لن نعرفها، إن عرفنا شيئاً جهلنا أشياء.
تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ...)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:56] أيها المبلغ عنا. هنا رسول الله مع ربه، قل يا رسولنا لهم وأعلن: ( إِنِّي نُهِيتُ )[الأنعام:56]، من نهاه؟ الله ربه وخالقه.(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، فابكوا أو اضحكوا، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعونهم من أصنامكم وأوثانكم وحجارتكم، أو من شهواتكم وأهوائكم، أو مما اتخذتموه آلهة وعبدتموه كعيسى ومريم .. وما إلى ذلك، نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله، وتدعون بمعنى: تعبدون، إذ الدعاء هو العبادة ومخها، فمن دعا غير الله فقد عبده، كل من دعا غير الله فقد عبد من دعاه، إذ الدعاء هو العبادة؛ فلهذا قال: ( نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:56]، لا أدعو اللات ولا العزى ولا وثناً ولا حجراً، أدعو الله وحده فقط، فلا تلومونني إذاً فأنا مأمور، سيدي ومولاي نهاني أن أعبد الذين تدعون من دون الله، فهل نعصيه من أجلكم؟

هذه الآيات تزيل مفاهيم من نفوس المشركين وتوجب فهوماً أخرى، يندهشون مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون، فلا تلومونني أنا، أنا منهي، أنا مأمور، وأنتم لا تنتهون وتعبدون غير الله.

يتبع


ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:11 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين)
ثم قال له مرة أخرى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، ومعنى هذا: أن كل من عبد غير الله بدعاء.. بحلف.. بذبح.. باستغاثة.. بنذر.. بركوع.. بسجود؛ والله ما فعل ذلك إلا اتباعاً للهوى، لا يملك من الحق في ذلك شيئاً، ولا مقدار واحد من مائة من دليل.(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، معنى هذا: لا أعبد ما تعبدون، ولا أعتقد ما تعتقدون، ولا أسلك ما تسلكون؛ لأنكم على غير علم ولا على بينة، وإنما بالأهواء فقط، كيف أترك بيان ربي وهداية مولاي وأتبع أهواءكم؟ هل يوجد من عرف من أبنائنا وإخواننا التوحيد ويستجيب للخرافة فيدعو غير الله؟ ما ذلك بممكن أبداً مهما كان، تدعو رسول الله: يا رسول الله أغثني، أعطيني! هل هناك من يرضى بهذا الكلام؟ لأن هذا هوى؛ فمن فعله فقد اتبع هواه، آلله أمره بهذا؟ في أي آية أمره أن يدعو غير الله والآيات كلها تندد بهذا؟
فكل من عمل ببدعة أو ضلالة والله لا يملك من الهدى شيئاً، إنما ذلك هوى واتباع النفس والشيطان، والآية نص: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]، يخاطب من؟ أبا جهل وفلاناً وطغاة مكة، لا أتبع أهواءكم لأنكم لا علم لكم، وإنما هي أهواء فقط وإملاءات إبليس والشيطان، فكيف أتبع أهواءكم؟
ثم يقول: ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، إذا أنا اتبعت أهواءكم ومشيت معكم ورافقتكم على ما أنتم عليه ( قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، سبحان الله! ما وراء هذا البيان من بيان؟
قل يا رسولنا لهؤلاء الضالين المجرمين الداعين غير الله العابدين سواه من أهوائهم وأحجارهم، قل لهم: ( لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] ما قال: قل لا أتبعكم، قال: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن ما يعبدونه كله من الهوى والشهوات، ما شرعه الله على لسان إبراهيم ولا إسماعيل ولا أنزل به كتاباً ولا بعث به رسولاً، بل مجرد اتباع هوى.
(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا )[الأنعام:56] إذا أنا اتبعت أهواءكم ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ )[الأنعام:56]، فكيف أرضى لنفسي أن أضل وأرجع من الهداية إلى الضلال؟ هذا لا يقبله عاقل أبداً، كيف أرضى به لنفسي؟ من الذي علم الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله جل جلاله، حتى لا يبقى في ذهنك ولا في قلبك شيء، هذه تعاليم الله لرسوله، وأمته تابعة له إلا ما دل الدليل على الخصوصية، فكلنا يجب أن نقول هذه الكلمة: لا أتبع أهواءكم في بدعكم وضلالاتكم، فكيف بعد أن نهتدي ونعرف الطريق ننتكس ونرجع إلى الباطل والخرافة والضلالة، كيف يمكن هذا؟
تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ...)
ثم قال تعالى: ( قُلْ )[الأنعام:57]، لا إله إلا الله! الله بين يديه رسوله وهو يأمره ويعلمه: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ )[الأنعام:57].أنا على بينة واضحة كالشمس من أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن البعث حق، وأن الجزاء لازم، وهذا جاء به كتاب الله وكذبتم أنتم به، فيا ويلكم.
قل يا رسولنا وبلغ: ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أنا بجاهل ولا في هوى وعمى وضلال، أنا على بينة أكثر من وضوح الشمس، كيف لا والله يكلمه وهذا كلامه يوحيه إليه وينزله عليه؟ أبعد هذا شك؟ ( إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ )[الأنعام:57] أنتم ( بِهِ )[الأنعام:57] أي: بالقرآن.. بالتوحيد.. بما جئت به من الهدى، كل هذا كذبوا به، فماذا نصنع معكم إذاً؟
معنى قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)
قل: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، أما قالوا: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]؟ اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق فأهلكنا حتى لا نراه بعد الآن، ( فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأنفال:32]، فهنا قال لهم الرسول بتعليم الله: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ 9[الأنعام:57]، لا أملك أنا العذاب بحيث متى طلبتم أنزله عليكم، لست بملك أبداً، أنا بشر، لا أملك سوى أن أبين الطريق بأمر الله عز وجل.(مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57]، (إن) بمعنى: (ما)، ما الحكم إلا لله، هو الذي يعذب متى شاء ويرحم متى شاء، يبين ويهدي ويعلم ويرشد، أما أنا فعبد من عبيده.
فهم كانوا يستعجلونه بالعذاب: إن كنت صادقاً فيما تقول فأنزل علينا كذا، مر ربك ينزل علينا العذاب. وهي حماقة وجهالة وضلال.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، فلا حكم لأحد، الحكم لله فقط، والله ما الحكم إلا له، هو إن شاء أعطى وإن شاء منع، إن شاء أضل وإن شاء هدى، وإن شاء أدخل الجنة وإن شاء أدخل النار، افهم فهماً سليماً أن الحكم ليس لأحد، لا لملك ولا لنبي ولا لولي ولا لأي أحد، الحكم لله، فافزع إلى الله والجأ إليه واطلبه وابك بين يديه ولا تلتفت إلى غير الله تعالى، والله ما الحكم إلا لله.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ )[الأنعام:57]، فالقرآن الكريم فيه قصص، والله ما فيه قصة واحدة كذباً، لا والله ولا كلمة واحدة ليس فيها حق، فكل ما يقصه من حال عاد وثمود وفرعون وقوم شعيب والأمم وكيف دمرها، وكيف صرخ أهلها وطالبوا بالعذاب ونزل بهم، كل ذلك يقصه قص الحق.
(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:57]، خير من يقضي ويفصل بين الحق والباطل، بين الشر والفساد، بين الخبث والطهر والصفاء، فقولوا: آمنا بالله.
تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ...)
وفي الآية الأخيرة يقول له ربه سبحانه وتعالى: ( قُلْ )[الأنعام:58] يا رسولنا، ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58]، ما الذي يستعجلون به؟ العذاب، يريدون أن ينزل الرسول عليهم العذاب بأمر الله، فلو كانوا يعقلون إذا نزل بهم العذاب وهلكوا فماذا سينتفعون؟ ولكن ما هم بمؤمنين بنزول العذاب، بل يريدون أن يتحدوا رسول الله ويعجزوه، حتى إذا قال: ما عندي ذلك قالوا: إذاً ما هو برسول، فالأمم السابقة كعاد لما تحدوا وطالبوا بالعذاب استجاب الله لرسوله هود فأرسل عليهم عاصفة ثمانية أيام وسبع ليال فما بقي أحد منهم، لكن اقتضت حكمة الله ألا ينزل العذاب بتلك الأمة أو الجماعة التي طغت وطالبت بالعذاب؛ لأن الله يعلم أن منهم من يسلم، وأن منهم من يخرج من صلبه مسلمون يعبدون الله عز وجل، فقال لمصطفاه: قل يا رسولنا: ( لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ )[الأنعام:58] أي: من العذاب ( لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، لو كان عندي الآن فسأقول: يا رب أنزل بهم وباء فلا يتنفسون حتى يموتوا، لكن ما يستطيع وما يقدر، اللهم أنزل صاعقة من السماء أو اخسف بهم الأرض من تحتهم حتى تنتهي المشكلة، لكن الرسول لا يملك هذا، ومع هذا أيضاً لو كان يملكه فإنه لا يفعل، إذ هو أرحم الناس، لكن هذا هو الجواب لسؤالهم: ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58].لو نزل العذاب يعذب الله به الظالمين، أما غير الظالمين فينجيهم، وقد فعل مع عاد قوم هود، أما نجى الله هوداً والذين آمنوا معه؟ أما فعل هذا مع ثمود فنجى صالحاً ومن معه؟ أما فعل هذا مع فرعون فنجى بني إسرائيل في ستمائة ألف وأغرق فرعون ومن معه؟ وهكذا مع نوح في السفينة أنجى ثلاثة وثمانين رجلاً وامرأة، وأغرق العالم بكامله.
قبح الظلم بالإشراك بالله تعالى
(قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )[الأنعام:58] وانتهينا، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ )[الأنعام:58]، تكرر معنى الظلم، وأفظعه وأبشعه وأقبحه ظلمك لربك، تأخذ حقه وتعطيه لأعدائه، بعض الإخوان لا يستسيغون هذه الكلمة، أي ظلم أفظع من أن تأخذ حق مولاك وتعطيه لعدوه، هل هناك أعظم من هذا الظلم؟ الظلم المعتاد أن تأخذ مشلح هذا وتعطيه لفلان، أو تخرج هذا من داره وتعطي الدار لفلان، تسقط هذا عن دابته وتعطيها فلاناً، هذا هو الظلم، وظلمك لربك أن تأخذ حقه، تلك العبادة التي ما خلقك إلا من أجلها، ما رزقك ولا أطعمك إلا لها، فتصرفها عنه إلى غيره، أي ظلم أعظم من هذا؟ ولهذا جاء في القرآن: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13]، والظلم قاعدته عندنا: وضع الشيء في غير محله، ويتفاوت الظلم، فالآن لو أدخلت أصبعك في أذنيك وقلت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ليلى غني لنا. فهذا ظلم؛ إذ المكان ما هو بمكان غناء، لكنه ليس كظلم من وقف يبول على سارية المسجد، فالظلم يتفاوت ولكنه كله قبح وشر والعياذ بالله، أعظمه الشرك بالله تعالى، الكفر به عز وجل، الكفر بكتابه بشرعه بأوليائه بما عنده وما لديه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
[ أولاً: وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[الأنعام:54]، فإذا استفتاك مؤمن أو مؤمنة وقال: أنا زنيت أنا كذا فلا تعبس في وجهه، يجب أن تتلطف، وتقول له: تاب الله علي وعليك، غفر الله لك، الله غفور رحيم، والحمد لله وأقبل على الله.. وهكذا، أخذنا هذا من هذه الآية.
قال: [ وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم ]، فالله أمر الرسول ألا يغلظ ولا يشتد عليهم، بل يقول: سلام عليكم، أهلاً وسهلاً.
[ ثانياً: اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك ]، لقوله تعالى: ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56] لم؟ خشيت أن أهلك، ( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ )[الأنعام:56]؛ لأن أصحاب الهوى في طريق الدمار والخسران، فكيف يتخلى من معه نور الله وهدايته ويمشي مع المبتدعة والخرافيين؟ تترك قال الله وقال رسوله وتجلس تسمع الخرافات والضلالات!
[ ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه ]، من أين أخذ هذا؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]، ما أتكلم عن جهل أو ضلال أو تقليد، أنا على بينة، فعلى الذين يدعون إلى الله عز وجل أن يكونوا علماء عالمين بما يحب الله وبما يكره وبما شرع وبما بين من أنواع العبادات والأحكام، أما قال تعالى لرسوله: ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي )[الأنعام:57]؟ والذي لا بينة له يتكلم بهواه وبالخرافات ليتبعه الناس.
قال: [ثالثاً: على المسلم الداعي إلى ربه] وما بيننا إلا داع، كل مؤمن داع مع امرأته.. مع أولاده.. مع جيرانه، ما هو بشرط أن يجلس في المسجد أو في الجامع ليدعو، كل مؤمن يجب أن يخلف رسول الله في الدعوة، لكن لا بد أن يكون على علم.
[ رابعاً: وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة ].
أخذنا هذا من قوله تعالى: ( مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[الأنعام:57].
معاشر المستمعين! هذا كتاب الله، الحمد لله أن قضينا ساعة أو بعضها مع ربنا ورسولنا في بيت مولانا، فما أسعدنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وارض عنا ولا تسخط يا رب العالمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:13 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (8)
الحلقة (375)
تفسير سورة الأنعام


الله عز وجل محيط بكل شيء، عنده مفاتيح الغيب، لا يعزب عنه مثقال حبة في السماء أو في الأرض، يعلم ما يجترحه عباده من أعمال صالحة وطالحة، له الجبروت والملكوت، فهو القاهر فوق عباده، وهو الذي يحفظهم بملائكته، حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته الملائكة، فإن كان مؤمناً صالحاً خرجت روحه كالقطرة تخرج من في السقاء، وإن كان غير ذلك انتزعت روحه انتزاعاً يجد أثره في كل مفصل من مفاصله، وكل عرق من عروقه، ثم مرد الجميع إلى الله مولاهم الحق.
تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين آملين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة والتي زفت بسبعين ألف ملك من الملكوت الأعلى إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نستمع إلى تلاوتها مرتلة مجودة، وبعد ذلك نشرع في تفسيرها وبين مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:59-62]. سبحانه لا إله إلا هو.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59] آمنا بالله..آمنا بالله. يخبر تعالى أن خزائن الغيب عنده ومفاتيحها عنده، إذاً: فمن احتاج منكم إلى شيء فليقف أمام ربه وليسأله فإنه عنده مفاتح الغيب، وقرئ (مفاتيح)، و(مفاتح) جمع مفتح، وهو الخزانة المستودعة لما أودع الله فيها من الأرزاق، والمفاتيح أيضاً بيده، فلم يبق مجال لعاقل أن يضع حاجته بين يدي كائن من كان سوى الله عز وجل.
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ )[الأنعام:59]، ليس هناك من ملك ولا نبي ولا ولي يعلم هذا الغيب، هذه المستودعات، هذه الخزائن الله خالقها وموجدها وهو العليم بها، فيا بني الإنسان ويا بني الجان! عليكم بربكم تعالى لا تلتفوا إلى غيره فإنه بيده مفاتح الغيب، هكذا يريد تعالى أن يقول لنا.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59]، وما هناك إلا بر وبحر، وقدم البر لأن البر أقل من البحر والبحر أوسع، كل الكائنات الموجودة في البر والبحر الله بها عليم، من الذرة إلى المجرة في الملكوت الأعلى، هذا أبلغ من كلمة (عالم الغيب)؛ حتى تنشرح الصدور وتطمئن النفوس وتهدأ القلوب.
يقول تعالى: ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:59] من كائنات على اختلافها وعلى فوائدها وعلى مضارها ومنافعها، ولا يحصيها إلا الله، ويعلم ما يسقط من ورق هذه الأشجار في الجبال والسهول وفي الأماكن المطلقة، والله ما تسقط ورقة من شجر إلا يعلمها.
فهذا الذي يجب أن يعبد، هذا الذي يجب أن يدان له بالطاعة، هذا الذي يجب أن يحب، هذا الذي يجب أن نطرح بين يديه ونسأله ما نحن في حاجة إليه، أما الأهواء والشهوات والأصنام والأحجار والشياطين فكل هذا ضلال مبين.
إحاطة علم الله تعالى بكل شيء وتسطيره في اللوح المحفوظ
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا )[الأنعام:59]، والورق ورق الشجر، ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ )[الأنعام:59]، أي: ولا توجد حبة من البذور على اختلافها وتنوعها من بذرة الكزبرة إلى بذرة الدبا ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59].علمه الذي أحاط بكل شيء، وأضف إلى ذلك أن كل شيء دونه في ذلك الكتاب، فكيف ينجو الظالمون وكيف يسعد المشركون، وكيف تهنأ نفوس البغاة والظالمين وهم بين يدي الله أكثر من كونك أنت بين يدي أمك أو أبيك؟
هذا العلم الذي أحاط بكل شيء صاحبه يسب ويشتم وينسب إليه الولد ويدعى معه غيره ويتوسل إلى غيره! أمر عجب، وهو الإعراض عن الله وذكره وعن عبادته وحده دون من سواه.
مرة ثانية: تأملوا هذه الآية: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )[الأنعام:59]، ألا وهو كتاب المقادير، ألا وهو اللوح المحفوظ، ألا وهو الإمام المبين؛ إذ جاءت أسماؤه في القرآن ثلاثة: الإمام المبين واللوح المحفوظ وكتاب المقادير.
هذا هو الله فكيف نعرض عنه وعن ذكره وطاعته ونقبل على طاعة الشياطين وما تزينه من الأهواء والخبائث والرذائل؟ ما يبقى إلا أن يقول قائل: ما عرفناه، لو عرفنا هذا لما أعرضنا عنه.
إذاً: لم لا نعرف هذا؟ أما أنزل كتابه وهو بين أيدينا محفوظاً في صدورنا ومكتوباً بسطورنا على أوراقنا؟! وإنما العدو من الإنس والجن هو الذي صرفنا عن دراسة كتاب الله ومعرفة ما جاء فيه من سبل الهداية وطرق الضلال؛ لنبقى هابطين ساقطين حيارى مفتونين، ما هناك جواب إلا هذا.

يتبع

ابوالوليد المسلم 15-08-2021 01:13 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ...)
هيا إلى الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ )[الأنعام:60]، ينيمكم لتناموا. أوتظنون أن النوم سهل؟ والله لولا الله أراده لما استطاع أحد أن ينام، ما هناك فرق بين النوم واليقظة، وقد ننام بالنهار، لكن نوم الليل هو الأكثر وهو الذي تتجه الموعظة به. من يتوفانا في الليل؟ إنه الله تعالى، فالأعمال التي كنا نعملها في اليقظة لها حد تنتهي إليه، إذاً: ينيمنا فإذا نمنا وقف العمل فإذا استيقظنا بدأ التسجيل علينا والعمل، لكن الظاهرة هي ظاهرة النوم، فكيف ننام لولا تدبيره ولولا حكمته ولولا قدرته ومشيئته؟ من منكم يغمض عينيه ويقول: أنا نمت الآن؟ والله لا يغمض ولا يقدر.
وقد جاء من سورة يونس من مظاهر قدرة الله وعلمه أنه تعالى يتوفانا بالنوم، وهنا يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60]، والجرح يكون بالسكين أو بالعود، والمراد من الجرح هنا العمل بالجوارح، أولاً: تجرح بعينك فتنظر ما لا يحل لك أو ما لا يجوز لك ويسجل عليك، تجرح بأذنك فتسمع الخير أو الشر والحق أو الباطل، تجرح بلسانك فتقول المعروف أو المنكر، تجرح بيديك فتسرق وتخطف أو تتصدق، تجرح برجليك فتمشي إلى الحانات ودور الباطل أو إلى المساجد ودور المعرفة والعلم، فكم جارحة هذه؟ خمس.
ويبدو لي أن الجوارح الخمس لا بد أن نجترح بها، أما جرح الأنف والبطن والفرج فتابع، لأننا نجترح فننظر ونسمع ونقول أو نأكل ونشرب ونأخذ بأيدينا ونمشي بأرجلنا.
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ )[الأنعام:60] والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو قل: من اليقظة من النوم إلى النوم، نجترح أي: نكتسب بجوارحنا، وهو تعالى يعلم هذا أم لا؟ وإذا كان يعلمه فهل يجزي به أو يهمله؟
إذا: فوالله إننا لمؤاخذون بجوارحنا إن نحن اجترحنا السيئات، أما إذا اجترحنا الحسنات فليهننا ذلك، لكن إذا اجترحنا السيئات من النظرة المحرمة إلى سماع كلمة الباطل إلى النطق بالسوء إلى الأخذ باليد أو العطاء لما لا يجوز إلى المشي بالرجل إلى ما لا ينبغي؛ فكل هذا يسجل علينا ونجزى به، إلا من تاب وتاب الله عليه فإنه يمحى ذلك الأثر ويزول من نفسه ومن كتاب الملائكة.
معنى قوله تعالى: (ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون)
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60]، أي: في النهار، يتوفانا بالليل ويبعثنا في النهار، لماذا؟ ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، ننام ونستيقظ إلى أن ينتهي النفس الأخير، انظروا كيف يرعانا نائمين ومستيقظين نعمل الحسنات والسيئات، وهكذا قال: ( ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، والذي يقضي هو الله، والأجل هو نهاية العمر، الأجل المسمى نهاية الحياة للإنسان. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60] مرجعنا إلى من؟ إلى الله، والله ما لنا من مرجع نرجع إليه إلا الله عز وجل، ( ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ )[الأنعام:60] يخبركم بما كنتم تعملونه من الخير والشر، من الحق والباطل، من العبادات الصالحة ومن الشركيات الباطلة، ومن شك في هذا كفر وما آمن بالله، وهذه الحقائق ثابتة ثبوت هذا الكون.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )[الأنعام:60] أي: في النهار ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى )[الأنعام:60]، أي: لتتم مدة الحياة للفرد والجماعة، ( ثُمَّ ) بعد الموت ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ )[الأنعام:60]، ثم بعد ذلك إذا وقفنا في ساحة فصل القضاء ينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به الخير بمثله والشر بمثله، فقولوا: آمنا بالله، هكذا يتعرف إلينا لنعرفه معرفة يقينية فيزداد حبنا فيه وله وخوفنا منه، فهذه نتائج العلم بالله.
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ...)
ثم يقول تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وهو القاهر المتحكم المسيطر المذل المعز المعطي المانع ( فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61]، وليس فوق الله شيء. فهذا هو الذي يتحاب الناس من أجله، هذا هو الذي يطلب ويبحث عنه حتى يعرف معرفة يقين فيتأهل العارف بعبادته وطاعته، وبحبه والمهابة والخوف منه، وهو القاهر وحده، ولا أحد آخر معه.
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )[الأنعام: 61] أولاً ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، والحفظة من بينهم الكرام الكاتبين، إذ يتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، اثنان أحدهما يقعد عن اليمين والثاني عن الشمال من صلاة الصبح إلى نصف إلى أن نصلي العصر، يتركانك بعد صلاة العصر وينزل اثنان من صلاة العصر إلى صلاة الصبح.
وهناك قرين ملازم لا يفارقنا ليلاً ولا نهاراً، وهناك حفظة يحفظوننا من الجن والشياطين أيضاً غير هؤلاء، فمن يرسل هذا الجيش لحمايتك كأنك سلطان؟ ( وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61]، ينزلهم من الملكوت الأعلى يرسلهم علينا لا لنا.
معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون)
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[الأنعام:61]، والموت قادم، والله إنه لآت، متى؟ لا ندري، قد يكون الآن أو بعد ساعة أو بعد يوم، فلم ننسى الله ونعرض عن ذكره؟ لم نصاب بهذه المحنة: الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الشهوات والأهواء ونحن محكوم علينا بالموت؟ ومن حكمة الله ألا يطلعنا عليه حتى يأتي مفاجأة، وبذلك تتم حكمة الله. لو علمت أنك تموت بعد أسبوع أو بعد شهر فستستقيم، لكن ما دمت في دار الابتلاء والعمل فإنك لا تدري حتى تؤخذ على ما أنت عليه.
(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً )[الأنعام:61] إلى متى؟ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، هل لله رسل؟ كل من أرسله الله من الملائكة رسول، وكل من أرسله من الأنبياء رسول.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا )[الأنعام:61] ملك الموت وأعوانه، ملك الموت هو الذي يأخذ الروح ويستلها من الجسم ويسلمها للموكب الذي ينتظره، والموكب إما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاء، فإن كان الميت من أهل الشقاء فلا تسأل عن هذا الموكب كيف وجوههم وكيف أصواتهم، وإذا كان من أصحاب الأرواح الزكية والأرواح الطاهرة فلا تسأل عن طهارة هذا الموكب.
(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، والله ما يفرطون أبداً، مستحيل أن يأتي ملك الموت وأعوانه ثم يقول: نرى أن نؤجل هذا إلى غد أو إلى ساعة من الآن، مستحيل أن يعصوا الله كما نعصيه نحن، ( وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ )[الأنعام:61]، لا بد أن يمضي هذا الحكم الإلهي، إذا جاءت الرسل المرسلة منه لقبض روح فلان فإنهم يأخذونها بالوقت المحدد باللحظة وبأقل من اللحظة ولا يفرطون في ذلك أبداً.
آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كلام الله، أسألكم بالله: هل هذا يقرأ على الموتى؟ أسألكم بالله: هل هذا يهجر ولا يدرس ولا يتدبر ولا يتفكر فيه؟
تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ...)
قال تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ *
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:61-62]، بعد الموت نرد إلى من؟ إلى ملكنا وإلى ولي أمرنا الله تعالى، ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، مولاهم مالكهم سيدهم ربهم إلههم الذي يملكهم حقاً وصدقاً؛ إذ هو خالقهم ورازقهم وخالق الكون كله من أجلهم، أليس هو مولاهم؟! (ثُمَّ رُدُّوا )[الأنعام:62] بعد استلال الروح من هذا الجسد واستلامها والعروج بها أو الهبوط، وقد علمنا من غير هذه الآية أن الأرواح الطاهرة إذا أخرجت وعرج بها تفتح لها أبواب السماء سماء بعد سماء حتى ينتهي الملائكة بها إلى تحت العرش، ويسجل الاسم في كتاب عليين، وإذا كانت الروح خبيثة منتنة عفنة بأمراض الشرك والمعاصي والكفر والآثام فلا تفتح لها أبواب السماء، وينزلون بها إلى أسفل سافلين، واقرءوا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )[الأعراف:40]، ومتى يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل! فصاحب النفس الخبيثة مستحيل أن تدخل نفسه دار السلام، هل عرفت البشرية هذا؟ ما عرفت، خمسة وتسعون في المائة -بل تسعة وتسعون- ما عرفوا هذا، معرضون مصروفون، وإلا فلو فكر أحدهم فقال: أنا مخلوق أم لا؟ أي نعم، ومصنوع، فأين صانعي؟ من هو؟ فإن قالوا: يوجد في الصين من يعرفه؛ فإنه -والله- يرحل ليعرفه، وإذا وجد من يعرف صانعه قال: ماذا يريد مني؟ علمني عرفني. يقول: يحب منك كذا وكذا ويكره لك كذا وكذا وقد أعد لك كذا وكذا. فيعبد الله ويسعد بتلك العبادة وإن كان مريضاً أو جائعاً، هذا واقعنا والله يدخل في رحمته من يشاء.
قال: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]، وهل هناك موال آخرون؟ هناك ولايات لكنها باطلة، لا مولى لك حق إلا الله، كل من ادعى أنك عبده وأنه ولي أمرك فادعاؤه باطل، فمولانا معبودنا ربنا خالقنا الحق هو الله: ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )[الأنعام:62]. ‏
معنى قوله تعالى: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)
ثم قال تعالى: ( أَلا )[الأنعام:62]، ونحن اليوم نستخدم كلمة (ألو) هذه التي شبعنا بها حتى الأطفال الصغار، القرآن يقول: ( أَلا )[الأنعام:62] استمع انتبه، هل أنت واع، هل أنت تفهم؟ هذا معنى ألو. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )[الأنعام:62]، اجتمعوا على صعيد واحد في عرصات القيامة ثم لا حكم إلا لله، ليس مع الله أحد في ذلك الموطن يحكم معه، ( أَلا لَهُ الْحُكْمُ )[الأنعام:62]، وقد يقول قائل: إذاً قد يطول الزمان، فلا بد أن يسند ويساعد! والجواب: لا تفهم هذا الفهم فإنه أسرع الحاسبين، أسرع من يحاسب ويجزي كلاً بكسبه وعمله.
فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الكسب الصالح، ومن أهل الإيمان والتقوى يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا واجعلنا من الراشدين، اللهم اجمعنا على كلامك في بيوتك يا رب العالمين، وارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، وتوفنا وأنت راض عنا وأدخلنا يا ربنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (376)
تفسير سورة الانعام (9)


كان المشركون في جاهليتهم يدعون مع الله آلهة أخرى، حتى إذا وقعوا في الشدة والكرب دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا نجاهم من ذلك عادوا لما كانوا عليه سابقاً، وهذا برهان عظيم على بطلان فعلهم وفساد معتقدهم، فالله سبحانه وتعالى الذي تفرد بخلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم قادر على أن ينزل على من يشاء منهم عذاباً من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولن يجدوا لهم من دونه ولياً ولا نصيراً.
تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
هذه السورة تقرر أصول العقيدة: توحيد الله عز وجل، إثبات النبوة لمصطفى ربنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير البعث الآخر والجزاء على الكسب والعمل في الدنيا، وها نحن مع هذه الآيات فلنستمع إلى تجويدها من أحد الأبناء ثم نشرع في بيان ما جاء فيها بإذن الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:63-67].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، وهو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي خاطبه فأمره هو الله ربنا ورب العالمين، وتلقى هذا الخطاب بواسطة الوحي الإلهي الذي ينزل به جبريل عليه السلام.
قل يا رسولنا للمشركين من قومك للعادلين بربهم أصناماً وأحجاراً، قل لهم: ( مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[الأنعام:63]، وما ينزل عليكم من بلاء، سواء كنتم في البر بالأمطار والعواصف والرياح أو في البحر، (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63]، تدعون الله عز وجل وتطلبون منه أن يكشف ما بكم من كرب وأن يزيل ما بكم من غم وهم عندما يصيبكم ذلك.
المفارقة بين شرك العرب الأولين وشرك المعاصرين من المسلمين حال الشدائد
(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا )[الأنعام:63] أي: حال كونكم متضرعين إليه بالأصوات الخافتة الخفية الدالة على الاستكانة والفقر والحاجة، ما هي بأصوات التجبر والتكبر كما تكونون خارج الهم والكرب، تدعونه تضرعاً وخفية وتحلفون له لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين له العابدين له الموحدين له، وهذه حقيقة قررها القرآن وأثبتها في آيات كثيرة. فالعرب المشركون في الجاهلية إذا كانوا في حال الشدة يفزعون إلى الله يدعونه ويتضرعون له بأصوات الضراعة، وإذا زال الهم والغم أو البؤس أو الشدة نسوا ذلك وأقبلوا على الأصنام يعبدونها بالتقرب إليها بالذبح والنذر والتمسح بها والعكوف حولها، هكذا كانوا.
وهنا نذكر الجهل الذي أصاب أمة القرآن لما صرفت عنه وحول إلى الموتى وحرمه الأحياء، تجد في ديارنا في العرب والعجم إلى الآن إذا أصاب إخواننا هم أو غم أو كرب يفزعون إلى الأولياء وإلى القبور يستغيثون ويستعيذون ويطلبون ويتوسلون، وإذا رفع الله ذلك البلاء وأزال ذلك الكرب والهم كذلك لا يشكرون الله عز وجل، فكانت حالنا أسوأ من حال المشركين، وبيان ذلك أن المشركين في حال الشدة يفزعون إلى الله وفي حال الرخاء يفزعون إلى أصنامهم وينسون شكر الله عز وجل، وذلك لجهلهم، ولجهل أمة الإسلام بعد أن صرفت عن كتاب الله ودراسته حصل لها ما حصل للمشركين، ولكن الذي يؤسف أنه حتى في الرخاء نستغيث بأولياء الله ونستعين بهم إلى غير ذلك، فحالنا أحط من حال المشركين الأولين.
فاسمع ما يقول تعالى عن العرب في جاهليتهم، يقول: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] قائلين مقسمين حالفين (لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63] التي نزلت بنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ )[الأنعام:63] له، فإذا زال ذلك الهم والغم نسوا الله عز وجل وما عبدوه ولا شكروه، هذا إخبار الله، يقول لرسوله: بلغهم ذكرهم ليفيقوا وليرجعوا إلى الحق.
تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)
ثم قال تعالى لرسوله: ( قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:64]، قل لهم يا رسولنا: الله ينجيكم من هذه المحنة أو هذه الأزمة التي حصلت، ينجيكم منها ومن كل كرب، ومع الأسف أنتم تشركون، لماذا؟ الجواب: لأنهم ما عرفوا الله وما عرفوا ما عنده وما لديه وما فقهوا ولا علموا، فلهذا يجب أن يصغوا وأن يستمعوا وأن يعلموا ويعملوا، وما بعث الله رسوله فيهم إلا من أجل هدايتهم والأخذ بأيديهم إلى سبيل النجاة والسعادة، لكن الرؤساء منهم يصرفونهم بأساليب الصرف كما تقدم وسيأتي.
تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ...)
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، ( قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] أي: الله عز وجل ( الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ )[الأنعام:65]، كالصواعق التي تنزل، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]،كالخسف والزلزال، وتمضي الأيام والأعوام ويصبح ما ينزل من السماء الصواريخ التي تدمر البلاد والعباد، وتحت الأرض المتفجرات التي تحول الديار إلى بلاقع، وسبحان الله! هذا كلام الله. ‏
معنى قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)
(قُلْ هُوَ )[الأنعام:65] جل جلاله وعظم سلطانه، هو وحده لا غيره ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، ما معنى (يلبسكم شيعاً)؟ أي: يوجد الفرقة بينكم وتفترقون وتصبح كل جماعة تدعو إلى ما تدعو إليه وتبغض الأخرى وتحاربها، تنقسم دولتكم إلى دويلات كل يطلب الملك والسيادة والعز، وتستمر الفتنة بينكم فلا سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فهو القادر على هذا وقد فعله بأمة القرآن وبأمة الإسلام، أليست مفرقة؟ أليست مقسمة؟ أليست شيعاً وطوائف وأحزاباً وجماعات؟ وهي اليوم أذل العالم.
ذكر خبر التسليط على الأمة بتفرقها وتناحرها
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض ) أي: جمعها ( فرأيت مشارقها ومغاربها )، جمع له الأرض ككتلة بين يديه، وتشاهدون هذا، قد تشاهد نيويورك في صفحة كعرض الكف، كالتلفاز، ولا عجب.قال: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها )، وقد جمعت الأرض بين يديه يشاهدها، قال: ( وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ) الذهب والفضة، ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة ) من الجدب والقحط أو البلاء والأوبئة التي تأتي على آخرهم، ( وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ) .
دعا ربه بعدما عرف على وجه شاشة شاهد فيها الكرة الأرضية، وقد كنا قبل أن توجد هذه الآلات نؤمن بما يخبر به الله والرسول، ولا نقول: كيف، والآن -كما قلت لكم- تكون جالساً أمام تلفاز عرضه وطوله ذراع وتشاهد نيويورك بكاملها أو القارة الخامسة.
إذاً: فلا غرابة ولا عجب أن زوى له الأرض وجمعها بين يديه فشاهد مشارقها ومغاربها كما هي، وأعلمه أن ملك أمته سيبلغ هذا -وقد بلغ وتم- وأنه أعطي الكنزين الأحمر والأبيض، وقد كانت أمة العرب فقرها لا وصف له، فأصبح المسلمون في القرن الأول والثاني والثالث أغنى البشر والعالم بالذهب والفضة.
ثم سأل ربه ألا يهلكها بسنة عامة فاستجاب الله له، وسأله أن لا يسلط عليها عدواً من غير نفسها يذلها ويهلكها فاستجاب، ولكن بشرط أن تكون أمتك متفقة متحدة، فإن افترقت واختلفت مذاهب وطوائف وشيعاً وأحزاباً ودويلات؛ فلا بد أن يسلط عليها أعداءها ليذلوها، وكذلك حصل وتم هذا الخبر كما هو، أما استعمرت أمة الإسلام كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وأذلهم الغرب إذلالاً لا حد له؟ ومن مظاهر ذلك الآن أن حفنة من اليهود أذلوا العالم الإسلامي بكامله إذلالاً كاملاً، ومن هنا نعرف أن الفرقة هي سبب البلاء والشقاء، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو سبب الجهل العميق، بحيث أصبحوا لا يعرفون الله ولا يحبونه ولا يخافونه، فضلاً على أن يعرفوا ما يحب وما يكره، وتحقق هذا.
دعوة لاجتماع الأمة على كتاب الله وسنة رسوله وتوحيد أقاليمها
فهيا نرجع إلى الله عز وجل، فما أخبر الرسول بهذا إلا لأنه لا بد أن نسلم أنفسنا وننقاد، علمنا لنحذر ونتقي هذه الفتنة، فأي مانع يمنع أن يجتمع المسلمون على كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى مذهب حنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا جعفري ولا زيدي ولا إباضي؟ آالله أمرنا بهذا؟ والله ما أمر. ثانياً: إذا أنهينا الفرقة في أربع وعشرين ساعة فإن معنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك بيان الحلال والحرام والآداب والأخلاق والعبادات والسياسة المالية والاقتصادية والعسكرية، كل ما نحتاجه موجود في كتاب الله وسنة رسوله.
في أربع وعشرين ساعة نكون أمة واحدة، ذلك أن ولاة الأقاليم الإسلامية يجتمعون في هذه الروضة ويبايعون إمام المسلمين وكل يعود والياً على إقليمه، فماذا يكلف هذا؟ لا شيء. وماذا يثمر هذا؟ كل الخير، أما أن نرضى بالفرقة والخلاف حتى في العقائد والعبادات، ونعرض عن الشريعة بما فيها ونعرض عن كتاب الله فلا ندرسه ولا نجتمع عليه وإنما نقرؤه على الموتى؛ فما الذي يرجى لنا سوى الذل والهون والدون؟
أقسم لكم بالله على أنه لا ينتظم أمرنا وتستقيم حياتنا ونقود البشرية إلى سعادتها بعد أن ننجو نحن ونسعد إلا بترك الفرقة كيفما كانت، البلد الآن مذهبه واحد وفيه جماعات مفترقة: هذا صوفي وهذا كذا وهذا كذا وهذا كذا، مفترقون في بلد واحد، المذاهب متفرقة ومتعددة، كل جماعة تعتز بمذهبها، آالله أمر بهذا؟ حاشاه تعالى أن يأمر بهذا وهو القائل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )[آل عمران:102-103] هذا أمره ونهيه أم لا؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
صور من الفوضى في الحياة الإسلامية البعيدة عن الهدي الإلهي
عجب هذا القرآن! اسمع ما يقوله تعالى لرسوله والأمة تسمع، يقول له: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وحصل هذا أم لا؟ قبل وجود الاستعمار بسنوات في بدايته كيف كان حال المسلمين؟ في بلاد المغرب لا تمشي من قرية إلى أخرى حتى تدفع جزية بين العرب أنفسهم! هنا في المدينة كان يؤخذ باب منزلك كي يباع في السوق ولا تستطيع أن تتكلم.
عندنا نخلة كبيرة يقول لنا آباؤنا عنها: هذه علق بها مائة رأس من قبيلة عدوة لنا! مائة شخص ذبحوهم وعلقوا رءوسهم، وهذا في بلاد العالم الإسلامي بكامله، ولولا ذلك لما سلط عليهم النصارى، سلطهم عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم، تدبير الله عز وجل، وما عرف العرب الأمن هكذا إلا بعد أن حكموا ببريطانيا وبفرنسا وغيرها، وهذا هو شأن من يرضون بالانقسام والفرقة والبعد عن الله عز وجل.
وها هم تحت النظارة، لا تظنوا أن الله غاب أو عجز، ما زال هو القوي القاهر القادر على ما يشاء، فإما أن نسلم قلوبنا ووجوهنا له ونصبح أمة واحدة كشخص واحد، وإما ينزل بنا بلاء أصعب وأشد من البلاء الأول، وبلغوا هذا.
معنى قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
ثم قال تعالى لرسوله: ( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65]، انظر يا رسولنا كيف نصرف الآيات هذه التي تتلى وننوعها ونبين ما فيها من هداية رجاء أن يفقهوا. وأكثرهم فقه وعرف، لكن الآن لما هبطنا لم يعد كثير من المسلمين يفقهون أبداً ولا يعرفون، أما الأولون ففقهوا ودخلوا في الإسلام، ما هي إلا سنيات -خمس وعشرون سنة- وما بقي كافر في الجزيرة، لكن نحن هل أقبلنا على الآيات وقد صرفت؟ أسألكم بالله: كم درساً يوجد في العالم الإسلامي مثل درسنا هذا في تفسير كتاب الله؟ بعض العلماء يقول: لا يجوز تفسير كلام الله، ويقرءون القرآن على الموتى! وأوضح من هذا أننا دائماً نقول: من منكم جلس يوماً في ظل شجرة أو جدار أيام العمل أو جلس تحت سارية المسجد وقال لأحد المارين: تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن؟ هذه آية الإعراض أم لا؟
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله فيقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: أحب أن أسمعه من غيري. فيقرأ عليه من سورة النساء قرابة الثلاثين آية حتى بلغ: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )[النساء:41-42] قال: حسبك. قال: فالتفت فإذا بعيني رسول الله تذرفان ) ، عرفتم أننا تحت النظارة أم لا؟
سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد وقرأ ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )[الفجر:14]، فلا تظن أنه راض عن أمة الإسلام وهي في هذه الفتنة، أعرضوا عن كتاب الله عن أحكامه عن شرعه، أباحوا المحرمات علناً، فهل هم آمنون؟ هل خوفوا الله؟! والله ما هو إلا الإمهال والإنظار.
(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ )[الأنعام:46]، وتصريفها من موضوع إلى موضوع ومن حكم إلى حكم ( لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:65] أسرار هذا التشريع، ويعرفون حكم هذا التشريع، ويتذوقون ذلك بإيمانهم وإقبالهم على ربهم يذكرون ويشكرون.
تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل)
ثم قال تعالى: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، (وكذب به) أي: بهذا القرآن المنزل عليك يا رسولنا المفصل الآيات المبينة، كذب به قومك الذين أرسلت إليهم، ولكن كما قلت لكم: في أقل من خمس وعشرين سنة دخلوا في الإسلام. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66] الذي لا حق أبداً بعده، أليس هذا كلام الله؟ ثم قال له: ( قُلْ )[الأنعام:66] أي: لقومك وأنت توجه وأنت تبين وأنت تهدي، ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، ما أنا وكيل الله ولا وكيل السلطان ولا وكيل الملك فأكون ملزماً بهدايتكم، ما أملك هذا أبداً، ما علي إلا أن أبين الطريق فمن سلكها اهتدى ومن أعرض عنها شقي وهلك، ما أنا بوكيل عليكم ومتصرف فيكم ألزمكم بالإيمان وأكرهكم على الدخول في الإسلام وأجبركم على أن تصلوا أو تصوموا.
(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، اعرف هذا يا رسولنا وبلغه لهم؛ لأنهم يطالبونه -كما تقدم- بالمعجزات والآيات، ما هو من شأن الرسول هذا، ما شأنه إلا البيان: ( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ )[الشورى:48]، بلغ فقط كلامنا للبعيد القاصي والقريب الداني، هذه مهمتك، أما أن تصلح الناس وتهديهم فما هذا شأنك، ما كلفناك بهذا ( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66].
تفسير قوله تعالى: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)
ثم يقول له: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67]، لكل نبأ من أنباء الله وأخباره مستقر يستقر فيه لن يخطئه، فكل ما أوعد الله به أو وعد يتم كما أخبر، لا تظنوا أبداً أن شيئاً أخبر الله به لا يقع، فخبره تعالى بقوله: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) [الأنعام:65] هل حصل أم لا؟ هل تم كما أخبر أم لا؟ (لِكُلِّ نَبَإٍ )[الأنعام:67] والنبأ: الخبر العظيم ذو الشأن ( مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] زمان ومكان يستقر فيه ولا يخطئ، طال الزمان أو قصر، في الدنيا والآخرة، ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67]، وقد علموا.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
أعيد تلاوة الآيات فتأملوا:
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً )[الأنعام:63] وتقولون حالفين ( لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ )[الأنعام:63]، من هذه الأزمة التي حلت بهم ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ )[الأنعام:63-64] به غيره، تشركون به الأهواء والشهوات والأطماع والدنيا والباطل فضلاً عن دعاء غير الله والاستغاثة بغيره.
ثم قال لرسوله: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ )[الأنعام:65]، والآن عرفنا العذاب من فوقنا بالصواعق والصواريخ، ومن تحت الأرجل بالمتفجرات، ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ )[الأنعام:65] يخلطكم ( شِيَعًا )[الأنعام:65] كما يخلط الثوب بالبدن، ( شِيَعًا )[الأنعام:65] أي: طوائف وأحزاب وجماعات يتشيع بعضها لبعض، ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65] وقد فعل، فكم من أرواح أزهقت، وكم من أجسام مسلمة كسرت بأيدي المسلمين.
وإلى الآن يوجود هذا، الآن في ديارنا الجزائرية أكثر من خمسين ألفاً، وفي ديار الأفغان إلى الآن، وقد شاهدوا آيات الله كأنهم عمي لا يبصرون، قبل أمس في لبنان ماذا حصل؟ مع مرور أكثر من عشرين سنة بلاء، وها هي دائرة في كل مكان؛ لأن الله تعالى قال: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] لا بد أن يستقر في مكانه.
وها نحن في هذه الديار الطيبة المباركة أيضاً نهدد ونخوف، وما سبب ذلك إلا إعراضنا وغفلتنا وإقبالنا على الدنيا وأباطيلها، ولو أننا رجعنا إلى الحق وقلنا: الله أكبر، لا إله إلا الله، ورضينا بالقليل من الطعام والشراب وأقبلنا على عبادة الله؛ فوالله لو كادنا أهل الأرض لما استطاعوا أن يزلزلوا أقدامنا، لكن هم ينفخون الذنوب والمعاصي بوسائل عجب، ونحن كالأبقار مددنا أعناقنا ونرحب بكل ما يأتينا حتى برانيط أولادنا، هذا مثال، وأمثلة الأغاني والمزامير والربا وغير ذلك لا تسأل عنها، كل هذا من يد الأعداء حتى يزول هذا النور وتنطفئ هذه الأنوار الإلهية، والله نسأل أن يبقيها إلى يوم القيامة، اللهم من كاد هذه الديار بكيد فعجل بهلاكه يا رب العالمين، واصرفه وكيده يا حي يا قيوم.
ثم يقول تعالى لرسوله: ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )[الأنعام:66]، إذاً قل لهم: ( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )[الأنعام:66]، أنا لا أملك هدايتكم ولا أقدر على أن أنزل العذاب بكم، هذا موكول إلى الله ليس لي أنا، ما علي إلا أنني أعلم من أراد أن يتعلم وأبلغ من لم يبلغه كلام ربه عز وجل.
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ )[الأنعام:67] والله ( تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] هذا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
معاشر المستمعين! هيا مع هداية هذه الآيات، هل تعرفون ما هي الهدايات؟ كل آية تحمل نوراً، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية كل آية تؤكد معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن البعث الآخر حق، ذلك أن هذه الآية أنزلها وقالها الله تعالى. هل هناك من يقول: أمي أو أبي أو جدي أو فلان أو فلان؟ والله قوي قدير رحيم عليم موجود، أخبر عن نفسه أنه لا إله إلا هو، فكل آية تقول: لا إله إلا الله، وهذا الذي نزل عليه هذا الكلام كيف يكون غير الرسول؟ فهو -إذاً- رسول الله، كل آية تقرر (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، من أجل أن يعبد الله في الأرض وينزل أولياؤه في السماء بعد موتهم، فهذه العبادة لتزكية نفوسهم وتطهيرها حتى يصبح المرء منهم أهلاً لتفتح له أبواب السماء ولينزل بدار السلام.
[ من هداية الآيات:
أولاً: لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة ].
مرة ثانية: لا برهان ولا دليل ولا حجة أعظم على أن الشرك باطل من أن المشركين أنفسهم يخلصون الدعاء لله في الشدة، لو كان ينفعهم عيسى عليه السلام أو غيره فلماذا لا يفزعون إليهم في الشدة؟ عرفوا أنهم لا ينفعونهم، لو صرخوا أمام اللات ألف صرخة فوالله ما استجيب لهم.
فلماذا -إذاً- في الشدة يفزعون إلى الله؟ معنى هذا أنه ليأسهم وعلمهم أنه لا يدفع الكرب ولا ينجي من الهم والغم إلا الله، فهذا أكبر برهان على التوحيد وبطلان الشرك.
[ ثانياً: لا منجي من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى ]، وهذا لا يرده ذو عقل.
[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف المفضي إلى الانقسام والتكتل ]؛ لقوله تعالى: ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )[الأنعام:65]، فلا يصح أن يفترق المسلمون أبداً في بيت ولا في قرية ولا في مدينة ولا في إقليم، أمرهم واحد، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله، إلى الكتاب والسنة، ولا تبقى الفرقة أبداً.
[ ربعاً: ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ )[الأنعام:67] أجري مجرى المثل، وكذا ( وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:67] ] كالمثل.
والله تعالى نسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونتعلم ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:23 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (377)
تفسير سورة الأنعام (10)



كان المشركون وخاصة كبراؤهم وصناديدهم يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظل جدرانه ويأخذون في الطعن في آيات الله سبحانه وتعالى، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان هذا حالهم أن يعرض عنهم ولا يجالسهم إلا أن يخوضوا في حديث غيره، فمثل هؤلاء إنما غرتهم الحياة الدنيا، وظنوا أنهم مخلدون فيها فاتخذوا الدين لهواً ولعباً، فكان جزاؤهم أن يدخلهم الله النار وبئس القرار.

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية الميمونة المباركة، تلكم السورة التي نزلت في مكة وزفها سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تدور كلها على تقرير المبادئ الثلاثة: التوحيد، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
والآن مع هذه الآيات الثلاث نسمع تلاوتها مرتلة مجودة ثم نشرع في تفسيرها إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، من المتكلم بهذا الكلام؟ من المخاطب به: ( وَإِذَا رَأَيْتَ )[الأنعام:68] من هو هذا؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أيعقل أن يوجد كلام حكيم راق سام بدون متكلم؟ مستحيل، إذاً: فالله موجود، وهذا كلامه وهو العليم الحكيم، والذي خوطب بهذا الكلام ونزل عليه أيعقل أن يكون غير نبي ورسول؟ مستحيل.
وهكذا كل آية في كتاب الله -وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية- كل آية تقرر مبدأ (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
يقول جل ذكره لمصطفاه ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68] إذ كان المشركون -وخاصة رؤساءهم- يجتمعون حول البيت ويجلسون في ظلال الجدران ويأخذون في الطعن في القرآن ومن أرسل به، يستهزئون ويسخرون بآيات الله.
إذاً: حصل هذا وتم ووجد، فيقول الله تعالى لرسوله ولأتباعه وأصحابه ولكافة أمته: إذا رأيت من يتكلم بالباطل في كلام الله فيجب أن تقوم من مجلسه، وحرام أن تجلس إليه: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ولا تجلس إليهم.
إذا اجتمع ثلاثة أو أربعة من العلمانيين من الملاحدة من البدعيين الضالين، وأخذوا يطعنون في كتاب الله وكلامه مستهزئين ساخرين؛ فلا يحل لك -يا ولي الله- أن تجلس معهم، فبمجرد أن يشرعوا في هذا الطعن والنقد قم وأعطهم ظهرك، وهذا أمر الله عز وجل لرسوله وأمته تابعة له فيه.
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ )[الأنعام:68]، والخوض كخوض الإنسان في الماء وتخبطه فيه، إذاً: فأعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تجلس معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، إذا تكلموا في تجارة أو في مال أو في حرب أو في نحو ذلك فلا بأس، أما أن يتكلموا طاعنين ناقدين ساخرين من أولياء الله تعالى وكتابه ورسوله؛ فلا يحل لك يا مؤمن أن تبقى جالساً معهم.
معنى قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)
ثم قال له: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، ومما يدل دلالة واضحة على أن الأمة -ونحن من أفرادها- معنية بهذا الخطاب ذكر النسيان؛ فالشيطان قد لا يقوى على أن ينسي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينسينا نحن، ومع هذا يقول أهل العلم: إن النبي ينسى، كما قال: ( إني أنسى كما تنسون ) . والشيطان لا سلطان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو معصوم بعصمة الله، لا يوقعه في مخالفة أو معصية، ولكن من الجائز أن يصرف قلبه إلى شيء آخر يتكلم فيه أو يفكر فيه فينسى نفسه أنه بين أناس يطعنون في الإسلام أو ينتقدونه.
(وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68] إن حصل هذا. وـ(إما) أصلها (إن) و(ما) زيدت لتقوية الكلام، إما ينسينك الشيطان ثم ذكرت فقم ولا تجلس.
فهذا التعليم وهذا التوجيه، أنه كلما خاضوا في كلام الله بالسب والنقد يجب أن تعرض وتقوم، وإن نسيت فجلست ثم ذكرت نهي الله لك فقم على الفور: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى )[الأنعام:68] بعد أن تذكر ( مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68].
وهذا قد يقع للمؤمنين نساءً ورجالاً، فالمؤمن قد يعلم أنه لا يحل أن يجلس مع قوم يطعنون ويتكلمون، ولكن ينسى، لكن بمجرد أن يذكر أنه لا يحل له البقاء هنا ولا الجلوس في هذا المجلس يجب أن ينهض ويقوم.
مرة ثانية: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ 9[الأنعام:68] ينسيه ماذا؟ النهي عن الجلوس مع المجرمين والمبطلين والطاعنين في الإسلام والفاسدين، قد يحصل هذا بنسيان، أو هو لأمته كما قدمنا، أي: لنا نحن، ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68] لأنهم مشركون كافرون، وكل من يطعن في كتاب الله وفي شريعة الله فهو كافر ومشرك، هذه الآية الأولى.
فهل عرفتم -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أنه يجب علينا أن لا نجلس مجلساً يطعن فيه في الإسلام وتنتقد فيه شرائعه وينتقد فيه أولياؤه ودعاته وهداته، هذا المجلس لا يجوز أن نجلسه أبداً، وإن نسينا فما إن نذكر أن هذا لا يجوز حتى نقوم، خذ نعلك واخرج ولا تبق جالساً، هذا توجيه الله أم لا؟
تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ...)
الآية الثانية: يقول تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69]. (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] من هم؟ رسول الله والمؤمنون، هؤلاء الذين يتقون ليس عليهم من حساب هؤلاء الملاحدة أو العلمانيين أو الضلال من شيء، الله الذي يتولى ذلك، ولكن حين ننهض ونقوم ونأخذ نعالنا غير راضين بمجلسهم يكون ذلك ذكرى لهم لعلهم يفيقون ويرجعون إلى الحق.
قال الشيخ مسعود تغمده الله برحمته: دعيت ليلة إلى بدعة، ولما بدأ المبتدعة يبتدعون ذكرت، فأخذت نعلي ووليت هارباً، فقالوا: يا مسعود ، يا شيخ! ما لك؟ قال: فأعرضت عنهم تطبيقاً لهذه الآية.
فحين تقوم وأنت من أهل القرية أو البلد وأنت محترم فيهم وتتركهم؛ هذا قد يجعلهم يفكرون: لماذا يقوم؟ لماذا ما رضي بحديثنا؟ لابد أن يخطر هذا ببال واحد منهم، فيقول: لعلنا نحن على باطل، لعلنا لسنا على الحق. فيحمله ذلك على أن يسأل فيهتدي، وهذا تشريع الله الحكيم لا يخلو أبداً من فائدة.
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] وهم المؤمنون الذين جلسوا مع أهل الباطل واللهو، ما عليهم من حسابهم من شيء، ( وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:69] ذكرى فقط لعلهم يتقون، لعل أولئك المعرضين المفسدين يتقون ويرجعون إلى الحق.
تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا ...)
ثم قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول له: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] أي: اترك، ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، أصل اللعب: أي قول أو عمل لا ينتج لك حسنة لمعادك يوم القيامة ولا درهماً لمعاشك اليوم، ومثاله لعب الأطفال، يلعبون عند الباب ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، ثم هل يعودون بحسنة؟ لا، يعودون بريال؟ لا. فكل قول وكل تفكير وكل عمل لا ينتج لصاحبه حسنة ليوم القيامة أو درهماً لمعاشه الآن فهو لعب وباطل، ولا يفعله المؤمن، ومعنى هذا أن الله تعالى أغلق علينا باب اللعب، إي والله، نحن قوم نتهيأ لأن نخترق السماوات السبع وننزل في الفردوس، فلا ينبغي لنا أن نتجرد للهو واللعب ونصبح كغيرنا، ما هذا بشيء عظيم أبداً، نحن عقلاء وأئمة للبشر وهداة للناس، فكيف نلعب؟! كيف أقضي نصف ساعة أو ربع ساعة أو عشر دقائق ولا أجلب لنفسي حسنة ولا درهماً؟! أيجوز للعقلاء هذا؟ هذا للمجانين، هذا للكافرين؛ لأنهم أهل النار.
أما المؤمنون الذين يرجون أن ينزلوا الفراديس العلى فليس هذا من صفتهم ولا شأنهم، وها هو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَذَرِ )[الأنعام:70] اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، كالفساق والفجار منا والعلمانيين والملاحدة الذين يجتمعون فيسخرون من الدين، وهذا الدين هو دينهم، فالإسلام دين البشرية جمعاء أبيضها وأسودها.
فالمشركون في مكة اتخذوا دينهم الإسلام لهواً ولعباً، وما هو دينهم؟ أما بعث الله رسوله لهم؟ أما أنزل الوحي عليهم من أجلهم؟ فكل من اتخذ الإسلام لهواً ولعباً يصدق عليه أنه اتخذ دينه لعباً ولهواً.

يتبع


ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:23 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
اللهو المشروع في الإسلام
وإن قلتم: ليس في الإسلام لعب، ليس فيه لهو، فقد وضع الشارع لذلك نقاطاً محددة، أنت تلاعب طفلك الصغير خمس دقائق أو ربع ساعة وأمه تطبخ الشاي أو الأزر وهو يبكي، تأخذه أنت وتجعل نفسك كأنك حمار يركب على ظهرك، كل هذا مأذون فيه: ( لاعب ابنك سبعاً )، وهذا وإن كان في الظاهر لعباً لكنك أحسنت به إلى أمه وإليه هو، فهي حسنة لك. وكذلك تلاعب فرسك، تروضه على السير والقفز؛ لأنك تعده للجهاد، هذه رياضة ظاهرها لعب، ولكنها تنتج أنك روضت فرسك، وكذلك رماحك، أو نبالك، أو رصاصك، الآن يجلسون الجيش تحت جبل ويأمرونهم بأن يضربوا، ويجعلون لهم أهدافاً معينة ليصيبوها، فهو في الظاهر لهو ولعب وفي الحقيقة مأذون فيه؛ لأجل أن يتعلموا كيف يصيبون أهداف العدو، وكذلك لهوك مع زوجتك تداعبها مأذون فيه.
فالزوجة، والولد، والفرس، والرماية -سواء كانت بالبنادق أو بالمدافع- كل ذلك أذن الشارع صلى الله عليه وسلم باللهو فيه، لاعب ابنك، داعب امرأتك لتسليها وتخرج عنها همها، روض فرسك، مرن نفسك على رمي الأهداف بالرصاص أو بالصواريخ، وفيما عدا هذا لا وجود للهو واللعب عندنا، نحن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَذَرِ الَّذِينَ )[الأنعام:70]، اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا )[الأنعام:70]، واللهو ما هو؟ اللهو: كل ما يلهيك ويشغلك عما يكسبك حسنة لمعادك أو درهماً لمعاشك.
معنى قوله تعالى: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)
اترك هؤلاء ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، كيف تغرهم الحياة الدنيا؟ افتح عينيك وتأمل في العالم الإسلامي، تجد ثلاثة أرباع المسلمين مغرورين بالحياة الدنيا، منهم من لا يصلي، منهم من لا يحضر الصلاة في المساجد، منهم من يتعاطى الربا، منهم من يعمل كذا وكذا.. كل هذا اغترار بالحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، غرتهم الحياة الدنيا.(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا! يا عبدنا! ذكر بالقرآن، ذكر بهذا الكلام الإلهي، ذكر به ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، ومعنى: (تبسل): تؤخذ، ترتهن وتحبس ثم تدخل العذاب في جهنم، من قبل أن تبسل نفس، وإبسال النفس أن تؤخذ وترتهن وتحبس فترة ثم تساق إلى عذابها، تحبس في البرزخ وترتهن، ثم إذا بعثت يوم القيامة فإلى جهنم رأساً.
(وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] يا رسولنا، ذكر بهذا القرآن، بهذه الكلام، ذكر به مخافة أو كراهة ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، تبسل نفس بما كسبت أو بما كسب لها؟
بما كسبت. ما هذا الذي كسبته فأبسلت به؟ الذنوب والآثام، الشرك والمعاصي، فهل هذا كسبها أم لا؟ تقول الكلمة فينعكس رأساً دخانها أو نورها على نفسك، تمشي خطوة واحدة بحسب ما تريد فينعكس أثرها على نفسك، هذه محطة وضعها الله في الناس، ما من كلمة ولا حركة متعمدة يفعلها العاقل البالغ إلا وجد أثرها، إن كانت حسنة ينكس إشعاعها على قلبه، وإن كانت سيئة ينعكس دخانها على قلبه كذلك، وهذا معنى قوله تعالى: ( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14].
قال صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء فى قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن عاد رانت حتى يغلق بها قلبه، فذاك الذى ذكر الله عز وجل فى كتابه: ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[المطففين:14] )، فلهذا كانت التوبة عندنا فريضة، ولا يحل تأخيرها، فبمجرد الوقوع في الزلة تقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأنه إذا تراكمت الذنوب تأتي ساعة تقول له: اتق الله فيضحك ويسخر منك.
قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بهذا القرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70] ذكراً أو أنثى، عربياً أو عجمياً، ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها حبست وارتهنت لتدخل جهنم وتخلد فيها.
معنى قوله تعالى: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع )
قال تعالى: ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70]، وهل هناك نفس لها ولي يتولى أمرها ويدخلها الجنة وينقذها من النار دون الله؟ والله لا وجود لذلك. وهل هناك نفس مظلمة عفنة منتنة تجد من يشفع لها ويخرجها من النار أو يدخلها الجنة؟ والله ما كان، اللهم إلا المؤمنون الصادقون الربانيون، يتفضل الله عليهم فيأذن لنبيه أو لأوليائه أن يشفعوا فيهم، إكراماً للشافع والمشفوع، والذي لم يرض الله له أن يدخل الجنة لا تقبل فيه شفاعة أحد، قال تعالى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26]، أيضاً لمن يشاء، أولاً: يأذن الله لك يا عبد الله أن تشفع فيمن؟ في أمك؛ لأنها أهل لأن تدخل الجنة. فلا يشفع شافع إلا بإذن الله، ولا يشفع شافع في إنسان إلا إذا رضي الله عز وجل أن يدخل الجنة، والآية نص وصريحة لو كنا لا نقرأ القرآن على الموتى فحسب. اسمع: ( وَكَمْ )[النجم:26]، ملايين، ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] أيضاً عمن يشاء.
وهنا يقول تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كسبها الشرك والكفر والذنوب والآثام والجرائم والموبقات.
معنى قوله تعالى: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)
(لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لو أتت بمثل الأرض كلها ذهباً فوالله لا يقبل منها، ولو أتت بملايين البشر بدلها فوالله لا يقبل منها، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70]، من باب الفرض، جاءك الله بجبال التبت كلها ذهباً، فقلت: خذ يا رب هذه الجبال الذهبية واسمح لي أن أدخل الجنة؛ فوالله لا يقبل منك. ولو جاء بجيل أو أجيال وقال: بهؤلاء جميعاً أفدي نفسي هل يقبل منه؟ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، لا تفكر أن هناك من يقف بين يديه تعالى ويقول: أنا أشفع لفلان، أو يقول: أدفع كذا لفلان ليدخل الجنة، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا 9[الأنعام:70]، (أُبْسِلُوا) بمعنى: ارتهنوا، فهم محبوسون بذنوبهم، إذاً: يدخلون النار ولا يخرجون منها.
معنى قوله تعالى: (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، وأي كسب؟ الأغاني، المزامير، الغيبة، النميمة، الفحش الباطل، الزنا، اللواط، الخيانة، الغش، الكذب، الكبر، العجب.. أمراض كسبوها، ما أفرغت عليهم، ما ألزموا بها وأكرهوا، كسبوها عن عقل ووعي، لو فعلوها وهم نائمون فإنهم لا يحاسبون، وإن فعلوها وهم ناسون فلا يحاسبون، وإن فعلوها وهم مكرهون بالحديد والنار فلا يحاسبون، ولكن فعلوها وهم مريدون ذلك، مختارون لأنفسهم.(أُوْلَئِكَ )[الأنعام:70] البعداء ( الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، لا بظلم نزل بهم وحصل بهم، بسبب كسبهم الكفر والظلم والشرك والذنوب والمعاصي.
(لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، هم الآن في دار البوار في النار، فهل شرابهم المسك؟ ما هناك كوكاكولا ولا عصير البرتقال ولا زمزم، ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ )[الأنعام:70]، لا يطاق من درجة الحرارة، حيث تتمزق أمعاؤهم.
(لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، موجع غاية الإيجاع، ولا نستطيع تقديره أبداً، وقد عرفتم أجسامهم طولها وعرضها، فضرس أحدهم كجبل أحد، ما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثون كيلو، من مكة إلى قديد.
إذاً:فهل شرابهم الحميم، وطعامهم البقلاوة والحلاوة؟ لا، بل الزقوم، والضريع.
هكذا يقول تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا )[الأنعام:70]، ما معنى: (أُبْسِلُوا)؟
ارتهنوا وحبسوا لأجل أن يدخلوا النار، وما معنى: ( بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]؟
أي: بكسبهم، كسبوا خيراً أو شراً كسفك الدماء، الكفر، الشرك.. قل ما شئت من الذنوب والآثام، إذا اسودت نفوسهم وأظلمت أرواحهم وتعفنت؛ فلا يصلحون لدار السلام، للقاعدة التي حفظها المؤمنون والمؤمنات: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله، بلغوه يا عباد الله، يا إماء الله.
لقد صدر حكم الله على البشرية وعلى الجن أيضاً معهم بأن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال فزكت وطابت وطهرت فقد أفلح، أي: فاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة، ومن دساها وخبثها ولوثها وعفنها بأوضار الشرك والذنوب والمعاصي فقد خاب، أي: خسر نفسه وأهله، ومن يعقب على الله؟
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، ثم قال تعالى في الختم الأخير: ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70]، أي: بسبب كفرهم، كانوا يكفرون بالله، ويكفرون بشرائع الله، ويكفرون حقوق الله، فكلمة الكفر: هي الجحود والتنكر لله، لرسوله، لشريعته، للقائه، لوعده، لوعيده.
مجمل تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل ستفعلون هذا من الآن؟(وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام:68]، غفلت أو نسيت فجلست وهم يطعنون في نبيك أو في أمته، ثم ذكرت؛ فخذ نعلك واخرج.
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، ما نحن بمسئولين نحاسب على كفرهم وشركهم، ولكن حين نقوم ونتركهم نذكرهم علهم يذكرون فيتقون.
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم في جرائم معاصيهم وباطلهم ولا تجلس إليه ولا تسمع منهم، ولا تخالطهم ولا تعاشرهم، ولا تنزل حتى في ديارهم.
(وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، بماذا نذكر يا ربنا؟ بهذا القرآن، نحن نذكر به الموتى، أما الأحياء فلا، لا يجتمع أهل القرية في قريتهم، أو أهل الحي، أو أهل البيت ليقرءوا القرآن ويتدبروه، فكيف يذكرون به، نقرؤه على الموتى فقط، مات الشيخ الفلاني فنقرؤه ثلاث ليال أو سبع ليال، طلبة القرآن موجودون، سمعتم بهذا أم لا؟ من إندونيسيا إلى موريتانيا والعالم الإسلامي هكذا، عدة قرون لا يجتمع اثنان على دراسة كتاب الله وفهم مراد الله منه وما فيه.
إذاً: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، كسبوا بأنفسهم أم لا؟ ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:70].
كيفية تحصيل ولاية الله تعالى
معاشر الأبناء والإخوان! دائماً نقرر تلك القاعدة تعليماً لغير العالمين وتذكيراً للناسين، وهذا حسبنا والله يهدي من يشاء، ونقول: ما من عاقل إلا وهو يرغب في ولاية الله تعالى؛ لأنك إذا لم تواله تعاديه، ومن يعادي الله هل يفلح؟فكلنا يريد أن يواليه الله ويصبح من أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فنقول: تريد أن توالي الله؟ وافقه تكن وليه، وافق ربك تصبح وليه، توافقه في ماذا؟ فيما يحب، وفيما يكره، أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت -والله- وليه، واعكس بحيث يحب وتكره، ويكره وتحب فإنك حينئذ عدوه، وهذا إيجاز عجيب للولاية.

فالموافقة تكون في المحاب والمخالفة في المكاره، فهنا يجب على كل من يريد ولاية الله أن يعرف محاب الله محبوباً بعد محبوب، وأن يعرف مكاره الله مكروهاً بعد مكروه، وأن يرحل ولو إلى الصين أو إلى اليابان حتى يعرف محاب الله ومكارهه.
أحد الصالحين قال: يا شيخ! نريد أن تكتب لنا رسالة تجمع محاب الله ومكارهه، فقلت له: لا بأس، أعمل إن شاء الله، وكتبنا الرسالة، وسنقدمها الليلة للمطبعة، هذه الرسالة اتخذنا لها بعد كل درس خمس دقائق أو عشر دقائق نقرأ منها صفحة واحدة، وقد اشتملت على خمسين محبوباً ومكروهاً، خمسة وعشرون من محاب الله، وخمسة وعشرون من مكاره الله، صفحة للمحبوب والصفحة المقابلة للمكروه، وقلنا لمن يقرأ: إذا قرأت الصفحة الأولى في المحبوب فلا تتجاوز إلى الأخرى حتى تعرف محاب الله، وتكره نفسك على أن تحب ما يحب ربك، فإذا فرغت من هذا فانتقل إلى الصفحة الثانية التي فيها المكروهات فاعرفها واكرها، وإذا ما أحبت ذلك نفسك فإنك تكره نفسك حتى تكره ما يكره ربك، وبذلك تخرج وقد أصبحت ولي الله، وهناك صك تأخذه أيضاً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:25 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (378)
تفسير سورة الأنعام (11)




حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين الجلوس في المجالس التي يسخر فيها من دين الله وشريعته وديانته، وأن من جلس في مثل هذه المجالس فعليه الإعراض والإنكار وسرعة مفارقتها، خاصة إذا كان أهل الحق مستضعفين وأهل الباطل ظاهرين، وحسب المؤمن الصادق أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم، حتى لا يكون مصيره في الآخرة كمصيرهم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية، ومع الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس ولم نوفها حقها، فنريد مرة ثانية أن يرتلها الطالب، ونعيد تفسيرها وشرحها إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )[الأنعام:68-70].
معنى الآيات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! [معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين] بربهم آلهة أخرى، اصطنعوها، وكذبوا في ادعائها آلهة، أولئك العادلون ما زال الكلام معهم، [فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا )[الأنعام:68]] ما معنى: (يَخُوضُونَ)؟ [ يستهزئون بالآيات القرآنية، ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين ].وقد بينا أن جماعات من المشركين في مكة كانوا يجتمعون ليسخروا من القرآن ويستهزئوا به وبمن نزل عليه، وفيهم نزل هذا القرآن الكريم.
[( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]]، من أمر الرسول بالإعراض عنهم؟ الله جل جلاله، اتركهم وأعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم ما داموا يخوضون في الباطل، ويتكلمون بالمنكر طعناً في القرآن ومن نزل عليه، إذاً: هؤلاء لا تجلس معهم، أعرض عنهم.
وبينا لأبنائنا وبناتنا أنه إلى اليوم لا يحل لمؤمن أن يجلس مجلساً فيأخذ أهل المجلس في الطعن في الإسلام، والنقد، ويبقى معهم، يجب أن يأخذ نعله ويخرج من عندهم، ولا يحل له البقاء؛ لأن الآيات عامة لهداية الخلق إلى يوم القيامة.
قال: [ ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ )[الأنعام:68]، أي: فصد عنهم وانصرف ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68] ]، أي: غير الطعن والنقد والسب والشتم، فإن أخذوا بحديث دنياهم عن السوق والبيع والشراء وشأنهم فلا يضرك ذلك، لكن إذا اخذوا يطعنون في دين الله وفيمن أرسل وهو رسول الله، أو في أولياء الله ودعاته، في هذه الحالة ينبغي أن تعرض عنهم، فإن عدلوا عن ذلك فلا بأس.
وإن كان فرضاً أن الشيطان أنساك ما نهيت عنه من عدم الجلوس معهم، ثم ذكرت وزال النسيان فعلى الفور تقوم وتخرج من مجلسهم.
قال: [ وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين ]، معنى هذا: أنك إذا نسيت فجلست مع جماعة يتضاحكون ويسخرون ويستهزئون بالإسلام وشرائعه، من العلمانيين والملاحدة والضلال، أو من الخاسرين والتائهين، ثم ذكرت أنك منهي أن تبقى معهم فعلى الفور أطع الله وقم من مكانك: ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )[الأنعام:68]، أي: وإن أنساك الشيطان نهي الله هذا، ثم ذكرت أنك منهي عن الجلوس في هذا المجلس فقم على الفور، ولا تقعد مع القوم الظالمين.
وظلمهم واضح في وضعهم الأشياء في غير موضعها، بدلاً من أن يتذاكروا كتاب الله وما يهدي إليه، وأن يذكروا رسول الله وما يدعو إليه، يجعلون بدل ذلك النقد والطعن وما لا يجوز أن يقال.
[ وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:69]، أي: وليس على المؤمنين المتقين -جعلنا الله منهم- أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية، ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا؛ ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى ]، نعم، ليس عليك من حساب المبطلين والملاحدة والمبطلين إذا قالوا الباطل، ما أنت بمسئول عن ذلك، كل ما في الأمر أنك تقوم وتتركهم، قد يكون ذلك حاملاً لهم على التفكير: لماذا خرج؟ لماذا أخذ نعله وما رضي كلامنا؟ لعلنا مبطلون، لعله محق. قد يكون ذلك سبباً لهدايتهم، بخلاف ما إذا بقيت معهم وأيدتهم على باطلهم برضاك بالجلوس معهم.
قال: [ وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام ]، هذا البيان كان في مكة قبل قوة الإسلام، كان أيام ضعف الإسلام، والمراد من ضعف الإسلام: ضعف أهله إذ لا قدرة لهم على الجهاد.
قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ]، وهذا يبقى إلى يوم القيامة، [ومن جلس معهم يكون مثلهم، وهو أمر عظيم ]، ففي المدينة لا عذر، أما في مكة فلأن المسلمين ضعفاء عاجزون وهم أقوياء، فقد لا يستطيعون أن يواجهوهم، لكن في المدينة والإسلام قوي لا يحل لمؤمن أن يجلس معهم.
قال: [ ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله، ومن جلس معهم يكون مثلهم ] أي: في الظلم والكفر والنفاق [ وهو أمر عظيم ]، من يقوى على أن يتحول من مؤمن إلى كافر، ومن مؤمن صادق إلى منافق؟
[ قال تعالى: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140] ]، فإذا خاضوا في حديث الباطل الذي يخوضون فيه وأنتم جالسون فأنتم مثلهم في نفاقهم وكفرهم، وقرئ: (نَزَّلَ)، و(نُزِّلَ)، ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، في أي مجلس وفي أي مكان في العالم، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فالذي يرضى بإهانة الإسلام والمسلمين، بإهانة دين الله، بإهانة شرعه وكتابه فهو مثلهم.
فلهذا لا نجلس معهم ابتداء، لكن إذا جلسنا وأخذوا يتخوضون في سب الإسلام وطعنه وجب النهوض والخروج، ولا يحل البقاء أبداً، لقد أعذر الله أولئك الضعفاء في مكة، لكن لما عز الإسلام وقوي أهله وانتصرت رايته لم يسمح لأحد أن يبقى معهم، وإلا فهو منافق أو كافر مثلهم.
وتأملوا الآية: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ )[النساء:140]، ماذا نزل؟ ( أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ )[النساء:140]، أي: القرآنية، ( يُكْفَرُ بِهَا )[النساء:140]، أي: يكفر بها المنافقون والكافرون، ( وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا )[النساء:140]، بالكلام الذي تعرفونه من الاستهزاء، ( فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )[النساء:140]، فإذا ما خرجتم من المجلس فقد أصبحتم مثلهم.
قال: [ هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية. أما الثالثة فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعباً ولهواً يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به، وغرتهم الحياة الدنيا، قال تعالى: ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم ] لا تجالسهم ولا تجلس معهم ولا ترض بذلك، [ اتركهم فلا يهمك أمرهم، وفي هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء ]، اترك الذين شأنهم كذا وكذا قبل أن تنزل العقوبة بهم، فالله تعالى يقول له في إنذار وتهديد لهم: اترك ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )[الأنعام:70]، اتركهم لنا للننزل عقوبتنا بهم.
[ وقد أخبر تعالى في سورة الحجر أنه كفاه أمرهم؛ إذ قال: ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ )[الحجر:95] ]، وقد كفاه إياهم، وكلهم صرعوا في بدر -وهم سبعون ظالماً- عن آخرهم، وعده الله بأنه سيكفيه إياهم، وقد كفاه أمرهم.

يتبع


ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:25 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
[ وقوله تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]، أي: بالقرآن، ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تبسل ]، ومعنى الإبسال -كما علمتم- الارتهان والحجز، ثم إلى جهم وبئس المصير، ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70] أي: بالقرآن قبل ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ )[الأنعام:70]، أي: لكي لا تبسل.
[ ( بِمَا كَسَبَتْ )[الأنعام:70]، أي: كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي، ( لَيْسَ لَهَا )[الأنعام:70] يوم تسلم للعذاب ( مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ )[الأنعام:70] يتولى خلاصها، ( وَلا شَفِيعٌ )[الأنعام:70] يشفع لها فينجيها من عذاب النار ]، ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ )[الأنعام:70] وتتقدم بكل ما تستطيع أن تقدمه للفداء، ولو قدمت جبال الأرض كلها ذهباً، ولو قدمت قبائل وعشائر لا يقبل ذلك منها أبداً. [ ( وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا )[الأنعام:70]، أي: وإن تقدم ما أمكنها -حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً- فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار].
ثم قال تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، الباء -كما علمتم- سببية، لم ارتهنوا واحتجزوا؟ ليجازوا في عالم الشقاء؛ لأنهم كسبوا ذنوباً أخبثت أرواحهم ولوثت نفوسهم، وهي ذنوب الشر والكفر والاعتداء والظلم والطغيان، إذاً: فهؤلاء الذين لو تقدم أحدهم بملء الأرض ذهباً ليفتدي به ما فدي ولا قبل ذلك منه.
قال: [ أبسلوا: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم وعذاب موجع اليم ]، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا )[الأنعام:70]، أخبرنا عنهم يا رب؟! قال: ( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ )[الأنعام:70]، وقد عرفنا الشراب الحميم، وهو الذي تناهت فيه الحرارة في القوة، وصلت إلى مستوى لا زيادة فوقه، هذا شرابهم.
قال: [ أبسلوا: أي: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام، لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم؛ وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله، حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم، فما أصبح يلائم وصفهم ] أي: خبث أرواحهم [ إلا عذاب النار. قال تعالى من هذه السورة: ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:139] ]، الوصف الذي يكون في الروح البشرية، إن كان نوراً وطهراً وصفاء يجزيه الله بالجنة دار النعيم، وإن كان خبثاً ونتناً وعفناً يجزيه به عذاب الجحيم، ( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ )[الأنعام:139] في عمله هذا وقضائه، حكيم فيه كذلك.
هداية الآيات
هذه الآيات كررناها، فهيا بنا نتأمل هداياتها: قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله ]، من أين أخذنا هذه الحرمة؟
من قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ )[الأنعام:68]، فهل هدت الآية إلى هذا أم لا؟
ومعنى هذا: أنه لا يحل لك ولا لي ولا لأي مؤمن في الشرق أو الغرب أن يجلس مجلساً يسب فيه أو يشتم الإسلام وأهله أو شرائعه وتبقى جالساً معهم، يجب أن تقوم، فإن أبيت إلا أن تجلس فقد هلكت، فإنك -إذاً- مثلهم.
إن هناك مجالس للهو واللعب فقط، فهل تجلس أنت مع قوم يلعبون الكيرم والورق ويضحكون وقد مضى وقت الصلاة وهم يلعبون، هل تجلس هذا المجلس وترضاه لنفسك؟ أيحل لك هذا؟ والله لا يحل، يجب أن تقول: قوموا فلقد نودي للصلاة، ولا يحل لكم هذا، لسنا من أهل اللهو واللعب.
إذاً اللهو واللعب لا يحلان للمسلمين إلا في نقاط بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تلاعب طفلك الصغير، أن تداعب امرأتك، أن تمرن نفسك على الرماية وإصابة الأهداف، أو تروض دبابتك أو طيارتك أو فرسك على الجهاد، هذه الأربع فقط ، وما عدا ذلك لهو ولعب، كل من يقول: لا بأس به، هو ترويح النفس، نقول له: والله ما هو إلا زيادة ظلمها وظلمتها.
[ ثانياً: وجوب القيام ] والوقوف [ احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله ].
وأصحاب الدشوش أو الصحون الهوائية سكرى، وسوف يفيقون عند سكرات الموت، لقد قلت غير ما مرة -والله أسأل أن أكون على علم وبصيرة-: إن الذين يرضون بهذه الصحون الهوائية، ويجلسون ليشاهدوا تلك المناظر الفظيعة العجيبة هم وأطفالهم ونساؤهم؛ فإني لا أكاد أشك أن من أصر منهم بعدما علم وأبى إلا هذا أن يموت على سوء الخاتمة، وها نحن نمر بالشوارع، ونشاهد هذه الصحون الهوائية على البيوت القصيرة والطويلة، بيوت الفقراء كالأغنياء، كأنهم لا يؤمنون بالله ولقائه.
فالذي يصر بعد ما سمع فتوى عالم الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز أن هذا لا يحل أبداً ولا يصح، ثم يصر ويركب رأسه ويحتج بأن فلاناً عنده كذا وكذا؛ فهذا -والله أعلم- إن استمر على هذه المناظر يومياً وليلياً فسوف يموت على سوء الخاتمة.
فقد نهينا عن أي مجلس نجلس فيه إذا كان فيه نقد أو طعن للإسلام، وإذا كان فيه إعلان عن إباحة الباطل والمنكر والشر فكيف تجلس معهم؟
[ ثالثاً: مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان ]، وحسبك يا عبد الله [ وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم ]، ما دام عاجزاً ضعيفاً، والمجلس أهله أقوياء، فحسبه أن يعرض عنهم ولا يلتفت إليهم في حال الضعف كما كانوا في مكة، وفي حال القوة ينبغي أن ينكر المنكر وأن يعترض عليهم.
[ رابعاً: وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم ]، من أين أخذنا هذا؟ كيف عرفناه؟
أما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَذَكِّرْ بِهِ )[الأنعام:70]؟ ما هو هذا؟ إنه القرآن الكريم، ذكر به المؤمنين، الذين غلبتهم الشهوات والأهواء والأطماع والمفاسد، هؤلاء لوجود عنصر الإيمان في قلوبهم ذكرهم علهم ينتهون ويتقون، وآية أخرى: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )[ق:45]، ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )[الذاريات:55] بوصفهم أحياء، بخلاف الكافرين فإنهم أموات أو كالأموات.
[وجوب التذكير بالقرآن]، كيف يذكر بالقرآن؟ بالآيات التي تنذر وتحذر أو تتوعد وتوعد بالعذاب، أو تبشر بالخير وأهله، [وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم]، فلهذا -وأنا كما تعرفون ظاهري كباطني- قلت: لو كوَنَّا لجنة من خمسة أفاضل، لنزور إخواننا الذين في بيوتهم الدشوش، وبأدب واحترام نسلم عليهم وننصح لهم بأن هذا لا ينبغي لكم، ولا يحل لكم، وما نرضى لكم أن تتأذوا أو تفقدوا رضا ربكم، أو تحرموا هداية مولاكم، ما حملكم على هذا؟ هل تجلبون بهذا أموالاً لأنفسكم؟ هل تكتسبون صحة في أبدانكم؟ هل ترتفع بهذا قيمتكم ويعلوا شرفكم؟ الجواب: لا. أبداً، فيا أخانا.. يا شيخنا.. يا ابننا! نرجو -إن شاء الله- أن تنهي هذا.
هل هذا واجب أم لا؟ والله إنه لواجب علينا، وإننا والله لآثمون، فأين الأخوة؟ ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، هل هي أخوة بالكذب؟ إن لسان حال الواحد منهم: أنقذوني فأنا متورط بسبب زوجتي أو بسبب أولادي، فلهذا وضعت هذا الدش على سطح بيتي فأنقذوني أنتم بزيارتكم، حتى أتشجع، وأسأل الله عز وجل أن يعينني لأبعد هذا الفساد من دار الإيمان وبين المسلمين.
هل أهل المدينة فيهم كفار ومنافقون؟ لا والله، بل هم مؤمنون، لماذا -إذاً- لا يذكرون بالقرآن؟ وهل يكفي التذكير في المسجد وهم في المنازل؟ فلم لا نكون في كل حي ثلاثة أنفار أو أربعة، يزورون إخوانهم بالابتسامة والوجه الطلق والكلمة الطيبة، فيربتون على كتف الرجل وينصحونه حتى يترك هذه الفتنة.
[ خامساً: من مات على كفره لم ينج من النار؛ إذ لا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟
من قوله تعالى: ( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[الأنعام:51]، الولي: الذي يتولى، والشفيع: الذي يشفع، فمن مات على الخبث والظلم والفسق والكفر هذا مصيره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:27 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (379)
تفسير سورة الأنعام (12)



الله عز وجل هو وحده المستحق للحمد والثناء، فهو سبحانه خالق السماوات والأرض، وهو موجد الظلمات والنور، وهو خالق الإنسان من سلالة من طين، وهو الذي يعلم السر وأخفى، لا تعزب عنه مثقال حبة في السماوات أو في الأرض، وذلك يستلزم الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما عنده من عذاب.
تابع تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود، على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة الأنعام، وبالأمس تدارسنا منها ثلاث آيات، وما أكملنا دراستها، فهيا بنا نعيد دراستها بعد تلاوتها المرة والمرتين والثلاث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3].
المبادئ العقدية الثلاثة التي قررتها السورة
أُعيد إلى أذهانكم أن هذه السورة المكية المباركة الميمونة، والتي زفها سبعون ألف ملك وهم يسبحون الله عز وجل في زجل عجيب، هذه السورة من أولها إلى آخرها تقرر المبادئ الثلاثة الآتية:أولاً: توحيد الله عز وجل، بأن يُعبد وحده ولا يُعبد معه سواه؛ لأن هذه العبادة هي مفتاح دار السعادة، فو الله لا نجاة ولا كمال ولا سعادة إلا بواسطتها، فمن عرف الله معرفة حقيقية أثمرت له حبه في قلبه، فأصبح يحب الله أكثر من نفسه، فضلاً عن ماله وولده والناس أجمعين، ثم تثمر له الرهبة من الله، والخوف منه، هذا الإيمان الذي يثمر الحب والخشية هو العامل الأول الذي يقوي صاحبه على أن يستقيم على منهج الله طوال حياته، فلا يميل يميناً ولا شمالاً، ولا يتأخر القهقرى، بل يواصل سيره إلى باب الجنة دار السلام، وذلك بوفاته ولفظ أنفاسه الأخيرة.
ثانياً: الإيمان بهذا القرآن كتاب الله عز وجل، ومن أنزله عليه، ألا وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الإيمان بالبعث والجزاء، البعث من الأرض من جديد، ثم الوقوف في ساحة فصل القضاء، ثم الحساب، ثم الجزاء، إما بالنزول في دار السلام، وإما بالهبوط إلى دار البوار.
هذه السورة من أولها إلى آخرها تعمل على تقرير هذه المبادئ الثلاثة.
حقيقة حمد الله تعالى وبيان علته وسببه
فقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، وما الحمد إن لم يكن عبادة الله عز وجل، بإجلاله وإكباره وتعظيمه، وطاعته والإذعان لأمره ونهيه، فالوصف بالجمال والحمد والثناء من يستحقهما غير الله؟ وسر ذلك أو علته أنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.عهدنا فيما بيننا: أن من صنع باب خشب وأحسن صنعه يمدح ويثنى عليه، من خاط ثوباً فقط وأحسن خياطته يمدحونه ويثنون عليه، طاهية تطهو طعاماً فيلذ ويطيب للآكلين تمدح ويثنى عليها.
والله هو الذي خلق السماوات والأرض، ونحن نقول: السماوات والأرض، فما السماوات وما الأرض؟ هذه الطباق السبع، سماء فوق سماء، وما فيها من المخلوقات، كيف يتم خلقها، من يقدر على خلقها وقد خلقت؟ هو الله جل جلاله، فهذا الذي استحق الحمد بمعنى كلمة الحمد.
ثم من أوجد الظلمات والأنوار، والظلمات جمع ظلمة، والنور واحد، وهذا التعبير القرآني، الظلمات تجمع لأنها متعددة، ظلمة كل معصية بظلام، وأما النور فواحد، النور واحد، وهو نور الحياة الذي به يشاهد بعضنا بعضا، والنور المعنوي الذي هو نور القلوب، الذي بواسطته تنظر القلوب إلى ربها وتعرفه، فهذا الذي يستحق أن يعبد بكامل العبادة، وهو الذي يستحق الحمد والثناء، والوصف بالجميل، أما من عداه ممن عُبدوا دونه وعظموا وأكبروا، وتمدح بهم، وأثني عليهم؛ فهل هم أهل لذلك؟! ولهذا استحق العبادة وحده، ولا يستحقها معه سواه.
العجب من حال الكفار في شركهم بربهم عز وجل
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، وهنا حال المتعجب مع هذا، والكفار يعدلون بربهم غيره، الكفار أصحاب ظلمة النفس، الذين كفروا بالله وجحدوا آياته، كفروا بالله وجحدوا آلاءه وإنعامه فعموا فضلوا، فهم في متاهاتهم، هؤلاء يعدلون بالخالق الجبار خالق السماوات والأرض، يعدلون به ويسوون به مخلوقاً من مخلوقات الله، لو سووا به جميع المخلوقات لكانوا قد يعذرون، يسوون به مخلوقا واحدا، لو تجتمع الخليقة كلها فلن تساوي خالقها، مستحيل، فكيف يُعدل بالله عز وجل عبد من عباده أو خلق من مخلوقاته؛ إذ منهم من عبد الظلام، المانوية عبدوا الظلام والضوء، النور والظلمة، ألَّهوهما، قالوا: لفوائدهما ومصالحهما! إن من أوجد الظلام والنور هو الذي يعبد، لا نفس الظلام والضياء، وكذلك الذين عبدوا الشمس والقمر وبعض الكواكب، من خلق هذه الكواكب؟ لم لا نسأل؟ وكذلك الذين هبطوا وعبدوا عيسى ووالدته، من خلق عيسى، من أوجده، من رفعه؟ أمه من خلقها، من صانها وحفظها، من أكرمها؟ كيف يعبدان مع الله؟ وعبدوا غير عيسى وأمه، وعبدنا نحن أيام ظلمتنا الأولياء، عبادة كما يعبد الله، بالعكوف على الأضرحة، بالتمرغ على التربة، بالإقسام والحلف، بالاستغاثة والدعاء، بالذبح والنذر وما إلى ذلك، كيف يجوز تسوية مخلوق بخالق، كالذي يريد أن يسوي النعل بصانعه، هل يعقل هذا؟ نعلك في رجلك تسويه بمن صنعه وهو ذو عقل وكرامة آدمية، كيف يمكن هذا؟! تدعو صانعه فيسمعك ويجيبك، وتدعو النعل فهل يجيبك؟! يسمع صوتك؟! يعطيك حاجتك؟! ولهذا تعجَّب الجبار عز وجل فقال: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1] بربهم: أي بخالقهم ورازقهم، ومدبر حياتهم، وهو الذي يملك حياتهم وموتهم، وغناهم وفقرهم، يسوون به غيره، أين العقول؟! أين الفهوم؟! أين المدارك؟! أين.. أين؟! والجواب: الكفر موت، من كفر مات، والميت هل يلام إذا لم يسمع؟! يلام إذا لم يجب؟! لا يلام. فالكافرون أموات غير أحياء وما يشعرون.
فمن نفخت فيه روح الإيمان فحيي، فأصبح يسمع ويبصر، ويقول ويفهم، ويعطي ويأخذ، نعم هذا حي، أما من فقد روحه فقد مات، والإيمان بمثابة الروح، من فقده مات وهو ميت.
اختصاص الله تعالى بخلق الإنسان وإيجاده
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )[الأنعام:1]، (هُوَ )[الأنعام:2] لا غيره، لا سواه، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، هل هناك من يقول: لا؟! ألا تعترف بأن الله الذي خلقنا من طين؟! فقل لنا إذاً: تعترف بمن؟! تقول: ما خلقنا أحد؟! أنت مجنون. أنت مخلوق، تقول: غير الله! أشر إليه. من هو؟! فلم يبق إلا أن تطأطئ رأسك وتقول: آمنت بالله، خلقكم من طين، فلم ترفعون أنفسكم وتتكبرون؟ أصل مادتكم من الطين، وفيه أيضاً عبرة كبيرة لمن ينكرون البعث الآخر، فإذا أعلمتهم أنهم خلقوا من طين؛ إذاً تموتون وتصبحون طيناً من جديد وتخلقون، لو كنتم لا تموتون نعم تقولون: لا نبعث، ولا حياة أخرى، لكن ما دمتم تقولون: ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )[المؤمنون:82]، نعم هذه هي الحجة عليكم، لما تموتون تتحللون وتصبحون ترابا، ويخلقكم الذي خلقكم أولاً من تراب، هذا أقرب إلى العقل والفهم.لو كان الكافر يقول: لا نموت نعم لا يبعث، لكن ما دام يموت ويتحلل ويصبح تراباً؛ إذاً لا يملك أن لا يبعث، فالذي خلقه أولاً من طين يخلقه مرة ثانية.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2]، أية قدرة أعظم من هذه؟ قضى آجالنا، هذا يعيش خمسين، وهذا عشرا، وهذا سنة، ولا يتخلف أبداً ولو على لحظة واحدة، ولا يستطيع إنسان تحت السماء أن يقول: أنا أملك ألا أموت، أو لا يموت ولدي أو أبي، أو أنا أستطيع أن أؤخر هذا سبعين سنة أخرى.
تقدير الله تعالى أجل الإنسان وأجل الحياة الدنيا
(ثُمَّ قَضَى أَجَلًا )[الأنعام:2] وحكم به، هل هناك من يستطيع أن يقول: لا نسلم بهذا القضاء ولا بهذا الحكم الإلهي؟ ولن نموت إلا إذا اشتهينا الموت؟ هل هناك من يتكلم بهذا؟ قضى أجلاً. وأجل آخر للبشرية كلها، مسمى عنده ومعروف يومه وساعته ولحظته، هذا الذي يستحق أن يعبد أم عيسى؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الملائكة؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الأولياء، فضلاً عن الأحجار والأصنام والتماثيل؟ إذ تلك ما عبدوها لذاتها، وإنما عبدوها يستشفعون بها عند الله عز وجل.
العرب أذكياء بالفعل، ومع هذا عبدوا اللات والعزى، ولكن ما قالوا: تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي، أبداً، قالوا: إنما نتقرب بها إلى الله.
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )[الزمر:1-3] ماذا يقولون: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )[الزمر:3].
لأنك إذا سألت عربياً في البادية، في الحضر: من خلق السماوات ؟ ما يقول: اللات، وهو إذا استطاع أن يبول عليها بال عليها، فكيف يقول: اللات؟ من خلقك أنت؟ ما يقول: العزى ولا اللات، يقول: الله. ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف:87]، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )[لقمان:25] قل فأنى تؤفكون.
الجهل في حياة المشركين المعاصرين
والغريب أن الخلاف بين مشركينا ومشركيهم أن مشركينا أجهل كما بينا أمس، ومشركونا ما يسمون الولي إلهاً، ما يقولون: إله أبداً، يقولون: ولي، أما المشركون الكفار فيقولون: إله، إلا أن أولياءنا نعبدهم لجهلنا وذهاب نور القرآن من قلوبنا أكثر مما يعبد المشركون اللات والعزى، أنذبح لهم أم لا؟! هذا عجل السيد البدوي ، هذه شاتي لـعبد القادر ، هذه نخلة مولاي فلان! ذبائح ونذور، أما الحلف فلا تسأل، ممكن أن يحلف بالله مرة ويحلف بالولي سبعين مرة، والمشركون قل ما يحلفون بغير الله، يحلفون بالله عز وجل.
المؤامرة على المسلمين بإبعادهم عن الاستهداء بالقرآن الكريم
وهنا ما يجدينا البكاء ولا ينفعنا، ولكن نقول: الذي أوقعنا في هذه الفتنة هو العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى، فهيا نبغضهم لله، فهيا لا نذعن لهم، ولا ننقاد لحالهم، ونحاول أن نتفصى عنهم تمام التفصي، ما استطعنا مخالفتهم في شيء إلا خالفناهم فيه لنستقل، لأنهم مكروا بنا، تعرفون ماذا فعلوا بنا؟ درسوا كيف ارتقت هذه الأمة التي كانت لاصقة بالأرض، كيف عزت وسادت وكانت مستعمرة للفرس من جهة، وللأحباش من جهة، والرومان من جهة، كيف علت؟! كيف سمت؟! كيف حكمت وسادت؟! بحثوا عن سر ذلك، فعثروا -والله- عليه، ألا وهو القرآن والنور المحمدي، الكتاب والسنة، هذا سر ارتفاعهم وعزهم وكمالهم، إي والله الذي لا إله غيره، القرآن روح، ولا حياة بدونه، السنة النبوية نور ولا هداية بدونها، فماذا يفعلون، اجتمعوا مرة القسس والرهبان، وقالوا: هل في الإمكان أن نسقط من القرآن كلمة (قل)، حرفان القاف واللام فقط، إذا استطعنا أن نسقط كلمة (قل) فيتخلى عنها المسلمون نستطيع أن نذهب القرآن بالمرة، اجتمعوا أكثر من عشرين يوماً، ما استطاعوا، قالوا: لأن القرآن يحفظه النساء والرجال، البدو والحاضرة، مكتوب في السطور، كيف نحذف كلمة قل هذه، وسر (قل) إذا أسقطوها أنهم يقولون للمسلمين: القرآن ليس بكلام الله أبداً، هذا من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاضت به روحه لذكائه وصفائه، لأنه في أرض حارة صحراوية، هذه تنتج له هذه المعاني والمعارف، أما مع قل: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ )[الأعراف:158]، من الذي يقول له: قل؟ إذًا: محمد مربوب والخالق يأمر، ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1]، هذا ما هو بمحمد، واحد يقول له: (قل) من هو؟ هذا هو الله، ( قُلْ هُوَ اللَّهُ )[الإخلاص:1] ، وهكذا.فاقتنعوا بأن هذا القرآن كلام الله، ما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل يوحى إليه ويملى عليه ويؤمر بأن يقول. واستطاعوا أن يضعوا لنا قاعدة، وهي موجودة في هوامش كتب الفقه المالكي وخاصة الحطاب على خليل، يقولون: تفسير القرآن صوابه خطأ، من فسر القرآن كتفسيرنا هذا إن أصاب فهو مخطئ آثم، وأنتم أيها المستمعون آثمون، فاحذروا من الحلقة.
وخطؤه كفر، وإذا فسر وأخطأ فقد كفر، فأصبح لا يجتمع الناس على تفسير كتاب الله، في القرى والمدن والحواضر حتى في مكة، ما يجتمعون عليه، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ يقرءونه على الموتى، إذا مات السيد فلان الغني الرئيس الفقيه العالم؛ فإنهم يقرءون عليه ثلاث ليال، وبعضهم سبع ليال، وبعضهم أربعين ليلة، وقد ذكرت لكم ما بلغني أنهم جعلوا نقابة، النقيب فلان في التلفون، إذا توفي لك قريب فدق عليه التلفون: نريد طلبة قرآن الليلة عندنا ميت، يقول: من فئة المائة ريال أم المائتين، يعني: إذا كان غنيا فمن فئة مائتي ريال لليلة الواحدة، وإذا كان فقيرا فمش الحال بالمائة ريال.
هكذا فعلوا بكتاب الله من إندونيسيا إلى موريتانيا، لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وإلى الآن ما زالوا يتشدقون بعض التشدق، يسمونه عشاء القبر.
والشاهد عندنا في أن النور الإلهي ما استطاعوا أن يطفئوه، كلام الله ما استطاعوا أن يمحوه، فاحتالوا فصرفوا القلوب عنه؛ لتعيش الأمة في الظلام والموت لا في الحياة.

يتبع

ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:27 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
دليل نجاح اليهود والنصارى في تنحية القرآن والسنة عن الحياة العملية لدى المسلمين
ومن قال كبرياء: ما الدليل على هذا؟ نقول: هل ذلت أمة الإسلام ودانت للكفار وحكموها وساسوها وأذلوها من إندونيسيا إلى موريتانيا أم لا؟ حكموا وسادوا أم لا؟ كيف حصل مثل هذا والله يقول: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )[النساء:141]؟ فلو كنا -والله- مؤمنين بحق ما حكمنا النصارى ولا الغرب ولا الشرق، لكن كنا مؤمنين، أما المؤمنون بصدق وحق فهيهات هيهات أن يسودهم الكافر ويحكمهم، ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النساء:141]، المؤمنون بصدق وحق، المؤمنون حق الإيمان، الذين عرفوا ربهم وآمنوا به، عرفوه أولاً بجلاله وكماله، وعظمته وسلطانه، ورحمته وعدله، فذلوا وهانوا له وعبدوه، أولئك هم المؤمنون.والسنة تقرأ للبركة، في الجوامع الكبيرة حين يدخل رمضان يجتمع أعيان البلاد والأغنياء وأهل الفراغ، ويقرءون فيه البخاري للبركة، هذا رأيناه في الديار الجزائرية ووجدناه في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموجود في غيرهما، السنة تقرأ للبركة، كيف للبركة! نتبرك بالحديث، والحديث يقول: ( من أحدث فليتوضأ )، تعاليم، كيف نتبرك به؟ ماذا نصنع به ما دمنا لا يجوز لنا أن نعمل به، ولا نقرأه للهداية؛ لأن فيه الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك، ونحن استغنينا بكتب فقهائنا نصلي ونصوم ونحج ونعتمر، فماذا نصنع إذاً بهذه السنة؟ أنهجرها؟ دعنا نجتمع عليها للبركة، فهمتم ما فعل العدو أم لا! هذا ما هو بعدو جاهل مثلنا، هؤلاء كبار المفكرين في النصارى واليهود والمجوس، كيف وصلوا إلى هذا؟ واستطاعوا أن يربطونا إلى الأرض ويلصقونا بها، وإلى الآن نحن لاصقون بالأرض.
والله لو كنا أحياء ما رضينا ليلة واحدة أن تنقسم أمتنا إلى ثلاثين أو أربعين دولة، لتبقى مهانة فقيرة ، وقد كان في أربع وعشرين ساعة إمام المسلمين فلان والأمة كلها أمة واحدة، ويطبق كتاب الله وهدي رسول صلى الله عليه وسلم.
وأوضح من هذا حفنة من اليهود أذلتنا وأهانتنا، وداست كرامتنا، وحطمت هكذا شرفنا، ونحن في حياء نتخبط ليل نهار، ماذا نصنع مع اليهود؟ أين يذهب بعقولنا؟ إننا متنا. اللهم أحينا! اللهم أحينا!
إذاً: من خلق الظلمات والنور؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه هو الذي خلقنا من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، ما الأجل المسمى عند الله؟ قلنا: الأجل أجل يوم القيامة، والأجل الذي قضاه لنا ما هو؟ أجلنا. الذين نصلي عليهم كل صلاة انتهت آجالهم أم استعجلت؟ انتهت. محددة باللحظة والثانية، هذا هو الله خالق السماوات والأرض والظلمات والنور.
حال الكفار بعد تقرير الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى
(ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني آدم ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2] يا بني الناس، يا معشر الكفار على اختلاف مذاهبكم ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، مع هذه الآيات، خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور، والآجال والموت والحياة، مع هذا تشكون في ربكم، وما تصرحون بأن لا إله إلا الله، ( ثُمَّ أَنْتُمْ )[الأنعام:2]يا للعجب ( تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2]، والامتراء نوع من الشك والاضطراب وعدم اليقين، فلو كانوا ينظرون إلى هذه الأكوان نظرة حقيقية لذهبوا يبحثون عن الله، من هذا الذي رفع هذا الكوكب في السماء فأنار به الدنيا، من هذا الذي أوجد هذا الليل المظلم، من أوجد كذا وكذا، سيجدون من يقول: هذا الله، من هو الله؟ الذي خلقك، وخلق أمك وأباك، إذًا: ماذا نصنع؟ إن أمرك أطعه، واطلب محبته وطاعته حتى تذوب في ذلك، لكن لا يسأل ولا يفكر ولا يبحث، أما إذا كان الطعام أمامه يأكل ويشرب؛ فإنه ما يفكر من أين هذا النعيم، من أين حصل، كيف كان، كيف تم، كالبهيمة، ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ )[الأنعام:2].
استحقاق الله تعالى وحده العبادة في السموات والأرض
(وَهُوَ اللَّهُ )[الأنعام:3] كلمة (الله) عرفنا أنها علم على ذات الرب جل جلاله وعظم سلطانه، (الله) علم، كما نقول للمخلوق: خالد، فهذا علم على هذه الذات، فالذوات البشرية متساوية، فكيف نميز بعضها عن بعض؟ بالأسماء. إذاً: فـ(الله) علم، خالقنا اسمه الله، الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وخلقنا، وخلق لنا الآجال والدنيا والآخرة، اسمه الله، هذا هو الاسم وهو الاسم الأعظم، هذا الاسم الذي ينادى به الجبار عز وجل، هذا الذي تتناول طعامك باسمه: باسم الله، هذا الذي تحمده وتقول: الحمد لله، هذا الذي يملأ قلبك حبه والخوف منه، هذا هو الله.
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، وهو الله في السماوات وفي الأرض إله معبود، لطيفة: ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ )[الأنعام:3]، والمعنى: وهو المعبود في السماوات وفي الأرض، أي نعم، هو المعبود بحق، ولا يستحق العبادة غيره من العوالم العلوية أو السفلية، كقوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ )[الزخرف:84]، أي: المعبود في السماء، والمعبود في الأرض، الخلق خلقه، والنعمة نعمته، وهو الذي يستحق أن يعبد في السماوات وفي الأرض.
اختصاص الله تعالى بعلم السر والجهر ودلالة ذلك على عظمته ووحدانيته
وأخرى: ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ )[الأنعام:3]، اجتمعوا في الظلام في السراديب، اختفوا وتساروا بالكلام بينكم، والله ليعلمنه، ولو شاء لقال: قلتم كذا وكذا، فلهذا هذا الذي يستحق أن يعبد، هذا الذي يستحق أن يخاف منه ويرهب، هذا الذي ينبغي أن نتقرب إليه ونتزلف، هذا الذي معنا، يعلم سرنا ونجوانا، وهو بائن من خلقه، فوق سماواته، فوق عرشه، ونحن بين يديه وفي قبضته، لا يخفى عليه من أمرنا شيء، آه لم لا نأخذ بهذه؟! ندخل في الصلاة ونصلي وكأننا لسنا مع الله، نمشي ونتكلم ونجلس ونأكل ونشرب وما نذكر أننا مع الله، من صرف قلوبنا؟ العدو إبليس؛ لأن نسيان الله هو الهلاك، فلا تُرتكب كبيرة، ولا تغشى معصية ولا يسيل دم إلا بعد نسيان الله عز وجل. إياك أن تفهم أن عبداً قلبه مع الله يذكره، ويمد يده ليقتل فلانا وفلانا، القلب مع الله يذكره ويمد يده ليتناول مالاً حراماً، قلبه مع الله وينظر إليك بنظرة كذا، أو يسبك أو يشتمك وأنت ولي الله معه، العلة هي نسيان الله، وإن شئت فقل: الغفلة.
علم الله تعالى المحيط بما تكسبه جوارح عباده
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، نكسب بماذا؟ بالآلات الأمريكانية، الكسب يتم بماذا؟ بالجوارح، كم جارحة عندنا؟ الجوارح عندنا ما يلي: السمع نجترح به الحسنة والسيئة، تصغي تسمع العلم والمعرفة والذكر هذه حسنة، وتصغي تسمع الباطل والمنكر والأغاني هذه سيئة.الجارحة الثانية: البصر، العينان نبصر بهما، نكسب بهما أم لا؟ انظر إلى السماوات، إلى الكواكب، إلى المخلوقات؛ يزيد إيمانك وتعظم مودتك ومحبتك لله، انظر نظرة حسد تتحطم، انظر نظرة محرمة إلى مؤمنة، إلى أمرد تتلذذ به تهلك، وتكون قد اجترحت سيئة عظيمة.
واللسان وهو أعظمها، المصريون يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك، هذا مثل مصري، يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وحسبنا أن يقول الحبيب هكذا بيده: ( كف عليك هذا ) أي: لسانك، ( قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).
الشاهد عندنا أن هذه الجارحة أكبر مصيبة، هذه جارحة اللسان.
رابعاً: اليدان، بهما تأخذ وتعطي، الذي يتناول سيجارة بيده اليمنى ويدخلها في فمه اجترح سيئة أم لا؟ اجترح سيئة. والحلاق في صالون الحلاقة وبيده الموسى تلمع، فيحلق لحى الرجال فلا يبقى لهم شعر، ولا ما يدل على فحولتهم، هذا ماذا صنع؟ اجترح سيئة أم لا؟ أكبر سيئة تخنث رجالنا، على الأقل اترك بعض اللحية -لحية سعودية- لنعرف أنه ذكر، أما أن تحلق الشارب واللحية فأنت تخنثه أم لا؟ كيف يجوز هذا مقابل عشرين ريال، والله لو تعطى مليون ريال ما تقبل هذا، فكيف تخنث فحلاً من فحول الإسلام، إلا أنك تقول: هو الذي طلب، انصح له، بين له، لا تسمح له أبداً أن يفعل هذا، حسن له اللحية وزينها لا بأس، أما أن تحلق اللحية والشارب فلا.
واليد بها السرقة والدم والدمار، وبها العطاء والزيادة، فهي جارحة.
والرجل أيضاً تمشي بها أم لا؟ يمشي في ليال سوداء أربعين كيلو متر ليحضر عرسا، وخمس خطوات عند المسجد ما يخطوها، أربعين كيلو متر يمشيها ليحضر حفل فلان والزوجة الفلانية، والمسجد عند الباب لا يستطيع الذهاب إليه! يصلي في البيت، إذاً: الرجل جارحة أم لا؟
وأعظم الجوارح الفرج، الفرج الذي ينتج البنين والبنات.
هذه هي الجوارح أم وإلا لا؟ بها الكسب، فقول ربنا: ( وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ما معنى: نكسب؟ ما نجترحه بجوارحنا من خير وشر، هذه الجوارح، وحتى الفرج أيضاً فيه حسنة، أي نعم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ).
(وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3]، ولازم علمه ما نكسب الجزاء، وليس المراد أنه يعلم فقط، معناه أنه سوف يحاسبنا بدقة على كسبنا الخير والشر على حد سواء، فعجب هذه الآيات، نسمعكم شرحها مرة ثانية لتتأكدوا، وأنا أطلب منكم أن تحفظوا هذه الآيات، ثلاث آيات تصلون بها النافلة، لو عزمتم عليها أمس والله لحفظتموها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات

يقول الشارح غفر الله لنا وله وإياكم والمؤمنين: [ يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله] ما الحمد؟ قال: [ وهو الوصف بالجلال والجمال، والثناء بهما عليه، وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه، كأنما قال: قولوا: الحمد لله ]، ولهذا في الفاتحة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، كأنه قال: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4] ثم تملقوه وقولوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]، ثم اطلبوا منه حاجتكم: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6].فهمتم هذه أم لا؟ احمدوه وأثنوا عليه، ومجدوه وتملقوه واطلبوه، أما من أول وهلة تقول: ربنا اهدنا فما ينفع، والعوام يعرفون هذا، إذا أراد أن يطلب من شيخ أو من غني مسألة لا يقول له: أعطني، يقول: يا عم، يا سيد، عرفناك بكذا، سمعنا أنك كذا وكذا وكذا، بعد ذلك يقول: أعطنا كذا، فالله أولى بهذا أم لا؟
فكأنه تعالى يقول: قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )[الفاتحة:1-5]، تملق هذا أم لا؟! لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، إذاً: اهدنا الصراط المستقيم.
فلهذا قال: [كأنما قال: قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره].
موجبات الحمد له ما هي؟
أولاً: [(الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1] فالذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة؛ هو المستحق للحمد والثناء لا غيره، ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات، فيعبدونها معه، يا للعجب! هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية: فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم، مندداً بباطلهم فيقول: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ )[الأنعام:2]، لأن آدم أباهم خلقه من طين، ثم تناسلوا منه، فباعتبار أصلهم فهم مخلوقون من طين، ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له، وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه، وهو مسمى عنده معروف له، لا يعرفه غيره، ولا يطلع عليه سواه، ولحكم عالية أخفاه، ولم يُطلع عليه سواه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكون في وجوب توحيده وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه.
وفي الآية الثالثة: يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، لا إله غيره ولا رب سواه، ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:3] من خير وشر، فهو تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، ويعلم سر عباده وجهرهم، ويعلم أعمالهم وما يكسبونه بجوارحهم، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19].
لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه].
اللهم ارزقنا ذلك، وأعنا عليه، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:28 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (380)
تفسير سورة الأنعام (13)



من أحبه الله من عباده وفقه للإيمان، ويسر له طريق الهداية والرشاد، فالواجب في حقه أن يعرض عمن يريدون له أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، والعاقل لا يستبدل سبل الشياطين بسبيل الهدى الذي أرشده إليه رب العالمين، بل يقيم على طاعة الله عز وجل، وأداء العبادات، وترك المعاصي والسيئات، ما امتدت به الحياة، حتى يحشر إلى ربه يوم القيامة راضياً مرضياً.
تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
هذا ولنذكر أننا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلك السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، ونحن مع الآيات الثلاث التي سنسمع -إن شاء الله- تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في تدبرها وشرحها وفهم مراد الله منها، رجاء أن نعلم فنعمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، من الآمر؟ إنه الله. من المأمور؟ رسول الله، ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا لهؤلاء المشركين الكافرين، الذين يحاولون أن يردوكم عن دينكم.
محاولة المشركين صرف المسلمين عن عبادة الله تعالى إلى عبادة أوثانهم
وهنا أذكركم بأن سورة الكافرون التي بين سورتي الكوثر والنصر، سورة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )[الكافرون:1] نزلت بشأن رغبة المشركين؛ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة معه: اعبدوا معنا آلهتنا سنة ونعبد معكم إلهكم سنة! عرض رخيص، ولولا حماية الله فلربما قبل، لم؟ قد نقول: هم ما عرفوا الله، لكن إذا عبدوه معنا سوف يعرفون ويؤمنون ويستقيمون، ولكن الله عز وجل لم يرض ذلك، وأنزل على رسوله قوله: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكان فيصلاً، أيأسهم وقطع آمالهم والحمد لله. وهذا التأكيد الظاهر في التكرار لييأسوا، ومع هذا أخذوا أيضاً يخلون ببعض المؤمنين ويعرضون عليهم:لم الاستمرار في هذا الدين الجديد، وها أنت في كرب، وأنت في كذا، لم تعدلون عن دين آبائكم وأجدادكم؟
وأنتم تعرفون السياسة وتعرفون أصحاب الأهواء والأطماع، الآن تعرفهم في كل مكان بأساليب خاصة، فأنزل الله تعالى على رسوله قوله: ( قُلْ )[الأنعام:71] يا رسولنا ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، أنعبد، ( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71]، والاستفهام للإنكار، كيف يكون هذا؟ ( أَنَدْعُوا )[الأنعام:71]، بمعنى: أنعبد، لأن الدعاء هو العبادة، ما كانوا يصومون ولا يصلون للآلهة، ولكن كانوا يعبدونها بدعائها، والاستغاثة بها، والاستعاذة بها، وذبح القربان لها، والحلف بها، هذه هي مظاهر العبادة، والدعاء يشملها، فلهذا من دعا غير الله كفر، لم يبق له حظ في الإسلام، ولم ندعو غير الله؟ هل الذي ندعوه يجيب دعاءنا؟ هل يفرج كربنا؟ هل يقضي حوائجنا؟ هل سيدفع الضرر عنا؟ هل سيجلب الخير؟ لا؛ لأنه لا يملك لنفسه ولا لنا شيئاً.
على سبيل المثال: عيسى بن مريم روح الله وكلمته، لو وقفت ألف سنة تقول: يا ابن مريم، يا روح الله، يا عيسى! امرأتي بها كذا.. أنا مصاب بكذا وكذا؛ فوالله ما استجاب لك، ولا سمع دعاءك ولا عرف حاجتك، ولا يقوى على أن يعطيك شيئاً، فكيف بالأولياء والصالحين الذين ألهتهم هذه الأمة أيام جهلها وظلمة نفوسها؟!
آثار الجهل الناشئ عن انصراف المسلمين عن هدي القرآن الكريم
هذه الآية ما كانوا يقرءونها، لو اجتمعوا عليها اجتماعنا هذا وقرءوها والله ما دعوا عبد القادر ولا العيدروس ولا البدوي ولا فاطمة ، ولا الحسين أبداً، لكن القرآن يقرءونه على الموتى، لا يجتمعون عليه ليتفكروا ويتدبروا ويعرفوا مراد الله من كلامه وما أراده منهم وما طلبه لهم، فكيف يعلمون؟ هل سيوحى إليهم؟ فعلتنا أنهم صرفونا عن القرآن، لا بالحديد والنار، ولكن بالسحر والباطل والكلام، فما أصبح اثنان يجتمعان على آية يتدبرانها، ولا على سورة يفهمان مراد الله منها، فعم الجهل والظلام وأصبحنا كالمشركين، وقد ظهرت لنا مظاهر كان المشركون خيراً منا فيها، فالمشركون -عليهم لعائن الله- كانوا إذا كانوا في الشدة لا يفزعون إلا إلى الله، إذا أصابهم قحط أو مرض أو بلاء أو مصيبة لا يعرفون إلا الله عز وجل، لا يذكرون معه اللات ولا العزى ولا غيرهما، لكن إذا جاء الرخاء واللهو يعبدون غير الله، وأما المسلمون الجاهلون من القرن الرابع إلى اليوم -إلا من رحم الله- فلا فرق عندهم بين الشدائد والرخاء واليسر، في الكل: يا سيدي عبد القادر ، يا مولاي إدريس ، يا سيدي فلان يا فلان.. والسيارات مكتوب عليها: يا فاطمة ، يا حسين ، فلا إله إلا الله إلا الله! ما سبب هذا يرحمكم الله؟
إنه الجهل الذي نتج عن إبعادنا عن القرآن الكريم، وافهموا هذا وبلغوه، نظر الخصوم ذلكم الثالوث المظلم المكون من المجوسية واليهودية والصليبية، نظروا في اجتماعات خاصة، فرأوا أن هذه الأمة ما علت ولا ارتفعت، ولا طابت ولا طهرت إلا بالوحي الإلهي القرآني الكريم، فقالوا: إذاً: نقضي عليها، كيف نقضي عليها؟ هل ندخل معها في حروب؟ ما نجحنا، دخلنا وما فزنا، إذاً: السر في عزها وكمالها وعلمها القرآن، أبعدوا القرآن عنها. وهل يستطيعون أن ينتزعوه من صدور المؤمنين والمؤمنات؟ ما استطاعوا، هل يستطيعون أن يأخذوا كل مصحف في الأرض؟ لا يمكنهم. إذاً: الطريقة الوحيدة أن نبعدهم عن تدبره وتفهمه، ومن هنا نحوله إلى الموتى، إذا مات السيد أو ماتت السيدة يجتمعون عليهما ويقرءون القرآن، قرابة ألف سنة وهذا هو الوضع، فمن ثم شاع فينا الضلال والباطل وانتشر الكفر والشرك، والحمد لله على أن ردنا الله.

يتبع


ابوالوليد المسلم 26-08-2021 04:29 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
التصوير القرآني للردة بعد الهداية في معرض الإنكار على المشركين
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، بعد ما مشينا في طريق السعادة والكمال والطهر والصفاء نرجع إلى الوراء؟ كيف يتم هذا؟ كيف نقبل هذا؟ كيف نطالب به؟ فلهذا من عرف الله فوالله الذي لا إله غيره لو مُلِّك ما على الأرض كلها على أن يكفر ما كفر، والله لو عرضت عليه خزائن بريطانيا المالية على أن يكفر ما قبل، والذين ما عرفوا وانتسبوا إلى الإسلام بالنسبة فإنه بوظيفة فقط يتخلى أحدهم عن الإسلام، وظيفة فقط، بل رخيصة أيضاً، ولا لوم؛ فما عرف الله حتى يحبه ويخشاه. أسمعتم هذا الإنكار؟ قل يا رسولنا لهؤلاء الذين يعرضون الردة عليك وعلى إخوانك: أنرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فنصبح كالذي استهوته الشياطين حيران، يصبح حالنا حال من تاه في الصحراء، زينت له شياطين الإنس والجن أطماعاً وأغراضاً وتاه في صحراء لا يعرف الطريق ولا إلى أين يذهب ولا كيف يعود، هذا مثل من خرج من دين الله الحق الإسلام وتدين بدين الباطل، سواء كان مسيحية أو يهودية أو مجوسية أو غيرها.
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ )[الأنعام:71]، استمالته، ( الشَّيَاطِينُ )[الأنعام:71]، بالوساوس والتزيين والتحسين في صحراء فتاه، و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، يا فلان! هذه الطريق، فما يسمع ولا يقوى على أن يجيبهم ولا يعرف كيف يجيبهم حتى هلك كذلك، أتريدون أن نصبح نحن هكذا؟ قال: لا، أنرد على أعقابنا إلى الكفر بعد الإيمان، إلى الشرك بعد التوحيد، إلى الطهر بعد الخبث، فتصبح حالنا كحال الذي استهوته الشيطان، (اسْتَهْوَتْهُ): استمالته بهواها وهواه، وغررت به ورمت به في صحراء، وله أصحاب يدعونه أن: تعال، الطريق هنا، أنت أخطأت، فما يسمع. معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، هدى اللَّه أما تعرفونه؟ والله إنه للإسلام، لا الصليبية ولا المجوسية ولا أية ملة، الهدى الموصل إلى رضوان الله، ثم النزول بدار السلام، والمحقق للسعادة والكمال في الدنيا قبل الآخرة، إنه دين الله الذي هو الإسلام، أما قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )[آل عمران:73]؟ وقال: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ )[آل عمران:85] يطلب ( غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[آل عمران:85].(قُلْ )[الأنعام:71]، يا رسولنا والمبلغ عنا: ( إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، لا غيره، أما ما تزينه الشياطين من الشرك والباطل والخلاعة والدعارة والفسق والفجور فلن يكون هذا ديناً لله أبداً، ولن يسعد صاحبه بحال من الأحوال.
معنى قوله تعالى: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين)
وقال له: قل أيضاً: وأمرنا أن نسلم لرب العالمين، ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ )[الأنعام:71] قلوبنا ووجوهنا ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، فهذا الذي يستحق أن تسلم له القلوب والوجوه؛ لأنه خالق العالمين ومدبر حياتهم ووجودهم، رب العالمين، مالك العالمين، المدبر أمرهم والمتصرف فيهم، هذا الذي أسلم له قلبي ووجهي، فإذا أعطيته قلبي فأصبح قلبي لا يتقلب إلا في طلب رضاه، وأسلمت وجهي فلا أقبل على أحد إلا عليه؛ فهذا الذي ينفعني إذا أسلمت له قلبي ووجهي، أما الذي لا يملك شيئاً فلن ينفعني بشيء، حتى عيسى عليه السلام، قال تعالى في عيسى ووالدته البتول مريم عليهما السلام لما ألهوهما وعبدوهما وجادلوا رسول الله فيهما، قال تعالى: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ )[المائدة:75]، من الصديقات، ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )[المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يرمي العفن أم لا؟ هذا الذي يحمل العذرة والبول والأوساخ في جسمه يستحق أن يعبد؟ كيف ذلك يا عقلاء؟! عجب هذا القرآن، ولقد صدقت الجن حين قالت: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا )[الجن:1]. فالقرآن أسكتهم، يقول: تعبدون مريم وولدها عيسى وهما يأكلان الطعام؟ ولازم ذلك أنهما يفرزان القذى والوسخ، ولهذا قالوا: عجباً للإنسان كيف يتكبر وأصله نطفة قذرة، وفي بطنه العذرة، وغداً يصبح جيفة منتنة، كيف يتكبر هذا؟! أما يستحي؟! أنت أصلك من ذهب أم من نحاس أم من حديد؟ ألست نطفة منتنة قذرة؟ وماذا تحمل في بطنك؟ الخرء والبول، أعوذ بالله، ونهايتك كيف هي؟ جيفة منتنة ما تشم رائحتها ولا يجلس إليها، أمثل هذا يتكبر ولا يعبد الله عز وجل؟
قال تعالى: ( وَأُمِرْنَا )[الأنعام:71]، من الذي أمرنا؟ إنه الله جل جلاله ربنا؛ ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، نسلم له قلوبنا ووجوهنا، فقلوبنا طول الحياة لا تفكر إلا في رضا الله عز وجل، وكيف تحققه، لا نلتفت يميناً ولا شمالاً بوجوهنا، وإنما كل أملنا وكل ما نطلبه من ربنا عز وجل، لا نطلب عيسى ولا مريم ولا صنماً ولا حجراً ولا ولياً ولا قطباً من الأقطاب الباطلة.
تفسير قوله تعالى: (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)
ثالثاً: قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، أي: وأمرنا أيضاً أن نقيم الصلاة؛ إذ لم يكن يومها من عبادة في مكة إلا الصلاة فقط، ما فرض صيام ولا حج ولا زكاة، إلا الصلاة. يقول: أمرنا أن نقيم الصلاة ونتقيه عز وجل، فكيف نتقي الله، هل ندخل في الكهوف والسراديب، ما قيمتها؟ هل نبني الحصون العالية؟ هل بالجيوش الجرارة؟ هل بقوة الدفاع؟ والله ما يتقى الله بشيء من هذا؛ لأنك بين يديه، والله إنك بين يديه يراك ظاهراً وباطناً، إن شاء أخذ منك وإن شاء أعطى، فأين تغيب عنه والملكوت كله في قبضته؟
إذاً: لا يتقى الله إلا بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله، كيف يتقى غضب الله وجبروته وسلطانه وقدرته على الإشقاء والتعذيب، يتقى بماذا؟
آمن واستقم تكن وليه، لا يغضب عليك ولا يسخط أبداً، وأنت من أحب أحبائه إليه، فقط بتقواه، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعة الله وطاعة رسوله عبارة عن أدوات تزكية للنفس، الركعتان تصليهما ينتج عنهما نور يملأ قلبك، تركك معصية له بترك واجب أو فعل محرم يحفظ ذلك النور في نفسك، فلا تزال تعبده، وتزكي نفسك وتبعد معصيته عنك، فتحتفظ بتلك الزكاة حتى تصبح روحك كأرواح الملائكة في طهرها وصفائها، ومن ثم يحبك الله عز وجل، عرفتم سر هذه الطاعة؟ ودعنا مما تنتجه من الإخاء والمودة والعزة والطهارة والصفاء في هذه الحياة، هذا شيء إضافي، والمقصود: أن الطاعة تنتج طهارة الروح البشرية، فإذا طهرت النفس وزكت وأصبحت كأرواح أهل الملكوت الأعلى رضي الله عنها وقبلها وأنزلها بجواره في الملكوت الأعلى، وهل تذكرون قسم الله الذي أقسمه أم لا؟
قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هذا حكم الله أم لا؟ هل هذا يحتاج إلى شرح وبيان؟ أفلح من زكى نفسه، وخاب وخسر من دسى نفسه، والسؤال: بم نزكي نفوسنا؟ ما هي أدوات التزكية، هل توجد في الصيدليات؟ هل هي مواد التنظيف؟ إن النفس البشرية تزكو بما شرع خالقها لها من هذه العبادات، من كلمة (لا إله إلا الله) إلى إماطة الأذى من طريق المؤمنين، هذه العبادات كلها مشروعة أساساً لتزكية النفس على شرطين: أن تخلصها لله ولا تلتفت إلى غيره، وأن تفعلها كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[الأنعام:72]، إلى من نحشر ونجمع ونساق؟
والله ما هو إلا إلى الله، هو الذي إليه لا إلى غيره تحشرون، لم تحشرنا الملائكة بعد أن نقوم من قبورنا؟ تحشرنا للحساب والعقاب، للحساب والجزاء، فلو كنا نحشر إلى غير الله فلن نعبده، ولن نكون منه خائفين؛ لأنه لا سلطان له علينا، لكن ما دام أن حشرنا وجمعنا إليه لا إلى غيره، ثم يصدر حكمه علينا إما بالسعادة وإما بالشقاء؛ فحينئذ يجب أن نعبده.
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون...)
ثم قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هل معه آخر؟ هل معه لينين ؟ أو ستالين ؟ أو سحرة اليهود؟ وهل هناك من يرفع يده في العالم ويقول: جدي هو الذي أوجد هذا الكوكب مع الله؟ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، لا باللهو واللعب والباطل، لم خلق السماوات والأرض يا أهل العلم؟ من أجل أن يعبد فيهما، خلق السماوات والأرض، وخلق المواد اللازمة من الضوء والحرارة والماء والطعام والشراب، وخلق هذا الآدمي وأهبطه من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره، فمن ذكر وشكر رفعه إلى الملكوت الأعلى، ومن نسي وكفر وأعرض أهبطه إلى أسفل سافلين في الكون، واقرءوا: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، سر خلق السماوات والأرض أن يذكر الله ويشكر؛ إذ العبادة ما هي إلا ذكر الله وشكره.

إذاً: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، هذا أولاً، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، إذا قال للشيء: كن فوالله لا يتخلف لحظة، لا بد أن يكون، هذا ذو العظمة، هذا الجبار، هذا الله رب السماوات والأرض، ( وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ )[الأنعام:73] في ذلك الوقت.
معنى قوله تعالى: (قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور)
(قَوْلُهُ الْحَقُّ )[الأنعام:73]، لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو حق، ولا يوجد ولا يعدم إلا بما هو حق.وقوله: ( وَلَهُ الْمُلْكُ )[الأنعام:73]، متى؟ ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الآن تملكون القصور والمباني والبساتين، لكن إذا نفخ في الصور هل يبقى ملك لأحد؟
النفخة الأولى يكون بعدها الفناء الكامل، والثانية يكون بعدها البعث والوقوف حفاة عراة بين يدي الله، ( قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، ما الصور هذا؟ الصور في لسان العرب: هو البوق، وكان في الزمن الأول عبارة عن قرن غزال أو وعل كبير، يحفر أو يفتح، ويتكلمون فيه يرفعون به أصواتهم، ما عندهم آلات تكبر الصوت، وإلى عهد قريب كانوا يجلعونه حديدة يصيحون فيها، أليس كذلك؟ هذا هو الصور.
من ينفخ في الصور؟ إسرافيل، له ثلاث نفخات: النفخة الأولى للفناء، فيتحلل كل شيء ويتبخر، وتعود العوالم كلها إلى سديم، السماوات والأرضون، والنفخة الثانية للقيام من القبور، والثالثة: نفخة الصعق، وهي حين تقف البشرية على سطح الأرض الذي وجدت للوقوف عليها وهم كذلك فينفخ إسرافيل فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ النفخة الرابعة فإذا هم قيام ينظرون، ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )[الفجر:22]، ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ )[الزمر:69-71].. ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ )[الزمر:73]، آخر سورة الزمر.
معنى قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير)
قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73]، أولياء الله هل يعلمون الغيب والشهادة؟ قد يعلمون ما يرونه ولا يعلمون ما غاب عنهم، يعرفون الجهر بالكلام والسر لا يسمعونه ولا يعلمونه، ولكن الله عز وجل عالم الغيب، وهو ما غاب، وعالم الشهادة وما حضر وشوهد، وهذه الصفة لن تكون إلا لله عز وجل، لا للات ولا للعزى وعبد القادر ولا لأي كائن، لا عيسى ولا أمه ولا هارون ولا موسى، هذا الذي يستحق أن يعبد؛ لأنه يعلم ما شاهدناه وما لم نشاهده، يعلم ما حضر وما غاب، هذا الذي يجب أن يعبد بحبه والخوف منه، والتملق له والتزلف إليه حتى بتعفير الرأس في التراب، هذا هو الله رب العالمين.(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:73]، صفتان عظيمتان أخريان:
(الْحَكِيمُ): الذي يضع كل شيء في موضعه، مستحيل أن يقع شيء في غير موضعه، من كل الكائنات ومن كل الأحكام، ومن كل القضايا والنوازل، هذا الحكيم، هذا الذي يستحق أن يؤله ويعبد، هذا الذي يتقرب إليه ويتزلف. (الْخَبِيرُ) بخفايا الأمور وبواطنها وظواهرها على ما هي عليه وعلى ما تكون وعلى ما كانت قبل أن تكون، هذا هو الله عز وجل، فكيف نعبد غيره إذاً؟
اسمعوا الآيات مرة ثانية: قال تعالى: ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:40 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (381)
تفسير سورة المائدة (14)


كان بعض المشركين يعرضون على المؤمنين الصادقين أن يعبدوا معهم آلهتهم اللات والعزى ومناة، وغيرها من الأصنام والأحجار المنصوبة، التي كانوا يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك، فأمر الله رسوله وعباده المؤمنين أن يردوا على عرضهم الرخيص هذا، بأن من فعل هذا من المؤمنين فإنه مرتد عن دين الله، ناكص على عقبيه، وخارج من التوحيد إلى الشرك، ومن الهداية إلى الضلالة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة العظيمة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
وها نحن مع الآيات الثلاث، التي تدارسناها بالأمس، وما وفيناها حقها، ولا وقفنا على أنواع هداياتها، ولهذا نعيد دراستها بعد تلاوتها إن شاء الله ربنا، فرتل يا بني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:71-73]. سبحانه لا إله إلا هو.
معنى الآيات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [يدل السياق على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين]، وقد علمنا بالأمس أنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه أن يعبد معهم آلهتهم سنة ويعبدوا معه إلهه سنة، ولكن الله لم يرض بهذا، ونزلت سورة الكافرون حداً فاصلاً كإعلان رسمي تكرر ليفقه كل من في مكة وخارجها: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )[الكافرون:1-6]، فكانت حداً فاصلاً.وهنا عرضوا هذا على بعض المؤمنين كـبلال وعمار الضعفاء قائلين: لو أنك عدت إلى دين آبائك وأجدادك لتسلم من هذا الذل والهموم والتعب وما إلى ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآيات المباركات.
قال: [يدل السياق ] سياق الآيات التي سمعناها [ على أن عرضاً من المشركين كان لبعض المؤمنين ليعبدوا معهم آلهتهم ، اللات، والعزى، ومناة، وهبل، وما إلى ذلك من الأصنام والأحجار المنصوبة التي يعبدونها بدعائها، والذبح لها، والنذر لها، وما إلى ذلك.
قال: [ فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص، منكراً عليهم ذلك أشد الإنكار ]، إذ قال تعالى: [( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ )[الأنعام:71]، الاستفهام للإنكار ]، كيف ندعو من دون الله؟ من الذي ندعوه من دون الله؟ [ ( مَا لا يَنفَعُنَا )[الأنعام:71] إن عبدناه ( وَلا يَضُرُّنَا )[الأنعام:71] إن تركنا عبادته ]، فكيف نعبد من لا ينفع ولا يضر، نحن نعبد من ينفعنا ونعبد من يدفع الضر عنا، أما الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً فكيف نعبده؟!
قال: [ وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا من التوحيد إلى الشرك، ( بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] إلى الإيمان به، وبمعرفته، ومعرفة دينه، فيكون حالنا -إذاً- كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها، فلا يدري أين يذهب ولا أين يجيء].
إذا نحن عدنا إليكم وعبدنا آلهتكم وتركنا عبادة الله بعد أن آمنا به وعرفناه؛ تصبح حالنا كحال من تاه في صحراء، فلا يدري أين يذهب، ولا إلى أين يأتي.
[و( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا )[الأنعام:71]، وهو لا يقدر على إجابتهم، ولا الإتيان إليهم، وذلك لشدة ما فعل استهواء الشياطين في عقله].
وهل تعرفون لهذا مثلاً؟ كم من إنسان كان يعبد الله مستقيماً في قرية أو مدينة، ثم تستهويه الشياطين فيفسق ويضجر ويتيه في متاهات الضلال، لا يعرف حلالاً ولا حراماً.
[ثم أمره أن يقول أيضاً] أي: أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: [( قُلْ إِنَّ الْهُدَى )[الأنعام:71] أي: الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه ( هُدَى اللَّهِ )[الأنعام:71] الذي هدانا إليه، ألا إنه الإسلام.
وقد أمرنا ربنا أن نسلم له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين، فأسلمنا كما أمرنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها، وأن نتقيه فاتقيناه، وأعلمنا أنَّا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك، ثم هدانا فلن نرجع بعدُ إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية، أما الثالثة فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله، فقال تعالى: ( وَهُوَ )[الأنعام:73]، أي: الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له قلوبنا فأسلمنا ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ )[الأنعام:73]، فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً، بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر.
(ووَيَوْمَ يَقُولُ )[الأنعام:73] لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله: ( كُنْ )[الأنعام:73]، فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً وأبداً.
(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، نفخة الفناء، فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار، فيقول جل ذكره: ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ )[غافر:16]، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه قائلاً: ( للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )[الأنعام:73] أي: يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد، ويعلم الشهادة والحضور، لا يخفى عليه أحد، ( وَهُوَ الْحَكِيمُ )[الأنعام:73] في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته، ( الْخَبِيرُ )[الأنعام:73] ببواطن الأمور وظواهرها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ليعبد بها].

يتبع

ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:41 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: قبح الردة وسوء عاقبتها]، ما الردة؟ الارتداد هو الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، ارتد إذا رجع، وهل للردة سوء عاقبة؟ نعم؛ إذا ارتد عن الإسلام هلك، وتمزق وخسر الدنيا والآخرة، ومن أين عرفنا قبح الردة؟ من قوله تعالى عن المؤمنين حين عرضوا عليهم الردة: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71]، كيف يكون هذا؟!
[ثانياً: حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ أما قال تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ )[الأنعام:71]؟
حرمة إجابة أهل الباطل، فإذا دعاك اليوم أهل الباطل إلى باطلهم فإنه يجب أن لا تجيبهم، حرام أن تجيبهم، جماعة في مجلس باطل ومنكر يقولون لك: تعال تجلس معنا، فهل تجيبهم؟! لا تجبهم. جماعة افتتحوا مخمرة أو مزناة أو باطلاً ودعوك، فهل تحضر معهم؟! أهل بدعة اجتمعوا عليها يعبدون الله بغير ما شرع لأنهم ضالون، هل تجيبهم فتجلس معهم؟!
فإن قالوا: لم لا تجلس معنا فبم تجيب؟! تجيب بقوله تعالى: ( وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ )[الأنعام:71] فنصبح ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى )[الأنعام:71]، كيف ننتقل من الهدى إلى الضلال؟
[ثالثاً: لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي لا دين إلا الإسلام]، احلف بالله أنه لا دين حق في الأرض إلا الإسلام، ولا تشك ولا تتردد، أما قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ )[آل عمران:19]؟
وهنا من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) [الأنعام:71]، لا هدى بعده، أيما شخص يأتي بهدى يريد أن يدعوا الناس إليه فهو هدى باطل، وهدى ضلال، ولا يمكن أن يسعد أصحابه لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا هدى إلا هدى الله تعالى، أي: لا دين حق إلا الإسلام.
[رابعاً: وجوب الإسلام لله تعالى]، نسلم لله ماذا؟ أسلم الشيء: أعطاه، نسلم له شيئين: قلوبنا، فلا تتقلب إلا في طلب مرضاته طول الحياة، ونسلم له وجوهنا فلا نقبل على مخلوق سواه في قضاء حوائجنا، وفي طلبنا ما نحتاج إليه.
فمن أسلم قلبه ووجهه لله فقد أسلم وسلم.
أخذنا هذا من قوله تعالى: ( وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:71]، لنسلم له ماذا؟ القلوب والوجوه، لا البيوت ولا البساتين، أمرنا أن نسلم له ماذا؟! هل المال والرجال؟! لا. بل القلوب والوجوه.
[وجوب الإسلام لله تعالى، وإقام الصلاة، واتقاء الله عز وجل]، هذا موجود في الآية: ( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ )[الأنعام:72]، نتقي من؟ نتقي الله. بماذا نتقيه؟
أولاً: نحن نتقي الله، أي: نتقي غضبه وعذابه، هذا هو المقصود، اتق الله: أي: اتق غضبه حتى لا يغضب عليك فيعذبك، واتق عذابه، فإذا ما أطعته فإنه يعذبك، إذاً: يتقى الله عز وجل في غضبه وعذابه.
وبم نتقيه؟ لا شيء سوى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتقى بأي شيء، لا بالرجال ولا بالمال ولا بالسلاح ولا بالحصون، ما يتقى الله إلا بأن نطيعه طاعة كاملة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نجعل بيننا ويبن غضبه وعذابه وقاية وستراً مانعاً.
ولهذا قال: [وجوب الإسلام لله تعالى، وإقامة الصلاة، واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
خامساً: تقرير المعاد والحساب والجزاء]، هل دلت الآيات على هذا؟ قررت المعاد والحياة الثانية، والحساب بعد ذلك، ثم الجزاء، ماذا قال تعالى؟ ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )[الأنعام:73]، الملك لمن؟ ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16]، يوم ينفخ في الصور وتبعث الخليقة يجيء الحساب بعد ذلك، وبعد الحساب يتم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم، إما في عالم السعادة وإما في عالم الشقاء، إما في الجنة وإما في النار، هل هناك واسطة؟ لا واسطة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:43 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (382)
تفسير سورة الأنعام (15)


قص الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وإنكاره عليهم عبادة الأصنام والأحجار التي يضعونها بأيديهم، ومشاهدته لملكوت السماوات والأرض الناطقة بعظمة الله ووحدانيته وتفرده بالخلق، واستحقاقه وحده للإفراد بالعبادة، واستدراجه لقومه بمثل هذه المظاهر من الكواكب والقمر والشمس، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، علهم يؤمنون به سبحانه فيدركون الفلاح.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن نستمع إلى تلاوة الآيات من مرتلها، ثم نأخذ إن شاء الله في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:74-79].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، يقول تعالى لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أُذكر لقومك العادلين عن الله، العابدين غير الله من الأصنام -يعني المشركين في مكة- أُذكر لهم الحادثة الآتية ليتعظوا ويعتبروا، ما هي؟
قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، إبراهيم -كما علمتم سابقاً- معناه بالعربية: الأب الرحيم، وبالعبرية: إبراهيم، ووالده يسمى آزر ، وقيل: له اسم ثان ولا بأس؛ فيعقوب اسمه يعقوب وإسرائيل، فـآزر وشالخ كلاهما اسم لوالد إبراهيم.
الرد على منكري أبوة آزر لإبراهيم عليه السلام
والذي ينبغي ألا ننساه - معشر المستمعين والمستمعات - أن هناك ضلالاً من المسلمين يقولون: إن آزر هذا أو شالخ عم إبراهيم وليس بوالده، وكتب التفسير موجود فيها هذا، ومعنى هذا أنهم كذبوا الله عز وجل، أو قالوا: إن الله خاننا، حيث أطلق على عمه اسم الأب والمفروض أن يقول: العم، فهل هذا الموقف يقفه مسلم فيكذب الله؟! الله يقول: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]، وأنت تقول: لعمه! أسألكم بالله: هل يصح لمؤمن أن يرد على الله فينسب إلى الله أنه أخفى هذا الاسم؟! فلهذا من قال لك: إن آزر عم إبراهيم أو شالخ فقل له: صدق الله وكذبت. وحجتنا أن الله تعالى قال: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ )[الأنعام:74]. وهذه الكذبة العظيمة لها سبب، سببها في نظرهم أن يبرئوا والد الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول النار، والد نبينا اسمه عبد الله بن عبد المطلب ، قالوا: لن يدخل النار، فقيل لهم: ها هو والد إبراهيم يدخل النار! قالوا: ليس هذا أباه، بل هذا عمه.
وهذا التزمت وهذا التخبط لأي شيء؟ كل هذا في حب الرسول وآل بيته بزعمهم، تدجيل وكذب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أبي وأبوك في النار ).
ونحن أصبحنا -والحمد لله- من ذوي البصائر، عرفنا أنه لا قيمة للنسب أبداً، كل ما في الأمر هل نفسك زكية طاهرة، أم خبيثة منتنة؟ كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، إذا ما زكت النفس ولا طابت ولا طهرت فأنت من أهل العذاب.
لعلمنا بحكم الله في الخليقة: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، لا من كان أبوه نبياً أو ولياً؟ فهل تصورتم هذه الصورة أم لا؟!
بل ذهبوا إلى أن عم الرسول في الجنة أيضاً، وهذا مذهب الروافض الذين يحومون حول هذه الترهات والأباطيل، نحن علمنا من طريق مصطفانا صلى الله عليه وسلم أن آزر لما يبعث الله الخليقة يقوم إبراهيم ويقول: يا رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون -وهذا في سورة الشعراء: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ )[الشعراء:87]- والآن هذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي، فيقول له الرب تعالى: انظر تحت قدميك، فإذا آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيح، ما إن يراه حتى يقشعر جلده ويقول: سحقاً سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عذاب النار.
فهل بعد هذا تقول: أبوه في الجنة؟! هذا شأن أمة تعرض عن كتاب الله وهدي رسولها، وتتلقى العلم من (قال فلان وقال فلان).
رحمة إبراهيم عليه السلام وتمحيص الله وابتلاؤه له
هل عرفتم أن إبراهيم الأب الرحيم أم لا؟ وتتجلى رحمة إبراهيم في موقف لا تنسوه، هذا الموقف في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، عندما قال: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ )[إبراهيم:37-38]، إلى أن قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معنى هذا: لا تعذبه.ذكر هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في ضمن ثلاثة مواقف: له صلى الله عليه وسلم موقف ولعيسى موقف ولإبراهيم موقف، فعيسى قال: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، وإبراهيم قال: ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[إبراهيم:36]، معناه: اغفر له وارحمه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أمتي أمتي.
والشاهد عندنا في تجلي هذه الرحمة، ومن ثم ابتلاه الله بأربعة ابتلاءات لم يبتل بها غيره:
الأول: الهجرة، وكانت أول هجرة في التاريخ البشري، لما حكم عليه بالإعدام وأنجاه الله هاجر مع زوجه وابن عمه إلى أرض الغرب، لا يدري أين يذهب، فأول هجرة كانت هجرة إبراهيم عليه السلام.
ثم ابتلاه بذبح إسماعيل، كيف يبتلى الرجل بذبح ابنه؟! كيف يقوى على ذلك؟
ثم ابتلاه بأن يذهب بجاريته وابنه إلى صحراء قاحلة ليس فيها أحد، ذهب بإسماعيل وهاجر.
ثم أمر بأن يذبح إسماعيل، كما قال تعالى عنه: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى )[الصافات:102]، وبالفعل طيبته أمه وطهرته، وأخذه إلى منى، وطأطأه على الأرض والمدية في يده، ولما هم بذبحه نودي أن: اترك إسماعيل وخذ هذا الفداء العظيم: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )[الصافات:107].
إعلان ضلال المنصرف عن عبادة ربه إلى عبادة سواه
قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74]، قال له منكراًعليه: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، تعبدها؟ هذا الاستفهام للإنكار وعدم الرضى بصنيع والده، كيف تتخذ أصناماً آلهة تعبدها؟ ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ )[الأنعام:74] يا آزر ( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) [الأنعام:74]، فسجل له ولقومه أنهم في ضلال واضح بيِّن.وأي ضلال أعظم من أن يترك الإنسان خالقه لا يعبده ويعبد مصنوعاً صنعه بيده؟! هل هناك ضلال أعظم من هذا؟! ينحت حجراً ويعكف عليه يعبده ويترك عبادة من خلقه وسواه ورزقه وحفظه.
(إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74]، بين واضح، هذا الضلال هو البعد عن الهداية الإلهية؛ إذ الإنسان مخلوق ليعبد الله، هذه علة خلقه، هذا سر خلقه: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56]، فقط لا لشيء آخر.
ثم إن هذه العبادة هي التي تؤهله للسعادة والكمال، لا أن الله ينتفع بهذه العبادة، وإنما العبادة ينتفع بها العابدون، تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر، فيحتلون الفراديس وينزلون الجنة.
كما أن هذه العبادة -وهي أوامر ونواه- تحفظ أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، تجنبهم المكاره والمهالك والمعاصي؛ لحكمة الله عز وجل.
الشاهد عندنا أن إبراهيم عليه السلام واجه والده فقال له: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)
وبعدها قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، وهكذا نري إبراهيم، من الذي يريه؟ إنه الله. ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، الملكوت بمعنى الملك العظيم، كالجبروت، والرغبوت بمعنى الرغبة الواسعة، ،الطاغوت: الطاغية الكبير، والرهبوت، كل هذه بمعنى العظمة، كذلك الملكوت أي: الملك العظيم، ( وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، نريه ذلك ليصبح من أهل الإيمان، بل من أهل اليقين.وهنا روي أن إبراهيم كشف الله تعالى له الحجاب، فرأى ما تحت العرش إلى الأرض، ورأى ما تحت الأرض إلى أسفلها، ولا غرابة ولا عجب أن يريه الملكوت بدون حجاب، يرى السماوات وما فوقها من الجنة والعرش وهو في مكانه، ثم يرى ما تحت الأرض السفلى، أو الملكوت الأسفل، أخذوا هذا من قوله: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، وإن قلنا: هل صح أم لم يصح؟ نقول: الآية ستأتي.
تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي...)
قال تعالى في بيان كيف أراه الله ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين، قال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، جن الليل: دخل الظلام وذهب الضوء، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] لاح وطلع، قد يكون الزهرة، رآه يلوح في الأفق، وهو هنا يتدرج مع قومه وأهله وأبيه وعشيرته ليعرفوا الحق من طريق التعليم والهداية والتبصير. ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لك أن تقول: حرف الاستفهام محذوف، والتقدير: (أهذا ربي؟)، وهو كذلك، يجوز حذف الاستفهام في كثير من المواطن، لا سيما هنا: (أهذا ربي؟)، حيث رفع رءوسهم إلى الزهرة الكوكب العظيم هذا قائلاً: أهذا أحق بالربوبية والألوهية؟ أهذا ربي؟
قال تعالى: ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أفل النجم: ذهب ضوءه، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76].
ولا ننسى أن الكلدانيين قوم إبراهيم -وهم في ديار بابل والعراق- كانوا صابئة يعبدون الكواكب، ثم صنعوا لتلك الكواكب أصناماً وتماثيل، فيتمسحون بها ويتقربون وهم يعبدون في الواقع الكواكب، ولهذا فهم ليسوا ملاحدة لا يؤمنون بالله، بل يؤمنون بالله، ويتوسلون إليه بهذه الكواكب والأصنام.
وهذه الحقيقة قررناها مئات المرات، فكلمة (لا إله والحياة مادة) هذه كذبة يهودية، نسج اليهود خيوطها، وقدموها لروسيا، ونهض بها لينين وستالين وأتباعهم، ونفوا وجود الله، قبل هذه لم تكن البشرية تنكر وجود الله أبداً، وإنما كانوا يعرفونه ويتوسلون إليه بهذه الأصنام والكواكب وما إلى ذلك.
إذاً: فلنستمع: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:76]، لا يعني أنه ربه، ولكن على حذف الاستفهام: (أهذا ربي)؟
(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ما دام أنه ذهب وتركني فكيف أعبده؟ لن يكون ربي هذا.

يتبع

ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:43 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77] طلع القمر، لاح وصعد، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، لأن الكوكب اضمحل وتلاشى وذهب وظهر القمر ةلاح وبزغ، ( قَالَ هَذَا رَبِّي )[الأنعام:77]، أي: (أهذا ربي)؟ ( فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:77]القمر أيضاً، ذهب وزال ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]. إن الذين يسمعون كلامه معهم يتعجبون، كأنه طالب الهداية يبحث، وهو واجب كل إنسان أن يبحث عن ربه عسى أن يعرفه، وهذا أسلوب حكيم.
فلما أفل القمر قال: ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي )[الأنعام:77] إليه ( لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، بدليل أن القمر أفل وغاب وغرب.
تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ...)
قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78] والشمس بزوغها عظيم، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، أي: من القمر ومن الكوكب، يستدرجهم حتى يقفوا على الحقيقية، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78] غابت، غربت الشمس وغابت، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، والبراءة: البعد الكامل، ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]. لقد قال: ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78] من هذه الآلهة، سواء كانت الكواكب في السماء، سواء كان القمر أو الشمس، وفي اليمن كانت تعبد الشعرى، وجاء في القرآن: ( رَبُّ الشِّعْرَى )[النجم:49]، كوكب معروف؛ لأن الإنسان إذا فقد البيان والهادي الذي يهديه يتخبط، والشياطين تزين له، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الكوكب الفلاني، وعبدوا ما دون ذلك من المخلوقات، أما صنع التماثيل فلتمثل فقط ما يعبدونه في السماء، ولهذا يسمى تمثالاً، لا أنه الإله المعبود.

تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)

قال تعالى: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ )[الأنعام:79] أي: قلبي ووجهي، ( لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:79]، خالق السموات والأرض، هذا الذي أعطيه قلبي ووجهي، هذا الذي أعبده وأرغب فيما عنده، وأرهب مما عنده، هذا ربي لا رب لي سواه؛ لأنه خالق السموات والأرض، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] أي: مائلاً عن كل هذه الأصنام والتماثيل والعبادات الباطلة إلى عبادة الله وحده، ( حَنِيفًا )[الأنعام:79] مائلاً، من الحنف وهو الميل، أي: مائلاً عن كل هذه الآلهة الباطلة إلى ربه عز جل.( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79] تبرأ براءة كاملة، لا صلة لي بالمشركين، لا أعرفهم، ولا أمشي وراءهم، ولا أحبهم، ولا أتعامل معهم؛ لأنهم أشركوا هذه الأصنام في عبادة ربهم فعبدوها معه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ما زال السياق ] سياق الآيات [ في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون]، ما زال سياق الآيات التي يتبع بعضها بعضاً في بيان الهدى والطريق المستقيم للعادلين بربهم، عدلوا بربهم أصناماً وآلهة، سووها مثل الله وعبدوها. [ فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )[الأنعام:74] أي: واذكر لهم يا نبينا قول إبراهيم لأبيه آزر : ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74]، أي: أتجعل تماثيل من حجارة آلهة أرباباً تعبدها أنت وقومك، ( إِنِّي أَرَاكَ )[الأنعام:74] يا أبت ( وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74] عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية فإن الله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]، أي: كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض]؛ لأن الله عليم حكيم، وحكمته لا يخلو منها شيء، ما من ذرة إلا وخلقها وإيجادها لحكمة، إذاً: نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمتنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض، أي: نريه الآيات في ملك السموات والأرض [ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الإيمان]، فالإيمان إيمان، واليقين يقين، واليقين أعلى من الإيمان، ( لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ )[التكاثر:7]، مؤمن وموقن، وأما المؤمن غير الموقن فهو مريض قد يهلك في الطريق.
قال:[هذا ما دلت عليه الآية الثانية، وفي الثالثة فصّل الله تعالى ما أجمله في قوله: ( نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الأنعام:75]]، الآن يفصل هذا الملكوت، كيف أن آيات الله تعالى تدل على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته، [فقال تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ )[الأنعام:76]، أي: أظلم، ( رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76]، قد يكون الزهرة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب الكوكب، ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )[الأنعام:76]، ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا )[الأنعام:77]، أي: طالعاً، ( قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ )[الأنعام:76]، أي: غاب، ( قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )[الأنعام:77]، أي: في معرفة ربهم الحق. ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً )[الأنعام:78]، أي: طالعة، ( قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ )[الأنعام:78]، يعني: من الكوكب والقمر، ( فَلَمَّا أَفَلَتْ )[الأنعام:78]، أي: غابت بدخول الليل، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78].
هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة، واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال: ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا )[الأنعام:79]، لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة، فقال: ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[الأنعام:79]].
هذا الموقف وقفه إبراهيم ليستدرج قومه، ليقف بهم على مظاهر ربوبية الله وعلمه وقدرته وحكمته، ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده.
هداية الآيات لهذه الآيات هداية، فدعونا ننظر كيف استنبطناها:قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: إنكار الشرك على أهله] هل يجب أم لا؟ إذا رأيت من يقول: يا رسول الله! مدد. يا إبراهيم! يا زكريا! يا فاطمة! هل تسكت أم تنكر؟ يجب أن تنكر، أما أنكر إبراهيم؟ أما قال لوالده: ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً )[الأنعام:74] بأبشع الإنكار، إنكار الشرك على أهله؟
إذا وجدت من يقول: والنبي، والكعبة، ورأس فلان، فهل تسكت؟ ألست على منهج إبراهيم؟ كلنا على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، أما قال له رجل: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فقال: قل: ما شاء الله وحده )؟
إذاً: هذه الآية فيها هدايات، منها: [إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب إلى المرء]، فإبراهيم هل أنكر على والده أم لا؟ لا تقل: هذا أبي فأنا لا أزعجه، أو هذه أمي لا نغضبها، إذا رأيت من يشرك بربك غيره يجب أن تنكر عليه، وتصبر لذلك، لكن ليس بالهراوة والسب والشتم، فهل إبراهيم رفع العصا على والده؟ هل قال: يا مجنون يا أحمق يا كذا؟ ما قال ذلك أبداً، ولكن بالمنطق السليم: ( إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )[الأنعام:74].
[ثانياً: فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام:75]، فمن وصل به إلى هذه المستوى؟ إنه الله عز وجل، فإذا أراد الله لك ذلك أخذ بيدك، وإذا بك تتنقل في الكون وتشاهد آيات الله، وتصبح أكثر الناس إيماناً وأكثرهم يقيناً.
[ثالثاً: مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، فاليقين أعظم من الإيمان، لن يكون يقين إلا بعد أن يوجد إيمان، فإذا قوي الإيمان انتقل إلى اليقين، تصبح كأنك ترى الله عز وجل، [مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات].
فلهذا قال العلماء: عندنا كتابان: أولهما: كتاب الله، فإذا قرأت وتدبرت منه الآيات لا تلبث حتى تصبح موقناً أعظم يقين؛ لأنه كلام الله تعالى، وكلامه حكم وعلوم ومعارف، وهكذا تتدرج في الآيات آية بعد آية وإيمانك يرتفع، حتى تصل إلى اليقين، فتقول: بالله الذي لا إله غيره إن هذا لكلام الله، وإنه لا إله إلا الله، وهكذا تبلغ درجة اليقين.
ثانياً: كتاب الكون، تخرج فقط من بيتك فتنظر إلى السماء: من رفعها؟ هذه الكواكب من نثرها فيها، من أضاءها، هذا الكوكب النهاري الشمس من سخره؟ هذا الكوكب الليلي من أوجده؟ وتنظر إلى الأرض: هذه الجبال من أرساها؟ من جمع غبراتها وذراتها؟ وتنظر إلى نفسك أنت: ما أنت؟ كيف تسمع؟ كيف تبصر؟ وحينها تقول: يا إلهي آمنت بالله، فيصبح إيمانك يقيناً.
قال: [ثالثاً: مطلب اليقين]، ينبغي أن نطلب اليقين ليل نهار، [وأنه من أشرف المطالب وأعزها]، ليس كطلب المال والدنيا، [ويتم] ويحصل عليه العبد [بالتفكر والنظر في الآيات].
ومن الآيات العجيبة أني كل يوم مندهش حين نخرج من المسجد فنجد هذا الخليط من الناس، شرقي وغربي وعربي وعجمي، وألوان، ما تجد اثنين بلون واحد، قف الآن في الحلقة وانظر فلن تجد اثنين شكلهما واحد لا يميز بينهما؟ بل البشرية كلها في صعيد واحد لن تجد فيها اثنين لا يفرق بينهما، أي علم أعظم من هذا؟ أية قدرة أجل من هذ؟ أية حكمة أعظم من هذه الحكمة؟ كيف يعبد مع الله غيره، قولوا: آمنا بالله، لكن العميان ما ينظرون حتى إلى أنفسهم، يأكل ويشرب ولا يسأل.
قال: [رابعاً: الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا )[الأنعام:76] ( رَأَى الْقَمَرَ )[الأنعام:77] ( رَأَى الشَّمْسَ )[الأنعام:78]، استدل بالحدوث على وجود المحدث، واستدل بالوجود على وجود الذي أوجد، ألا وهو الصانع الحكيم الله عز وجل.
[خامساً: سنة التدرج في التربية والتعليم]، وهذه السنة فرطنا فيها، لا بد من التدرج درجة درجة حتى تصل إلى القمة، ليس في يوم واحد تعلم العلوم كلها.
[سادساً: وجوب البراءة من الشرك وأهله]، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[الأنعام:78]، تبرأ منهم أم لا؟ وهذا يجب علينا، ولو كان المشركون آباءنا وأمهاتنا، فكيف نقر الكفار والمشركين على الشرك ونرضى به ونسكت؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:45 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (383)
تفسير سورة الأنعام (16)


لما أقام إبراهيم عليه السلام الدليل على بطلان ما يفعله قومه من عبادة غير الله، وتبرأ منهم ومن شركهم، قام قومه يحاجونه في ذلك، فأخبرهم أنه بعد أن هداه الله لن يضره ما يطرحون أمامه من الشبهات، ولا ما يخوفونه به من غضب آلهتهم وتسلطها عليه؛ لأنها أصنام جامدة، وهي أعجز وأحقر من أن تملك لنفسها ضراً أو نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لأحد من الناس، وبين لهم أهل الحق والإيمان أولى بالأمن والاطمئنان من أهل الزيغ والبهتان.
تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، والآيات التي سنتدارسها -إن شاء الله- نسمع تلاوتها مرتلة مجودة من أحد الأبناء فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:80-83].
معاشر المستمعين والمستمعات، من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، من هو هذا الذي يخبر تعالى أن قومه حاجوه؟ إنه إبراهيم، الأب الرحيم، تذكرون بالأمس كيف كان يستدرجهم إلى التوحيد، ينتقل بهم من حالة إلى أخرى، حتى يستقر الأمر أنه لا إله إلا الله، وذلك مما علمه الله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83].
يقول تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ )[الأنعام:80]، حاجوه: بمعنى: جادلوه وخاصموه بالحجج، من أجل أن يحقوا الباطل ويبطلوا الحق، وهم في ذلك مخطئون وهالكون، قال: ( أَتُحَاجُّونِي )[الأنعام:80]، وفي قراءة: (أتحاجوني)، ويصح إدغام النون في النون، وهي قراءة سبعية، ( أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ )[الأنعام:80] أي: أتجادلونني وتخاصمونني بالحجج الواهية الباطلة في ربي، كيف يمكن هذا؟ ( وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80]، وعرفت الطريق إليه، وعرفت ما عنده وما لديه، وعرفته بأسمائه وصفاته، وعرفت أنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، فما ذا تريدون مني؟ لو جادلتموني في شيء غير هذا فإنه ممكن، أما أن تجادلوني في ربي وقد هدان فهذا الجدال باطل، ولا خير فيه، وأنتم مبطلون ولا خير فيكم.
معنى قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً)
ثم قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، لا شك أنهم خوفوه، وقالوا: إن لم تقبل ما ندعوك إليه، أو إن لم تعرض عن النقد والطعن فآلهتنا سوف تصيبك بالخبال، وتصبح مجنوناً بين الناس، فقال لهم: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80]، أي: بالله ربي الذي هداني وعرفته، وهداني إلى صراطه المستقيم، اللهم ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، هذه لطيفة من لطائف الكلام، لما قال: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80] وكان من الممكن أن يعثر في حجر ويسيل دمه، فيقولوا: انظروا فالآلهة غضبت، ومن الممكن أن يصاب بمرض عارض فيقولوا: انظر إلى الآلهة ماذا فعلت به. فمن هنا قال: ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، إذا شاء ربي أن أصاب بمرض أو بأذى فله ذلك، أما كون آلهتكم تضرني وتؤذيني فهذا لن يكون؛ لأنها أحجار وتماثيل تمثل كواكب في السماء، وليست بآلهة، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا أخافها، لكن إذا شاء الله ربي فقد ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].ومن اللطائف من هذه المواقف -لأن البشرية هي هي- أنه مرض أحد الإخوان في المدينة بعد أن جاء من الديار المغربية، فقال أحدهم -وهو طالب علم-: ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقول بالمولد ولا بغيره!
فلما خوفوه بآلهتهم قال لهم: كيف أخاف ما أشركتم به -وهو آلهتكم- وأنتم لا تخافون من الله الذي أشركتم به، اللهم إلا أن يشاء ربي شيئاً فإنه يقع، ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80].
معنى قوله تعالى: (أفلا تتذكرون)
ثم قال لهم: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80]، لو تذكرتم لذكرتم، لو تأملتم في آلهتكم: هل خلقت! رزقت! أماتت! أحيت! أنتم الذين صنعتموها، ونصبتموها هنا وهناك، وقدستموها وطهرتموها، وقلتم ما قلتم، كيف تكون هذه آلهة؟ والذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق كل المخلوقات من الشمس والقمر والكواكب وكل البشر، هذا لا تعبدونه، ولا تعرفونه، فلو تذكرتم لذكرتم.لكنهم لا يريدون أن يتفكروا حتى يهتدوا ويعرفوا، فلامهم وقبح مسلكهم بهذا الاستفهام: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80].
تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً...)
ثم قال لهم: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا )[الأنعام:81]، أي الموقفين أسلم: موقفي أو موقفكم؟ ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ )[الأنعام:81] من هذه الأصنام والتماثيل، ( وَلا تَخَافُونَ )[الأنعام:81] أنتم ( أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ )[الأنعام:81] جل جلاله وعظم سلطانه ما لم ينزل به عليكم حجة ولا برهاناً ولا أدنى خبر عن الله عز وجل يأذن لكم بعبادة هذه الأصنام؟لو أن الله أنزل عليكم كلامه وأوحى إلى أحدكم وقال: اعبدوا هذه؛ لكان لكم حجة، أما أنا فقد خلقني لعبادته، وأوحى إلي ونبأني وأرسلني إليكم رسولاً، وأنا أعرفه أنه ربي لا رب لي غيره، وإلهي لا إله سواه، فكيف -إذاً- لا أعبده؟ وتريدون مني أن أترك عبادته وأعبد هذه الأحجار والتماثيل!
يقول: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، إذا كان لكم علم ومعرفة وبصيرة فهل أنا أو أنتم أحق بالأمن والسلامة والنجاة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة؟ هل الذي يعبد الله وحده، أم الذي يعبد أصناماً وأحجاراً وتماثيل؟
والجواب معلوم بالضرورة: الذي يعبد الله وحده أحق وأجدر بأن يؤمنه الله ويحفظه، وأما الذي يعبد غير الله فكيف ينجيه ذاك المعبود من أي مكروه وهو صنم وحجر، أو كوكب معلق في السماء؟! ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[الأنعام:81]، لو كانوا يعلمون لقالوا: أنت، إذاً: آمنوا معنا، لماذا أنتم منحازون هناك، لكنهم لا يعلمون، الشياطين أفسدت قلوبهم، وزينت لهم الباطل فعموا وصموا. ‏

يتبع


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:45 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
ذكر خبر تحطيم إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه
وهناك موقف آخر لإبراهيم من سورة الأنبياء، كان لهم عيد، كأعياد النصارى في الربيع، ونحن ورثنا أيضاً عنهم الميلاد والمواليد، كان لهم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء وإلى أماكن، وإذا أرادوا أن يخرجوا وضعوا أنواعاً من الطعام بين يدي الآلهة في يوم العيد هذا لتباركه، فيأكلون فينتفعون به بظنهم، فمروا جماعات جماعات على إبراهيم فقالوا: هيا يا إبراهيم. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )[الصافات:88-89]، مريض ما أستطيع أن أخرج معكم، فالمعذرة، ونظر في النجوم ليوهمهم أنه يستمد معرفته من الكواكب التي يعبدونها، فلما خرجوا وبقي في المدينة وحده جاء بفأس كبيرة، وفلق رءوس تلك الآلهة كلها وكسرها وهشمها، وعلق الفأس في عنق الإله الأكبر، المعبود الكبير.وجاء القوم مسرعين ليأخذوا الطعام الذي باركته الآلهة، فوجدوها متناثرة هنا وهناك، قالوا: ( مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:59]، والشاهد أنه عندما جيء به فقالوا: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ )[الأنبياء:62-63]، يشير إلى أصبعه يوهمهم أنه الصنم، فحكموا بإعدامه، وهذه الحادثة كانت بعد حادثة اليوم بفترة، والشاهد أن هذا في بداية دعوة إبراهيم عليه السلام.
تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)
ذكر الخبر النبوي في صفات مستحقي الأمن يوم القيامة
قال تعالى: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:81-82]، هنا ذكر أهل الحديث ما يلي: فقد ذكر ابن كثير عن ابن مردويه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من أعطي فشكر، ومن منع فصبر، ومن ظلم فغفر، ومن أذنب فاستغفر )، وسكت ولم يجب عن هذا السؤال، فقال الأصحاب: ما له يا رسول الله، فقال: ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]).أقول هذا لأن فيه دعوة إلى الصبر والشكر والتوبة والتجاوز والتسامح، فهذا الحديث سنده مقبول، ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ )[الأنعام:82]، نحن نريد أن يكون لنا هذا الأمن، هل تريدون هذا الأمن بحق؟ قال: ( من أعطي فشكر )، أعطاه الله فشكر نعمته، أعطاه فلان فشكر له، هذه خلقه، ( ومنع فصبر ) ، ما شكى وبكى، ( وأذنب فاستغفر)، على الفور استغفر، ( وظلم فغفر ) لمن ظلمه، من حقق هذه فله الأمن، يفوز بالأمن، ما الأمن هذا؟ النجاة من النار ودخول الجنة، هل هناك أمن أكثر من هذا؟ ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82].
تفسير الظلم المطلوب نفيه عن الإيمان لتحصيل الأمن
وفي الصحيح أنه ( لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحابه وتألموا، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ليس الأمر كما ظننتم أو فهمتم، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لابنه: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13] )، فالأصحاب قالوا: أينا لم يظلم نفسه؛ لأن الآية الكريمة تقول: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، وما منا أحد إلا وقد ظلم نفسه، ظلم أخاه، ظلم حيواناً من الحيوانات، الظلم يقع، ولا ينجو منه إلا المعصومون، إذاً: فلا أمن ولا نجاة، فخافوا وشق عليهم الأمر واستصعبوه، فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى كلمة لقمان الواردة في سورته: ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )[لقمان:13]، لماذا يا أبتاه، ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )[لقمان:13].وقد بينا للمؤمنين والمؤمنات وجه الظلم، فأي ظلم أعظم من أن تظلم ربك فتأخذ حقه وتعطيه لغيره؟ الظلم أن تأخذ مال فلان أم لا؟ والله خلقك لتعبده، ووهبك قوتك وإرادتك وسمعك وبصرك وعقلك، وإذا بك تعبد صنماً أو تعبد إنساناً، أو تعبد ملكاً وتترك ربك الذي خلقك! أي ظلم أعظم من هذا؟ والله لا ظلم أعظم من الشرك، الظلم أن تأخذ من فلان حقه وتعطيه لفلان، هذا ظلم، فكيف بالذي يأخذ حقوق الله كلها -كالعبادات- ويعطيها لغيره، فهو أفظع ظلم وأقبحه.
وهكذا يقول تعالى في الذين لهم الأمن بالحقيقة: ( الَّذِينَ آمَنُوا )[الأنعام:82] إيماناً حقيقياً صدقوا فيه وعرفوه، ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82] لم يخلطوا إيمانهم بظلم ما من أنواع الظلم، والتنكير هنا للتعميم، ( أُوْلَئِكَ )[الأنعام:82]، الأعلون أو السامون، ( لَهُمُ الأَمْنُ )[الأنعام:82]، لا يخافون ولا يحزنون، فهم أولياء الله، آمنوا ثم ماذا؟ ( آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[البقرة:38].
تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء...)
وأخيراً: قال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا )[الأنعام:83] هذه الحجة العظيمة التي سمعتموها ( آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ )[الأنعام:83] أعطيناها إبراهيم، ( عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83]، ثم قال تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )[يوسف:76]، وفي سورة يوسف: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83].وهكذا ما من عبد يتفرغ لدعوة الله، ويكون فيها على علم، ويدعو بالموعظة والحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن إلا أعطاه الله الحجة والبرهان، ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ )[الأنعام:83]، ما من عبد صالح يدعو إلى الله على بصيرة إلا ويعلمه ويؤتيه من الحجج ما يغلب خصمه إلى يوم القيامة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
هذه الآيات نسمعكم شرحها في الكتاب زيادة في تحصيل المعاني التي نريدها.يقول المؤلف: [لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى، وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك، فقال منكراً عليهم ذلك: ( أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80]؟ أي: كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة، وهي لم تخلق شيئاً، ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني -أي: ربي- إلى معرفته وتوحيده، وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ )[الأنعام:80].
ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها، وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه، فرد ذلك عليهم قائلاً: ( وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ )[الأنعام:80] من آلهة أن تصيبني بأذى من الأذى، ( إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا )[الأنعام:80]، فإنه يكون قطعاً؛ فقد ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )[الأنعام:80]، ثم وبخهم قائلاً: ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )[الأنعام:80]، فتذكروا أن ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلاً: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ )[الأنعام:81] وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر، لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا اله إلا هو، المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى.
ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعاً لها منهم: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ )[الأنعام:81]من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف، وهو: من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى وجمادات لا تسمع ولا تبصر.
وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )[الأنعام:82]، أي: ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]]، إبراهيم طرح السؤال والله أجاب، [أي: الأمن في الدنيا وفي الآخرة، ( وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[الأنعام:82]، أي: في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وهو الإسلام الصحيح.
ثم قال تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ )[الأنعام:83]، إشارة إلى ما سبق من محاجة إبراهيم قومه، ودحض باطلهم، وإقامة الحجة عليهم.
وقوله تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ )[الأنعام:83]، تقرير لما فضَّل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين.
ثم علل تعالى لذلك بقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83]، حكيم في تدبيره، عليم بخلقه، يؤتي الحكمة من يشاء وهو العليم الحكيم].
هداية الآيات
إلى هنا انتهى تفسير الآيات، وإليكم بيان هداياتها:[أولاً: مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم لعلهم يهتدون]، من أين أخذنا جواز الجدال والخصومة مع المشركين والمبطلين؟ من هذه الآية.
[ثانياً: بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان]، والذين يعبدون الأصنام والأحجار أقرب من هذا الذي يأتي إلى قبر ميت ويناديه: يا فلان.. يا فلان.. يا فلان! أنا مصاب بكذا، وفي كذا، وادع الله لي بكذا وكذا، أهذا له عقل حين يدعو ميتاً؟ هل الميت يسمعه؟ وإن فرضنا أنه سمع هل يمد يده لينقذه؟ فلم -إذاً- تدعو من لا يستجيب لك، أين عقلك؟
لو مررت برجل واقف أمام خربة من الديار وهو يصيح ويطلب ماذا تقول له؟ تقول: ما في البيت أحد، ما في هذه الخرابة ساكن، عليك بالبيت الفلاني انظر إلى الضوء فيه. فالذين يدعون غير الله كلهم على حد سواء، دعوا الأنبياء، أو الرسل، أو الملائكة، أو الجمادات والحيوانات.
[ثالثاً: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه]، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ )[الأنعام:81]، أقول: التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه، وهذا موجود، فكل المذنبين الذين يواصلون الذنوب ما خافوا، لو خافوا عاقبة الذنب لتابوا في يومهم أو ليلتهم.
[رابعاً: أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً]، أحق الناس بالأمن من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً، وإذا آمن عبد وأطاع واستقام واتقى فقد استحق الأمن.
[خامساً: تقرير معنى ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )[البقرة:257]].
هذه سنة الله في الناس، الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل أو الشك أو الارتياب إلى نور الحق والمعرفة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (384)
تفسير سورة الأنعام (17)

بعد كل ما تعرض له إبراهيم عليه السلام من قومه من التكذيب والإيذاء، وعدم ثنيه عن معتقده وتوحيده لربه رفع الله عز وجل شأنه، واصطفاه بالخلة والكرامة، ووهبه إسحاق عليه السلام، ومن بعد إسحاق يعقوب، وجعل من ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وغيرهم من الأنبياء، وكان منهم الملوك، ومنهم الربانيون الشهداء الصالحون، فكان صلى الله عليه وسلم بحق أبا الأنبياء.
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك لهم زجل وتسبيح، والآن مع هذه الآيات التي نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان المراد منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:84-87].
ذكر خبر إبراهيم وزوجه سارة مع ملك مصر
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )[الأنعام:84]، وقد تقدم السياق في إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )[الأنعام:83]، ثم قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ )[الأنعام:84] أعطيناه إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق -كما سبق أن علمنا- ولد لإبراهيم بعد تجاوز المائة في شيخوخته، وامرأته سارة عاقر، فوهبه إسحاق آية من آيات الله وكرامة من كراماته لأوليائه، وذلكم أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر تحت الضغط والتهديد والتعذيب، ووصل إلى الديار المصرية، شاء الله أن يعطي ملك مصر هاجر جارية لسارة امرأة إبراهيم، وكيف أعطاها؟ لما دخل إبراهيم مع سارة امرأته وهما غريبان لا يعرفهما أحد، وكانت سارة حسناء وجميلة، فشاهدها بعض خدم السلطان وأعوانه، فأخبروه أن هناك امرأة حسناء ولا تصلح إلا لك، هؤلاء يسميهم العرب القوادين، وأهل المدينة يسمونهم الجرارين، فالجرار لأنه يجر والقواد لأنه يقوده، فالقواد ألطف. فقال الملك: علي بها. فلما جاءوا ليأخذوها من زوجها إبراهيم قال لها: أي فلانة! إذا سألوك عني فلا تقولي: هو زوجي، قولي: أخي؛ فإنه لا يوجد على الأرض مؤمن ولا مؤمنة إلا أنا وأنت؛ فلهذا قولي: أخي. لأنها لو قالت: زوجي لقال: اقتلوه. أما أخوها فلا يضر.
وجيء بها وحُسِّنت حالها باللباس الحسن والطيب الذكي، وقدمت للسلطان، وجلس معها يتحدث إليها ويطلبها، لكنه كان كلما أراد أن يضع يده على كتفها أو على يدها يصاب بالشلل الفوري، والله الذي لا إله غيره! فيكف يده، ويقول: ادعي لي، فتدعو له، ثم يتحدث إليها ويطلبها، وحين يرغب في أن يضع يده عليها يصاب بالشلل، وهكذا ثلاث مرات! ثم صاح في رجاله: أخرجوا هذه، ما هي بآدمية! وأكرمها فأعطاها خادمة اسمها هاجر القبطية المصرية، وأعطاها بغلة.
ذكر خبر هجرة إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة
فأخذ إبراهيم سارة والخادمة لامرأته وذهب إلى فلسطين، وشاء الله أن تحمل هاجر حيث تسراها بدون عقد، والتسري مشروع، فأنجبت إسماعيل، فاستشاطت سارة غيظاً، وقالت: أنا امرأة إبراهيم لا يولد لي، وهذه جارية خادمة يولد لها؟! فما أطاقت أن تشاهد الطفل ولا أمه، فأمر الخليل بأن يخرج بهاجر وابنها إلى جبال فاران بالوادي الأمين، ومن عجيب ما أخبرنا به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن هاجر كانت تعفي بخمارها آثار رجليها وقدمي زوجها، حتى لا تعرف سارة أين ذهبا! وانتهى بها وطفلها إلى جبال مكة، وما كان بمكة أحد، وتسمى جبالها بجبال فاران، والقصة واردة في الكتاب والسنة واضحة، نذكر منها ما به العظة.وتركها مع طفلها ومعها دلاوة فيها ماء وجراب فيه بعض التمر، وقفل راجعاً، فلما أدبر واتجه نحو الشام صاحت به هاجر تقول له: آلله أمرك بهذا؟ إلى من تتركنا يا إبراهيم؟! آلله أمرك بهذا؟ ثلاث مرات، فقال: نعم، قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا! من يأخذ بهذا؟ من يفهمه؟! ما دام ربي قد أمرني ألا أكذب ولا أسرق ولا أفجر ولا أطفف ولا فوالله لن يضيعني؟ فلم نسرق؟ لم نكذب؟ لم نتعاطى الربا والقوت بيد ربي؟ عجب حال هذه المرأة! قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً: فاذهب فإنه لن يضيعنا!
وتتجلى الحقيقة، حيث نفد الطعام ونفد الماء، وإذا بالطفل يتلوى من شدة العطش، وهي تسعى ترنو يميناً وشمالاً لعلها تسمع صوتاً أو ترى شخصاً، وإذا بها ترى أقرب جبل إليها وهو الصفا، فتأتيه فتعلو فوقه وتنظر يميناً وشمالاً علها ترى أحداً، فما رأت فهبطت، ولما وصلت إلى الوادي أسرعت، وخبت فيه خبباً حتى تجاوزته وارتفعت، وانتهت إلى المروة فارتفعت فوقها، وهكذا سبعة أشواط، ثم سمعت النداء، وإذا بجبريل واقف عند الطفل، فلما وصلت إليه ضرب الأرض بكعب رجله فصارت زمزم وذهب جبريل، فأخذت تحوضه وتغرف من الماء في سقائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت عيناً معيناً ) هذه هاجر.
الامتحان بذبح إسماعيل والبشارة بإسحاق ومن بعده يعقوب
وامتحن الله إبراهيم محنة أخرى، أوحى إليه أن يذبح إسماعيل، يذبح ولده، وما كان منه إلا أن جاء إلى مكة وأمر أمه بأن تهيئه للذبح، فغسلته ونظفته وأخذه إلى منى، والمدية في يده، وطرحه على الأرض وتله للجبين، وإذا بجبريل قد جاء بكبش أملح يقول له: دع هذا وخذ هذا، قال تعالى: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )[الصافات:107].وقد امتثل أمر الله وما تردد وقال: كيف أذبح طفلي؟! أو ما حاجة ربي لهذا الولد؟ كما قال له إبليس في منى.
قال تعالى: ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )[هود:71]، هذه البشرى مقابل الامتحان والابتلاء، هذا إسحاق بشرى؛ لأن إبراهيم شيخ كبير وامرأته عاقر لا تلد، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )[الأنعام:84] يعقوب هو إسرائيل وهو ابن إسحاق، الوالد والولد والحفيد، إبراهيم الوالد، والولد إسحاق، والحفيد يعقوب الملقب بإسرائيل، هذه نعمة الله أم لا؟ فكيف يعبد غير الله؟!
قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا )[الأنعام:84]، كل واحد من هؤلاء -الجد والأب والابن- هديناه إلى طريقنا حيث محابنا يأتونها، ومكارهنا يتركونها ويتخلون عنها، هذا إفضال الله وإنعامه، والحديث عن يعقوب والد يوسف الصديق ابن الصديق، والنكبة التي أصابته بأخذ طفله من بين يديه يوسف حديث ذو شجون، حيث بكى حتى ابيضت عيناه وعمي! أحداث جسام، ولكن صبروا ففازوا، ونحن ما يصيبنا شيء مما أصابهم ولا نصبر، ونجاهر بالباطل والشر والعصيان والعياذ بالله تعالى.
معنى قوله تعالى: (ونوحاً هدينا من قبل)
قال تعالى: ( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )[الأنعام:84] أيضاً قبل إبراهيم، إبراهيم من ذرية نوح، ونوح عليه السلام أول رسول حارب الشرك والمشركين والوثنية وأهلها، وعاش يدعو إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجب له سوى نيف وثمانين نسمة بين رجل وامرأة! وكانت كارثة الطوفان، فأرسل الله تعالى عليهم السماء تسيل بالمياه، والأرض تفور بالمياه: ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ )[القمر:10]، فأجابه الله تعالى، قال: ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ )[القمر:11-12]، وركب السفينة ومن معه وجرت السفينة على الماء حتى هلك العالم بأسره.(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )[الأنعام:84]، نوح هديناه، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ )[الأنعام:84]، يصح أن تقول: من ذرية إبراهيم، ويصح أن تقول: من ذرية نوح، ولكن كونه نوحاً أقرب إلى السياق، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ )[الأنعام:84] والكل من ذرية من إبراهيم أيضاً، وهل إبراهيم ليس من ذرية نوح؟ وهل إسحاق ليس من ذرية نوح؟ الكل من ذريته.
الإنعام على إبراهيم عليه السلام بكون داود وسليمان من ذريته
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ )[الأنعام:84]، وهذان ملكان غنيان كريمان من أكثر الخلق عبادة، وحسبكم ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في داود: ( أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) ولا يعيقه ذلك أو يقعد به عن الجهاد! ( وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) السدس الأخير.

يتبع


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
ذكر خبر داود عليه السلام في قتله جالوت وتوليه الملك
وماذا تعرفون عن داود؟ داود له بداية، لما فسق بنو إسرائيل وفجروا -كما فسقنا وفجرنا- ولبست نساؤهم الكعب الطويل سلط الله عليهم البابليين، فاجتاحوا ديارهم، وأسروا رجالهم واستعبدوهم ومزقوا البلاد، وفعلوا الأعاجيب بهم.فجاء شيوخ بني إسرائيل بعد فترة من الزمان إلى أحد أنبيائهم -يقال له: حزقيل- فقالوا: عين لنا ملكاً علينا نقاتل تحت رايته.
والآن بعض الجماعات في بلاد العروبة والإسلام ما يعرفون هذا وما سمعوا به، ونحن نقول آلاف المرات: يا أيتها الجماعات الغاضبة -في نظرها- لله، وتريد أن تقيم الدولة الإسلامية! قتالكم بهذه الصورة وجهادكم باطل باطل، والعاقبة السوأى عائدة عليكم، بايعوا إماماً تبايعه أمتكم، وحينئذ التفوا حوله واعبدوا ربكم بما شرع لكم، حتى إذا اكتملتم وأصبحتم أهلاً للجهاد خاض بكم معارك الجهاد.
أما الاغتيالات والعمل في الظلام ثم يقال: نحن نقاتل ونجاهد؛ فهذا منكر وباطل وعاقبته أسوأ ما تكون!
بنو إسرائيل وهم جهال مضطهدون جاءوا إلى نبيهم وقالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل وراءه، لماذا ما قالوا: نقاتل نحن؟ أما فهمتم؟ ( قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[البقرة:246].
أزيد فأقول: لو أن إخواننا الفلسطينيين- وهم أولى بهذا- اجتمعوا رجالاً ونساء وأطفالاً والتفوا حول إمام وبايعوه وما اختلفوا عليه، ثم تدربوا على العبادة والطاعة والاستقامة حتى كملوا في ظرف سنوات، ثم قاتلوا اليهود؛ فوالله ليخرجنهم من ديارهم.
أما الاغتيالات والتحمسات والجماعات فكل هذا باطل باطل باطل، ولن ينتج إلا الدمار والخراب، ومع الأسف أنه يوجد علماء يقولون لهم: هذا يجوز! فما النتيجة؟ دلونا عليها! هذا هو عمى البصائر.
عجيبة هذه القصة، حيث قالوا: اجعل لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، لم لا تقاتلون بدون ملك؟ الجواب: هذه ضرورة؛ لأن كلمتنا تختلف، وسيوفنا تتضارب ولا بد من وحدة.
فعين لهم ملكاً فقالوا: هذا فقير ما عنده كذا ولا كذا، ما هو بشريف، اختاروا أن يكون من صفاته كذا وكذا، ثم تمت الموافقة، وخرج بهم بأربعين ألف مقاتل، ولما كانوا كأمثالنا مزعزعين مضعضعين اختبرهم بأمر الله، قال: غداً نمر بواد بنهر الأردن، ولم يأذن لكم الله أن تشربوا منه، إلا من اغترف غرفة بيده ليطفئ لهب العطش فقط، وما إن وصلوا إلى الماء حتى أكبوا عليه كالبهائم يشربون! وما صبروا؛ لأنهم ما عندهم إرادات ولا علم ولا بصيرة، ولم يبق منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما شربوا، إلا من اغترف الغرفة المأذون فيها.
ورجع أولئك الهابطون مهزومين، والتقى جيش طالوت قائد بني إسرائيل وملكهم بالعدو المقابل جالوت ، وبدأ القتال بالمبارزة كما هي الطريقة القديمة في البشرية، تلتقي الصفوف ثم يخرج واحد يقول: من يقاتل؟ فيخرج الثاني حتى تشتعل حرارة الحرب ويندفع بعضهم على بعض، هذه الآن انتهت؛ لأن القتال خداع وفي الغيبة، فلما خرج جالوت كالجبل نادى: من يبارز؟ من يقاتل؟ فما استطاع أحد من بني إسرائيل أن يتقدم أمام هذا الطاغية، فتقدم داود وهو شاب صغير عليه السلام، وقال: بسم الله ورماه بحجر واحد فانهد كما ينهد البناء وسقط، من ثم عين خليفة لطالوت ، وبعد وفاته تولى الملك، وأوحي إليه ونبئ، وأصبح رسول الله وملك المؤمنين، وأنجب ولداً ألا وهو سليمان. ذكر بعض قصص داود وسليمان عليهما السلام
ولهما قصص، منها: أن سليمان كان يلعب أمام المحكمة وهو فتى، ووالده داخل المحكمة، فجاءت امرأتان تشتكيان، فقالت إحداهما: هذه أخذت ولدي. فداود عليه السلام ما وفق للحكم، فخرجتا من عنده إحداهما تبكي والأخرى تقول: هذا ولدي، فقال سليمان: ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقد حكمنا بأن نقتل الولد، فقالت أمه: لا تفعل، هو ابنها! لا تذبحه يا نبي الله هو لها، فعرف أن هذه أمه فأعطاه إياها، وأدب الأخرى.وكذلك قصة الغنم التي قال الله تعالى فيها: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ )[الأنبياء:79] قبل أن ينبأن أ
، (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )[الأنبياء:79].
وسليمان عليه السلام لما ملك وحكم كان في حياته أحداث كثيرة أيضاً، منها: أنه نذر لله نذراً فقال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن ولداً يقاتل في سبيل الله.
وشاء الله ألا تحمل واحدة منهن، إلا واحدة ولدت نصف ولد فقط بعد تسعة أشهر، فجيء فقيل له: هذا هو الولد، وهو ملقى على سرير لا يتحرك، فعرف سليمان وندم؛ لأنه ما قال: إن شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون )، لو قال: تلد كل واحدة كذا إن شاء الله ما كان يقع هذا، فهذه خذوها، لا تقل لشيء: سأفعل كذا حتى تقول: إن شاء الله، وإلا فإنك تخيب وتندم.
ذكر بعض خبر أيوب عليه السلام وبيان المنة الإلهية على إبراهيم بدخول يوسف وموسى وهارون في جملة ذريته
قال تعالى: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ )[الأنعام:84] أيوب عليه السلام أيضاً كان ملكاً؛ لأن هؤلاء كانوا ملوكاً وحكاماً صالحين، وأيوب وقع أيضاً في واقعة، حيث قال تعالى عنه: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ )[الأنبياء:83-84]، لكن ما سبب هذا الضر؟لقد وقع له كما وقع لغيره من الامتحانات، فامتحنه الله عز وجل فصبر، ثماني عشرة سنة وهو على الأرض، وكان قد نذر نذراً إن شفاه الله ليضربن امرأته مائة ضربة، فأفتاه الله عز وجل بأن يجمع مائة عود خفيف ويضربها بها ضربة واحدة، الله أفتى أيوب كما يفتي العالم الناس: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )[ص:44].
قال تعالى: ( وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )[الأنعام:84] هؤلاء كلهم حكموا وسادوا وأحسنوا، كانت ميزتهم الحسن، أحسنوا في عبادتهم لربهم، وأحسنوا في قضائهم وحكمهم، وأحسنوا إلى الناس أجمعين فلم يسيئوا إلى أحد، فلهذا قال تعالى: كما جزيناهم نجزي المحسنين.
ذكر بعض خبر زكريا ويحيى عليهما السلام
ثم قال تعالى: ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )[الأنعام:85]، وهؤلاء ما كان فيهم ملك ولا حاكم، ولكن كانوا ربانيين شهداء صالحين، فقال تعالى فيهم: ( كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )[الأنعام:85]، وزكريا أبو يحيى ويحيى ولده، وحادثتهما في القرآن أن زكريا عليه السلام كان قد بلغ الكبر وكانت امرأته عاقراً، وتاقا للولد واشتاقا له، وشاهد حنة والدة مريم كيف ولدت مريم، فلما رآها ولدت مريم ونمت وكبرت، وولدت مريم عيسى، لما شاهد هذه المعجزة قال: ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى )[آل عمران:38-39] مع كبر سنه وعقم امرأته، وبشره الله بيحيى عليه السلام، وزكريا ويحيى قتلهما بنو إسرائيل، فهما شهيدان.وعيسى بن مريم كذلك عزموا على قتله، وكان عابداً لله صالحاً، عزموا على قتله ولكن الله أنقذه ورفعه إليه.
(وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )[الأنعام:86]،كل هؤلاء ما كان فيهم ملك ولا سلطان ولا كانت لهم دولة، بخلاف الطائفة الأولى؛ ولهذا قال: ( وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )[الأنعام:86] كل واحد منهم أفضل الناس في زمانهم ذلك.
تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)
ثم قال تعالى: ( وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ )[الأنعام:87] أي: وأوجدنا من آبائهم وذرياتهم أناساً صالحين ربانيين علماء أنبياء من الآباء والذرية، ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
)[الأنعام:87] اصطفيناهم واخترناهم، ( وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[الأنعام:87] ألا وهو دين الله الذي هو الإسلام.هنا -معاشر المستمعين- ثمانية عشر نبياً ورسولاً في هذه الآيات، هم: إبراهيم، إسحاق، يعقوب، نوح، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط، ثمانية عشر، وأهل العلم يقولون: خمسة وعشرون نبياً تجب معرفتهم على كل مؤمن ومؤمنة. فالرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، ما نستطيع أن نحفظهم، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، لكن هؤلاء الذين ذكروا في القرآن يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفاهم، ثمانية عشر في هذه الآية، وسبعة هم: هود وصالح شعيب وإدريس وذو الكفل وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكروهم في ثلاثة أبيات من الشعر:
حتم على كل ذي التكليف معرفة في تلـــــــك حجتنــــا منهـــم ثمانيــــــــــة
إدريس هــود شعيــب صـالح وكــــذا أنبياء على التفصيـــل قـــــــد علمــوا
من بعد عشر ويبقى سبعة وهـمو ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا إفضال الله، هذا إنعام الله ينعم على من يشاء، ويتفضل على من يشاء، ولكن الذين يشاء التفضل عليهم والإنعام هم الذين يقرعون بابه، ويطرحون بين يديه، ويبكون ويسألون ويتضرعون، أما المستنكفون المستكبرون المستغنون عن الله فهيهات هيهات أن ينعم الله عليهم أو يكرمهم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
والآن مع هداية هذه الآيات:
[ أولاً: سعة فضل الله ]، دلت الآيات على سعة فضل الله، بدليل ما يعطي وما يهب لمن يشاء من عباده.

[ ثانياَ: خير ما يعطى المرء في هذه الحياة ] الدنيا، هل الولد؟ امرأة؟ وظيفة؟ مال؟ قال: [خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم ]، ولا تقل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )، ذاك للمؤمنين، فخير ما يعطاه الآدمي أو الجني هو أن يهديه الله تعالى إلى صراط مستقيم، ألا وهو الإسلام، فيسلم قلبه ووجهه لله ويعبد الله تعالى بما شرع من أنواع العبادات؛ حتى يتوفاه الله مؤمناً صالحاً، ويدخله في الصالحين.
[ثالثاً: فضيلة كل من الإحسان والصلاح ]، حيث وصف تعالى جماعة من الأنبياء بالصالحين وأخرى بالمحسنين.
إذاً: يدل هذا على أفضلية كل من الإحسان والصلاح.
الإحسان ما هو؟ أولاً: أن تعبد الله كأنك تراه، ومعنى هذا: أن عباداتك كلها صالحة، ما من عبادة يؤديها العبد وكأنه ينظر إلى ربه إلا أتمها وأحسنها وأداها على الوجه المطلوب، هذا الإحسان أولاً.
ثانياً: أن يحسن إلى الخلق فلا يسيء إلى أحد منهم، وهذا هو الكمال، يحسن إلى الخلق فيبدأ بنفسه وبأقاربه ثم البشرية كلها، إما أن يعطيهم الخير أو يكف عنهم الأذى والشر.
والصلاح ما هو؟ من هو الصالح؟ الصالح هو الذي يؤدي حقوق الله وافية، ما ينقص منها شيئاً، ويؤدي حقوق العباد كذلك، هذا عبد صالح، هذا رجل صالح، ما بخس الله حقه ولا بخس أي إنسان حقه الذي وجب له؛ ولهذا فهاتان الفرقتان في درجة عالية.
[ رابعاً: لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح ]، لا منافاة بين الملك والنبوة، يكون نبياً ويكون ملكاً، كيف عرفنا هذا؟ أما كان داود ملكاً؟ وسليمان أما كان ملكاَ؟ وهما نبيان ورسولان، فما هناك منافاة أبداً بين الملك والنبوة، ولا بين الإمارة والنبوة.
[خامساً: فضيلة الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ]، من أين أخذنا هذا؟ من شأن إسماعيل عليه السلام، فهل كان ملكاً؟ هل كان أميراً؟ كان يعيش في مكة، يصيد ويأكل الذبيحة أم لا؟ كذلك اليسع ويونس ولوط كلهم كانوا فقراء، لكن كانوا زهاداً في الدنيا مقبلين على الآخرة، والله تعالى ذكر الصالحين وذكر المحسنين، وذكر هؤلاء وأثنى عليهم فقال: ( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )[الجاثية:16] لزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة.
والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:49 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (385)
تفسير سورة الأنعام (18)



ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم الكثير من الأنبياء والرسل، ومنهم أولو العزم صلوات الله وسلامه عليهم، وقص على نبيه صلى الله عليه وسلم قصصهم وحالهم مع أقوامهم ودعوتهم لهم وصبرهم عليهم، ثم أمره تعالى بالاقتداء بهم وبهداهم، رغم أنه صلى الله عليه وسلم هو أفضلهم وأكملهم، ولكنه في حاجة إلى من يعضده ويشد من أزره وهو يعاني الآلام والكروب في مكة وما حولها، فجاء ذكرهم صلوات الله عليهم ليصبره ويثبته لإكمال طريق الدعوة وتبليغ الدين.
تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث التي نسمعها مجودة مرتلة من أحد التلامذة، ثم نشرحها إن شاء الله ونبين مراد الله منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:88-90].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، تقدم في السياق أن ذكر تعالى لنا ثمانية عشر نبياً ورسولاً، هو الذي اصطفاهم واجتباهم وأرسلهم هداة للعالمين.
النبوة اصطفاء والهداية مطلب
إذاً: قال تعالى: ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، إذا كان الهدى هو النبوة والوحي والرسالة فهذا لا يطلب ولا يسأل، وإنما الله يختار من هو أهل لأن يحمل رسالته فيصطفيه وينبئه ويرسله، وما عدا النبوة والرسالة ممكن، فمن قرع باب الله تعالى سائلاً ضارعاً فالله لا يرده، أي: من طلب في صدق الهداية إلى الصراط المستقيم وجد في الطلب فلك أن تحلف بالله أن الله لا يخذله، لا بد أن يهديه وأن يوفقه، ويهيئ له الأسباب حتى يبلغ مراده مما طلب من الله وهو هدايته؛ ليمشي طول حياته على منهج الحق، يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله، وينهض بما أوجب الله من الأقوال والأفعال، ويتجنب ويترك ما نهى الله عنه وحرمه من الأقوال والأعمال.(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )[الأنعام:88]، فإن كان المراد النبوة والوحي فهذا لا يطلب، لو سألت الله ألف سنة أن ينبئك فلن تنبأ، وليس من حقك هذا، فالرسالة والوحي والاصطفاء هذا لله عز وجل، يختار من عباده من يختاره وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، فسلم بما أخبر الله تعالى به، وأنه يهدي من يشاء من عباده، أما الهداية إلى الصراط المستقيم ذاك الصراط الذي نطلبه في كل ركعة من ركعاتنا فنقول: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )[الفاتحة:6-7]، هذه الهداية مستجابة، اصدق فقط يا عبد الله وصحح نيتك، وأقبل على ربك واسأله هدايته فإنه يهديك، لا أن يوحي إليك، ولكن يوفقك لأن تسأل أهل العلم، لأن تتعرف على الطريق فتعرفه، يوفقك إلى أن تكثر من الصالحات، فتزكو نفسك وتطيب وتطهر، فهذا يُسألُه الله ويطلب من الله، والله لا يحرم من سأله وطلبه.
معنى قوله تعالى: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)
وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88] من هؤلاء؟ ثمانية عشر نبياً ورسولاً، نوح فإبراهيم وما بينهما وما بعدهما، هؤلاء كلهم لو أشركوا بالله في عبادة غيره لبطلت كل أعمالهم وهلكوا وإن كانوا معصومين، لكن هذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهذا في عامة هذه المواكب الثلاثة: الصالحين والمحسنين والمطيعين البارين، ورسولنا صلى الله عليه وسلم واجهه الله تعالى على انفراده بهذا، إذ جاء من سورة الزمر قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:65]، ما هو السر؟ ما هي العلة؟ ما هي الحكمة يا بصراء؟! الشرك كفر، بل أفظع أنواع الكفر؛ لأنك سويت بالله عز وجل مخلوقاً من المخلوقات، فأعطيته قلبك ووجهك، سويت مخلوقاً من هذه المخلوقات على اختلافها وجعلته إلهاً مع الله تركع له وتسجد، أو ترفع كفك وتتضرع وتسأل، أو تتقرب إليه بأدنى قربة تتقرب بها ناسياً ربك معرضاً عن مولاك، فهذا الذنب العظيم إذا حدث يحول النفس البشرية إلى عفن كامل ونتن كامل. وقد علمنا- وزادكم الله علماً- أن الحسنات تزكي النفس وتطهرها بمثابة الماء والصابون للأبدان والأجسام، وأن السيئات تخبث النفس وتعفنها كالأوساخ التي تعفن الجسم والثوب، والله لكما تسمعون، وهذه سنة الله، الطعام يشبع الآكلين أم لا؟ السم يقتل الآكلين أم لا؟ لا تتبدل سنن الله عز وجل، فالذنوب ليست على مستوى واحد، أليس قد علمنا أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؟ والكبائر سبع، فالذنب إذا عظم يلطخ النفس ويحولها إلى نتن وعفونة.
فمن هنا كان الشرك -والعياذ بالله- يقلب النفس إلى نفس شيطانية منتنة لا يقبلها الله تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، لا تقل: أنا إذا قلت: (يا سيدي فلان المدد)، (يا رسول الله أغثني) فماذا فعلت؟ إنه في نظرك ما فعلت شيئاً، لكن لو علمت أن دعاء غير الله وسؤال غير الله من أعظم أنواع الشرك لما قلت هذا!
وشيء آخر للعقلاء والبصراء: فحين تقف تحت كوكب تسأله هل يجيبك؟ هل يسمع نداءك؟ هل يفرج كربك؟ الجواب: لا. حين تضع تمثالاً لشخصية مضت كنبي من الأنبياء، وتعكف حوله وتسأله هل يجيب ويعطيك؟ وحين تقف على قبر صالح من الصالحين وتناديه أن: يا فلان! الغوث الغوث، إني في كرب، أنت كذا. هل يسمعك؟ وإذا سمعه فأسألكم بالله: هل يجيبه فيقول: افعل وافعل؟! الجواب: لا، فكيف -إذاً- يفعل هذا العفن؟ ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ )[ فاطر: 14] ، إن فرضنا أنهم سمعوا فلن يستجيبوا.
خلاصة هذه الكلمة ونحن أمام كلام الله: أنه تعالى يقول لثمانية عشر رسولاً: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، فهل هناك بعد هذا من يقول: لا بأس، ماذا يكون إذا أشركت بالله؟! والشرك ليس معناه أنك تقول: فلان هو الله، أو هو الإله، ليس هذا شرطاً!

يتبع


ابوالوليد المسلم 08-09-2021 04:49 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مظاهر الشرك
والرسول صلى الله عليه وسلم وضع أيدينا على كل مظاهر الشرك لو كنا ندرس سنته ونعرف منهجه وسيرته، ( نظر إلى أحد أصحابه وفي يده حلقة من حديد، فسأله: ما هذه يا فلان؟! قال: من الواهنة يا رسول الله! )، أصاب بالوهن في يدي فقيل لي: اتخذ هذه يزول الوهن طلباً للعلاج، فقال له: ( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، وإنك لو مت وأنت ترى أنها تنفعك لمت على غير الفطرة )، فهل بعد هذا نعلق خيطاً أو حديدة؟! ويتحدث مع أصحابه فيقول له أحدهم: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله! فقال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده )، فكيف بالذي يقول: هذه بقرة سيدي فلان؟! هذا لسيدي فلان، قرابين يتقربون بها إلى الموتى إضافة إلى الدعاء والتضرع والسؤال والتلطف، وإن شككتم فقولوا للعسكر حول الحجرة النبوية: ابتعدوا اليوم وأعطوا الناس راحة، وتعال اسمع، ستسمع دعاء ما سئل الله به، ولا يبكون بين يدي الله ولا يتضرعون كما يفعلون أمامه صلى الله عليه وسلم!
فالله تعالى هو القائل: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، فكيف نسوغ لمؤمن أن يقول: يا سيدي فلان؟! أو يحلف: يا فلان؟! أو ينحني ويركع لفلان؟!
(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا )[الأنعام:88] من باب الفرض فقط ( لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:88]، كل أعمالهم الصالحة من الجهاد والخير والبركات والعبادات كلها تفوت، تزول وتفنى.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ...)
ثم قال تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89]، أولئك السامون الأعلون أصحاب المقامات السامية، أولئك الذين أعطيناهم الكتاب: التوراة لموسى، الإنجيل لعيسى، الزبور لداود، الصحف لإبراهيم، وصحف موسى، وما إلى ذلك، والكتاب اسم جنس. (وَالْحُكْمَ )[الأنعام:89] الحكم ليس هنا بمعنى: الدولة والسلطان، أعطاهم الحكم بمعنى: الحكمة، الإصابة والسداد في الأمور كلها، فقه العبد وفهمه لأسرار الشريعة، والحكمة: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا )[البقرة:269].
(وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89] إذ ما منهم إلا نبي، وجمع الله لهم بين النبوة والرسالة، كل الثمانية عشر أنبياء ورسل، والنبوة أولاً والرسالة بعدها، كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً؛ إذ قد يكون نبياً ولا يكون رسولاً، ما أرسله الله إلى أمة من الأمم، ولكن نبأه وأخبره وأوحى إليه وكلمه.
معنى قوله تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)
ثم قال تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ )[الأنعام:89]، والخطاب هنا لرسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا )[الأنعام:89] أي: بهذه الدعوة، من هؤلاء الذين يشير إليهم؟ إنهم أهل مكة، قريش ومن إليها وما حولها.(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89] وعلى رأسهم المهاجرون والأنصار، ثم كل مؤمن صادق الإيمان إلى يوم القيامة.
رؤيا الشيخ محمد رشيد رضا المتعلقة ببشارة مأخوذة من الآية الكريمة
وهنا عندنا لطيفة رزقناها الله في هذا المساء، ومن غضب سامحناه، فبالأمس أحد الطلبة قال لآخر: أنا لا أجلس عند هذا، أكرهه، فقم! وأقول: الحمد لله أن وجد من يكرهني، أما أنا فوالله ما آذيت مؤمناً قط. فالحاصل أني الآن كنت أطالع في تفسير المنار للشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليهما، ومن إخوانكم من يسبهما، فلا إله إلا الله!
فكنت عند هذه الآية، وهي قوله تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89]، قال الشيخ: بعدما كتبت هذه الآية وشرحتها بزهاء شهر رأيت في المنام أني في مكان وإذا بموكب من الرجال في أنوار تتلألأ ووجوه مشرقة، وقدموا أحدهم فأثنوا عليه وقمنا فسلمنا عليه، وقالوا: هذا الذي يعيد إلى الإسلام ما فقده، إن كفر بها هؤلاء فهؤلاء يستردونها. قال: فأخذت أفكر من هو الذي يقوم الآن بدعوة الإسلام بعد ما هبطت؟! وكان هذا أيام العثمانيين، ورأى في المنام أنهم قالوا: إن الصحف الأوروبية كتبت أن شخصية إسلامية شأنها كذا وكذا. قال: فاستيقظت فبحثت عن هذا الذي يقوم بهذه.
وما حصل شيء معه، فلاح في خاطري -ولو كان الشيخ حياً لبلغته- أن هذا الذي أحيا هذه الدعوة بعدما ماتت أو كادت تموت هو عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ! والله العظيم لقد أحياها، قبله ماتت الدعوة الإسلامية، عمَّ الشرك كل ديار المسلمين، خيمت الخرافة والضلالات، أيس العالم من أن الإسلام يحكم، أيس الكفار والمسلمون على حد سواء أن يوجد من يقطع اليد أو يرجم الزاني، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وصفقت الدنيا كلها، فالعالم الإسلامي آيس محكوم ببريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والعالم كله واضع رجليه على العالم الإسلامي، وشاء الله عز وجل أن تتحقق تلك الرؤيا، ويظهر هذا الرجل وينشر دعوة الله، ويتحقق التوحيد قبل كل شيء، ثم تطبق شريعة الله على مسمع من العالم بأسره، والدنيا كلها ساخطة وغاضبة، هذا الذي عثرت عليه الآن.
قال تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )[الأنعام:89] ألا وهم المهاجرون والأنصار، نهضوا بها أم لا؟ ثم كل مؤمن ومؤمنة يوحد الله ويدعو إلى توحيده إلى يوم القيامة، اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده...)
(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:89-90]، الإشارة هنا إلى الثمانية عشر نبياً ورسولاً، ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:90] هداهم إلى ماذا؟ إلى صراط مستقيم، إلى الطريق الموصل إلى رضوان ربهم وجواره في الملكوت الأعلى، بعد أن طابوا وطهروا في هذه الحياة.(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، هذه الهاء -يا طلبة العلم- جيء بها هنا للسكت فقط، وإلا فالفعل: اقتدى يقتدي اقتدِ يا فلان. وقرئت (اقتد) بحذف الهاء وصلاً.
(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]يا رسولنا! مع أنه أفضلهم وأكملهم، ولكنه في حاجة إلى من يعضده ويشد من ساعده وهو يعاني الآلام والكروب في مكة وما حولها، فاقتد بهم في صبرهم وثباتهم وجهادهم، وما ذاقوا من مرارة، أما قتل يحيى؟ أما قتل زكريا؟ أما سجن يوسف؟ اذكر هذا كله واثبت واقتد بهم.
ولا نقول: الاقتداء بهم في شرائعهم؛ لأن تلك الشرائع نسخها الله عز وجل، وما كان لا ينسخ كالتوحيد، فالتوحيد لا ينسخ بحال من الأحوال، هو هو من عهد آدم، أما باقي الشرائع من الحلال والحرام فالله يجدد للناس بحسب حاجاتهم وظروفهم، لكن الآداب والأخلاق كالصبر والثبات والتواضع وكذلك العبادة هذاه كلها يقتدى بهم فيها.
وأعطيكم لطيفة أفضح بها نفسي، وأنتم انظروا إلى حالتي وسبوا أو اشتموا، فذلك غير مهم! لأن بعض الناس لا يعرفون الاقتداء، فقد كنت طفلاً وعندي صديق أبوه رجل كبير، فكنا إذا لعبنا في البستان وجاء الشيخ الكبير يصلي نصلي معه، فكان يصلي ركعتين بعد صلاة المغرب وهي السنة، فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وآية الكرسي، وفي الركعة الثانية بالفاتحة والصمد، فوالله ما تركت ذلك من صباي إلى ما قبل سنتين وأنا هكذا، ولما وجدت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب بالكافرون والصمد تركت ذلك وعدت إلى السنة.
فأنا أقول: المؤمن يقتدي بالصالحين، فإذا وجد بعد ذلك السنة فإنه يعدل عن ذلك، ولكن لا يشتمه ويسبه ويقول الجهل والجهالة، بل يتأدب ويتلطف ويقول: رحمهم الله!
أزيدكم ثانية: كنا نصلي ثماني ركعات يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وقبل سنتين جاء شيخ إما من القصيم أو من الرياض فصلى عشر ركعات؛ فقلت أنا: لماذا لا أصلي أنا عشراً؟! وإلى الآن ونحن نصلي عشر ركعات، ولو جاء من تزمت ويقول: لماذا؟ أقول: ما هو من شأنه، فأنا أصلي عشر ركعات واقتديت بهذا العبد الصالح، هل اقتديت به في معصية الله أو في باطل؟ صلى عشر ركعات، فأنا أولى بهذا، فسأصلي عشراً.
فعلى كل عاقل ذي بصيرة أن يقتدي بالصالحين، يسلك مسالكهم في مخاطباتهم، في معاملاتهم، في عباداتهم، في صالح أعمالهم، بذلك يهتدي.
(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، يقتدي بالهدى لا بالبدعة أو الخرافة والضلالة والشركيات، إذا رأيت من هو على هدى من الله عز وجل فائتس به بهذه الآية الكريمة، فرسول الله يقول له ربه: اقتد بالسابقين! هكذا يقول تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ )[الأنعام:90] إذاً: ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ )[الأنعام:90].
معنى قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين)
ثم قال له: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )[الأنعام:90]، يا أيها الناس! إني أبلغكم دعوة الله، ولا أطلب منكم مالاً لا ديناراً ولا درهماً، هكذا يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ؛ فلهذا يجب على مبلغ دعوة الله ألا يأخذ من الناس ديناراً ولا درهماً، فأيام كانوا يأخذون ضلت الأمة كلها، ينصب المرء نفسه عالماً تقبل يده ورجله ويرسل إليه بالهدايا وكذا، بل أعظم من هذا أن يخلو حتى بالنساء! إنه الجهل. (فَبِهُدَاهُمُ )[الأنعام:90] لا بضلالهم ( اقْتَدِهِ )[الأنعام:90]، إن رأيت من هو ذو هدى فاقتد بهداه واسلك سبيله، أما أن تقتدي بالظالمين بالمفسدين بالمشركين بالضلال بالخرافيين فلا! لا تقتد حتى تعرف الهدى، فإذا عرفت الهدى فقل: فلان مهتد سأقتدي به، ولكن إذا كان ضالاً فمن أين له الهدى؟ فإن اقتديت به فقد رضيت بضلاله.
(قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )[الأنعام:90] بلغهم يا رسول الله، يشهد العرب والناس أجمعين أنه لا يطلب على هذا البلاغ أجراً، لا دجاجة مشوية ولا حفنة تمر، فضلاً عن دينار ودرهم!
ثم قال تعالى: ( إِنْ هُوَ )[الأنعام:90] أي: ما هو ( إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90]، ما هذا القرآن الكريم الذي نقرؤه ونشرحه إلا ذكرى للعالمين أجمعين، ما من إنسان يفهم هذه اللغة أو تترجم له ويسمع كلام الله، ويصغي ويحضر نفسه إلا دخل النور في قلبه وتذكر، ( ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90] أبيضهم وأسودهم، لكن مع الأسف ما قدمنا هذا للناس.
فكرة الشيخ في رسالة الدعوة للكفار
أزيدكم بشارة أخرى: هي رسالة عرفتموها، وهي دعوة خير إنسانية عامة، أرسلناها إلى ثمانية عشر مسئولاً ابتداء من خادم الحرمين إلى الشيخ عبد العزيز بن باز ، وكل أغنياء المملكة، وكل الجماعات التي تقوم بالدعوة، وطالبناهم أن يترجموها إلى سبع لغات من البريطانية إلى الأردية، وأن يطبع منها ملايين، وهي أصغر من حجم الكف، وتوضع تحت نظر الجاليات والمراكز الإسلامية في العالم، ويؤمرون بتوزيعها، والله لو تم هذا وعشتم لبلغكم الأعداد الكثيرة التي دخلت في الإسلام. والله تعالى يقول: ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام:90] يتذكر بها كل إنسان، وهي رسالة قيمة خاطبنا فيها الكافر بلطف وذوق وأدب فلا يشعر بشيء يؤلمه أبداً، حتى يعرف كتاب الله ويقرأه، فهذا كلام الله: ما القرآن إلا ذكرى للعالمين، والله تعالى أسأل أن يحقق هذا، وأن يبارك في هؤلاء الذين يقومون بالترجمة. قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
[ هداية الآيات: أولاً: الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى]، ما الردة؟ شخص قام أربعين سنة، وحج أربعين عاماً، وجاهد أربعين سنة، ثم قال كلمة الردة؛ فانمحى كل شيء من عمله وخرج من الإسلام، فكذلك الشرك.
[ ثانياً: فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ )[الأنعام:89].
[ ثالثاً: وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة ]، يجب الاقتداء بالرسول وبالعلماء والصالحين في هذه الأمة.
[ رابعاً: حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.
خامساً: القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرؤه أو يستمع إليه، وهو شهيد حاضر القلب ].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 17-09-2021 02:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (386)
تفسير سورة الأنعام (19)

الذين كفروا بالله عز وجل، وأنكروا دينه، وكذبوا رسله، إنما حملهم على ذلك أنهم حرموا معرفة الله حق معرفته، فلم يعرفوا صفاته الدالة على جلاله وكماله وعظمته، وهذا كان حال كفار قريش، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عمن أنزل التوراة على اليهود الذين يبدون بعضها ويخفون البعض الآخر حسب أهوائهم وأطماعهم، ثم أمره أن يجيبهم -لأنهم لن يجيبوا من تلقاء أنفسهم- بأن الله هو منزل التوراة وكل الكتب السابقة، كما أنه هو منزل القرآن الذي ينكرونه، وقد جاء بالتصديق لما بين يديه من الكتاب، وجاء نذيراً لأهل مكة ومن حولهم من الأعراب.
تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد- من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فلنستمع إليها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:91-92].
معاشر الأبناء والإخوان! قول ربنا جل ذكره: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] إي والله ما قدروا الله حق قدره وهم يعبدون معه أصناماً آلهة، ما قدروا الله حق قدره إذ أنكروا رسالته وكذبوا رسوله، ما قدروا الله حق قدره إذ حرموا من معرفة صفاته الدالة على جلاله وكماله ورحمته وعدله وإفضاله وإحسانه، ما قدروا الله حق قدره لا سيما إذ قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أنكروا الوحي، وكذبوا الرسول، وكذبوا أن يكون القرآن كلام الله ووحيه، فهل الذي خلق البشر لا ينزل عليهم كتاباً يهديهم إلى سبيل سعادتهم وكمالهم؟ ولا ينزل عليهم كتاباً ليعلمهم ما يكملون به ويسعدون؟ أيتركهم كالبهائم يأكل بعضهم بعضاً؟! والله ما قدروا الله حق قدره وقد قالوا هذا القول.
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91] أي: الوحي، كذبوا بالتوراة والإنجيل والزبور وكل شيء، الكل أنكروه وقالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، يقولون هذا ليموهوا على العوام، ولا شك أنهم رؤساء الضلالة الذين كانوا يقودون أهل مكة ومن حولهم.
معنى قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ...)
فعلم الله رسوله الحجاج وكيف يرد عليهم قولهم الباطل فقال تعالى: ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91]؟ وهم يعرفون هذا حق المعرفة، حيث تجارتهم في الشام في طول السير وهم متصلون باليهود والنصارى يعرفون أن الله أنزل التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى، لكن للمكابرة والتغطية والمجاحدة يقولون: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، فعلم الله رسوله أن يرد عليهم فيقول: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91] ألا وهو التوراة، والتوراة نور، على ذلك النور اهتدى خلق وأمم كثيرة، هذا الكتاب الذي هو نور وهدى طريق مستقيم إلى السعادة في الدارين من أنزله؟ ثم قال: ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91]، وفي قراءة سبعية: ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً )، وهذه القراءة رجحها ابن جرير وهي تتفق مع هذا التفسير، أو نقول: الكلام الآن مع بني إسرائيل، مع اليهود، ولا يبعد أنهم زاروا مكة واتصلوا برجالها، وقالوا لهم: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، علموهم ذلك ليجاحدوا ويكابروا، قالوا: لا تقبلوا فكرة نزول القرآن على محمد، وإن قال لكم: أنزل الله التوراة فقولوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، اثبتوا على هذا. لأن اليهود يريدون منهم مواصلة الشرك والكفر والبقاء على ما هم عليه كالبهائم، فلا يبعد هذا.
(قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91] جمع قرطاس، وهو ورقة يكتب فيها الشيء الذي يريد أن يكتبه.
(قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا )[الأنعام:91] تظهرون ما فيه صالحكم، وما يحقق لكم غرضكم وأهدافكم، ( وَتُخْفُونَ )[الأنعام:91] الأخرى التي فيها ضد ما تريدون، ( وَتُخْفُونَ كَثِيرًا )[الأنعام:91]، والقراءة التي رجحها ابن جرير هي: (يجلعونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً) وهم اليهود، يجعلونها قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً؛ فالمشركون قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، هذه الفكرة من أعطاهم إياها؟ اليهود، فقال تعالى: قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )[الأنعام:91]، هذا الكتاب اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، ما فيه مصلحة لدعوتهم الباطلة ومواقفهم المخزية ضد دعوة الحق يظهرونه، والآخر يخفونه!
وقوله تعالى: ( وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91] هذا يعود إلى العرب، بما أنزل الله عليهم من هذا القرآن العظيم، فهذه السورة -سورة الأنعام- سبقها سور نزلت، والرسول يتلوها عليهم ويبين لهم ما فيها من الهدى والخير.
معنى قوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)
ثم قال تعالى له: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] هذا جواب السؤال: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ )[الأنعام:91] لهم: ( اللَّهَ )[الأنعام:91] الذي أنزل الكتاب! جواب للسؤال الأول، قالوا: ما أنزل الله من شيء، فقل: أنزل الله تعالى التوراة.(قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] أي: هو الذي أنزل الكتاب، ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91]، بين لهم الحقيقة التي أنكروها، قل: الله الذي أنزل الكتاب، واتركهم في خوضهم وباطلهم يلعبون كالصبيان، طول الليل والنهار وهم يهرفون ويتكلمون بلا طائل ولا نتيجة أبداً، وهذا شأن الضلال الخارجين عن هدى الله عز وجل.
وفي هذا تعليم الله لرسوله وكيف يحتج على المشركين، وكيف يرد على باطلهم، وكيف يبين لهم الطريق، ولكن بأمر الله عز وجل وتدبيره.
تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى وما حولها...)
ثم قال لهم: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام: 92]، إنه القرآن العظيم (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام: 92]، فالكتب السالفة -التوراة، الإنجيل، الزبور، صحف إبراهيم وموسى- القرآن مصدق لها، ما أنكر كتاباً منها ولا كذبه، ولا كذب ما جاء في كتاب من تلك الكتب، (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام: 92] يا رسولنا بهذا الكتاب، والمراد من أم القرى مكة، والقرى: الحواضر والمدن، لا على اصطلاح الجغرافيين المعاصرين، فالقرى: المدن التي يتجمع فيها الناس ويسكنونها بكثرة، فأم القرى وأم العواصم والحواضر مكة.(وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام: 92] من بلاد العرب ومن حولهم من العجم، كلمة (من حولها) وراءها دائماً وأبداً. ‏
معنى قوله تعالى: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون )
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بالقرآن، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ )[الأنعام: 92] بالمعاد والحياة الثانية، وما يجري فيها وما يتم من جزاء عادل، فأهل الإيمان والصلاح في دار السلام، وأهل الشرك والكفر والمعاصي في دار البوار، هذا الذي يتم في الدار الآخرة، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92].لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر الذين يؤمنون بالآخرة، ( يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بالقرآن ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92].
وهنا إشارة إلى أنه عند نزول هذه السورة ما كان هناك شرائع وأحكام إلا الصلاة؛ إذ هي أول فريضة فرضت وأول عبادة تعبد الله بها المؤمنين في مكة، وما فرضت إلا في السنة العاشرة من الوحي، فصلى الرسول والمؤمنون بمكة ثلاث سنوات، ثم لما انتقل المدينة وهاجر أخذت الشرائع والأحكام تنزل حكماً بعد آخر.
فقوله تعالى: ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام: 92] يشير إلى القرآن العظيم، و(مبارك) أي: الخير فيه إلى يوم القيامة، ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام: 92] من الكتب السابقة، ما أنكر القرآن الكتب السابقة بل قرر وجودها ودعا إلى الإيمان بها، بل وفرضه على المؤمنين، ( وَلِتُنذِرَ )[الأنعام: 92] يا رسول الله ( أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام: 92] يعني: أهلها، ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام: 92] من المدن والقرى، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92]، وهنا بيان سبب الكفر والشرك والمعاصي، وهو التكذيب بالبعث والجزاء، هو عدم الإيمان بالدار الآخرة.
أما من آمن بأن هناك حياة أخرى يتم فيها الجزاء على الكسب في هذه الدنيا؛ فهذا مستعد لأن يؤمن بكل ما أمر الله بالإيمان به، ومستعد لأن يطيع الله ورسوله فيما يستطيع ويقدر عليه، بخلاف المكذب بالبعث والدار الآخرة.
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام: 92] أي: بهذا القرآن الكريم، وبمن نزل عليه وأنزل عليه، ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92] تلك الصلاة التي فرضها الله عليهم يحافظون عليها فيؤدونها في أوقاتها وبشروطها وأركانها التي لا بد منها، لتزكي أنفسهم وتطهرها.

يتبع


ابوالوليد المسلم 17-09-2021 02:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

ملخص لما جاء في تفسير الآيات
اسمعوا الآيات مرة ثانية:يقول تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] من هؤلاء؟ إنهم المشركون الكافرون، من جملة ذلك: ( إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أنكروا أن يكون الله أنزل القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو غيرها من الكتب الإلهية.
وقد قلت لكم: إنهم يعلمون هذا ويعرفونه، ولكن للعناد والمكابرة ليستمروا على تكذيبهم وكفرهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. فعلم الله رسوله أن يرد فقال: قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا )[الأنعام:91]، من هؤلاء؟ إنهم اليهود أيضاً.
(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91]، علمتم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات في مكة وبينه، وما حصل لآبائهم وأجدادهم، تعلموا ما لم يتعلم آباؤهم وأجدادهم.
ثم علم الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم الجواب على قولهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ )؟ فقال: قل لهم: الله هو الذي أنزل. ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى )[الأنعام:91] الجواب: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] الله الذي أنزله.
(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91] اتركهم في باطلهم؛ لأنهم أعرضوا وأبوا أن يستجيبوا، يكفيك ذلك.
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )[الأنعام:92] إشارة إلى هذا القرآن العظيم، مبارك لا يفارقه الخير أبداً في كل الزمان والظروف، ( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ )[الأنعام:92] من الكتب الإلهية، ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام:92] يا رسولنا ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام:92] من البلاد، ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ )[الأنعام:92] الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالقرآن الكريم، ( وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )[الأنعام:92] يؤدونها في أوقاتها بشروطها ومتطلباتها لتزكي أنفسهم وتطهرها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
الآن نستمع إلى تفسير هذه الآيات بالتفصيل من الكتاب:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ ما زال السياق مع العادلين بربهم ] الذين عدلوا به الآلهة والأصنام والأحجار، قال: [ ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم؛ فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي الإلهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، ومن هنا قال تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام:91] أي: ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم: ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا )[الأنعام:91] يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك ] أي: إلى ذلك الطريق، [ وهو التوراة التي جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم.
وقوله: ( وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ )[الأنعام:91] أي: وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم وعذاب أليم ]، فهذا ما كانوا يعرفونه قبل القرآن أبداً.
[ ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتاً: ( قُلِ اللَّهُ )[الأنعام:91] أي: الذي أنزل التوراة على موسى هو الله جل جلاله وعظم سلطانه. ( ثُمَّ ذَرْهُمْ )[الأنعام:91] أي: اتركهم ( فِي خَوْضِهِمْ )[الأنعام:91] أي: في الباطل ( يَلْعَبُونَ )[الأنعام:91]، حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم، فهم كاللاعبين من الأطفال. هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآية الثانية فقد تضمنت: أولاً: الرد على قول من قال: ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91]، أي: كيف يقال: ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركاً لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه، مصدقاً لما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل، أنزلناه ليؤمنوا به، ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى )[الأنعام:92] أي: أهلها ( وَمَنْ حَوْلَهَا )[الأنعام:92] من المدن والقرى القريبة والبعيدة، لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل.
وثانياً: الإخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة -أي: بالحياة في الدار الآخرة- يؤمنون بهذا القرآن، وهم على صلاتهم يحافظون، وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون ].
هداية الآيات
والآن مع هداية هاتين الآيتين:[ أولاً: كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره ]، وذلك لقوله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )[الأنعام:91] كذبوا الله عز وجل.
[ ثانياً: بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر، وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة ]، إذ قال تعالى: ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ )[الأنعام:91] يبدون بعضها ويخفون البعض، هذا التصرف ناتج عن ماذا؟ عن رغبتهم في الدنيا وإعراضهم عن الآخرة.
[ ثالثاً: بيان فضل الله تعالى على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم ] أي: على نبيهم [بلغتهم لهدايتهم ]، وهذا فضل عظيم، فلنحمد الله ونشكره.
[ رابعاً: تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والمكذبين ]، وذلك بقوله تعالى له: (قل).
[ خامساً: بيان علة نزول الكتاب وهي الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين ]، لماذا نزل؟ ما العلة في نزوله؟ العلة هي: الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين بما أعد الله لهم من عذاب أليم.
[ سادساً: الإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر ]، لأن الذي لا يؤمن بلقاء الله وما يجري في الدار الآخرة كيف لا يظلم؟ كيف لا يعتدي؟ كيف لا يفجر؟ ما المانع إلا الخوف من العصا، وقد توجد العصا وقد لا توجد، لكن الذي في قلبه إيمان بلقاء الله والوقوف بين يديه، ثم الاستنطاق والاستجواب، ثم وزن الأعمال من حسنات أو سيئات، ثم الجزاء إما بنعيم مقيم أو بعذاب أليم، صاحب هذا الإيمان لا يقوى على معصية الله، ما يديمها أبداً، والله ما يستطيع، لكن الذي لا يؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه، أو آمن إيماناً سطحياً ما بلغ قلبه ولا تمكن من نفسه فإنه ممكن أن يعصي ويفجر، فالإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر، إي والله العظيم.
تحذير من التشبه بالكفرة في لبس البرانيط
إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! مع ولاية الله عز وجل، وبين يدي الحديث عن محاب الله ومكارهه ينبغي ألا نسكت، لقد ظهرت هذه الظاهرة وأكثرنا ساكت، لا الهيئة ولا العلماء ولا الحكومة ولا المؤمنون، ظاهرة لبس البرانيط للأطفال من نساء وبنات وبنين، كيف السكوت عن هذه؟ البنت تحملها أمها وعلى رأسها برنيطة، شيء عجب هذا! والطفل يمشي مع أبيه في الخامسة من عمره أو السابعة والبرنيطة على رأسه! والشبيبة في العمر في خمسة عشر وعشرين سنة يمشي أحدهم والبرنيطة على رأسه!هذه الظاهرة كيف نفسرها؟ أسألكم بالله كيف تفسر؟ أليس معنى هذا أننا نريد أن نكون كالكفار؟ أليس معنى هذا التشبه بهم؟
وأزيد فأقول: والله إن يداً وراء ذلك لتخفف من نفوس المؤمنين كره الكافرين والتغيض عليهم وبغضهم.
إذاً: فهذا الزي يخفف ذلك، وعلماء النفس عندهم يعرفون هذه الحقائق ويعلمونها، كيف تلبس ابنك برنيطة على رأسه؟
لقد قلت لكم: عاش العرب مستعمرين أذلاء تحت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وما كان واحد منهم يضع برنيطة على رأسه قط، والذي يلبس برنيطة يقولون عنه: ارتد، كافر ما هو بمؤمن، وبذلك حفظت هذه البقية الباقية من الإسلام، لو لبسوا البرانيط لارتدوا، واستحلوا ما حرم الله، وأصبحوا مسيحيين أو يهوداً، فكيف الآن بهذه الظاهرة في مدينة الرسول؟! ويأتي الزوار من الشمال ومن الشرق والغرب بأولادهم والبرانيط على رءوسهم!
ممكن أن يقول أهل الغفلة وعدم البصيرة: أيش في ذلك؟ هذا لا يضر! هكذا إذا قلنا: هذا لا يجوز، يقول: أيش فيه؟ وما عرف ماذا فيه.
أما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم )؟ من يرد على رسول الله؟ من تشبه فأراد أن يكون شبيهاً لهم فوالله لن ينتهي أمره حتى يكون محباً لهم.
فلم لا نتكلم؟ يمر بك رجل ومعه ابنه فقل: يا عبد الله! هذا لا يجوز في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، برانيط على رءوسهم، والتجار الفجار الذين استوردوها لأجل المادة هل سألوا أهل العلم: أيجوز هذا أم لا؟ كيف يورد هذا في بلاد الإسلام بلاد القرآن لا لضرورة ولا لحاجة أبداً، ما هو إلا مد أعناقنا لنتلذذ هكذا بصفات الكافرين والمشركين.
اللهم اشهد فقد بلغنا، ولن نسكت إلا إذا أُسكتنا بالعصا، فلا يجوز هذا أبداً، قل لي بربك: لما تجعل برنيطة على ولدك؟ هل ليسموا، لينموا، ليكمل، ليصفو، ليطيب، ليحفظ القرآن، ليحب الله ورسوله؟ ما هي الثمار؟ تقيه الشمس؟ لقد عشت أنت قبله ومن قبلك إلى رسول الله وما عملوا البرانيط، أما عاشوا في الشمس والحر؟
يجب ألا نسكت، والحمد لله؛ فحين تكلمنا عن الأغاني انتهت والحمد لله، كنت إذا مرت بك مائة سيارة ما تجد عشر سيارات بدون أغان، والآن تمر مائة سيارة فيها واحدة صاحبها يغني والباقي ليس فيها ذلك، فالحمد لله.
فما ينبغي أبداً أن نرى المنكر ونسكت بدون طائل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.







ابوالوليد المسلم 17-09-2021 02:12 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (387)
تفسير سورة الأنعام (20)

أظلم الناس الذي يفتري على الله الكذب ويزعم أنه نبي يوحى إليه من عند الله، وهؤلاء الظالمون وكل ظالم عداهم إذا حانت ساعتهم، واقترب أجلهم، وكانوا في غمرات الموت جاءهم ملك الموت وأعوانه لينتزعوا أرواحهم، وهم أثناء ذلك يبكتونهم ويطلبون منهم إخراج أرواحهم ويتوعدونهم بالعذاب الأليم عند انتزاع الروح، والعذاب الأشد إيلاماً منه الذي ينتظرهم في الآخرة بسبب تكذيبهم وإعراضهم عن دين الله، واستغنائهم بما رزقهم الله عز وجل إياه في الدنيا من النعيم الزائل.
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن نستمع إلى آياتنا التي نتدارسها مرتلة مجودة أولاً، ثم نشرح ونبين مراد الله تعالى لنا منها.
مداخلة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:93-94]. ‏
عظم ظلم مفتري الكذب على الله ومدعي النبوة ومدعي القدرة على المجيء بمثل ما أنزل الله تعالى
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زلنا مع سورة الأنعام المكية، فقول ربنا جل ذكره: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93] والله لا أظلم منه، لا أظلم ممن يكذب على الله، ويقول: أمر الله أو نهى الله والله لم يأمر ولم ينه، أو يقول: حرم الله أو أحل الله والله لم يحرم ولم يحل، أو يقول: أرسلني ربي إليكم رسولاً والله ما أرسله، أو يقول: إني أشفع لكم عند الله يوم القيامة والله ما شفّعه، أو يقول: لله شريك، أو لله شفيع، أو لله ولد، وينسب إلى الله تعالى من الأسماء والصفات ما الله تعالى منه بريء، هذا لا أظلم منه، وشأنه شأن المشرك بالله، المتخذ شريكاً لله يعبده مع الله، فقد افترى على الله أعظم الافتراء.(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] أولاً، ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93]، يقول: أوحى الله إلي بكذا وكذا، وأنا نبي الله، وهذه الدعوى وجدت على عهد رسول الله في آخر حياته، فادعى كثيرون النبوة والرسالة على رأسهم مسيلمة الكذاب، والأسود وفلان وفلان، وهي قائمة وباقية.
ما هناك أظلم ممن يدعي النبوة ويقول: إني يوحى إلي وأُعلَّم من طريق الله بما لم يُعَلِّمه الله، فأغلق الله تعالى هذا الباب، باب الدخول بدعوى أني نبي أو فلان يوحى إليه، هذا الباب مغلق، فإنه من أعظم الأبواب؛ إذ هو افتراء على الله وكذب للتضليل وإفساد البشرية.
(وَمَنْ أَظْلَمُ )[الأنعام:93] أي: لا أحد، فالاستفهام للنفي، ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] فكذب على الله وقال: أمرني، أعطاني، أوحى إلي. ( أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ )[الأنعام:93].
ثالثاً: ( وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93] هذه مثلها.
فهذه ثلاثة افتراءات كلها شر، ولا يرضى ذو عقل لنفسه أن يتصف بواحدة منها.
إذاً: فكيف يردون على رسول الله دعواه النبوة والرسالة وأن القرآن ينزل عليه؟ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه ولا أرسل لما كان سيجرؤ على أن يقول هذا، وهذا جزاء المفترين على الله الكاذبين عليه.
هكذا يقول تعالى: ( وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93]، النضر بن الحارث قال: نستطيع أن نأتي بمثل هذا القرآن، ولو شئنا لأتينا بمثله، وكلها ادعاءات باطلة وافتراءات مردودة، والله لا يستطيع أحد أن يأتي بآية واحدة، وتحداهم الله أن يأتوا بآية فما استطاعوا؛ إذ قال تعالى: ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )[البقرة:23].
معنى قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم)
ثم قال تعالى: ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] أيها السامع ( إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] وهم الكاذبون على الله، المفترون عليه، المتجاوزون لحدوده، المحققون للباطل، المبطلون للحق؛ إذ كل هؤلاء ظلمة، إذ حقيقة الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يقول: فلان نبي فقد وضع النبوة في غير موضعها، والذي يقول: أنا نبي فكذلك.(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] المشركون، المفترون على الله، الكاذبون عليه، المدعون النبوة، المدعون الوحي.. وما إلى ذلك، هؤلاء الظالمون لأنفسهم لو تراهم وهم ( فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ )[الأنعام:93]، والغمرات: جمع غمرة، غمره الماء: غطاه، غمره الحزن والكرب: غشيه وغطاه، غمرات الموت لا تعرفها إلا إذا حضرت من هو في سكرات الموت، لما تتجلى لك تلك الغمرة، يفيق لحظة ويغمى عليه لحظات.
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ )[الأنعام:93] حولهم، ملك الموت وأعوانه ( بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] لضربهم، ولو ترى لرأيت أمراً فظيعاً فيغمى عليك وما تقوى على أن تشاهده، والملائكة المراد بهم هنا: ملك الموت وأعوانه.
(بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] بالضرب على وجوههم، ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ )[الأنعام:93]، والروح إذا شاهدت ملك الموت وكانت في الحلقوم ترجع إلى الأقدام، وتعود إلى كل جزء من أجزاء الجسم خوفاً من ملك الموت، وهذا ليس من باب التهويل، والله إنه لهو الواقع، هذا جزاء الظالمين، لو رأيت لرأيت أمراً عجباً وحالة أفظع.
العذاب الأليم جزاء الظالمين لاستكبارهم وافترائهم على الله تعالى
(وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )[الأنعام:93] عذاب الذل والحقار والصغار والذل والدون، ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ )[الأنعام:93] بسبب ما كنتم تقولون وتفعلون من أنواع الشر والباطل والظلم والفساد، ( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ )[الأنعام:93] أولاً، ( وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93] لا تصغون ولا تسمعون، لا تقبلون من يقولها، لا تعملون بها، بل تترفعون حتى لا تسمعوا كلام الله وما يحويه من الهدى والنور لعباد الله. فهل عينوا لهم الجريمة أم لا؟ قال تعالى: ( بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) كنسبة الولد إلى الله وكنسبة الزوجة إليه تعالى، أليس هذا ظلماً؟ بلى. فالذي ينسب إليه مخلوقاً من مخلوقاته ويقول: هذا شريكه.. هذا شفيع عند الله أما كذب على الله؟ كالذي يدعي الوحي وأنه يوحى إليه، فهو كاذب على الله.
(بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ )[الأنعام:93] أولاً، ( وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93]، آيات الله القرآنية التي تحمل شرائعه، كانوا إذا سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ يتكبرون، إذا قيل لهم: قال الله كذا يتكبرون ويستكبرون، ولا يذعنون ولا يقبلون الحق، ولا يريدونه.

يتبع


ابوالوليد المسلم 17-09-2021 02:13 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم...)
ثانياً: قال تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94]، وهذا في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء، ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] واحداً واحداً، لا أب معك، ولا أم، ولا أخ، ولا شيخ قبيلة، ولا ملك، ولا سلطان.. كل واحد يأتي على انفراد، ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] فرداً فرداً ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94]، هل نحن خلقنا مجموعات أم فرادى؟ فرادى، كل واحد خرج وحده.(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94] ومعنى هذا أنهم حفاة عراة، وفي الحديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تحشرون حفاة عراة غرلاً. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك )، ماله أبداً قلب لينظر إلى العورة.
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ )[الأنعام:94] ما أعطيناكم، ما وهبناكم، ما رزقناكم من الذرية والمال وما إلى ذلك، تركتم ذلك ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94] في الدنيا.
أين المال؟ أين الرجال؟ أين الجيوش؟ أين الأولياء والأنصار؟
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ )[الأنعام:94] ماذا؟ ما أعطيناكم في الدنيا وراء ظهوركم.
ثانياً: ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ )[الأنعام:94]، أين الذين كنتم تؤلهونهم، تستغيثون بهم، تدعون أنهم يشفعون لكم؟ هاتوهم، والله لا أحد، ومن يقوى على أن يقول: أنا قلت له: أشفع لك؟ لا يقدر على هذا أحد، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] لله عز وجل فتعبدونهم بعبادة الله، إما بالذبح، وإما بالنذر، وإما بالعكوف حول قبورهم أو تماثيلهم.
(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94] البين الذي كان يربطكم تمزق، وما بقي، والبين: الذي يربط بين الشيئين كمن بيني وبينه أخوة، مصاهرة، مواطنة.. هذا البين كان بينك وبين هذا الصنم لأنك تعبده وتقول: يشفع لي، أو بينك وبين هذا الولي أو هذا النبي، تقطع ذلك الوصل نهائياً.
(وَضَلَّ عَنكُمْ )[الأنعام:94] وغاب ما كنتم تزعمونه في الدنيا من أنهم شركاء وأنهم يشفعون، وأنهم.. وأنهم.. من تلك الترهات والأباطيل،كلها ضلت، ما يستطيع أحد أن يقول كلمة بين يدي الله: هذا كان لي شفيعاً، أو كنت أعتقد شفاعته.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
يقول تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[الأنعام:93]، هل هناك أظلم من هذا؟ ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] يا رسول الله، ولو ترى أيها السامع ( إِذِ الظَّالِمُونَ )[الأنعام:93] من هم الظالمون؟ الذين وضعوا الأمور في غير موضعها، بدل أن يبر بوالديه عقهما، بدل أن يحسن إلى المسلمين آذاهم وأساء إليهم، بدل أن يعبد الله عبد غيره.إذاً: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )[الأنعام:93] لا تذعنون ولا تخضعون ولا تطبقون حكماً من أحكام الله ولا طريقاً من طرائقه، حملهم على ذلك الكبر.
وقالوا لهم: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94] حفاة عراة أم لا؟ أم يخرج الإنسان وعنده سروال أو عمامة؟ ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94]، أي: في الدنيا التي فنيت وذهبت، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] لله يشفعون لكم عند الله، ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94] انفصلت تلك الصلة، ( وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:94] من أن لكم شفعاء وشركاء، وأنكم أولياء وما إلى ذلك.
ذكر كلام الإمام القرطبي في حكم غلاة المتصوفة المعرضين عن الشريعة بدعوى تلقي المعرفة عن الله تعالى لصفاء قلوبهم
وهنا نسمع القرطبي يذكر هذه القضية في أيامه، حيث عاش في القرن السابع، يقول: ومن هذا النمط -أي: المدعي للوحي ولم يوح إليه- من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن، فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، أو أخبرني قلبي عن ربي. فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها -أي: صفاء قلوبهم- من الأكدار وخلوها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيستغنون بذلك عن أحكام الشرع، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة... وهي زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا إلى جواب.وخلاصة ذلك أن الذين يعرضون عن كتاب الله وما فيه، وعن سنن رسول الله وما بين، وعما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ويخترع اختراعات ويدعي ادعاءات، منها أن هذه من شأن العوام، أما نحن الربانيون أولياء الله فنتلقى المعارف من الله، صفت قلوبنا وطهرت وذهب الغين والرين، وأصبحنا نتلقى المعرفة عن الله عز وجل!

وهذا حدث والله العظيم، واستغلوا العوام هكذا واستعبدوهم، وتركوا الصلاة وفجروا بالنساء بدعوى أن مستواهم أرقى وأعلى من مستوى العوام، وأن الذي تشاهدونه أنتم ليس كما ترون، ويقول أحدهم: أخبرني قلبي عن ربي! أخبرني قلبي عن ربي أنه يحب كذا وكذا، أو يكره كذا وكذا من غير محاب الله ومكارهه! وهؤلاء هم غلاة المتصوفة.
فالقرطبي قال: أمثال هؤلاء لا يستتابون، بل يقتلون، ولا تقبل لهم توبة؛ لأنهم وقفوا موقف من قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال: أنزل الله والله ما أنزل، ذلك الموقف هو الذي وقفوه.
والحمد لله فهذا النوع من البشر انتهى، وقد يوجد هنا وهناك بقلة مغمورين بين الناس، والذي نريده أنا لا نقول على الله كلمة لم يقلها، لا نحل ولا نحرم إلا ما أحل الله وحرم، لا نشرع ولا نقنن إلا ما شرع الله وقننه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عرفتم جزاء المفترين على الله والكاذبين عليه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
والآن نسمع شرح الآيتين في الكتاب:قال الشيخ غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ مازال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى باتخاذ الأنداد والشركاء، فقال تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )[الأنعام:93] بأن أدَّعى أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله، كما ادعى سعد بن أبي سرح بمكة ومسيلمة في بني حنيفة بنجد والعنسي باليمن] هؤلاء ادعوا النبوات [اللهم لا أحد هو أظلم منه وممن قال أوحي إلي شيء من عند الله ولم يوح إليه شيء وممن قال: ( سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ) من الوحي والقرآن]، كالذي يقوله الصوفي: حدثني قلبي عن ربي؛ لأن قلبي طاهر صاف يتجلى في حقائقه الله عز وجل أو محاب الله ومكارهه.
[ ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( وَلَوْ تَرَى )[الأنعام:93] يا رسولنا (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ )[الأنعام:93] أي: في شدائد سكرات الموت، ( وَالْمَلائِكَةُ )[الأنعام:93] ملك الموت وأعوانه ( بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ )[الأنعام:93] بالضرب وإخراج الروح، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزاً وتحدياً لهم: ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )[الأنعام:93] بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق؛ إذ الحامل للعذرة] الخرء [وأصله نطفة مذرة، ونهايته جيفة قذرة، استكباره في الأرض حقاً إنه استكبار باطل لا يصح من فاعله بحال من الأحوال ].
أقول: قالوا لهم: بسبب استكباركم في الأرض. لماذا يستكبر الإنسان في الأرض؟ نسي أصله وأنه حامل العذرة في بطنه؟ أصله نطفة مذرة وسخة، ونهايته جيفة منتنة في المقبرة، كيف يستكبر هذا؟ من أين جاء حتى يستكبر؟ إنه استكبار ما هو بمتأهل له، ما له حق في أن يستكبر أبداً وهو يحمل العذرة، ومنشؤه من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة! كيف يستكبر هذا؟ من أين جاء الحق الذي يستكبر به؟
قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية: فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى )[الأنعام:94] أي: واحداً واحداً ( كَمَا خَلَقْنَاكُمْ )[الأنعام:94] حفاة عراة غرلاً، ( وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ )[الأنعام:94] أي: ما وهبناكم من مال وولد ( وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )[الأنعام:94] أي: في دار الدنيا، ( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )[الأنعام:94] وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم، ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ )[الأنعام:94]، أي: انحل حبل الولاء بينكم، ( وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام:94] أي: ما كنتم تكذبون به في الدنيا ] من أنواع الأباطيل والأكاذيب.
هداية الآيات
الآن نستخرج هداية الآيتين فتأملوا:[ أولاً: قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل، وأن صاحبه لا أظلم منه قط ].
الكذب على الله قبيح وبأي شكل، سواء قال: أحل الله، أو حرم، أو قال: أسماء الله كذا يكذب على الله، أو صفة الله كذا، كل ما ينسبه إلى الله والله منه بريء فهو من أقبح أنواع الظلم؛ لأنهم توصلوا إلى استعباد الأمم وعبادتهم بهذه الطريقة، يدعون كذا وكذا يكذبون على الله.
[ ثانياً: تقرير عذاب القبر ]، من أين أخذنا تقرير عذاب القبر؟ من قوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ )[الأنعام:93].
[ تقرير عذاب القبر، وسكرات الموت وشدتها، وفي الحديث: ( إن للموت سكرات )]، فما هي بسكرة واحدة.
[ ثالثاً: قبح الاستكبار وعظم جرمه ]، فجريمة الاستكبار هل هي عظيمة أم لا؟ لا أعظم منها بدليل الآيات.
[ رابعاً: تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا ].
فهاتان الآيتان قررتا هذه، قررتا عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، كيف دلت الآية عليه؟ ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )[الأنعام:94].
[ خامساً: انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء والشهداء بشروط، هي: أن يأذن الله للشافع ] أولاً [ أن يشفع، وأن يرضى عن المشفوع له ].
هذان الشرطان لا ننساهما، والله لا يشفع أحد يوم القيامة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عالم ولا صالح إلا بعد إذن الله تعالى له، وقبل أن يأذن الله مستحيل أن يشفع واحد، قال تعالى: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى )[النجم:26] عن المشفوع له، وإن فرضنا أن عالماً أو نبياً أو ولياً أراد أن يشفع لك، فحينئذ هل هذا الذي تشفع له رضي الله عنه أو سخط، فإن لم يرض الله عنه فوالله ما تنفعه شفاعة، تدخله الجنة والله غير راض عنه؟ فلا بد من هذين الحقيقتين:
أولاً: إذن الله لمن أراد أن يشفع.
ثانياً: أن يكون الله راضياً عن هذا المشفوع له حتى يسمح له بدخول الجنة.
ودلت على هذا آية النجم: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ ( أولاً، ) وَيَرْضَى )[النجم:26].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.







ابوالوليد المسلم 17-09-2021 02:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام
الحلقة (388)
تفسير سورة الأنعام (21)


الله عز وجل ينزل آياته القرآنية والكونية الدالة على وحدانيته وعظمته وقدرته، فهو سبحانه فالق الحبة والنواة وما هو أصغر منها، وهو مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، خالق الليل والنهار، ومقدر الأكوان والأجرام، كل هذا ليبين لعباده أنه سبحانه مستحق العبادة والتمجيد، دون هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها أصحاب القلوب المريضة والعقول الحائرة، التي لا تغني عن نفسها شيئاً فضلاً عن أن تغني عمن يعبدها أو تضره أو تنفعه.
تفسير قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهيا نستمع إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ -بفضل الله- في شرحها وبيان مراد ربنا تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )[الأنعام:95-98]. ‏
أهمية معرفة الله تعالى وطريق تحصيلها
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لنعلم ما قد سبق أن علمناه، ولكننا غافلون وننسى، وحالنا دال على واقعنا، إن معرفة الله عز وجل من الضروريات، والذي لا يعرف الله معرفة حقيقية يقينية أنى له أن يعبده، وكيف يعبده وما عرفه؟معرفة الله لها شأنها، فيجب على كل آدمي ذكراً أو أنثى أن يسأل عن الله حتى يعرفه، فإذا عرفه أحبه أكثر من حبه لنفسه، وخافه أكثر من كل مخوف، وبذلك يسهل عليه أن يعبده عبادة تسعده في الدارين، تكمله وتسعده في هذه الحياة وفي الحياة الآتية التي هي لازمة ولا محالة منها.
ومن طلب الله عز وجل وأراد أن يعرفه فعليه بالكتابين: كتاب الله القرآن العظيم، اقرأ واستمع وتدبر وتأمل تتجل لك صفات الرب الدالة عليه آياته، فتعرف الله بأسمائه وصفاته، ويدلك على معرفته حبك له، وخوفك منه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28].
الكتاب الثاني: كتاب الكون، انظر في هذه الأكوان العلوية والسفلية، هذه النجوم وهذه الأفلاك، هذه الشمس وهذا القمر، انظر إلى هذه النباتات والجمادات، انظر إلى نفسك وما حولك: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )[فصلت:53].
والمعرض الغافل اللاهي كالبهيمة لا هم له إلا الأكل والشرب والنكاح، كيف يعرف ربه؟ فالذي ما طلب ربه لا يجده، ولا يحصل معرفته، فيجب أن نتذكر ونتفكر حتى نعرف الطريق إلى ربنا عز وجل.
معنى قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى)
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث والتي بعدها، حيث يقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95] من يفلق الحب لتخرج منه السنبلة؟ هل هو أبي أو أمي؟ حبة ميتة يفلقها وتخرج منها السنبلة، من يفعل هذا سوى الله؟ ونواة التمر من يفلقها حتى تخرج الفسيلة وتصبح نخلة عالية ذات قنوان وتمور، من يفعل هذا؟ إنه الله تعالى. من يشير إلى كائن بأن هذا فعل فلان؟ فكيف -إذاً- لا يعبد الله تعالى وتعبد الأهواء والشهوات، وتعبد الأصنام والتماثيل والأحجار، أو تعبد الكواكب والنجوم، ويعمى الإنسان عن خالقها ومكونها وموجدها؟
(إِنَّ اللَّهَ )[الأنعام:95] يا من أعرضوا عن ذكره وأقبلوا عن دنياهم وهواهم، وتمثلت لهم الشياطين في أصنام وأحجار وعبدوها، اعلموا أن الله ( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى )[الأنعام:95]، ولا أحد في الكون يفلق الحب ليخرج منه الزرع أو يفلق النواة ليخرج منها الشجرة أو يخرج منها النخلة، من فعل هذا؟ ما هناك جواب إلا الله، إذاً: لم لا يُحب ولا يُخاف؟ لم يلتفت إلى غيره ويترك هو؟
صور من قدرة الله تعالى على إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي
ثانياً: ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ )[الأنعام:95] ولهذا صور: فالنطفة المذرة ميتة، من يخرج منها إنساناً ذكراً أو أنثى، طفلاً أو طفلة؟ هل يد الإنسان؟ أو أطباء الناس؟ أو السحرة؟ الجواب: لا أحد إلا الله، وهذا الإنسان الحي من يخرج منه تلك النطفة المذرة؟ من أوجدها فيه؟ من أخرجها منه؟ إنه الله تعالى.
والحب الميت يخرج الله منه سنابل وأشجاراً، والسنابل والأشجار يخرج منها حباً ميتاً، وأقرب من هذا البيضة تخرج منها الدجاجة، والبيضة ميتة تعبث بها بيدك، فيخرج الله منها الدجاجة حية، والدجاجة الحية تخرج ميتاً، فمن أخرج هذا الميت من هذا الحي؟ هل هناك من يشارك الله في هذا؟ ليس في الكون كله من يفعل ذلك إلا الله، فلهذا يجب ألا يكون معبود العالمين سوى الله تعالى، لم تعبد الأهواء والدنيا والشهوات، وتعبد الأصنام والأحجار، وتعبد بعض المخلوقات كما عبدوا عيسى وألهوه وألهوا أمه، وكما عبدوا اللات والعزى ومناة من أوثان الجاهلية الأولى؟!
معنى قوله تعالى: (ذلكم الله فأنى تؤفكون)

إن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ( ذَلِكُمُ اللَّهُ )[الأنعام:95]، ذلكم الذي يفعل ما سمعتم هو الله، إذاً: ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )[الأنعام:95] كيف تصرفون عنه إلى غيره؟ كيف تصرفون عن معرفته، عن طلب حبه ورضاه، كيف تصرفون عنه إلى الأوثان والأصنام والشهوات والأهواء؟ ( فَأَنَّى ) كيف، يا للعجب! كيف يؤفكون؟ من يأفكهم ويصرفهم؟ الشياطين هي التي تلعب بقلوبهم وبنفوسهم.عجب هذا! ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )[الأنعام:95] كيف تصرفون عن الله عز وجل وتعبدون غيره؟ أو كيف تصرفون عن عبادته وذكره وتلتهون بالأباطيل والألعاب وتنسون ربكم؟ أمر عجب.
تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً...)
وقوله: ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ )[الأنعام:96] الإصباح: الصبح، فمن يفلق رأس الليل ويشقه ويخرج منه الصبح؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولو اجتمعت يد البشرية كلها والإنس والجن على أن يأتون بالفجر الآن فهل يستطيعون؟فمن يفلق ذلك الظلام ويشقه ويخرج منه نور الصباح؟ من يفعل هذا سوى الله؟ كيف لا يتعرف إليه، كيف لا يعبد؟ كيف لا يذل له ويخضع؟ لولا أن الشياطين تعبث بقلوب الإنس والجن لتصرفهم عن الحق ليعبدوا الباطل.
(فَالِقُ الإِصْبَاحِ )[الأنعام:96]، وتعرفون قولهم: فلق رأسه، أي: أخرج مخه، فظلمة الليل كيف تفلق ويخرج منها الصبح والإصباح؟ هل يد إنسان تفعل هذا؟ لو اجتمعت البشرية كلها فلن تفعل هذا، والله تعالى يفعل هذا لماذا؟ هل لأنه في حاجة إليه؟ لا والله، ولكنه من أجلك يا ابن آدم، من أجلك أيها الإنسان، فاذكر هذه النعمة واشكر الله عليها.
(فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )[الأنعام:96] تسكن فيه الأبدان والأرواح، وتسترجع ما فقدته في عمل النهار، فيسكن كل شيء في الإنسان ويهدأ ويستقر، وينام نوماً يعوضه طاقاته التي بددها في النهار في أعماله.
مخالفة الناس السنة الإلهية والنبوية بالسهر في الليل لغير حاجة ومصلحة
ونحن ما شكرنا هذه النعمة، والذي نشكوه أننا حولنا الليل إلى نهار، عكسنا مراد الله، أحلف بالله لو كنت أملك الأمر لما زدت في الكهرباء من بعد العشاء فوق ساعة ونصف، الآن أطفالهم وأولادهم يلعبون طول الليل، ونساؤهم ورجالهم يسهرون، نعكس مراد الله! هل يليق هذا؟ هل رسول الله ما علم؟ لقد نهى رسول الله المؤمنين عن الحديث والتحدث بعد صلاة العشاء ليناموا، ولم يسمح إلا بمؤانسة ضيف أو طلب علم أو زوجة تلاعبها، نهى عن النوم قبل صلاة العشاء، فمكروه أن تنام قبل صلاة العشاء، ونهى عن الحديث بعد صلاة العشاء، هذه هي التعاليم المحمدية، ونحن عكسنا فأصبح الليل كله كالنهار، وتأتي عجائب المفاسد والشرور، وخاصة الأحداث الذين يتيهون في الليل، ولو كان الظلام دامساً عاماً فهل هناك من سيخرج؟
في أوروبا يختلف الوضع عنه عندنا، إذا جاء الليل يقل ذلك النور وذلك الهيجان، ودعنا من الكفار، فنحن نقول: امتن الله علينا بأن جعل الليل سكناً، فقلنا: نجعله حركة، بدل السكون حركة، ثم لو كنا نعمل بجد فنصنع وننتج مضطرين فإنا نقول: ممكن أن يعفو الله عنا، فنحن في حاجة إلى هذا العمل، لكن السهر كله لهو وأحاديث وأباطيل، المفروض أنه إذا صلينا العشاء نغلق أبوانا، لا دكان ولا مصنع ولا معمل، والناس في بيوتهم يذكرون الله وينامون ليستيقظوا آخر الليل، وعلى الأقل يستيقظون مع الفجر ليصلوا صلاة الصبح.
الآن كفرنا هذه النعمة وجحدناها، وأنكرناها وما بالينا بها، ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )[الأنعام:96] يسكن فيه الإنسان براً أو فاجراً، كافراً أو مؤمناً، من فعل هذا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه.

يتبع



الساعة الآن : 03:32 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 649.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 647.67 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.27%)]