ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 17-07-2021 04:13 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من معصيتهما
ثم قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، هذه وصية الله في هذه القضية، ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )[المائدة:92]، فيم؟ فيما يأمرانكم وينهيانكم، الطاعة تكون في الأمر والنهي، ما أمركم بفعله فافعلوه، وما أمركم بتركه فاتركوه، ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]، احذروا عواقب المعاصي فإنها شؤم وبلاء وعذاب، فالذين يعصون الله ويخرجون عن طاعته يتمزقون، يخسرون حياتهم وآخرتهم، فلو أن شخصاً ما حذر وأصر على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فهل سيسعد هذا؟ سيخسر خسراناً أبدياً. ثم قال تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ )[المائدة:92]، أي: أعرضتم وما سمعتم ما أمرناكم ونهيناكم؛ إذاً: ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92]، وقد بلغ وبين لكم.
أولاً: احذروا معصية الله ورسوله، حرم عليكم الخمر والميسر فيجب أن تجتنبوه وتتركوه، فإن أبيتم وتوليتم وأبيتم أن تستجيبوا فما على الرسول إلا البلاغ، وقد بلغ والعقوبة ستنزل عليكم.
تفسير قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ...)
ثم جاءت الأخيرة: وهي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما نزلت هذه الآيات فحرمت الخمر تحريماً قطعياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن إخوانه الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، كان الأصحاب يشربون الخمر إلا من ندر، أبو بكر ما شربها ولا لعب الميسر، لكن أكثر الناس كانوا يلعبون، ثم ماتوا قبل أن ينزل التحريم، فقال أبو بكر : ما حكمهم؟ هل هو ذنب يؤاخذون به أم لا؟ فنزلت هذه الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ )[المائدة:93] أي: إثم، ( فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، شربوه أو أكلوه، بشرط: الإيمان والعمل الصالح، أما الكافر والفاسق والفاجر فلا شأن له في هذا الباب، لكن المؤمن التقي العامل الصالحات الذي شرب الخمر ولعب الميسر قبل أن يحرم الله ذلك، ومات قبل نزول الآية، هل عليه إثم؟ قال تعالى: لا جناح، والجناح: الإثم، من جنح إلى الشيء: إذا مال إليه، فلا جناح عليه بهذا الشرط: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:93] أولاً ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ثانياً ( جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، وأكد هذا بقوله: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، وهذا يتناول أيضاً الأحياء الذين شربوه وما ماتوا حتى حرمت، وهذا التأكيد للتكرار عجيب.أعيد الآية: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93]، بشرط: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، هذا يدل دلالة قطعية على أن هذه المحرمات الأربعة من أعظم الذنوب في الإسلام، وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وحسبنا أن يقول ربنا: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، فكيف تبيح لنفسك شربها أو تعاطيها أو عملها؟ ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )[المائدة:90]، وفوق ذلك: ( فَاجْتَنِبُوهُ )[المائدة:90].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
والآن أسمعكم ما جاء في الشرح لهذه الآيات الأربع. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بين لهم ما حرمه عليهم، ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره وإفساده لقلوبهم وأرواحهم ]، لأن الآيات السابقة أحلت لهم الطيبات، [ فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:90]، أي: يا من صدقتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً! اعلموا ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ )[المائدة:90]، أي: سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزينه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد، وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91].
وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا )[المائدة:92] مغبة ذلك ] أي: ذلك العصيان، [ ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم ] ولا يضره ذلك [ إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلغ، وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )[المائدة:92].
وقوله تعالى في الآية الأخيرة: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:93] ] هؤلاء الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل أن يحرم الله ذلك [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93] ]، هذا يتناول الأحياء الذين كانوا يشربونها ثم تركوها، بشرط التقوى والإيمان أيضاً والإحسان، [ ( ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )[المائدة:93]، فقد نزلت لقول بعض الأصحاب ] وقد روي أنه الصديق رضي الله عنه [ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟ أي: كيف حالهم، فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأعلم أنهم ليس عليهم جناح -أي: إثم أو مؤاخذة- فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه، فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر في الآية: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا )[المائدة:93]، كما لا جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم وبشرط الإيمان والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص لله عز وجل ].
هداية الآيات
الآن مع هداية الآيات، إذ لكل آية هداية تهدي المؤمنين إلى ما يحب الله ويرضى وإلى ما يسعدهم ويكملهم:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: حرمة الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام ]، كل هذه محرمة، تعظيم الأنصاب كما قدمنا كالتذكارات التي ينصبونها ويعظمونها.
[ ثانياً: وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً، وقول: انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه ]، لو أن أحداً بيننا كان يتعاطى واحدة من هذه كان عليه أن يقول: انتهيت يا رب من الليلة.
[ ثالثاً: بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر ]، حرم هذه الأربعة لعلة، لحكمة، ليس تحريماً بلا معنى، قال: [ وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية ]، فهذا التعليل ما بعده تعليل، فمن قال: لم؟ فهذا الجواب.
[ رابعاً: وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما ]، أما قال تعالى: ( وَاحْذَرُوا )[المائدة:92]؟
[ خامساً: وجوب التقوى حتى الموت ]، لا يتقي عاماً ويفجر عاماً آخر، بل يتقي الله ويواصل تقوى الله حتى يأتيه الموت وهو تقي لله.
قال: [ ووجوب الإحسان في المعتقد وفي القول والعمل ]، وجوب الإحسان في ثلاثة: في المعتقد، يكون اعتقاده سليماً صحيحاً، خالياً من الشكوك والاضطرابات والأوهام والخرافات والبدع والضلالات.
وفي قوله: يجب أن يحسن القول، فلا يقول إلا المعروف ولا يتكلم إلا بالحق، ويجعل ذلك لله هو الذي يجزيه به، وفي العمل: كل أعمالنا التعبدية الإحسان واجب فيها، الذي لا يحسن الوضوء وضوؤه باطل، ما يحسن الصلاة فصلاته باطلة، لا بد من الإحسان، والذي يحقق الإحسان لنا هو مراقبة الله عز وجل، عندما نتوضأ من الحنفية إذا ذكرنا الله عز وجل أغلقناه، والذي لا يذكرونه يتركونه يسيل حتى يتوضئوا إلى هذا الحد، تذكر الله فتخاف كيف يسيل هذا الماء الضائع؟ فمراقبة الله عز وجل أقوى العوامل على الاستقامة، واذكروا لذلك قول الله تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، هذه مقومات الاستقامة للعبد، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، غير ما مرة نقول: أرني مؤمناً يذكر الله ثم يسب أو يشتم، يذكر الله ويتناول المحرم فيأكله، يذكر الله ويؤذي مؤمناً بيده أو بلسانه؟ لا يفعل ذلك إلا الناسي البعيد عن ذكر الله، وأعظم من ذلك في قوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، هذه المراقبة، إذا علمت أن الله يعلم ما تصنع من الخير والشر، في الليل أو في النهار، إلا إذا كنت نائماً، فكل حركاتك وسكناتك الله يراها، فمن رزق هذا المراقبة لله أحسن وحقق الإحسان؛ إذ الرسول سئل عن الإحسان ما هو؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، الذي ينظر إلى الله وهو يراه هل يستطيع أن يعبث في عبادته؟ هل يقدم أو يؤخر، أو يزيد أو ينقص؟ ما يستطيع، فإن عجز العبد عن هذا المقام السامي فليعبد الله وهو يعلم أن الله يراه، اعلم أن الله يراك فقط، إذا عجزت أن تعبده كأنك تراه، والذي يرى أن الله ينظر إليه -والله-يستحي، يخجل، يخاف ويرهب وما يواصل العبث أبداً، ما يرتكب الجريمة، والشيطان هو الذي يلهيهم عن ذكر الله بأية واسطة، ومن وسائط الإلهاء: اللهو واللعب، وهو مشاهد، والله تعالى نسأل أن يجنبنا هذا اللهو وهذا الباطل.
تنبيه على كذب رسالة يطلب نشرها للآخرين
معاشر المستمعين والمستمعات! قدمت لنا هذه الورقة، فإليكموها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلوا عليه وسلموا تسليماً، يقول الكاذب أو الكاذبة: فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً مريضة جداً، الأطباء عجزوا عن علاجها، وفي ليلة القدر - ولا ندري كيف عرفتها- بكت الفتاة بشدة ونامت، وهي في منامها جاءتها السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها وأعطتها شربة ماء، ولما استيقظت من نومها وجدت نفسها شفيت تماماً بإذن الله، ووجدت قطعة قماش مكتوب عليها: أن تنشر هذه الرسالة وتوزعها على ثلاثة عشر فرداً، ووصلت هذه الرسالة إلى عميد بحري، فوزعها أيضاً على ثلاثة عشر فرداً فحصل على ترقية عالية في وظيفة خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى تاجر فأهملها فخسر كل ثروته خلال ثلاثة عشر يوماً، ووصلت إلى عامل فوزعها فحصل على ترقية، وحلت جميع مشاكله خلال ثلاثة عشر يوماً!
ويقول هذا الكاذب: أرجو منك -يا أخي المسلم- أن تقوم بنشرها وتوزيعها على ثلاثة عشر شخصاً، الرجاء عدم الإهمال، الإمضاء: أم الفتاة.
ملحوظة هامة: قالت: قمت بنشر هذه الرسالة لمجرد أنها تحتوي على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وفقنا الله وإياكم إلى خير الأمة.
وأقول: والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب.. والله! إنه لكذب، ما وقع هذا ولا يقع هذا، وهذا كله من التدجيل والكذب والعياذ بالله، فاحذروا، ومن حصل عليها فليمزقها وليلعن صاحبها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


ابوالوليد المسلم 17-07-2021 04:14 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (43)
الحلقة (454)
تفسير سورة المائدة (49)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون والمؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي بعدها -إن شاء- الله ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، ذات الأحكام الشرعية العديدة، بالأمس عرفنا ما حرم الله تعالى علينا من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وأمرنا بالانتهاء فقلنا: انتهينا يا ربنا، فمن كان منا يتعاطى شيئاً من هذه أعلن عن توبته؛ لأن عمر كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فلما نزلت: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، قال: انتهينا يا ربنا.. انتهينا يا ربنا.
وعرفنا أن الذين شربوا الخمر ولعبوا الميسر قبل تحريمهما لا إثم عليهما بشرط أنهم مؤمنون متقون، والذين شربوها وتعاطوها بعدما نزل تحريمها هؤلاء إن تابوا تاب الله عليهم، وإن أصروا على هذا فهم فساق فجرة أمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم.
وفي هذه الليلة مع هذه الآيات، فهيا نسمع تلاوتها متدبرين متفكرين قبل أن نتناول شرحها وتفسيرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:94-96]، تحشرنا الملائكة وتجمعنا لساحة القضاء وفصله.
غاية الابتلاء بالصيد
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، هذا نداء الله لعباده المؤمنين، ناداهم ليعلمهم بما لم يكونوا يعلمون؛ إذ قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، والابتلاء الاختبار، من أجل أن تتجلى حقائق الإيمان في نفوس المؤمنين، بدون ابتلاء كل الناس يقولون: إنهم صالحون مؤمنون، فالابتلاء اختبار بأمور قد تكون صعبة على النفس، فإن حمل الإيمان صاحبه على أن يمتثل أمر الله تجلى إيمانه وصح منه، وإذا عجز ولم يمتثل أمر الله بالفعل أو الترك فإيمانه ضعيف أو مشكوك فيه، الله عز وجل قد علمنا قبل أن نكون وعلم منا الصالح والطالح والبار والفاجر، ولكن هذا الابتلاء اختبار نحن الذين نعرف حقيقته، أما الله فقد علم الصالح منا والطالح، قبل أن يخلق السماوات والأرض، إذ كتب ذلك في كتاب المقادير، ولهذا يقال: هذا علم ظهور؛ لتظهر حقيقتنا بين يدي الله والناس. وما قال: ليبلوكم الله بالصيد، قال: ( بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، لا بكل الصيد.والصيد: هنا مصدر صاد يصيد صيداً، وأطلق المصدر على الاسم، الصيد بمعنى: المصيد الذي صيد، ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، هنا الابتلاء على حقيقته، بحيث تتناول هذه الصيد بيديك، كالبيض وكالفراخ الصغيرة التي ما تحتاج إلى أن ترميها، تنالها بيدك، وأما الغزال والظباء وحمار الوحش فهذه كلها ما نتناولها بأيدنا، لكن الذين نتناوله بأيدينا: البيض، وصغار الغزلان، تلك الحيوانات التي بإمكانك أن تتناولها بيدك، وأخرى ما نقدر على تناولها إلا بضربها بالنبال والرماح.
(تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، والعلة: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94]، لم شرع الله هذا وألزم المؤمنين به؟ شرعه ابتلاءً لهم ليظهر المؤمن الصادق الذي يؤمن بالله غيباً، ويظهر من لا يخاف الله بالغيب، هذه هي العلة، ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، الذي يصيد بعدما حرم الله الصيد ابتلاءً لنا وامتحاناً ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، والله إذا قال: العذاب الأليم فهو عذاب ما يطاق، الذي يستبيح ما حرم الله كبراً وعناداً هذا انسلخ من إيمانه وإسلامه، ولهذا يذوق العذاب الأليم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، بعضه تناله الأيدي وبعضه تناله الرماح، ما كان من صغار الطير وفراخه وبيضه فباليد، وما كان من كبار الغزلان والظباء فلا بد من الرمح، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ )[المائدة:94]، هذه لام التعليل، لماذا ابتلانا بهذا الابتلاء؟ من أجل أن يعلم منا علم ظهور من يخافه بالغيب ومن لا يخافه، فمن خاف الله ولم يصد فله جزاء عمله، ومن اعتدى بعد ذلك وصاد ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94].
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ...)
النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، الحرم: جمع حرام، فلان حرام إذا هو أحرم، والمرأة حرام والنساء حرم، ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أما إن كنتم حلالاً فالأمر واسع إلا ما كان من الصيد داخل الحرم، فلا يجوز صيده لا للمحل ولا للمحرم، ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، أي: محرمون بحج أو عمرة، وسواء كنتم في الحرم أو غير الحرم حول المدينة، إذا لبى: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة؛ فلا يحل له أن يصيد حيواناً قط.
جزاء العمد في قتل الصيد
ثم قال تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فما الحكم؟ قال: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، جزاؤه مثل ما قتل، فالغزالة يحكم فيها بالشاة، وبقرة الوحش فيها بقرة إنسية، والنعامة بالجمل والبعير، ولا بد أن يكون هناك عدلان من رجال المؤمنين هما اللذان يقدران ويحكمان، ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: من المؤمنين، لا يحكم في هذا كتابي ولا مشرك ولو كان أعلم منا، منكم أيها المؤمنون، ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخيرون. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )[المائدة:95]، الهدي ما يهدى إلى الحرم كما قدمنا، قد يكون بقرة، قد يكون بعيراً، قد يكون شاة، هذه الأبقار أو الأغنام أو الأبعرة تبعث إلى مكة وإن كنا سقناها في طريقنا قبل مكة بكذا ميلاً، لا بد أن تساق إلى الحرم ولا يصح أن تذبح أو بغير الحرم؛ لأن رب البيت هو الذي أراد أن يكرم أهله.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ )[المائدة:95]، إذا ما حصل على البعير أو البقرة أو الشاة فإنه يقدر هذا البعير بكم؟ ثم يشترى بقيمته طعاماً، والأفضل في الطعام أيضاً أن يساق إلى مكة، ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، فإن عجز قدر الطعام كم صاعاً ويصوم عن كل صاع يومين، بهذا التخيير.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، ما يعد ذلك صياماً، كل نصف صاع يصوم عنه يوماً، وإذا تجاوز الستين يوماً فأكثر أهل العلم أنه يعفى عنه؛ لأن الكفارات ستون يوماً، في الظهار وفي غيره.
وقوله: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: كلفه الله عز وجل بما يكفر ذنبه من أجل أن يذوق وبال أمره، أي: ثقل أمره؛ لأنه محرم، والمحرم مشغول بذكر الله وبعبادة الله، فيشتغل بالصيد ويطارده ويأخذه فهذا أمر لا يطاق، فلهذا شرع الله لهم هذا الحكم الثقيل، ليذوقوا وبال أمرهم، فالمحرم في الحقيقة كالذي دخل في صلاة وإن كان يأكل أو يشرب للضرورة، لكن كونه يضحك ويلهو ويعلب ويصيد فهذا يتنافى مع الإحرام أبداً.
معنى قوله تعالى: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه...)
ثم قال تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي فعلتموه قبل هذه الآية نعفو عنكم، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95] مضى، كما عفا عمن شربوا الخمر قبل أن تحرم، كذلك هؤلاء أعلن عن عفوه عنهم. (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، هنا اختلف أهل العلم، فالجمهور على أنه كلما عاد فعليه الكفارة، ولو عشرين مرة، ومنهم من يقول: الآية تقول: من عاد فركب رأسه وتعمد لا تؤخذ منه كفارة، هذا يترك لله ينكل به ويعذبه؛ لقوله: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، يتركونه لانتقام لله. ومنهم من يقول: يؤدي الواجب في هذه الكفارة وأمره إلى الله، وهذا أقرب إلى توبته، وإلا فقد شجعناه فيصبح يصيد الليل والنهار.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، لا يمانع فيما يريد، لا يغلب فيما يريد أن يفعل، حكيم في انتقامه وفي نفعه وضره.

يتبع


ابوالوليد المسلم 17-07-2021 04:14 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ...)
والآية الأخيرة: يقول تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، أعلن تعالى لعباده المؤمنين: أنه أحل لهم صيد البحر، فالذي يركب السفينة ويحرم من رابغ ويأتي بها إلى ميناء جدة له أن يصيد وهو راكب في البحر، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، وطعام البحر: السمك والحوت وغير ذلك، والجمهور -ومذهبهم هو الحق- على أن ميتة البحر حلال، بدليل العنبر الذي أخذه الصحابة وجاءوا باللحم للرسول وأكل منه، لكن إن كان لحم حيوان مستقذر فلا، لكن إن كان سمكاً وحوتاً ميتاً على الشاطئ فهو حلال، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، للمقيمين وللمسافرين على حد سواء، هذا امتنان من الله عز وجل على عباده المؤمنين، ( أُحِلَّ لَكُمْ )[المائدة:96]، من يحلل أو يحرم؟ الله عز وجل، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ما يصاد من البحار من أنواع الأسماك على اختلافها وحيوانات البحر، ( وَطَعَامُهُ )[المائدة:96]، ما يلقيه من الحيوانات ميتاً، ( مَتَاعًا لَكُمْ )[المائدة:96]، تتمتعون به، ( وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، أي: المسافرين السائرين في الأرض، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، وحرم علينا صيد البر ما دمنا حرماً، فإذا تحللنا وأنهينا العمرة أو الحج فالصيد حلال، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإذا تحللتم بانتهاء العبادة فصيدوا إن شئتم، وكانوا يعيشون على الصيد، وكانت أقواتهم وأرزاقهم قليلة جداً، فأكثرهم يعيش على ما يصيد، وقد كان إسماعيل يترك هاجر في الكعبة ويغيب كذا يوماً، فيأتي بغزال أو بظبي، أما أن نصيد للهو فقط والعبث فهذا غير صالح، وقالت العلماء: هؤلاء الذين يخرجون للصيد للهو لا يصح أن يقصروا الصلاة ولا أن يفطروا في رمضان؛ لأن هذا السفر غير سليم ولا صحيح، أما إذا كانوا يصطادون للقوت فلا بأس، أذن الله تعالى فيه بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ )[المائدة:96]، ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن حللتم فهو حلال، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، واتقوا الله في هذه الأوامر والنواهي، لا نسمعها فنهملها ولا نبالي بها، اتقوا الله: خافوه، ومن خوفه ألا نخرج عن طاعته فيما أمر أو فيما نهى أو فيما أذن وأباح فنحرم ما أحل الله، وقوله: ( الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، تأكيد لهذا الأمر، خف الذي سوف ترجع إليه وتقف بين يديه، طال الزمان أو قصر.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
الآن نستمع إلى الشرح من الكتاب:يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ]، قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، ناداهم أم لا؟ [ ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم؛ ليظهر المطيع من العاصي ]، فلولا هذه التكاليف فكيف سنعرف البار من الفاجر أو الصالح من الفاسد أو المؤمن من غيره؟ كل التكاليف ابتلاء وإن كانت نتائجها معروفة، العمل بها يزكي النفس ويؤهل لدار السلام، وهجرها وتركها والكفر بها يخبث النفس ويؤدي بصاحبها إلى دار البوار والهلاك.
[ فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ )[المائدة:94] ] ومن لا يخافه، فينكشف الأمر، ما إن نزلت هذه الآية حتى تجلى المؤمن من الكافر والمؤمن من المنافق، [ فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم، ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت ]، بنو إسرائيل حرم عليهم صيد السمك يوم السبت تحريماً كاملاً، ولما لم يستطيعوا أن يثبتوا على ما حرم الله وتجاوزوا حد الله وصادوا بالحيل مسخهم قردة وخنازير.
قال: [ على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت، فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم، كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون ]، فلهذا لما حرم الله على المؤمنين المحرمين أصبحت الغزلان والظباء والحيوانات تدخل بين أرجلهم، كانت لا تظهر إلا في الغيران وفي الكهوف، لما حرم الله هذا أصبحت تجري أمامهم ابتلاء، أما قال: ليبلونكم؟ فبنو إسرائيل امتحنهم بترك الصيد يوم السبت، فلما حرم عليهم الصيد يوم السبت أصبح السمك يعلو ويقف ويهبط في الماء؛ حتى كانت نفوسهم تهيج، تغريهم الأسماك بنفسها، فما صبروا، واحتالوا ووضعوا الشباك ليلة السبت وأخذوها صباح الأحد، احتالوا على شرع الله عز وجل، فمسخ الله منهم قردة وخنازير. والحمد لله، فنحن ابتلانا بشيء بسيط، أولاً: في حال الإحرام فقط، والآن إحرامنا كله ساعات، أما هم فحياتهم متوقفة على السمك وأكثر معاشهم، فلما أراد أن يبتليهم ويختبرهم ومنعهم من الصيد يوم السبت أصبح يوم السبت يظهر السمك فيه بصورة عجب على سطح الماء؛ إغراءً لهم.
قال: [ بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.
وقوله تعالى: ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، أي: فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم ] موجع، وهو عذاب يوم القيامة، [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء، فقال: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، فالحكم الواجب على من قتله جزاءً ( مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95]، وهى: الإبل والبقر والغنم، ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم، فالنعامة تشبه الجمل، وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا، فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة لفقراء الحرم فليفعل، وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً، لقوله تعالى: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، وقوله تعالى: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل جزاء مخالفته ] وهو العذاب الأليم، [ وقوله تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، أي: ترك مؤاخذتكم على ما مضى ] قبل تحريم الصيد على المحرم، [وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95] ] أمر عظيم هذا، ( وَمَنْ عَادَ )[المائدة:95] بعد ما عرف فالله ينتقم منه، وقد يصيبه البلاء في الدنيا، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95]، [ ومعناه: أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل، ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الثالثة: فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم، وأوجب الجزاء على من صاد، أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر، أي: ما يصيدونه من البحر وهم حرم، كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله ]، والرسول يقول في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
وقوله: [ ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:96]، وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم، ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه، أي: بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96] ].
هداية الآيات
هيا مع هداية الآيات، ونسترجع ما علمناه:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم ]، سنة ست عام الحديبية كانوا في حاجة إلى الصيد، خرجوا معتمرين فانقلب خروجهم إلى حرب، وابتلاهم فحرم عليهم الصيد، فكانت الظباء وكانت الأرانب والحيوانات تدور بين أيديهم وأرجلهم وصبروا وثبتوا.
قال: [ وحرم عليهم صيده، فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم ]، إي والله.
وهنا مسألة أخرى: لو أن رجلاً أو امرأة صاد لنفسه وهو حلال وقدم لك فهل تأكل أو لا تأكل؟ الجواب: يحل لك أن تأكل، أما إذا صاده من أجلك فلا يحل لك أن تأكل، وكذلك أذا قلت: أنا لا أصيد، لكن تشير إليه تقول: اضرب الغزال عندك، فهذا لا يحل أكله؛ لأنك ساعدت على صيده، فقط إذا صاد الصائد ولا يريدك ولا يريد أن يعطيك، لكن لما حصل عليه طلبت منه طعاماً فيحل لك أن تأكل؛ لأنه ما صاد وهو محرم ولا صاده من أجلك.
[ ثانياً: تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر، فإنه مباح له ]، يصيد كما شاء فإنه مباح.
[ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم، وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم ]، لا بد من عدلين في القضية، حتى ولو عرفنا أن أصحاب الرسول حكموا بكذا وكذا، لابد من عدلين في قضيتك، غفلت أو استهواك الشيطان فصدت حيواناً فلا بد أن تقدم قضيتك لاثنين من عدول المؤمنين وهما يحكمان بما يعلمان، وقد عرفنا أن بقر الوحش ببقر الإنس، النعام بالإبل، الغزال والظباء بالتيس من الماعز، إلا حمام الحرام فالحمامة بشاة، العقبان والطيور الأخرى تقدر بقيمتها، إلا الحمام فالحمامة بشاة، وإذا قتل طفل حماماً الطفل غير مكلف، كيف يؤاخذ أبوه بعمل ابنه؟
نقول: إذا صاد حمامة ففيها شاة، حكم بهذا رسول الله وأصحابه، ما عدا هذه يقدره العدلان، وقد عرفنا أننا مخيرون بين أن نشتري الشاة أو البعير أو البقرة ونسوقها إلى مكة؛ ليطعمها أهل الحرم، وإن شئنا اشترينا بقيمتها طعاماً، أرزاً أو دقيقاً أو تمراً، ووزعناه على الفقراء والمساكين وفي الحرم أولى من غير الحرم، وإن شئنا صمنا بقدر كل صاع يومين، بقدر نصف الصاع يوماً، إلا إذا كانت الكمية كبيرة وتجاوزت ستين يوماً فتكتفي بالستين يوماً ويعفى عن الباقي.
وهنا حكم: وهو أن من صاد وكفر ثم عاد من جديد فهذا قد يترك لله، ولكن أكثر أهل العلم على أنه يخرج الفدية؛ لقول الله تعالى: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )[المائدة:95]، معناه: اتركوه لله، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )[المائدة:95].
عرفنا أيضاً مسألة أنه: إذا أهدي إليك طعام وأنتم محرم أو في الحرم وكان فيه لحم وأنت ما أمرته به، ولا صاده من أجلك يجوز أكله، لكن إذا أشرت إليه أو شجعته أو قلت له: صد لنا كذا، فصاد من أجلك فلا يحل أكله.
ولو صدم شاة أو غزالاً بسيارته وهو محرم فلا دخل لذلك في باب ما حرم الله من أكل الصيد هنا، هذه لها جزاء كغيرها من الأشياء، إذا كان متعمداً وكانت له قدرته على أن يصرف دابته أو سيارته وقتلها فعليه الجزاء قيمتها.
قال: [ ثالثاً: بيان جزاء من صاد وهو محرم ]، أما من صاد وهو حلال فلا شيء عليه، إلا إذا كان صاد في الحرم المكي والحرم المدني، فلا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم سواء كان حلالاً أو حراماً، لو تأتي غزالة على بابك وتنام على العتبة فلا يحل لك أن تطردها وأنت في المدينة أو في مكة، وجدت حيواناً تحت ظل شجرة في وادي العقيق وأنت تحتاج إلى الظل فلا يجوز أن تبعده لتجلس مكانه في الحرمين، فالحرم المكي حرمه إبراهيم بإذن الله تعالى، والحرم المدني حرمه رسول الله بإذن الله عز وجل، والمدينة حرام من عير إلى ثور، لا يختلى خلالها ولا يصاد صيدها مطلقاً. فالصيد في الحرم حرام سواء كنت محرماً أو غير محرم، الصيد في الحرمين حرام دائماً، لكن الصيد في غير الحرمين حرام عندما تكون محرماً.
[ رابعاً: وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ]، لا يقول: أنا أعرف، ولا نحتاج إلى فلان وفلان، بل طاعة لله عز وجل وامتثالاً لأمره لا بد من اثنين يحكمان عليك، ولا بد أن تسلم بهذا، وقد تعجب مرة أحد الأصحاب من عمر فقال: أنت الحاكم وتأتي بمن يحكم!
قال: [ وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه ]، من نفسه يعطي البدل، لا بد من اثنين من أهل العدل يحكمان بالشاة أو بالبعير أو بكذا.
[ خامساً: صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال ]، هذا الذي قررناه، أما صيد الحل فلا يحرم إلا على المحرم فقط، من خرج وراء الحرم فله أن يصيد إذا كان غير محرم، أما وهو محرم فلا يحل له أن يصيد.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
إذاً: نستمع مرة ثانية إلى الآيات المباركات وماذا علمنا منها، وتأملوا، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:94]، لبيك اللهم لبيك، ( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ )[المائدة:94]، قلت لكم: في الحديبية صارت الظباء والأرانب تجري بين أيديهم، هذا هو الابتلاء، ( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ )[المائدة:94]، أي: بعضه تناله أيديكم وبعضه تناله رماحكم، وما الحكمة في ذلك وما السر؟ قال: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ )[المائدة:94]، من أجل أن يعلم الله علم ظهور لنا أن فلاناً يخاف الله، وفلاناً لا يخاف الله عز وجل، فالذي امتنع عن الصيد وهو قادر عليه هذا مؤمن، والذي ما امتثل أمر الله انكشف أيضاً ضعفه في إيمانه، ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[المائدة:94]، من أهل العلم من يقول: لا نأخذ منه فدية، يترك لعذاب الله، لكن أكثر أهل العلم يقولون: تؤخذ منه فدية، على الأقل تخفف من ذنبه، هذا الذي يعتدي في المرة الثانية.وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:95]، بيان متى يحرم علينا الصيد، والحرم: جمع حرام، أنا حرام ما دمت محرماً، ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ )[المائدة:95]، أي: الصيد ( مُتَعَمِّدًا )[المائدة:95]، وهنا اختلفوا في الذي يصيد بغير عمد، فالجمهور على أنه عليه الجزاء متعمداً وغير متعمد؛ إذ ليس من المعقول أنه محرم يقول: لبيك اللهم لبيك ويقتل صيداً ما هو بمتعمد قتله، قد يكذب علينا يقول: ما عرفت؛ لأن حالة الإحرام تمنعه من أشياء كثيرة وهو في عبادة، فكيف يأخذ الصيد ويقول: أنا ما تعمدت؟! ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )[المائدة:95]، مخير بين الثلاثة؛ ( لِيَذُوقَ )[المائدة:95]، هذا الذي لزمته الكفارة، ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ )[المائدة:95]، أي: ثقل أمره، ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ )[المائدة:95]، الذي مضى قبل التحريم عفا الله عنه، ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ )[المائدة:95-96]، فقولوا: الحمد لله. حرم علينا الصيد ونحن محرمون، وأحل لنا الحوت طول العام، صيد البحر حل مطلقاً، فلا تقولوا: ضيق علينا، ما هي إلا أيام، ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فقط، والبَر مقابل البحر، والبِر مقابل الشر، والبُر مقابل الشعير، بالضمة والكسرة والفتحة تختلف المعاني، البَر: الصحراء، البُر: القمح، البِر: الخير، قال تعالى: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )[المائدة:96]، فإن تحللتم فصيدوا ما شئتم أن تصيدوا، لكن ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )[المائدة:96]، فيم نتقيه؟ في هذه الأوامر والنواهي، نفعل المأمور ونتخلى عن المنهي، وبذلك اتقينا الله عز وجل.

اللهم قنا عذابك.. اللهم قنا عذابك، وارض عنا يا رب إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.



ابوالوليد المسلم 17-07-2021 04:15 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (44)
الحلقة (455)
تفسير سورة المائدة (50)

امتن الله عز وجل على العرب في الجاهلية أن وفر لهم الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، وذلك بسبب وجود البيت الحرام، والأشهر الحرم، والهدي، والقلائد، والتي كانت تقوم مقام السلطان عند العرب، وتذكير العرب بهذه الفضائل والخصائص ليعلموا أن الله عليم بكل ما ينفع عباده ويصلح أحوالهم، سواء قبل إرسال الرسل أو بعده، وأنه حين يرسل الرسل فإنما يرسلهم لتبليغ الناس مراد الله عز وجل وأمره.

تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفضل يا ذا الفضل العظيم.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها وندبر ونتفكر ثم نأخذ في شرحها وبينان مراد ربنا تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، أربعة، ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:97-100]، (لَعَلَّكُمْ): هذه (لعل) الإعدادية، يعدكم للفلاح.
تعريف الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد

قول ربنا: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، ما هي الكعبة؟ البيت الحرام. لم سميت كعبة؟ لأن العرب يسمون البناء المربع: كعبة، مع النتوء والعلو ككعب الرجل لنتوئه وظهوره، فهي كعبة لكونها مربعة البناء، وهي كعبة لكونها ناتئة وظاهرة، وقد تقدم لنا الحرم، والكعبة هي أصله، فكل ما حولها -حوالي عشرين كيلو متر غرباً وثلاثين شرقاً-كلها حرم، وهي بيت حرام لا يحل فيها باطل ولا منكر ولا ضلال ولا فساد ولا شر.(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا )[المائدة:97]، قياماً وقواماً بمعنى واحد، من قام يقوم، أي: حياة أهل مكة قائمة على أساس البيت؛ لأنه يحج ويعتمر ويأتيه الناس من الشرق والغرب، فبذلك فاز ساكنو الحرم بهذه المكرمة؛ لأنهم والوا الله في بيته، إذاً: فهو هيأ لهم سبل عيشهم ورغدهم فيه، ( قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، الذين يسكنون في الحرم، ولم يتركوا بيت الله عز وجل يعبث به العابثون أو يفسد فيه المفسدون.
(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] كذلك، أي: وجعل الشهر الحرام حراماً، والشهر: اسم جنس، والمراد به هنا الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، هذه هي الأشهر الحرم، أشهر السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة متواليات والرابع فرد، أو ثلاثة سرد والرابع فرد، والرابع هذا هو أعظم الشهور عند العرب، ويقال فيه: شهر مضر، ويقال فيه: شهر الأصم والأصب، أما كونه موصوفاً بالأصم؛ فلأنه إذا أهل هلاله لم تسمع صوتاً للسلاح، قعقعة السلاح تنتهي، فهو أصم، يعظمونه أكثر من الأشهر الأخرى، إذا أهل هلال رجب ما بقي واحد يخرج سيفه من غمده، وكونه الأصب؛ لأن الخير يصب فيه صباً، ويقال فيه: شهر الله أيضاً، هذه الثلاثة الأشهر الأربعة هي المراد من قوله تعالى: ( وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، من جعلها حراماً؟ الله. لماذا؟ لصالح أهل الحرم.
(وَالْهَدْيَ )[المائدة:97]، ما يهدى لبيت الله من شرق الجزيرة، من غربها، من شمالها، من جنوبها، يهدون الإبل والبقر والغنم يتوسلون بذلك إلى الله ويتقربون إليه، وإن كانوا لا يعرفونه معرفة حقيقة، لكن هكذا غرز الله في قلوبهم؛ لحكمة أرادها؛ ليعيش أهل الحرم في سعادة.
(وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، جمع: قلادة، والقلادة أن تأخذ قشرة من شجر الحرم وتعلقها في عنقك أو في يدك وتمشي إلى البحرين، ما إن يرى الرجل القشرة في يدك حتى يبتعد عنك، وكذلك بعيرك، ناقتك تخاف أن تسلب في الطريق فعلق عليها قلادة وامش، كل من يراها يهاب، يخاف، من طبع القلوب على هذا؟ لا يقوى على هذا إلا الله: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، الكل قيام للناس، والمراد من الناس: سكان الحرم، وهذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله، على علم الله، على حكمة الله، على رحمة الله، على قدرة الله، وهذه هي صفات الكمال التي هي صفات الرب تبارك وتعالى. هذا معنى قوله جل ذكره: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97] .
معنى قوله تعالى: (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ...)
ثم قال تعالى: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، ( ذَلِكَ )[المائدة:97] فعلناه من جعل الشهر الحرام والهدي والقلائد والبيت من أجل أن تعلموا ( أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[المائدة:97]، فلا يخفى عليه في العوالم العلوية والسفلية شيء، ومعنى هذا: راقبوه، واحذر أن يشاهدك على معصيته، أو يراك على فسق من فسوق الناس وفجورهم، ومعنى هذا: آمنوا به واتقوا؛ لأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر، في أي مكان عليم، وكيف لا وهو خالقه؟ هو موجده فكيف لا يعلمه؟! هذا الذي يربي في النفس مخافة الله عز وجل، ويصبح الرجل أو المرأة دائماً يراقب الله، ما يستطيع أن يخرج عن طاعته ولو بكلمة، هذا هو التعليل الكريم: ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا )[المائدة:97]، أي: فعلنا ذلك ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، دق أو جل، عظم أو صغر، كون المرء يسترق نظرة والله يعلمها، ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[غافر:19]، أحياناً العين تريد أن تخون فتنظر إلى امرأة إلى جنبك أو أمامك فيعلم ذلك ربنا عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم)
وقال بعد ذلك: ( اعْلَمُوا )[المائدة:98] يا عباد الله علماً يقنياً، ماذا نعلم؟ ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، هذا الرب العظيم، الذي خلق هذا الخلق وأدار الكون بهذه الصورة، اعلموا أنه شديد العقاب، عقابه إذا عاقب شديد ما يقدر عليه ولا يطاق، والعقاب هو العذاب المترتب على الجريمة، كالذي يأخذ من عقبه؛ إذ لا يأتي العذاب إلا بعد الجريمة، ( اعْلَمُوا )[المائدة:98]، علماً يقينياً، ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، إذا عاقب الأمة أو الفرد أو الجماعة فعقابه شديد. هذه واحدة.والثانية: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، أي: إن تبتم ورجعتم إليه بعد عصيانه والفسق عن أمره تجدوه غفوراً رحيماً، وهاتان الصفتان لا توجدان إلا لله، قوة وشدة ومعفرة ورحمة، وهذا ما يعرف بالموعظة بالترغيب والترهيب، رهبنا بكلمة: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، ورغبنا بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، غفور لمن تاب، بهذا القيد، لا تفهم أبداً أن شخصاً يستمر على فسقه وفجوره ويموت على ذلك ويغفر له، لا يغفر إلا لمن تاب فقط، أما إذا دخل النار ومكث فيها أحقاباً واحترق فذاك شيء ثان، فأهل التوحيد لا يخلدون في النار.
إذاً: الترغيب بقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[المائدة:98]، والترهيب في قوله: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98].
تفسير قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)
قال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، ما على الرسول إلا أن يبلغ في بيان واضح تصل كلماته إلى النفوس من البلاغة، تبلغ كلماته الطيبة الحكيمة نفوس الناس في صورة حسنة، هذه مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يغني ولا يفقر، لا يمرض ولا يصح، لا يعطي ولا يمنع، مهمته أن يبلغ فمن أجاب البلاغ وسار في مسلك الصالحين نجا، ومن تكبر وأعرض هلك، والرسول ليس مسئولاً عنه، ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، أي: التبليغ، يبلغ ماذا؟ ما أمر الله أن يحدث به الناس ويبلغه للناس، هذا فرض وهذا واجب، هذا حلال وهذا حرام، آمنوا بربكم وتقربوا إليه وتزلفوا بطاعته، هذا الذي يبلغ، أما المعاقبة والجزاء فبيد الله عز وجل، وفي هذا تخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بشر قد يحمل هماً لإعراض الناس وعدم استجابتهم وعدم هدايتهم وإقبالهم على الله، فخفف الله عنه وبين له: أن مهمتك أن تبين فقط، لا أن تهدي الناس، لا تملك هداية القلوب.(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99]، (تُبْدُونَ): أبدى الشيء يبديه: إذا أظهره وأعلنه، وكتمه: إذا أخفاه وجحده، فالرسول مهمته البلاغ، ونحن الذين قد بلغنا الله يعلم حالنا في الظاهر والباطن، ما نعلنه ونظهره يعلمه ويحاسبنا به ويعطينا على قدره، وما نكتمه كذلك لا يخفى عليه، فهو يحاسبنا على الظاهر والباطن، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ )[المائدة:99]، أي: ما تظهرون من أقوال أو أعمال، ( وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] أيضاً من نيات واعتقادات.

يتبع


ابوالوليد المسلم 17-07-2021 04:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ...)
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، ( قُلْ )[المائدة:100] يا رسولنا للبشرية كلها، لأمتك، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، والله العظيم! ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، ولا يستويان أبداً، هل العمى كالبصر؟ هل المرض كالصحة؟ هل الغنى كالفقر؟ إذاً: هل العسل كالخمر؟ هل الكذب كالصدق؟ هل الخيانة كالأمانة؟ وهل العبادة والطاعة كالفسق والفجور؟ هل الكفر كالإيمان؟ الجواب: لا، مستحيل أن يستوي الخبيث والطيب، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، كلمة طيبة أحسن من ألف كلمة كذب، كأس من اللبن الحلال -والله- أفضل من برميل حرام، قرص عيش من حلال أفضل من سفرة فيها ألف نوع، قاعدة عامة: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100].ومن الجائز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يرى في خاطره الكافرين أغنياء، والمؤمنين فقراء ضعافاً، فأخبره ربه بهذا، إلا أن الآية عامة في البشرية كلها: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100]، في أي زمان ومكان في أي حال من الأحوال، ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، فلا شيء لتلك الكثرة، لا قيمة لها، مليون من حرام تعاقب عليها وقد تودي بحياتك، وريال واحد تقتات به غداء أو عشاء أنفع لك من ذلك المليون، وهكذا، هذه قاعدة لا تنخرم: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100] أيها السامع.
معنى قوله تعالى: (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون)
وأخيراً: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، فاتقوا الله يا أولي العقول؛ لأن أصحاب العقول أحياء يعون ويفهمون خطاب الله، أما الذين لا لب لهم فقلوبهم ميتة فليسوا أهلاً لأن يوجه إليهم هذا الكلام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، من منكم يسأل ويقول: كيف نتقي الله؟ بم نتقي الله؟ أي: بم نتقي عذابه وغضبه ونقمته؟ هل يمكن أن نتقي الله بالبناء القوي، أو ندخل تحت الأرض في السراديب والأنفاق، أو نتحصن بالجبال؟ لا يتقى عذاب الله إلا بطاعته وطاعة رسوله، لا بجيش عرمرم، ولا قبيلة ذات شوكة وقوة، ولا أي مكان نتقي فيه عذاب الله في هذه الحياة، ما هو إلا أن نعبده بما شرع لنا أن نعبده، ما كان عقيدة اعتقدناه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان عملاً قمنا به، وما حرمه علينا نجتنبه بالمرة وندبر عليه ونعرض ولا نلتفت إليه، بهذا يتقى الله.(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، وإن قلت: لماذا؟ بين تعالى لأنه حكيم: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، (لعل) الإعداد، يعدكم للفلاح، وما هو الفلاح؟ هل الحصول على مجموعة من الإبل، على وظيفة سامية، على أولاد صالحين؟ الفلاح تولى الله تعالى بيانه، وهو أن يزحزح العبد عن النار ويدخل الجنة، وذلك في عرصات القيامة؛ لان من دخل النار خلد في العذاب والشقاء، ومن أراد أن يتحسس فليأت بالنار وليدخل أصبعه فيها فقط، هذا عالم كامل كله جحيم، ومن شك أو ارتاب فهذه الشمس الكوكب المضيء النهاري، هذا الكوكب أهل الأرض قالوا: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، كله نار، من أوجد ناره؟ وها نحن نستدفئ بهذه الحرارة وتشتد علينا بالصيف عندما تميل، هذه الشمس لو تجمع البشرية كلها وتوضع فيها فلن تسد زاوية من زواياها، فكيف بالعالم الآخر بعدما يتقشع هذا العالم بكامله ويأتي العالم الآخر يخلد فيه المرء خلوداً أبدياً إذا مات على الشرك والكفر والعياذ بالله، فالفلاح: الفوز. والفوز ما هو؟ هل بالربح في التجارة أو في الولد أو الوظيفة؟ لا، قال: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )[آل عمران:185]، حقاً، ( وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ )[آل عمران:185]، أيها العاملون! كل واحد منا عامل، فمتى نتسلم أجورنا؟ يوم القيامة، اعمل الآن ليل ونهاراً بصيام وقيام وجهاد ورباط ولا تطلب أجراً، الأجر ما هو هنا، الجزاء يوم القيامة، فلهذا تعيش فقيراً وأنت من أولياء الله، تعيش مريضاً وأنت من أبر أولياء الله؛ لأن الجزاء على عملك هذا التعبدي ما هو في الدنيا، قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، ما هذه الأجور؟ قال: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]. اللهم اجعلنا من الفائزين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
والآن نعود إلى الآيات في الشرح؛ لنزداد معرفة وعلماً، وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ قوله تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى:(قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه ]، يخرج من نجد، فما دام قصده إلى الحج وقد جعل علامة لا يعترضه أحد، الأشهر الحرم تتجول فيها بناقتك بإبلك بطعامك بتجارتك في كل مكان لا يعترضك أحد، لكن إذا كنت في شهر غير حرام فاللصوص والمجرمون والمتربصون قل من يسلم منهم، ينزلونك من فوق ناقتك ويأخذونها؛ لأنه لا حكم ولا دولة ولا سلطان أبداً، ولا قانون ولا شرع، ولكن تدبير الله عز وجل أوجد هذه الهدنة في أربعة أشهر ثلث سنة، لصالح العرب، لو كان لهم دولة أو سلطان فالسلطان يقيم حدود الله ويؤدب من خرج عن طاعة الله، لكن لا دولة ولا سلطان، بل همج، هذا الأمن لن تستطيع الأمم المتحدة أن تحققه، والله ما تقدر عليه بكل ما لديها من آلات، والله عز وجل حققه بما ألقى في روح الإنسان في هذه الديار.
قال: [ المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، ومعنى (قِيَامًا): أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر، يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام، وهي أربعة أشهر: القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي: وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد: جمع قلادة، وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لحاء الحرم إعلاماً بأنه آتٍ من الحرم أو ذاهب إليه، فهذه الأربعة: البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب ] تقوم مقام الدولة والسلطان بين العرب، [ فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش، فهذا من تدبير الله تعالى لعباده، وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته، ولذا قال تعالى: ( ذَلِكَ )[المائدة:97] ] أي: فعلنا ذلك [ ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97]، أي: حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام؛ ليعلمكم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم، فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها، فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية.
أما الآية الثالثة فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:98]، وهو وعيد شديد، فقال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99]، وقد بلغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم، أي: رجعتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم؛ لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب. وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:99] وعد ووعيد؛ لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء، فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً، وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك، هذا مضمون الآية الثالثة.
أما الرابعة: فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ )[المائدة:100] للناس: أيها الناس! إنه ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ )[المائدة:100] من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال ( وَالطَّيِّبُ )[المائدة:100] منها]، وقد بينا الطيب والخبيث حتى في الثوب تلبسه.
قال: [ ولو أعجبتكم -أي: سرتكم- كثرة الخبيث، فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلاً، وعليه: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )[المائدة:100]، أي: خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه؛ رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب ] في أمور الدنيا والآخرة، وفي الآخرة النجاة من النار والحصول على الجنة.
مرة ثانية أقرأ عليكم الآيات: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، لم؟ ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا )[المائدة:97-98]، ماذا نعلم؟ ( أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[المائدة:98-99]، والذي يعلم يجزي بحسب علمه، ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، والله لريال حلال خير من ألف حرام، ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100]، من أراد أن يفلح فليتق الله، أي: لا يعصي الله، فعدم المعصية هو الذي يزكي نفسه ويطهرها، الطاعة تزكي، والمعصية تفسد وتخبث، فمن مات ونفسه زكية قد أفلح، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10].
هداية الآيات
مع هداية هذه الآيات الأربع فتأملوها.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه؛ إذ أمن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً واستقراراً، وتبع ذلك هناء عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله ]، قلت: والله! لا تقدر عليه الأمم المتحدة مهما كانت تملك من الآلات.
[ ثانياً: بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير ]، ما هو بمسئول عن كفر فلان ولا عن ضلال فلان، ما هو إلا مبلغ، وهكذا كل دعاة الأمة ما هم بمسئولين عمن ارتد ولا من فسق، عليهم أن يبينوا الطريق الموصل إلى الله، من سلكه نجا ومن أعرض عنه هلك، ولا يسألون: لماذا ما دخل الناس في دين الله أفواجاً؟
[ بيان مسئولية الرسول إزاء الناس وأنها البلاغ لا غير، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )[المائدة:99].
[ ثالثاً: تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم ]، العبرة بالكيفية، أما العدد فلا قيمة له، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ )[المائدة:100]، المثل يقول: العبرة بالكيف لا بالكم، بالكيفية لا بالعدد.
قال: [ تقرير الحكمة القائلة: العبرة بالكيف لا بالكم، فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة، ودرهم حلال خير من عشرة حرام، وركعتان متقبلتان خير من عشر لا تقبل ]، فأبو بكر الصديق صاحب الرسول وحبه أفضل من مليون كافر، ودرهم حلال خير من عشرة بل خير من ألف حرام، وركعتان متقبلتان -لأن العبد أحسن أداءهما وأخلص فيهما لله- خير من عشر لا تقبل، ما أخلص فيها أو ما أحسن أداءها.
[ رابعاً: الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين ]، أمر الله بالتقوى رجاء لفلاح المتقين، ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:100].
والله تعالى أسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، وأن يرزقنا العلم والعمل.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.





ابوالوليد المسلم 23-07-2021 03:58 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (6)
الحلقة (456)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 362الى صــــ 368)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
شرح الكلمات:
بالباطل: أي بدون حق أباح لهم أكلها.
ويصدون عن سبيل الله: أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل؟ المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.
يكنزون: يجمعون المال ويدفنونه حفاظاً عليه ولا يؤدون حقه.
الذهب والفضة: هما النقدان المعروفان.
في سبيل الله: أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.
فبشرهم: أي أخبرهم بعذاب أليم: أي موجع.
يحمى عليها: لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.
هذا ما كنزتم: أي يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخاً لهم وتقريعاً.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وأنهم يريدون دوماً وأبداً
إطفاء نور الله بأفواههم، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا همّ لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار} 1 وهم علماء اليهود {والرهبان} وهم رجال الكنائس من النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم، إلى غير ذلك من الحيل باسم2 الدين، وقوله تعالى عنهم {ويصدون عن3 سبيل الله} دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى، وقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة} 4 لفظ5 عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولاً، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وقوله تعالى لرسوله {فبشرهم بعذاب أليم} أي أخبرهم معجلاً لهم الخبر في صورة بشارة، وبين نوع العذاب الأليم بقوله {يوم يحمى عليها} أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح {في نار جهنم} فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكماً بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.
2- حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
3- حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.
4- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.
5- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.
__________

1 الآية نزلت في أهل الكتاب كشفاً عن عوراتهم المادية، وأما قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة..} الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب.
2 قيل كانوا يأخذون من غلات أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقلدهم الروافض، فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت.
3 من صدّهم عن سبيل الله إنهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في الإسلام ومن أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 دلت الآية على زكاة العين: الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية، والإسلام، والحول، والنصاب السليم من الدين، والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون ديناراً من الذهب، ويكمل أحدهما من الآخر، ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين ديناراً زكاة" في الصحيح.
5 روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق قال: يا نبي الله إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته".

**************************************


يتبع

ابوالوليد المسلم 23-07-2021 03:58 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
شرح الكلمات:
عدة: أي عدد.
الشهور1: جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً
في كتاب الله: أي كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
أربعة حرم: هي رجب، والقعدة، والحجة، ومحرم، الواحد منها حرام والجمع حرم.
الدين القيم 2: أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم: أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.
كافة: أي جميعاً وفي كل الشهور حلالها وحرامها.
مع المتقين: أي بالتأييد والنصّر، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.
إنما النسيء: أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.
يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً: أي النسيء عاماً يحلونه وعاماً يحرمونه.
ليواطئوا عدة ما حرم الله: أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.
زين لهم سوء عملهم: أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.
معنى الآيتين:
عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} لا تزيد ولا تنقص، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ {يوم خلق السموات والأرض} 3. وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحداً، ولما
جاء الإسلام وأعز الله أهله، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى (ذلك الدين القيّم} أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له، وقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله {كافة} 4 أي جميعاً لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عز وجل {إنما النسيء5 زيادة في الكفر} أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفُتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين6، لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعاً لقوله تعالى {يضل به الذين كفروا} آي بالنسيء يزدادون ضلالاً فوق ضلالهم. وقوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعاماً يحلون وعاماً يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحُرُم، بلا زيادة ولا نقصان، ظناً منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى {زين لهم سوء أعمالهم} والمزين للباطل قطعاً هو الشيطان. وقوله تعالى {والله لا يهدى القوم الكافرين} يخبر تعالى أنه عز وجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله، وإصرارهم على ذلك.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهراً7 وأيامها ثلثمائة8 وخمسة وخمسون يوماً.
2- بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم.
3- حرمة الأشهر االحرم، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.
4- صفة المعيّة لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.
5- حرمة الاحتيال على9 الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.
6- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.
7- حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً.
__________

1 المراد بالشهور: ما تتألف منه السنة القمرية، واحدها: شهر، مشتق من الشهرة سميت به الأيام من أوّل ظهور الهلال إلى سراره.
2 أي: الصحيح، والإشارة في قوله: {ذاك الدين القيّم} إلى عدة الشهور، وتقسيمها إلى حُرم وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها.
3 قوله: {يوم خلق السموات والأرض..} قاله ليبيّن أن قضاء وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض.
4 كافة: معناه جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال أي: محيطين بهم ومجتمعين. قالوا: نظير كافة: في كونه لا يبني ولا يجمع: عاقبة وعامة وخاصة.
5 قرأ الجمهور: {النسيء} مهموزاً وقرأ ورش: {النسيّ} بالياء المشددة، وهو فعيل بمعنى مفعول في قولك: نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته، فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لأنّه أخف، وأصل هذا التشريع الجاهلي: أنّ العرب قبل الإسلام كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي: يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب جمادى ورمضان شوال وهكذا، ودارت الشهور دورتها، وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها، وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه.
6 إذ كفروا بالشرك وإنكار المعاد وتكذيب الرسل، ونسبة الولد لله تعالى ثم بالنسيء ازدادوا كفراً.
7 وهي: محرم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم، وصفر ويجمع على أصفار وربيع الأول ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الأولى ويجمع على جُماديات وتذكر وتؤنث فيقال: الأولى والأول، وجمادى الآخرة والآخر، ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب، وشعبان ويجمع على شعابين وشعبانات، ورمضان ويجمع على رمضانات، ورماضين وأرمضة وشوال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات، القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحِجة بكسر الحاء وفتحها ويجمع على ذوات الحجة.
8 وهي: الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود، والاثنين ويجمع على أثانين، والثلاثاء يذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث والأربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع، والخميس ويجمع على أخمسة وأخامس، والجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات، والسبت ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع.
9 اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي، وقيل: رجل من كنانة يقال له القلمّس قال شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمّس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد ...
شهور الحل نجعلها حراما


ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:00 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (7)
الحلقة (457)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 368الى صــــ 372)


يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
شرح الكلمات:
مالكم؟ 1: أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.
انفروا: أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.
اثاقلتم: أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالاً.
إلا تنصروه.: أي الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثاني اثنين: أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.
في الغار: غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.
لصاحبه: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سكينتهُ: أي طمأنينته.
كلمة الذين كفروا: هي الدعوة إلى الشرك.
السفلى: أي مغلوبة هابطة لا يسمع لها صوت.
وكلمة الله هي العليا: أي دعوة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي العليا الغالبة الظاهرة.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعلن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التعبئة العامة، وكان الزمن صيفاً حاراً وبالبلاد جدب ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحثَّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} والقائل هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {انفروا في سبيل الله} أي اخرجوا للجهاد {في سبيل الله} أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله {مالكم} أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين. وقوله {اثاقلتم إلى الأرض} 2 أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. {أرضيتم بالحياة الدنيا من3 الآخرة؟} ينكر تعالى على من هذه حاله منهم، ثم يقول لهم {فما متاع الحياة الدنيا} أي ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين {إلا قليل} تافه لا قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم {إلاّ تنفروا} أي إن تخليتم عن نصرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده {يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم4 ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير} . وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.
وقوله تعالى {إلا تنصروه} 5 أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا {ثاني اثنين} 6 أي هو وأبو بكر لا غير، {إذ هما في الغار} أي غار ثور، {إذ يقول لصاحبه} : لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، {لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه} فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه7، {وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها {السفلى} مغلوبة هابطة {وكلمة الله} كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله {هي العليا} الغالبة الظاهرة {والله عزيز} غالب8 لا يغالب {حكيم} في تصرفه وتدبيره، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.
2- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيلٍ غير سبيله تعالى.
3- بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.
4- وجوب نصرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دينه في أمته في سنته.
5- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.
6- الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
__________

1(ما) : حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ.
2 أصل {اثاقلتم} : تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ومثله: اداركوا وادّارأتم، واطيرنا، وازينت.
3 أي: أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلاً من نعيم الآخرة وسعادتها.
4 أي: لا يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه، وأنتم بتخلفكم لا تضرونه شيئاً، في الآية دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ولا حرمة مع عدم الكراهة إلاّ أن يعيّنه الإمام فيجب.
5 أصلها إن الشرطية أدغمت فيها لا النافية، والآية تحمل عتاباً شديداً، ومعنى الآية: إن تركتم نصرته فقد تكفل الله بها.
6 أي: أحد اثنين كثالث ثلاثة ورابع أربعة.
7 أي: قلب أبي بكر رضي الله عنه.
8 إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقتله حيث جعلت مائة ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى الله رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم.

****************************

يتبع

ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:00 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
شرح الكلمات:
خفافاً وثقالاً: الخفاف جمع خفيف: وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل: وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.
ذلكم: أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالاً ومآلاً.
عرضاً قريباً: غنيمة في مكان قريب غير بعيد.
أو سفراً قاصداً: أيما معتدلاً لا مشقة فيه.
الشقة: الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.
عفا الله عنك: لم يؤاخذك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا1 بأموالكم وأنفسكم} أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل، إن كنتم تعلمون ذلك، وقوله تعالى {لو كان عرضاً2 قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة} 3 يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان
أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى {وسيحلفون بالله} أي لكم قائلين: لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم.
قال تعالى {يهلكون أنفسهم} حيث يجلبون لها سخط4 الله وعقابه {والله يعلم إنهم لكاذبون} في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (41- 42) وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى {عفا الله عنك} 5 أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام {لم أذنت لهم} تعجيلاً للمسرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفاً وحزناً، وقوله تعالى {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} علة للعتاب على الإذن للمنافقين6 بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.
2- الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خيرٌ من تركه حالاً ومآلاً.
3- الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.
4- مشروعية العتاب للمحب.
5- جواز مخالفة الأولى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدم علمه ما لم يعلِّمه الله تعالى.
__________

1 الآية محكمة ولم تنسخ، والمراد منها: أن الإمام إذا أعلن عن النفير العام، وجب الإسراع إلى الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر.
2 العرض: ما يعرض من منافع الدنيا، والمراد به هنا: الغنيمة أي: لو كان الذي دعوا إليه عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفراً قاصداً أي: سهلا معلوم الطرق لاتبعوك.
3 الشقة: بالضم: السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك، نظير هذه الآية من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو يعلم أحدهم أنه يحد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.." المرماة: ظلف الشاة.
4 بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة.
5 أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراماً له، إذ لو قال له لِمَ أذنت لهم أوّلا لكان يطير قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفرق أي: الخوف.
6 هؤلاء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا، وان لم يأذن لنا قعدنا. أمّا غير هؤلاء فقد رخّص له في الإذن لمن شاء في قوله: {فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور.


ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:02 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 


http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (8)
الحلقة (458)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 373الى صــــ 379)


لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
شرح الكلمات:
لا يستأذنك: أي لا يطلبون منك إذناً بالتخلف عن الجهاد.
وارتابت قلوبهم: أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.
في ريبهم: أي في شكهم.
يترددون: حيارى لا يثبتون على شيء.
لأعدّوا له عدّة: لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.
انبعاثهم: أي خروجهم معكم.
فثبطهم: ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه1 المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذارا تهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى أن الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل رفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين هذا ما دلت عليه الآية (44) {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ولكن كره الله انبعاثهم2 فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 3} وقوله تعالى في ختام الآية الأولى (44) {والله عليم بالمتقين} 4 فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم، ولا ينبئك مثل خبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.
2- خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.
3- سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.
__________

1 لا يستأذنه المؤمنون لا في القعود ولا في الخروج وإنما هم مع مراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 {انبعاثهم} : أي: خروجهم معك، ومعنى ثبَطهم: حبسهم عنك وخذلهم لأنهم قالوا: إن لم يأذن لنا في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين.
3 القاعدون: هم أولو الضرر، والعميان والزمنى، والنساء والأطفال. والقائل لهم اقعدوا هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طلبوا منه الإذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال غضبه عليهم، أو هو تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود في قلوبهم حتى لا يخرجوا فيفسدوا.
4 فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولاية الحقة لله تعالى، فالإيمان والتقوى بهما تثبت ولاية الله للعبد ومن والاه الله فلا خوف عليه ولا حزن.

******************************

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

شرح الكلمات:
لو خرجوا فيكم: أي مندسين بين رجالكم.
إلا خبالاً: الفساد في الرأي والتدبير.
ولأوضعوا خلالكم: أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.
وفيكم سماعون لهم: أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.
من قبل: أي عند مجئيك المدينة مهاجراً.
وقلّبوا لك الأمور: بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.
وظهر أمر الله: بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهم كارهون: أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.

يتبع

ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:03 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى {لو خرجوا فيكم} 1 أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك {ما زادوكم إلا خبالاً} 2 أي ضرراً وفساداً وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل،{ولأوضعوا} 3 أي أسرعوا ركائبهم {خلالكم} أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط {يبغونكم} بذلك {الفتنة} وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى {وفيكم سماعون لهم} أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى، وقوله تعالى {والله عليم بالظالمين} الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية (48) {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لولا أن الله سلم {وقلبوا لك الأمور} 4 وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم {حتى جاء الحق} بفتح مكة {وظهر أمر الله} بدخول أكثر العرب في دين الله {وهم كارهون} لذلك بل أسفون حزنون، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم، ولا تحفلوا به أو تهتموا له، فإن الله رحمة بكم ونصراً لكم صرفهم عن الخروج معكم. فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن لا يُشركوا في أمر، وأن لا يعول عليهم في مهمة.
2- وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.
3- المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.
4- تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم به.
__________

1 في هذا الإخبار الإلهي تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين عنهم.
2 الاستثناء منقطع أي: ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم. والعادة: أن الاستثناء المنقطع يكون: بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه.
3 الإيضاع: سرعة السير، يقال: أوضع يوضع إيضاعاً إذا أسرع في سيره. قال دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
4 الأمور: جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء، قال الشاعر:
*ولكن مقادير جرت وأمور*
والألف واللام للجنس: أي: أمور تعرفونها وأمور تنكرونها، وحتى: غائية لتقليبهم الأمور.

**********************
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.
إئذن لي: أي في التخلف عن الجهاد.
ولا تفتني: أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأي نساء الروم لا يملك نفسه.
حسنة تسؤهم: الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.
قد أخذنا أمرنا من قبل: أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.
إحدى الحسنين: الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.
فتربصوا: أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى {ومنهم من يقول ائذن لي} أي في التخلف عن الجهاد، {ولا تفتني} بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة، فقد روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له. هل لك في1 بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر2 (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه ورداً لباطله: {ألا في الفتنة سقطوا} وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (50) فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم {قد أخذنا أمرنا} أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم {ويتولوا} راجعين إلى بيوتهم وأهليهم {وهم فرحون} . هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى {إن تصبك حسنة3 تسؤهم، وان تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} 4 أما الآيتان الثالثة والرابعة (51- 52) فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخباراً لهم بما يسؤهم فقال {قل لن يصيبنا} أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله5 لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيراً لأنه مولانا {وعلى الله فيلتوكل المؤمنون} ونحن مؤمنون وعلى
ربنا متوكلون، وقال له: {قل هل تربصون بنا} 6 أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: 7 النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه {فتربصوا إنا معكم متربصون} 8، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.
2- بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.
3- وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.
4- بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة.
5- مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.
__________

1 في رواية ياجَدُّ هل لك في جلاد بني الأصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ.
2 قيل: سمي الروم بني الأصفر: لأن الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض والسواد، وهو اللون الأصفر.
3 {إن تصبك حسنة} جملة شرطية وجملة {تسؤهم} جواب وجزاء لها كما أن جملة {وإن تصبهم} شرط، والجزاء {يقولوا} الخ.
4 {ويتولوا} أي: راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون، فهم متولون في الحقيقة عن الإيمان {فرحون} أي: معجبون بنجاحهم المؤقت.
5 أي: في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير، أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم مِن أنّا إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا.
6 التربص: الانتظار، والاستفهام للتوبيخ.
7 الحسنيان: هما الغنيمة والشهادة.
8 {فتربصوا} هذا الأمر للتهديد والوعيد، كأنما يقول لهم: انتظروا مواعد الشيطان فإنا مُنتظرون مواعد الرحمن، وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!




ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:05 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (9)
الحلقة (459)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 379الى صــــ 384)


قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
شرح الكلمات:
طوعاً أو كرهاً.: أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الإنفاق.
إنكم كنتم قوماً فاسقين: الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.
كسالى: متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.
فلا تعجبك أموالهم: أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.
وتزهق أنفسهم: أي تفيض وتخرج من أجسامهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول {انفقوا} 1 حال كونكم طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم} ، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم2 كانوا قوماً فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) أما الآية الثانية (54) فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهى أولاً الكفر بالله وبرسوله، وثانياً إتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون، وثالثاً كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى {وما منعهم3 أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى4 ولا ينفقون إلا وهم كارهون} 5 هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (55) فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال {إنما يريد الله ليعذبهم6 بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك، أيّ ألَمٌ نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل7.
2- إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.
3- حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.
4- وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.
5- كراهية استحسان المسلم لِمَا عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.
__________

1 روي أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إئذن لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والأمر في قوله: {انفقوا} للتسوية أي: انفقوا أولا تنفقوا فكلا الأمرين سواء، في عدم قبول ما تنفقون.
2 الجملة تعليلية أي: قوله: {لن يتقبل منكم} الخ ذكرت تعليلاً لعدم قبول ما ينفقون.
3 هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما ينفقون.
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل. أي: المنافق لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى على تركها عقاباً وهذا منشأ الكسل في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
5 هنا مسألتان: الأولى: أنّ من مات على الكفر لا ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلاّ انه يخفف عنه العذاب لحديث أبي طالب، وأنه في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. كما أنه قد يكون سبباً في سعة رزقه في الدنيا للحديث، وأما الكافر فيطعم. الثانية أن من أسلم منهم يثاب على ما عمله من الخير أيام كفره.
6 فعل الإرادة يعني بنفسه تقول: أردت خيراً، وعدي هنا بللام لأجل التعليل كقول الشاعر:
أريد لأنسي حبها فكأنما ... تمثل لي ليلي بكل مكان
7 لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} الآية، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عبد الله بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم.

****************************

يتبع

ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:05 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
شرح الكلمات:
وما هم منكم: أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.
يفرقون: أي يخافون خوفاً شديداً منكم.
ملجأ: أي مكانا ًحصيناً يلجأون إليه.
أو مغارات: جمع مغارة وهي الغار في الجبل.
أو مدخلاً: أي سرباً في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.
يجمحون: يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.
يلمزك: أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.
إذا هم يسخطون: أي غير راضين.
حسبنا الله: أي كافينا الله كل ما يهمنا.
إلى الله راغبون: إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} 1 أي من أهل ملتكم ودينكم، {وما هم منكم} أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون {ولكنهم قوم يفرقون} أي يخافون منكم خوفاً شديداً فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى: {لو يجدون ملجأ} 2 أي حصناً {أو مغارات} أي غيراناً في جبال {أو مدخلاً} 3 أي سرباً في الأرض {لولوا} أي أدبروا إليها {وهم يجمحون} 4 أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة (58- 59) فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى {ومنهم من يلمزك5 في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} أي عن الرسول وقسمته {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} هذا ما تضمنته الآية (58) وأما الآية الأخيرة (59) فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز وجل {ولو أنهم رضوا6 ما أتاهم الله ورسوله} ، أي من الصدقات {وقالوا حسبنا الله} أي كافينا الله {سيؤتينا الله من فضله} الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا {إنا إلى الله} وحده {راغبون} طامعون راجعون أي لكان خيراً لهم وأدْرَكَ لحاجتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:.
1- الأَيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلاث: (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان) .
2- الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.
3- عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك.
4- مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا ويسعدوا في الدارين.
5- لا كافي إلا الله، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.
__________

1 لأنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم كافرون كما قال تعالى من سورتهم {اتخذوا أيمانهم جنّة} .
2 الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا: إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي: أسندته.
3 المدخل: مفتعل اسم كان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلاً بدل متدخل، ونظيره. إدّان أصلها إتدان، وقرأها يعقوب وحده أو مدخلاً بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان هي دخل.
4 الجموح: نفور في إسراع.
5 روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى بعض رعاة الغنم شيئاً لفقرهم فطعن أبو الحواظ المنافق فقال: ما هو بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم. كما أنّ ذا الخويصرة التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعدل يا رسول الله فقال له: "ويلك ومَن يعدل إذا لم اعدل" فنزلت الآية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال رسول الله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
6 جواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم، وهو مذكور في التسفير في آخر الحديث.


ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:06 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة التوبة - (10)
الحلقة (460)
تفسير سورة التوبة مدنية
المجلد الثانى (صـــــــ 384الى صــــ 389)


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
شرح الكلمات:
الصدقات: جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.
للفقراء: جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.
والمساكين: جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه السؤال.
والعاملين عليها: أي على جمعها وجابتها وهم الموظفون لها.
والمؤلفة قلوبهم: هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.
وفي الرقاب: أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.
وفي سبيل الله: أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.
وابن السبيل: أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنياً ببلاده.
فريضة من الله: أي فرضها أدته تعالى فريضة على عباده المؤمنين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة لمز المنافقين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع
فقال عز وجل {إنما الصدقات} محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم:
(1) الفقراء1 وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.
(2) المساكين2 وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا3 فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة4 لهم والحاجة.
(3) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.
(4) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم، فيعطون من الزكاة تأليفاً أي جمعاً لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله، وقد يكون أحدهم يسلم بعد فيعطى ترغيباً له في الإسلام، وقد يكون مسلماً لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتاً له وتقوية على الإسلام.
(5) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.
(6) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.
(7) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحاً وإركاباً وطعاماً ولباساً.
(8) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء ببلادهم.
وقوله تعالى {فريضة من الله} 5 أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله {والله عليم} أي بخلقه وأحوالهم {حكيم} في شرعه وقسمته، فلذا لا يجوز أبداً مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطاً أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.
هداية الآية
من هداية الآية.:
1- تقرير فرضية الزكاة.
2- بيان مصارف الزكاة.
3- وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.
4- إثبات صفات الله تعالى وهي هنا: العلم والحكمة، ومتى كان الله تعالى عليماً بخلقه وحاجاتهم حكيماً في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.
__________

1 قيل: الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو: عدم امتلاك ما به الكفافة لحاجته المعاشية وضده الغنى، والمسكين: ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الآخر، أمّا إذا ذكراً معاً فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم، وفي أيّهما أشدّ فقراً خلاف، وأحسن ما قيل هو أن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين: الذي لا شيء له.
2 قال القرطبي: فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلان ونصفه الآخر للفقراء، ومن قال: هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلاثاً.
3 اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة، فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم جاز له أخذ الزكاة، ومن قائل: خمسون درهماً ومن قائل: أربعون درهماً. ومن قائل: من كان قوياً على الكسب لقوة بدنه فلا يعطى الزكاة لحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي".
4 ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" رواه أبو داود. قالت العلماء: إن الذي له شبع يوم وليلة لا يحل له أن يسأل. اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد، والراجح: الجواز لضرورة الفقر وشدته.
5 {فريضة} منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلام: إنما فرض الله الصدقات للفقراء والمساكين الخ.. فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه.

*************************

يتبع

ابوالوليد المسلم 23-07-2021 04:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
شرح الكلمات.
يؤذون النبي: أي الرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيراً أو يسيراً.
هو أذن: أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.
قل أذن خير لكم: أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو إذن خير لكم لا إذن شر مثلكم أيها المنافقون.
ويؤمن للمؤمنين: أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.
والله.: أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
من يُحادد الله ورسوله: أي يعاديهما، ويقف دائماً في حدّ وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى: {ومنهم 1 الذين يؤذون النبي} أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال {ويقولون هو أذن} أي يسمع كل ما يقال له، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد، وإنما يسمع ما كان خيراً ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله {قل أذن خير2 لكم} يسمع ما فيه خير لكم، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم، وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا: {هو أذن} طعناً فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيباً له. وقوله تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} هذا من جملة ما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمنافقين رداً على باطلهم. أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمن بالله رباً وإلهاً، {ويؤمن للمؤمنين} أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله {ورحمة3 للذين آمنوا منكم} أيضاً من خيريّته فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى {والذين يؤذون رسول الله} أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله {لهم عذاب أليم} وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتماً هذا ما دلت عليه الآية الأولى (61) أما الآية الثانية (62) فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئاً يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاماً لكرامة نبيهم قال تعالى {يحلفون بالله4 لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق5 أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون.
وقوله في الآية الثالثة (63) {ألم يعلموا6 أنه من يحادد الله ورسوله} أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالداً فيها {ذلك الخزي العظيم} أي كونه في نار جهنم خالداً فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.
2- كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.
3- توعد الله تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون7 للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.
5- وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.
6- ترعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.
__________

1 قيل هذه الآية نزلت في عتاب بن قشير إذ قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: نزلت في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ماكراً خبيثاً مشوّه الخلقة.
2 قرىء بالرفع والتنوين {أذنٌ خيرٌ لكم} قرأ الجمهور بالإضافة {أذن خيرٍ} .
3 أي: وهو رحمة. على أنّ رحمة: خبر لمبتدأ محذوف وقرىء: ورحمةٍ بالجر عطفا على {خيرٍ لكم} وفيه بُعدٌ كبير.
4 روي أنّ نفراً من المنافقين منهم الجلاس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلام فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكذبوه في قوله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {سيحلفون بالله لكم..} الخ.
5 قال سيبويه: تقدير الكلام، والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلباً للإيجاز كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والحامل على هذا التقدير لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بقول الرجل: ما شاء الله وشئت فقال له: "قل ما شاء الله وحده" لأنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.
6 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والمعنى: ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يجادل الله ورسوله له نار جهنم، والسحادة، المعاداة والمشاقة كأنّ كل واحد واقف في حدّ لا يتصل بالآخر، والفاء في {فأن له} لربط جواب شرط {من} وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيداً لفظياً.
7 في الآية دليل جواز الحلف بالله وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق".


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:38 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (45)
الحلقة (456)
تفسير سورة المائدة (51)


حذر الله عز وجل عباده المؤمنين أيما تحذير من السؤال عما لم ينزل القرآن ببيانه؛ لأن هذا السؤال فيه إحفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وأذية له، وبين سبحانه أن من كان قبلهم تكلفوا مثل هذه الأسئلة فكلفهم الله عز وجل ما يشق عليهم جزاء تعنتهم، فأصبحوا كافرين بها عندما تركوا العمل بها، وهذا حال كل من يتكلف ويسأل فيما لم يفرض عليه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وما زلنا مع سورة المائدة المدنية، المباركة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:101-104].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا نداء الرحمن لأهل الإيمان، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:101]، لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة، مر نفعل، انه ننته، أدب نتأدب، انصح نقبل النصيحة، نحن مستعدون؛ لكمال حياتنا، لأن المؤمن الحق الصادق الإيمان حي يسمع ويبصر ويعي ويفهم ويأخذ ويعطي، بخلاف الكافر فإنه ميت، لا يسمع النداء ولا يجيب.
حادثة نزول الآية الكريمة
هنا نادانا لينهانا عن أشياء، فنقول: انتهينا ربنا. قال تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، هذا لما أكثر المؤمنون من سؤال الرسول وأحرجوه وأتعبوه، وكان الباب مفتوحاً قبل نزول هذه الآية، فتألم وقام خطيباً وقال: ( لا تسألونني عن شيء إلا أجبتكم عنه. فسألوه، وقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة )، ولما سمعت أمه غضبت غضباً شديداً، وقالت: أرأيت يا ولدي لو كان نسبك إلى غير أبيك، ماذا يكون حالي وموقفي بين الناس؟ وحمل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة على هذا السؤال أنه كان إذا تلاوم مع أحد الأصحاب -أي: عذله-فكأنه ينسبه إلى غير أبيه، وهذا في الجاهلية ليس في الإسلام، فأراد التأكد من صحة نسبته إلى أبيه، فسأل وما كان من حقه أن يسأل.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول، حتى أعادها ثلاث مرات، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم )، وفي لفظ: ( ولكفرتم )، ومعنى هذا: أن الله أدب المؤمنين مع رسولهم ومع علمائهم، لا يحل لنا الأسئلة التي فيها تعنت وتقعر ولا تجدي ولا ثمر، هذه الأسئلة محرمة بهذا النص: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101] وترى ( تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها )، وفي الحديث الصحيح: ( نهاكم عن ثلاث، منها: كثرة السؤال )
وكثرة الأسئلة وطرحها لا توجد أبداً خيراً ولا تثمر خيراً، فمتى نسأل؟ نسأل عند الحاجة، لنريد أن نعلم ما حرم الله علي أو ما أوجب علي.

تأديب المؤمنين بأمرهم بترك السؤال عما لا ينفع
والآداب المحمدية منها قوله: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي لا يعنيك بمعنى: لا أنت تريد أن تقوم به وتفعله، ولا أنت تريد أن تتخلى عنه وتتركه، فلم تسأل عنه؟ ولهذا أدبنا الله عز وجل بهذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101]، فلو قال الرسول: نعم لوجب الحج كل سنة، ومن يحج كل عام؟ لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن حذافة: أبوك فلان فكيف تكون حاله وحال أمه وأسرته؟ فما دام قد بين الله ما أحل لنا وما حرم فلا حاجة أبداً إلى التعنت والسؤال، ما أحله حلال وما حرمه حرام وما سكت عنه فهو رحمة منه لنا، لا نتعب أنفسنا ولا نشقيها.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، الآن ما بقي القرآن ينزل، وانتهت تلك الأزمة الأولى، لكن بقينا على مبدأ الآداب الإسلامية والأخلاق النبوية، إذا كنت في حاجة إلى مسألة فاسأل، وإذا ما كنت في حاجة إلى أن تعرف حكمها، أو ما أنت بفاعل ولا تارك فلم تسأل؟ وكثرة السؤال ممنوعة مطلقاً حتى في المال، فالمحتاج أيضاً لا ينبغي أن يلح في أسئلته: أعطوني واكفوني وافعلوا بي، تسأل مرة واحدة؛ لأن هذا أدب عام خالد بخلود هذه الأمة والقرآن الكريم.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ )[المائدة:101] فلا بأس، تنزل الآية ويبين الرسول الحكم، ولكن الله عفا عما سلف مما سألتم، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فلهذا ما آخذهم ولا عذبهم، غفر لهم وحلم عليهم فلم يعذبهم.
تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
ثم قال لهم: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أسئلة تعنت هذه، من بينها أسئلة اليهود، أما قالوا لموسى عليه السلام: ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً )[النساء:153] ننظر إليه، وهل هذا السؤال يطلبه إنسان؟يسمعون كلامه وهو يناجيه بجبل الطور وهم سبعون شخصاً معه أو ستون، ولما سمعوا الكلام قالوا: نريد أن نرى وجه ربنا، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
وقوم صالح في شمال الحجاز قالوا: يا صالح! لتدلل على نبوتك ورسالتك؛ أخرج لنا من هذا الجبل ناقة. وقام يصلي ودعا الله، فانشق الجبل وخرجت الناقة، فما هي النهاية؟ حاولوا عقرها وقتلوها، وكانت النهاية أن دمرهم الله دماراً كاملاً، نتيجة أنهم يسالون عن أشياء ما هم أهلاً لها.
وأصحاب عيسى قالوا: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فأنزلها الله واشترط أن من كفر بعدها يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وهكذا، فالتعنت والأسئلة التي لا تجدي وتثير الفتن والمتاعب والمشاغب -والله- لا تجوز إن تأدبنا بآداب ربنا ورسولنا.
فلا نسأل عالماً ذا علم إلا عن مسألة أنا في حاجة إلى معرفتها، أيحل لي هذا أو لا يحل، أيجب أن نفعل هذا أو نتركه، في هذه الحدود، أما سؤال التنطع والتقعر فهذا منهي عنه ومكروه ولا يجوز وفيه أذية، فتسأل على قدر حاجتك، فإذا كنت جائعاً تسأل طعاماً، إذا أكلت وشبعت فلا تسأل مرة ثانية، أنت ظمآن فاسأل على قدر ظمئك، أنت عار تريد كسوة تستر عورتك تسأل بقدر حاجتك، وهذا هو حال المؤمنين في كل حياتهم، ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فالذي ما يعنيك ولا تنتفع به ولا يضرك لا تسأل عنه، وهذه المحنة يتخبط فيها المسلمون منذ قرون شرقاً وغرباً، أكثر الفتن والمتاعب والمصاعب ناتجة عن هذه.
تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ...)
وفي الآية الثانية قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أي: ما سن الله بحيرة ولا سائبة ولا شرع هذا ولا سنه أبداً، هذا من فعل المشركين الكافرين، ولا شك أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الأربع، فأخبر تعالى أنه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، فما البحيرة؟ وما السائبة؟ وما الوصيلة؟ وما الحامي؟ هذه ابتدأت يوم ضعفت الديانة الإسماعيلية، فهذا عمرو بن لحي الخزاعي ذهب إلى الشام، فوجد العمالقة يعبدون الأصنام، فسأل أن يعطوه صنماً يأخذه إلى الحجاز، إلى الجزيرة؛ ليعبدوه، فهو أول من جاء بالأصنام، وجاء بهبل، هو الذي جاء به من الشام ووضعه عند البيت، ولهذا رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في النار يجر قصبه -أمعاءه ومصارينه- ممزقة وهو يسحبها في النار، هذا أول من أحدث الشرك في الجزيرة: عمرو بن لحي الخزاعي.
فالبحيرة: من بحر الشيء: بقرة أو ناقة تشق وتبحر أذنها وتعلم أنها للآلهة، وأنها يتوسل بها ويستشفع بها إلى الله، وتترك فلا تركب ولا تذبح ولا يؤكل منها.
والسائبة: التي تسيب للآلهة وتترك، لا يؤخذ وبرها ولا صوفها ولا حليبها ولا تؤكل.
والوصيلة: التي تلد أول ما تلد أثنى، أو تصل أنثى بذكر بحسب ترتيباتهم، هذه الوصيلة أيضاً تترك للآلهة.
والحامي بمعنى: المحمي، الجمل الذي بلغ كذا يحمونه للآلهة فلا يركبون عليه ولا يبيعونه ولا يأكلون لحمه، يتركونه للآلهة يتقربون به إلى الله عز وجل.
فلما سئل الرسول أجاب الرحمن عز وجل: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، أبداً ما سن هذا ولا شرعه ولا قرره، هذا من عمل الجاهلية، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، نسبوا هذا إلى الله كذباً عليه والله ما جعل هذا.
وإذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي منذ أكثر من ألف سنة نجد لهذا نظائر في قباب وأشجار ومعابد، كل هذا يدعون أنهم يتوسلون به إلى الله، ويستشفعون به إلى الله، والله ما شرعه ولا أمر به ولا جاء الرسول به أبداً، القباب تضرب وتبنى وينزل تحتها من ينزل يحرسها ويحميها، ويأتي نساؤنا ورجالنا يتبركون ويتمرغون ويدفعون مقابل ذلك نقوداً في يد هذا القائم على الضريح، كل هذا من زينه؟ الشيطان الذي يريد أن يضل الإنسان ولا يهتدي، وشجرة -والله- يعكفون عليها ويعبدونها.
إذاً: عرفنا أن هذا من الشيطان، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، من أين لهم العقل؟ كلهم لا يعقلون إلا ما شاء الله، الذي يفتري الكذب ويختلقه على الله هل هذا مؤمن؟ هل يستحق كرامة؟ تكذب على من؟ على الله فتقول: أحل الله والله ما أحل، وتقول: حرم الله والله ما حرم!

يتبع


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:38 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الرد على مفت بانتفاء تحريم الخمر واللواط في القرآن الكريم
ومن الغريب أن أحد علماء الزمان في الديار المصرية أعلن في صراحة أن الخمر ليست محرمة في القرآن، وأن اللواط كذلك، هذا الشيخ يقال له: العشماوي ، ورد عليه رجال العلم في مصر والأردن والمملكة.والشاهد عندنا في أن الشياطين تزين الباطل والإجرام والفساد والشر لأوليائها؛ لينشروه، فهذه الكلمة لولا أنه قومها أهل العلم وأسكتوه لكان البسطاء والجهال كلهم يقولون: قال العالم: الخمر ما هي بحرام في القرآن، واللواط ما هناك نص في القرآن على تحريمه.
والشاهد من هذا: أن الشياطين هي التي تزين الباطل لأوليائها، فهذا الرجل يجب عليه أن يتوب ويعلن عن توبته، وإلا فهو أقبح من المرتد والعياذ بالله، أمر مجمع عليه بالكتاب والسنة وأمة الإسلام إلى اليوم على تحريمه ثم يقول بحليته؟! هل لهذا عقل أو دين؟ ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، هذا يقول: الخمر ما هو بحرام، فكذب على الله أم لا؟ الله يقول: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ )[المائدة:91]، هذا أبلغ من كلمة: (انتهوا)، هذا معناه: تنتهون أو ننزل عقوبتنا ونضرب على أيدكم، أبعد هذا نطلب نصاً للتحريم؟
أما كلمة اللواط فما كان العرب يعرفونها أبداً ولا يسمعون بها، لولا أن القرآن نزل بها عن قوم لوط لما عرفوها، وما هناك هبوط ولا سقوط ولا موت ولا دمار أكثر من أن ينزو الذكر على الذكر، ثم في هذا يتكلم هذا العالم ويقول: اللواط ما هو بمحرم في الكتاب! هذا افتراء على الله وكذب على الله.
(وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )[المائدة:103] لظلمة نفوسهم، ولتسجيلهم في عذاب الجحيم ( يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، لو كانت لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل والخير من الشر، والضار من النافع لما كانوا يعبدون الأصنام أو يذيعون ويعلنون عن إباحة المحرمات والعياذ بالله.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ...)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، نقول لهذا: أنت تقول: الله ما حرم الخمر ولا حرم اللواط، فتعال إلى الكتاب والسنة؟(قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، هؤلاء المشركون والخرافيون وأصحاب البدع إذا دعوتهم إلى الكتاب والسنة يقولون: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، إلى الآن ما من صاحب بدعة ولا خرافة ولا ضلالة في ديار الإسلام إذا دعوته يقول: وجدنا آباءنا على هذا، علماؤنا قالوا بهذا! فكيف تدعى إلى الكتاب والسنة، إلى الله والرسول ثم ترفض وتقول: يكفيني أبي وأمي أو أجدادي وأهل بلادي؟ فهذه الآية كأنها تنزل الآن؛ لأن هذا القرآن كتاب هداية للبشرية إلى نهاية الحياة.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا )[المائدة:104] نتحاكم، نتقاضى ( إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، وبياناته لكتاب الله وهداياته وسننه، ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، يكفينا هذا.
قال تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، أيقولون هذا القول ويفزعون إلى هذا المفزع؟ ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104] من المعرفة، ولا يهتدون إلى حق وإلى صراط مستقيم، كيف يتبعونهم ويقتدون بهم؟! وفي هذا أنه يحرم الاقتداء بالجهال والاهتداء بهم، لا اقتداء إلا بالعالمين العارفين بالله.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية أسمعكم الآيات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:101-102]، سؤال قوم عيسى وسؤال قوم صالح وموسى وغيرهم، وهلك السائلون لأنهم يسألون سؤال تنطع وعناد ومكابرة.(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، هذا من وضع الضلال ومن وضع الشياطين، فما عندنا قبر يعبد ولا صنم ولا حجر ولا جدار، ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ )[المائدة:103]، خذها قاعدة: الكافر يكذب على الله؛ لأنه لا يعرفه ولا يخافه ولا يرهبه، يكذب فيقول: قال الله، أذن الله، منع الله، حرم الله، وهو يكذب، كما كذب هذا العشماوي، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما تورطوا.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[المائدة:104]، أي: إلى الكتاب، ( وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، أي: بيانه وسنته وهدايته؛ لأن الرسول لا يبقى حياً دائماً، فالباقي سنته، ولو كان حياً ونحن في نجد أو في الشام أو في العراق فإنا نتحاكم إليه أيضاً؟ والسنة الآن هي التي نتحاكم إليها.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ )[المائدة:104]، هذا من باب التأنيب والإنكار عليهم، ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104]، يقولون: نتحاكم إلى آبائنا وهم جهلة لا يعرفون شيئاً!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
لنستمع مرة ثانية إلى شرح الآيات من الكتاب وتأملوا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تضايق منهم ] ومن أجله نزلت الآية، [ فقام خطيباً فيهم وقال: ( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة
كان إذا تلاوم مع رجل دعاه إلى غير أبيه، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة ) ، وقال أبو هريرة : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ ) ]، لم يسأل هذا السؤال؟ هل هو في حاجة إلى هذا؟ [ ( فسكت ) ] الرسول صلى الله عليه وسلم غير راض بهذا السؤال [ ( حتى قالها ثلاثاً ) ] قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، أفي كل عام يا رسول الله؟ [ ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم ) ]، وإذا ما فعلنا فماذا ينزل بنا؟ [ ( ثم قال: ذروني ما تركتكم )] اتركوني ما تركتكم. [ فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، الآيات، أي: تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )[المائدة:101]، أي: يبينها رسولنا لكم ]، إذا نزلت آية أو حكم في القرآن فاسأل لتعرف معناه، فالرسول يبين، [ أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك ما لا ينبغي لكم؛ لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته صلى الله عليه وسلم. ثم قال لهم تعالى: ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا )[المائدة:101]، أي: لم يؤاخذكم بما سألتم ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )[المائدة:101]، فتوبوا إليه يتب عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم.
وقوله تعالى: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، أي: قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه ( سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ )[المائدة:102]، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم؛ جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم، فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
وأما الثالثة فقد قال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ )[المائدة:103]، ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها ] وهو كذلك [ فأنزل الله تعالى فيه: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ )[المائدة:103]، أي: ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حامياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه، ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103]، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، أي: أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة ].
فالرسول عرضت عليه النار والجنة، رآها رؤية واقعة، لكنها عرضت عليه كما تعرض عليكم الآلات في التلفاز، فما بقي عجب، فشاهد عمرو بن لحي يجر أمعاءه في النار والعياذ بالله؛ لأنه أول من سن الشرك وأتى به إلى هذه الديار، جاء بهبل ووضعه عند الكعبة.
قال: [ أما الرابعة فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ )[المائدة:104]، ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: ( حَسْبُنَا )[المائدة:104]، أي: يكفينا ( مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104]، فلسنا في حاجة إلى غيره. فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا )[المائدة:104]، أي: يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق، ( وَلا يَهْتَدُونَ )[المائدة:104] إلى خير أو معروف؟ ]، ولهذا ما زال إلى الآن أصحاب البدع في دارنا الإسلامية يحتجون فيقولون: العلماء قبلكم ما قالوا هذا، وجدنا علماءنا في هذه البلاد يقولون كذا وكذا! فهل هذه حجة؟ دعاك إلى قال الله وقال الرسول وتقول: وجدنا علماءنا يفعلون كذا! هذا تشبه بالمشركين أم لا؟ مهما ما كنت إذا دعيت إلى الكتاب والسنة فقل: آمنت بالله، وصلى الله وسلم على رسول الله، هات الكتاب والسنة.
والآن لاشك أن المستمعين والمستمعات فهموا هذه الآيات إن شاء الله، لكن تنتفعون بها يوم تقرءونها، لا بد من قراءة القرآن، أما أن تسمع الآيات ولا تعود إليها تتلوها ليلاً ونهاراً فكيف تبقى في ذهنك؟ لكن الذي يرجع إلى الآيات يتلوها في تهجده في أوقات فراغه يمر بها يذكر ذلك.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: كراهية الإلحاف ]، ما معنى: ألحف في السؤال؟ أكثر فوق العادة، وقد قلنا: إن المراد مطلق السؤال، حتى لو سألت المال، سألت الدراهم، سألت عن أي شيء، لا تلحف وتلح، تأدب، فضلاً عن أسئلة تتعلق بدين الله وما عند الله.
[ كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها ]، التقعر: أن يذهب بعيداً إلى معان ما تخطر في البال، والتنطع كذلك أن يطلع إلى أشياء ما سمع بها، فاسأل عما أنت في حاجة إليه أن تعبد الله به وتعرفه، بل نحن نقول: لا يجوز أن نؤذي أمياً، حارس عند الباب اسأله بلطف لا تلحف عليه: من أنت وكيف هذا؟ كما يفعل الجهال، فمن أين أخذنا هذا الهدى؟ من قوله تعالى: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[المائدة:101].
[ ثانياً: حرمة الابتداع في الدين ]، ليس من حق أي عالم أو رباني أو ولي أن يبتدع بدعة في الإسلام ويدعو الناس إليها؛ لأن هذا تجهيل لله، أو نسبة النسيان إلى الله أو نسبة عدم العلم إلى الله، حتى جاء هو بعبادة يدعو الناس إليها، فلهذا كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، والذين يبتدعون ويزيدون هل الإسلام ما كفاهم حيث أدوا الواجبات والفرائض والنوافل وبقي وقت فأرادوا أن يزيدوا شيئاً؟! إن الفرائض ما أدوها.
[حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس ]، سبب وجود الشرك ما هو؟ والله! إنه البدعة، هي التي تنتقل من تحسين بدعة إلى عمل شرك، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:103].
[ ثالثاً: وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما ]، إذا حصل خلاف بين مؤمن ومؤمن يجب أن يرد ذلك إلى الكتاب والسنة والرضا بالحكم، لا نرده إلى الكتاب والسنة وبعد ذلك ما ترضى وما تقتنع، وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب القرآن العظيم، والسنة سنة الرسول عليه السلام، والرضا بحكمهما، واقتنع وطأطئ رأسك وقل: آمنت بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل: أنا مذهبي ما يقول بهذا. فهذا الحكم أخذناه من قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )[المائدة:104].
[ رابعاً: حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم ]، يحرم أن تقلد جاهلاً يا عبد الله، لا يحل لك أن تقلد جاهلاً وتعمل بقوله ورأيه وعمله وتتبعه في باطله، الجاهل أعمى فكيف يقودك؟! يقودك من علم وعرف وأصبح ذا نور وهداية، هذا قلده، أما أن تقلد جاهلاً باطلاً فتقع في الهلاك، وأكثر البدع قلد فيها المسلمون الجهال، إذ ما وجدوا علماء دعوهم إليها، يندر هذا، الجهال يقلد بعضهم بعضاً.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (46)
الحلقة (457)
تفسير سورة المائدة (52)


أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، ثم أخبرنا أننا متى ما فعلنا ذلك واهتدينا إلى طريقه المستقيم، فلا يضرنا من ضل عن الطريق وتنكب السبيل، المهم أن نحافظ على هدايتنا ونوفر أسبابها كما بينها لنا رسول الله، وهي التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فإذا تحققت الهداية للمؤمنين والضلالة للمنحرفين كان مرجعهم جميعاً إلى رب العالمين، لينبئهم بما كانوا يعلمون، ويجازي أهل الهداية بما يستحقون، ويجازي أهل الضلالة بما يستقحون.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، ومعنا الليلة آية واحدة من أجل الآيات وأعظمها، فيها نتلوها ونكرر تلاوتها رجاء أن نحفظها عن ظهر قلب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105].
هذا النداء أحد نداءات الرحمن لأهل الإيمان، ينادينا خالقنا ورازقنا ومدبر حياتنا، ينادينا معبودنا وإلهنا الحق الذي لا إله لنا سواه، فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، يا من آمنتم بالله ولقائه ووعده ووعيده، يا من آمنتم بكل ما أمركم مولاكم أن تؤمنوا به من الغيب والشهادة، أنتم أيها المؤمنون الأحياء، والحي يسمع النداء، والحي يفعل إن أمر أن يفعل، ويترك إن أمر أن يترك؛ ولذلك لكمال حياته.
وقد علمنا: أن الإيمان الحق بمثابة الروح للبدن، فالمؤمن الإيمان الصحيح الذي إذا عرضناه على القرآن والسنة وافقا عليه، صاحب هذا الإيمان -والله- حي، وحسبه شرفاً أن يناديه الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، فجوابنا: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه ننته، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم، عبيدك بين يديك، هذه حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
الأمر بتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها
نادانا هنا ليقول لنا: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، ماذا نفعل بها؟ نزكيها ونطهرها، نهذبها ونربيها؛ لتكون في عداد مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يا عبد الله! عليك نفسك لا تهملها، لا تغفل عنها، لا تضيعها، لا تصب عليها أطنان الذنوب والآثام فتمسخها وتحولها إلى نفس شيطانية والعياذ بالله، أنت المسئول عنها لا غيرك، واللفظ يحمل معنى عاماً: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] من المؤمنين، مروهم وانهوهم، وربوهم وعلموهم، هذبوهم، اهدوهم، أرشدوهم؛ لأنكم كالجسم الواحد.
وتتناول ما بدأنا به أن كل مؤمن عليه أن يحفظ نفسه من أن تتلوث أو تسقط وتهبط وتصبح في عداد الشياطين والمجرمين، هذا أمر الله، فهل نطيع؟ يا ويحنا إذا لم نطع، فهيا نحفظ لأنفسنا طهارتها.
أولاً: نطهرها بمواد التطهير، وهي الإيمان والعمل الصالح، والعمل الصالح: ما وضعه الله لنا لنعبده به من كلمة لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، كل العبادات من صلاة، من زكاة، صيام، بر الوالدين، قول المعروف، ذكر الله، تلاوة كتاب الله، الجهاد، الرباط، كل عبادة هي عبارة عن مادة لتزكية النفس، إذا استعملها العبد على الوجه المطلوب أثرت في نفسه بالطهر والصفاء، حتى تصبح روحه كأرواح الملائكة، ثم علينا إذا طهرناها أن نحافظ على طهارتها، لا نغفلها بحيث تنظف اليوم وغداً نصب عليها برميل زبل فنسودها ونلطخها، لا بد من المحافظة على طهارتها وزكاتها حتى الموت، وإن زلت القدم واستغفلك العدو يوماً في الدهر فالتوبة النصوح تزيل ذلك الأثر وتذهبه ويحل محله الأثر الطيب، قال تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )[الفرقان:70]، ما كان ظلماً ونتناً في النفس يصبح نوراً وطهارة وريحاً طيباً.
يا عبد الله.. يا أمة الله! حافظ على نفسك، لا تهملها، لا تضيعها، لا ترمها في مزابل الشياطين، جنبها كل ما من شأنه أن يلوثها كالكذب، كالحسد، كالشرك، كالبخل، كالخيانة، كل الذنوب، ما من ذنب حتى النظرة تتعمدها وتنظر إلى امرأة في الشارع أو على النافذة بقصد النظر إليها؛ ما ذنب إلا يحول نفسك إلى نتن وعفونة إذا لم تبادر بغسلها وتطهيرها.
أقول: أمرنا مولانا عز وجل أن نحافظ على زكاة أنفسنا وطهارتها، أولاً: نستعمل التزكية والتطهير، وحين تطهر لا نسمح أبداً لأدنى دخن يصيبها، وإن زلت القدم قلت: أستغفر الله.. أستغفر الله، أتوب إلى الله، تمرغ بين يدي الله وأنت تبكي في صدق عازماً على ألا تعود إلى هذا الذنب ولو قطعت وصلبت، فإن هذا الأثر يمحى بإذن الله مع التوبة الصادقة، ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )[الفرقان:70].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، قلت: إن الآية تتناول أمة الإسلام لأنها جسم واحد، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105] أيها المسلمون، ولا تبالوا بأولئك عبدة الأصنام والأحجار وأصحاب البحيرة والسائبة وما تقدم، شأنهم إلى جهنم، لكن أنتم أيها المسلمون حافظوا على طهارة أرواحكم وزكاة نفوسكم: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105].
ضلال الضالين لا يضر المهتدين
وقوله: ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] بقيد: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، من ضل الطريق الموصل إلى رضوان الله ودار السلام ومواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لا يضرنا أبداً إذا نحن اهتدينا، أنت هديت لتعبد الله عز وجل فاستقم على منهجه ولا يضرك بلايين الكفار والمشركين، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )[المائدة:105] الطريق وأخطأه وسلك سبيل الشياطين، ولكن بشرط ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، إذا اهتدينا أولاً إلى الإيمان الصحيح والتوحيد لله رب العالمين، ثم عبادته بما شاء أن نعبده، ثم تجنب كل ما من شأنه أن يؤثر على أنفسنا بالخبث والتدسية، أي: باجتناب كل ما حرم الله ورسوله من النظرة إلى أكل الربا.وهنا ألفت النظر -وقد سبق أن عرفتم- إلى أنه لا بد من معرفة ما نعبد الله به، ومعرفة ما نتجنبه مما حرمه الله، فالعلم ضروري يا عبد الله، كيف يقال: اغسل ثيابك وهو لا يعرف بم يغسلها، لا بد أن أقدم له مادة الصابون أو الماء. فأنت تقول: يا عبد الله! زك نفسك. فكيف يزكيها؟ دله على مواد التزكية وعلمه كيف يستعملها، قل له: حافظ يا عبد الله على زكاة روحك وطهارتها، بين له ألا يأتي ذنباً من الذنوب فيلوثها ويخبثها، فلا بد من معرفة محاب الله ومكارهه، لا بد -يا عبد الله.. يا أمة الله- من أن تعرف محاب الله ومكارهه، فإذا عرفت محاب الله عرفت وعد الله، وإذا عرفت مكارهه عرفت وعيده، إذ لله وعد ووعيد، الوعد لمن أطاعه، والوعيد لمن عصاه، ومحاب الله هذه العبادات، ما شرعها إلا لأنه يحبها، واذكروا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، إذاً: الله يحب بعض الكلم، ما أمرنا بأن نقول كلمة أو نعبده بها إلا لأنه يحبها، فهل أنتم تأخذون بهذا الهدي المحمدي؟ من منكم يقول: أنا عندي ورد يومي أقول مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أتملق الله وأتزلف إليه ليحبني؟ لنقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، تغن بها وأنت تسوق في سيارتك، تغن بها والقدوم في يدك تنجر خشبتك، اذكري يا مؤمنة وأنت تعجنين طحينك ودقيقك؛ لأننا خلقنا للذكر، ما عندنا كلم نلهج به ويسمع منا قط إلا ذكر الله عز وجل، أليس لذلك خلقنا؟
إذاً: هل عرفتم سر الحياة وعلة الوجود أيها الفلاسفة؟ علة الوجود كله وسر هذه الحياة: أن يذكر الله ويشكر، فمن شكر وذكر؛ قربه إليه وأدناه وأنزله الفراديس العلا، ومن كفره وجحد ولم يذكره أرداه وأشقاه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، أما إذا ضللتم فإنه يضركم الضال، لكن إذا اهتديت فلا يضرك، والاهتداء إلى أين؟ إلى الجنة. وهل للجنة طريق؟ أي نعم، وهو الإيمان والعمل الصالح فعلاً، وترك الشرك والمعاصي تركاً، هذا هو الطريق نهايته دار السلام، وإذا تعجبت فأبشر عما قريب وأنت على سرير الموت والملائكة تتوافد عليك وأنت تستبشر بهم وتضحك: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ )[فصلت:30] في سياق الموت، وتقول لهم ماذا؟ ( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا )[فصلت:30-32]، ضيافة، ( مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ )[فصلت:32]، هؤلاء أهل الأرواح الطاهرة، والنفوس الزكية، أما أصحاب النفوس الملوثة المخبثة المنتنة فلا.
معنى قوله تعالى: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، مرجع الطغاة والبغاة والظلمة والمشركين والكافرين، والربانيين والمؤمنين والصالحين، وهل نرجع إلى غيره؟ ما هناك -والله-مرجع إلا إليه في ساحة فصل القضاء.(فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، وإذا نبأنا وأخبرنا فإنما ليقيم الحجة علينا، وتأتي السجلات الضخمة، ووالله! ما ترك لنا من عمل صالح أو فاسد إلا دون وكتب وسجل، ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ )[الحاقة:19-23]، يقولون لهم: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ )[الحاقة:24]، الماضية، وهذه الجلسة منها.
ثم قال تعالى: ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ )[الحاقة:25]، فالأول: كتابه حسنات ذات أنوار يعطونه بيمينه، والآخر سيئات منتنة وشرك وخبث يعطى كتابه بشماله ووراء ظهره، لا يواجهونه ليأخذها، ( فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ )[الحاقة:25]، أي: لم أعط كتابيه، ( وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ )[الحاقة:26-27]، يود الانتحار ولا ينفعه انتحار، يود لو يموت في تلك الساعة، ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ )[الحاقة:27-29]، هاتان مصيبتان: المال والسلطان، من طبع الإنسان حب أن يسود ويعلو ويتكبر ويترفع، من طبيعته أن يحب المال حباً جماً، ومن يقول: أنا لا أحبه؟ قد يكون ذلك من شاخ أو أصبح على شفا حفرة، ومع هذا قد يشيب المرء ويشب معه حب المال والدنيا.
إذاً: ( خُذُوهُ )[الحاقة:30]، من الآمر؟ الله جل جلاله. من المأمور؟ ملائكته، زبانيته، ( خُذُوهُ )[الحاقة:30] أولاً ( فَغُلُّوهُ )[الحاقة:30]، الغل يوضع في عنقه، ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:31-32]، يدخلونها من فيه ويخرجونها من دبره كخيط المسبحة، ( ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا )[الحاقة:32]، هل من أذرعتنا أو أذرعة السلطان؟ كلا؛ لأن ضرسه كأحد، وعرض أحد مائة وخمسة وثلاثون كيلو متر، فكم طول هذه السلسلة؟
(ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ )[الحاقة:32]، لم؟ ما العلة؟ ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ )[الحاقة:33-37]، والغسلين: الغسالة، العرق والدماء والأوساخ التي تتجمع في أطنان، ذلك هو طعامهم، لا بقلاوة ولا حلاوة ولا لوبيا ولا جزر، الطعام ما يسيل من عرق ودماء ودموع وأوساخ تتجمع بكميات، وهي طعامهم، فقولوا: آمنا بالله.

يتبع


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:48 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
توقف الهداية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
معاشر المستمعين! اسمعوا الآية من جديد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قالت العلماء: لن تتم هدايتنا إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، قال ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا تتم هدايتنا ونطمئن إلى أننا مهتدون حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ لأننا لو رأينا المنكر يرتكب بيننا وما نهينا عنه، ورأينا المعروف ضائعاً وما أمرنا به ولا فعلناه فهل نهتدي؟ كلا. بل ننتكس، إذا انتشر الباطل في قرية أو مدينة أو في بيت فلا تتم هداية حقة إلا إذا أمرنا ونهينا عن المنكر.وإليكم حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود والترمذي وغيرهما -والحديث حسنه الترمذي وقال: حسن غريب، ولا تضر غرابته- عن أبي أمية الشعباني من التابعين، قال: ( أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ )، وهي قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )[المائدة:105]، ويجزيكم الخير بالخير والشر بالشر. ( فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أنا خبير، فكيف حصلت لي هذه الخبرة؟ قال: سألت أنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر )، (ائتمروا) أي: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، و(تناهوا) أي: لينه بعضكم بعضاً عن المنكر.

كنت أفكر في الآية وأمامنا مصلون بينهم أحد الإخوان ثوبه يسحب في الأرض، فقلت: هل أقول لأحد: امش إليه وقل له: تعال إلي؟ قد لا يحصل، فهل أسكت وأنا الآن في الدرس؟ فكيف نعمل؟ فتوكلت على الله ومشيت إليه، وأخذته من ذراعه وسلمت عليه، وقلت له: يا بني! ثوبك طويل، لا يصح هذا، فقصره. ففرح والحمد لله.
فكل من رأى بينكم منكراً فليغيره، ابدأ بالبيت الذي أنت فيه، زوجتك وأولادك، أمك وأبوك، موضع تلاقيك بإخوانك في عملك أو في سفرك، وهكذا، مره بالمعروف إن ترك معروفاً، ولكن بالكلمة الطيبة والوجه الباش الهاش، لا تعنف ولا تغلظ وتشدد فما يقبل منك حتى ولو كان من كان، وإذا رأيت أيضاً معروفاً متروكاً فقل: يا فلان! افعل كذا فهو خير لك، فتنجو وتسعد وتكمل، وهكذا، فإذا أمرنا بالمعروف وتناهينا عن المنكر ما يشيع فينا الباطل والمنكر ولا نضل، لكن إذا اهتدينا ثم سكتنا وظهر الباطل والمنكر وترك المعروف كذا يوماً فسنتحول إلى ضلال، من كان لا يكذب فإنه يصبح يكذب.
شرح حديث: (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)
لنسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( ائتمروا بالمعروف )، أي: ليأمر بعضكم بعضاً، المرأة تأمر الرجل، الخادم يأمر السيد، السيد يأمر الخادم، الجار يأمر جاره وهكذا؛ لأننا نفس واحدة: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، فنفسي هي نفسك.قال صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة )، نسأل الله ألا يوجدنا في وقت كهذا.
معنى الشح المطاع
يقول: ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ) إلى متى؟ ( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً )، وهل الشح يطاع؟ قال تعالى: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ )[الحشر:9]، فالشح فطري في النفس، مغروز بها، فإن وقاك الله إياه وحفظك منه نجوت، وإذا نبت فيك وأثمر فهذا الشح يصبح صاحبه يطيعه، لو أمره أن يسرق من جيب أخيه فإنه يسرق لأنه أطاع شحه، لو أمره أن يكذب ألف كذبة لأجل الحفاظ على ماله فإنه يكذب، الشح أشد من البخل، وهو منع الحقوق، هذا مرض إذا وقانا الله منه نجونا، ونسأل الله أن يقينا.وقالت العلماء: من أدوية علاج الشح الصدقات، تمرن وتعود على الصدقة، في يدك سبع تمرات فتصدق بتمرة، بين يديك خمس لقيمات طعام وجاء سائل فأعطه لقمة، في يديك عشرة ريالات فجاء سائل فأعطه نصف ريال أو ريالاً، تمرن على هذا تبرأ من هذا المرض، لا علاج له إلا الصدقة، بها يعالج شح النفس أو بخلها، قد تبخل بالمال، وقد تبخل ببدنها، تبخل بعرضها، تبخل بحياتها كلها.
معنى الهوى المتبع
ثانياً: ( وهوى متبع )، هوى النفوس متبع، الناس يتبعون أهواءهم، أيما شيء تزينه النفس يفعله، هل لهذا مثال؟ مثال هذا الذي شاع بين الناس الدشوش التي على السطوح، هل أمر الله بهذا؟ هل بلغكم أن هذا حلال وطيب مما يرضي الله؟ الجواب: لا، بل أعلن رسمياً في الصحف والإذاعة أنه حرام، فكيف تجده الآن على السطوح، ما سببه؟ والله! ما هو إلا الهوى المتبع، اتبعوا أهواءهم وما اتبعوا دين الله ولا دين رسوله ولا ما جاء في كتاب الله ولا سنة رسوله، والله ما هو إلا هوى متبع.هؤلاء الذين يبيعون البرانيط، والعامة لا يفهمون البرنيطة، عرفناها يوم عشنا مع فرنسا المستعمرة، وهي ما تسمى بالقبعة، وقد بينا غير ما مرة أن الرسول الكريم يقول: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، وقلت: بالله الذي لا إله غيره! لو يجتمع علماء الكون والطبيعة والنفس والطب على أن ينقضوا هذا الخبر والله ما نقضوه ولن يقدروا على نقضه، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فلهذا أمرنا ألا نتشبه بيهودي ولا نصراني ولا مشرك أبداً، فمن تشبه بقوم كيف يكون منهم؟ لأن لفظ (تشبه) على وزن تفعل، أراد أن يكون مثل مسيو، امرأة شاهدت عاهرة على التلفاز أو الفيديو فأحبت أن تكون مثلها، فأخذت تأخذ المساحيق واللباس وكل ما تريده لتكون مثلها، هذه لا تلبث أن يكون في قلبها نفاق فتنسى الله والدار الآخرة، رأى رجل منا مائعاً ضائعاً مخنثاً في زيه، في لباسه، في منطقه، فأحبه وأراد أن يكون مثله، وأخذ يتشبه به، والله لا يلبث أن يكون مثله، رأيت بطلاً شجاعاً فارساً هماماً، فأحببت أن تكون مثله، فأخذت تقلده، لا تلبث أن تكون مثله؛ لأنك أردت، رأيت عبداً صالحاً فأحببته وأردت أن تكون مثله، فتأخذ بالتشبه به في عمامته، في مشيته، في جلسته، في منطقه، في أذكاره، في عباداته، والله! ما تلبث أن تكون مثله، هذه قاعدة وضعها أبو القاسم من وحي السماء: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذه البرانيط من يصدرها لنا؟ اليهود. فكيف يا تاجر في مدينة الرسول، في مكة بلد الله عز وجل تستورد البرانيط لتبيعها لأبناء المسلمين؟ فأصبحوا يتبجحون في الشوارع حتى في المسجد، لولا أنا طردناهم من الحلقة لأتوا إلى الحلقة؟ فهل هذا منكر أو معروف؟ والله! إنه لمنكر، وإن لم تنكروه فالله ينكره، نحن تنازلنا عن لباس العسكر؛ لأنه يواجه العساكر والجيوش، أما المدنيون فبأي حق يلبسون البرانيط؟ فيا ويل التجار الذين يستوردونها ويبيعونها، زوروهم في دكاكينهم وأنتم تبتسمون، وسلموا عليهم وصافحوهم، وعانقوهم، وقولوا: استيراد هذه لا خير فيه، بلغنا أن هذا من زي الكافرين والنصارى. نحن رأينا اليهود، فهل تلبس برنيطة يهودي؟ أعوذ بالله! مضت فترة على المسلمين ولا يضع برنيطة على رأسه إلا كافر.
على سبيل المثال: عايشنا الديار المغربية: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، والله ما كان مدني يلبس برنيطة والحاكم فرنسا! واحتراماً للإسلام والمسلمين وتقديراً لهم من السيدة فرنسا والله! إن الجيوش التي تجيش من العرب لا تجعل لهم اللباس العسكري الفرنسي، إما برنس أو عمامة، عمامة هؤلاء الفرسان الذين تفتح بهم البلاد، والبوليس بوليسان في الشارع، في العاصمة أو في المدينة، فرنسي بالقبعة ومسلم بطربوش أحمر كأنه عثماني، والله الذي لا إله غيره؛ حفاظاً على شعور المسلمين، ونحن نهبط هذا الهبوط؟! فإن شاء الله لا نرى بعد اليوم قبعة على رأس ولد ولا كبير، لكن مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.
معنى إيثار الدنيا والإعجاب بالرأي
قال: ( ودنيا مؤثرة )، مؤثرة على الآخرة، مؤثرة حتى على العرض والشرف والكمال، الدنيا آثروها وفضلوها على غيرها. ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه )، هذه محنة أخيره، كل من عنده رأي ما يقبل رأي الآخر أبداً ولا يعترف للعالم، العالم لا يعترف للعالم، كل ذي رأي معجب برأيه ما يتنازل وما يقبل الحق أبداً.
التوجيه للمسلم حال ظهور الشح المطاع وغيره
يقول هنا: ( فعليك بخاصة نفسك )، انج، إن هبطت الأمة هل تهبط أنت؟ إذا رأيت هذه الأربعة ظاهرة ما أصبح يقبل منك معروف ولا منكر فماذا تصنع؟ عليك بخاصة نفسك، أقم صلاتك وأد زكاتك، واذكر ربك وتجنب ما حرم عليك، وإن خفت أن يلحقك أذى فارحل، اسكن في الجبال أو الشعاب أو الأودية، حتى تموت طاهراً نقياً، فتنجو وتسعد.قال: ( ودع عنك أمر العامة؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر )، اللهم لا تحينا إليها، ( للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم )، أيها الأصحاب! للعامل في ذلك الزمان مثل أجر خمسين صحابي في البلاء الذي عم وانتشر وثبت هو وصبر، إن غنَّى الناس فوالله ما يغني، إن أدخلوا التلفاز والفيديو فوالله ما يدخله في بيته، إن ألبسوا أولادهم البرانيط فوالله ما يلبسها، إن وضعوا البنوك وأسسوها فوالله ما يفعل، إن كشفوا وجوه نسائهم وبناتهم فوالله ما يكشف، هذا له أجر خمسين صحابياً.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
إذاً: أعيد الآية ولا تنسوا ما سمعتموه: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:105]، لبيك اللهم لبيك، ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ )[المائدة:105]، هذبوها طهروها، احفظوها؛ حتى لا تضيع وتهلك، ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، لا تتم هداية أمة إلا إذا أمرت بالمعروف وتناهت عن المنكر؛ لأنها إذا سكتت يعمها المنكر ويغشاها الباطل وما يبقى فيها من ينجو ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ )[المائدة:105]، وهل هناك غير الله نرجع إليه فينبئنا بما كنا نعمل ويجزينا به؟اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:50 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (47)
الحلقة (458)
تفسير سورة المائدة (53)


شرع الله عز وجل لعباده الوصية في الحضر والسفر وحث عليها ورغب فيها، ومن كان موصياً بشيء فلابد أن يشهد على وصيته أثنان ذوا عدل من المسلمين، فإن كان في سفر أو في أرض غير أرض المسلمين، ولم يجد مسلمين يشهدان فله أن يشهد كافرين على وصيته، فإن حصلت ريبة في شهادتهما فيحلفان عليها، فإن عثر على أنهما كذبا في الشهادة فيؤتى بشاهدين آخرين يقومان مقامهما ويردان شهادتهما ويعيدان الحق إلى أصحابه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا -والحمد لربنا- مع سورة المائدة المباركة، الميمونة، ومعنا هذه الآيات الثلاث، وهن من أعظم الآيات في القرآن الكريم، احتار لهن العلماء وكبار الصحابة والتابعين والأئمة، فهيا نتلو ونستمع ونتدبر ونتأمل، فإذا جاء الشرح وجدنا أنفسنا على علم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:106-108].
سبب نزول الآيات
أذكر لكم ما قيل في سبب نزولها أولاً لتتفهموا معنى الآية: كان تميم الداري رضي الله عنه وعدي بن بداء في الجاهلية تاجرين يتجران من مكة إلى الشام، فخرجا وهما على كفرهما ومعهما رجل آخر، فحضرته الوفاة في الشام ومعه أحسن ما يملك، معه جام من الذهب أراد أن يبيعه لملوك الشام، وهو ذو قيمة كبيرة، فلما حضرته الوفاة قدم إليهما أمواله ومنها الجام هذا وأوصاهما أن يبلغا أمواله إلى أهله بمكة، فلما وصلا إلى مكة قدما ما ترك من مال وأخفيا الجام، وقالا: هذا الذي تركه وليكم.إذاً: فماذا يصنع أهل الميت؟ سكتوا، لكن قالوا: إن لولينا جاماً من ذهب يبلغ كثيراً، فأين ذهب؟ قالا: هذا الذي تركه. وتمضي الأيام ويدخل تميم الداري في الإسلام، قال: فأسلمت وتأثمت، أي: خفت من الإثم، فرددت نصف الذي أخذته من المال، إذ باعا الجام بألفي دينار أو درهم، فدفع خمسمائة لأهل الميت خوفاً من الله عز وجل، والآخر ما زال على كفره، ابن بداء، فرفعت القضية إلى رسول الله بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات في هذه القضية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ )[المائدة:106]، فيما بينكم، ( إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ )[المائدة:106]، أشرف عليه في سياقاته، ليس معناه: شاهد الموت.
معنى قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم)
(اثْنَانِ )[المائدة:106]، اثنان يشهدان على ما ترك ووصى هذا الميت، ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، وهذا قاعدة إلى يوم القيامة: لا تشهد إلا صاحب العدل، كتبت وصيتك فأشهد عليها من هم معروفون بالعدل، أما المعروفون بالحيف والظلم والجور فلا يحق لهم ذلك، ولا يجوز استشهادهم، والآن المحكمة لا تقبل شهادة أي شخص، لا بد أن تثبت عدالته ولو بشاهدين يزكيانه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين كأهل الكتاب، وهذا القول الراجح، ومنهم من يقول: من قبيلة أخرى أو ناس آخرين، لكن الذي قال به إمام أهل السنة الإمام أحمد هو هذا، وهو أصح ما قيل وإن خالفه الجمهور، (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي: من أهل الكتاب.
معنى قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ...)
(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أما في بلد الإسلام فما يجوز أن تستشهد كافراً من أهل الذمة اليهود والنصارى، تترك المسلمين وتأتي لتوصي وتشهد كافرين! ما يجوز هذا، لكن إذا كنت في بلاد الكفر في بريطانيا أو أمريكا فإنك تشهد، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، ما معنى الضرب في الأرض؟ الضرب بالرجل، فالمسافر يضرب الأرض، ما يرفع رجلاً حتى يضع الثانية، عجب هذا القرآن الكريم! والماشي كم يضرب الأرض مرة؟ ألف مرة أو آلاف المرات، والمراد من الضرب هنا: السفر للتجارة وغيرها، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، والموت أكبر مصيبة وأعظمها لا مصيبة أجل منها، ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ )[المائدة:106]، تحبسون الشاهدين إذا شك فيهما أو اتهما، ما اقتنع أهل الميت بشهادتهما، فماذا تفعلون بهما؟ تأتون بهما إلى المسجد بعد صلاة العصر، أولاً: المسجد لأنه مكان مقدس ما يستطيع يهودي ولا نصراني ولا مسلم أن يكذب فيه، بل يرهب وترتعد فرائسه، وبعد صلاة العصر بالذات؛ لأن هذا الوقت -كما تعملون- ينزل فيه ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار بأعمال العبد في نهاره وليله، وعند المحراب.إذاً: ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ )[المائدة:106]، أي: يقولان: بالله الذي لا إله غيره! ما ترك فلان إلا كذا، أو ترك فلان كذا، ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ )[المائدة:106]، هذا كله إذا شككتم، أما إذا ما شككتم في الشاهدين على الوصية فما هناك حاجة إلى هذا، لكن إذا شككتم فلا حيلة إلا هذا، ( إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )[المائدة:106]، أي: الشاهدان يحلفان يقولان: لا نشتري بعهدنا وميثاقنا وأيماننا ( ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ )[المائدة:106]، لماذا؟ ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ )[المائدة:106]، كيف نرضى أن نأثم؟
تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما ...)
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، فإذا شككتم في أمرهما واستحلفتموهما وحلفا وبعد ذلك عثرتم على ما يدل على كذبهما، فجأة وقعتم على شيء كان مخفياً ما كان معلوماً، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:107]، بتحريف الشهادة أو الزيادة أو النقصان، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ )[المائدة:107]، نأتي برجلين آخرين يشهدان ويردان شهادة الأولين، وهذا هو العدل، ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107] إن اعتدينا، يقولان هكذا، وترد القضية إلى أصحابها، وهذا الذي أنجزه رسول الله عند محرابه، فجاء من أهل مكة من شهد على رد شهادة الشاهدين وأخذ المال وهو قيمة الجام.

يتبع


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:53 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ...)
قال تعالى وقوله الحق: ( ذَلِكَ أَدْنَى )[المائدة:108]، أي: أقرب، ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا \ )[المائدة:108]، إذا كانوا يعرفون هذا وأنهم سيعاقبون، وأنهم سيأتون إلى المحكمة ويشهدون، هذه حالة تجعلهم لا يشهدون بالباطل، ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، والعياذ بالله.وأخيراً يقول لنا: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه فلا تعصوه، لا بالخيانة ولا بشهادة الزور ولا بالقول الباطل ولا بالكذب ولا بالادعاء ولا بالافتراء ولا بأية معصية هي ترك واجب أو فعل حرام، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، فإنه جبار ذو انتقام، من وقف أمامه متجبراً متكبراً معانداً قصم ظهره، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا )[المائدة:108]، اسمعوا هذه التعاليم وطبقوها، ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، فمن فسق عن أمر الله ورسوله وخرج عن طاعتهما لا يهديه الله عز وجل، ما أصبح أهلاً للهداية، فليحذر المؤمن من الفسق، فإن من فسق وواصل الفسق يصبح الفسق جبلة في نفسه وفطرة فيه، ومن ثم لا يقبل الهداية ولا يهديه الله، فلهذا يجب أن نسارع إلى التوبة في كل لحظة، ولا يحل تأجيلها ولا تأخيرها ولو بساعة، متى أذنبت عبد الله، متى أذنبت أمة الله فالتوبة على الفور: أستغفر الله.. أستغفر الله، مع الدموع الحارة، والإصرار على ألا نعود إلى هذا الذنب، صاحب هذه التوبة -إن شاء الله- ينجو، وأما الذي يذنب اليوم ويعيد غداً وبعد غدٍ ويستمر على الذنب فيصل إلى مستوى لا يهديه الله عز وجل حسب سنته، قال تعالى -وقوله الحق- من سورة النساء: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، أي: من زمن قريب. ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ )[النساء:18] أيضاً.
الفسق: ترك واجب أوجبه الله أو رسوله، أوجب فعله أو قوله أو اعتقاده، فتركه عبد الله أو أمة الله ففسق، وفعل أو قول ما حرم الله ونهى عنه وتوعد عليه بالعذاب فسق وخروج عن طاعة الله، فالفاسقون بكلمة (أل)، كما في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108]، هم الضليعون في الفسق، المتوغلون فيه، المرتكبون له دهراً من الزمن؛ لأنه أصبح من غرائزهم.
قالت العلماء: اللصوص الذين تعودوا السرقة تجده يسحبه العسكري أو البوليس بالسلسلة في يده فتخاف عليه، وهو في تلك الساعة يفكر إذا رجع كيف يسرق، كيف يدخل يده، كيف يعمل كذا من أجل السرقة؛ لأنها أصبحت فطرة له وجبلة في نفسه؛ لأنه تعود عليها، وهكذا الزاني واللائط والكذاب والمنافق، وقل ما شئت، كل من تضلع في الفسق وتوغل فيه زمناً طويلاً حاله هي هذه، ولن يتوب، ما يقبل التوبة ولو عرضتها عليه في أطباق الذهب، فلهذا أجمع المسلمون على أن التوبة تجب على الفور ولا يحل تأخيرها أبداً، ويكفي قوله تعالى: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )[النساء:17]، لماذا؟ لأنه إذا توغل لا يرجع، فجر بنساء الناس، أكل أموالهم وسفك دماءهم، فكيف يرجع؟ ما عنده نفسية لأن يرجع أبداً، هذا معنى قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
اسمعوا الآيات مرة ثانية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:106]، لبيك اللهم لبيك، أعلمنا، علمنا، قال: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ )[المائدة:106]، أما إذا كنا في بلاد الإسلام فما نأتي بشاهد كافر أبداً أو فاسق، لكن نأتي به في بلاد الكفر للضرورة، قال: ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا )[المائدة:106]، متى هذا؟ إذا شك فيهما، ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا )[المائدة:106-107]، يبطلان تلك الشهادة بشهادتهما، ويحلفان عند المحراب، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ )[المائدة:107-108] الذي سمعتم ( أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[المائدة:108].
الرد على المجادلين في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جادل الغافلون أخاً لنا البارحة وقالوا: نحن نقول: الشاة معلقة برجلها، وأنت تقول: لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فما هناك نجاة. فقلت له: لو قلت لهم: ( إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105] شرط، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[المائدة:105]، والذي ما يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر هل اهتدى؟ لقد ضل وغوى، وقلت له: قل لهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحيل أن توجد هداية لأمة بدونهما، إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما هو إلا زمن والناس كلهم في الذنوب والمعاصي والآثام، ما ينجو أحد، وضربت لهذا أمثلة عدة، قلنا: البلدية عندها كناسون موظفون، لو أن الكناسين أضربوا عن الكناسة وأصبحت كل عجوز ترمي وسخها عند الباب بعد شهر تصير الأزقة كلها مزابل ثم ينتشر فيها الذباب والوباء والمرض؛ لأننا ما نهينا عن المنكر، كل سكت، فأيما قرية أو أسرة يظهر فيها ترك معروف أو فعل مكروه ويسكت عنه فلا بد أن ينتشر فيهم، فلا هداية إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
اسمعوا الشرح الآن بالتأني. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ففي هذه الآيات الثلاث ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: ليشهد اثنان ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )[المائدة:106]، أي: من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان ( مِنْ غَيْرِكُمْ )[المائدة:106]، أي: من غير المسلمين، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ )[المائدة:106]، أي: كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر ]، هذا ابن بداء وتميم الداري كانا كافرين، فلهذا أشهدهما على الوصية، [ فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما ] إن فرضنا هذا، [ فاحبسوهما، أي: أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله، فيقولان: والله! لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى، أي: قرابة، ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا )[المائدة:106]، أي: إذا كتمنا شهادة الله ( لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا )[المائدة:106-107]، أي: وإن وجد أن اللذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت، إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ الظَّالِمِينَ )[المائدة:107]، قائلين: والله! لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، ( وَمَا اعْتَدَيْنَا )[المائدة:107]، أي: عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت ]، كما تقدم.
[ قال تعالى: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا )[المائدة:108]، أي: أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور، وقوله تعالى: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )[المائدة:108]، أي: وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:108]، أي: خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، ( وَاسْمَعُوا )[المائدة:108] ما تؤمرون به، واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، واحذروا الفسق واجتنبوه ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً ]، ما معنى: مشروعية؟ أي: جائزة، ما هي بواجبة، المشروعية: كون هذا شرعه الله عز وجل، [ مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً والحث عليها والترغيب فيها ]، والرسول أوصانا، قال: ( لا يبيتن أحدكم إلا ووصيته عند رأسه )، إذا كان له أو عليه، ما من مؤمن عليه ديون أو له ديون لا يبيت ليلة إلا ووصيته مكتوبة عنده، وهذا عمل به المسلمون، عليك ديون للمؤمنين يجب أن تكتبها وتشهد عليها وتوصي، فإذا مت أخذت من التركة، لك أموال عند الناس كذلك؛ حتى لا يضيع حق الورثة، الوصية مشروعة ومتأكدة ومرغب فيها أشد الترغيب، ولكن لو لم يفعلها لا يأثم.
[ ثانياً: وجوب الإشهاد على الوصية ]، إذا وصيت وأنت على سرير الموت: فلان له كذا.. فلان له كذا؛ فلا بد أن تشهد على تلك الوصية، أما بدون شاهد فقد يردونها، يقولون: ما هو بصحيح هذا.
[ ثالثاً: يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم ]، قد يقول قائل: إذا كان المؤمن الفاسق لا تقبل شهادته فكيف -إذاً- نقبل شهادة بريطاني أو فرنسي؟
الجواب: للضرورات أحكام، إذا كنت بين المسلمين فلا يحل لك أن تشهد كافراً أبداً، حرام عليك، لكن إذا كنت بين كافرين فلا تضيع حقوق الورثة، لا بد أن تشهد، وهذا الذي قال به الإمام أحمد رحمه الله.
[ يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم ]، تعذر: أصبح لا يمكن، من غير الممكن، أنت في مستشفى في بريطانيا وما هناك مسلم فكيف تصنع؟ أما يذهب الناس يتعالجون؟ ولاحت له حالات الوفاة وعليه وصايا، فيشهد اثنين من أهل المستشفى كافرين، وإذا أردنا أن نحلف الكافرين فبم نحلفهما؟ بما يعظمان، حتى بعيسى ومريم ؛ لأنهم إذا كانوا يعظمون شخصاً لا يستطيعون أن يكذبوا معه.
[ رابعاً: استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين ]، في المسجد وعند المحراب وبعد العصر، فالمؤمن ترتعد فرائصه ويخاف من هذا الموقف، إذا كان فيه إيمان يتحرك إيمانه، ويعترف بالحق ولا يكذب ولا يشهد بالباطل.
[ خامساً: مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، شاهدان شهدا على أن فلاناً قتل فلاناً، أو أخذ حق فلان، وشك القاضي أنهما قد يكونان كاذبين لإرادة كذا أو كذا؛ فماذا يصنع القاضي؟
قال: [ مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم ]، لا بد أن يستحلفهما وعند المنبر أيضاً بعد العصر، حتى لا تضيع حقوق المؤمنين والمؤمنات.
اللذان عند الوصية شهدا فشككت أنت فيهما، فتأتي أنت وواحد معك فترد الشهادة؛ فما كل من يشهد يصدق، لا سيما وهم كافران، فيأتي شاهدان آخران ما كان حاضرين عند الوصية، وهذه الشهادة كانت لهما ومن أجلهما فشكا فيمن شهدا، يرفعان القضية إلى المحكمة، يقولان: نحن نشك في شهادة هذين الرجلين، أبونا ترك أكثر من هذا.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وأن يجعلنا من أهل القرآن والعمل به.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:56 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (48)
الحلقة (459)
تفسير سورة المائدة (54)



يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين، ويأتي بالنبيين فيسألهم عن استجابة أقوامهم إليهم وتذكيره لهم بما أنعم به عليهم، ومن ذلك أنه يأتي بعيسى عليه السلام ويذكره بإنعامه عليه وعلى والدته بسائر النعم، واصطفائه له بالنبوة والرسالة، وتأييده له بالمعجزات الباهرات، وهداية الحواريين من بني إسرائيل للإيمان به واتباعه ونصرته.
تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الخير إنك ربنا وعلى كل شيء قدير.
ما زلنا مع سورة المائدة المباركة، المدنية، الميمونة، ونحن في آخرها، ومعنا هذه الآيات الأربع فهيا نتلو ونتدبر ونتأمل، والله نسأل أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، ويفتح علينا في العلم والعمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، متى هذا؟ يوم القيامة. يجمعهم في أي مكان؟ على صعيد واحد في عرصات القيامة وساحات فصل القضاء، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )[الفجر:22-24]، واذكروا قول الله تعالى: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )[الزمر:68-69].
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، يوجه هذا السؤال إلى الرسل الذين لهم أتباع وأمم، ( مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، موقف صعب جداً، فيذهلون ويندهشون، لا يسعهم إلا أن يقولوا: ( لا عِلْمَ لَنَا )[المائدة:109]، فيفوضون الأمر لله، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، تسألنا وأنت أعلم منا، فالعلم عندك، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، ما غاب شيء عن علم الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ...)
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:111]، هذا كله في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء، والله! كأننا شهود هناك حاضرون نسمع هذا ونراه، وهذا من فضل الله تعالى علينا، أعطانا علوماً ما عرفها غيرنا. يقول تعالى: اذكر يوم يجمع الله الرسل، يا من لم يتقوا الله وفسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته وكتموا الشهادة وكذبوا على المؤمنين! اذكروا ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ )[المائدة:109] سائلاً ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، هل آمن بكم أقوامكم، هل اتبعوكم أم كفروا بكم، أم عذبوكم؟ ماذا حصل؟ فيقولون لصعوبة الموقف والاندهاش: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
واذكروا أيضاً: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، في عرصات القيامة، في ساحة فصل القضاء، وخص عيسى بالذكر في هذا الموقف؛ لأن هناك أمتين عظيمتين -اليهود والنصارى- جانبت الحق فيه، اليهود قالوا: عيسى ساحر وابن زنا، وكفروا وكذبوا وحاربوه، والنصارى قالوا: عيسى هو الله وابن الله، ملتان عظيمتان وأمتان كبيرتان في العالم، اليهود والنصارى، والكتاب يدعو اليهود والنصارى إلى الإسلام وإلى الإيمان، فاسمعوا وهو يعرض عليهم هذا الموقف وهم أهله: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، لماذا ما قال: يا عيسى ابن فلان؟ لأن عيسى لا أب له، وإنما له أم فقط، واسمها: مريم ، وبالعبرية: خادمة الله، مريم معناها: خادمة الله، سمتها والدتها حنة، وهي امرأة عمران عليهما السلام، كانت لا تلد وتاقت نفسها للولادة والولد، ورأت عصفوراً يزق أفراخه في الحديقة فجاشت نفسها وهاجت، وسألت ربها إن أعطاها والداً أن تجعله لله، وفعل الله بها ما طلبت، وما إن وضعت مريم حتى قمطتها في قماطة، وخرجت بها إلى علماء بني إسرائيل ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ )[آل عمران:44]، هذه نذيرة الله عز وجل، وكفلها الله زكريا؛ لأن زكريا رسول من رسل الله ونبي من أنبيائه، وامرأته أخت حنة، فتدبير الله لهذه النذيرة أن جعل كفيلها رسولاً وجعل امرأته خالتها، كأنها في حجر أمها، ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )[آل عمران:36]، وهل كان لـمريم ذرية؟ إي والله، عيسى عليه السلام، واستجاب الله لـحنة ، فما عرفت ابنتها معصية الله ولا عرف عيسى ذنباً قط، دعوة حنة واستجابة الرحمان جل جلاله وعظم سلطانه، ففي عرصات القيامة يأتون إلى آدم يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله ليقضي بينهم؛ لطول الموقف، فيذكر آدم ذنبه إذ نهي عن الأكل من الشجرة فأكل، فيستحي أن يواجه الله وهو عليه هذا الذنب، فيحيلهم إلى نوح فيذكر ذنبه في دعوته ( لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا )[نوح:26]، فيستحي ويحيلهم إلى إبراهيم، فيذكر أنه كذب ثلاث كذبات في عمر أكثر من مائة وعشرين سنة، وكثيراً ما نقول: والله! لكذبات إبراهيم أفضل من صدقنا؛ لأنه كذب لله، ويحيلهم إلى موسى فيذكر قتله لذلك القبطي فكيف يواجه الله، فيحيلهم إلى عيسى، أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى لم يذكر ذنباً قط؛ لأنه لم يقارف ذنباً قط، استجابة الله لدعوة حنة ، فهنيئاً لمن يدعو له عبداً صالح أو مؤمنة صالحة.
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، وهنا أذكركم من باب تذكير الناسين، وتعليم غير العالمين أن آدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم، آدم أبو البشر لا أم له ولا أب، من أبوه؟ والله! لا أب له. من التي ولدته؟ والله! لا أم له، إذ خلقه الجبار من طين فاكتملت خلقته ونفخ فيه من روحه فإذا هو آدم أبو البشر، وخلق حواء أم البشرية كلها من أب بلا أم، حواء امرأة لا أم لها، والله! لا أم لها ولكن لها أب، إذ خلقها الله من ضلع آدم الأيسر بكلمة (كن) فكانت، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )[يس:82]، حواء بلا أم، وعيسى بأم ولا أب، فهذا عيسى ابن مريم البتول العذراء.
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهل لله من نعمة على عيسى وأخرى على والدته؟ أي نعم، واسمعوا بيان هذه النعم، يفصل الجبار تفصيلاً، فأين اليهود.. أين النصارى ليسمعوا كلام الله؛ ليخرجوا من ضلالهم وفتنتهم وعماهم وحيرتهم؟
معنى قوله تعالى: (إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً)
قال تعالى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، القُدْس والقُدُس: الطهر والصفاء، وروح القدس: جبريل عليه السلام، ويوجد في الملائكة الروح، ولكن روح القدس هو جبريل عليه السلام، والروح عيسى، روح قدس أيضاً، روح طاهرة، لكن أيده بروح القدس بجبريل يقف معه في كل موقف يوجهه ويدفع عنه ويبين له، تأييد بروح القدس، ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، (المهد): ما يوضع فيه المولود الجديد من سرير من خشب ونحوه، إذ الأم ليس دائماً في يدها ترضعه، فهي تشغل، تطبخ وتغسل فتضع ولدها على السرير المسمى بالمهد، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110]، وقد كلم في المهد، وجاء هذا من سورتها مريم عليها السلام، إذ قال تعالى: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا )[مريم:25-26]، لا تدخلي معهم في صراع ولا كلام، لا تكلمي أحداً، اعتذري وقولي: إني صائمة فلا أكلم أحداً، فلما ألحوا عليها فأشارت إليه كلموه هو، فنطق، فقال عيسى الرضيع في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:25-33]، هذه كلماته -والله- في المهد، أخبر عن المستقبل بما فيه وتم كل هذا كما أخبر، هذه من إنعام الله على عيسى وأمه: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، لولا قوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لفهمت مريم وغيرها من الناس أن عيسى يموت صغيراً كما يموت الصبيان في السابعة، في العاشرة، في الحادية عشرة، لكن كلمة (وكهلاً) معناها: أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة، والكهولة بعد الشبيبة، الشبيبة تنتهي بالثلاثين ومن نزل عن الثلاثين دخل في الكهولة، إذا بلغ الأربعين اشتد ساعده وعظمت كهولته، وانحدر إلى الشيخوخة، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وعيسى عليه السلام عاش في الدنيا ثلاثاً وثلاثين ورفع إلى الملكوت الأعلى، وهل هناك من ارتاد الملكوت الأعلى من البشر؟ إن أول رائد -ولا رائد سواه- هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رحلة من أعجب العجائب، من بيت أم هانئ القريب من المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له عملية جراحية لغسل القلب وحشوه بالإيمان والنور، ومن ثم في لحظات وهو في بيت المقدس، ومن ثم عرج به إلى الملكوت الأعلى إلى ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )[النجم:15-18]، فوالله! لدخل الجنة ووطئها بقدميه اللتين الآن في قبره، ورأى قصورها وشاهد حورها وأنهارها ونعيمها، وعرج به فوق ذلك الملكوت فدنا من الرب وكلمه كفاحاً بلا واسطة، ففرض عليه الصلوات الخمس في هذه الرحلة، فلهذا أعظم العبادات الصلوات الخمس، ما شرعت في الأرض ولكن في الملكوت الأعلى.

يتبع


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:56 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
قال: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ )[المائدة:110]، علمه الكتاب فكان يخط بالقلم ويحسن ذلك ويجيده، والحكمة في قوله وعمله، لا يقول إلا مع الحكمة ولا يفعل إلا معها، ولا يترك إلا بها، لا تفارقه الحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، فالذي يضع الشيء في غير موضعه هذا أحمق ويتخبط ولا حكمة عنده، وضربنا لذلك أمثلة: لو أن شخصاً في حلقة الدرس يزحزح من حوله ويقول: ابتعدوا وينام، فهل من الحكمة أن ينام هنا؟ لا، هل هذا مكان للنوم؟! لكن لو كان في بيته أو في مكان آخر فنعم. لو أن شخصاً خرج عند باب المسجد وبال، فهل وضع البول في موضعه؟ إن موضعه الحمامات والمراحيض، فهذا أحمق.
فالحكيم: هو الذي تصرفاته كلها لا يخطئ فيها، يضع كل شيء في موضعه، الطعام، الشراب، اللباس، البناء، السفر، الهدم، كل عمله قائم على مبدأ وضع الشيء في موضعه، وهذه تطلب من الله، فاسأله أن يعطيك الحكمة، فمن طلب وجد.
قال: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، اذكر ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، التوراة: كتاب أنزله الله على موسى، أحد الكتب المقدسة الأربعة، التوراة فيها ألف سورة، وهي مأخوذة من النور والتورية، فعيسى عليه السلام قرأها وحفظها وفهمها وهو صغير، وأوحى الله إليه الإنجيل، فعلمه إذاً التوراة والإنجيل.
معنى قوله تعالى: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني)
يقول تعالى: واذكر أيضاً ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اليهود طالبوا عيسى بالآيات، بالمعجزات العجب، من جملة ذلك أنهم قالوا: إذا كنت رسول الله فاصنع لنا طيراً نشاهده يطير في السماء، فقال: باسم الله، فأخذ طينة وألانها وعجنها وصور طيراً كطير من الطيور ونفخ فيه باسم الله فطار أمامهم، فقالوا: ساحر، لا يريدون أن يؤمنوا، هذه آية من الآيات العظمى، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الله الذي قال له: طر وكن طيراً، هذا توبيخ لليهود والنصارى وتأديب لهم لو كانوا يقبلون على القرآن ويسمعون، وهذا في عرصات القيامة، يوبخون هذا التوبيخ ليعظم الحكم عليهم وتشتد بهم المحنة. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، هو الذي أذن له في ذلك، ( فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110] أيضاً، لولاي ما طارت.
معنى قوله تعالى: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني)
(وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، الكمه: هو أن يولد المولود بلا عينين، أعمى، أي: عيناه مطموستان، ينفخ فيهما ويمسحهما باسم الله فيعود بصيراً، ولو جاءت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تخلق عينين، أما هذا الذي يصنعونه من زجاج فكله كذب، أما إيجاد عين تبصر فيستحيل على البشرية أن توجدها، فهذا الذي يولد أكمه لا يبصر شيئاً ينفخ فيه ويمسح على عينيه أو يرفع يديه إلى ربه يسأله فيعود بصره.والبرص داء عضال، إلى الآن مع هذا الاكتشاف وهذا التقدم هل استطاعوا أن يوقفوا البرص ويعالجوه؟ ولهذا ذكر تعالى البرص، فالأبرص ينفخ فيه، يمسح على يديه ورجله فيعود كما كان بشرته نظيفة بيضاء، ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، ومع هذا ما قالوا: رسول الله؛ لأنهم يحافظون على المادة والعياذ بالله.
قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، لولا الله فهل سيبرئ؟ لا شيء. لولا أن الله أمره فهل سيفعل؟
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذا أيضاً، ميت في قبره، فيقولون: يا روح الله.. يا عيسى! إن كنت رسول الله فادع ربك يخرج لنا هذا الميت، فيدعو ويخرج الميت، حتى جاءوا إلى قبر سام بن نوح ، وقالوا: ادع ربك يخرج لنا هذا إن كنت رسولاً، فقام يصلي ويدعو فخرج من قبره سام بن نوح ، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110].
والكذابون والمفترون يقولون: هذه كلها افتراءات، ومن ذلك أن عجوزاً مات ولدها، والحادثة كما هي في الإنجيل، امرأة مات ولدها والجنازة على أعناق الرجال في الشارع مشاهدة، فقالت: يا روح الله! ادع الله أن يحيي ولدي، فدعا الله فجلس الولد على السرير فأنزلوه ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة بين هذه العجوز وبين عيسى، اتفق معها وقال: إذا كنا مارين فقولي: ادع الله، والولد حي ما هو بميت! قالوا ذلك، ولكن هذا الذي في القبر كيف يخرج من القبر؟ هل هناك مؤامرة في القبر؟ مستحيل.
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، والإخراج غير الإحياء من القبر.
معنى قوله تعالى: (وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات...)
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتله، فرئيس الشرطة جاء بشرطه ورجاله إلى منزل عيسى عليه السلام وطوقوه وقالوا: الآن نأخذه ونعلقه، فشاء الله عز وجل أن يفتح روزنة من السقف، ويأخذ عيسى إلى الملكوت الأعلى، ويلقي الشبه على رئيس البوليس، لما انفتح الباب دخل رئيس الشرطة فألقى الله الشبه عليه، فلما تأخر وما خرج تدفق الجيش فوجدوه كأنه عيسى، فألقوا القبض عليه وخرجوا، ومن الغد قتلوه وصلبوه أمام العالم، والله يقول: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، وصدق الله العظيم، ألقى الشبه عليه فقتلوا رئيس شرطتهم، وما عرفوه وصلبوه وعلقوه على الأخشاب، وعيسى رفعه الله إليه، وسوف ينزله عما قريب، وإننا نقترب من أيام نزوله، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كأني بابن مريم في الروحاء ملبياً بحج )، فوالله! ليحجن.ومن هنا أذكر شيئاً ولا تقولوا: قال الشيخ جازماً، فقد ذكر فقهاء المسلمين -وقرأنا هذا في الفقه المالكي- أن من الجائز أن يدفن عيسى في الحجرة الشريفة، وذلك لسببين قويين:
أولاً: يوجد في الحجرة مكان إنسان، حيث الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وبقي مكان قدر ما يدفن فيه إنسان، فمن هذا الذي يدفن فيه؟
وعيسى سينزل ويحج، إذاً: سيزور، فمن الجائز أن يدفن مع حبيبه صلى الله عليه وسلم، ولو تجتمع البشرية كلها على أن تدفن في هذا المكان إنساناً فلن تستطيع، ويدفعها الله عز وجل، لكن إذا أعده لعبده ورسوله ليدفن مع أخيه فنعم، أما قال: ( أنا أولى بعيسى )؟
وتذكرون المؤامرة التي تمت بين بعض المجرمين على أن ينبشوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذوا جثته الطاهرة، وهذه الحادثة مكتوبة وشائعة وليست أبداً بغريبة ولا مستغربة، في سقيفة الرصاص كان لهم منزل، وأخذوا يحفرون تحت الأرض ويحملون التراب في زنبيل ويرمونه، في اليوم أو اليومين يخرجون زنبيلاً حتى ولو بلغوا خمسين سنة، المهم أن يصلوا إلى القبر الشريف ويأخذوا جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من جهة الشرق الأقصى أو الشمال.
فلما أوشكوا أن يصلوا حيث دخلوا تحت المسجد وكادوا أن يصلوا إلى الحجرة رأى أمير المدينة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له: أنقذني فإن هناك من يريد نبش قبري. وأراه صورة ذلك المجرم الذي يعمل على نبش القبر، فأمر بإقامة حفل أو دعوة عامة لأهل المدينة، وما كانوا كثيرين مثل اليوم، فجمعهم على غداء، وجلس على كرسيه والناس يدخلون فيأكلون ويخرجون وهو يشاهد، وما جاء هذا الرجل، فقال لعمدة المدينة: من بقي؟ فقال: ما بقي إلا شخص كبير السن لا يجيب الدعوة. فقال: أحضروه، فجاءوا به فنظر إليه فقال: هذا هو. امشوا معه برجال الشرطة، فوجوه قد حفر من سقيفة الرصاص حوالي مائتي متر، ووصل تحت المسجد إلى الحجرة، ومن ثم بنو الحجرة بالرصاص إلى أسفل الأرض، جدار من حديد يحيط بالحجرة إلى أسفل الأرض، وقدرة الله أعظم من هذا، فلن تستطيع البشرية أن تنال من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال تعالى: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، أي: جئتهم بالبينات وهي المعجزات الخوارق للعادات فقالوا: ساحر، وعزموا على قتله، وهم في حكم من قتل عيسى، فاليهود ما قتلوا عيسى، لكن تلك الفعلة تعتبر قتلاً، وقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم إذا تآمروا مرتين على قتله، ولكن الله صرفهم، مرة سقوه السم والعياذ بالله، فهم يعتبرون قتلته، وهم قتلة الأنبياء ولا عجب.
إذاً: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ )[المائدة:110]، أي: من بني إسرائيل، أي: اليهود، ( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وفي قراءة: (إلا ساحر مبين).
تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ...)
وأخيراً: اذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، من هم الحواريون؟ أنصار الله، أنصار عيسى عليه السلام، هؤلاء أوحى الله إليهم بواسطة عيسى، أو ألقى في روعهم وقلوبهم؛ لأن الإيحاء له ثلاث مراتب، منها: الإلهام، والإلقاء في الروع، يفهم عن الله، وجائز أن يكون عيسى هو الذي دعاهم.(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111]، ماذا أوحى إليهم؟ ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، وهو عيسى عليه السلام، فقالوا ماذا؟ ( آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أين اليهود والنصارى الذين يحاربون الإسلام والمسلمين؟ لا يقبل دين سوى الإسلام، وما كان عبد صالح إلا وهو مسلم؛ لأن الإسلام إسلام القلب والوجه للرب، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا تقبل به إلا على الله، فمن أعطى قلبه ووجهه لله أصبحت حياته كلها وقفاً على الله، فهو المسلم الحق الذي أعطى لله عز وجل ما أعطاه.
فاللهم اجعلنا من المسلمين.. اللهم اجعلنا من المسلمين.. واجمعنا يا رب العالمين مع الصالحين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.






ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:57 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (49)
الحلقة (460)
تفسير سورة المائدة (55)


يحذر الله عز وجل عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع النبيين والمرسلين ويسألهم عن دعوتهم ومن أجابهم إليها، وفي هذه الآيات يخص الله عز وجل عيسى بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن أمتين عظيمتين غوتا فيه، فاليهود طعنوا فيه واتهموه بالسحر، واتهموا أمه بالزنا، وحاولوا قتله، أما النصارى فقد غلوا فيه وجعلوه إله مع الله تارة، وجعلوه ابن الله تارة أخرى.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة المدنية، المباركة، الميمونة، وما زلنا مع هذه الآيات الأربع التي تدارسناها أمس في مثل هذا الوقت، وما استوفينا دراستها، فهيا بنا نتلوها ونتدبر معانيها ثم ننتهي إلى هداياتها، فنسأل الله تعالى أن يهدينا بها، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت؛ إنك تقضي ولا يقضى عليك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:109-111].
سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، هيا نذكر هذا اليوم؛ حتى نتمكن من تقوى الله التي أمرنا بها، وحتى ننجو من الفسق والخروج عن طاعة ربنا؛ فإن ذكر يوم القيامة وما يتم فيه وما يجري فيه وما يجزى به الناس فيه من شأنه أن يوجد الخوف في قلوبنا من ربنا فلا نعصيه ولا نخرج عن طاعته، فاذكر يا عبد الله.. اذكري يا أمة الله ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )[المائدة:109]، أين يجمعهم؟ في ساحة فصل القضاء وذلك يوم القيامة، والرسل: جمع رسول، وقد عرفنا -والحمد لله- عددهم؛ إذ هم: ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أما الأنبياء فهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جاء هذا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.الرسل يجمعهم الله فماذا يقول لهم؟ ( فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أخبرونا بم أجابكم أممكم ومن أرسلتم إليهم تدعونهم إلى أن يعبدوا الله وحده وأن يطيعوه في أمره ونهيه؛ ليكملوا ويسعدوا، أرسلتم إليهم لتحذروهم من الشرك ومغاضب الرب، وذلك بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله، فماذا أجبتم؟
فمن هول الموقف وصعوبة الحال يصابون بالذهول، فيفوضون الأمر إلى الله ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، فنحن إن علمنا شيئاً خفي عنا آخر، إن علمنا الظواهر خفي عنا البواطن، وأنت علام الغيوب.
والغيوب: ما غاب عن العين والحسن، فلا يدرك بالسمع ولا بالبصر، والغيوب لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدعي علم غيب، فقد استأثر الله بعلم الغيب، واختص به ولم يسمح به لغيره إلا من شاء أن يطلعه على شيء من الغيب، قال تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا )[الجن:26-28].
والرسول نفسه يقول له ربه تعالى: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف:188]، فكل من ادعى أنه يعلم ما يجيء به الغدو أو ما تحمله فلانة أو ما في قلب فلان فهو طاغٍ من الطغاة ملعون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دجال وكذاب، وإن كانت الشياطين تسترق السمع، وقد تظفر بكلمة فيكذبون مائة كذبة يصدقون في واحدة، ومع هذا لا يحل تصديقهم أبداً، فمن أتى عرافاً أو كاهناً أو جزانة أو مدعية علم الغيب ليستفسر ويتساءل عما يحدث فقد خرج من ملة الإسلام، ولا تقبل صلاته أربعين يوماً، وهؤلاء الرسل فوضوا الأمر لله وقالوا: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109].
تذكير عيسى عليه السلام بنعم الله عليه وعلى والدته
ثم اذكر أيضاً يا عبد الله.. واذكري يا أمة الله ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:110]، هيا بنا نشهد هذا المشهد العظيم، ويا ليت اليهود والنصارى يشهدونه معنا، إذ اليهود -والعياذ بالله- فرطوا في شأن عبد الله ورسوله عيسى، وبالغوا في التفريط حتى اتهموه بالسحر، وأنه ابن زنا وأنه كذاب، والنصارى غلوا في شأن عيسى ووالدته فألهوهما وجعلوهما إلهين مع الله وقالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: هو ثالث ثلاثة مع الله، خبط وخلط وجهالات لا تخرج منها تلك الطائفة إلا إذا جاءت وأصغت تسمع كلام الله في هذا الكتاب القرآن العظيم، فالآية هذه تعالج أمر الأمتين الضالتين وتكسب أمة الهداية زيادة هداية وإيمان واطمئنان.(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، وهنا -يا عباد الله- يجب أن نذكر نعم الله علينا؛ حتى نشكر تلك النعم، فالذين لا يذكرون نعم الله عليهم لا يشكرونها، وقد أمر الله بني إسرائيل في آيات كثيرة فقال: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )[البقرة:40]، فإن من ذكر نعمة الله شكرها، ومن نسيها كفرها، ما من مؤمن يذكر نعمة الله عليه في صحة بدنه، في حضور قوته، في سلامة عقيدته، في صحة وجوده إلا قال: الحمد لله.. الحمد لله، والذي يأكل ولا يذكر، يشرب ولا يذكر كيف يشكر؟ كيف أعبر عن هذه الحقيقة وهي حقيقة غفلنا عنها؟ الذي لا يذكر نعم الله عليه لا يشكرها، اذكر فقط نعمة سمعك، من وهبك هذا السمع؟ أليس الله؟ ما إن تذكر هذه النعمة وترى من هو أصم لا يسمع حتى تقول: الحمد لله، ترى أعمى يقاد بين الناس، فما إن تذكر هذه النعمة حتى تقول: الحمد لله. ترى فقيراً لاصقاً بالأرض جوعاً وعرياً يتكفف الناس فتذكر ما أنت عليه فتقول: الحمد لله. يا من هو على عروس يبني عليها ويدخل ويخرج! اذكر العزاب الذين حرموا ذلك حتى تقول: الحمد لله.. الحمد لله. يا صاحب الوظيفة! اذكر من لا وظيفة لهم وهم يتسولون، اذكر هذا لتقول: الحمد لله.
ما استطعت أن أعبر عن هذه الحقيقة، ما نشكر الله إلا إذا ذكرنا آلاءه ونعمه علينا، وهو القائل في سورة الرحمن: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )[الرحمن:13]، فقالت الجن قبل الإنس: لا بشيء من آلائك نكذب يا ربنا، ها نحن في هذا المجلس وغيرنا في المقاهي والملاهي والملاعب ومجالس السوء والباطل والمنكر، ونحن تصلي علينا الملائكة وتستغفر لنا وفي بيت ربنا وآمنون غير خائفين، راجون غير آيسين ولا قانطين، لم لا نذكر هذا حتى نقول في صدق: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.
إنعام الله على عيسى بتأييده بروح القدس وتكليمه الناس في المهد
الله يذكر عيسى وأمه: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، ويبين مظاهر النعمة فيقول: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110]، أي: قويتك ونصرتك ( بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، فأية نعمة أعظم من هذه؟ يجادل المبطلين ويحاج الكافرين ويواجه المعانين، فلو لم يكن له من يعينه ويقف إلى جنبه فإنه سيعجز ويضعف ويسقط، لكن الله امتن عليه فأيده بجبريل عليه السلام المسمى روح القدس، فلا يأتون بشبهة إلا ويردها، ولا يحاولون مكراً إلا فضحه وأظهره؛ لأنه إلى جنب عيسى عليه السلام: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110].ثانياً: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أية نعمة أعظم من هذه النعمة؟ أما كلم الناس وهو في مهده؟
وذكرت أنه لولا قوله تعالى: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110] لحزنت مريم وقالت: ولدي يموت قبل أن يبلغ سن التكليف، فقال تعالى: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )[المائدة:110]، وفعلاً أبقاه الله حتى بلغ الثالثة والثلاثين، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، هو -والله- فيه، وسينزل ويحج هذا البيت ويعتمر ويعيش زمناً، قد يبلغ الثلاثين من السنين فيكون عمره كعمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاث وستون سنة.

يتبع


ابوالوليد المسلم 25-07-2021 04:58 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
إنعام الله على عيسى بتعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ )[المائدة:110]، هذه نعم أخرى، ( عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:110]، ونحن أما علمنا الكتاب، أما علمنا الحكمة، أما علمنا القرآن؟ لم لا نذكر الله ونشكره على هذه النعم؟ أم ليست ذات قيمة؟ أعوذ بالله، شتان ما بين أمي لا يقرأ ولا يكتب وبين من يكتب ويقرأ ويجيد الكتابة والقراءة، والتوراة والإنجيل حواهما القرآن وفاض عليهما وزاد عنهما، فلم لا نقول: الحمد لله؟(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي )[المائدة:110]، اذكر هذه النعمة يا عيسى، يذكرها في عرصات القيامة؛ لتقوم الحجة لله على اليهود والنصارى، ويفضحون ويخزون ويذلون في عرصات القيامة بهذه التقريرات الإلهية لعبده عيسى بين يديه وهم يسمعون الإنس منهم والجن.
إنعام الله على عيسى بمعجزة خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى
قال تعالى: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ )[المائدة:110]، وبينا أنهم قالوا: إن كنت رسول الله كما تزعم فاخلق لنا من هذا الطين طيراً نشاهده وهو يطير في السماء، فما هي إلا أن جمع طيناً وصوره في صورة طير بإذن الله ونفخ فيه فطار بإذن الله وهم يشاهدون، وفي النهاية قالوا: ساحر، هذه مظاهر السحر، وإلا فكيف يصنع الإنسان طيراً ويطير، هذه تمويهات على عقولنا وقلوبنا وأعيننا!قال تعالى: ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ )[المائدة:110]، وقد عرفنا أن الأكمه الذي يولد أعمى، فالذي ولد بلا بصر لو اجتمعت الدنيا كلها فلن تستطيع أن تصنع له بصراً يبصر به، والله! لا يستطيعون.
وهذا البرص الداء الذي وجد في الكون هل استطاع الطب الحديث وقد تفوق أن يوجد دواءً للبرص؟ لا، فقولوا: آمنا بالله.
ولهذا خص بالذكر العمى والبرص، وهما نعمتان عظيمتان، حين تنظر إلى الأبرص وجلده وأنت معافى أما تقول: الحمد لله؟ والله! إن الملايين ما يقولون: الحمد لله، ولا يعرفون هذا ولا يذكرونه، يمر بين أيدهم أعمى يقاد فلا يقولون: الحمد لله؛ وذلك لغفلة المؤمنين ولموت الكافرين.
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي )[المائدة:110]، وقد بينا أمثلة لذلك: فسام بن نوح قالوا: ادع الله أن يخرجه لنا، فخرج من قبره وشاهدوه وما آمنوا، وكان على النعش طفل وأمه تصرخ: يا روح الله! ولدي مات فادع الله أن يحييه، فدعا فجلس الولد على النعش ومشى مع أمه، فقالوا: هذه مؤامرة اتفاق بين عيسى وهذه العجوز، فمن القائل؟ اليهود بنو عمنا، الذين يعملون منذ أن طلع فجر الإسلام على إطفاء هذا النور والقضاء عليه، ونجحوا في مجالات شتى، وها نحن نصرخ هذه الأيام على هذه القبعات التي استوردناها من مصانع اليهود وأتباعهم وننشرها بين أولاد المسلمين في الحرمين الشريفين، أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ هذه القبعات التي هي لليهود وهي زيهم الذي يمتازون به، كيف تتحول إلى أبناء المسلمين ليألفوا ذلك ويستأنسوا به، ليصبحوا لا يبغضون هذا المنظر ولا يرهبونه بل يعتزون به ويضحكون؟ هذه ظاهرة عجيبة غريبة، أن القبعات التي تسمى بالبرانيط أصبحت لأولاد المسلمين وشبابهم، وتستورد بالآلاف وتباع بالأثمان، ويشتريها أحفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزغردي يا يهودية وهللي فقد نجحتِ بعد أن ألبستنا البرانيط، وعما قريب ستكون الصلبان في أعناقنا.
إنعام الله على عيسى بإنجائه من كيد اليهود
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، وعزموا على قتلك وصلبك والقضاء على وجودك، فمن كفهم سوى الله؟ هل لعيسى جيوش وجنود، أو أبناء عم، أو قبيلة؟ كلا. فمن كف عنه اليهود؟وقد ذكرت لكم حادثة إلقاء القبض على رئيس الشرطة، جاءوا عازمين على قتله فطوقوا بيته عليه السلام وحاصروه فترة فما خرج أحد، ففتحوا الباب فدخل رئيس الشرطة إلى المنزل، وعيسى رفعه الله من الروزنة وألقى الله الشبه على مدير الشرطة، فدخلوا عليه وتدفقوا ورفعوه بين أيدهم على أنه هو عيسى، وأخذوه إلى المحبس حتى نصبوا أخشابهم وآلات قتلهم وصلبوه، والذي صلبوه -والله- ما هو بعيسى، وإنما الرجل اليهودي الذي ألقى الله الشبه عليه، قال تعالى من سورة النساء: ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ )[النساء:157]، هذه النعمة يذكرها فيشكر الله، ونحن كف أيضاً عنا أعداء الإسلام، وآخر ما كف عنا حرب الخليج، أما أرادوا إطفاء نور الله، أما أردوا تمزيق راية لا إله إلا الله؟ والله! لهذا الذي أرادوا، فمن صرفهم؟ من رد كيدهم؟ أليس الله؟ لم لا نذكره لنشكره؟ والله يذكر عيسى: ( اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ )[المائدة:110] .. ( إِذْ أَيَّدتُّكَ )[المائدة:110].. ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110].
منة الله على عيسى بإيمان الحواريين ونصرتهم له
وأخيراً قال تعالى: واذكر أيضاً: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111]، أولاً، ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] ثانياً، فمن أوحى إلى الحواريين؟ أليس الله؟ ألقى في قلوبهم، ألقى في روعهم: ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111].من هم الحواريون؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم في الزبير : ( حواريي الزبير )، حواري رسول الله الزبير بن العوام ، والحواري باللفظ العام: هو الذي برز في طهارته وصفائه ونوره ونصر الله ورسوله، فالحوارين عند عيسى كأصحاب رسول الله عنده صلى الله عليه وسلم، الذين وقفوا إلى جنبه يحمونه ويدافعون عنه وينصرونه، وجاء ذكرهم في آخر سورة الصف؛ إذ قال تعالى عنهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ )[الصف:14]، هذا النداء موجه إلينا نحن معشر المسلمين، فهل استجبنا أم لا؟ ( كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، كيف ننصر الله؟ ننصره في دينه وفي أوليائه، ننصره في عباده بأن لا نسمح أن يعتدوا أو يظلموا أو يفسقوا أو يفجروا، أو يعبدوا غير ربنا، ننصره في أوليائه فنقف إلى جنبهم ولا نذلهم ولا نخزيهم، ننصر الله في أن نعبده وحده.
إذاً: من رأى منكم برنيطة على رأس ولد فلينصر الله فيها، قلت لكم: اذهبوا إلى بائعي هذه البرانيط، ليذهب اثنان أو ثلاثة، وابتسموا في وجه صاحب الدكان، وقولوا: هذا ما يجوز أبداً، يخشى عليك عقوبة من الله، أنت تنشر هذا الباطل، هذه فتنة من حيث لا تدري يا عبد الله، ( من تشبه بقوم فهو منهم )، فهذا الذي تشبه باليهود والنصارى سوف يصبح يحبهم ويقبل عليهم ويرضى عنهم وبما جاءوا به إليه، وبذلك ينسلخ من دينه وإسلامه.
(كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ )[الصف:14]، أي: انصروا دينه وأولياءه.
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111]، ماذا؟ ( أَنْ آمِنُوا بِي )[المائدة:111] أولاً ( وَبِرَسُولِي )[المائدة:111] عيسى عليه السلام، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ )[المائدة:111] يا ربنا ( بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، ما معنى (مسلمون)؟
قلنا: الإسلام هو أن تسلم قلبك لله: خذ يا رب قلبي، ووجهك لله: خذ يا رب وجهي، فتصبح حياتك كلها وقفاً على الله، قلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهك لا يتجه في الحياة إلا إلى ما يرضي الله، إذ أنت عبده وأنت وليه وهو قد استوقفك عليه، فأنت وقف على الله، وآية الوقفية من سورة الأنعام واضحة صريحة: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:162]، هل بقي شيء بعد الحياة والموت؟ ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162-163]، إننا -والله- لوقف على الله، فليس للشيطان أن يأخذ من غلالنا أبداً ولو كلمة؛ لأننا وقف على الله، حياتنا ومماتنا لله، فلا تستول علينا الشياطين ولا الكافرون، فلا نعبد غير الله، ولا نذعن ولا ننقاد ولا نسلم إلا لله؛ تحقيقاً لهذا الوقف.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
نسمعكم الآن الآيات في الشرح.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث في اليوم الآخر، يوم يجمع الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ )[المائدة:109]، أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:109]، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس؟!
ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم؛ لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت: اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنا، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )[المائدة:110]، فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ )[المائدة:110]، جبريل عليه السلام، ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ )[المائدة:110] وأنت طفل، إذ قال وهو في مهده: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )[مريم:30-33] ]، هذه -والله- قالها وهو في قماطه على مهده، في أيام ولادته الأولى، فكيف وصلنا هذا الهدى وهذا الخير؟ إنه فضل الله علينا بهذا الكتاب وهذا الرسول.
[ وقوله: ( وَكَهْلًا )[المائدة:110]، أي: وتكلمهم وأنت كهل أيضاً، وفيه بشرى لـمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً، وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل، ويعدد نعمه عليه فيقول: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[المائدة:110]، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه، ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك، فقالوا لك: اخلق لنا طيراً، فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً ] بإذنه، ولولا أن الله أذن له أن يصور فهل سيفعل؟ لن يفعل؛ لأن الله لم يأذن لمؤمن أن يصور صورة، وفي الحديث: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، لولا أن الله أذن لعيسى لما فعل، قال: أذنت لك في التصوير، والمسلمون اليوم غمرتهم التبعية والذيلية لليهود والنصارى؛ فأصبحوا مثلهم إلا من رحم الله.
قال: [ أي: اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك: اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك، ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً إذ ( وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ )[المائدة:110]، وهو الأعمى الذي لا عينان له، ( وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي )[المائدة:110]، أي: بعوني لك وإقداري لك على ذلك، ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى )[المائدة:110]، أي: من قبورهم أحياء، فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى، ثم قال بنو إسرائيل: أحي لنا سام بن نوح . فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ )[المائدة:110]، فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، ( فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )[المائدة:110]، واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111] على لسانك ( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي )[المائدة:111]، أي: بك يا عيسى، ( قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )[المائدة:111]، أي: منقادون، مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك ] يا رسول الله، هذا معنى هذه الآيات النورانية، فهل نشبع منها؟ والله ما نشبع، لو نكررها الدهر كله ما تنتهي أنوارها ولا تنقطع هدايتها للأحياء لا للأموات.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
ثانياً: وجوب الاستعداد لذلك اليوم ]، هل نستعد له بالأموال في البنوك؟ هل ندخر الدقيق والشحم؟ بأي شيء نستعد ؟ بطاعة الله ورسوله، بتقوى الله.
[ ثالثاً: توبيخ اليهود والنصارى ] في هذا الموقف العظيم [ بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه ] عليه السلام.
[ رابعاً: بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
خامساً: ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها ]، فهي مقررة في القرآن، ما هي حكايات ترددها الناس.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:03 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (5)
الحلقة (361)
تفسير سورة المائدة (56)


بعد أن ذكر الله بهيمة الأنعام وأنها حلال لعباده المؤمنين، ثم بين لهم ما حرم عليهم فيها وخاصة فيما يتعلق بما أكل السبع، أجاب هنا سبحانه على ما يتعلق بسؤالهم عما أحل لهم، فذكر سبحانه أنه أحل لهم بهيمة الأنعام التي سبق ذكرها من قبل والخالية من العيوب التي سبق ذكرها أيضاً، وأضاف إليها قسمان آخران وهما ما صادته السباع المعلمة بعد ذكر اسم الله على الصيد عند إطلاقها عليه، وكذلك طعام أهل الكتاب المذبوح حلال للمسلمين، وطعام المسلمين حلال لهم.
تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم هذا الأمل لنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
سبب تسمية السورة بالمائدة
وها نحن مع سورة المائدة، والمائدة -يا أبناء الإسلام- ما يكون عليها أنواع الطعام، سميت هذه السورة بسورة المائدة لذكر المائدة في آخرها، وذلكم أن مجموعة من الحواريين من أتباع عيسى وأنصاره قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]، فلهذا من أشد الخليقة عذاباً من أكل من المائدة وكفر والعياذ بالله.وهي سورة الأحكام؛ لأنها مدنية من أخريات ما نزل، وتذكرون بالأمس الآية الكريمة وما حوته من أحكام، والآن مع آيتين أخريين تحملان أحكاماً أيضاً، وسنسمع تلاوتهما، وتدبروا وتأملوا وتغنوا إن استطعتم بتلاوتهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:4-5].
سبب نزول الآية الكريمة
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4]، من السائل؟ أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، ذكر القرطبي في تفسيره -وهو من أسلم التفاسير- قال: هذه الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد الخيل ، بسبب عدي بن حاتم الطائي المعروف، والثاني: زيد الخيل الذي سماه الرسول بعد زيد الخير ، ففاز بها.قال: إذ قالا: يا رسول الله! إنا قوم نصيد بالكلاب، يصيدون ماذا؟ الغزلان والأرانب وما يؤكل، قالا: نصيد بالكلاب والبزاة، والباز: معروف من الطير، والبزاة: جمع باز، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء، يعني بقر الوحش وحمر الوحش، والظباء يعني: الغزلان، قالا: فمنه ما ندرك ذكاته- أي: قبل أن يموت نذبحه ونذكيه- ومنه ما تقتله -أي: الكلاب والبازات- فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا إذاً؟ فنزلت هذه الآية، أو قرأها رسول الله عليهم.
قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] عرفنا السائلين: زيد الخير وعدي بن حاتم الطائي ، يسألان: ماذا أحل لهم؟ الجواب: ( قُلْ )[المائدة:4] يا رسولنا: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، كل طيب فهو حلال، كل خبيث منتن عفن فهو حرام.
وقد قلت: لا يحل ولا يحرم إلا الله، أولاً: لأنه المالك، فصاحب الطعام أو الشراب أو اللباس أو الحيوان هو الذي إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، أليس الله مالك كل شيء وهو خالق كل شيء؟ الأموال كلها ملكه، يبيح منها ما يشاء، ويمنع ما يشاء، هذه أولاً، بوصفه المالك فلهذا هو الذي يحل أو الذي يمنع.
الثانية: أنه يعلم ما ينفع وما يضر من مخلوقاته حالاً ومستقبلاً، ونحن لا نعرف؛ فلعلمه وخبرته إذ هو خالق هذه الأشياء يعلم ما يضر وما ينفع، فمن هنا إذا أحل فكل وإذا حرم ومنع فامتنع، وهل يستطيع إنسان أن يحل أو يحرم على عباد الله شيئاً؟ ما يستطيع، أولاً: لأنه لا يملك، ما هو الخالق للأشياء، ليست ملكه حتى يمنع ويعطي.
وثانياً: لأن الله يعلم ما ينفع من مخلوقاته وما يضر، فما علمه نافعاً أذن فيه وأباحه، ما علم ضرره وفساده منعه على عباده، هذا هو سر التحليل والتحريم.
فها هم رضوان الله عليهم يسألون: ماذا أحل لهم؟ بين لنا يا رسول الله ما أحل الله لنا؟ ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ )[المائدة:4] نيابة عنا، فالرسول نائب عن الله، الوحي ينزل عليه هو، وكله الله بهذا، وأسنده إليه، ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] جمع طيبة، والطيبات: ما أحله الله تعالى، كل ما أحله الله تعالى طيب، وكل ما حظره الله تعالى ومنعه خبيث، أي: ضار غير نافع، سواء المناكح، المآكل، المشارب، المراكب، كلها، هذا أولاً.
معنى قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله)
ثانياً: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]، هذه العبارة غريبة عنا نحن العوام، ما معنى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]؟ الجوارح عندنا هي السمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج، سميت بالجوارح لأننا نجترح بها، أي: نعمل بها، هذه الأعضاء سميت جوارح لأننا نكتسب بها، فالعين أما تبصر بها حاجتك؟ اللسان أما تنطق به عما تريد؟ يدك أما تعطي وتأخذ بها؟ هذه جوارح أم لا؟ والجوارح سبع. وهنا قال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] الجوارح هنا: الكلاب والبازات التي تجترح، الكلب يجترح فيأخذ بيده وفمه، الباز هذا الطائر عند الذين يربونه ويؤدبونه كذلك يجترح ويكتسب، هذه الجوارح من الحيوان بها نكتسب أيضاً اللحم ونأكل.
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4] التي هي كلاب الصيد، والطيور التي أعدت لهذا كالبازات.
وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أنتم تعلمونهم مكلبين لها، معلمين لها، فالكلب يجرح، لكن لا بد أن تعلمه، وحقيقة الكلب المعلم أنك إذا أرسلته مشى، وإذا دعوته رجع، أما إذا دفعته فعصاك، لوى رأسه وما مشى، أو ناديته فأبى أن يستجيب فهذا ما هو بمعلم، هذا صعلوك لا يصح أن تصيد به، لا بد أن تعلمه ليصبح إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع، وإذا قلت له: قف يقف. وهذا يحتاج إلى مران ورياضة، وهذا واقع، وإذا ما علمتم أنتم فهو معلوم عند الناس.
(مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: حل كونكم مكلبين لتلك الكلاب حتى تصبح تصيد لك. ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] الله الذي علمنا أم لا؟ علمنا أن نأتي ونذهب ونرجع ونأخذ ونمسك ونطلق، فكذلك هذا الطير أو هذا الكلب من كلاب الصيد؛ إذ نحن الذين نعلمه مما علمنا الله عز وجل.
فالكلب الذي علمته أنت المكلب له، فإذا عرفت أنه أصبح عالماً بحيث إذا أرسلته ينطلق، وإذا قلت: ارجع رجع، هذا معلم، كلبته فأصبح مكلَّباً وأنت المكلِّب.
ولعل السر في هذا أن التعليم أزال معنى الكلب منه، أصبح كإنسان، إذا أرسلته انطلق، وإذا دعوته جاء، يأخذ الغزال أو الأرنب ويأتي به، ولا يأكل منه أبداً، فإن كان يأكل منه فما هو بمعلم، هذا ما صاد لك أنت، صاد لنفسه، وفي هذه الحالة إذا وجدته يأكل منها وأدركتها حية أدركت فيها الروح فذكيتها جاز لك ذلك.
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، أي: لكم، (على) بمعنى: اللام، فكلوا أيها المؤمنون مما أمسكن -أي: أمسكت الكلاب أو الطيور- عليكم، أي: لأجلكم، إذا كان يمسكها لنفسه فما يصلح أكلها، هو يأكلها، لكن إذا كان يأخذها ويقف عندها، أو يمسكها ويبقى ينتظرك؛ إذ ما يستطيع أن يجيء بالغزال على ظهره فحينئذ لك أن تأكل.
معنى قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه)
قال تعالى: ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] إذاً: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4]، إذا أمسكن لههن فلا تأكلوا، إذا كان كلبك الذي تصيد به، أو هذا الباز ترسله يصيد له هو ويأكله فهذا ما هو لك أنت، فما أمسكن عليكم.ثانياً: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]، حين ترسل الكلب تقول: باسم الله، تقول: باسم الله، وتطلق رصاصتك على الغزال أو على الحيوان، لا بد من ذكر اسم الله: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]. ومن هنا إذا وجدتها ميتة وقد سميت الله عليها فهي لك، على شرط: ألا يكون أكلها هو وقتلها، هي من نفسها ماتت، والطير أو الكلب ما أكلها، فإن أكل منها ووجدتها ميتة فلا، وإذا وجدت فيها الحياة ذكيتها.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله سريع الحساب)
وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، يا عباد الله! خافوا ربكم، فإن الله إذا حاسب فما يحتاج إلى مائة سنة، ولا عشر ليال، اتقوه لا تخرجوا عن طاعته، أحل لكم ما أحل فأحلوه، حرم ما حرم فحرموه، ولا تتجاوزوا ذلك ولا تعتدوه، وإلا فأنتم عرضة لنقمة الله عز وجل، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الذي يفسق عن أمر الله، ويخرج عن طاعته، ويستحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله، معناه: أنه أعلن الحرب على الله، فليتهيأ.(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4] هذه الآية الأولى خلاصتها: أنه يحل لنا ما أحل الله لنا من الطيبات مطلقاً من فواكه وخضر ولحوم، كل ما أحل الله، وما علمنا من الجوارح مكلبين، نحن الذين نصيد ونملك كلاب الصيد، هذه الكلاب هي التي يجوز للمؤمن أن يشتريها، وأن يستعملها، أما الكلاب التي لا تصيد ولا تحرس غنماً ولا زرعاً فلا يحل لمؤمن أبداً أن يدخلها بيته، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يربط كلباً في بيته، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، جبريل على باب الرسول تردد، أبى أن يدخل، قال: إن بالبيت جرواً فلا أدخل، فأخرجه الرسول وأبعده.
وبلغنا أننا لما وسع الله أرزاقنا أصبحنا نقلد اليهود والنصارى في الكلاب، فلان له كلب في سيارته من ورائه، ويربطه في بيته، والله إن ذلك لعرضة لنقمة الله عز وجل، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، كلب الماشية يرعاها يمشي معها، كلب المزرعة في المزرعة، كلب الصيد تخرج به حيث تصيد، أما كلب في منزلك فهكذا جرينا وراء النصارى واليهود.
ومن قال: وإذا كنت أخاف اللصوص على بيتي؟ قلنا: اربطه خارج البيت، إذا نبح باللصوص فاخرج.
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] مطلقاً ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4] أي: معلمين، لا بد أن تعلم هذا الكلب الذي تصيد به؛ حتى يصبح إذا دفعته اندفع، وإذا دعوته رجع، ويصيد الغزال أو الأرنب ويقف عليه ولا يأكله بفمه، هذا هو المعلم، هذا الذي إذا صدت به حل لك ذلك، ويجوز لك اقتناؤه وشراؤه وبيعه.
وقوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] هذه إباحة الله وإذنه لنا، ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أي: من أجلكم، لا من أجلهن.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] حين نرسل الطير أو الكلب نذكر اسم الله، حين نطلق الرصاصة نقول: باسم الله ونطلق عليها، لا بد من هذا، ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] هذا فعل أمر أم لا؟ كيف نقول؟ باسم الله، هذا هو ذكر الله، وأطلق رصاصتك أو أرسل كلبك الذي يصيد.

يتبع


ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:04 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ...)
ثم قال تعالى في الآية الثانية: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] كلوا واشربوا كل طيب، واتركوا كل خبيث ومنتن وعفن.والخبائث معروفة أم لا؟ تقدم أنها عشر: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3].
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] وشيء آخر: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، من هم الذين أوتوا الكتاب؟ اليهود والنصارى، كتاب اليهود التوراة التي أنزلها الله على موسى، وكتاب النصارى الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، هل هذين الكتابين صافيين نقيين طاهرين ما فيهما كذب ولا زيادة؟ والله إنهما محشوان بالباطل، الإنجيل في يوم من الأيام حولوه إلى ثلاثين إنجيلاً، ولما انفضحوا وانكشفت عورتهم اجتمعوا في روما وجمعوه في خمسة أناجيل: برنابا، ولوقا، ويوحنا، ومتى، ومرقس، الشاهد عندنا: أن الكتاب أصبح خمسة، إذاً: أربعة أخماس كلها كذب؛ فلهذا هم ضالون ضلالاً.
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] إذا ذبح النصراني أو اليهودي البقرة أو البعير أو الشاة أو الدجاجة أو الطير فسم الله وكل؛ لأنهم أهل كتاب، أي: يؤمنون بالله واليوم الآخر، وبالرسل وبالملائكة، فهم قريبون منا، نأكل طعامهم، ويأكلون طعامنا، والمراد من الطعام هنا: المذبوح، فإذا ذبح الشاة وطبخ لك اللحم فكل، أعطاك فخذاً أو نصف شاة فلك ذلك، على شرط: ألا يذكر عليها اسم المسيح، فإنها حينئذ مما ذبح على النصب، كالذي يذبح باسم عبد القادر ، فما تؤكل، كذلك الذي يذبح باسم المسيح ما تؤكل من باب أولى، لكن ذبحها للأكل، ما هي لعيسى ولا لأمه، هذه الذبيحة إذا ذبحها وأسال دمها لك أن تأكل، لكن إذا كان خنق الدجاجة أو الأرنب أو الحيوان حتى مات، ثم سلخه وأكله هل يجوز أكله؟ لا؛ فهو ميتة.
أقول: كان اليهود يذبحون تديناً ورحمة بالشاة، ثم جاءت فلسفة جديدة، قالوا: كيف تذبحون الحيوان وتأكلونه؟ فذهبنا إلى مجزرة في باريس لنشاهد، وجدناهم أمامنا جاءوا بثور عظيم فأوقفوه، ثم جاءوا بعصا من حديد وأدخلوها في رأسه، وأخذوا يديرونها بالكهرباء حتى اخترق الظهر ومات، لما مات وفقد الحياة ذبحوه، فهل هذا يجوز أكله ؟ لا يجوز.
لو كان جملاً أو ثوراً وما استطاعوا ذبحه فضربوه بحديدة فأغمي عليه ثم ذبحوه فإنه يؤكل، لكن أن يقتلوه بالكهرباء حتى يفقد الحياة ويموت، وبعد ذلك يذبح أو لا يذبح فهو جيفة منتنة.
ذبائح أهل الكتاب حل لنا؛ لأنهم يذبحون كما نذبح، وإن لم يذكروا الله، لكن الشرط ألا يذكروا اسم إله معبود، فحينئذ تكون مذبوحة لغير الله، لكن مع اللحم الذي يذبح للآكلين من الناس إذا ذكوها بكل ما يسيل الدم ويزهق الروح يجوز أكله من لحومهم، ويجوز لهم أيضاً أن يأكلوا من لحومنا، أعطهم لحم ذبيحتك ليأكلوه.
اسمع النص الكريم: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ )[المائدة:5] أي: حلال. ( وَطَعَامُكُمْ )[المائدة:5] أنتم ( حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، لا تقل: هذا يهودي ما نعطيه ليأكل، إذا احتاج إليك فأعطه، ( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5] هذه الأولى.
معنى قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
والثانية: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أي: ومما أحل لكم أيها المؤمنون ( الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، المحصنات: جمع محصنة، وهي العفيفة غير الزانية والباغية، إياك أن تتزوج بالزانية، وإن كانت بنت من كانت، لقول الله تعالى: ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )[النور:3]، امرأة من المؤمنين معروفة بالبغاء والزنا لا يحلها لك الله أبداً، إلا إذا تابت ومضى عليها زمن، وأهل البلاد كلهم يشهدون بتوبتها منذ كذا عاماً فلا بأس، أمة تتعاطى الزنا لا يحل لك أن تتزوجها؛ لأن الله قال: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، ما معنى المحصنات؟ العفيفات، التي عرفت بالعفة والطهر والصفاء، أما إذا عرفت بالبغاء فلا يحل نكاحها، حرام، منعنا الله منها. وإن أردت أن تتزوج بغياً فإنها تأتي برجل في بيتك ينكحها، فكيف تعيش أنت؟ متعودة على الخبث، غداً تخرج من البيت وتبيت في بيت آخر، فماذا تصنع أنت؟ فهذا تدبير مولانا عز وجل، يدبر لأوليائه وعباده المؤمنين.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5] أولاً ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] أي: اليهوديات والنصرانيات، على شرط: ألا تكون داعرة وبغياً، تعرفها بجيرانها أنها عفيفة وطاهرة، لا بأس أن تتزوجها، أما أن تعرف أنها عاهرة وبغي تأتي الفجور فلا يصح.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] بقي الشرط: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، ما الأجور؟ المهور، الصُّدُقات، لا بد من مهر ولا بد من عقد، الولي أو القاضي يعقد لها إذا فقدت الولي، على مهر كذا، فأركان النكاح أربعة: المهر والشهود والصيغة والولي.
معنى قوله تعالى: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)
إذاً: قال: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5] حال كونكم ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] الخدن: هو الصديق السري في الخفاء، كان في الجاهلية لا تزني الحرائر أبداً، الإماء يقع منهن الزنا، لكن الحرة العربية لا، ولما بايع صلى الله عليه وسلم المؤمنات في مكة عام الفتح عند جبل الصفا جاءت هند فقالت: أوتزني الحرة يا رسول الله؟! لأن البيعة كانت على خمس مواد: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى )[الممتحنة:12] ماذا؟ ( عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ )[الممتحنة:12] فقالت: أوتزني الحرة؟! لكن قد تتخذ صديقاً في الخفاء، يتخذها شاب في السر ولا يسمع أحد، هذا معنى: متخذات أخدان، كذلك ( وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5].
معنى قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)
وأخيراً: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] أي: بالإسلام وشرائعه ومبادئه وقوانينه فقد حبط عمله، من ارتد عن الإسلام، الإيمان هنا بمعنى: الإسلام، إذ الإسلام والإيمان شيء واحد، المسلم هو المؤمن، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5]، كل عمل جديد، أما الماضي فقد محي انتهى، وإن مات بدون توبة فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم؛ لقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ )[الزمر:15] بالمعنى الحقيقي ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ )[الزمر:15] أولاً ( وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الزمر:15] .
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
اسمعوا هداية الآيات، لعلكم تستنبطون من الآية ما قد تعلمون. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
أولاً: مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه ]، بل وجوب سؤالك من يعلم عما لا تعلم، أما قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يتعلم، ولو يرحل ويسافر، لقوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ )[المائدة:4] فقد سألوه وبين لهم.
مشروعية سؤال من لا يعلم حتى يعلم، فإذا علم بالمنع امتنع، وإذا علم بالجواز فعل، أخذنا هذا من قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4].
[ ثانياً: حلية الصيد ]، أي: ما يصاد من ظباء وغزلان وبقر الوحش، قل ما شئت من حيوانات [ إذا توافرت شروطه ]، [ هي أن يكون الجارح معلماً ]، الكلب الذي يجترح ويصيد لك يكون معلماً، من علمه؟ أنت، كيف علمته؟ الله علمك، حقيقة علمه: أنك إذا قلت له: امش مشى، أو تعال يرجع، فإذا سمى الله تعالى صاحبه عليه ومات الصيد ولم يأكله الكلب جاز أكله.
قال: [ أن يكون الجارح معلماً، وأن يذكر اسم الله عليه عند إرساله، وألا يأكل منه الجارح ] الذي أرسلته، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه، ما صاده لك، [ ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله تعالى عند رميه، ولو وجد ميتاً فلم يذك ]، أنت أطلقت رصاصتك على ظبي، ووجدته ميتاً بضربتك وقد سميت الله فكل، ولا بد أن تكون آلة الصيد مما هو حاد، ما هي بعصا أو حجر.
قال: [ ثالثاً: إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب ]، فتتغدى وتتعشى عند يهودي ولا بأس، أو عند من شئت، وتغديه أو تعشيه، تأكل من ذبيحته أو يأكل من ذبيحتك، فقد أذن مولاكم لكم.
[ رابعاً: إباحة نكاح الكتابيات ]، ما المراد من الكتابيات؟ نساء اليهود والنصارى، [بشرط أن تكون حرة وعفيفة ]، فإن كانت مملوكة أمة فلا يجوز التزوج بها، حتى الأمة من غير أهل الكتاب، حتى العربية إذا كانت غير مؤمنة لا يجوز التزوج بها، وخاصة الكتابية، لا بد أن تكون حرة ما هي بمملوكة لشخص، وأن تكون عفيفة غير زانية، فيجوز بشرطين: الحرية والعفة.
وهذا إذن بالجواز فقط وأنت حر، اختر من يصلح لك، إذا شئت أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشرطين:
أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة مملوكة، والثاني: أن تكون عفيفة غير زانية، وأنت حر.
قال: [ رابعاً: إباحة الكتابيات بشرط: أن تكون حرة عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي، وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي أو وكيل: زوجني فلانة، فيقول: قد زوجتكها ].
عرفنا أنه يجوز أن تتزوج يهودية أو نصرانية بشروط، أولاً: أن تكون حرة ما هي بأمة.
ثانياً: أن تكون عفيفة ما هي بزانية.
ثالثاً: تحقق شروط النكاح: الولي والشهود، والمهر، والصيغة، لا يتخذها صديقة ويقول: هذه أذن الله لي فيها.
[ خامساً: حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة ].
حرمة نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة يتزوجها أسبوعين ونحوهما، فهل هذا يجوز؟ هذا الروافض يعيشون عليه، يعدونه من العبادات، ولا سبب إلا من أجل أن ينفصلوا عن المسلمين، أسألكم بالله: أفيكم كلكم فحول أم لا؟ لو تعلم أن فلاناً خطب بنتك وزوجته وهو ينوي أن يفتض بكارتها بعد أسبوع ويطلقها، هل تفرح وتسعد؟ تستطيع أن تنظر إلى وجهه؟ كيف يجوز هذا؟ لأن نكاح المتعة نكاح إلى أجل، سبعة أيام، ثمانية عشر، وكذا ثم يتركها، وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمته، وكان مباحاً قبل أن يعلن الرسول حرمته.
ونكاح الخلة، والخلة: الصداقة، يتخذ الرجل صديقة في الخفاء، وكذلك متخذات الأخدان، فهذا حرام.
[ سادساً: المعاصي قد تقود إلى الكفر ]، كثرة المعاصي قد تقود صاحبها إلى أن يكفر، من أين أخذنا هذا؟ من ختم الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، كيف يكفر بالإيمان؟ بالجري وراء المعاصي والذنوب حتى يفسد قلبه، تنطمس بصيرته ويرتد.
[ سابعاً: المرتد عن الإسلام يحبط عمله، فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهليه يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين ].
معاشر المستمعين والمستمعات! تعلمتم علماً، فوالله إنه لواجب كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذا، وكيف نعرف ونحن هجرنا بيوت الله؟ نجتمع على القرآن فقط من أجل الأكل والشرب، على الأموات، فكيف نتعلم؟
إذاً: هيا نعد: يا أهل القرية! من هذا اليوم لا يتخلف رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء؛ لنتعلم كتاب الله وحكمة رسوله كل ليلة طول الحياة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟ ما نحتاج إلى قلم ولا قرطاس أبداً، نتعلم كتاب الله هكذا، كما تعلم أصحاب رسول الله.
الأسئلة

الموقف من الذهاب للجهاد في الوضع الحالي
السؤال: يطلب من فضيلتكم أن تدعو الله له أن يوفق والديه بالسماح له بالجهاد؟! الجواب: هذا سؤال سياسي، وأقول: بالله الذي لا إله غيره لا يوجد اليوم جهاد في سبيل الله في العالم قط، وقد يقال: كيف -يا شيخ- تقول هذا الكلام؟ فأقول: الجهاد في سبيل الله أن يبايع المسلمون إماماً لهم، ويلتفون حوله، ويربيهم ويهذبهم، ويقودهم إلى الكمالات، ثم حين تزدهر ديارهم بالأنوار والصلاح والطهر ننقل هذا النور وهذه الهداية إلى إخواننا في البشرية، فترسو سفنهم عند شاطئ بلاد من البلاد، ويطالبونهم بالدخول في الإسلام، أو بالدخول في ذمة المسلمين، أو القتال والجهاد، فهل هذا موجود؟
فعلتموه في الأفغان وعصيتم الرحمن، وقلنا: لا يجوز إلا أن تبايعوا وأن يؤمكم إمام واحد، وقلنا: هذا الجهاد فيه دخن، وأنتم تضحكون علينا، فما هي نتائجه؟ هل قامت دولة الإسلام؟ هل عبد الله عز وجل وحده؟ والبوسنة والهرسك وغيرها بدون إمام وإسلام، فوالله ما هو بالجهاد.
الجهاد الذي تطلبونه هو أن يكون للمسلمين إمام، والمسلمون كلهم نور وهداية، وينقلون النور والهداية إلى الأمم الكافرة، ويقاتلونهم إذا رفضوا الدخول في الإسلام، أو يغزو عدو كافر بلاد الإسلام ليحطمها ويسقط رايتها، حينئذ يجب دفعه ورده وهو جهاد.
أما هذه التخبطات وهذه الأفهام الباطلة فما نقول فيها: جهاد، جاهدوا أنفسكم أولاً، روضوها على الحب والولاء لله ورسوله والمؤمنين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:05 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (50)
الحلقة (362)
تفسير سورة المائدة (57)


الحواريون هم أتباع موسى الذين آمنوا به ونصروه، وهم هنا يطلبون من عيسى عليه السلام آية تدلهم على صدق نبوته، شأنهم في ذلك شأن كل بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لتكون عيداً لهم وآية دالة على وحدانية الله وعظمته، فاستجاب الله لهم وأنزلها عليهم؛ لكنه توعد من يكفر منهم بعدها فإنه سيعرض نفسه لعذاب لم يذقه أحد من قبل.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة نودعها، فنحن في آخر آياتها، والسورة مدنية، مباركة، ميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115]. ‏
دلالة الأخبار القرآنية على صدق الرسالة المحمدية
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الأنباء، هذه الأخبار، هذه الأحاديث، هذه الأحداث من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفها وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وبلغ أربعين سنة ولم يعلم شيئاً؟إذاً: الإخبار بهذا والتحدث عنه في صدق دال دلالة قطعية على أن محمداً -والله- لرسول الله، وعلى اليهود والنصارى أن يؤمنوا، أن يصدقوا برسالته، ويدخلوا في ظل دينه لينجوا ويسعدوا، وإلا فهم خاسرون هالكون، يطلبون برهنة وتدليلاً على صدق نبوته، فهل يوجد دليل أكثر من هذا؟ من أعلمه؟ من حدثه بهذا؟ من كان حاضراً مع الحواريين وعيسى وهم يسألونه وهو يجيب؟ هذه وحدها تشهد أن محمداً رسول الله.
اذكر يا رسولنا ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ )[المائدة:112]، والحواريون: هم أصحاب عيسى، كأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرين بالجنة وأهل بدر وأهل الإيمان والهجرة، الحواريون: جمع حواري، بمعنى: الناصر والمؤيد.
ماذا قال الحواريون؟ قالوا: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:112]، نادوه باسمه العلم مضافاً إلى والدته مريم البتول العذراء بنت عمران، ومعنى مريم: الخادمة أو خادمة الله.
توجيه سؤال الحواريين عن استطاعة الله تعالى
قال الحواريون: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، واحتار الصحابة والتابعون والمفسرون في توجيه هذه الجملة، كيف يقولون: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]؟ فهل الله عاجز وهو الذي خلق السماوات والأرض والجنة والنار والخلق كله، هل يقال: هل يستطيع أو لا يستطيع؟ ومن الأجوبة أن المراد من ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيعك فيما تطلب منه، كما تقول في الاستفعال: استخبرته، استنبأته هل يفعل؟ أي: طلبت منه أن يفعل كذا. استعملته أي: طلبت منه العلم، فـ(هل يستطيع) بمعنى: هل يطيعك الله فيما لو دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء، فلهذا قلنا معاني المفردات في الكتاب: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، أي: هل يطيع ويرضى لو طلبت منه هذا؟
لأنه كيف يقولون لمن خلق السماوات والأرض والعوالم كلها: يقدر أو لا يقدر أن ينزل علينا مائدة، سفرة عليها خبز ولحم!
فمن توجيهات الصحابة والتابعين أن ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112]، بمعنى: أيطيعك إذا أنت دعوته وطلبت منه أن ينزل علينا مائدة؟
وقرئ: (هل تستطيع)، وهنا زال الإشكال، هل تستطيع أن تدعو ربك يا عيسى لينزل علينا مائدة من السماء، ولو كانت هذه القراءة قراءة مجمعاً عليها ما بقي إشكال، لكن القراءة التي عليها جمهور القراء هي: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ )[المائدة:112].
وهنا شيء آخر أيضاً يصلح جواباً: وهو أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا من مكة مجاهدين يقاتلون المشركين في الطائف، ومروا بشجرة من السدر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، كما قال قوم موسى لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، بالأمس دخلوا في الإسلام وانتصر الإسلام وأضاءت الدنيا بنوره مشارقها ومغاربها ويقولون: اجعل لنا ذات أنواط! أي: شجرة نعلق بها رماحنا وسيوفنا ونتبرك بها لننتصر إذا قاتلنا! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( سبحان الله! ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: ( اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )[الأعراف:138] )، لما نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر مشوا فإذا بقرية فيها من يعبد وثناً، فلما شاهدوا ذلك ( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا )[الأعراف:138]، وهم مع موسى، فلا عجب أن يقول تلك المقالة لعيسى بعض أتباعه، وليس بشرط أن يكون الحواريون أنفسهم، بل من معهم من الجهلة ممن لم يعلموا بعد، يوجد بينهم من قال هذه الكلمة: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، ويؤيد هذا قوله لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112]، لو كان كلامهم ليس كفراً ولا محرماً لما قال لهم: اتقوا الله.
تذكير عيسى عليه السلام قومه بتقوى الله تعالى
إذاً: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً )[المائدة:112]، ما هي المائدة؟ هي الخُوان، ويقال فيه: الخِوان أيضاً بالكسر والضم، وهو ما نسميه بالسفرة سواء كان عليها طعام أم لا. (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، من فوق من الملكوت الأعلى، فعيسى عليه السلام تأثر وقال: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فهذا القول ما يصدر عن المؤمنين، فكيف يصدر عنكم أنتم؟ ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112] في قولكم: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112]، وهذا المقام واضح.
تفسير قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ...)
فحاولوا أن يعتذروا فقالوا: ( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113]، قلوبنا ما اطمأنت ولا سكنت لأمور الغيب، ومن ذلك رؤيتهم لله عز وجل ودار السلام وما فيها ودار الشقاء وما فيها، هذه كلها من الإيمان، والرؤية لذلك تسكن بها القلوب وتطمئن النفوس، وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: ( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، هل كان إبراهيم يشك في أن الله يحيي الموتى؟ لا والله، وهو يشاهد الإحياء يومياً في المخلوقات، ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى )[البقرة:260]، أنا مؤمن، ( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )[البقرة:260]، فالمشاهدة أقوى تأثير من التصديق بالقلب، فأنت تسمع بالمسجد النبوي وأنت في الهند أو في اليابان، وهذا سماع ما هو بيقين، لكن كونك فيه أعظم ما بقي ارتياب أو شك.
إذاً: فأمر الله تعالى إبراهيم أن يأتي بطير ويذبحه ويوزع اللحوم ويناديها فتأتيه، ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[البقرة:260]، وفعل إبراهيم.
إذاً: ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] في إخبارك أنك نبي الله ورسوله وأنك تبلغ عنه، ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] على تلك المائدة ونحدث بها من بلغنا ومن سيبلغنا فيزداد إيمان المؤمنين.

يتبع


ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:05 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء ...)
إذاً: أجابهم عيسى: ( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله، فحذفت (يا) وعوض عنها الميم، والأصل: يا الله، كما تنادي: يا إبراهيم، ولكن الله عز وجل واسمه الأعظم: الله، فحذفت (يا) وعوضت عنها الميم في آخر الكلمة.والله عز وجل يسمع نداء كل مناد في أعماق الكون وفي أعلاه، يعلم السر والجهر، ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )[طه:7]، فلهذا لا تقل: يا الله كما تنادي البعيد ليسمعك، قل: اللهم؛ فإنه قريب منك يسمع نداءك.
(اللَّهُمَّ رَبَّنَا )[المائدة:114]، أي: يا ربنا، يا خالقنا، يا رازقنا، يا إلهنا الحق، يا معبودنا الذي لا يعبد سواه، يا مالك أمرنا! ( أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، استجاب للحواريين؛ لأنهم اعتذروا فقالوا كذا وكذا، فقال: أبشروا، فرفع يديه إلى السماء، وورد أنه وقف يصلي وضم رجليه إلى بعضهما، ذكر هذا ابن كثير ؛ فلهذا من الأدب في الصلاة وأنت تتكلم مع الله أن تقف وقفة الخاضع الذليل المتأدب.
قال: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:114]، وعلل عليه السلام فقال: ( تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، واستجاب الله وبقي هذه العيد إلى اليوم في الربيع، فهناك عيد عند النصارى يسمونه شم النسيم، وعيد الفصح، والأصل هو عيد المائدة، والعيد من: عاد يعود إذا رجع، فكل عام يعود فهو عيد، وللمسلمين عيدان، والله ما هما إلا اثنان: عيد الأضحى وعيد الفطر، أو عيد رمضان وعيد الحج، يعودان كل سنة، والحمد لله؛ فعيدنا نحن نعبد الله تعالى فيه بالصلاة والصدقات والذكر والدعاء، وعيد النصارى يرقصون في الليل ويأكلون البقلاوة؛ لأنهم ضلال، أموات، فاسدون، هابطون، حتى لو كان عيداً كما كان فهو باطل نسخه الله لما طرأ على عباداتهم من الباطل، فلم يبق من دين حق يعبد به الله إلا هذا الدين، فلهذا هم خاسرون وهالكون.
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114] دالة على قدرتك وعظمتك وجلالك ووجودك وربوبيتك وإلهيتك وعلى شرعك وأنبيائك، هي أعظم آية.
(وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114]، هنا لطيفة: لم قال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]؟ كأنهم ما طلبوا إلا هذه المائدة فقط وبعد ذلك لا يأكلون ولا يشربون، فقال: ( وَارْزُقْنَا )[المائدة:114] طول حياتنا الطعام والشراب وكل ما نحتاج إليه وأنت خير الرازقين، وهذا أفضل من طلب المائدة فقط، واستجاب الله الرحمن الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين)
فاسمعوا إجابة الله: ( قَالَ اللَّهُ )[المائدة:115]، كيف قال هذا؟ بواسطة الوحي وهو إلقاء في روع عيسى، أو يهتف به هاتف كجبريل فيكلمه، إلا أنه لا يكلمه الله كفاحاً، وهذا لم يتم في الأرض إلا لموسى عليه السلام، وفي الملكوت الأعلى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذا فالله يوحي ويأمر وينهى ويعلم ويبشر ويخبر بواسطة الوحي، وهي ثلاثة كما جاء في سورة الشورى: إما أن يرسل ملكاً يتكلم معه، وإما أن يلقي في روعه فيفهم عن الله عز وجل، أو يكلمه كفاحاً بدون واسطة، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ )[الشورى:51]. إذاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، لأنهم طلبوا ما لم يطلبه الخلق، وأرادوا أن يشاهدوا المائدة من السماء تنزل ونزلت وهي لحم وخبز، لكن لا تفهم من اللحم أنه كلحمنا هذا وخبز كخبزنا، لا بد أنه من أجود ما يكون من اللحم والخبز، ما هناك مرق ولا فاكهة، بل خبز ولحم.
فاسمعوا هذا الإعلام الإلهي: فالذين طالبوا بالمائدة واستجاب الله لهم توعدهم الله بأن من كفر يعذبه عذاباً لا يعذب مثله أحداً من العالمين، فالكفر كفران، فالذي يكون من أهل الإسلام والإيمان ويكفر ارتد هل كفره ككفر شخص ما عرف الله ولا الرسول؟ كلا. كما أن سخط الله وغضبه على العالم ليس كسخط الله وغضبه على الجاهل.
فكذلك هؤلاء شاهدوا آية من آيات الله، الطعام ينزل من السماء وهم يشاهدون بين أيدهم، فمن ينكر ويكفر ويخرج عن دين الله يعذب عذاباً لم يعذب قط بمثله.
وجاء أيضاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن هناك أيضاً من يعذب هذا العذاب:
أولاً: آل فرعون؛ إذ قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46].
والصنف الثاني: المنافقون منا؛ إذ قال تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )[النساء:145].
فهيا أسمعكم التلاوة: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:112-115].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
والآن نستمع إلى شرح الآيات في التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات:
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )[المائدة:111] ]، هذا التوجيه معناه أن هذه الآيات لها اتصال بما سبق، فقد تكلم عيسى في عرصات القيامة، فالله يسأل وهو يجيب، كذلك هذا يحدث في عرصات القيامة والكلام متصل، وهذا وجه محمود، ولا نقول: هذا كلام مستأنف، بل مرتبط بالأول، وهذا علامة على أن محمداً رسول الله، فكيف يخبر عن هذا الغيب ويتحدث بهذه الأحداث التي وقعت منذ مئات السنين إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
[ يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى: واذكر ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:111-112]، ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:112]، فلا تقولوا مثل هذا القول.
فاعتذروا عن قولهم الباطل ( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )[المائدة:113] أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك، وهنا ( قَالَ عِيسَى )[المائدة:114] عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه: ( اللَّهُمَّ )[المائدة:114]، أي: يا الله! ( رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا )[المائدة:114]، أي: للموجودين الآن منا، ( وَآخِرِنَا )[المائدة:114]، أي: ولمن يكون بعدنا ( وَآيَةً مِنْكَ )[المائدة:114]، أي: وتكون آية منك، أي: علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل
(وَارْزُقْنَا )[المائدة:114]، وأدم علينا رزقك وفضلك، ( وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )[المائدة:114].
فأجابه تعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ )[المائدة:115]، وحقاً قد أنزلها، ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ )[المائدة:115] يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي أو عظيم قدرتي؛ ( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115]، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير ]، الذين كفروا بعد هذا مسخوا قردة وخنازير، إذ مسخوا على عهد داود وعيسى ابن مريم.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، فهيا نأخذ ما فيها من الهداية؛ لنستعين بذلك على مسيرنا إلى الله عز وجل ونحن أطهار أصفياء.
قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم ]، فالحواريون يهود أم لا؟ أليسوا هم من بني إسرائيل؟
إذاً: يستفاد من هذه الآية [ جفاء اليهود ] والجفاء: الغلظة والقسوة، [ وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم؛ إذ قالوا لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24] ]، وهل هناك جفاء وغطرسة أكثر من هذا؟ قالوا: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24]، ما نستطيع أن نقاتل العمالقة، فاذهب أنت وربك وقاتلا، هذه مقالة كفرية ما فقهوها، لكن لجهلهم وظلمة نفوسهم؛ لأنهم تربوا في حجور الفاسدين والهابطين.
قال: [ وقالوا لعيسى: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )[المائدة:112] ]، أليس هذا من الجفاء والغطرسة والغلظة؟
[ ثانياً: في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل ].
معشر المستمعين! كررنا القول: بم يتقى الله؟ أنت تقول لي: يا فلان! اتق الله، فبأي شيء نتقيه؟ هل بالجيوش الجرارة؟ بالأنفاق في أعماق الأرض؟ بالهرب في الجبال ورءوسها، بم يتقى الله؟ أنا أتقي الشمس بالمظلة وأتقي الجوع بالخبز والماء، وأتقي البرد بالكساء، والله يتقى بماذا عندما تريد أن تتقي الله؟ لا يتقى الله بشيء إلا بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، ولا يتقى الله بشيء غير هذا؟
أنا أريد أن أتقي الله فتعلمت الليلة أن أطيعه في أمره ونهيه، أفعل الأمر وأترك النهي، لكنني ما عرفت الأوامر هذه، كيف نفعل؟ علموني؟ الجواب: عليك بفلان اقرع بابه وقل له: علمني أوامر الله التي أمرني بها، وبين لي نواهيه التي نهاني عنها، وبذلك تستطيع أن تتقي الله، أما كونك تعرف تقوى الله بطاعته وطاعة رسوله فلا يكفي، لا بد من معرفة ما هي الأوامر التي تطيع فيها، وما هي النواهي التي تطيعه فيها بتركها.
خلاصة القول: لن تستطيع أن تتقي الله ما لم تعلم، لن تستطيع يا ابن آدم أن تتقي الله ما لم تعلم أوامره وكيف تؤديها، ونواهيه وكيف تتجنبها، فطلب العلم فريضة، لا بد من هذا، وهل يستطيع عبد أن يكون ولياً لله وهو لا يعرف تقوى الله؟ مستحيل أن تكون ولي الله وأنت لا تتقيه.
قال: [ في قول عيسى لهم: ( اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:112] دال على أنهم قالوا الباطل، كما أن قولهم: ( وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا )[المائدة:113] دال على شكهم وارتيابهم.
ثالثاً: مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر؛ شكراً لله تعالى، وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر ]، لا غير، لا رجبية ولا مولد.
[ رابعاً: من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: آل فرعون، والمنافقون، ومن كفر من أهل المائدة ]، قال تعالى: ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46]، وقال: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا )[النساء:145]، وقال: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )[المائدة:115].
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (51)
الحلقة (363)
تفسير سورة المائدة (58)





أفرط النصارى في رفع عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً من دون الله، ويوم القيامة يوقفه الله عز وجل ويسأله -سؤال المبكت للنصارى على فعلهم- عن صحة ما فعلوه من تأليهه وعبادته من دون الله، وموقفه عليه السلام من ذلك، حتى يقيم الحجة على النصارى الكاذبين، ويرفع مقام نبيه الصادق الأمين.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع خاتمة سورة المائدة المباركة، الميمونة، نودعها في ليلتنا هذه وعسى الله أن يردنا إليها إن أطال أعمارنا مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير، ومعنا خمس آيات، فهيا نتلوها متدبرين، متفكرين، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:116-120].
قول ربنا: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116]، أي: اذكر يا رسولنا، يا خاتم أنبيائنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، اذكر: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، وذلك في عرصات القيامة، ما هو في هذه الحياة، وذلك يوم يبعث الله الخلائق.
وما قال: وإذ يقول الله، وإنما: اذكر إذ يقول الله، فهذا أمر متحقق مقطوع الوجود يعبر بالماضي عنه لا بالمضارع، ومثله: ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ )[النحل:1]، وهو قيام الساعة.
تبكيت الله للنصارى بسؤاله لعيسى عليه السلام عن تأليههم له
اذكر ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )[المائدة:116]، قال له مستفهماً إياه ليبكت النصارى وليذلهم ولتقوم الحجج أمام العالم الموجود عليهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، وحاشا عيسى أن يقول ذلك، ولكنه التوبيخ والتقريع والتأنيب لأولئك الذين ألهوا عيسى وأمه وعبدوهما من دون الله، أما عيسى فقد تقدم خبره: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]، هذا فيه تقريع وتأنيب وإقامة الحجة أمام العالم والمخلوقات يومئذ على هؤلاء عبدة المسيح، وعلى الكافرين به من اليهود، ولو كانت الهداية بيد الإنسان لما وجد يهودي ولا نصراني يسمع هذه الآيات إلا قال: آمنت بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لكن الله يدخل في رحمته من يشاء.
رد مزاعم النصارى في نفي تأليههم لمريم عليها السلام
(أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ )[المائدة:116]، من أم عيسى؟ مريم البتول العذراء، ويوجد الآن من يقول: نحن ما ألهنا مريم ، ووالله! لقد ألهها مئات بل ملايين منهم، والله أخبر وهو العليم الخبير، والله! لقد اتخذوها إلهاً مع الله، وإن لم يتخذها هؤلاء الفلانيون فهؤلاء اتخذوها، وهم اثنتان وسبعون طائفة.واتخاذهم لها إلهاً بمعنى: أنهم عبدوها، يقدسون اسمها ويرقصون ويدعون ويستغيثون به، هذا هو التأليه، هذه هي العبادة، فالذين ضلوا من أمة الإسلام عندما يقدسون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرفعون أصواتهم أليس ذلك هو التأليه والعبادة؟ والله! إنه لهو التأليه والعبادة، يقولون: ما ألهناهم أبداً، ما اتخذنا عبد القادر إلهاً مع الله. ووالله! لقد اتخذتموه إلهاً ما دمتم تستغيثون به، تقولون: يا راكب الحمراء.. يا مولى بغداد.. يا سيدي عبد القادر وأنت في الغرب والشرق، تدعونه دعاء الله وتقولون: ما عبدناه؟ أية عبادة أعظم من هذه؟ وتقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، هذه البيضة لسيدي عبد القادر ، والمرأة تريد أن تنتج الدجاجة فتأتي بالبيض الملقح وتضع عشر بيضات تحت الدجاجة وتعلم على واحدة بالفحم الأسود وتقول: هذه لسيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الجميع ويخرج الدجاج، من إندونيسيا إلى موريتانيا هذا هو الحال، هبطت هذه الأمة أكثر من ثمانمائة سنة.
والشاهد عندنا في تأليههم لعيسى ومريم ، ولا يقل قائل: ما ألهنا مريم ؛ فقد عبدتموها، ما قلتم فيها: إله، بل قلتم: أم الإله، ولكن دعاؤها والاستغاثة بها والذبح لها والركوع والانحناء وتعليق صورتها هذه هي العبادة، هذا هو التأليه. والشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: ما ألهنا مريم. والله يقول -وقوله الحق- في عرصات القيامة: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )[المائدة:116].
جواب عيسى عليه السلام عن سؤال ربه عز وجل
فقال عيسى: ( سُبْحَانَكَ )[المائدة:116]، تنزيهاً لك وتقديساً عن أن يعبد معك غيرك، ما يكون لي أبداً وليس من شأني أن أقول ما ليس لي بحق، وهل لي من حق في أن أعبد أنا؟ فهل أنا خلقت، هل أنا رزقت، هل أنا أمت، هل أنا أحييت؟ كيف يكون لي حق العبادة، إذ العبادة تكون بالحق؟ فالذي خلقك ورزقك وحفظ حياتك وأوجد الكون كله هذا يستحق عبادتك، أما الذي لا دخل له فيك أبداً فكيف تعبده؟ (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، كوني أقول للناس: ألهوني أو ألهوا أمي ما عندي حق بهذا، إنما يعبد الله عز وجل بحق إيجادنا وحفظنا وامتداد حياتنا وخلق الحياة كلها من أجلنا، هذا يستحق أن يعبد، أما الذي ما خلق ولا رزق ولا أمات ولا أحيا ولا أصح ولا أمرض فكيف يعبد؟ بأي حق؟
ثم قال: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116]، من باب الفرض والتقدير، والعالم كله يسمع في عرصات القيامة، ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ )[المائدة:116]، أي: هذا القول، وهو أني قلت للناس: ألهوني ووالدتي، إن كنت قلته فأنت تعلمه، وزيادة أنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، إن كنت أخفي شيئاً ولا أظهره فأنت تعلم ما في باطن نفسي، ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، فسرك لا أعرفه وأما سري أنا فإنك تعرفه، ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، هذا التذييل: ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )[المائدة:116]، الغيوب كلها أحاط بها علم الله عز وجل، وكيف لا وهو خالقها، من النملة إلى كوكب السماء، كل الخلق مخلوق لله، ألا يعلم من خلق؟ أيخلق الشيء ولا يعلمه؟ كيف يقع شيء ويقال: غاب عن الله وهو خالقه؟
(مَا قُلْتُ لَهُمْ )[المائدة:117] يا رب ( إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، الذي أمرتني أن أقوله لهم قلته، والذي ما أمرتني أن أقوله ما قلته، أنا عبدك ورسولك، والذي أمره الله أن يقوله هو: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، (أن) التفسيرية، أي: اعبدوا الله ربي وربكم، هذا الذي قلته، هذا الذي أمر الله به عيسى وأمر به رسوله محمداً وكل المرسلين، كل رسول يقول للناس: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، فكيف نعبده؟ أي: عظموه وأطيعوه وأحبوه وخافوه وارهبوه، ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:117]، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:117]، اعبدوه بتعظيمه وإجلاله وإعظامه والرهبة منه والخوف، وطاعته فيما يأمر وفيما ينهى.
(وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ )[المائدة:117]، لما كنت حياً بينهم موجوداً فيهم كنت شاهد على ما يقولون وما يعملون، فلما توفيتني توليت أنت ذلك، هذه التوفية هي توفيته الأيام التي كتب له أن يعيشها في الدنيا، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، تقول: وفيت فلاناً دينه: أعطيته حقه، وفيته ما وعدته به، فالله عز وجل وفى عيسى ما كتب له أن يعيش في الدنيا آمراً ناهياً رسولاً في بني إسرائيل ثلاثاً وثلاثين سنة ثم رفعه، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] وفيتني أيامي التي كتبتها لي. وسوف ينزل عما قريب ويعيش إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى، وهو الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، هذه الأخبار شاهدة صادقة والذي ينكرها يكفر، وفي القرآن الكريم: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ )[الزخرف:61]، ذكر أن عيسى علم على الساعة، ساعة نهاية هذه الحياة، ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا )[الزخرف:61].
إذاً: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ )[المائدة:117] بعد ذلك ( أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، هو مطلع وعالم بحالهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
ثم قال عليه السلام: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، والمالك لهم، والسيد عليهم، أنت خالقهم، ومن يعترض على الله؟ إذا كنت تملك شاة تريد أن تذبحها فهل هناك من يقول: لا تذبحها؟ أنت المالك، ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، وأنت المالك لهم فافعل ما تشاء، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في مراده، والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، فهو تعالى يغفر للمذنبين غير المشركين، يغفر للمذنبين الذين أذنبوا من غير المشركين، أما الذين ماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، والله أخبر في غير آية، ورسله صرحت بذلك، فعيسى نفسه قال: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )[المائدة:72]، والتحريم: المنع الكامل.إذاً: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ )[المائدة:118]، من يعترض عليك؟ ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، تقدر على ذلك وتغفر لمن يستحق المغفرة؛ لأن الحكيم يضع الشيء في موضعه.
إذاً: فبنو إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى وجد منهم المسلمون المؤمنون كالحواريين وغيرهم، وفيهم المذنبون، فهؤلاء يغفر لهم ويرحمهم، أما من كفروا وماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، وهذا مجرد اعتذار من عيسى لربه وتفويض الأمر إلى الله، يقول: أنا كنت معهم كذا وكذا، وقد دعوتهم إلى ما أمرتني به، ثم توفيتني وأنت بعد ذلك الرقيب الشاهد عليهم، فإن تعذب عبادك وإن تغفر ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، موقف عظيم يقفه عيسى، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا أين يتم؟ في عرصات القيامة، في الساحة العظمى حين يأتي الرب ويحكم بين الناس.
تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...)
فأجابه الرحمن فقال تعالى: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، أهل الإيمان والعمل الصالح، الصادقون في إيمانهم وصالح أعمالهم في هذا اليوم ينفعهم صدقهم، والكاذبون المشركون والعابثون يا ويلهم، هذا اليوم يوم اجتماع الخليقة لفصل القضاء، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، فادعوا الله أن نكون منهم؟ فاللهم اجعلنا منهم.والصادقون: جمع صادق، الصادق في إيمانه وفي عمله، لا ريب ولا شك ولا شيء يختلج في النفس، صدقه كامل وسلوكه كامل وتام.
إذاً: ( هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، بيان ذلك: قال تعالى: ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119]، من أعلن عن هذا النعيم؟ الرب تبارك وتعالى، الله الذي قال هذا، ( يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )[المائدة:119] بلا نهاية.
وأنهار الجنة أربعة، هذه الأنهار تجري تحت الأشجار والقصور، قال تعالى: ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ )[محمد:15]. ‏
فوز الصادقين برضوان الله
ثم ختم تعالى هذا الإنعام بما هو أعظم من الجنة ونعيمها: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، نعيم الجنة مهما كان لا يساوي رضا الله عز وجل. وقد مثلنا لإخواننا حتى يفهموا -وكلنا عوام وأشباه عوام- فقلنا: أنت ينزلك شخص منزله ويكرمك بالطعام والشراب وهو ساخط غضبان عليك، مكشر في وجهك عابس مقطب الجبين، فهل ستسعد؟ ستمل هذا النعيم مهما كان، لكن إذا كان راضياً عنك، يبتسم في وجهك ويناديك بأحسن أسمائك وإن قل الطعام والشراب فأنت في رضا وفي سعادة، فلهذا كان رضا الله أعظم نعيم الجنة، ولهذا ختمه بقوله: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]. والنعيم الآخر هو أن يكشف عن وجهه الحجاب ويريهم وجهه الكريم فتغمرهم فرحة ما عرفوا مثلها قط.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )[المائدة:119]، قال تعالى: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما قال: هذا الفوز العظيم؛ لأنه عال، فلذلك قال: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، ما هو الفوز بالشاة والبعير والمرأة والولد والوظيفة والمنصب، فما هذا بشيء، الفوز العظيم: أن تنجو من عذاب الله وتدخل الجنة دار الكرامة مع أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[آل عمران:185]، بيان ذلك: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، ومن أدخل النار وأبعد عن الجنة فقد خاب وخسر، فمن منا يرغب في أن يفوز؟ كلنا ذاك الرجل. فما الطريق؟ الطريق هو أن نعمل في صدق على تزكية نفوسنا وتطهير أرواحنا؛ لقوله تعالى في قضائه وحكمه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير ليوم القيامة.
يا أمة الله! اعملي على تزكية نفسك. وإن قلت: كيف أزكيها؟ فاسألي أهل العلم يعلموك، وإن كنت تريدين الخبر الآن فآمني بالله وبكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم اعملي الصالحات التي هي الصلاة وما إليها من العبادات، وابتعدي عما يدسي نفسك من الشرك والمعاصي، وإن زلت قدمك وسقطت على ذنب فعلى الفور اصرخي بكلمة: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه، ولا تزالين تبكين وتدعين حتى يزول ذلك الأثر، وحافظي على هذا حتى الوفاة.
تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)
ثم قال تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120]، كل شيء لله، الجنة والنار والكفار والمؤمنون والعوالم كلها لله؛ إذ هو خالقها وموجدها، كان الله ولم يكن شيء منها، فله ملك السماوات والأرض، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يزكي من يشاء ويضل من يشاء. وعلمنا أن مشيئته تابعة لحكمته، ما هي مشيئة هوجاء كمشيئتنا، إذ هو الحكيم، يشاء رحمة عبد أقبل عليه واطرح بين يديه يبكي بين يديه.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من خلائق، أما الملائكة فقد عرفنا، فالسماوات السبع تئط بالملائكة.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، ما من شيء أراده إلا قدر على إيجاده، فلهذا ادعه واسأل ما شئت مما هو خير لك، فالله لا يعجزه شيء، لكن لا تتنطع وتغل في الأسئلة تقول: يا رب! ارزقني أولاداً صالحين وأنت لم تتزوج وعندك المال وأبيت أن تتزوج، هذا السؤال بدعة وباطل، تقول: يا رب! فقهني في الدين وأنت في المقاهي، ولا تجلس أبداً بين عالم تتعلم عنه، فكيف يفقهك في الدين؟
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
ولنستمع إلى الشرح الذي هو في التفسير زيادة لعلمنا. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيات: يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر لقومك ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ )[المائدة:116] تعالى يوم يجمع الرسل ] في عرصات القيامة [ ويسألهم: ماذا أجبتم؟ ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي )[المائدة:116]، أي: معبودين؟ يقرره بذلك، فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ )[المائدة:116]، ويؤكد تفصيه] وخروجه [ مما وجه إليه توبيخاً لقومه: ( إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ )[المائدة:116] يا ربي، إنك ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي )[المائدة:116]، فكيف بقولي وعملي ] إذا عملت؟ فهو من باب أولى، [ وأنا ( وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )[المائدة:116]، إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك ( أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ )[المائدة:116-117] أن أقوله لهم، وهو: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )[المائدة:117]، أي: رقيباً، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي )[المائدة:117] برفعي إليك ( كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )[المائدة:117]، ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها، ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[المائدة:117]، أي: رقيب وحفيظ.
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ )[المائدة:118]، أي: من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ )[المائدة:118]، أي: لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ )[المائدة:118] الغالب على أمره، ( الْحَكِيمُ )[المائدة:118]، الذي يضع كل شيء في موضعه، فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده.
فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلاً: ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )[المائدة:119]، صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه، ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضا الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[المائدة:119]، إنه النجاة من النار ودخول الجنات.
وفي الآية الأخيرة يخبر تعالى أن له ( مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ )[المائدة:120] من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:120]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
ثانياً: براءة عيسى عليه السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.
ثالثاً: تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية ]، فالنفس الزكية يرحمها والخبيثة يعذبها.
[ رابعاً: فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح: ( عليكم بالصدق؛ فإنه يدعو إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) ]، والعياذ بالله.
[ خامساً: سؤال غير الله شيئاً نوع من الباطل والشرك ]، طلب شيء من غير الله ممن لا يملك ذلك شرك والعياذ بالله تعالى؛ لأن غير الله لا يملك شيئاً، [ ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟ ].
أقول: الذين يسألون الموتى والغائبين والأحجار والكواكب والأنبياء هؤلاء يسألون من لا يسمع دعاءهم ولا يجيب نداءهم، فهذا السؤال شرك والعياذ بالله، وهم مؤلهون لمن سألوه ودعوه، أما أن تسأل أخاك وهو إلى جنبك أو على مقربة منك ويسمع صوتك ويقدر على أن يعطيك فلا بأس، أذن الله لنا في هذا ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )[المائدة:2]، لكن كونك تأتي إلى خربة من المباني ما فيها أحد وتقف عند الباب: يا أهل الدار! أعطونا، أغنونا، أشبعونا؛ فإنك تضحك الناس عليك؛ لأن الدار ما فيها أحد، هي خربة من الخرائب، فالذي يقف أمام قبر علي أو فاطمة أو الرسول ثم يقول: يا رسول الله.. يا فلان! أعطني؛ والله لقد أشرك في عبادة الله؛ لأن الذي تدعوه معناه: أنك أعطيته منزلة الله، أصبح يسمع ويرى ويقدر على أن يعطي ويمنع وهو غائب عن الناس، فكيف يصح هذا؟
فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يوفقنا وإياهم لما فيه حبه ورضاه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (6)
الحلقة (364)
تفسير سورة المائدة (59)


الوضوء شرط من شروط صحة الصلاة فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهارة، لذلك فقد ذكر الله عز وجل في كتابه صفة هذه الطهارة، وهي أن يغسل المرء وجهه مع ما يشمله من مضمضة واستنشاق، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه مع الأذنين، ثم يغسل الرجلين مع الكعبين، وبذلك يكون قد أتم الوضوء.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل.
وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، وقد تساءل بعض المستمعين وقالوا: ما تأكدنا من صحة ما فهمنا من آيتي البارحة، فإليكم معاشر المستمعين والمستمعات بيان تلك الأحكام مرة أخرى.
تحليل الله تعالى لعباده طيب المآكل وتحريم الخبيث كالميتة ونحوها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4].هذه الآية الكريمة أولى الآيتين، وقد روي أن عدي بن حاتم الطائي وزيد الخير سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أحل لهم من الصيد، فأجابهم الله تعالى بقوله: ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4]، فكل طيب لذيذ ما فيه جراثيم ولا ميكروبات ولا تعفن ولا أذى فهو حلال، كل وسم الله تعالى.
أما العشرة المحرمات فهي خبيثة، وهي المذكورة في الآية التي قبلها: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، هذه العشر محرمات، وما عداها طيبات.
تحليل أكل صيد الحيوان المعلم بشروطه
ثم أعطانا الله عز وجل نعمة أخرى فقال: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[المائدة:4]، فالمراد من هذا: أن يكون لك كلب من كلاب الصيد، أو يكون لك حيوان غير الكلاب كالفهود والسباع، روضتها ومرنتها فأصبحت تصيد لك، أو يكون لك فهد أو طير من الطيور كالبازات، هذه إذا أنت علمتها وأصبحت تطيعك وتصيد لك فباسم الله استعملها، أرسلها وقل: باسم الله عند إرسالها، سواء كانت كلباً من كلاب الصيد، أو كانت سبعاً من السباع، أو كانت طيراً من الطيور.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] على شرط أن تعلم هذا الحيوان، وعلامة أنه تعلم أنك إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته يرجع إليك، أما إذا قلت له: ائتني بكذا وما تحرك، أو يمشي ثم يرجع، فمعناه أنه ما تعلم، هذا لو صاد لا يحل أكل صيده إلا إذا وجدته حياً وذكيته.
أما الذي علمته فتعلم وأصبحت إذا أرسلته ينطلق، وإذا دعوته رجع فهذا قل: باسم الله عند إرساله فقط، فإذا هو صاد غزالاً أو ظبياً أو حيواناً وأكل منه فلا يحل لك؛ لأنه ما صاد لك، صاد لنفسه، والله يقول: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] لا عليهن، فإن فرضنا أنه جرح هذه الغزالة، وأدركتها حية مستوفية الحياة كما تقدم فذكها وكل، أما إذا أدركتها قد ماتت وقد أكل منها فهي جيفة منتنة لا تحل لك: ( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4].
فحيوانات الصيد أبرزها الكلاب المعدة لذلك، يقال فيه: الكلب السلوقي، نوع خاص، هذا الكلب السلوقي إذا علمته يوماً بعد يوم أصبح طوع يدك، إذا قلت له: اذهب ذهب، إذا قلت له: ائت أتى، إذا قلت له: قف وقف! وهذا كله ممكن وواقع.
هذا الذي علمته وأصبح مكلباً معلماً إذا أرسلته على حيوان تريد صيده ينبغي أن تقول: باسم الله اذهب، لا بد من ذكر اسم الله، فإذا كان معلماً وسميت الله عز وجل ولم يأكل من ذاك الحيوان حل لك أكله، فإن أكل منه فقد صاده لنفسه لا لك، فإن فرضنا أنه وجدت الحياة مستقرة فيه وذكيته فلك ذلك، فإن وجدته قد مات فلا يحل أكله.
أما إذا كان معلماً وسميت الله تعالى وأرسلته فانطلق وأخذ الحيوان وقتله، ولكن ما أكل منه، فهذا إن وجدته ميتاً فهو حلال لك، وذلك لحديث الصحيحين، ففي البخاري ومسلم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه ) عند الإرسال ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة ).
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم معلماً كما في البخاري ومسلم: ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) بهذا الشرط، ثانياً: ( فاذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإن أمسك عليك ) لأنه إذا أمسك علي صاحبه فإنه يقف عند الصيد، أو يمسكه ويبقى ينتظرك، أو يحمله ويأتي به إليك، لكن إذا أمسك على نفسه هو فسوف يأخذ في أكله، ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً ) فلا تنتظر حتى يموت، تقول: آكله، لا يجوز؛ لأنك أدركته حياً فذكه، لكن لو أدركته ميتاً وبالشروط الثلاثة فهو حلال.
قال: ( فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله )، أما إذا أكل فمعناه: أنه ما صاده لك، ما هو بمعلم، ( فإن أخذ الكلب ذكاة )، قتل الكلب له ذكاته.
المعنى الإجمالي لقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم ...)
يقول تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ )[المائدة:4] أي: أجبهم يا رسولنا. ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:4] الفواكه، الخضار، اللحوم، كل الطيبات، لكن كل واذكر اسم الله واحمده في النهاية، كل أكل لا بد أن تستفتحه باسم الله، وأن تختمه بحمد الله.(وَمَا عَلَّمْتُمْ )[المائدة:4] أي: وأحل لكم ما أحل لكم ( مِنَ الْجَوَارِحِ )[المائدة:4]، الجوارح: جمع جارحة وهي التي تجرح، أي: تكتسب، الكلاب السلاقية والبازات والفهود وبعض الحيوانات التي يصيدون بها، مرنوها وروضوها وأصبحت تستجيب لهم.
(مُكَلِّبِينَ )[المائدة:4]حال كونكم مكلبين، أي: معلمين، ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ )[المائدة:4] ما الذي علمنا الله؟ علمنا كيف نعلم الحيوانات، ( فَكُلُوا )[المائدة:4] إباحة وإذن، ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )[المائدة:4] أما الذي أمسكنه عليهن فلا يحل لكم، وكيف نعرف أنها أمسكت لها؟ إذا وجدتها تأكل من الصيد فقد صادت لنفسها، ما هي بمعلمة، أما إذا ضربتها ووقفت عندها ولو ماتت فهي حلال بإذن الله عز وجل وإذن رسوله صلى الله عليه وسلم.
(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4] متى؟ عند إرسال الكلب، أو إرسال الرصاصة، أو إرسال الآلة التي تصيد بها، فإن أدركت ذلك الحيوان حياً فاذبحه، لا تقل: أنا صدت وضربه الكلب وتتركه يموت، لا بد من تذكيته لأنه حي، لكن إن أدركته قد مات فكله.
وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:4] أي: فيما أحل لكم وحرم عليكم، في هذه التعاليم الدقيقة راقبوا الله، وائتوا بها على الوجه المطلوب، فلا يحل لك أن تأكل حيواناً إلا إذا توافرت شروط الإذن من الله عز وجل.
أما الأربعة الأولى: الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ فهذه لا خلاف فيها، فهي بالإجماع محرمة، يبقى الصيد له أهله ورجاله، فالذي تعلم وتدرب وأصبح يعرف كيف يرسل البازي أو العقاب أو الفهد من الطيور، وكيف يأتي له بالأرنب أو بالطير، إذا علمه وعرف أنه متعلم فحينئذ يقول: باسم الله ويرسله، فإن وجده أكل مما صاده فلا يحل أكله، فإن أدركه حياً كامل الحياة ذبحه وأكله، فإن أدركه ميتاً والكلب ما أكل منه أكله وإن وجدته ميتاً.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4].
التحليل العام للطيبات وطعام أهل الكتاب
في الآية الثانية يقول تعالى: ( الْيَوْمَ )[المائدة:5] من أواخر أيام الحياة النبوية، وذلك في عرفة، ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] عموماً ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، والذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى فقط، وإن نحن أضفنا إليهم المجوس فمن أهل العلم من يقول: المجوس كان لهم كتاب، لكن الذي عليه أكثر أهل العلم أنهم اليهود والنصارى فحسب.(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )[المائدة:5] فاحمدوا الله، وكذلك ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، يجوز أن يستدعيك يهودي أو نصراني على غداء أو عشاء فتأكل، لكن إن قدم لك لحم خنزير فقل: أنا مسلم لا آكل، أو قدم لك خمراً فقل: لا، أعطني لبناً أو عصيراً، وكل ذلك الطعام، أو دعاك نصراني مسيحي فكذلك، جاءك نصراني مسيحي فقال: الغداء عندكم اليوم؛ فكذلك تطعمه، وقدم له اللحم المشوي، ولكن إن قال: نريد خمراً فقل: لا، نحن مسلمون لا نشرب الخمر، قال: أرأيت لو طبخت لنا شيئاً من لحم الخنزير، فقل: هذا فيه مرض، وهو خبيث وحرام.
ودل على جواز أكل طعامه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل في بيت اليهودي الذي استدعاه لضيافة.
(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[المائدة:5]، هذا بشرط: أن يكون اللحم الذي طبخه مذكى، اليهود إلى اليوم يذكون كما يذكي المسلمون، لكن النصارى غلبت عليهم البلشفة الشيوعية والكفر فما أصبحوا يذكون، فإذا علمت أن هذا اللحم شاته ما ذبحت أو بقرته ما ذبحت أو بعيره ما ذبح فلا يجوز أكله، لا تقل: أذن الله لي! أذن لك إذا كان مذكى ما هو بجيفة، فهل لو قدم لك اليهودي في الضيافة جيفة يجوز لك أكلها؟ لا يجوز.

يتبع



ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
إباحة نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ )[المائدة:5]، أي: مما أذن الله لكم وأباحه لكم وأحل لكم: المحصنات من المؤمنات. والمحصنة: المحفوظة المصونة، تلك التي ما عرفت بالزنا والعهر، محصنة محمية محفوظة بحفظ الله، ما قيل عنها: إنها زنت، وهي أيضاً مؤمنة تؤمن بالله ولقائه، وتقيم الصلاة وتعبد الله، فتزوجها، من أذن لنا في هذا؟ مالكها وسيدها، الله الذي أذن.وكذلك ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5] اليهود والنصارى، يجوز أن تتزوج مسيحية أو يهودية، ولا تقل: هي أفضل، إن وجدت المؤمنة فهي أفضل وخير، لكن أن لم تجد مؤمنة، أو وجدت هذه تنتفع بها، وترجو أن يهديها الله ويدخلها في رحمته فلا بأس، أو تكون في بلادها، فيجوز أن تتزوج الكتابية المحصنة الحرة، فإن كانت أمة مملوكة لواحد فلا يحل نكاحها وهي كافرة، وإن كانت حرة ولكنها غير محصنة غير عفيفة -أي: زانية- فلا يصح نكاحها.
قال تعالى: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[المائدة:5]، والمحصنة: العفيفة الطاهرة، التي لم يسمع عنها زنا، ولم تعرف به أبداً، فإن كانت مشهورة بذلك معروفة فلا يحل نكاحها ولو كانت مسلمة -فضلاً أن تكون كتابية- حتى تتوب فيتوب الله عليها.
شروط إباحة المحصنات من المؤمنات والكتابيات
ثم قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، يقول تعالى: هذه الإباحة إذا أنت آتيتها مهرها، لا تتزوج مسلمة ولا كتابية بدون مهر، المهر لا بد منه، فأركان النكاح أربعة: المهر ويسمى بالصداق، ثانياً: ولي المرأة أبوها أو أخوها، والقاضي ينوب عنه، أو شيخ القبيلة إذا لم يكن هناك قاض، لا بد من ولي، ثالثاً: شاهدان عدلان، رابعاً: الصيغة، أن تقول: زوجني وليتك فلانة فيقول: زوجتك على كتاب الله، فتقول: قبلتها ورضيتها زوجة، هذه الصيغة ركن من أركان النكاح.قال تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] غير زناة، لا أن تعطيها مليوناً وتقول: قال الله تعالى: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )[المائدة:5]، فخذي الأجر! بل لا بد من القيد الأول: حال كونكم محصنين أعفاء غير زناة.
فالله تعالى يقول: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ )[المائدة:5] أي: النساء العفيفات أو المحصنات من المؤمنات وأهل الكتاب، إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين غير زناة، لا أن تأتي إلى امرأة وتزني بها، وتقول: أنا أعطيت أجرها! فأنت لست بمحصن في هذه الحال، أنت زان وعاهر، لا بد أن تكون حال كونك محصناً عفيفاً طاهراً.
(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5] والسفاح الزنا، فالذي يأتي دور بغاء في العالم ويزني ويعطيها المال فهل يكفي هذا المال في الحل؟ لو أعطاها ملياراً لا يحل له نكاحها؛ لأنه زان، فالقيد الأول: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )[المائدة:5].
(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5] ثانياً، والمتخذ الأخدان: رجل يظهر أنه عفيف ما يعرف بالفاحشة، ويتخذ له خليلة من الصغار أو الكبار، ويلازمها ويأتيها في الخفاء على أنها صديقته، فهذه حرام ولا فرق، ما هناك فرق بين الزنا العلني وبين السري، لا تقل: هذه تحبني وأحبها منذ كذا وكذا!
(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ )[المائدة:5]، وفي النساء: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ )[النساء:25] أي: هن كذلك. هذا الذي أراد الله عز وجل.
أثر الكفر والردة على العمل الصالح قبلهما
ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] بالإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، لو عبد الله سبعين سنة لا يثاب على ركعة ولا على صيام ساعة، كل ذلك العمل هبط واحترق، فإن مات على غير توبة فإلى دار الخلد في جهنم، وإن تاب يستأنف الحياة من جديد، يحج من جديد ويصوم ويكتب له ما كتب الله، أما ما مضى فقد انتهى بالردة والكفر: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )[الزمر:65]، وهذه الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ )[المائدة:5] والمراد من الإيمان: الإسلام ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ )[المائدة:5]، فما هي المناسبة؟ إن الذي يستبيح الزنا والعهر معناه: أنه كفر بالإيمان، الذي يستبيح ما حرم الله مرتد وكافر بالإجماع! بخلاف ما إذا كان يعرف أنه حرام ويفعله، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، أما أن يقول: أيش فيه؟ ولا يبالي فهو مرتد كافر، ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )[المائدة:5] الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم، وهذا هو الخسران المبين.
الأسئلة
حكم سؤال الكتابي عن أصل اللحم حال الشك فيه
السؤال: هل يجوز أن أسأل الكتابي إذا شككت أن اللحم الذي قدمه لي لحم خنزير؟ الجواب: اسأله، وإذا غلب على ظنك أنه لحم غنم أو بقر فلا تسأله، وإذا شككت فـ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، والغالب أنه يقول من أول مرة: هذا اللحم حلال ما هو بخنزير أو كذا.
حكم الأكل مع أهل الكتاب على مائدة يشربون عليها الخمر
السؤال: هل يجوز الأكل مع أهل الكتاب على سفرتهم وهم يشربون الخمر؟ الجواب: إذا لم يخف من أنهم يقتلونه أو يضربونه إذا سكروا له فأن يأكل معهم، وإذا خاف أن يضرب على رأسه على رأسه فليترك.
ولو كنت مع مسلمين يضعون الخمر على المائدة فلا يحل لك أن تجالسهم ولا أن تأكل معهم، بل غَيِّر المنكر، لكن هذا يهودي أو نصراني يستبيح الخمر، فليشرب، وأنت لا تشرب، تقول: أنا مؤمن، لكن إذا خفت أنه إذا سكر يؤذيك فاجتنبه، أو تجالسه في الطعام على شرط ألا يقدم خمراً في المائدة.
كيفية التذكية
السؤال: ما هي كيفية التذكية؟الجواب: لا بد من قطع الأوداج والحلقوم، ولو ذبحها من قفاها فلا يصح أبداً.
الفرق بن المخلَصين والمخلصِين
السؤال: ما الفرق بين المخلِصِين والمخلَصِين؟ الجواب: ورد هذا في القرآن بلفظ: المخلَصِين، وبلفظ: المخلِصِين، والمخلِصِين باسم الفاعل أنا وأنت إن شاء الله والسامعون، كل من يعمل عملاً لوجه الله فقط لا رياء ولا سمعة ولا شهرة، أخلص فيه فهو مخلِص.
وأما المخلَصِين فهم الذين استخلصهم الله واصطفاهم، وأغلب ما يطلق لفظ المخلَصِين على الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله واصطفاهم لعبادته، وغيرهم يقال فيه: مخلِص، بدليل أنه يخلص عمله لله، فهو من المخلِصِين، وإذا قلت: أنا أريد أن أرقى إلى مستوى أن أكون من المخلَصِين فالسلم موجود، أسلم لله وجهك وقلبك وأعرض عن كل أسباب الحياة يستخلصك الله له، ما يقوى عليك الشيطان.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
والآن هيا نتلو هذه الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]. يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6] لبيك اللهم لبيك. هل نادانا نحن؟! إي والله! فنحن مؤمنون أم لا؟ إذاً: لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه نترك، هذا استعداد المؤمنين لحياتهم الكاملة.

أي: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، أيها الأحياء! يأمركم ربكم فيقول: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: إذا أردتم أن تدخلوا في الصلاة، فماذا تفعلون؟ قال: توضئوا. وبين لنا كيف الوضوء؟
صفة الوضوء
ومعلوم أن الوضوء -وهو الطهارة- شرط في صحة الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، فلا تصح صلاة بدون طهور أبداً، فذكر أركان الوضوء: وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، أربعة، والنية لا بد منها، ما أنت تلعب أو تعبث، ثم الترتيب هذا كما رتبه هو تعالى. تبقى السنن: غسل اليدين ابتداء ثلاث مرات قبل إدخالهما في الإناء إن قمت من نومك، والمضمضة ثلاثاً، والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً، هذه سنن بينها الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد منها، ومسح الأذنين داخل في مسح الرأس.
إذاً: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )[المائدة:6] بعد أن تغسل كفيك، وتتمضمض، وتستنشق الماء بأنفك وتنثره تطهيراً له وتطييباً، بعد ذلك تغسل وجهك، وحد الوجه: من منبت الشعر إلى منتهى الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً، فإن كانت اللحية خفيفة فاغسلها مع البشرة، وإن كانت كثيفة فيكفي أن تمسح فوقها، وتخليلها مستحب، وغسل اليدين مع شيء من العضدين أحسن، لكن لا توصل الماء إلى كتفك، فقط اغسل المرفق وأدخله في هذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ).
ثم امسح رأسك مرة واحدة، اذهب بيديك من الأمام إلى الوراء، ثم عد بهما هكذا لكامل الرأس، ابدأ بمقدمه وقد بللت يديك بالماء، لا تغترف الماء، بلهما فقط بالماء وامسح رأسك، وامسح أذنيك ظاهراً وباطناً، فإذا بقي بلل ماء في كفيك كفى، وإذا جف الكفان فلا بد أن تبل يديك وتمسح أذنيك، ثم اغسل رجليك، ابدأ بالرجل اليمنى؛ لأن الله يحب التيامن في كل شيء، وفي غسل اليدين أيضاً تبدأ باليد اليمنى، فتغسل الرجل اليمنى إلى الكعبين، والكعب هو هذا العظم الناتئ عند ملتقى الساق بالقدم، والكعب تغسله أيضاً احتياطاً، والأفضل أن تخلل أصابع رجليك، وتخليل أصابع اليدين ضروري لا بد منه. هذا هو الوضوء، سواء لفريضة أو لنافلة، أو للطواف أو لمس المصحف، لا بد من هذه النية.
ثواب الوضوء
أقول: هناك جائزة هي الجائزة العظمى، وهي إذا فرغت من الوضوء على هذه الطريقة ترفع رأسك إلى السماء وإن كنت تحت سقف وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإن الجائزة أن تفتح لك أبواب الجنة الثمانية، فلو كنت عندها دخلتها! وإذا ما وصلت إليها انفتحت وتغلق، كالأبواب التي تفتح بالكهرباء، إذا قربت من الباب ينفتح، فإذا ما دخلت يرجع ويغلق! فالحمد لله حيث كشف عن عجائب، وإلا قلنا: كيف تفتح له أبواب الجنة الثمانية؟ فالآن عرفنا، بمجرد أن العبد المؤمن الموحد يرفع رأسه ويشهد هذه الشهادة وهو لا يخالفها بقلبه ولا بسلوكه، فإن أبواب الجنة تفتح، فإن كان عند الباب دخل، وإن لم يكن فإنه يفتح ويغلق، وما يزال كذلك حتى يموت فيغلق الباب. ولا يشترط الوضوء لقراءة القرآن، الوضوء يشترط لمس المصحف الكامل، أما أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، أو يقرأ في جزء من أجزاء المصحف فما قال أحد بالوضوء، وإذا أراد أن يتوضأ فليتوضأ حتى لذكر الله، إنما أمرنا الله عز وجل إذا قمنا لأداء الصلاة أن نتوضأ، والطواف بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا بد له من الوضوء، ومس المصحف يقول الله تعالى فيه: ( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )[الواقعة:79] وهكذا.
معنى قوله تعالى: (وإن كنتم جنباً فاطهروا)
يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وإن كنتم معاشر المؤمنين والمؤمنات جنباً، والواحد جنب، والجماعة جنب، كواحد عدل وجماعة عدل. والجنب هو الذي تلبس بجنابة، وهي إيلاج رأس ذكره في فرج امرأته، ولو لم ينزل ولم يخرج منه ماء: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إذا خرج منه المني في يقظة أو منام، من أفرز تلك المادة البيضاء الثخينة في منامه أو بلذة في يقظته فهو جنب، يجب أن يغتسل، وإن كان نائماً في المسجد واحتلم يجب أن يخرج فيغتسل ويرجع، هذا هو الجنب، إذا أولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن لم يمن فقد وجب الغسل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان ) أي: موضع الختانين ( فقد وجب الغسل ).
ثانياً: أن يفرز مادة المني بلذة، سواء بتفكر أو بلمس أو بكذا أو في منامه، رأى نفسه يجامع امرأة، إذا أفرز منياً وجب الغسل بلا تردد، هذا معنى الجنب: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] ماذا عليكم؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] أي: فتطهروا، فأدغمت التاء: فاطهروا، أي: اغتسلوا.
صفة الغسل
وكيف نغتسل؟
الغسل الصحيح الذي ما نعدل عنه هو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفيته -أيها الجنب- أن تغسل كفيك ثلاث مرات وأنت ناو رفع الجنابة، ثم تستنجي فتغسل فرجيك وما حولهما غسلاً حقيقياً، ثم تتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فرغت من الوضوء فاغمس يديك في الماء وخلل أصول شعرك ليستأنس بالماء ولا تصاب بالزكام، هذه حكمة من حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا خللت شعرك فخذ غرفة بكفيك وضعها على يمين رأسك واغسل رأسك كله، زد الثانية بكفيك وضعها على الجهة اليسرى واغسل كامل الرأس، ثم ثالثة تضعها على الوسط واغسل رأسك مع أذنيك ظاهراً وباطناً ثلاث مرات، فإذا غسلت رأسك مع أذنيك فحينئذ اغسل شقك الأيمن من رقبتك إلى كعبك، هذه هي الجهة الأولى، والجهة الثانية اليسرى بعدها من عنقك إلى كعبك، وتعهد المغابن: تحت الإبط، فإذا ما تعهدته لا يبتل، وتحت الركبة، فإذا لم تمد رجلك لا يبتل ما تحت الركبة، وكذلك السرة إذا كان فيها تجاعيد، فإذا لم تتبع لم تبتل، لأنك مأمور أن تغسل كل جسمك، ولا تبقى لمعة، والظهر تدلكه بيديك، وإذا أتممت تصب بالماء حتى تطمئن إلى أن الماء قد عم جسمك، هذا هو الغسل الذي أراد الله تعالى.
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] فماذا تفعلون؟ ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6] رجالاً ونساء، المرأة إذا كان عندها ضفائر الشعر فما تحل ضفائرها، تجمعها فقط وتصب الماء وتخللها رحمة بها، إذ قد يشق عليها النقض والبرم مرة ثانية، هذا هو الغسل من الجنابة، وغسل الجمعة هكذا، وغسل الإحرام هكذا، وغسل دخول مكة هكذا، وغسل العيد هكذا، إلا أن النية تختلف، غسل الجمعة سنة، غسل الإحرام كذلك، لكن غسل الجنابة واجب.

ومن أراد أن يغتسل بالصابون والليف فإنه أولاً يغتسل الغسل الواجب، وبعده يغسل بالصابون، هذا أحوط له، وإذا خاف من الماء أن ينفد فإنه يغسل بالصابون، وبعد ذلك يغسل بالماء.

وغسل الميت هكذا إن أمكن، ويجوز أن تغسل جسمك كاملاً وبعد ذلك تتوضأ، فذلك يجزئك، لكن الطريقة الأولى هي السنة النبوية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.






ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (7)
الحلقة (365)
تفسير سورة المائدة (60)


بعد أن بين الله لعباده كيفية التطهر للصلاة وذلك بالوضوء، ذكر بعد ذلك نواقض هذا الوضوء من جنابة أو غائط أو إتيان للنساء، وذكر كيفية التطهر لهذه النواقض، وهي الوضوء لمن أتى الغائط، والغسل لمن كان على جنابة أو أتى امرأته، ومن كان واجباً في حقه الغسل ولم يجد ماء، أو وجده ولم يستطع استعماله فله أن يتيمم عوضاً عن ذلك، ويدخل في هذا من أراد الوضوء ولم يجد الماء.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وقد تدارسنا الأولى منهما الليلة الماضية، ونحن مع الآية الثانية، ولكن نريد الدراسة للكل بعد تلاوة الآيتين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7].
أسباب الجنابة
عرفنا كيف نتوضأ، وكيف نغتسل استجابة منا لأمر ربنا تعالى في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6] هذا هو الوضوء، ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، وعرفنا أبناءنا كيف يتطهرون، ولا بأس أن نعيد بيان ذلك.فقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6] من هو الجنب؟ من هي الجنب؟ من هم الجنب؟ من هن الجنب؟ كلمة (جنب) تطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، وعلى الذكر والأنثى، والجنب: من قامت به الجنابة، وسببها: إما التقاء الختانين، أي: موضع ختان الذكر وختان الأنثى، بمعنى: إذا أولج الرجل ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ولم يمن فقد وجب الغسل.

والأمر الثاني: هو أن يفرز المني في نوم أو بلذة في يقظة، نظر إلى امرأته أو مسها فانتعش ذكره وانتصب فأمنى فقد وجب الغسل، نام فرأى نفسه أنه يأتي امرأته أو غير ذلك فتدفق ماؤه فوجب الغسل، فالجنابة بشيئين:
بالتقاء الختانين، أو بإفراز المني، والمني: ماء أبيض ثخين دافق شبيه بلقاح ذكر النخل، هذا هو الجنب، الذي يولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن كان ذكره غير منتصب ولا لذة له، فضلاً عن أن يمني، بمجرد أن يحصل دخول رأس الذكر في الفرج يجب الغسل، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) الختانان: تثنية ختان، وهل المرأة تختتن؟ نعم، ختان المرأة مكرمة لها، لكن ليس بسنة واجبة كختان الذكور، ويقال فيه: الخفاض.
صفة الغسل من الجنابة
إذاً: وإن كنتم جنباً فماذا تفعلون؟ نتطهر، كيف نتطهر؟ نغتسل غسل الجنابة، وهو كما علمتم: يأتي أحدنا إلى الماء فيغسل كفيه ثلاث مرات ناوياً رفع الحدث الأكبر، أو ناوياً امتثال أمر الله، حيث أمر بالاغتسال فهو يغتسل، أو ينوي رفع هذا الحدث عن نفسه أو الجنابة، لا بد أن يحدث نفسه بهذا، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كأنه بين الناس، فإذا فرغ من وضوئه حينئذ من باب الطب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه وعلمهم أن يغمس يديه في الماء أو يصب الماء على كفيه، ثم يخلل أصول شعر رأسه بالماء خشية أن يصاب بالزكام؛ حتى تستأنس البشرة، وتقبل الماء هكذا، بعد ذلك يغرف غرفة بكفيه معاً، ويضع الماء على يمين رأسه ويغسل رأسه كله وأذنيه، ثم يأخذ الثانية على الشق الأيسر ويغسل بها عامة رأسه وأذنيه، ويأخذ الثالثة فيضعها على وسط رأسه، ويغسل بها كل رأسه وأذنيه، والأذنان يغسلهما ظاهراً وباطناً، وإذا ما اكتفى بالماء ذاك يزيد ماء، خاصة لأذنيه، لا بد أن يغسلهما من ظاهرهما وباطنهما.ثم يفرغ الماء على شقه الأيمن من رقبته إلى قدمه، فإذا فرغ من الشق الأيمن يأتي إلى الشق الأيسر ظاهراً وباطناً، من الظهر إلى البطن إلى كعبه، ويتعهد المغابن، كتحت الإبطين، والرسغين والسرة وأي مكان يخفى ما يدخله الماء يتعهده ليطمئن، وأما اللحية فإنه يخللها كما يخلل شعر رأسه، لا بد من هذا، وإنما عفي عن المؤمنة إذا كان شعرها مفتولاً بخيوط أحياناً أو مضفوراً، فليس عليها أن تحله، تجمع شعرها على رأسها وتصب الماء وتغسله إن شاءت، هذا هو الغسل.
وإذا كنت تغتسل وفسوت أو ضرطت فماذا تصنع؟ أكمل غسلك، وحين تفرغ منه توضأ بعدما تلبس ثيابك أو قبل ذلك.
وإذا كنت تغتسل فمسست بباطن كفك ذكرك فحينئذ انتقض وضوؤك، إذا فرغت من غسلك توضأ، كالذي فسا أو ضرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أما إذا مسست فرجك بظاهر الكف فليس عليك وضوء، أو مسست وأنت عليك الثياب فلا ينتقض الوضوء؛ لأن الغريزة الجنسية في الكف واللمس، أما ظاهر الكف فما يضر.
وقد بينا وقلنا: هناك صورة ثانية للغسل، هي أن ينوي الغسل ويغتسل بكامله ثم يتوضأ، أما أن تقول: يغسل جسده ولا يتوضأ فلا، لا بد من الوضوء، إنما الصورة الأولى بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث بها نساؤه، والصورة الثانية عامة، يدخل فيغتسل بالنية، وبعد ذلك يتوضأ.
مشروعية التيمم للمريض والمسافر

ثم قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، والمريض ذاك الذي ما يقوى على أن يقوم ويغتسل، ذاك الذي فيه جراحات يخشى من مرض وتعب إذا ابتلت، ذاك الذي ما يقدر على أن يستعمل الماء، والمرض قد قام به فلا يستطيع أن يغتسل أو يتوضأ، ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] في الغالب أن المسافر يفقد الماء، أيام كنا نسافر على الإبل والبغال والحمير في المغرب والحجاز كان الماء في الغالب يفقده المسافر؛ فلهذا أذن الله عز وجل للمسافر أن يتيمم، لكن بينت السنة أنه إذا لم يجد ماء، أو وجد ماء ولكن لا يكفيه لشربه، والغالب في السفر في الزمان الأول أن المسافر يحتاج إلى الماء ويفقده، عنده قليل ماء يتوضأ به فيموت من العطش، فإن توافر الماء فيجب أن يتوضأ ويغتسل.(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6] والسفر معروف، وهو الذي تقصر به الصلاة، ثمانية وأربعون كيلو متر فما فوق إلى آلاف.
معنى قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط)

(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] الغائط ما هو؟ أصله المكان المنخفض، وعادة الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يأتي إلى مكان منخفض ليستتر عن أعين الناس، ما يأتي على جبل يكشف عورته، لا بد أن يأتي إلى مكان منخفض يقال له: الغوط والغائط، فهذا المكان إذا جاء أحدنا منه، يعني: خرئ أو بال، لكن كلام الله أعلى، فما قال: الخرء كما نقول، ولا البول، نحن نقول ذلك للتفسير فقط، وإلا فما نقول هذا.لقد كان نساء المؤمنين يتغوطن في الأربع والعشرين ساعة مرة واحدة فقط، ويخرجن إلى مكان منخفض وراء البقيع، ما عندهم مراحيض ولا مياه، وأنتم اليوم كيف حالكم؟ فمن منكم إذا توضأ ذكر هذا وقال: الحمد لله، أو إذا دخل مرحاضاً بالرخام والبلاط والكراسي يخرج فيقول: الحمد لله؟
إذاً: فمن بال أو تغوط وجب عليه الوضوء، والذي يفسو أو يضرط يجب عليه الوضوء، والفساء ريح منتن بلا صوت، والضراط: ريح منتن بصوت.
وعندي لطيفة نفعني الله بها: وهي أن الذي عنده مرض في القولون والمعدة قد يشعر أن فساء خرج منه، والشيطان هذه مهمته، ينفخ في دبرك ليفسد عليك عبادتك، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: إذا لم تشم ريحاً ولم تسمع صوتاً فلا تخرج من صلاتك. فإن الشيطان ينفخ في مقعدك ليفتنك، إذا لم تجد ريحاً كريهة، إذا لم تسمع صوتاً ولم تشم رائحة، وإنما تشعر بحركة في دبرك فتلك نفخة العدو ليفتننا، فلا تخرج من صلاتك، والذي عافاه الله فما عنده مرض فهنيئاً له.

ما ينقض الوضوء من مس النساء

قال تعالى: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6] رجل أو امرأة ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] والملامسة مفاعلة، والغالب أن تكون بين اثنين، وتطلق ويراد بها فعال الواحد، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذا أراد أن يفسر هذه الآية وسألوه يدخل أصبعيه في أذنيه حتى ما يسمع ويقول: إننا نستحي أن نقولها. يقول تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] بمعنى: جامعتموهن، نكحتموهن، ما هو اللمس باليد، لم يدخل ابن عباس أصبعيه في أذنيه؟ حتى لا يذكر هذا، والملامسة تكون بين اثنين، هذا هو الجماع، ويبقى مس المرأة بيده، فإذا قصد أن يتلذذ بمسها ولمسها بهذه النية فقد انتقض وضوؤه.

ثانياً: إذا لم يقصد أن يتلذذ بامرأته إذا مسها، ولكن لما وضع يده انتعش باطنه ووجد لذة فقد انتقض وضوؤه، فإن لم يقصد ولم يجد لذة فلا ينتقض وضوؤه، أما إذا قصد أن يتلذذ فقد انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، فإن لم يقصد ولم يجد اللذة لم ينتقض وضوؤه ولو تمرغ عليها.
أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني )، وقالت وهي الحكيمة: ( وكان أملككم لأربه )، ما هو مثلكم أنتم، لا تملكون أنفسكم ولا حاجاتكم، أما هو فمصدر الكمال، يقبلها رحمة لها ورفقاً بها، ولكن لا يقصد أبداً لذة ولا يريدها.
المهم القاعدة الأولى التي وضعها أهل العلم: إن قصد اللذة باللمس أو التقبيل ولو لم يجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولكن لما لمسها وقبل وجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولا وجد اللذة فلا انتقاض، قبلها أو لامس أو مس.
إذاً: إذا كان مس الكف ينقض الوضوء فكيف بالذي يقصد اللذة من امرأته ويمسها، فقوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6] إن شئتم قولوا كما قال الحبر: أو جامعتم، وهو الأصل، ويبقى المس بشهوة ثابتاً بالسنة النبوية.
مشروعية التيمم لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله

يقول تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] أي: ولم تجدوا ماء، ما الماء؟ هذا السائل العذب، سواء كان ملحاً أو كان عذباً، أو ماء البحر فتوضأ منه واغتسل، ولهذا يقول المشرع صلى الله عليه وسلم عن البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته).إذاً: فإن لم تجد ماء طهوراً، وإذا وجدت ماء وهو نجس فلا، أو ماء تغير لونه أو ريحه بطعام أو بكذا فلا تتوضأ منه، لا يرفع الحدث إلا الماء الذي على أصل خلقته، كماء نبع من الأرض أو نزل من السماء، أما الماء إذا كان عذباً فأصبح صالحاً بأن صببت فيه مادة أخرى فلا يجوز التطهر به.
فالماء الطهور: هو الباقي على أصل خلقته، فإن صببت فيه ريح مسك وأصبح ذا رائحة فما يصح التطهر به، أو صببت فيه عسلاً وتغير لونه بالعسل فما يصح، الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته التي خلقه الله عليها، ملحاً كان أو عذباً.
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] فماذا تصنعون؟ قال: ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، الصعيد كالصاعد: ما علا وارتفع، فوجه الأرض كله صعيد، وجه الأرض صاعد فوقها؛ فلهذا إذا أصبحت محتاجاً إلى التيمم مضطراً إليه فاقصد الأرض سواء كانت تراباً أو رملاً أو سبخة أو حجارة، كل ما صعد على الأرض تيمم به، إلا أن التراب أفضل؛ لأن فيه الاعتراف بذلك وهوانك، يمسح المتيمم وجهه بالتراب لوجه الله، أما الحجر الأصم فما فيها شيء، ما يصيبه منه هون ولا دون، لكن التراب أولى، فإن لم يوجد فكل أجزاء الأرض يتيمم بها: ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] هذا الطيب بمعنى: الطاهر، أما إذا كان فيه بول غنم أو حمار فما يجوز التيمم به، وبول الغنم وروثه طاهر ولكن لا تتيمم عليه؛ ما يأذن الله لك أن توسخ وجهك ويديك، لا بد أن يكون طاهراً.

يتبع



ابوالوليد المسلم 02-08-2021 04:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
صفة التيمم

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، ماذا تفعلون؟ ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[النساء:43] آية النساء، وهنا: ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، كيف أمسح التراب بوجهي؟ الأصل أن أمسح وجهي بالتراب، وليس أن تأخذ وجهك وتمسح به، إذاً: نقول: لا تفهم أنك تأخذ وجهك وتمسح به التراب، ما هو بمعقول هذا، بل المعنى: امسح وجهك بالتراب.وللتيمم كيفيتان سهلتان ميسرتان:
إحداهما: أن تمسح وجهك وكفيك، والثانية: أن تمسح وجهك ويديك إلى المرفقين؛ لقوله تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6].

فالصورة الثانية في الموطأ عن ابن عمر وهي أكمل، وهي أن تقول: باسم الله، فتضرب بكفيك على الأرض، وتمسح وجهك مسحة واحدة، ثم اضرب بيديك على الأرض وامسح إلى المرفق، تمسح وجهك وكفيك مع ذراعيك، هكذا كان ابن عمر يفعل، ويقول: لأن الله قال: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6] واليد يدخل فيها المرفق أم لا؟ لكن الله في الوضوء قال: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، بين الحد، وفي التيمم ما بين: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )[المائدة:6]، والصورة الأولى الطيبة الهينة وإن كانت قد تقل عن الأجر؛ لأن عمار بن ياسر كان قد أجنب باحتلام في سرية من السرايا، فلما أجنب قام فتمرغ في التراب، نزع ثيابه وتمرغ، فلما جاء إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقص القصة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وهكذا ) والله إن ذلك ليكفي! ما السر؟ ما الحكمة؟ إن مس التراب هذا ما يزيل القذى ولا الوسخ، فما السر؟ أقول: لما كان التطهر فريضة الله لمن أراد أن يناجي الله، الوضوء والغسل مفروضان، فأيما مؤمن يريد أن يتصل بذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه ليبثه آلامه ويذكر له حاجته فلا بد أن يتطهر، وإلا فلا يقبل، فإذا عجز عن الماء أو عن استعماله فماذا يصنع؟ علمه الله عز وجل أن يعلن عن إذعانه واستسلامه وانقياده، كأنه يقول: لو كنت قادراً يا رب على الماء أو وجدته لاغتسلت أو توضأت، ولكن عجزت. إذاً: أظهر بيان أنك صادق في عجزك ونيتك، فامسح وجهك بالتراب ويديك؛ فلا يخطر ببالك أنك تتصل بالله، وتجلس بين يديه، وينصب وجهه لك وأنت على غير طهارة! لن يكون هذا، وبهذا يبقى المؤمن مع طهره دائماً لا ينسى.

قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6] إذ مع وجود الماء ما هناك إلا الوضوء والغسل، ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] إن اكتفيت بوجهك مرة وكفيك؛ ولا تخلل أصابعك لأن العبرة بأن تمتثل أمر الله، حتى تألف الطهر فما تتركه أبداً، مرضت أو صححت.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6] أي: نمسح الوجه والكفين، وهذا أرحم بنا؛ إذ كم من إنسان يلبس ثياباً في الشتاء في البلاد الباردة فيحتاج أن ينزع كل ثيابه إذا أراد أن يتيمم، وفي ذلك مشقة كبيرة ويعانون منها، فنأخذ بهذه الرحمة الإلهية وهذه الرخصة فنقول: يمسح كفيه بعد وجهه ويجزئه.
معنى قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ...)

ثم ختم تعالى الآية بقوله: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، الحرج: الضيق، مأخوذ من الحرج وهو المكان الكثيف الشجر، مكان ضيق، ما يريد الله تعالى أن يضيّق علينا، وسع علينا، علامة التوسيع أننا إذا ما وجدنا الماء أو ما قدرنا على استعماله نضرب الأرض بالكف ونمسح الوجه والكفين ونصلي أو نناجي ربنا أو نطوف أو نقرأ القرآن.(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي حرج، والدليل على هذا هو أنه أذن لك أيها الجنب الذي يجب عليك أن تغتسل إن لم تجد الماء أن تضرب الأرض بكفيك وتمسح وجهك وكفيك، أو مريض ما يستطيع أن يستعمل الماء ولو كان بين يديه، لجراحات ونحوها، فيضرب الأرض بكفيه ويمسح وجهه وكفيه.

(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، يريد أن يطهرنا؛ لأنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، إذا طهرنا أحبنا، لو تركنا أنجاساً فوالله لن يحبنا، بل لكي يرفعنا إلى مستوى حبه ورضاه علمنا كيف نتطهر وأمرنا بذلك.

(لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6] ثانياً، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6] ليعدكم بذلك إلى الشكر، (لعل) هنا الإعدادية: ليعدكم لشكره، ليطهرنا وليتم نعمة الإسلام علينا، نعمة هذه العبادات التي هي أدوات تزكية وتطهير للنفس ولنصبح من الشاكرين لآلائه وإفضاله وإنعامه.

(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6] أولاً، ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، وهي نعمة الطهارة نعمة الإسلام، نعمة الإيمان كما تقدم: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3].

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، نشكر المنعم الله جل جلاله وعظم سلطانه، والشكر يكون أساساً: بإظهار النعمة، يقال: دابة شكور، كلما أكلت ظهر السمن فيها، وأخرى كفور: تأكل وتأكل وما يظهر عليها شيء، إذاً: الشكر: إظهار النعمة، وهو:

أولاً: بالاعتراف بالقلب بالنعمة لله، كانت أو طعاماً أو عافية، تعترف في قلبك بالنعمة وأنها لله.
ثانياً: أن تحمد الله تعالى عليها بكلمة: الحمد لله.
ثالثاً: أن تصرفها فيما يحب أن تصرف فيه، إذا كانت مالاً تنفقه حيث يريد الله أن تنفقه، إذا كانت صحة بدنية تنفقها حيث يريد الله أن تنفقها، في الجهاد والعبادة والعمل الصالح، وإذا كانت جاهًا وحمدت الله تعالى على هذه النعمة فأعن إخوانك المحتاجين إلى جاهك واقض حاجاتهم، وإذا كانت علماً فعلّمه وبينه للناس، فكونوا من الشاكرين.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، قلت: إنها (لعل) الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك إلى شكره، علّمنا كيف نعبده؛ من أجل أن نصبح شاكرين، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، هيأنا لأن نشكره، علمنا كيف نتوضأ ونغتسل وكيف نتيمم ونرفع الأحداث حتى نشكره بالطاعة، لنصبح شاكرين لله، والذي لا يتوضأ هل شكر الله؟ الذي ما يغتسل هل هو شاكر؟ والذي ما يصلي ولا يذكر كافر ما هو بشاكر.
تفسير قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا...)
وأخيراً يقول تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7] أولاً، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، أي: نعمة خلقنا، نعمة إمدادنا، نعمة هدايتنا، فأول شيء أننا مخلوقون خلقنا الله تعالى، فاشكروه على نعمة الخلق والإيجاد، ونعمة الإمداد، فمن أمدنا بالطعام والشراب والهواء الذي نتنفس فيه، والغذاء والهواء عنصرا البقاء والحياة، فمن رب هذا الأكسجين؟ إنه الله تعالى. هل الدولة هي التي صنعته؟ والماء والطعام من خالقهما؟ الله، إذاً: فنشكر الله على نعمة الإيجاد والإمداد، أوجدنا بفضله وأمدنا بما يبقىي علينا حياتنا إلى نهايتها، إذاً: فليشكر الله عز وجل.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، في الخلق والإيجاد، في الإيمان والإسلام والإحسان، غيركم كفرة فجرة فساق يأكل بعضهم بعضاً، وأنتم أنعم الله عليكم بهذه النعمة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي )[المائدة:3]، فالوضوء والتيمم والعبادة مظاهر الشكر لله عز وجل، والذي لا يعبد الله ما شكر ولا يعتبر من الشاكرين.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، ما هذا الميثاق الذي واثقنا الله وربطنا به؟ هو أنك لما قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد بايعت الله، هذا هو الميثاق، وهو أن تعبد الله تعالى وحده بما شرع لك أن تعبده به، ولا تشرك به أبداً أحداً في عبادته، اذكر هذا الميثاق، فمن كفر نقض الميثاق، من ترك الصلاة والعبادة ترك الميثاق ونقضه.

(وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، متى؟ ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، من هو الذي قال: سمعنا وأطعنا؟ كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال: سمعت وأطعت وقام اغتسل وصلى.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ )[المائدة:7]، بشكره وبالثناء عليه وبامتثال أمره وبطاعته وبحمده، ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ )[المائدة:7]، لما دخلنا في الإسلام كيف دخلنا؟ دخلنا بـ(لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

إذاً: أقول واسمعوا: الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد عاهد الله على الاستمرار في هذا الدين وعلى عبادة الله بما شرع وبين، وعليه أن لا يشرك في عبادة الله كائناً من كان، لا يشرك ملكاً ولا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا كائناً من الكائنات؛ لأنه يقول: أنا أشهد على علم أنه لا يوجد إله إلا الله، فكيف يخون إذاً ويوجد له من يعبده مع الله ولو بكلمة؟
ثانياً: أن لا يرضى بأن يعبد مع الله غيره أبداً؛ لأنك أقررت بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وها أنت تعبده وحده، فكيف ترضى بعبادة غيره لفلان وفلان؟ فلهذا لا نرضى بالشرك والكفر أبداً، ويوم نقدر على نقل هذه الأنوار فإننا ننقلها إلى الأبيض والأسود كما فعل أصحاب رسول الله وأحفادهم، ما نرضى أن تبقى دولة أو أمة لا تعبد الله عز وجل، وإلا فقد رضينا بالكفر.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور)
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، هذا الأمر الأخير: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، كيف نتقيك يا رب وأنت الجبار؟! ومن نحن حتى نتقيك! الجواب: يقول: تتقوني بطاعتي، من أذعن لأمري ونهيي وانقاد فقد اتقى عذابي، أما الذي لا يعبد ربه ولا يطيعه فبم يتقيه؟ هل بالجبال والصخور والجيوش؟ إن الخليقة كلها في قبضة الجبار.
إذاً: لا يتقى الله بالأسوار ولا الحصون ولا الجيوش ولا الحيل أبداً، وإنما يتقى بالإسلام له والإذعان، أذعن لربك، إذا قال: قل فقل، وإذا قال: اسكت فاسكت، بهذا فقط يتقى الله عز وجل، أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، هذه من يطيقها، كل ما يجول في خاطرك وتتحدث به في نفسك الله عليم به كالظاهر، فكيف -إذاً- تستطيع أن تخونه في الوضوء أو التيمم أو العبادة وهو يعلم ذات صدرك؟ ما في باطنك يعلمه كما يعلم ظاهرك، هذه المراقبة التي يفوز بها من هيأهم الله لذلك، يعيش العبد أو الأمة يراقب الله في كل حركاته وسكناته، حين يأخذ يتوضأ إذا رأى الماء كثيراً يقلله؛ لأن الله معه، فكلما صببنا الماء من الصنبور نغلقه ونذكر مراقبة الله لنا، إذا أردت أن تأكل أن تشرب أن تقول أن تعطي دائماً تذكر أن الله معك ويراك ويعلم ما في صدرك.

وهذه جاءت في الآية العظيمة التي هي سلم الوصول إلى الكمال: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )[العنكبوت:45]، أولاً، ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )[العنكبوت:45]، ثانياً، ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )[العنكبوت:45]، ثالثاً، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45]، الرابعة، فهذا سلم الوصول إلى الكمال:
أولاً: قراءة القرآن بالليل والنهار.
ثانياً: إقام الصلاة كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: ذكر الله في كل الأحايين إلا إذا جلست على المرحاض تتغوط.
رابعاً: أن تعلم أن الله يعلم ما تصنع فتراقبه في كل حركاتك وسكناتك، فإذا وصلت إلى هذا فأبشر واعلم أنك من خيرة أولياء الله عز وجل.

اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وتوفنا وأنت راضٍ عنا وألحقنا بهم يا رب العالمين.

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:10 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (8)
الحلقة (366)
تفسير سورة المائدة (61)


شرع الله عز وجل الطهارة لعباده، وجعلها شرطاً لأداء عبادة من أهم العبادات ألا وهي الصلاة، والطهارة للصلاة تكون نوعان؛ أما الغسل لرفع الحدث الأكبر، وإما الوضوء لرفع الحدث الأصغر، وقد يسر الله عز وجل على عباده في هذا الشأن، فمن لم يجد ماء لغسله أو وضوئه فله أن يتيمم صعيداً طيباً فيمسح به وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً، وهذا من رحمته سبحانه بعباده.

تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ ذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة، ومع هاتين الآيتين، سبق أن درسناهما ولكن لم نستوفهما كما ينبغي أن ندرسهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:6-7]. ‏

توجيه معنى القراءتين في (أرجلكم) والرد على الرافضة في ذلك
ألفت النظر إلى أنه قرأ بخفض ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، هناك قراءة بالكسر: ( وأرجلِكم )، عطفاً على (برءوسكم).ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن بيان كلام الله لقول الله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[النحل:44]، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويغسل رجليه ولا يمسحهما طيلة عشر سنين، وإنما المسح لمن لبس الشراب أو الجورب أو الخف، لكل من ستر رجله وقاية لها من البرد أو الحر أو الشوك، له أن يمسح على ذلك الغطاء الذي على رجله.

وهنا إخواننا من الشيعة يمسحون أرجلهم ولا يغسلونها وهي عارية عن الجورب أو الموق أو الخف، وجاءني أحدهم في الحلقة وقال لي: لماذا أنتم لا تمسحون على أرجلكم والآية الكريمة تقول: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]؟

فمما فتح الله به علي وأسكته أن قلت له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساؤه وأصحابه وبناته والأمة معه كم سنة وهو يتوضأ؟ عشر سنين، والله ما مسح رجليه إلا إذا كان عليهما الخف أو الجورب، وكان يغسل رجليه ويقول: ( ويل للأعقاب من النار )، فالذي لا يهتم بغسل رجليه ويبقى العقب هذا غير مغسول تأكله النار، فوالله لقد سكت الرجل، وماذا يقول؟
فقراءة الجمهور: ( وَأَرْجُلَكُمْ )[المائدة:6]، عطفاً على: (وجوهكم): اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين، وليس معقولاً أبداً أن الرجل التي تمشي بها في المزابل في الطرقات تمسح عليها ووجهك تغسله!

ألم يُقصد بهذه الطهارة للجسم أيضاً؟ فرجلك التي تمشي بها في كل مكان لا تغسلها وتمسح فوقها هكذا، ووجهك النظيف الذي ما يتعرض للوسخ يجب أن تغسله ثلاث مرات، وكذلك يداك!
والشاهد عندنا لفت نظركم إلى أن هذه القراءة بالكسر أفادت المسح إذا كان على الرجل خف أو جورب أو موق، فما أضعنا القراءة هذه، نفعنا الله بها.
وأما قراءة الجمهور فهي عطف على الوجوه: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم -بقراءة الجر- وامسحوا بأرجلكم إذا كان على الأرجل خفاف أو جوارب أو ما إلى ذلك.

إذاً: عرفتم المسح على الخفين أو على الجورب أو على الموق وعلى كل ما يستر الرجل من أجل وقايتها من الحر أو البرد أو الحجارة والأشواك، ففي غزوة ذات الرقاع لفوا على أرجلهم قطعاً من القماش أو خرقاً وكانوا يمسحون عليها.

أثر الخلاف في معنى (من) في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6]، كيف نفعل؟ قال تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، و(من) هل هي ابتدائية أو تبعيضية؟بعض أهل العلم قالوا: هذه تبعيضية، فلا بد من مسح جزء من التراب، وقالوا: ينبغي أن يكون المسح من التراب حتى يعلق بيدك جزء منه، وخالفهم الجمهور وقالوا: (من) للابتداء، كقولك: خرجت من القاهرة أو من البصرة، ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: بابتداء من ذلك الذي صعد على وجه الأرض، سواء كان حجارة أو سبخة أو رملاً أو تراباً، إلا أن التراب أولى، متى وجد فهو أولى من الحجارة، فإن انعدم التراب فكل ما علا على الأرض وارتفع فوقها فهو صاعد عليها، فتضرب يديك -كما سيأتي وكما سبق- وتقول: باسم الله، وتمسح وجهك وكفيك.


رحمة الله تعالى بعباده الظاهرة في بيان مقاصد تشريع التيمم

(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، أي: ضيق ومشقة وتعب. فلهذا إن كنت مريضاً أو كنت صحيحاً والماء بارداً ولا تستطيع أن تغتسل تخاف أن تمرض؛ فإنك تتيمم، فعمرو بن العاص تيمم في غزوة وصلى وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وما أنكر عليه.إذاً: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )[المائدة:6]، ليطهر أبداناً وأرواحاً، هذه مواد التطهير للبدن وتعود أيضاً بالطهارة على الروح، من فعل هذا الوضوء أو هذا الغسل إيماناً بالله وطاعة له وامتثالاً لأمره؛ فهذه الطاعة تحيل نفسه إلى كتلة من النور، فكما تزكو النفس يزكو البدن ويطيب ويطهر، ( لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )[المائدة:6]، ألا وهي نعمة الإسلام، نعمة عبادة الله عز وجل والحياة على هذا الدين الإسلامي؛ رجاء أن نشكره في كل أحوالنا وفي كل أمورنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
الآن نريد أن ندرس الآيتين من الكتاب: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيتين:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده ووعيده] ناداهم فقال: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:6]، نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه [ ليأمرهم بالطهارة ] الوضوء، الغسل، التيمم.[ ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة ]، فقوله تعالى: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ )[المائدة:6] أي: أردتم أن تصلوا؛ لا أنه يكون غير متطهر ويقوم ليصلي. [ وهي مناجاة العبد لربه لحديث: ( المصلى يناجي ربه )]، كأنما يقول: أيها المؤمنون! من أراد منكم أن يناجيني فليتطهر، لا يأتني وهو غير طاهر. فالصلاة مناجاة، يقال: فلان يتناجى مع فلان: يتكلم معه سراً، والرسول يقول: ( المصلي يناجي ربه )، فالحمد لله، نحن في الأرض وهو فوق العرش بائن من خلقه فوق السماوات ونتكلم معه ويسمعنا ويرانا أكثر مما يسمع بعضنا بعضاً ويرى بعضنا بعضاً.

فلهذا من ذنوبنا إساءة المناجاة، كيف نخلو برب العالمين نتكلم معه ونعرض عنه بقلوبنا ونصبح واقفين بين يديه مشغولين عنه حتى بالمطبخ وما فيه من طعام، فهذه زلة كبيرة وقل من يشعر بها، أيقبل عليك سيدك يسمع منك وينظر إليك وأنت تائه في متاهات أخرى؟! هذه من ذنوبنا.
[ وبيّن لهم الطهارة الصغرى منها: وهي الوضوء، والكبرى: وهي الغسل ]، وقد عرفنا الوضوء والغسل وما زلنا نتعلم، [ وبين لهم ]، أي: للمؤمنين به وبرسوله، بين لهم [ ما ينوب عنهما ]، أي: عن الوضوء والغسل، ينوب عنهما التيمم، [إذا تعذر] وصعب [وجود الماء الذي به الطهارة، أو] الماء موجود ولكن [عجزوا عن استعماله] لمرض ونحوه، [وهو التيمم، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )[المائدة:6]، وحدُ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه ]، منبت الشعر في الجبهة في الغالب معروف، أي: حتى وإن كان أصلع، [إلى منتهى الذقن أسفل الوجه، وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى ]، والوتد: الشحمة، ذلك اللحم الذي كأنه يثبت الأذن ويرسخها كالوتد الذي تشد به الخيمة.

قال: [ ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )[المائدة:6]، فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين، فيدخل في الغسل المرفقان ]، المرفقان: ما ترتفق به حين تتكئ، فقوله: إلى المرفقين، (إلى) بمعنى: مع المرفقين، تقول: وصلت إلى المدينة. يعني: ما دخلت فقط فوصلت إلى الباب، لا بد أنك دخلت فيها، فـ(إلى) تكون بمعنى:(مع).

قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ]، فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، هل الباء للتبعيض فيكفي بعض الرأس؟ أو الباء للإلصاق أي: لا بد أن تلصق يدك مع رأسك؟ على كل حال نحن مسلمون لا نتمذهب ولا نتعصب، ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وبلغه لنا أئمتنا وهداتنا نعمل به ولا نخالفه، فمن هنا فالمسح الحقيقي الوافي الكامل: أن تبدأ بيديك من أول الرأس وتمضي بهما إلى القفا وتردهما، وقد مسح رأسك كله، هذا المطلوب.

ولكن تأتي رخص، حيث يكون على رأسك عمامة مشدودة وأنت في سفر أو في حال برد ما يقتضي موقفك أن تحلها، فتزحزحها هكذا وتمسح بعض الرأس وتتم الباقي على عمامتك، فنكون قد أخذنا بمعنى الباء من الجهتين: التبعيض والإلصاق.
والنساء كالرجال، فإذا رأسها مربوطاً برباط شديد فإنها تزحزحه عن بعض الشعر وتعمم المسح على خمارها، وما عصينا الله وما خرجنا عن قول أئمة الإسلام.
أما أنك لا لشيء تمسح هكذا فقط، فما أظن هذا إلا لعباً واستهزاءً وعنترية فقط؛ تقول: لأن الباء للتبعيض، والرسول صلى الله عليه وسلم ما غسل رجليه وما مسح رأسه! لقد مكث عشر سنين وهو يمسح، فهل قال هكذا بيديه فقط؟
قال: [ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، واللفظ محتمل للكل والبعض ] أي: لكل الرأس ولبعضه، [ والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه، وهو أكمل، وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس ]؛ لأن الأذنين جزء من الرأس، فمن مسح رأسه يمسح أذنيه ظاهرها وباطنهما على حد سواء، فإذا بقي البلل في كفيه مسح أذنيه، وإن جف الكفان فإنه يجدد الماء من جديد فيصب على يديه ويمسح أذنيه.

فقوله تعالى: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ )[المائدة:6]، يدخل في الرأس الأذنان، لأنهما جزء من الرأس.

قال: [ وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، والكعبان: هما العظمان النائتان عند بداية الساق ] ساق الرِّجل، عظم من هنا وعظم من هنا، عظمان نائتان، أي: بارزان عند بداية الساق.

يتبع





ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:11 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
بعض المسائل المتعلقة بالوضوء وأحكامه
قال: [ وبينت السنة ] سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته ومنهجه الذي كان عليه وورثه المؤمنين من بعده. [ وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب ]. السنة هي التي بينت غسل الكفين ثلاثاً ثم المضمضة، ثم الاستنشاق والاستنثار، النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بين هذا، والآية مجملة والرسول المبين صلى الله عليه وسلم.
والغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، المفروض أن تعمم وجهك بالماء ويديك بالماء، فإن اكتفيت بغسلة واحدة أجزأك ذلك، لكن السنة أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن الله وتر يحب الوتر؛ ولأنها أضمن أن تغسل عضوك غسلاً كاملاً.
وإذا لم تكف الغسلات الثلاث فيجب أن تعود فتغسل ثالثة ورابعة وخامسة، المهم أن تعم وجهك ويديك بالماء بغسلة بغسلتين بثلاث وذلك أفضل.
قال: [ و] بينت السنة أيضاً [ قول باسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء ]، قبل أن تفرغ الماء على كفيك تقول: باسم الله، باسمه تتوضأ، لولا أنه أذن لك أن تتوضأ باسمه وبعونه وقدرته لشللت على الفور، ما تستطيع أن تفعل شيئاً.
قال: [كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول ]، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، لو أن شخصاً يقول: أنا أغسل رجلي أولاً لأستريح ثم أغسل بعد ذلك وجهي ويدي، لقلنا: ما يصح هذا، أو يغسل أولاً يديه ورجليه ثم يقول: أترك وجهي الأخير حتى أجففه، ما يصح غسله؛ فالله تعالى ذكرها مرتبة فقال: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )[المائدة:6]، فالذي يركب رأسه ويقول: أيش في ذلك؟ أنا سأبدأ بكذا، فإنه يكفر، لأنه يرد على الله عز وجل، لكن في حال العجز أو النسيان لا بأس، أما أن يتعمد المخالفة فهذا على شفا حفرة من النار.

قال: [ ووجوب الفور أيضاً بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها، بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك].
الترتيب عرفناه، الوجه فاليدان فالرأس فالرجلان، وترك الموالاة كأن يغسل كفيه فيتمضمض فيستنشق فيغسل وجهه ثم يقول: نستريح، يا أم فلان! أعطنا كأس قهوة، وبعد أن يشرب يأخذ في غسل رجليه بعد ذلك أو يديه، فهل يجوز هذا؟ لا يجوز؛ فلا بد من الفورية، اللهم إلا في حال العجز، كما لو أن الماء انقطع فوقف وذهب يأتي بالماء، فقد يبقى نصف أو ربع ساعة حتى يحصل عليه، فيبني على ما غسل، أو انكفأ الإناء الذي كان فيه الماء وهو ما غسل رجليه، فلا بد أن يطلب الماء، أو ينتظر حتى تجيء أمه بالماء، وليس عليه شيء؛ لأنه مضطر ما هو بمتعمد.
وهل يصح أن يتوضأ ويقول: سأترك رجلي لأغسلهما عند المسجد؟
الجواب: لا يصح، فالموالاة والفورية ركنان من أركان الوضوء وفريضتان من فرائص الوضوء إلا في حال العجز أو النسيان، نسي رأسه ما مسحه وقد جفت أعضاؤه فيمسحه وهو في البيت أو في السوق ولا حرج، نسي يده ما غسلها فإن كان في المجلس في موضع الوضوء فإنه يغسل يديه ويكمل وضوءه، ولكن إذا جفت أعضاؤه وبعد فترة قال: أنا ما غسلت يدي اليمنى فيغسلها وحدها ولا حرج.
قال: [ وأكدت السنة وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء ]؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، لو تدخل الحمام وتغتسل أربع ساعات بالماء الصابون ولم تنو رفع الجنابة فأنت -والله- ما زلت جنباً، لو تدخل النيل بكامله ولم تنو رفع الحدث الأكبر فأنت جنب، فالنية شرط في صحة الوضوء وفي كل العبادة، وفريضة من فرائض العبادة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ).

ذكر بعض موجبات الغسل
[ وقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا )[المائدة:6]، أي: وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام، فمن جامع زوجته فأولج ] أي: أدخل [ ذكره في فرجها ولو لم ينزل ] أي: يخرج منه الماء [أي: لم يخرج منه المني فقد أجنب، كما أن من احتلم في منامه فخرج منه مني فقد أجنب، بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب ] وعلى الجنب الغسل، وقد عرفناه، يستنجي ويتوضأ وضوء الصلاة ثم يخلل شعر رأسه ويغسل رأسه ثلاث مرات مع أذنيه ويغسل شقه الأيمن إلى الكعب والأيسر إلى الكعب ظهراً وبطناً، هذا هو الغسل.قال: [ وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل ]، إذا انقطع دم الحيض، والحيض من النساء ولذا يقال: امرأة حائض، لأن الرجل ما يحيض، فما يحتاج إلى أن تأتي بتاء التأنيث لتفرق بين الذكر والأنثى، إذ هل يقال: رجل حائض؟! لا يصح، يقال: رجل واقف، وامرأة واقفة، رجل آكل، وامرأة آكلة، رجل مستحٍ، وامرأة مستحية، أما الذي هو خاص بالأنثى فما يؤنث، فهذه التاء تسمى تاء التأنيث للفرق بين الذكر والأنثى، وفي الحيض والنفاس لا يقال ذلك للرجل.
قال: [ وقوله: ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، يريد: فاغتسلوا، وقد بينت السنة كيفية الغسل، وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر ]، أن ينوي المغتسل رفع وإزالة الحدث الأكبر، فالحدث الأصغر الوضوء والأكبر الغسل، وسمي حدثاً لأنه حادث ما هو بلازم ودائم، وإنما حدث له.

[وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ]، لا يقول: اللهم إني نويت أن أغتسل، اللهم إني أريد أن أرفع الجنابة، لا حاجة إلى هذا، بقلبه فقط ينوي رفع الحدث، أو ينوي طاعة الله: أمرني ربي إذا أجنبت أن أغتسل فأنا أغتسل. [ ثم يغسل كفيه قائلاً: باسم الله ]، وإذا كان في المرحاض فلا يقول: باسم الله، ما يذكر اسم الله، يسكت، ويذكر ذلك في قلبه، [ ويغسل فرجيه ] القبل والدبر [ وما حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه ] حتى تستأنس البشرة ولا تتألم من الماء البارد، [ ثم يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي ينبو عنها الماء فلا يمسها؛ كالسرة وتحت الإبطين والرفقين وهما أصل الفخذين ]، ويغسل الأذنين مع الرأس، يغسل أذنيه ظاهراً وباطناً مع رأسه ثلاث مرات.

مشروعية التيمم ومتى ينتقل إليه من الوضوء والغسل
[ وقوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى )[المائدة:6]، فالمريض قد يعجز عن الوضوء؛ لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دمامل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء] فيتيمم.[ وقوله: ( أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6]، إذ السفر مظنة عدم وجود الماء ] كما قدمنا، فالذي يسافر على ناقته وبعيره مسافة يوم وليلة من أين يأتي الماء وكيف يحصل عليه؟ فالغالب أن المسافر في الزمان الأول يحتاج إلى الماء، فقال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )[المائدة:6].

قال: [ هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم ]؛ ينتقل من الوضوء إلى التيمم حال انعدام الماء أو العجز عن استعماله.
[ وقوله عز وجل: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، ذكر في هذه الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً: وهو الخارج من السبيلين ]، وهما طريق الماء وطريق الخرء، والطريق: هي السبيل، فالمراد من السبيلين: القبل والدبر.

قال: [ وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي ]، ومني أيضاً، فالخارج من القبل كالخارج من الدبر ناقض للوضوء، والفساء: هواء يخرج مع رائحة كريهة، والضراط صوت يسمع، والمذي: ماء رقيق يخرج عند انتعاش الذكر أو انتصابه فيوجب الوضوء ولا يوجب الغسل، والمني أيضاً قد يخرج بدون لذة.
كان عندنا في القرية رجل حشاش غفر الله لنا وله، وكان يجادلنا ونحن طلبة علم صغار يقول: أنتم تدرسون العلم؟ أنا أسألكم سؤالاً: ما هي النجاسة التي لا تطهر إلا بنجاسة؟ قلنا: مستحيل هذا، كيف تكون نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة! قال: اذهبوا تعلموا إذاً، ما تعلمتمز وبينها لنا، وهي: أنه إذا بال الفحل يخرج منه الودي، وهو ماء أبيض ساخن كالمني، هذا الودي إذا خرج لا يمكن أن يزول بالماء، لا يغسل إلا بالبول، أي: إذا بلت انقطع، وقبل أن تبول يبقى معك فأنت تصلي وهو يسيل، وهو نجاسة، فلا تطهر إلا بنجاسة وهي البول، وهذه لطيفة فقهية.
وعندنا هنا ثلاثة أشياء: المني والمذي والودي: فالمني: ماء متدفق يخرج عند انتعاش الذكر، هذا يوجب الغسل إجماعاً في يقظة أو في نوم.
والثاني: المذي، وكان علي رضي الله عنه مذاء، قال: استحييت من رسول لمنزلتي منه، أنا زوج فاطمة ، فقال للمقداد بن الأسود : اسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي. فقال: ( يغسل ذكره ويتوضأ )، فالمذي هذا: ماء رقيق يوجد عند النظر أو اللمس وانتعاش الذكر، هذا ينقض الوضوء بالإجماع ويغسل بالإجماع، ولكن ليس بجنابة.
والودي: يوجد في الفحول، هذا يخرج عندما يتبول المرء يخرج بعد بوله ماء ثخين أبيض ما ينقطع إلا إذا بلت، فحاول أن تبول ولو بعد خمس دقائق، أو قف واجلس فإذا خرج منك بول انقطع، فهو نجاسة لا تطهر إلا بنجاسة، هذه الفذلكة يذكرها الفقهاء ولا حرج.
قال: [وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي، كنى عنه بقوله: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )[المائدة:6]، وهو مكان التغوط والتبول، وذكر موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم.

وقوله: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، ماءاً للوضوء أو الغسل، بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، أي: اقصدوا، من أم الشيء: إذا قصده ]، أم الدار: إذا قصدها، أم الناس: كانوا وراءه وهو أمامهم، [( صَعِيدًا طَيِّبًا )[المائدة:6] يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها؛ كالتراب والرمل والسبخة والحجارة ]، ومع هذا التراب أفضل؛ لأن فيه أن تذل لله عز وجل وأن تمسح كفيك ووجهك بالتراب، وهذه مظاهر العبودية لله عز وجل، لو أن متكبراً قال: كيف أمسح وجهي بالتراب، لا أمسح إلا بالحجارة، فهل يصح هذا من مؤمن؟ هذا هو الكبر، لكن إذا ما وجد التراب فإنه يمسح على أي شيء ظهر على الأرض من أنواع أجزائها التي تصعد عليها.

قال: [ وقوله: ( طَيِّبًا )[المائدة:6]، يريد به: طاهراً من النجاسة والقذر، وقوله: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )[المائدة:6]، بيّن فيه كيفية التيمم، وهي: أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض، فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهراً وباطناً مرة واحدة ]، هذا الذي علم الرسول صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر .

ولا يجوز المسح على الحائط ونحوه مما دخلت فيه يد العمران، إذ ما هو بأصلي هذا، ما هو من أصل الأرض، وإنما ما صعد على الأرض من أجزائها.
قال: [ وقوله تعالى: ( مِنْهُ )[المائدة:6]، أي: من ذلك الصعيد، وبهذا بيّن تعالى كيفية التيمم، وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنهما.


تسهيل الله على عباده بالرخص في العبادات
وقوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة:6]، يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها: الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة.وقوله تعالى: ( وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه، فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]. هذا ما دلت عليه الآية الأولى.

أما الآية الأخيرة وهي قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان؛ ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به: وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وأما قوله: ( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة.

وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:7]، أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[المائدة:7]، يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم؛ حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم؛ فله الحمد وله المنة ].

هداية الآيات
[ أولاً: الأمر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم ] كما في هذه الآية.[ ثانياً: بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
ثالثاً: بيان موجبات الوضوء والغسل.

رابعاً: الشكر هو علة الإنعام.
خامساً: ذكر العهود يساعد على التزامها ].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.







ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:12 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة المائدة - (9)
الحلقة (367)
تفسير سورة المائدة (62)


يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى أن يكونوا قائمين بعبادته سبحانه، شاهدين بالعدل ولو على الآباء أو الأبناء أو الإخوان، وحتى لو كانت الشهادة لصالح عدو أو مبغض فينبغي أن تؤدى على وجهها، وبهذا يمتاز المؤمن عن غيره، ويستحق أن يكون مقرباً عند الله، لأنه حقق التقوى التي أمره الله بها.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ما ينتقض به الوضوء من اللمس

قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )[المائدة:6]، فسرنا الملامسة بمعنى: الجماع، وكان ابن عباس رضي الله عنه يدخل أصبعيه في أذنيه؛ حتى لا يغتر بلفظة أخرى معروفة عند العامة، فهو يقرر أن معنى قوله تعالى: ( أَوْ لامَسْتُمُ )[المائدة:6]، أي: جامعتم النساء، فمجامعة النساء -وهي أن يغيب رأس الذكر في الفرج- موجبة للغسل، أمنى أو لم يمن، انتعش ذكره أو لم ينتعش؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ).ثم قضية لمس الذكر: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أفضى بمعنى: ما هناك حائل لا ثوب ولا سراويل ولا أي شيء فمس ذكره بباطن كفه، فقد انتقض وضوؤه ووجب عليه الوضوء، لأن اللمس لا يكون بظهر اليد، هذا اللمس مظنة وجود لذة، إذا مس ذكره بكفه فذلك مظنة أن يحدث في نفسه لذة، هنا وجب الوضوء، أما إن أفضى ولكن كان بينه وبين ذكره ثوب أو سراويل فلا شيء عليه، أو وهو يغتسل مس ذكره بظاهر كفه فلا ينتقض وضوؤه، لا ينتقض الوضوء إلا بمس الذكر بباطن الكف: ( من أفضى منكم بيده إلى فرجه ).
وهنا يأتي اللمس بمعنى: المس، فمن أراد أن يتلذذ من امرأته فمسها بقصد أن يتلذذ انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، وإذا ما قصد شيئاً ولكن ما إن مسها حتى حدث في نفسه انتعاش وشهوة فقد انتقض وضوؤه.
وقد يقال: كيف نفعل حال مزاحمة النساء؟ فنحن نقول: أولاً: لا يحل لنا أن نماس النساء لا بأجسامنا ولا يأيدينا، لكن إذا حصل في الطواف فكونك تقصد اللذة هذا ما يعقل ولا يقوله مؤمن، إلا إذا كان امرء فاسقاً يطوف ليعصي الله عز وجل، أما مؤمن يطوف وينوي اللذة فمستحيل، لكن إن حصلت فما إن مسها حتى انتعش فقد انتقض وضوؤه فيخرج ليتوضأ.
أحكام المسح على الخفين

بقي المسح على الخفين والجوربين والشرّابين، والتقشيرين باللغة المغربية، سمي تقشيراً لأنه يقشر، ينزع كالقشرة، والقول الأسلم الذي ما فيه كلفة: أن كل ما غطى الرجل وسترها من أجل دفع الحر أو البرد، كل ما ستر القدم مع الكعبين فهو يصح أن تمسح عليه، فإن كان بعض الرجل مكشوفاً فلا، إلا إذا كان جزءاً قليلاً فلا بأس، أما ثلث الرجل وربعها يكفشف فما عندك شيء.وسواء كان من جلد أو كان من صوف أو كان من ورق أو كان من ورق الشجر، المهم أنه يستر الرجل، هذا القول أسلم وأقرب إلى الرحمة الإسلامية، أما الفقهاء فمنهم من يشترط أن يكون من جلد، فنقول: ما دام أنه ما شدد الشرع علينا فلم نشدد؟
وأما كيفية المسح ففيها طريقتان:
الطريقة معروفة عند الفقهاء: أن تضع قدمك بين يديك وتمسح بيد فوق الرجل وأخرى تحتها، وهذا فيه كلفة.
وحديث علي رضي الله عنه برد قلوبنا وهدأ نفوسنا، حيث قال رضي الله عنه: لو كان الدين بالعقل لكان مسح أسفل الخف أولى من ظاهره. لأن هذا يلي التراب فهو الذي يمسح، لكن الشارع مسح أعلاه.
وقد عرفتم السر يا علماء الأسرار، وهو أنه ليبقى المؤمن ملتزماً بغسل رجليه، لو كان كل من لبس شراباً يمسح فممكن أن ينسى غسل رجليه؛ فليبقى مرتبطاً بغسل رجليه فإنه إذا غطاهما بشيء يسمح فوقهما، فلهذا لا تكلف نفسك، وإنما بُل يدك بماء وامسح بها ظاهر الخف، ونحن هنا ما التزمنا بمذهب معين، نحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام ما خرجنا عما قال أئمة الإسلام الأربعة، لكن لا ننتسب إلى واحد ونترك السنة.
وأما شروط جواز المسح فهي: أن يلبس خفيه أو شرابيه على طهارة بلا خلاف، يكون قد توضأ أو اغتسل، ثم لبس خفيه أو شرّابيه، أما أن يكون قد لبسهما على غير وضوء فلا يجوز المسح أبداً، لا بد من نزعهما وغسل رجليه، هذه ما فيها خلاف.
ثم المدة: فمنهم من يقول: يمسح أسبوعاً، ومنهم من يقول: بلا حد، فإذا ما نزعهما ولا أصابته جنابة مسح دائماً.
والقول الراجح الذي به العمل هو الذي حدده صلى الله عليه وسلم: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، توضأ لصلاة الصبح ولبس شرابه فإنه يتوضأ الظهر ويمسح وفي العصر يمسح وفي المغرب يمسح وفي العشاء يمسح، ثم جاءه الصبح فيجدد ويمسح يوماً وليلة، وإن سافر ثلاثة أيام بلياليها فيمسح على شرط ألا ينزع الخفين وألا يصاب بجنابة، فإذا أجنب فإنه يغتسل، انتهى المسح.
وإذا انتقض وضوؤه بفساء أو بضراط وتوضأ فإنه يمسح فقط على خفيه ليوم وليلة، مثلاً: لو مسح على خفه بعدما توضأ للعصر فإنه يمسح المغرب والعشاء والصباح والظهر.
هذه أحكام قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]، معنى ( فَاطَّهَّرُوا )[المائدة:6]؟ أي: اغتسلوا، ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )[المائدة:6]، فماذا نصنع؟ ( فَتَيَمَّمُوا )[المائدة:6] اقصدوا ( صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[المائدة:6]، فالحمد لله، والشكر لله.

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:12 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط...)
والآن مع نداء من نداءات سورة المائدة، حيث يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:8]، لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا ونحن نسمع، أما نقول: لبيك وسعديك؟ لقد قالها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.وكان عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك. إياك أن تغفل أو تلوي رأسك؛ فأنت منادى، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا)، فقل: نعم رب، ماذا تريد؟
وقد علمنا أن الله لا ينادينا لهواً ولا لعباً ولا باطلاً، ما ينادينا إلا ليأمرنا بما فيه خيرنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وضلالنا، أو يأمرنا فيبشرنا بما يزيد في طاقة أعمالنا وصالحها، أو ينادينا ليحذرنا مما يؤذينا ويضرنا، أو ينادينا ليعلمنا، ينادينا لخمسة مقاصد.
هنا ماذا يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، كونوا قائمين له، ( قَوَّامِينَ )[المائدة:8] بعبادة الله وطاعته، وقد تقدم من العبادة الوضوء والغسل والتيمم، وأعظم من ذلك العهد الذي أعطيناه له: ( وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )[المائدة:7]، إذاً: ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، بالقيام بتلك الواجبات والمهام فعلاً أو تركاً.

ثانياً: ( شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، كونوا شاهدين بالعدل عندما تشهدون ولو شهدت على أبيك أو أمك، والقسط: العدل، بخلاف الميل والجور، لا حيف ولا جور، ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ )[المائدة:8]، أي: قائمين أعظم قيام بما أوجب، وبما نهى وحرم.

معنى قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)
قال تعالى: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا )[المائدة:8]، ولا يحملنكم بغض قوم أو إنسان على ألا تعدلوا، فكونه عدوك آذاك أو ضربك ودعيت لتشهد وأنت على علم فيجب أن تعدل في شهادتك، ولا تشهد على هذا الذي آذاك وعاداك ولو كان يهودياً أو نصرانياً، وبهذا نمتاز نحن عن البشر، تجد أحدنا يشهد على أبيه أنه قتل؛ حيث يحتاج القاضي إلى اثنين يشهدان على أنه قتل، فيأتي الابن يقول: لقد قتل أبي هذا.وآية النساء التي سبق أن درسناها لاحظ كيف تختلف عن هذه في اللفظ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا )[النساء:135]، فهذا الموقف لا يقفه إلا الربانيون من هذه الأمة، يشهد على أبيه، على أمه، على ابنه، على أخيه بالعدل، ولا يلوي لسانه ولا يحرف الشهادة.

وليس عندنا تقية، التقية عند الروافض، بل عندنا: ( فَاصْدَعْ )[الحجر:94]،كأنه قذيفة، ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )[الحجر:94].

نقول: يا عباد الله .. أيها المؤمنون! أمرنا بأن نكون قوامين لله في طاعته وطاعة رسوله، من الوضوء إلى الغسل، إلى التيمم، إلى الصلاة إلى العبادات، وأن نكون شهداء بالعدل، ولا يحملنا بغض إنسان أو كفره على أن نقول فيه الباطل ونشهد بالزور أبداً، كن مطمئناً، هذا نظام حياتنا.
الأمر الثاني: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )[المائدة:8]، أقرب إلى أن تظفروا بتقوى الله، التي هي ملاك أمركم وتحقيق ولايتكم لربكم، العدل يقود إليها، فالذي يعيش على العدل هل يخون الله في أمره ونهيه؟ كلا، الذي يعيش على العدل والقسط توجد لديه ملكة نفسية ما يعصي بها الله عز وجل ولا رسوله، ومن لم يعص الله ولا رسوله فقد ظفر بالتقوى، والتقوى ما هي؟ أليست طاعة الله والرسول؟ فملكة العدل تورثك التقوى، وتجعلك من أهلها.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ )[المائدة:8]، (شُهَدَاءَ) هنا: جمع شاهد، ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ )[المائدة:8]، أي: لا يحملنكم، ( شَنَآنُ قَوْمٍ )[المائدة:8]، الشنآن: البغض والعداء والعداوة، ( عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )[المائدة:8]، هذا هو شأن الله عز وجل مع أوليائه، فمن هؤلاء الذين يخاطبهم ويبين لهم ويهديهم؟ أليسوا أولياءه؟ يريد منهم أن يكملوا ويسعدوا، يريد أن يجاوروه في الملكوت الأعلى، ومن هنا أمرهم بتزكية النفس وتطييبها.
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)
ثم قال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ وهل وعد الله حق أم لا؟ فإذا وعدك الله بالشيء فهل ممكن أن يخلف؟ هل يعجز أو ينسى؟ لا عجز ولا نسيان أبداً، فوعد الله ناجز.يقول تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، وعدهم بماذا؟ قال: ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ )[المائدة:9] لذنوبهم، ( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، هو نزولهم في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام في جوار ربهم تعالى، فهل هناك أجر عظيم أكثر من الجنة؟ لو أعطيت بنوك الدنيا كلها فذلك أجر عظيم، لكن هل يبلغ عظم الجنة؟

فقوله تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )[المائدة:9]، ما المراد من الصالحات هذه؟ هل هي علاج المرضى كما يفعل القسس والرهبان؟ هل توزيع الخبز على الجياع؟ ما المراد من الصالحات؟
الصالحات: كل اعتقاد أو قول أو عمل أمر الله به وفرضه أو ندبنا إليه أو رغبنا فيه، من عمله طهر به نفسه وزكى روحه، فهو لذلك عمل صالح؛ لأنه يزكي النفس ويطهرها، يدخل فيه الصلاة والزكاة والرباط والجهاد وبر الوالدين والأمر بالمعروف.. كل العبادات تحت شعار: العمل الصالح.
صفة المؤمن الموعود بالمغفرة والأجر العظيم
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:9] أولاً، لأن الصالحات إذا لم يعملها المؤمن إيماناً لا تنفعه، لا تنتج له زكاة ولا طهراً، فالإيمان شرط، بدليل أن الكافر لو تصدق بملء الأرض ذهباً لا يفديه يوم القيامة: ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ )[الزمر:47]، ولكن هل يقبل منهم؟إذاً: وعد الله الذين آمنوا حق الإيمان، فالشيوعيون يقولون: نحن مؤمنون، اليهود مؤمنون، النصارى، المجوس، كلهم مؤمنون، فمن هو المؤمن بحق؟
المؤمن بحق هو ذاك الذي آمن بوجود الله رباً وإلهاً وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، من الملائكة، من الكتب، من الرسل، من البعث، من الجزاء، من الدار الآخرة، من القضاء والقدر، وأعظم من ذلك أن آمن بمحمد رسولاً ونبياً، فلو آمن بكل الرسل وكفر بمحمد فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الرسل وكفر بعيسى فوالله إنه لكافر، لو آمن بكل الملائكة إلا جبريل فوالله إنه لكافر، آمن بيوم القيامة إلا أنه قال: ما نؤمن بجنة ولا نار، فوالله إنه لكافر، فالمؤمن عبد آمن بالله رباً وإلهاً ثم صدق بكل ما أخبر الله به من شأن الغيب والشهادة، وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا )[التغابن:8]، هذا المؤمن، ومن أراد أن يعرف هل هو مؤمن أو لا فعندنا شاشة قرآنية، ما هي بتلفاز ولا فيديو، شاشة بيضاء قرآنية، من وجد نفسه فيها قال: الحمد لله، ومن لم يجد نفسه فليعلم أنه ما هو بمؤمن، فليمش إلى أهل العلم ويسألهم: كيف نؤمن؟
قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق، ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ )[الأنفال:2]، من هم يا رب؟ ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[الأنفال:2-4].

وفي شاشة أخرى قال تعالى من سورة التوبة: ( وَالْمُؤْمِنُونَ )[التوبة:71]، أي: بحق وصدق، ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[التوبة:71]، امرأة صينية وأنت أمريكاني، فأنت أخوها وهي أختك، فانصرها إذا احتاجت إلى نصرك، وتحبها كما تحب أختك وأمك، مؤمن أسود غربي وأنت أبيض صقلبي، يجب أن تحبه وأن تنصره، متى استغاث بك واستنصرك نصرته، ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )[التوبة:71]، شاشتان في القرآن، فانظر تجد نفسك في الشاشتين إن شاء الله، وإن غبت في موطن فعجل لتظهر فيه.
حاجتنا إلى التخلص من الذنوب
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ )[المائدة:9]، مغفرة لأي شيء؟ لذنوبهم، وهل يعقل أن العبد ما يذنب؟ هل هو معصوم؟ لو كان ابن سنة أو سنتين أو عشر فممكن، وإذا عاش سبعين سنة فمن الجائز ألا يذنب، وقد عرفنا أن الذنب ليس دائماً هو أن تسرق أو تزني، بل تقصيرنا في شكر الله من ذنوبنا، أما أمرنا بالشكر؟ فالذي يأكل وما يقول: الحمد لله، أو يركب الطائرة ولا يقول: الحمد لله أليس بمذنب؟ فطهر نفسك وبعد ذلك تدخل الجنة، يدل لذلك قول الله تعالى: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )[آل عمران:133] أولاً، وإلى ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ )[آل عمران:133]، فأولاً: التوبة، ثم العمال الصالح، أما الذي ما زال على الشرك ويعمل الصالحات فما تنفعه.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.




ابوالوليد المسلم 06-08-2021 07:13 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة الانعام - (1)
الحلقة (368)
تفسير سورة المائدة (1)


الله عز وجل هو خالق السماوات والأرض، وخالق الظلمات والنور، ومدبر الخلائق والأكوان، لا يكون شيء في السماوات أو في الأرض أو بينهما إلا بإذنه، وهو الذي خلق هذا الإنسان من طين، وعلم ما يختلج في صدره وما يتردد في فكره وسره، ومع ذلك تجد الجهال من خلقه يكفرون به سبحانه، ويعدلون به أصنافاً وأوثاناً لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن أن تملكه لغيرها، فسبحان من بيده الهدى والضلال.
بين يدي سورة الأنعام
القضايا العقدية المقررة في سورة الأنعام
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وها نحن الليلة مع فاتحة سورة الأنعام، سورة الأنعام من السبع الطوال، هذه السورة -معاشر المستمعين والمستمعات- زفَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون ألف ملك ولهم زجل وتسبيح.
هذه السورة المكية تقرر ثلاثة مبادئ:
أولاً: توحيد الله تعالى.
وثانياً: إثبات لقاء الله تعالى.
وثالثاً: رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
توحيد الله، لقاء الله، تقرير النبوة المحمدية.
وهذه السورة لجلالتها وددنا لو أنها يحفظها كل مؤمن ومؤمنة، وخاصة طلاب العلم، سواء الذين يطلبون الصناعة أو الكيمياء، أو الطب، أو علم الفلك، حفظ هذه السورة خزينة من خزائن النور، صاحبها لا يضل بإذن الله تعالى.
فهيا ندرس هذه الآيات الثلاث منها:
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )[الأنعام:1-3] من خير وشر.
السور المفتتحة بالحمد
معاشر المستمعين والمستمعات! السور التي افتتحت بحمد الله عز وجل في كتاب الله خمس: أولاها: الفاتحة. وثانيتها: الأنعام. وثالثتها: الكهف. ورابعتها: سبأ. وخامستها: فاطر.أول سورة في كتاب الله هي: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة:2]، افتتح الله تعالى بها كتابه، فهي فاتحة الكتاب، ولا تصح صلاة بدون قراءتها.
والسورة الثانية الأنعام، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها أربع مرات، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم: الضأن والماعز، هذه هي الأنعام التي أحلها الله تعالى لنا.
معنى قوله تعالى: (الحمد لله)
فهذه السورة مفتتحة بكلمة: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1]، أي: المدح والثناء الجميل الحسن هو لله، الحمد: الثناء بالجميل، فالثناء الحسن هو حق الله عز وجل. و(أل) هنا للاستغراق، جميع المحامد هي حق الله عز وجل، هي لله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1] عز وجل.و(الله) هذا الاسم علم على ذات الرب عز وجل، كل ذاتٍ لها اسم تعرف به، حتى الإنسان والحيوان بل والنباتات، هذا عنب وهذا تفاح، والله جل جلاله بارئ النسم وخالق الخلق له اسم هو (الله)، وله تسعة وتسعون اسماً منها (الله)، ناده: يا ألله، ناده: (اللهم) وسل حاجتك، وارفع إليه شكواك، والله يسمع دعاءك أينما كنت ولو كنت في جوف سمكة بالبحر الأسود المظلم، يسمع صوتك، وقد سمع صوت يونس ذي النون عليه السلام وهو في ظلمة بطن الحوت، في ظلمة البحر، في ظلمة الليل، إذ قال تعالى عنه: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87]، إذ نادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، ( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )[الأنبياء:87] ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )[الأنبياء:88].
أبشروا يا من هم مؤمنون صادقون في إيمانهم، هذا وعد الله كما نجى يونس ينجي المؤمنين من ظلمات الجهل، من ظلمات الفقر، من أية ظلمة من الظلمات، ادع وارفع يديك إليه واسأل حيثما كنت فإنه قريب مجيب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
(الحمد): الوصف بالجميل، الثناء الحسن، إذ كل جميل يليق بالله عز وجل، كل حسن الله أهله، كل ثناء بالطيب والخير هو لله عز وجل، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ )[الأنعام:1].
آداب مدح الناس وحمدهم
وهنا ألفت النظر إلى أننا لا يصح منا أن نحمد من ليس هو بأهل للحمد، وإلا كنا كاذبين، فلا يُحمد شيء إلا إذا كان له وصف جميل يستحق به الثناء والحمد، ومن حمد أو مدح وأثنى على من ليس لذلك بأهل فهو كاذب والعياذ بالله، وهذا الله عز وجل في هذه الفواتح الخمس يذكر الحمد له ويذكر سببه.الحمد لله لم؟ كيف؟ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[الفاتحة:2-4]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[الأنعام:1]، أما يحمد على هذا؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا )[الكهف:1]، ( قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا )[الكهف:2]، كيف لا يحمد؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )[سبأ:1]، تحمد الذي له بعير أو شاة، فكيف بالذي له ما في السماوات والأرض؟ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[فاطر:1]، وخالقها.
فمن هنا بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم آداباً فزنا بها:
أولاً: لا نحمد إلا من كان أهلاً للحمد، وإذا حمدناه أو مدحناه فلا ينبغي أن نمدحه في وجهه، نذكره بالخير وهو غائب، أما أن نمدحه في وجهه فقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قطعت عنق صاحبك ).
وقد قررنا -والحمد لله والله شاهد- وبينا منذ عشرات السنين أنه حين يأخذ العرب يمدحون رئيسهم ويتبجحون ويحمدونه؛ لا يشعر حتى يطغى ويتجبر ويتكبر ويفعل العجب، ولفتنا النظر وقلنا: لا يصح هذا أبداً، الرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لصاحب أن يمدح رجلاً بين يديه، وقال: ( قطعت عنق صاحبك)، ولو شئنا لسمينا الزعماء الذين أضللناهم وألقيناهم في الضلال بسبب مدحنا وثنائنا وتبجحنا حتى طغوا، ومن أبسط ما يكون: طالب علم يشاهد ذكاءه أو فطنته أو حرصه فيأخذ في مدحه ينتكس، يرى نفسه أنه أعلم الناس، أذكى الناس، فيهبط من حيث لا يشعر.
إذاً: فالله عز وجل يحمد نفسه وهو أهل للحمد والثناء، ومع هذا يذكر علة ذلك الحمد وسببه، وحسبنا أن يعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا إذا مدحنا لا نغالي ونبالغ، ولا نمدح في وجه الشخص حتى لا يتأثر أو يصاب بمحنة، فنذكره بخير في حال غيبته لا مواجهة.
فها هو تعالى يحمد نفسه، ويذكر سبب ومقتضى هذا الحمد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1]، ما بنى قصراً أو سفينة، أو حرر إقليماً، أو غزا وانتصر على جيش، خلق السموات والأرض، ووالله ما كانا موجودين وأوجدهما، وأنت لا تدعى إلى غيب، بل ارفع رأسك إلى السماء تشاهد كواكبها ونجومها وهواءها وأمطارها وشهبها، ضع رأسك للأرض تشاهد هذه المخلوقات، من خلقها سوى الله؟ والله لا خالق إلا هو، ولم يوجد في البشرية من ادعى خلق كوكب من الكواكب، خلق السموات السبع والأرضين السبع أيضاً، وقد كان الله ولا شيء، لا سماوات ولا أرضون، وأوجدهما العزيز الجبار، أهذا لا يستحق الحمد؟ إذا لم يحمد هو فمن يحمد؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )[الأنعام:1] فهذه الأجرام التي تشاهد ويلمس بعضها ويحس أوجدها الله عز وجل.

يتبع




الساعة الآن : 07:04 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 711.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 710.15 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.25%)]