ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:02 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الجنايات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (500)

صـــــ(1) إلى صــ(16)



شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3]
إذا جنى الجاني جناية على غيره فقد تسري هذه الجناية فتصيب العضو كله كاليد ونحوها، وقد تؤدي إلى إزهاق النفس وهلاكها، فإذا حصل شيء من ذلك فإن الجاني يضمن هذه السراية كلها، وإذا مات المجني عليه اقتص منه جزاء وفاقا، وأما السراية بسبب القصاص فلا ضمان فيها، وكذلك إذا كانت السراية بعد القصاص والقود من الجاني فلا ضمان فيها أيضا.
أحكام سراية الجناية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها] : السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلا، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملا، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو.
وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود.
وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه.
والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفا من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ.
فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملا، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه.
فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملا، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملا، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعا للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصا كاملا، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملا، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء.
فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملا تاما، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخا كبيرا وعاجزا، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه.
وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.
سراية القود وحكمها
قال رحمه الله تعالى: [وسراية القود مهجورة] .
أي: إذا حصلت السراية في القصاص، كما لو قطعت يده كما قطع يد المجني عليه، وشاء الله تعالى أن لا تبرأ يد الجاني، فنزف منها الدم حتى مات، فإنه لا يجب الضمان، وهذا هو قضاء أبي بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم، وكلهم قضوا بأن سراية القود والقصاص والحدود لا ضمان فيها، وأثر عن علي رضي الله عنه حينما أقام الحد على رجل فمات، فقال رضي الله عنه: (الحق قتله) ، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله الحق؛ لأن الله أمرنا أن نقتص، فإذا مات بالقصاص، فهذا حكم الله عز وجل وليس بحكمنا، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، فسراية القود غير مضمونة.
وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع: إنها مضمونة، والصحيح أنها غير مضمونة.
ومن هنا فلو أن امرأة زنت-والعياذ بالله- وهي بكر، فجلدناها مائة جلدة، وبعد الجلد ماتت، وكان موتها بفعل حر الجلد وألمه، فإنه لا يقتص من الجلاد، ولا نوجب عليه الضمان في ماله، ولا في بيت مال المسلمين؛ لأن الله عز وجل أوجب علينا أن نفعل هذا الفعل، وهذا حكم الله تعالى في خلقه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا ضمان في قصاص أو حد) ، فلو أننا اقتصصنا منه فمات بفعل هذا القصاص، فإنه قد قتله الحق، ولم نقتله نحن، وحينئذ لا ضمان على المقتص، سواء أكان أمره السلطان، أم القاضي، فلا ضمان عليه في ماله، ولا في مال بيت المسلمين، خلافا لمن قال: إنه يضمن، ثم اختلفوا: هل يضمن من بيت مال المسلمين إذا كان أمره القاضي؟ أو يضمن من ماله على عاقلته؟ على وجهين مشهورين عندهم، والصحيح أنه لا ضمان في هذا كله.
الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا تطلب له دية] : أي: لو أن رجلا قطع يد رجل، فقال المجني عليه: أريد أن أقتص، فيقال له: انتظر حتى تبرأ مخافة سراية الجناية، وحينئذ فننتظر إلى أن يبرأ، ونعرف حدود الجناية، فلا يقتص من عضو ولا طرف، ولا من جرح إلا بعد برئه، فإذا برأ قلنا له: اقتص منه، وهذا كما حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، والعمل على هذا عند أهل العلم رحمهم الله، فالجمهور على أنه لا يقتص حتى يبرأ الجرح، فنعرف حدود الجناية، وهذا صحيح ولا إشكال فيه.
لكن إن اعتدي عليه فقطعت يده، فقال للقاضي: أريد أن أقطع يد الجاني، فقال له القاضي: انتظر حتى تبرأ، فأصر على حقه ليقتص فورا، فبعض أهل العلم يقول: يمكن من حقه، فإذا مكن من حقه، ثم سرت الجناية بعد اقتصاصه، كما لو قطع أصبعه، فقال: أريد القصاص وأريد أن آخذ بحقي، فمكنه القاضي، فقطع أصبع الجاني، ثم بعد القطع سرت الجناية حتى سقطت كفه، فسريان الجناية هدر، وفي هذا قصة مشهورة: (أن رجلا ضرب رجلا بقرن في ركبته، فقال: يارسول الله! أقدني، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، فأصر الرجل على القصاص، فقال: أقدني يا رسول الله! فأمره أن ينتظر، حتى ألح عليه فأمره أن يقتص، فلما اقتص سرت الجناية حتى أخذت رجله فعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقه، فقال صلى الله عليه وسلم له: بطل جرحك) ، أي: ليس لك حق، مادام أنك طلبت القصاص فورا؛ إذ لو اقتص من الجاني بعدها لكنا قد أوقعنا به الضرر مرتين، وفعلنا به فعلين، وكانت جنايتين في مقابل جناية واحدة، والقصاص يقتضي التماثل، ومن هنا إذا استعجل في مطالبة حقه فقد أسقط حقه بعد ذلك، وقال بعض العلماء: له القصاص، والصحيح ما ذكرناه.
وقوله رحمه الله تعالى: (كما لا تطلب له دية) : لاحتمال أن تقطع أصبعه فتتلف يده كاملة، فيكون له نصف الدية، ومن هنا قالوا: إنه لا يعطى عشر الدية في أصبعه، وإنما ينتظر إلى برئه، فربما سرت الجناية، فكان حقه نصف الدية، فبدل أن يعطى عشر الدية يعطى حقه كاملا.







ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:07 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




ضمان التفريط في سراية الجناية
السؤال إذا كانت سراية الجناية بسبب تفريط المجني عليه، فما الحكم؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذا السؤال له جانبان: الجانب الأول: أن تكون السراية بسبب إهمال الطبيب، أو خطأ الطبيب، كشخص قطع أصبع أخيه، فجاء الطبيب ليعالجه، فلم يعالج أصبعه بالطريقة المعتبرة عند الأطباء، وأهمل مداواة الجرح حتى تلوث الجرح وتسمم، وسقطت يده، أو مات، فحينئذ إذا كان الموت بسبب هذه السراية وهذا الضرر فالضامن هو الطبيب، وليس الجاني؛ لأن الموت ما جاء من الجناية، وإنما جاء من العلاج، فإذا كان بالدواء الذي وضعه الطبيب، أو أهمل فيه، حتى حصل الضرر، فإن الطبيب يتحمل المسئولية؛ لأن الإهمال والتقصير من أسباب ضمان الأطباء، والطبيب يضمن إذا تعدى، ويضمن إذا أهمل وقصر في تتبع الأمور المتبعة عند الأطباء.
الجانب الثاني: أن يكون الإهمال من نفس المريض، كما لو كان المفروض عليه أن يذهب إلى الطبيب ليعالجه، فامتنع حتى تسمم الجرح وتلف، فإنه ضامن لنفسه، ولا يتحمل الضمان الطبيب ولا الجاني، فالجرح تعتبر سرايته إن كانت بسبب الجناية، فالطبيب بذل ما في وسعه، ولكن المرض استفحل والداء استشرى، فحينئذ يضمن الجاني، أما إذا كان بإهمال الطبيب، أو بإهمال المريض، فكل يتحمل مسئوليته: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164] ، فالجاني تقدر جنايته ويضمن، والطبيب يقدر إهماله وإخلاله فيضمن، وإذا كان التقصير من المجني عليه فلا إشكال؛ لأنه يتحمل مسئولية نفسه.
والله تعالى أعلم.

كيفية القصاص في الجناية الجماعية
السؤال إذا لم تعرف جناية كل جان لوحدها، كالجناية الجماعية، فكيف يقتص؟
الجواب إذا لم تعرف الجناية، ففي هذه الحالة إما أن يموت المجني عليه، وإما أن يكون حيا يقبل قوله، فإذا مات فالأمر إلى ورثته، ولهم أن يدعوا فيقولون: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، فإذا ادعوا على كل واحد جناية جرى في ذلك سنن القضاء وصارت دعوى، فيحضر كل واحد من هؤلاء الجناة، ويسأل عن دعوى الجناية، فإذا أقر أخذ بإقراره، وإذا لم يقر فحينئذ يطالب الورثة بالبينة والدليل، وعليه يمين إذا أنكر، ولو أن واحدا منهم قال: أنا أمسكته، والثاني هو الذي ذبح، وهو الذي بقر بطنه وأشعل النار فيه، فحينئذ في هذه الحالة يؤتى بالثاني، فإن أقر أنه هو الذي قتل، وأنه هو الذي فعل؛ فإن الأول ممسك والثاني قاتل، فالممسك يحبس إلى الموت؛ لأنه أمسك شخصا لشخص يعلم أنه سيقتله، وكان بإمكان الشخص أن يفر لولا هذا الإمساك، فيحبس كما حبس هذه النفس المحرمة حتى يموت، ولا نستطيع أن نقتص منه؛ لأنه لم يكن الزهوق بفعله، ويقتص من الذي باشر، فالإمساك سبب، والبقر والبطن وإشعال النار مباشرة، فحينئذ تجتمع السببية مع المباشرة، وقد تقدم معنا التفصيل في هذا.
ثم الأعضاء على نفس التفصيل، فإذا ادعوا على أن كل واحد فعل فعلا، فقالوا: هذا قطع يده، والثاني قطع رجله، فنأتي بهؤلاء الذين ادعي عليهم، فإن أقروا فحينئذ يقتص من كل واحد بمثل جنايته، وأما إذا وجدوا مجتمعين، فظاهر الحال أنهم اشتركوا، وحينئذ كل منهم يحتمل أنه جان، مادام أنهم كلهم في مكان الجريمة، وأخذوا على ذلك، وأقروا، ولا تستطاع استبانة الفعل، والفعل مشترك بينهم، فحينئذ يقتص منهم جميعا، فلو أنهم كلهم قطعوا رجله، فأحدهم وضع السكين وحز بها، وقطعوا العضو، فالقطع حاصل بفعل من؟ فتقطع رجل كل واحد منهم.
وكذلك لو أرادوا أن يلقوا صخرة على شخص، فاحتاجوا الى تشغيل جهاز، فاتفقوا على تهيئته ووضعه، وكلهم جاء وشغله، فنزلت الصخرة على يده فقطعتها، أو كانوا يريدون قتله، فشرد الرجل فسقط على يده فقطعها، فحينئذ نقطع أيديهم كلهم.
فالجماعة إذا فعلوا فعلا بحيث لو انفرد كل واحد منهم لحصل الزهوق بفعله، ولحصل القطع أيضا للعضو بفعله، فإنه يقتص منهم.
أما لو فصل فعل كل واحد منهم فإننا نفعل بكل واحد مثل ما فعل، فلو أن أحدهم قطع يده، والثاني قطع رجله، والثالث قطع أذنه، قطعنا رجل من قطع الرجل، ويد من قطع اليد، وأذن من قطع الأذن؛ لأن كتاب الله القصاص، ولا يجنى على الجميع بجناية إلا بمثل، ولا يؤخذ من الجميع شيء إلا مثل ما فعل بالمجني عليه، فهذا بالنسبة لاشتراك الجماعة في فعلهم بالمجني عليه، والله تعالى أعلم.
نوع القتل بسراية الجناية
السؤال سراية الجناية على النفس أليست من قبيل قتل الخطأ؛ لأنه لم يرد قتله، ولكن سرى الجرح فقتله؟
الجواب لا، فليت القضية هنا قضية قتل خطأ، فهذا رجل جاء بالسكين وقطع أصبع المجني عليه، أو قطع يده، أو قطع رجله، فهو جان متعمد قاصد للضرر، وهذا الضرر استفحل حتى أتى على النفس، فيتحمل هذا الضرر كاملا؛ لأن الموت حصل بهذه الجناية، وحصل بهذا الفعل، والدليل على ذلك: أن جرح أي موضع من البدن لا يؤمن معه أن يفضي إلى البدن كله، وعلى هذا فإنما ينظر إلى وجود العمد العدوان، فالنفس محرمة، والاعتداء على عضو منها لا يؤمن معه سريانه إلى جميع البدن، فيحمل المعتدي المسئولية عن البدن كاملة، وإلا لضاعت الحقوق؛ إذ ما على الشخص إلا أن يأتي بسكين مسمومة، ويقطع بها أصبعا، ويتركها حتى يموت المجني عليه.
فإيجاب ضمان السراية هذا ضبط لحقوق الناس، وزجر عن الفتنة، وحسم لمادة الشر، ولو أن شخصا وخز شخصا بسكين في موضع وربطه، أليس من المحتمل أن ينزف جرحه حتى يموت؟ ففي بعض الأحيان الضرر البسيط على البدن قد يأتي على البدن كله، فمادام أنه قد أضر به ضررا يأتي على النفس، فيتحمل مسئولية هذا الضرر، وعلى هذا فإننا لو حكمنا بالقصاص فما ظلمنا الجاني؛ بل فعلنا به مثل ما فعل بأخيه، فاستوى أن يكون ذلك بالطرف، أو يكون فيما هو مقتل، والله تعالى أعلم.
طهارة المصاب بالباسور أو الناسور عند إرادة الصلاة
السؤال إذا كان الإنسان مصابا بالباسور، ويخرج منه شيء بسيط، فهل عليه وضوء لكل صلاة مثل المستحاضة؟
الجواب البواسير والنواسير فيها تفصيل؛ إذ البواسير من الخارج، وغالبا تكون على حلقة الدبر، أما النواسير فتكون من داخل الدبر.
فالجروح السيالة التي في داخل الدبر من النواسير إذا استمر النزيف فلها حكمان، والبواسير لها حكم واحد.
أما البواسير فإذا كانت من خارج، أو على الحلقة-حلقة الدبر فتحة الشرج- فإنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها من خارج، ومادتها نجسة، وأما النواسير الداخلية فتنقض الوضوء، ومادتها نجسة، فللبواسير حكم واحد، وهو النجاسة، وللنواسير حكمان: وهما النجاسة، ووجوب إعادة الطهارة.
ومن هنا فإذا كان عنده نواسير، وخرجت الدماء مسترسلة، أو كان عنده سلس في خروجها، فإنه إذا استمر خروج الدماء من النواسير، واستغرق وقت الصلاة كاملا، فحينئذ نقول له: توضأ عند دخول الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (وتوضئي لكل صلاة) ، وعلى هذا فإذا دخل الظهر فيتوضأ، ثم يصلي الظهر والسنن الراتبة القبلية والبعدية، ولو خرج معه دم النواسير؛ لأنه معذور، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيعذر في هذا، وهذا بالنسبة لظاهر الحديث، أما إذا كانت النواسير تستمر معه وقتا يسيرا كعشر دقائق، أو ربع ساعة، بحيث يأتيه نزيف بعد البراز مدة ربع ساعة، أو عشر دقائق، وحضر وقت الصلاة، فيقال له: لا تصل، وانتظر حتى تطهر، فتنقي الموضع وتطهره وتغسله، ثم تصلي صلاة بطهارة تامة كاملة.
وإذا كانت النواسير سيالة، وأمكنه أن يضع قطنة يسد بها موضع خروج الدم فليفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتلجم، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك) ، ومعنى (أنعت) : أصف، والكرسف: القطن، وذلك لأنه كان يخرج منها الدم من الفرج، والدم دم الاستحاضة، فهو مثل النواسير؛ لأن هذا من القبل وهذا من الدبر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة (إنما ذلك عرق) ، فوصفه بكونه نزيفا من عرق، وهذا العرق ورد تسميته في السننن وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بأنه: العاذر، والعاند، والعاذل.
فإذا كان المعنى في النواسير هو نفس المعنى في الاستحاضة فالحكم واحد، فيقال لمن به ناسور: ضع قطنة تمنع خروج الدم وصل، حتى إذا خرج الوقت أعدت الطهارة للصلاة الثانية.
ولكن إذا حصلت مشقة على الإنسان، كأن يكون في زمن شديد البرد، ويصعب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، فإن له أن يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، حتى لا يبقى من الوقت إلا بقدر ما يتطهر، ثم يتطهر فيصلي الظهر، فإذا أذن العصر صلى بعده العصر، ثم يؤخر المغرب إلى ما قبل آخر وقتها، ثم يتطهر فيصلي المغرب، ثم يؤذن العشاء فيقيم ويصلي العشاء، وهذا يسمى بالجمع الصوري، وهذا إذا كان قد استفحل عليه الأمر، أو كان الماء عنده قليلا، ولا يمكنه أن يتوضأ لكل صلاة، فحينئذ نقول له: اجمع جمعا صوريا، وهو معذور في ترك الجماعة من هذ الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم الأخذ من مال اليتيم دينا دون علمه وإدراكه

السؤال عندي مال ليتيم، وقد أخذت منه مبلغا، واعتبرته دينا علي، لأقوم بإرجاعه، وذلك دون علمه، حيث إنه صغير السن، فهل يجوز لي ذلك؟

الجواب الله المستعان! والله يعينك، فقد تحملت أمانة عظيمة، وأموال اليتامى بلاء عظيم، ومن تحملها فليجعل الجنة والنار نصب عينيه، فأمرها عظيم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، والذي أراه في هذه المسألة -وهو أصح قولي العلماء- أن ولي اليتيم ليس له أن يخاطر بماله، فلا يستدن من مال اليتيم لنفسه، ولا يستدن لغيره؛ لأنه لا يأمن العجز عن السداد، وقد يكون بحال طيب، ثم يتلاعب به الشيطان، فأوصيك أخي ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأن ترد لهذا اليتيم حقه، وأن تكون ممن أثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون:8] ، فارع أمانة اليتيم، ورد ماله كاملا تاما، ولو استدنت من شخص آخر، فرد هذا المال، وابحث عمن يدينك، وأما مال اليتيم فهو أمانة في عنقك، فالله الله في هذه الأمانة، وأدها كما أخذتها، واتق الله عز وجل في مال اليتيم، فهذه وصيتي لك؛ لأن هذا أسلم لدينك، وأبر في طاعة ربك، فاتق الله عز وجل، ولا تخاطر وتعرض مال اليتيم للمخاطرة.
والله تعالى أعلم.
حكم قص المرأة لشعرها
السؤال هل يجوز للمرأة أن تقص شعرها؟ وهل ورد ذلك عن عائشة رضي الله عنها؟
الجواب قص الشعر له صور: الصورة الأولى -وهي ممنوعة محرمة-: أن يكون قصا متفاحشا؛ لأن هذا تشبه بالرجال، وهذا فعل المسترجلات، فتقص شعرها قريبا من شعر الرجل، حتى تبدو كأنها رجل، وهذا فعل المسترجلات من المتبرجات ونحوهن-أعاذنا الله وإياكم من أدران الأخلاق وسيئها-، ومثل هذا فيه اللعنة؛ لأن المرأة تفعله بقصد الاسترجال، والمرأة إذا استرجلت فهي ملعونة.
الصورة الثانية: قص المشابهة المحرم، وهو أن تقص على نمط أو طريقة وافدة من أعداء الله عز وجل، وهذا أيضا فيه الوعيد، وفيه تشبه لمن سمى الله عز وجل، ولا يجوز للمسلمة أن تفعله.
الصورة الثالثة: القص النسبي، وهو التخفيف من الشعر، خاصة عند حدوث الأذية منه عند غسله ونحو ذلك، فتخفف منه، أو القص المسنون شرعا كما في النسك؛ فلا بأس به ولا حرج، ولكن ما ذكرناه من القص الممنوع فإنه محظور.
وعلى كل حال فعلى المرأة أن تحمد الله عز وجل على العافية، وأن تحمد الله عز وجل على نعمته وخلقته، فالعبد المؤمن والأمة المؤمنة عليهم الرضا بخلقة الله عز وجل وتصويره، ومن رضي عن الله أرضاه، ومن أرضاه ربه بارك له، فأوصي المرأة أن تحمد الله عز وجل وتشكره، فكم من امرأة تساقط شعرها حتى تمنت أن تجد شعرا ولم تجده، ولكن إذا حصل ضيق، وتضررت منه، فتقص منه في حدود معقولة، ولا بأس بذلك ولا حرج، وأما أن تقص كما شاءت، وتفعل ما شاءت فلا.
وأما ما ورد عن أمهات المؤمنين فمحل نقاش كبير عند العلماء رحمهم الله تعالى، وفيه إشكالات في قصهن كالوفرة، وهل هذا فعلنه رضي الله عنهن وأرضاهن من باب التقشف والبعد عن الزينة؛ لأنهن من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغبن في الزواج ففعلن ذلك؟ فهذا وجه، وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله قال لهن: (الزمن الحفر) ، وفيه إشكال عند العلماء معروف، ولكن الأصل في الشرع عدم تغيير الخلقة، والله تعالى خلق للمرأة هذا الشعر، وأحل لها الأخذ منه في النسك، وما عدا ذلك فإذا قصته خرجت به عن سنن فطرتها، وقد جعل الله عز وجل فيها الشعر جمالا وشيئا تتزين به، والأصل يقتضي عدم التصرف في هذه الأشياء، خاصة إذا استفحل القص، فإذا ترفعت في القص، وقصت قصا متفاحشا، فنقول: الأصل المنع منه، ولا يقال بجوازه إلا بدليل، خاصة وأنها إذا تفاحشت في القص شابهت الرجال، وعلى هذا يمنع منه، وأما إن كان قصا نسبيا يقصد منه تخفيف الشعر، خاصة عند تضررها في الغسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك، فلا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.
مدى مشروعية توجيه الذبيحة للقبلة
السؤال هل هناك دليل على توجيه الذبيحة للقبلة؟
الجواب هذا الأصل ينتزعونه من دليل المقارنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا) ، ويستأنسون بهذا، ولكن المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أضجع الذبيحة على شقها الأيسر، ووضع قدمه عليه الصلاة والسلام على الذبيحة، ثم سمى الله وكبر) ، كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا أصل يحبه العلماء، ويقولون: التوحيد لله عز وجل، والذبح لله سبحانه وتعالى يكون ظاهرا وباطنا، ومن هنا فإذا استقبل القبلة، وسمى الله وكبره ووحده سبحانه وتعالى، فقد جمع بين الظاهر والباطن، وعلى كل حال فهذا ليس فيه حظر، وليس فيه منع؛ لأنه حقق مقصود الشرع من التوحيد والإخلاص.
كما انتزع العلماء من ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (قبلتكم أحياء وأمواتا) ، وهو حديث حسنه غير واحد من الأئمة، مشروعية الاستقبال عموما، فقالوا: فيستحب استقبال القبلة حال الحياة وحال الموت، ومن هنا يقولون: إنه يشرع بأصل عام، ولكن لا يلزم به الناس، ولا يكون إلزاما واجبا محتما على المكلف، والله تعالى أعلم.
حكم وضع الصدقة عن الميت على قبره
السؤال هل يجوز وضع شيء على القبور كالحب مثلا بنية الصدقة عن صاحب ذلك القبر؟
الجواب هذا لا يشرع؛ بل قد نهي عن الجلوس على القبر، ونهي عن وط القبر، وإذا وضع الحب على القبر فلربما جاءت البهيمة ووطأت القبر، وهذا مخالف للشرع تماما، والذي يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب بالمشروع، والقبور ليست مكانا لتوزيع الحبوب، وهذا ليس بوارد وليس له أصل شرعا، والذي يريد أن يوزع الحب، أو يريد أن يتصدق عن ميته، فالصدقة عن الميت مشروعة، والحديث فيها صحيح وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوفت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، فتصدق عنها بحائطه الخراف) ، وهذا يدل على مشروعية الصدقة عن الميت، وأن الميت ينتفع بصدقة الحي، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في هذه المسألة في مجموع الفتاوى، ويشرع أن يفعل ذلك بالصدقات، فيذبح ويعطي الفقراء والمساكين، أو يطعم الدواب الحبوب، أو يطعمها شيئا صدقة عن والده الميت، أو والدته، وهذا من البر والإحسان إلى الأموات بعد موتهم.
وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمد وآل محمد -أي: آل محمد الأحياء والأموات- وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد) ، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد أخذ منه الجمهور دليلا على مشروعية الصدقة عن الميت، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.
حكم من نوى العمرة بعد مجاوزة الميقات
السؤال رجل جاء إلى جدة، وبعد أسبوعين نوى العمرة وهو في جدة، فهل يحرم من جدة؟ أم يذهب إلى الميقات الذي جاء منه؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة فيها تفصيل: فإذا كان قد مر بميقاته ناويا بعد الأسبوعين أن يعتمر، فيلزمه بعد الأسبوعين أن يرجع إلى الميقات، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) ، فإذا مر بميقاته مريدا للنسك، فيلزمه أن يرجع إلى ذلك الميقات، وأما إذا مر بالميقات غير ناو للنسك، أو مترددا، لا يدري: هل يسع الوقت للعمرة أو لا، ونزل إلى جدة لعمل، أو حاجة، فجد وطرأ، أو تيسر له أن يعتمر؛ فحينئذ يحرم من جدة؛ لأنه أنشأ النية من جدة، وقد مر بالميقات غير متمحض للنسك، ولا مريد له، وحينئذ سقط عنه الميقات، وجاز له أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ) ، فهذا يدل على أنه ينشئ عمرته من جدة، والله تعالى أعلم.
آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم
السؤال أنا من طلاب العلم، وأشتكي من بعض التصرفات من إخواني الطلاب، فما توجيهكم؟
الجواب الدنيا كلها كدر، ولا بد من الصبر، ولا يفلح مؤمن في هذه الدنيا إلا بالصبر، فبالصبر تقوى نفسه، وتثبت عزيمته، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر) ، فهل وجدت أحدا مرتاحا في هذه الدنيا؟ وهل وجدت أحدا مطمئنا دون أن يجد منغصا أو كدرا في هذه الحياة؟ قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:4] ، واللام جواب للقسم و (قد) للتحقيق، فقوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} ، أي: في تعب وعناء، ولا يزال المؤمن من هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدمه الجنة فتتبدد عنه همومه وغمومه، ويقول إذا رأى نعيمها وسرورها ما قاله الله عز وجل حكاية عن أهلها: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] .
أخي في الله! أوصيك أن تحمد نعمة الله عز وجل عليك، وأن تحس أن الله عز وجل يوم اختارك طالبا للعلم أنه قد أعطاك أحسن ما يعطى بعد الإيمان بالله تعالى، وهو أن تطلب العلم، فإن زكوت واستقمت وصلحت سريرتك، وطابت سيرتك، وزكت علانيتك؛ بوأك الله مبوأ صدق في الدنيا والآخرة، ولن ترى من ربك إلا كل خير، فوالله ثم والله، ونشهد لله في هذا العلم بكل خير ورحمة، فما من أحد يطلب هذا العلم صابرا فيه لوجه باريه إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة، ولن تجد أحدا أسعد من أهل العلم وطلاب العلم لو شعروا بالسعادة.
أخي في الله! إن وجدت أذية أو ضيقا، فاعلم أن العلم لا ينال بالتشهي، ولا بالتمني، ولكن بالعناء والنصب، وهذا التعب والنصب هو الذي ينزل الله به عبده مبوأ صدق في الدنيا والآخرة.
وقد قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فبهذه المشقات، وبهذه المنغصات، وبهذه المكدرات، تتبوأ الدرجات العلا في الجنات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره) .
ثم الأمر الثاني مما يهون عليك، ومما يوصى به الإنسان، خاصة إذا أراد أن يطلب العلم: أن يعظم بعد الله عز وجل، وكتابه وسنة نبيه عليه عليه الصلاة والسلام أمرين، ويحبهما في الله عز وجل، ويعتقد هذه المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، أولهما: أهل العلم، فلن يفلح طالب علم في علمه ما لم يعظم أهل العلم، ولا يعظمهم تعظيم الغلو، وإنما يعظمهم في الحدود الشرعية، وأن يشعر أن الله عز وجل أعطاهم هذه الأنوار من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحبهم ويجلهم ويقدرهم ويوقرهم ويصبر على كل أذية منهم.
أخي في الله: قد يؤذيك طالب عالم، زميل لك-كما تشتكي أنت- تأتي تريد أن تسأل الشيخ -مثلا- فيسبقك، وينافسك، ولكن هل تعلم من هو هذا الطالب؟ وهل تعلم من هو هذا المجد المثابر الذي تعلق قلبه بمحبة العلم فاستولى على مشاعره، فلم يلتفت إلى من عن يمينه أو يساره؟ ولو أن كل طالب شعر من هو طالب العلم الذي يرافقه، وشعر بحرمته في الإسلام، وشعر بحقه في طلب العلم؛ لهانت علينا كثير من التصرفات.
ومن المجرب أن الإنسان حينما يدخل مسجدا، ويعتقد أنه أقل الناس، وأنه أحقر الناس، وأنه أضعف الناس، حتى يرفع الله درجته، تهون عليه تصرفات الناس كلها، وعندها يرضى عنه ربه، ويعظم أجره، فهذا الطالب-طالب العلم- قد يكون في ذلك اليوم ترك أعز الأشياء عليه من ماله وولده وأهله، وجاء من أجل طلب العلم، فلا تستغرب منه أن يأتي كالبعير الهائج على الشيخ؛ لأنه ضحى بشيء كبير، وقد يكون أتى من مسافات بعيدة، وقد يكون ضحى بأشياء عزيزة عليه، فحينما تحس من هم طلاب العلم، وتحس من هذا الذي ضحى بوقته، وجاء تاركا لأشغاله وأعماله؛ تحس أنه شيء عزيز، وأنه شيء غال، ولو كان مرقع الثياب فقير الحال، فقد يكون عند الله أعظم منزلة من غيره، وربما كان لا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يضحي في ركوب السيارة من أجل الوصول إلى الدرس، فلو أن كل طالب علم يستشعر أن إخوانه من طلاب العلم ضحوا، وأنه لم يضح، وأنه لم يقدم شيئا؛ لأدرك أن طلب العلم شيء كبير، ولصبر على تصرفاتهم وعذرهم وأحبهم، فتأتلف القلوب بهذا.
وكما أننا نوصي هذا الطالب بالصبر، فنوصي أيضا طالب العلم أن لا يؤذي إخوانه؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، وأذية المسلم للمسلم محرمة، ولكنها لطالب العلم أعظم حرمة عند الله عز وجل، فانتبه واحذر.
إخواني! إن القرب من أهل العلم بلاء ومصيبة والله، وبعض طلبة العلم يظن أن القرب سهل، فربما يقترب طالب العلم من شيخ، ويبوء بسيئات لم تخطر له على بال؛ لأنه ربما تصرف تصرفا ينفر أخاه من طلب العلم، وربما يتصرف تصرفا مع الشيخ يكرهه في إفادة طلاب العلم، فهو سلاح ذو حدين، فإما إلى جنة، وإما إلى نار.
والله عز وجل قد نبهنا إلى هذا، فهؤلاء الصحابة الذين تبوءوا المقامات العلا من الجنة نزلت عليهم قوارع التنزيل، تأمرهم بالأدب، فصحبة النبي صلى الله عليه وسلم عزيزة غالية، ولكن لو رفع صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله-والعياذ بالله-، فتحبط صلاته وزكاته وحجه وعمرته، وهذا يدل على أن القرب من أهل الفضل والعلم خطر، فعلى الإنسان أن يتأدب في مسائله، ويتأدب في تصرفاته مع إخوانه، فلا يؤذ أخاه ولا يضيق على إخوانه، كأن يستبد بالسؤال، فيريد أن يسأل وحده، ويريد أن يستشكل وحده؛ إذ قد يأتي إنسان عنده كربة في أمر زوجته؛ لأنها مطلقة، فلا يدري: أتحل له أو تحرم؟ وقد يأتي شخص مهموم مغموم يريد كلمة من الشيخ، فعلى القريب من الشيخ أن يعطي مجالا لغيره، وأن يحذر من هذا القرب، وأن يعلم أنه خطر عليه، فكما أنه سبب في رحمة الله عز وجل فقد يكون سببا في الخطأ والزلل والغرور، فعلى الإنسان إذا اقترب من أهل العلم، أو جلس في حلق الذكر أن ينتبه لمن حوله.
وعلى الذي يؤذي إخوانه أن يعلم أن أبناء المسلمين ما جاءوا إلى بيوت الله ليهانوا، وما جاءوا ليذلوا؛ لأن بعض طلبة العلم قد يدفع أخاه، أو يحس أنه أحق من أخيه، وقد يأتي متأخرا، أو يأتي من آخر الناس، ويتخطى الحلقة ليجلس وسطها، فالناس لهم حقوق، ولهم حرمات، والمسلم -ولو كان من كان- له حرمة ينبغي أن تحفظ ولا تضيع، ومن حق المسلم أن يكرم ولا يهان، ويرفع ولا يوضع؛ لأن الله أمرنا بإكرام المسلم.
فشيمة المسلم الموفق أن يستشعر هذا الشيء، وعلى كل طالب علم أن يحذر، ووالله من خاف سلم، ومن خاف في طلبه للعلم، وصحبته لطلاب العلم من أذية طلاب العلم، والإضرار بهم؛ فإنه يسلم بإذن الله عز وجل، فراقب نفسك في جميع تصرفاتك، ولا تزاحم، ولا تؤذ، ولا تضر.
وهناك أمر لابد من إيضاحه، وهو أن طلاب العلم حين يزدحمون على الشيخ، تجد بعض الناس يستنكر هذا، بينما يرون على أفران الخبز أعدادا من الناس واقفة ولا يستنكرون، فهذا واقع وزمان أصبح المعروف فيه منكرا، والمنكر معروفا.
فإذا جاء أناس يشترون رحمة الله عز وجل، وتركوا بيوتهم وأهليهم، وجاءوا حفاة الأقدام يلهثون وراء أهل العلم، ويلتمسون زادا لهم لآخرتهم، فهل هذا شيء يستغرب؟! وإذا رأيت الناس في الدنيا يصيحون، ويهرجون، ويبهرجون، فهذا شيء لا يمكن أبدا أن ينكر؛ بل أصبح هذا من المسلمات والبدهيات؛ لأنه إذا ماتت القلوب فلا تسأل عن أحوالها.
ولذلك ينبغي علينا أن نستشعر مسئولية طلاب العلم أمام الله، فقد ارتحل العلماء، وذهب الأئمة، وخلت الساحة، وأصبحت المسئولية عظيمة، والكرب عظيما، والشكوى إلى الله تعالى.
فمثل هؤلاء ينبغي أن نهيئ لهم كل ما نستطيع، وكل ما نقدر عليه من أجل أن يطلبوا العلم، فنحبب العلم إليهم ولا نبغضه، ونرغبهم فيه ولا ننفرهم عنه، ونيسر عليهم ولا نعسر، وقد يحصل العسر بكلام؛ إذ قد يأتي طالب العلم فيسأل أسئلة لا داعي لها، وغيره أحوج إلى الأسئلة، فإذا رأيت طالبا أكثر منك ذكاء، وأكثر ضبطا، ويستفاد من أسئلته، فقدمه وآثره حتى تستفيد؛ ليكون هناك وعي عند القرب من أهل العلم، والجلوس في مجالس أهل العلم، والموفق من وفقه الله، فوالله ما زكت ولا صلحت سريرة عبد إلا أصلح الله علانيته ووفقه وسدده، وسيطلب العلم من يطلبه، فإما موفق سعيد يرزقه الله عز وجل المراقبة التامة لأقواله وأفعاله وتصرفاته وانضباطه، حتى يبوئه الله مبوء صدق بهذا، فيكون محل الرضا عند علمائه ومشايخه، ومحل الرضا عند إخوانه، وإما غير ذلك.
وستعاشر طلاب العلم -وهم الصفوة- فلتحتسب عند الله عز وجل أن يأخذوا عنك، فهؤلاء هم شهود الله في الأرض، فإذا شهد عليك طلاب العلم فهم أزكى الشهود، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن أولياء الله أهل العلم وطلبتهم فلا أدري من هو ولي الله؟! فهؤلاء هم الصفوة، فإذا عاشرتهم، وكنت معهم على المحبة, والصفاء، والمودة، والنقاء، وعلى المراتب العلا في الإيثار، والإخاء؛ بارك الله لك، وبارك في علمك، وبارك في وقتك، وما وجدنا من ربنا إلا كل خير، فقد وجدنا طلاب علم تأدبوا مع مشايخهم، وتأدبوا مع إخوانهم، فزكاهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ووجدنا من كان لا يبالي بطلاب العلم وكان فظا غليظا فعاقبهم الله تبارك وتعالى، وقد سألت عن بعض الزملاء طلابهم، فذكروا أنهم في الدعوة الى الله تعالى، وأنهم كذا، ثم سألتهم من بعيد عن أشياء، فإذا بهم يتذمرون، ويقولون: إن طلاب الشيخ يؤذونه، وإني -والله- أعرف أنه كان يؤذي المشايخ، وكذلك جزاء وفاقا، فما توفاني الله عز وجل حتى رأيت بعيني وسمعت بأذني سننا لله لا تتبدل ولا تتحول، ولا يظن أحد أن الله غافل عن خلقه، فليحذر طالب العلم، فاليوم يزرع، وغدا يجني، فمن زرع الخير كان له.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.








ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:12 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (501)

صـــــ(1) إلى صــ(13)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [1]
إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، وهي استحقاق شرعي جعله الله ضمانا للتلف الحاصل بسبب الجناية، والدية تعطى للمجني عليه أو لوليه وهو وارثه من بعده، والدية لها أحوال، ففي العمد المحض تكون حالة ولا تلزم بها العاقلة، وأما في شبه العمد والخطأ فتكون آجلة وتلزم بها العاقلة وهذا من حكمة الشريعة.

الديات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الديات] .
(الديات): جمع دية، وهي المال الذي يعطى للمجني عليه أو لوليه بسبب الجناية، وبناء على ذلك تكون الدية عوضا عن الجناية، وهذا في حالة العفو عن القصاص، وكذلك أيضا في حال الخطأ وشبه العمد، وذكر المصنف رحمه الله هذا الموضع بقوله: (كتاب الديات) وذلك لكثرة أبوابه وتعدد مسائله واختلاف أحكامه، ولذلك يعبر العلماء رحمهم الله بالكتب في المادة الكثيرة، ونظرا لأن الديات منها ما يتعلق بالأنفس، ومنها ما يتعلق بالأعضاء، وهناك أمر مستتبع من أروش الجنايات التي تقدر فيها الجناية، ولا يكون هناك تقدير من الشرع للجناية، وكل هذا يذكره العلماء رحمهم الله في كتاب الديات، وقول العلماء: إن الدية هي المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه.
وهذا استحقاق شرعي جعله الله ضمانا للتلف الحاصل بسبب الجناية، وقد جعل الله عز وجل العوض عن الجنايات: إما أن يكون بالقود، فيفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا يختص بالعمد كما تقدم معنا، وإما أن يعفو المجني عليه، وحينئذ يكون هناك الضمان بالأموال، وقد يعفو بدون مال.
وقول العلماء رحمهم الله في الدية: إنها المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه؛ لأنه إذا جني على شخص ومات لا يمكن إعطاء المال والدية للمقتول، وإنما يعطى لوليه وهم ورثته من بعده، وقوله رحمه الله: (كتاب الديات) أي: في هذا الموضع سأذكر لك من الأحكام والمسائل التي تتعلق بديات الأنفس والأعضاء، وما يلحق بذلك من أروش الجنايات، والأصل في هذا الباب كتاب الله عز وجل.
إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، قال سبحانه وتعالى في قتل الخطأ: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} [النساء:92] فنص الله عز وجل على لزوم الدية، وهذا النص يدل على لزومها في الأنفس، وأما بالنسبة للأعضاء، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعضاء والأطراف حديث يعتبره العلماء رحمهم الله أصلا في ديات الأعضاء والأطراف، وهو حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عاملا له رضي الله عنه وأرضاه، فكتب له مقادير الديات في بعض الأعضاء والأطراف، وأجمع العلماء رحمهم الله أيضا على اعتبار هذا الأصل -وهو الدية- في الأنفس وفي الأعضاء.
وأما بالنسبة لتقدير هذه الدية، وبيان ما يجب في النفس وفي الأعضاء والأطراف، فالعلماء رحمهم الله يبحثونه في أبواب متفرقة من هذا الموضع وهو كتاب الديات، فيبدءون بالأنفس أولا؛ لأن دياتها تختلف على حسب نوعية النفس المجني عليها، سواء كانت الجناية جناية عمد أو كانت الجناية جناية شبه عمد، أو كانت خطأ أو جارية مجرى الخطأ عند من يقولون به.
وعلى هذا سيبدأ المصنف رحمه الله -أولا- في بيان لزوم الدية وتقرير هذه الدية، ثم بعد ذلك يفصل في أنواعها وعلى من تجب، والأحوال التي يتحمل فيها الجاني الدية بنفسه، والأحوال التي تتحمل فيها العاقلة عنه جنايته.
وجوب الدية على القاتل
قال رحمه الله: [كل من أتلف إنسانا بمباشرة أو سبب لزمته ديته] .
(كل): من ألفاظ العموم.
وقوله: (كل من أتلف إنسانا بمباشرة أو سبب لزمته ديته) هذا الحكم فيه عموم، وبناء على ذلك كل من جنى جناية، أوجبت هذه الجناية زهوق النفس وقتل النفس المحرمة، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية، سواء كانت الجناية بالسببية أو كانت بالمباشرة، وبينا أن القاتل إما أن يقتل مباشرة كمن أضجع شخصا فذبحه بالسكين، أو أطلق عليه النار فقتله، هذه مباشرة، أو سببية -مثلما ذكرنا- كما لو دفعه في بئر أو دفع حائطا عليه فقتله أو نحو ذلك من صور السببية التي ذكرناها.
(كل من أتلف إنسانا).
يشترط في هذا الإنسان أن يكون له حرمة على الضوابط التي ذكرناها.
(بمباشرة) كما ذكرنا في الصور التي يحكم فيها بأن القتل قتل مباشرة أو سببية بحيث فعل فعلا أفضى إلى القتل لا على سبيل المباشرة، وإنما كان موصلا إلى القتل، كما ذكرنا في الإلقاء من شاهق، والحبس في زريبة فيها أسد أو أنهشه حية ونحو ذلك من الصور التي ذكرنا فيها قتل السببية.
(لزمته ديته) الضمير عائد على الجاني القاتل، ولما قال: (كل) يشمل العاقل والمجنون، فلو أن مجنونا قتل فإننا نجعل قتله خطأ، ونلزم أولياء المجنون الدية على التفصيل الذي يأتينا في عمد الصبي والمجنون، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ويجب فيه الضمان كما سنبين إن شاء الله تعالى.
بين المصنف رحمه الله عظمة هذه الشريعة في صيانة الأرواح والأنفس أن يجنى عليها، حيث أوجبت ضمان الجناية والتلف الحاصل، يستوي أن يكون القتل عمدا أو يكون خطأ، فلو أن إنسانا ساق سيارة فدهس شخصا خطأ لزمته ديته، ولو أنه ركب معه شخص ثم انقلبت السيارة وكان هناك سببية في انقلابها بإهمال ونحو ذلك لزمته الدية؛ فإذا: كل من أتلف بمباشرة أو سببية، فإنه يلزم بضمان ما أتلفه.
وجوب الدية حالة في قتل العمد المحض
قال رحمه الله: [فإن كانت عمدا محضا ففي مال الجاني حالة] .
(الفاء) للتفريع.
وقوله: (فإن كانت الجناية عمدا محضا ففي مال الجاني حالة) أي تجب الدية، فهناك ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أن من تعمد القتل وعفا أولياء المقتول عن القصاص لزمه أن يدفع الدية.
الحكم الثاني: أن تكون هذه الدية حالة نقدا.
الحكم الثالث: أنها في مال الجاني دون عاقلته.
فإذا: عندنا ثلاثة أحكام: الحكم الأول: لزوم الدية في قتل العمد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد، وإما أن يودى) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن القاتل المتعمد إما أن يقتص منه أو يدفع دية المقتول، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
الحكم الثاني: أن هذه الدية حالة، يعني يجب عليه أن يدفع فورا، وهذا الإلزام مبني على أن الأصل في الجنايات والإتلافات أنها تكون حالة، فلو أن شخصا كسر زجاج بيت أو كسر نافذة بيت، فإننا نقول له: اضمن هذا الزجاج واضمن هذه النافذة فورا ليس هناك تأجيل، فالأصل في الضمان أنه يكون فورا؛ لأن حقوق الناس مضمونة، والتأخير والمماطلة ظلم لأصحاب الحقوق وتعطيل لمصالحهم، ولذلك يلزم بدفعها فورا، وهو معنى قوله: (حالة) ، لكن سيأتي إن شاء الله أن دية الخطأ مؤجلة وفيها قضاء الخلفاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا مما تفترق فيه دية العمد ودية الخطأ، أن دية العمد: حالة، ودية الخطأ: مؤجلة.
ثم هذه الدية الحالة تكون في مال الجاني ولا نلزم عاقلته بدفعها، وأما في الخطأ فإننا نجعلها على العاقلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها عليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد بين المصنف رحمه الله ما يترتب على قتل العمد، فإذا عفا أولياء المقتول يجب أن يدفع الدية، والأصل في ذلك النصوص التي بيناها في الكتاب والسنة.
الحكم الثالث: أن تكون في مال الجاني وليس في مال العاقلة.
لزوم الدية على العاقلة في شبه العمد والخطأ
قال رحمه الله: [وشبه العمد والخطأ على عاقلته] .
وقتل شبه العمد وشبه الخطأ الدية فيهما على عاقلة المخطئ؛ وذلك لأن شبه العمد والخطأ قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنين بغرة؛ وليدة أو عبد، ثم قضى بديتها -يعني دية المرأة- على عاقلتها) أي: على عاقلة المرأة الجانية.
وهذا يدل على أن من قتل خطأ فعاقلته تحمل عنه، فمثلا: لو أن رجلا أركب معه أشخاصا في سيارته ثم حصل حادث، وكان متحملا لجميع ما في هذا الحادث من خطأ دون اشتراك مع غيره وأزهق ثلاثة أنفس، فنقول: إن هذه الثلاث ديات على عاقلته.
وعاقلته تحمل عنه هذه الديات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم عاقلة المخطئ بتحمل الدية، وهذا فيه حكمة من الشريعة؛ لأن المخطئ ليس كالمتعمد؛ ولأن العاقلة وهم القرابة يرثون، فالإنسان إذا لم يكن له قريب وارث فإن العصبة ترث جميع المال، ولذلك: الغنم بالغرم، فهم يغرمون كما يغنمون، ويغنمون كما يغرمون، ولذلك قال الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] وقد تقدم معنا هذا في مسائل عديدة بينا فيها لماذا تلزم الشريعة الأقرباء بضمان بعض الأشياء لقراباتهم.
وهنا نلزم العاقلة بدفع دية الخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها على العاقلة، وسيأتي إن شاء الله ضابط العاقلة وكيف تقسط هذه الدية عليهم.
ثم بين المصنف رحمه الله أن هذه الدية على العاقلة معا.
قوله رحمه الله: (وشبه العمد والخطأ على عاقلته) .
المفروض أن يضاف مؤجلة؛ لأنه نص في العمد على أنها حالة، وسكت عن كونها حالة في الخطأ وشبه العمد من أجل أن طالب العلم يدرك أنها لو كانت حالة لنص على ذلك، لكن لما كان هذا قد يوهم، كان الأولى أن يقال: مؤجلة، فهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات وقيل أكثر من ذلك، والذي قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم يخالف ذلك أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الدية إذا ألزمت بها العاقلة تقسط على ثلاث سنوات، وبناء على ذلك تخالف دية العمد، فدية الخطأ مؤجلة، ودية العمد معجلة.

حكم من كان سببا في القتل

قال رحمه الله: [وإن غصب حرا صغيرا، فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، أو غل حرا مكلفا وقيده؛ فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت له الدية] .
قوله: (وإن غصب حرا صغيرا فنهشته حية) .
تقدم معنا في الغصب أن العلماء رحمهم الله يقولون: (يد الغاصب يد ضمان) وبينا وجه ذلك؛ لأنه باعتدائه على المغصوب يتحمل جميع ما يحصل لهذا المغصوب من ضرر، فإن حصل هذا الضرر بفعله لا إشكال، وإن حصل بآفة سماوية أو نحو ذلك فهو ضامن؛ لأن يده يد ضمان؛ كان المفروض أن يرده إلى صاحبه حتى يصبح صاحبه ضامنا له، فمثلا: من غصب منك سيارة فإن هذه السيارة مدة بقائها تحت يدك تأخذ منفعتها وتتحمل ضررها، لكن إذا أخذها منك أصبحت يده يد ضمان؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فجعل يد الغاصب يد ضمان، وبينا ذلك ووجهناه وذكرنا له صورا وأمثلة.
قوله: (وإن غصب حرا صغيرا فنهشته حية) الصغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا يستطيع أن يقاتل، ولذلك لا يتحمل مسئولية نفسه، ولا يكون هناك تحمل من النفس المقتولة للجناية، ويصبح الغاصب متحملا لدية هذا المقتول.
(نهشته حية) الموت حصل بنهش الحية، لكن لولا الله ثم كونه جاء به إلى هذا الموضع وغصبه إلى هذا الموضع ما حصل الموت، فيتحمل التبعة وما يترتب على هذا الفعل وعلى هذه الجناية فيكون ضامنا لهذه النفس.
قال: [أو أصابته صاعقة] .
يعني: الإتلاف قد يكون بالعوارض التي لا دخل للمكلف فيها، أو بالعوارض التي يكون فيها دخل على جهة السببية بالحيات والعقارب ونحو ذلك، فإذا نزلت عليه صاعقة فمات، فإن الذي قتله هي الصاعقة في الأصل، لكن كونه حمله إلى هذا الموضع الذي أصابته فيه الصاعقة فإنه غاصب ومتحمل لما يترتب على غصبه، وبهذا الحمل وقع هذا الضرر على الصبي فيتحمل مسئوليته.
قال: [أو مات بمرض] .
أو مات هذا الصبي بمرض؛ لأنه بحمله أصبح ضامنا له حتى يؤديه، فإذا لم يؤده ولم يرجع فإنه ضامن له، وبعض العلماء يفرق بين موته بالأسباب الإلهية التي لا دخل فيها للمكلف، وهي الموت بالشيء الطبيعي، وبين موته بأسباب يكون للغصب فيها تأثير، ولكن من أهل العلم من لم يفرق، والسبب في هذا أنه يجعل مرد المسألة إلى أن يده يد ضمان، فلا يزال ضامنا حتى يرد المغصوب، وهذا أصل قرره العلماء في مسائل الغصب، وينبغي أن يكون مطردا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا فقال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهو ضامن له حتى يرده كما أخذه.
قوله: [أو غل حرا مكلفا وقيده، فمات بالصاعقة أو الحية] .
الأول كان صغيرا وهذا مكلف، فإنه لما وضع الحر في الأغلال ومنعه من الحركة، أصبح هذا المكلف والكبير في حكم الصغير، وحينئذ لولا الله ثم هذا الغل لما مات؛ لأنه مقيد ولا يستطيع الحركة، والغل في جسده يمنعه من الحركة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لو نزلت عليه صاعقة فمن الذي جاء به في هذا الموضع، ومن الذي حبسه في هذا الموضع؟ ولولا الله ثم هذا الحبس وهذا المجيء لما حصل الزهوق، ولذلك يتحمل المسئولية عنه ويضمنه، ولو قال قائل: إنه كبير وإنه مسئول عن نفسه، نقول: إنه لما قيده وغله أصبح في حكم المشلول العاجز.
وحينئذ كونه كبيرا ومكلفا لا تأثير له؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ نفسه، ولا أن يبذل الأسباب لنجاة نفسه فيكون ضامنا لها.
قال: [وجبت الدية فيهما] .
وجبت الدية على الغاصب، ويده يد ضمان لما ذكرنا.
هذا بالنسبة للنفس، فإنها تجب الدية إن مات كما ذكرنا، وإن أتلفت هذه العوارض ففيه بعض الدية، فإن أتلف عضوا كيده أو رجله وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وهكذا لو عورت عينه أو فقد إحدى أذنيه، أو أصابه ضرر في لسانه فأصبح لا يتكلم، وجبت عليه دية اللسان وهكذا.
إذا: كما يجب ضمان النفس كاملة يجب ضمان الأعضاء، فمثلا: لو أنه قيده ثم وضعه على حالة انكسرت يده فيها، أو وضعه على حالة جرحت فيها أصبعه، ثم سرى هذا الجرح حتى شلت يده، فحينئذ نوجب عليه ضمانه بنصف ديته.
فكما يجب ضمان النفس كاملة يجب ضمان الأعضاء والأطراف وما يحصل من هذا الغصب من ضرر، فوجبت الدية إن كان زهوقا للنفس كاملة، ووجبت أيضا دية الأعضاء على حسب ما ترتب من هذه الجناية.





ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:15 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




الرد على من يقول بعدم أخذ الدية
السؤال شاع في عرف بعض الناس أن الدية مال لا بركة فيه، وأن أخذه ينافي المروءة وكذلك أخذ الأرش، مما يدفع بعض أهل المجني عليه إلى التنازل عن حقهم مع عدم رضاهم بذلك وعدم قناعتهم، فما توجيهكم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الدية شرع الله عز وجل، ومن قال: إن الدية لا بركة فيها بل بعضهم يقول: من أخذها أضره الله في ماله، فهذا قول باطل ومصادم لشرع الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: كل حكم يحلل حراما أو يحرم حلالا فإنه خلاف شرع الله عز وجل، وهو رد على من قاله.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها) فهؤلاء كأنهم يريدون أن يحرموا على الناس ما أحل الله لهم، والدية حقك؛ إن شئت أخذتها، وهذا حسن؛ لأنك لم تظلم أحدا وأخذت حقك؛ كما لو جاء شخص -مثلا- واعتدى على سيارتك فكسرها وجئت وأخذت قدر جنايته وقدر خطئه، ما ظلمته، كأن تكون سيارتك واقفة فجاء وصدمها، فقال أهل الخبرة: أنه هو المخطئ ولزمه أن يصلح هذا الخطأ، فلو كانت كلفة إصلاح السيارة ثلاثة آلاف ريال، فأي ظلم في هذا؟!! وأي جناية في هذا؟ وأي اعتداء؟ فلماذا يحرم ما أحل الله؟ وهل كل الناس يستطيع كلما جنيت عليه جناية أن يصفح؟ دعوا الأنفس والأرواح؟ لكن نقول: إذا كان هذا في الأموال العادية فكيف بالأنفس؟ السبب في هذه الديات في الأنفس: أن الإنسان إذا اعتدي على قريبه وأعطي الدية وأخذها سكنت النفس واطمأنت وحصل أنه عوض عن حقه، وحينئذ لا توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، فإذا قطعت يده بالخطأ وأعطي نصف الدية جبر خاطره وجبرت نفسه، فإذا نظر إلى يده المقطوعة وتذكر ثوابه عند الله عز وجل واطمأنت نفسه للآخرة، فإذا جاءت النفس تتحدث عن الدنيا وجد شيئا من الدنيا يسليه ويجبر خاطره، وهذا تشريع الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، وحكم الله الذي لا يعقب في حكمه سبحانه وتعالى.
ولو علم الله أن فيها شرا ما سكت عن ذلك، ولا يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، فهذا من كلام الجاهلية ودعوى أهل الجاهلية، لكن إن تنازلت عن هذه الدية فهذا أحسن، وأعظم لأجرك وأثقل لميزانك.
فإذا تركتها محبة لأخيك في الله ورحمة به، وشفقة عليه آجرك الله، وأحسن لك الخلف، ولكن من تركها خوفا من أن تأتيه المصيبة، فهذا لم يتركها لله، وإنما تركها خوفا من الضرر الأعظم، وحينئذ لا ينال الدنيا ولا ينال الآخرة؛ لأنه لم يتركها لله عز وجل، فهذا من تلبيس الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، انظروا كيف يصرف الناس وتجتالهم شياطين الإنس والجن بالأهواء والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23] .
فهذا أمر الله الذي لا يعقب، فهو سبحانه الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وليس لأحد أن يستدرك على الله في شرعه، ولو علم الله أن في هذه الضمانات والديات ضررا لما شرعها؛ لأنه قال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] .
فكل تشريع أوحي إليه في كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام فهو الرحمة والخير والبركة، وعلى كل حال: ينبغي أن يعلم الناس ذلك، وأن يقال لهم: إن هذا حقهم، فالحسن أن يأخذوه والأحسن أن يتنازلوا عنه، {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل:96] ، فمن صبر ظفر وأحسن الله له العاقبة، ولا شك أن الخلف مضمون من الله عز وجل لمن ترك شيئا لله.
(فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه) والله تعالى أعلم.
تربية الأيتام وعظم أجرها
السؤال هل ينطبق على تربية الأيتام من حيث الأصول والتربية الكاملة ما ينطبق على تربية الأولاد أثابكم الله؟
الجواب أما اليتيم فأمره عظيم جدا، الأيتام جنة ونار، ومن عال الأيتام وكفلهم واتقى الله فيهم فقد أفلح وأنجح، وأصاب خير الدنيا والآخرة، وكم أسعد الله أقواما كفلوا الأيتام، حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل لهم من عاجل البشرى في الحياة أن جعل حياتهم سعيدة، وجعل خاتمتهم طيبة حسنة، ولقد رأينا ذلك فيمن كان يعول الأيتام ويحسن إليهم.
وجدنا من لطف الله به ورحمته وإحسانه به الشيء الكثير، فكفالة الأيتام والإحسان إليهم جنة للعبد في الدنيا قبل الآخرة.
وأما عدم الرعاية لمشاعرهم، والتقصير أثناء تربيتهم فهذا خطر عظيم، وتربية الأيتام، دحض فيه زلل كثير، ولذلك من يربي الأيتام ينبغي أن يكون على حذر شديد في التعامل معهم.
فإن اليتيم لا يجد من يكفكف دمعه، ولا يجد من يجبر كسره، فإذا قسا عليه من يعلمه تذكر أبا كريما أن لو كان حيا ما عامله بهذه المعاملة، ولو قسا عليه معلمه نظر إلى ذلك المعلم مع ولده، فقل أن يؤذي أحد يتيما ويكون عنده أولاد إلا راقبه اليتيم في أولاده، فإن رآه محسنا لولده اغرورقت عينه ودمعت؛ لأنه لا يتصور أن هذا المعلم يريد مصلحته.
فإذا كان المعلم ظالما أو آثما أو جائرا وكان الكافل شديدا، خاصة إذا كان اليتيم يعيش تحت كفالة عمه، أو خاله، أو نحو ذلك من أقربائه، فإذا أوذي أي أذية ولو كانت لسبب ورأى إحسان ذلك المؤذي إلى ولده تفطر قلبه بالحزن الذي لا يعلم قدره إلا الله.
ولذلك قال الله عز وجل: {فأما اليتيم فلا تقهر} [الضحى:9] ، فقهر اليتيم أمره عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وقرن بين السبابة والتي تليها) ، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على علو درجته عند الله في الآخرة، لكن لابد أن تكون كفالة طيبة كاملة، وكفالة رحمة لا كفالة عذاب، وكفالة إحسان لا كفالة إساءة، وكفالة ود ورحمة وبر وإدخال سرور لا كفالة وحشة وضيق وعسر وتنكيد وتنغيص في العيش، فعلى كل من يعامل الأيتام عموما أن ينتبه، حتى لو دخلت فصلك -لو كنت معلما- فانتبه من اليتيم، فإنه أحوج ما يكون إلى إحسانك وبرك وعطفك، واجعل له ميزة على غيره، وهذا ليس من باب الظلم، وإنما من إنزال كل إنسان منزلته، وليس معنى ذلك أنك تفضله على غيره، لكن له شأن خاص، فالابن إذا آلمه مدرسه رجع إلى أبيه، فواساه وأحسن إليه وأنساه ما حصل له من إساءة، ولكن اليتيم يرجع إلى بيته بلا أب، وقد لا يجد أما، وقد يرحم أمه حينما يراها في همها وغمها، فيصعب عليه أن يدخل عليها هما إلى همها، أو غما إلى غمها.
فلذلك من الرحمة ومن هدي الإسلام وسنن الإسلام: النظر إلى هؤلاء والإحسان إليهم، وأن يحاول كل معلم يحب الكتاب والسنة، ويلتزم بالشريعة التزاما صادقا أن يجعل لهؤلاء في قلبه وفي معاملته وفي إحسانه وبره أوفر حظ ونصيب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وما أعظم جبر القلوب المنكسرة عند الله ثوابا، وما أحسن ما يكون لأهلها عاقبة ومآبا.
ومن أراد أن يجرب حسن العاقبة في الإحسان إلى القلوب المنكسرة والنفوس الضعيفة فليجرب ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر) ؛ فجعله في هذه المنزلة العظيمة؛ لأن الأرملة لا أحد يعولها، وهي تحتاج إلى من يقوم عليها، فإذا نظر إلى أرملة من أرامل المسلمين، فأمست وأصبحت وهو يسعى عليها يقضي حوائجها وينفس بإذن الله كرباتها، ويدخل السرور عليها جعل الله ما كان منه من حسنات لا يعدل بصيام النهار ولا بقيام الليل.
وهذا يدل على عظم الأجر عند الله في جبر القلوب المنكسرة.
(وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فيحرص طلاب العلم والأخيار على النظر في تربية الأيتام، وإذا كان عندك في حلقة التحفيظ يتيما فإنك تكرمه وتجله وتعامله معاملة خاصة، وتنظر إليه نظرة خاصة، وتؤويه إلى حنانك، وإلى برك وإحسانك، فإنك إن فعلت ذلك رحمت أموات المسلمين وخلفتهم في ذريتهم بخير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، وأن يفتح على أيدينا وعلى أيديكم أبواب الخير.
الخلاصة: أن اليتيم ينبغي على من يؤدبه ويعلمه أن يكون على حذر شديد، وأن يعامله معاملة خاصة؛ لأنه أضعف من غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الضعيف أمير الركب) فينبغي مراقبة مشاعره.
ونسأل الله العظيم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عنا، والله تعالى أعلم.
تقديم تحية المسجد على السلام
السؤال إذا دخلت المسجد فهل أبدأ بالسلام على من في المسجد أو بتحية المسجد أثابكم الله؟
الجواب بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فالسنة أن يبدأ المسلم بتحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع أصحابه ودخل رجل -وهو المسيء صلاته- فصلى ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) .
فكون الرجل بدأ بالتحية، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أن السنة أن يبدأ المسلم بالتحية قبل السلام.
وقال بعض العلماء: إن هذه هي السنة، ولذلك قالوا: من زار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أولا بصلاة التحية ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من عظم حقه صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن الداخل يبدأ بالتحية قبل السلام عليه.
فإذا كان هذا مع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما بالك بغيره؟ فالسنة أن يبدأ أولا بتحية المسجد، لكن لو سلم له وجه.
وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الأعرابي وسلم رد عليه السلام ثم قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فمعناه أنه وقع سلامه قبل الصلاة.
ولكن هناك سبب في هذه الحالة وهو أنه إنما رد عليه السلام لأن رد السلام واجب، والمسلم سلم لشبهة الإتمام.
والمراد حكاية صورة الحال، فكونه يبدأ بالتحية قبل السلام عليه، يدل على أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه هو السنة المستقرة أن يبدأ بالتحية قبل السلام.
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.
حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب
السؤال ما حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب في المسجد الحرام وغيره من المساجد أثابكم الله؟
الجواب المياه الموضوعة للشرب موقوفة للشرب، ولا يجوز صرفها في غير ذلك.
هذه أوقاف مسبلة في المسجد الحرام وغيره.
ولكن إذا حصل عند الإنسان اضطرار، بحيث ضاق عليه وقت الصلاة وكان هناك سبب موجب صعوبة خروجه من مرض أو ضعف وتوضأ بها، فهذا مغتفر إن كان شيئا يسيرا لا يضر بالشاربين، وإلا فالأصل أنها موقوفة مسبلة للشرب.
ولذلك كان العباس رضي الله عنه يقول في زمزم: إني لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل، والله تعالى أعلم.
حكم من صلى المغرب جماعة بنية العصر
السؤال رجل لم يصل العصر ودخل المسجد ووجدهم يصلون المغرب.
فهل يصلي معهم بنية العصر ويزيد ركعة بعد التسليم، أثابكم الله؟
الجواب يشترط في صحة الصلاة وراء أخرى: أن تتحد صورة الصلاتين، فلا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العصر وراء المغرب؛ لأن المغرب ثلاث ركعات، والعصر أربع.
وحينئذ سيضطر إلى الجلوس بين الثالثة والرابعة، وليس في شرع الله أن يجلس بين ثالثة ورابعة؛ لأن الله ألزمه أن يصلي أربعا لا جلوس بين الثالثة والرابعة فيها، وإنما يجلس بين الاثنتين على الصورة المعروفة في صلاة المغرب وصلاة العصر، وعلى هذا: لا يجوز أن يصلي المغرب وراء العشاء، ولا أن يصلي العصر وراء المغرب، وإذا دخل المسجد وأقيمت الصلاة وتذكر أنه لم يصل العصر، يدخل وراءهم بنية النافلة، ثم يصلي العصر قضاء.
ثم يصلي المغرب بعد ذلك.
فيتعذر عليه أن يصلي العصر؛ لعدم اتفاق صورة الصلاتين.
ثم يتعذر عليه أن يصلي المغرب؛ لأنه لا تصح المغرب حتى يصلي العصر.
وحينئذ يصليها نافلة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حضر المسجد فإنه يصلي نافلة ثم يعيد بعد ذلك، فيصلي العصر ثم يصلي المغرب بعدها.
والله تعالى أعلم.
أسباب استجابة الدعاء
السؤال ماذا أقول حتى يستجاب لي، أثابكم الله؟
الجواب فتحت أبواب رحمة الله عز وجل فاسأل ما تشاء، فأنت أمام ملك الملوك الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ألم تر إلى ما أنفقه منذ أن خلق السموات) فهو سبحانه الكريم الجواد الذي يحب من سأله ويرضى عمن سأله.
فمن سأل الله فقد وحده، ولذلك الدعاء هو العبادة؛ لأنك لا تسأل الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المسئول، ولا ترجو الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المرجو سبحانه وتعالى.
أما كيف تستجاب الدعوة؟ فالدعاء يستجاب إذا حصلت آدابه، وهي كالآتي: أولها وأعظمها: توحيد الله، قال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين} [غافر:14] فمن دعا الله مخلصا موقنا فتح الله له أبواب السموات، واستجيب له ما قال من دعوات، وحقق له ما رجا في تلك الكلمات الطيبات المباركات، فعلى العبد أن يدعو بقلب موقن موحد مخلص لله عز وجل، وإذا وقف العبد بين يدي الله، فأحس أنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى! وأنه لو سأل الله عز وجل ذلك الأمر الذي يراه عسيرا أنه أيسر ما يكون عند الله جل وعلا، فإن الله تعالى إذا أراد أن يفتح أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها، وإذا أمسك رحمته لا يستطيع أحد أن يرسلها، فإذا أحس العبد وأيقن بربه سبحانه وتعالى، وعرف من الذي يسأل، وعرف أن الذي يسأله أرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وأن الذي يرجوه أعظم برا وأعظم إحسانا من كل شيء، وأنه المنتهى في الكرم والجود، وأنه المنتهى في الإحسان واللطف والرحمة؛ عندها تنساب نفسه وكأنه يدلل بين يدي الله جل جلاله، وعندها يعرف من الرب الذي يسأل، فلا يحس أن هناك مسألة تعيي الله عز وجل، ولا يحس أن الله عز وجل يمنع عنه شيئا.
فإذا أحس بهذا الإحساس دعا وهو موقن بالإجابة، الرجل المشلول لا يتحرك فيه شيء ومع ذلك لا يقنط من رحمة الله عز وجل، وتجده يطلب الأمور فتستعصي عليه وتغلق في وجهه أبوابها، كلما طلب أمرا عسر عليه، وأصبح يسيره عسيرا وسهله حزنا، حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومع ذلك لا يقنط من ربه ولا ييأس من رحمته، فيرفع يديه للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فيدعوه ويقول: يا رب! من قلب يعلم ما معنى قوله (يا رب) أنه الذي رباه بالنعم، وأنه الذي دفع عنه البلايا والنقم، وأنه الذي يحفظه، وأنه الذي يكلؤه، وأنه الذي يرحمه ويحسن إليه، فإذا دعا بهذا الشعور، فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه.
ثانيا: الثناء على الله بما هو أهله، فإنه إذا استفتح الدعاء بتوحيد الله فلن تغلق أبواب السموات دون اسم الله جل جلاله، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) الثناء على الله بما هو أهله يعين العبد ويحقق للعبد رجاءه.
ثالثا: أن يكون مضمون دعائه غير مشتمل على قطيعة رحم، ولا على إثم، ولا يدعو على المسلمين، وإنما تكون الدعوة طيبة، يدعو العبد لصلاح دينه، ثم لصلاح دنياه، ثم يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، فلابد لك حين تبدأ مسألتك أن يكون أول ما تبدأ به دينك؛ لأنه رأس مالك في هذه الحياة، وفي الدين تسأل الله عز وجل مسألتين في الرجاء: أولهما: أن يعينك على أداء فرائضه، والثانية: أن يعينك على بلوغ الكمال في الطاعات والخيرات والباقيات الصالحات، ثم ضد ذلك أن يعينك على ترك المحرمات، وأن يبلغك في الورع والزهد منزلة تدع فيها ما لا شبهة فيه خشية الوقوع في ما فيه شبهة، فإذا وفقت في هذا عصمت في دينك.
ثم تسأل الله عز وجل بعد ذلك أن يرزقك الزيادة من الخير والثبات على الحق حتى تلقاه، ثم تسأله حسن الخاتمة، ثم تسأله بعد ذلك أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ثم تسأله أن يعيذك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن أهوال القبر، وتتصور كأنك وحيد فريد في قبرك، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مشاهد الآخرة، فتسأل الله عز وجل أن يرحم في موقف العرض عليه ذل مقامك بين يديه، وتسأل الله جل وعلا أن ييمن كتابك، وأن ييسر حسابك، وأن يعيذك من الصراط وزلته، وأن يعيذك من بطشته ونقمته، وأن يجعل حسابك يسيرا، ثم تسأل الله أن تدخل الجنة دون عناء ودون هم ودون غم، ثم تسأل الله أن يرفع درجاتك فيها، فإذا انتهيت من هذه المسائل التفت إلى أقرب الناس إليك من والديك، ثم أولادك وذريتك، ثم إخوانك وقرابتك، ثم أهل ودك الذين أحبوك في الله من علمائك الذين كانوا سببا في هدايتك من أمواتهم، فتسأل الله أن ينور لهم قبورهم، وأن يفسح لهم فيها، فتدعو لعلماء المسلمين حيهم وميتهم، ثم حتى تعم دعوتك جميع المسلمين، فتعيش مع المسلمين في همومهم وغمومهم وأشجانهم، فتدعو الله للمكروبين من المسلمين أن يفرج الله كربهم، فتحس بأحاسيس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فلا تسمع بنكبة إلا بسطت كفك إلى الله سائلا إياه أن يفرج عن المكروبين والمنكوبين.
وبهذا تكون رحمة لعباد الله.
ثم تدعو على أعداء الله وأعدائك الذين هم من شياطين الإنس والجن، الذين يحولون بينك وبين ربك.
فتسأل الله عز وجل أن يحول بينك وبينهم، وأن يكفيك شرورهم، وتسأل الله عز وجل للأمة كذلك.
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم في هذا المقام أن يصلح لنا أمور الدنيا والآخرة، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه، ونسأله أن يحسن لنا ولكم الختام، وأن يدخلنا وإياكم دار السلام، دون حساب ولا عذاب، ولا سبق خصومة ولا عتاب، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج عن كل مهموم منكوب مكروب، وأن يفرج عن إخواننا في أفغانستان من أراملهم وضعفائهم، ونسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم، ونسأل الله العظيم أن يرحم ضعفهم.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وأنهم جياع فأطعمهم.
اللهم ارحم ضعفهم واجمع شملهم.
يا حي يا قيوم! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تفرج عن المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية يا حي يا قيوم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.







ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:19 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (502)

صـــــ(1) إلى صــ(4)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [2]
من حكمة الشارع أنه أسقط الدية في أحوال خاصة كتأديب الوالد لولده والمعلم لطالبه والسلطان لرعيته؛ لأن الشرع أذن لهؤلاء بتأديب من تحتهم، فلو فرض عليهم الضمان في حال الضرر لما تحققت المصلحة المرادة من التأديب وهي الإصلاح، لذا فقد رخص الشارع في حصول المفسدة الصغرى درءا للمفسدة الكبرى.
عدم ضمان المؤدب إذا لم يسرف في التأديب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به] .
يقول المصنف رحمه الله: (فصل) هنا سيبين المصنف رحمه الله الأحوال التي تسقط فيها الدية لأسباب خاصة، ومن ذلك: تأديب الوالد لولده، وتأديب السلطان لرعيته، والأصل في التأديب أنه يراد به المصلحة أو يراد به درء المفسدة العظمى في ارتكاب المفسدة الصغرى.
فالأصل في الوالد مع ولده أنه لا يريد أن يضره، وهكذا المعلم مع طلابه؛ لأنه يريد الخير، والظاهر من حاله والأصل فيه أنه لا يريد الجناية والأذية، فلذلك يحمل على هذا المحمل الحسن فلا نحكم بلزوم الدية فيما يترتب على التأديب؛ لأن الإذن بالشيء يفقد الضمان في تبعته، لكن هذه القاعدة فيها تفصيل واستثناءات، والشرع أذن للوالد أن يؤدب ولده، وأذن للسلطان أن يؤدب رعيته، وأذن للمعلم أن يؤدب من يعلمه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فشرع الضرب في التعليم، والدعوة للخير، والأصل: أن العلم يراد به الدعوة للخير؛ يتعلم الإنسان ثم يعمل.
فهذا الإذن الشرعي بالتأديب والتعليم، وأيضا صيانة الناس والرعية، كل هذا إذا كان الأصل يقتضي جوازه فإن ما يترتب عليه من ضرر مغتفر شرعا؛ لأن الأصل أن من فعل هذه الأفعال يقصد بها مصلحة المجني عليه، ولذلك لا يجب عليه ضمان.
مما السبب في أنه لا يجب عليه ضمان؟ لأننا لو أوجبنا الضمان في مثل هذا لامتنع التعليم، وامتنع الوالد من تربية ولده، وامتنع السلطان من تأديب الرعية؛ لأنه كلما جاء يؤدب خاف أن يترتب على الأدب ضرر فأحجم، وكلما جاء الوالد يريد أن يؤدب ولده وعلم أنه إذا أصاب ولده ضرر أنه مسئول أمام الله وأنه آثم، وأنه يتحمل الضمان أحجم وامتنع، وهذا يؤدي إلى ضرر أعظم وحينئذ اغتفر هذا الضرر بالنسبة للولد لمصلحته.
ثم الأمر الثاني: أن الغالب السلامة في هذا والنادر حصول الضرر، ولذلك الحكم للغالب والنادر لا حكم له.
يدخل في هذا تأديب الزوج لزوجته؛ لأن الله شرع تأديب الزوجة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضربا غير مبرح) ، فالزوج له الحق أن يؤدب زوجته ولا يعنف ولا يقبح ولا يضرب الوجه، فإذا أدبها وحصل ضرر فالأصل أنه يريد الخير لها ولا يحمل على المحمل السيء.
هذا بالنسبة لقضية القواسم المشتركة في هذه الصور؛ في الوالد مع ولده، والمعلم مع صبيته -الصبية الذين يتعلمون تحت يده- والسلطان مع رعيته، والزوج مع زوجته؛ فكل هؤلاء هدفهم الخير، والغالب فيهم أنهم يريدون مصلحة المعلم ومن يريدون تأديبه، ولذلك لا يجب عليهم الضمان.
قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده] .
الذكر والأنثى، أولا: يجب على الوالد أن يقوم على مصالح أولاده فيأمرهم بما أمر الله به وينهاهم عما نهى الله عنه، وهذا من الوقاية لهم من نار الله وغضبه، وكل والد أدب ولده التأديب الشرعي فقد سعى في فكاك نفسه من نار الله عز وجل، وكل والد أدب ولده وأقام الحجة عليه؛ فإنه يكون قد سعى في فكاك ولده من نار الله عز وجل، ولذلك إذا قام الوالد بحق التأديب والتعليم على الوجه المعتبر أعظم الله أجره وعظم مثوبته، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عال جاريتين فأدبهما فأحسن تأديبهما، ورباهما فأحسن تربيتهما، إلا كانتا له حجابا من النار يوم القيامة) ، فهذا يدل على أن التأديب والتعليم مقصود شرعا.
هذه الرسالة -رسالة التعليم والتربية- تحتاج إلى قوة، ولذلك لابد من وجود القوة في بعض الأحوال، فمن الأولاد من ينكف بالزجر، ومنهم من لا ينكف إلا بالضرب، والأحوال تختلف، ومن هنا كان من حق الوالد أن يزجر أولاده ذكورا كانوا أو إناثا عن الأمور التي لا تجوز بالتوجيه إن نفع التوجيه، ثم إذا لم ينفع فإنه يضرب ولا بأس في ذلك، وهذا الضرب فيه مصلحة، ولذلك كان من الحكمة استخدامه، وكما قال القائل: قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم والأب إذا ضرب ولده وتألم الولد فإن هذا الألم صلاح لدينه ودنياه، كما أن الطبيب يؤلم المريض، فهذا الألم من ورائه خير ومصلحة متى ما كان واقعا في موقعه، ولذلك اتفق الحكماء والعقلاء: على أن أكمل ما يكون في التربية ألا يكون الضرب والإيجاع والألم العامل الأول في الحفز على الخير والمنع من الشر؛ لأن الأولاد إذا أصبحوا لا يرتدعون عن المحرمات إلا بالضرب، ولا يفعلون الخير إلا بالضرب تعطلت مداركهم، وأصبحوا تحت سلطان الرغبة والرهبة، وحينئذ يغلب عليهم الهوى، فإن غابت القوة وغاب الوالد رتع الأولاد كيف شاءوا.
وهذا معلوم ومشاهد -نسأل الله السلامة والعافية- في النفوس التي تتربى على القهر، فإنها متى ما زال عنها القهر طاشت وخرجت وفلتت لنفسها الزمام -والعياذ بالله- فرتعت في حدود الله ومحارمه دون هوادة.
بل إن من الآباء من يحفظ ولده القرآن ويربيه على أكمل ما تكون التربية لكنها بعنف وقسوة وضرر وأذية، فما إن يموت الوالد أو يغيب عن ولده إلا ويضيع ذلك الولد -نسأل الله السلامة والعافية- وكأنه لم يتعلم شيئا من الخير، بل لربما رجع حاقدا على كل خير وبر، وهذا يدل على ما ذكرنا من اتفاق الحكماء والعقلاء: على أن البداء بالضرب يبلد الإحساس ويقتل معاني النفوس السامية التي تحفز إلى الفضائل واجتناب الرذائل، فلابد من ترسيخ القناعة الذاتية، وتحريك المدارك في الصبيان وفي الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا حتى إذا بلغوا استطاعوا بأنفسهم أن يحكموا على الأشياء، فما كان من خير قبلوه، وما كان من شر تركوه، وهذا هو الأسلم والأحكم، وهو الذي يجب على الوالد أن يلتزمه.
بناء على ذلك اتفقوا على أنه ينبغي على الوالد أن يبدأ أولا بالتوجيه، والتوجيه في الكمالات لا يوجب العقوبة، فلا يحفزهم على الكمالات بالقهر؛ لأن الله لم يفرض ذلك على المكلفين فضلا عن غير المكلفين، ومن هنا يوجه أولا، ثم يوجه في غير الكمالات التي هي الأمور الواجبة، فيأمرهم بها، والمحرمة ينهاهم عنها، فالتوجيه يشمل الأمر بطاعة الله والنهي عن معصية الله، فإذا كان التوجيه لم يجد فيه أذنا صاغية انتقل إلى مرحلة التحذير، وينذره ويقول له: إن لم تستجب فسأعاقبك إن لم تستجب فسأفعل بك، وهذا من أفضل ما يكون، فيجعل له مدة في الإنذار بالعقوبة، ويعوده على أنه ينذره مرة أو مرتين، ثم الثالثة إذا أنذره فعل به ما وعده، فلا يتأخر؛ لأنه إذا وعده أنه يضربه أو يؤدبه وفعل الصبي خلاف ما أمر أو ترك خلاف ما أمره به، فإنه إذا تسامح معه اعتادت نفس الصبي ألا تبالي بالإنذار، واعتادت الإهمال، وأصبحت نفسا تستهتر بالنذر، ولكن إذا عوده على أن ينذره المرة الأولى ثم المرة الثانية، فإن رأى المصلحة أن يصبر إلى الثالثة وإلا بطش به.
الأمر الثالث: إذا أراد أن يبطش به، يبطش به على وجه يحمل على مكارم الأخلاق بفعلها على الأمور المحمودة أن تفعل، والأمور المذمومة أن تترك دون قهر ودون مبالغة في العقوبة؛ لأن المبالغة في العقوبة تؤثر على نفسية الصبيان، والأطفال الصغار ذكورا كانوا أو إناثا كما ذكرنا، فلابد أن تكون العقوبة معقولة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ولطم الصور -يعني لطم الوجه- وكذلك أيضا نهى عن الضرب المبرح بالنسبة لتأديب المرأة.
هذا الأصل الشرعي: أنه يعاقب بهذا التدرج، وقد ينتهي به الأمر إلى العقوبة وهي المرحلة الأخيرة، فنحن أحببنا أن ننبه على ذلك؛ لأن البعض بمجرد أن يسمع أن للوالد أن يؤدب ولده يبطش بالولد مباشرة، وإنما المنبغي التفصيل، ولذلك قال الله تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34] ، فذكر ثلاث مراتب: الوعظ والتذكير بالله عز وجل ثم الهجر في المضاجع.
والهجر في المضاجع يقابله في الأولاد كف الحسنات عنهم، يعني لو كان من عادته أن يأخذ ولده إلى نزهة في نهاية الأسبوع، ومن عادته أن يذهب به إلى مكان يحبه، ففي ذلك اليوم الذي يترك فيه واجبا أو يفعل فيه محرما يمتنع من أخذه، وهذا ينبغي أن يكون بأسلوب حساس جدا، يعني بطريقة لا تجعل الولد ينقطع رجاؤه في خيرك ويصبح مبلد الإحساس.
بل عليك أن تكون حكيما، واعلم علم اليقين أنك مهما أوتيت من عقل وبصيرة فلن تستطيع أن تربي ولن تستطيع أن تعلم ما لم تكن موفقا من ربك.
فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وكما قال تعالى: {وما توفيقي إلا بالله} [هود:88] فمن افتقر إلى ربه أغناه وسدده.
فالمقصود أن الوالد إذا أدب ولده فكسر يده، أو رجله، فالأصل أنه لا يريد ذلك، ومن هنا تسقط عنه المؤاخذة ولا يجب عليه الضمان.
كذلك السلطان مع رعيته، لو أن السلطان جيء له برجل فعل جناية؛ يعني فعل فعلا لا يبلغ حد العقوبة المقدرة شرعا، فمثلا: لو آذى امرأة أذية لم تصل إلى الزنا والاعتداء على عرضها، فنظر السلطان فأراد أن يعزره فأمر مثلا بجلده أسواطا، فلما جلد سقط الرجل فانشل، أو سقط الرجل فشلت يده أو رجله، أو أصابه مرض بسبب هذا الضرب، فحينئذ لا ضمان على السلطان، ولذلك جاء عن علي رضي الله عنه -وهو قضاء عمر في القود في الحدود- أنه قال: الحق قتله.
وهذا أصل عند العلماء، لكن المشكلة أن التعزيرات فيها الضمان بخلاف الحدود، وهذه مسألة سنناقشها إن شاء الله أكثر في باب التعزير بإذن الله عز وجل.
بين المصنف رحمه الله أنه لا ضمان على هؤلاء، والعلة في هذا كما ذكرنا: أننا لو ذهبنا نضمنهم لتعطلت المصالح العظمى من التعليم والتربية وردع الناس، ولذلك لا يضمن السلطان إذا أدب رعيته.
لكن كل هذا بشرط أن يكون التأديب لا مجاوزة فيه للحدود، أما لو أن السلطان أمر بجلد رجل بطريقة مضرة مؤلمة فإن حصل الضرر فإنه يضمن، وهكذا
التسبب في إسقاط الحمل وضمانه
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنينا ضمنه المؤدب] بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة: أنه لو أدب رجل امرأة حاملا فأسقطت جنينها فإنه يضمن الجنين، والسبب في ذلك: أن الضرر متعد، والتأديب متعلق بالحامل، والجنين لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، ولأن الحامل أمرها على الخطر، ولذلك كان يجب عليه أن يتحفظ وأن يتقي ما يوجب الضرر، ومن هنا حكم بوجوب الضمان عليه؛ لأنه لا يخلو الأمر من إفراط في التأديب وخروج عن الأصل، فنقول: إن الضمان لازم، ولا يسقط التأديب حق الجنين وضمانه؛ لأن الضرر هنا متعد، وبينا أن التأديب متعلق بالمرأة نفسها وبالمؤدب، فالمصلحة للمؤدب نفسه، وأما الجنين فلا ذنب له ولا علاقة له، فلذلك بقي على الأصل من وجوب ضمانه، وعليه: فلا تتعارض هذه المسألة مع مسألة ما إذا أدب الأب ولده فمات، أو أتلف عضوا من أعضائه، أو أدب المعلم تلميذه ولم يفرط في التأديب -كما تقدم معنا- فحصل الضرر، فإنه يسقط الضمان.
وقد يستشكل طالب العلم كيف قلنا: إن المؤدب لا يضمن، وهنا لو أدب امرأة حاملا فأسقطت جنينها ضمن؟ ف
الجواب أن المسائل المتقدمة معنا تعلق الضمان بالأصول التي هي محل المصلحة من جهة التأديب، فالولد إذا أدب هو الأصل المنتفع بالتأديب، وقد أذن الشرع بتأديبه، وأما هنا فإن الضمان للفرع وليس للأصل، وقد أمر الله بتأديب الأصل وأحل تأديب الأصل، ولكن الفرع لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، وهذا من دقة الشريعة الإسلامية، {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164] ، فالجنين لا ذنب له، ولذلك يجب ضمانه، وفيه حق لورثته، فيجب ضمان هذا الحق لصاحبه.
قال رحمه الله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى، أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي] .
قوله: (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى) ذكر مسألة ضمان الجنين من المؤدب، وألحق هذه المسألة تبعا، هي ليست أساسا في الباب، ولكن من باب ذكر النظائر والمسائل في مظانها.
صورة المسألة: أن تكون هناك امرأة لزم حضورها إلى مجلس القضاء أو إلى مجلس الحكم، وطلبت من أجل أن يكشف حق الله عز وجل عندها، فارتعبت وأصابها الذعر فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط ترتب عليه ضرر متعلق بالجنين، والجنين لا ذنب له كما ذكرنا، نعم المرأة تطلب تطلب، ولكن الجنين لا ذنب له، فنسأل: كيف سقط هذا الجنين وبأي سبب؟ فوجدنا أن الطلب والأمر بإحضارها أحدث الرعب الذي نشأ عنه إسقاط الجنين، فيكون قتلا بالسببية -كما تقدم معنا في صور القتل بالمباشرة والسببية- فيجب الضمان، وهذا أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله أنه يجب الضمان للجنين، وأنه لا يسقط خلافا لما اختير من القول بعدم الضمان، والصحيح أنه يضمن.
قال: [أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له] .
الشرط: جمع شرطي؛ لأن الشرطي يحدث الرعب والخوف، ولذلك إذا استعدى عليها -يعني: اشتكاها- وجاءها بالشرط ووقف على بابها فإن هذا يحدث عندها الرعب والخوف، ومن هنا فعله هذا تسبب في سقوط الجنين وحصول الضرر لطرف لا ذنب له، وله دعوى على المرأة نفسها.
قوله: (استعدى) يعني: طلب؛ إما أن يقيم عليها دعوى ثم يطلبها، أو يشتكيها إلى الشرط ثم يبعث معه الشرطي فيقف على بابها فيحدث لها هذا الخوف والرعب ويأمرها بالنزول، سواء كان ذلك بصورة الخوف؛ مثل أن يتكلم بكلام يحدث عندها الخوف والرعب، فارتعبت المرأة وخافت فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط جاء بسبب الخوف، والذي تسبب في الخوف وتعاطى أسبابه هو هذا المستعدي؛ لأنه لولا الله ثم استعداؤه ما حصل هذا كله، ولذلك يتحمل مسئولية فعله.
قال: [فأسقطت، ضمنه السلطان والمستعدي] .
ضمنه السلطان في الصورة الأولى إذا طلبها للحضور، والسلطان يشمل القاضي، وهذا أكثر ما يقع من الصور، أنه في مجلس القضاء تكون هناك دعاوى مثلا: لو أن قاضيا أراد أن يطلب امرأة لحق من حقوق الله عز وجل فطلبها، لحق من حقوق الله فاسقطت فإنه يضمن، وعليه فلو طلبها ظلما فمن باب أولى وأحرى، وهذا من باب التنبيه بالأدنى لكي ينبه على ما هو أعلى منه وأولى بالحكم منه، فبين رحمه الله أن القتل بالسببية في هذه الصور لا يكون قتلا من كل وجه، الجنين إذا نزل فاستهل صارخا ثم مات بفعل السقوط والإسقاط لا شك أن الضمان يكون كاملا، لكن سيأتي أن فيه الغرة إذا كان ميتا، أو أسقطته ميتا.
فالشاهد من هذا: أن السلطان يضمن، والمستعدي يضمن، لكن الإشكال في السلطان والقاضي، هل يكون الضمان في ماله أو في بيت مال المسلمين؟ من أهل العلم من قال: إنه إذا طلبها من أجل جريمة أو من أجل حق يتعلق بالمصلحة العامة، فإن عنده مبررا شرعيا، وهذا المبرر متعلق بمصلحة المسلمين العامة، ولذلك يجب ضمان هذا التلف الحاصل من بيت مال المسلمين؛ لأنه مأمور شرعا أن يطلبها، وعند السلطان عذر أن يستدعيها، فقالوا: في هذه الحالة يكون الضمان من بيت مال المسلمين، هذا أصل في القضاة والحكام؛ أنهم إذا تصرفوا بما فيه المصلحة العامة، وكان على وفق الحدود الواردة شرعا، ولم يخرجوا عنها، فإنه يكون الضمان من بيت مال المسلمين بما يشاء من الضرر؛ لأنهم قصدوا مصلحة المسلمين العامة، وسواء فيما يتعلق بشجارات الأفراد أو خصومات الأفراد إذا قصد بها المصلحة العامة وطلب القاضي هذه المرأة من أجل هذه المصلحة، وفي كشف حق الله عز وجل في قضية أو أمر لابد من حضورها، فإنه حينئذ يجب ضمان هذا الضرر المترتب على هذا الفعل الذي يقصد به المصلحة العامة من بيت مال المسلمين، ولا يكون من مال السلطان الخاص، لكن لو أنه أسرف وتجاوز أو كان فيه ظلم ضمن من ماله الخاص، هذا الفرق بين الصورتين، والصحيح أنه يضمن من بيت مال المسلمين.
أما المستعدي: فلا إشكال أنه يجب ضمانه من ماله الخاص؛ لأن الأصل في الضمان أن يكون على هذا الوجه بالنسبة له.
قال: [ولو ماتت فزعا لم يضمنا] .
إذا مات الجنين ضمن المستعدي وضمن السلطان، لكن لو أن المرأة نفسها ماتت من شدة الخوف فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا ضمان، لا على السلطان ولا على المستعدي، فلو أن السلطان استدعى امرأة، فمن شدة الخوف سقطت ميتة، أو جاء رجل واشتكى امرأة ومن شدة الخوف سقطت وماتت، أو اشتكى رجلا معروفا بالخوف، وليس الخوف خوف ذلة ومهانة، وإنما الخوف الطبيعي الجبلي، الذي وقع لأنبياء الله عز وجل، قال تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف} [طه:67 - 68] ، فالخوف فيه جبلة للإنسان، فإنه يخاف من الشيء الذي فيه ضرر، وقد يكون حييا، وقد يكون عزيز النفس، فبمجرد أن يستدعى لمثل هذه الأمور تضيق نفسه وتتألم ويتعب، وقد يموت قهرا، يعني: ليس فيه ذلة أو خوف أو جبن، وإنما قد يكون هذا لعوارض أخرى، وقد تجد مثلا الرجل في علمه وخطابته وقوة بأسه ربما لو قام شخص يناقشه يضيق من الغيظ فلا يستطيع أن يجيبه، لكن ليس هذا دليلا على خوفه وجبنه، فقد يكون من القهر، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قهر الرجال، وقال موسى عن نفسه: {ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} [الشعراء:13] ، فقد تكون الحوابس عوارض ذاتية في النفس، فالناس يختلفون في طبائعهم.
فالمقصود من هذا: أنها لو استدعيت إلى مجلس القضاء وماتت فزعا، أو خرجت من بيتها فماتت فزعا، أو حبس على بيته فامتنع من الخروج حتى مات فزعا، في هذه الحالة اختلف العلماء: قال بعض العلماء: يجب ضمانه، وهذا هو الصحيح، والمصنف اختار عدم الضمان، والمذهب على أنه يضمن السلطان ويضمن المستعدي؛ لأنه لا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبل، لكن الذين قالوا: إنه لا يضمن، قالوا: لأنه طلبه لحق الله عز وجل، وهذا أشبه بالمؤدب إذا أدب، والواقع أن هناك فرقا بين التأديب وبين الطلب؛ لأنه بالطلب لم يثبت الحق بعد، ولم يجب تأديبه بعد، ولم يثبت السبب الموجب للإسقاط، لكن إذا أدب المعلم فإنه لا يؤدب إلا بعد الخلل، فوجد الخلل المقتضي للتأديب، أما هنا فقد استدعى، ومن المعروف أن الخصم إذا استدعي أول شيء يطلب، ثم بعد ذلك يناقش ويثبت عليه الحكم، وبعد ثبوت الحكم يؤدب، فنحن لم نثبت عليه جريمة بعد، وحينئذ لا وجه لتعميم الحكم بالإسقاط، لكن لو أنه كان مجرما وطلبه السلطان من أجل إقامة حق الله عليه فمات فزعا يصح قول المصنف أنه لا يضمن، ولذلك الأوجه والأشبه في هذه المسألة أن تستثنى منها ثبوت الحق في مجلس القضاء؛ لأن هذا مبني على مسألة الحكم على الغائب، وستأتينا في القضاء، فإذا حكم عليه غيابيا، وثبت الحكم عليه غيابيا، وطلب بعد ثبوت الحكم عليه، فقد طلب لحق الله عز وجل.
لكن في أكثر الصور من حيث الأصل أنه يطلب المدعى عليه، ثم بعد ذلك يجيب عن دعواه، فيقر أو ينكر، ثم بعد ذلك تجري القضايا على السنن الشرعي، وحينئذ لا نستطيع أن نقول: إنه في كل مسألة يسقط الحق، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يسقط الضمان، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يجب الضمان، فيفصل على حسب ثبوت الحق عليه، بحيث يكون الاستعداء والطلب صحيحا شرعا، وبين أن يكون غير ثابت عليه ما ادعي، فحينئذ يكون الأشبه ضمانا كما هو المذهب.
تقديم المباشرة على السببية في المكلف العاقل
قال رحمه الله: [ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه] .
(ومن أمر شخصا مكلفا) المكلف: البالغ العاقل (أن ينزل بئرا) أن ينزل بئرا يحضر له شيئا، أو يحفر بئرا، أو -نسأل الله العافية- مثلما يحدث لبعضهم بأن يعجز غيره فيقول له مثلا إذا كان سباحا: لا تستطيع أن تبلغ قعر البئر، فيقول له: بلى أستطيع، فينزل فيموت، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة، السببية: حينما قال له: انزل إلى البئر، والمباشرة حينما باشر الشخص نفسه النزول، فأصبحت الجريمة فيها سببية من جهة الأمر بالنزول، فيفصل في هذا: فإذا كان الآمر له قوة وأكره الشخص على النزول فنزل وتلف؛ ضمنه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان له قهر وأكرهه على النزول فيكون في حكم من غصبه على فعل، وهذا الفعل أدى إلى الضرر، فيضمن من غصب وأكره وقهر.
الصورة الثانية: أن يقول له بمحض الاختيار: تحفر لي هذا البئر؟ أو تصعد هذه الشجرة وتجني لي منها المحصول؟ فإذا كان حفر البئر محفوفا بالخطر؛ وهو انهيار البئر أو انهيار جزء منه، فحينئذ لو حفر البئر فانهال عليه فمات لم يضمنه الآمر؛ لأن الأمر سببية والنزول مباشرة، والمكلف العاقل كان ينبغي عليه ألا يخاطر بنفسه، فلما خاطر بنفسه تحمل المسئولية عن نفسه وسقط حكم السببية، وتعلمون كما تقدم معنا في القاعدة (أن المباشرة تسقط حكم السببية) فهذا قد باشر قتل نفسه بتعاطي الأسباب وإن كان الآمر لا سلطان له عليه.
لكن هناك مسألة التغرير؛ ومسألة التغرير صورة مستثناة، وهي أن يقول له: مثلا في داخل هذا البئر ذهب، أو: في داخل هذا البئر مال إن أحضرته أعطيتك نصفه، أو يقول له مثلا: هذا كتابي قد سقط في هذه الحفرة، انزل فائتني به، ويكون في داخل الحفرة ثعبان، أو سبع مفترس، ولا يخبره بذلك، فيغرره باقتحام المباشرة الموجبة للهلاك والتلف؛ لأن الغالب أنه إذا خلا مع السبع افترسه وأهلكه، وإذا اختلى مع الحية أهلكته، فإذا غرر به على هذا الوجه لم يسقط الضمان.
وإن قصد قتله وغلب على الظن أنه يقتل ويموت بهذا، أو علم أن البئر له مورد ماء ينهار بعد دقائق أو بعد لحظات، وأمره بالنزول من أجل أن ينهار عليه قاصدا قتله، فهذا قتل عمد، وهو من باب التغرير، والتغرير له تأثر، وفي بعض الأحيان ينزل التغرير منزلة السببية، وبعض الأحيان ينزل منزلة المباشرة، وبعضهم يعتبره من القتل بالسببية.
على كل حال: من أمر مكلفا أن يحفر بئرا، فالمكلف يتحمل مسئولية نفسه، وهكذا لو قال له: أريدك أن تطلي لي واجهة البيت، فأحضر السلالم وبدأ بطلائها فسقط، فإنه في هذه الحالة لا يضمن، سواء هلك أو ترتب على سقوطه ضرر؛ لأن هذه الأفعال المكلف العاقل لا يخاطر بنفسه بإتيانها، وهو مسئول عن مباشرتها، فإذا اختار أن يفعلها بطوعه دون قهر ودون إكراه على الفعل فإنه لا يضمن الآمر والطالب شيئا.
والذي يختاره الأئمة رحمهم الله أنه لا ضمان على الآمر؛ لأن المكلف متحمل لمسئولية نفسه.
ومن هنا: المستأجرون في الأعمال والحرف لا ضمان على أصحاب الأعمال من حيث الأصل؛ لأن العمال مستأجرون في الأصل مكلفون عاقلون، لكن لو أنه أكرههم وقصرهم على فعل هذه الأفعال بغير اتفاق سابق، يعني: لم يكن اتفاقه مع العامل أنه يطلي له واجهة منزله، ولم يكن اتفاقه مع العامل أنه يشتغل هذه الأعمال الخطرة، فقال له: لابد أن تشتغل، وأكرهه على فعلها، حينئذ يضمن، وبناء على ذلك يفصل فيها، ومن حيث الأصل ما دام أن العامل عاقل ومكلف فإنه يتحمل مسئولية نفسه في القيام بهذه الأعمال الخطرة، وما ترتب عليها من أضرار، وهذا من عدل الشريعة، كما أن العامل يأخذ المنفعة والمصلحة كذلك يتحمل الضرر (فالغنم بالغرم) فهو يتحمل مسئولية نفسه إن حصل له ضرر، وإذا لم يحصل له ضرر أخذ النتيجة والمنفعة.
قال: [ولو أن الآمر سلطان] .
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، وليست القضية خاصة بالسلطان، وإنما المراد وجود الإكراه، فبعضهم يقول: إذا كان مثله لا يرد طلبه فإنه بسيف الحياء والقهر، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يسقط الضمان على السلطان؛ لأن هذا مكلف، وكان بالإمكان أن يقول له: لا أستطيع أو لا أخاطر بنفسي، لكن قالوا: الخوف والرعب يمنعه من ذلك فيكون شبه مكره على هذا.
من حيث الأصل مذهب المصنف قوي، لأنه كان المفروض أن هذا المكلف يقول: لا أفعل هذا الشيء، ويمتنع من فعله؛ لأنه مأمور بحفظ نفسه، وغاية ما سيفعله به السلطان أن يؤذيه أو يضره، وإذا قتله السلطان إذا امتنع فأن يقتل شهيدا خيرا من أن يتعاطى أسباب قتل نفسه، هذا وجهه، ولذلك قول المصنف من حيث الأصل صحيح قوي.
ومن حيث النظر وهو الاحتكام إلى العادة الصحيحة؛ لأنه جرت العادة أن مثل هذا يغلبه الخوف ويكون فيه شبه بالمكره، لكن قول المصنف من حيث الأصل قوي جدا، وعلى هذا سنخرج بخلاصة: أن السلطان أو غيره لا تأثير له ما لم يقهر قهرا فعليا، بحيث يضغط عليه وينزله قهرا وبدون طواعية، فإذا فعل ذلك فإنه حينئذ يلزمه الضمان.
قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره] .
كذلك نفس المسألة؛ لأن الإشكال هو في إثبات صورة تكون في حكم الإكراه، أما لو أكرهه قوة وقسرا فلا خلاف أنه يضمنه، فإذا أكرهه وقسره على النزول إلى البئر، وانهار به البئر، أو قال له: لابد وأن تأتيني بما في قعر هذه البئر، وهو سباح، وقعر البئر بعيد، فنزل فهلك، فإنه حينئذ يضمنه إذا قهره، أما إذا لم يحصل قهر فالأشبه ما اختاره المصنف أنه لا ضمان عليه.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:24 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (503)

صـــــ(1) إلى صــ(4)



شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [1]
جرت عادة الفقهاء أنهم يفرقون في الديات بين دية النفس ودية الأعضاء وغيرها، والأنفس تتفاوت في ذاتها من حيث الضمان، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث وهكذا، فلما اختلفت الديات وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.
مقادير ديات النفس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب مقادير ديات النفس] .
تقدم معنا أن الدية واجبة في القتل، وأن للأعضاء والمنافع دية أيضا تقدر بحسب الضرر المتعلق بالعضو والمنفعة.
والمصنف رحمه الله بعد أن بين لزوم الدية وفصل في دية العمد وشبه العمد والخطأ؛ التي هي أنواع القتل، شرع بعد هذا في بيان مقدار هذه الدية، وبناء على ذلك فإنه يتكلم على القدر الواجب من الديات، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان هذا، وتعتبر هذه المسألة من المسائل التي أجملها القرآن وفصلتها السنة؛ لأن الله يقول: {فدية مسلمة} [النساء:92] ، فأجمل هذه الدية، هل هي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو هي من الذهب أو الفضة، أو من مجموع هذه الأشياء؟ فهذا إجمال، وبينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت أقضية الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين المأمور باتباع سنتهم رضي الله عنهم وأرضاهم بتفصيل هذه الديات.
والمقادير: جمع مقدار، والمراد بذلك: القدر الذي فرضه الله عز وجل.
والسبب في هذا: أن الأنفس تتفاوت في ضمانها، وتختلف هذه الدية بحسب الأنواع، فالدية من الحيوان من الإبل والبقر والغنم تختلف في مقاديرها في الإبل ومقدارها في الغنم والبقر، ومن هنا أفرد المصنف رحمه الله بابا لبيان هذه المقادير، سواء كانت في الأثمان من الذهب والفضة، أو في الحيوانات.
وقال: [مقادير ديات النفس] لأن الدية إما في النفس وإما في الأعضاء، وإما في الجروح والشجاج، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله أن يفردوا دية الأنفس على حدة؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي الذي له دين ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث، ومن هنا اختلفت مقادير الدية، ولما اختلفت وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.
قوله رحمه الله: [باب مقادير ديات النفس] .
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتقدير الديات خاصة بالأنفس، وحينئذ لا يتكلم على دية الأعضاء والمنافع، لأنه سيأتي الكلام عليها تبعا، فابتدأ بالأعلى وهو دية النفس، وسيتبع ذلك بالأدنى كما سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.
دية المسلم الحر
قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير] .
الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل) .
قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبدا فإنه يضمن بقيمته.
قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس.
والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حبا شديدا، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره.
وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأسا في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساسا وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل.
ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلا شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلا عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلا على واحد منهم أن يدفع بعيرا ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيرا من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة.
هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه.
قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهبا] .
مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلا من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعا على الدينار الذي كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية.
وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالا تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال.
قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة] .
هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالا أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالا وكلاما طويلا للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم.
لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضا أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلا في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفا، سواء كانت عدلا للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهما، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفا له صار أصلا، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضا عن الذهب، يعني: ليست مقابلا من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلا فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلا حينئذ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر.
قال: [أو مائتا بقرة] .
يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعا، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما.
وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم.
أيضا: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عرابا أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عرابا أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع.
وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا.
قال: [أو ألفا شاة] .
وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة.
قال رحمه الله: [هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله




الأسئلة




سبب وجوب الضمان في الإسقاط
السؤال إذا أسقطت الحامل جنينها خوفا فهل يكون الضمان على الإسقاط أم على موت الجنين، وهل إذا أسقطت وعاش الولد فلا ضمان؟
الجواب إذا كان الجنين حيا وأسقطته ميتا ففيه غرة؛ وليدة أو عبد، وأما إذا أسقطته وعاش وحيا ثم مات فحينئذ لا ضمان، الحمد لله أتى الله بالفرج، فبدل أن تتعب في الولادة أسقطته، يعني: ليس هناك قتل ما دام خرج حيا وبقي.
على كل حال: لا ضمان عليه؛ لأنه -كما تقدم معنا في القتل- إذا عاش الجنين ثم مات بعد ذلك فإن هذا الموت بسبب آخر؛ لأنه لو كان بالإسقاط لمات فورا، ولذلك يفرق بين السبب المؤثر والسبب الضعيف، وهنا السبب ضعيف جدا، ويقول العلماء: إذا وجد الفاصل يقول العلماء: السبب لا يؤثر؛ لأن غالب الظن أنه مات بقدر، ليس له عمر، وكتب الله أنه يموت بعد ولادته، لكن إذا أسقطته ميتا فهذا ضمانه بالغرة كما ذكرنا، والأصل فيه حديث اقتتال المرأتين من هذيل، وهو حديث في الصحيح، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين لما أسقطته بغرة؛ وهي وليدة أو عبد وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مقادير الديات، والله تعالى أعلم.
حكم ضمان رب العمل للعامل إذا تضرر
السؤال أحيانا يتعرض العمال لحوادث من جراء التعامل مع الآلات والمكائن، فيبعد العامل عن العمل فترة طويلة يخضع فيها للعلاج، فهل يجب على صاحب العمل أن يمضي له أجرته الشهرية حتى وهو مبعد عن العمل؟
الجواب من ناحية شرعية ليس ملزما، فالعامل إذا عمل وباشر العمل فهو متحمل لمسئولية نفسه، فإذا قطعت يده من المنشار فهو الذي باشر العمل، ولا يحصل القطع إلا بإهمال من نفسه، وحينئذ لا ضمان عليه؛ لأن رب العمل ليس هو الذي أمسك هذه الآلات ولا هو الذي حركها، ولا هو الذي باشر الضرر الذي فيها، فالعامل متحمل لمسئولية نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، عنده خبرة وعنده معرفة.
إذا بقي للعلاج ففضل من رب المال أنه يتولى نفقته ويتولى الإحسان إليه، لكن لا يجب عليه ذلك، إنما تجب عليه الأجرة إذا أعطاه عملا وقدم له عملا، هذا هو الأصل الشرعي، ولا يلزم رب المال أن يدفع أجرته حتى يشفى ويعافى، فإن هذا ما أنزل الله به من سلطان.
الشريعة عدل وقسط لا جور فيها ولا غلو، لا نأتي ونقول: حقوق العمال! ونغلو في هذا الباب، ولا نأتي ونقول: حقوق أرباب العمل، كما أن العمال لهم حقوق كذلك أرباب العمل لهم حقوق، ولذلك الشريعة لا تغلو.
تجد البعض يقول: أنا فقط مع الضعيف، فيأتي في حق الضعيف ويغلو على حساب حقوق الآخرين، وهذه هي المدنية الزائفة التي هجمت على الناس مناقضة لشريعة الله في كثير من المسائل، وعندما يأتون لحقوق المرأة فيصيحون: حقوق المرأة.
حتى تذهب حقوق الرجال، يا ليت للرجال أناس ينادون بحقوقهم! يعني: تضيع حقوق الرجال على حساب مسألة حقوق النساء، وهذا سبب الغلو في الطرف، فالضعيف في الشريعة ضعيف حتى يرد له حقه دون غلو، فإذا غلي في حقه صار الطرف الآخر هو الضعيف الذي يضيع حقه، فالشريعة لا تنظر إلى هذا الغلو، وإلى هذه النظرات الضيقة التي تخالف شرع الله عز وجل، والتي تبالغ في حق الشخص حتى يكون على حساب غيره، ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نشهد شهادة الحق: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما} [النساء:135] ، إن كان قويا أو ضعيفا فالله أولى بهما أيضا، فبينت النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل أنك إذا جئت تشهد لضعيف لا تشهد له بالباطل وتقول: والله خصمه غني أريد أن أشهد له، فالغني لا يضره لو دفع عشرة آلاف أو خمسة آلاف عوضا.
فهذا لا تأذن به الشريعة، وليس من حقك أن تتدخل في غني أو فقير، ولا في قوي أو ضعيف، فالله هو الذي يحكم، أما أنت فملزم أن تؤدي شهادتك على وجهها، فنقول: العامل هو الذي قام بهذا العمل، وهو الذي فعل هذا الضرر، وترتب على عمله بيده ومحض إرادته هذا الضرر، فيتحمل مسئولية نفسه هذا الأصل الشرعي.
بعد هذا من الإحسان تكرما من رب المال وتفضلا منه، ومن باب حفظ العهد، وهؤلاء العمال فيهم ضعف، ومنهم من لا يجد حتى براتبه إلا قدر سداد الكفاية، فكون رب المال يريد أن يضع له راتبا مستمرا حتى يبارك الله له في ماله فجزاه الله كل خير، وأكثر الله من أمثاله وأعظم أجره، لكن أن يلزم ويفرض عليه ذلك فلا، هب أن فقيرا جاء بعامل من أجل أن يصلح له بابا أو يفعل له شيئا، ثم انكسرت يده، فهل يظل الفقير يصرف عليه حتى يشفى؟ أبدا الشريعة ليس فيها هذا، الشريعة تقول: كل شخص يتحمل جناية نفسه، {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164] {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، فهو من ألحق الضرر بنفسه، إذ لو قام بعمله كما ينبغي وتحفظ لما حدث هذا الشيء، فلما أهمل وقصر حصل الضرر فهو يتحمل مسئولية نفسه، ولا يلزم رب المال بدفع الأجرة له، ولا بمعالجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك والله تعالى أعلم.
التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء
السؤال هل يستحب لطالب العلم في دراسته للفقه التوسع في مسائل الخلاف وأقوال العلماء، أثابكم الله؟
الجواب إذا أراد أن يشوش على نفسه ويتعب ويضيع يتوسع، الفقه يؤخذ بالتدرج، فيبدأ في المذهب بالدليل ويأخذه ويؤصله ويراجع المرة تلو المرة، ويقرأ في هذا الذي سمعه من الشيخ أو قرأه في الكتاب المرة بعد المرة؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل، فكل درس يحضره طالب العلم يسمع فيه حكما شرعيا فقد تحمل أمام الله المسئولية عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فلا بظن أحد أن حضور مجالس العلماء هو من باب إضاعة الوقت والتفكه والتندر أبدا هذه المسألة تسأل عن حفظها وضبطها، خاصة إذا كنت من طلاب العلم المتخصصين، فيجب عليك إتقانها.
فالمشكلة أن بعض طلاب العلم بمجرد أن يأخذ هذه المسألة يذهب إلى أقوال العلماء ويبحثها في المطولات، فيدخل في بحر لا ساحل له.
طالب العلم أول ما يبدأ بالتأصيل، ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، فيأخذ من شيخ الزبدة والدليل، ثم بعد ذلك إذا جاء أحد يشوش عليه بقول مخالف يسكته، يقول: هذا الذي أعرف، وهذا الشيخ أدين الله عز وجل أنه متمكن في علمه، وأعتقد قوله بالدليل؛ لأنك ستقف بين يدي الله وتعتقد شيئا بالدليل، الممنوع أن تتعصب بدون دليل، فإذا قال لك الشيخ حكما بالدليل تبقى عليه، فإن جاءك شخص يشوش عليك بقول آخر أو بدليل آخر فقل له: أنا والله لم أبلغ درجة الاجتهاد حتى أعرف هل هذا الدليل يصح أم لا يصح، وقد يكون في الصحيحين لكن دلالته ليست صحيحة.
وهذا ليس خاصا بالمسائل، وإنما يشمل حتى الفتاوى في الحوادث التي تقع، تجد فتوى عن علماء أجلاء يذكرون قولا، ثم يأتي شخص ويعقب على هذه الفتوى بعشرات الأحاديث والآيات والله لو تأمل المتأمل لوجد أنها لا علاقة لها بهذه المسألة التي أفتي فيها لا من قريب ولا من بعيد، والسبب في هذا: أن البعض يغتر، وبعض الأحيان تأتي مسألة يؤصلها العالم بأدلتها وحسن النظر فيها وهو يعرف كيف يفتي، ولا يمكن أن تتجاوز الفتوى فيها خمسة أسطر، ويأتيك شخص يؤلف كتابا فيها؛ لأنه يجمع من هنا ومن هناك، ويأتي بأقوال العلماء ويسردها ويفهمها بفهمه، ويؤولها بتأويله، ويسوغها على حسب ما ظهر له، وأما العالم النحرير فإنه يعلم ما الذي يقوله، ويعرف ما هي أصول الفتوى، وكيف يخاطب الناس بفتاويه، وكيف يؤصل؛ لأنه يعلم أن كل كلمة محسوبة، وأن كل عبارة يمكن أن تؤول ويمكن أن تصرف، فلذلك لا يتشتت طالب العلم، فإذا وجدت إنسانا تثق بدينه وأمانته وعلمه، أو شهد له أهل العلم أنه أهل؛ سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ودرست على يده وأخذت على يده فأنت تبقى على قوله بالدليل، لكن اضبط هذا الذي تسمعه.
وهذه هي مشكلة بعض طلاب العلم فإنه لا يضبط الذي يسمعه، وإنما ينشغل بشيء آخر فيقرأ كتبا كثيرة، ثم يقول: والله أنا لا أستطيع أن أركز، وهذا ما هو إلى بسبب عدم المنهجية وعدم وضوح الطريق الذي يسير عليه طالب العلم، وثق ثقة كاملة أنك عندما تلخص كل درس، وتلخص أحكامه بالأدلة، وتعتقد هذه الأحكام بدليلها وتخاف من الله عز وجل في كل شيء تنسبه إلى الشريعة ألا تنسبه إلا بقول عالم يوثق بدينه وعلمه، حتى في الفتاوى، فليس كل شخص وجد منشورة يوزعها من باب بيان الحق وهو لا يعرف هل هذا الذي أفتى بما فيها إنسان من أهل العلم أم لا، أو إنسان يوثق بعلمه أم لا، وقد تكون في المعضلات والمسائل التي يقف عليها مصير الأمة.
والمشكلة: أنك لا تشك أن من يفعل هذا ويتبعه أنه يريد الحق والخير، فالخوارج رفعوا القرآن على أسنة الرماح وقالوا لـ علي: (لا حكم إلا الله) هل يستطيع أحد أن يرد هذا القول؟ ماذا قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل) .
هذا من رسوخ علي رضي الله عنه الذي كان يقال عنه: (آية في الفقه) رضي الله عنه وأرضاه، وكان ملهما في فقه القضايا، حتى كان عمر رضي الله عنه يستعيذ من قضية لا يحضرها أبو الحسن، وكان إذا جاءته النازلة أول ما يلتفت إلى علي رضي الله عنه، مما أوتي من الفهم، ومع ذلك يرفعون له القرآن.
ليس كل قول يأتي في المطولات يخالف قولك الذي درسته معناه أنه انتهى الأمر، والله كنا بعض الأحيان نشك في بعض مشايخنا من باب ما يحدث للإنسان، فالإنسان بشر، ولكن إذا زالت الفتن وانقشعت عرفنا حقيقة الفتوى وما هي أصولها، وما هو العمق الذي كانوا يتكلمون به، وما هو الأصل الذي كانوا يعتمدونه، وفي دروسهم وجدنا أن هذه الأحاديث التي كان يشوش علينا بها بعض طلاب العلم من أسهل ما يكون الجواب عنها، وأنها إما أعم من موضع النزاع، أو خارجة عن موضع النزاع، ولكننا في البداية كنا نجد الحديث المتفق في الصحيحين يدل على كذا، والآية تدل على خلافه فلذلك ينبغي التريث.
ثم إني أقول: لا مانع أن تأخذ بفتوى الغير، ولا مانع أن تأخذ بأقوال الغير، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا احتقر الشخص قول غيره -نسأل الله السلامة والعافية- فتجده يقول: القول الآخر ضال أو خطأ، ومن باب بيان الحق لابد أن ينشر هذا القول المخالف، ولذلك أنصح كل النصيحة ألا تدخل في الفتاوى وألا تدخل في المسائل بضرب بعضها ببعض، أو الحكم بصواب عالم على حساب عالم آخر، قل: هذا شيخي، وهذا العلم الذي رأيتم بالدليل، وأما غيره فلم يظهر لي، إلا إذا تمكنت من الأصول وقامت علي الحجة، أو خذ الدليل واعرضه على شيخك، أما أن تذهب إلى المطولات وتنظر فيها، أو مثلا تجمع فتاوى في المسألة، فهذا مما تضيع به الأمة.
وأقول هذا بمناسبة الأحداث التي نعيشها الآن: هي مسألة عارضة، نحن ذكرنا من فقه العالم في المسائل التي تطرح على الأمة ألا يتشتت وألا يشتت الأمة معه، هناك ثوابت مسلمة ينبه عليها، ينصح فيها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يستطيع أحد أن يقول: إنه كذب أو إنه أخطأ، هذا أمر ينبغي أن يضعه كل شخص في حسابه، وأن يفهم ذلك وأن يعيه كذلك، ويجب على طلاب العلم أن يحرصوا على غرس منهج السلف الصالح بلزوم الجماعة والبعد عن القيل والقال، وهذا أمر لا يختلف فيه.
إذا حصل اختلاف في المسألة قلنا: في المسألة توقف؛ لأنه إلى الآن لم نعلم الصواب عند زيد أو عمرو، قلنا: كفوا ألسنتكم، هل هذا جاء من فراغ، لو أننا اتضحت لنا الصورة لعرضنا هذه المسألة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا فيها تفصيلا واضحا في مسألة الأحداث التي جرت وما كان لها من تبعات، أما أن يأتي الشخص ويلتقط له فتوى يشوش فيها على فتاوى علماء كبار أجلاء ويتهمهم بالباطل ويتهمهم بالمداهنة وبالممالأة أبرأ إلى الله، اتق الله في نفسك! ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله ويحذر.
إذا كنت تريد أن تقول لشخص حقا وكنت من أهل الاجتهاد قل ذلك، لكن إياك أن تكسب الإثمين فتدخل في نوايا العلماء وقلوبهم، هل كلما وجدنا قولا يخالف العلماء الكبار فمعناه أنه هو الحق، وأن ما قاله العلماء الأجلاء مشكوك فيه؟ هذا حرام ولا يجوز، وما هكذا يقابل العلماء الذين ينصحون للأمة، يا أخي! لست عليهم بمسيطر، ولست تعلم بما في قلوبهم وصدورهم ونواياهم من أنهم يداهنون أو يقصدون غير الله عز وجل، لك الظاهر والله يتولى السرائر، وهم مسئولون أمام الله فيما أفتوا به، فنحن ننبه على هذا؛ لأن هذا من المنهج.
وإذا أفتى أحدهم فتوى وجاء شخص وبرر هذه الفتاوى واتهم العلماء الكبار والله ليقفن بين يدي الله عز وجل، وليسألن عن هذه الأرواح التي أزهقت في هذا الحادث، تفجير ما لا يقل عن مائتي مسلم، وهذا أقل تقدير وقيل: سبعمائة مسلم، سيقف بين يدي الله حافيا عاريا يسأل عن دمائهم، ويسأل عن مشروعية قتلهم، هذا إذا كان يرى أن هذا جائز، أما كون المسلمين هم الذين يفعلون هذا، فلا تستطيع أن تقول: إن هذه الأمة هي التي فعلت هذا الفعل بالمسلمين، وتحتاج المسألة إلى دراسة، هذا إذا كان المسلمون فعلوه، ثم تسأل أمام الله عز وجل عن التبعة التي جرت غير المسلمين إلى بلاد المسلمين، وحدث ما حدث من جميع الآثار والأضرار.
إذا روجت فتوى -تعارض فتوى العلماء- تبرر هذه الأفعال ستقف بين يدي الله لتسأل عمن أفتاك بهذا، لا يحسب الإنسان أنه إذا رأى قولا أن القول الآخر منته، وأن هؤلاء ضعاف، وأن هؤلاء مساكين، وأن العلماء لا يعرفون قول الحق، عليك أن تتريث، وأن تعلم أنه لو سكت عالم يريد أن يستبين الأمور ليس معناه أنه خائف أو جبان، موسى عليه السلام يواعده الله عز وجل أربعين ليلة، ثم يأتي ويأخذ برأس أخيه وبلحيته ويجره لما عبد قومه العجل، {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} [الأعراف:150] ، ويصيح عليه هارون ويقول له: {يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} [طه:94] ، وبين له عذره فقال: {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه:94] ، خاف الفتنة، هذا نبي من أنبياء الله، ماذا قال بعدها: {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} [الأعراف:151] ، ليس كل من سكت معناه أنه خائف أو جبان، من يسكت خوفا من الله أن يوقع الأمة في خطأ أو خلل، ومن يأتي بالأصول والثوابت ليس كمن يطلق العنان لنفسه في الفتاوى، ولا تحسب أن كل فتوى يقال فيها تبرير لأشياء أنها هي الحق والصواب، وما بلغت مبلغ العلم، وكم من أحاديث سردت في تبرير بعض الأشياء والله لا تمت إلى الأمر بصلة، هناك مسائل واضحة عند العلماء في مواجهة الكفار للمسلمين، وقواعدها معروفة، ومسائل الجهاد أدلتها وأصولها واضحة مضبوطة ليس فيها أي إشكال، والمسائل المستثناة لها ثوابت، وهذه المسألة أقسم بالله أنها لو عرضت على عالم جهبذ من علماء المسلمين لجثا على ركبتيه خوفا من أن يقول فيها على الله عز وجل، ومع ذلك تجد من لا يبالي، نحن نقصد نوعية من الناس وإن كانت قليلة وشاذة، وأرجو من الله أنهم حسني النية، ولا نحب أن يأخذهم أحد على


حكم من أفطر قبل دخول الوقت
السؤال في رمضان الماضي أذن المؤذن قبل دخول المغرب، فأفطر بعض الناس، فهل عليهم قضاء؟
الجواب إذا أذن المؤذن قبل الوقت فإنه يجب على الناس أن يقضوا هذا اليوم إذا أفطروا بأذانه، وهكذا لو تأخر المؤذن حتى طلع الفجر ومضى وقت على طلوعه فأمسكوا بأذانه، بمعنى أنهم أكلوا قبل الأذان مباشرة وكان الوقت وقت إمساك فإنه يجب عليهم الضمان.
والأصل في ذلك: أن الله أوجب على المكلف أن يصوم يوما كاملا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وحق الله يجب ضمانه، والخطأ في هذا كونه أذن خطأ فيسقط الإثم ولكنه لا يسقط الضمان للحق، ولذلك الخطأ لا يوجب سقوط الضمان في الحقوق، والله تعالى يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] فقال: (لا تؤاخذنا) والمؤاخذة هي الإثم، فالإثم ساقط بوجود الخطأ ولكن الحق ثابت، ولو أن شخصا استدان من شخص ألفا ثم أخطأ وقال: ليس لك عندي شيء، فإن هذا الخطأ لا يسقط حق الرجل، فلو تذكره بعد فترة يجب عليه أن يسدد، فالخطأ يسقط الإثم أثناء التلبس بالعذر، ولكنه لا يسقط الضمان، وإذا كان هذا في حقوق المخلوقين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دين الله أحق أن يقضى) ، فذمة المخلوق مشغولة بحق الخالق من صيام هذا اليوم تاما كاملا، فيجب عليه الضمان، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: نحب أن نوصي المؤذنين أن يتقوا الله عز وجل في أذانهم، خاصة في شهر رمضان، فلا يجوز للمؤذن أن يتساهل وأن يقوم وقت ما شاء يؤذن للفجر أو يتساهل في أذان المغرب، وعلى أهل الحي إذا وجدوا من مؤذنهم تلاعبا أن يشتكوه وأن يرفعوه إلى المسئولين، وإلا كانوا شركاء له في الإثم؛ لأن أمثال هؤلاء يفسدون على الناس دينهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قال العلماء: مؤتمن على ركنين من أركان الإسلام: الركن الأول: الصلاة، والركن الثاني: الصوم، فهو إذا أذن قبل الوقت في الفطر أو أذن بعد الوقت في الإمساك عرض صيام الناس للخلل، فلا يجوز السكوت على أمثال هؤلاء، بل يجب نصحهم وتوجيههم، فإذا لم يرتدعوا استبدلوا بغيرهم ممن يخاف الله ويتقيه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفسد صيامها، والله تعالى أعلم.
بيان أن الزكاة تكون في أهل البلد الذي فيه المزكي
السؤال إذا كان لدي مال سواء كان أغناما أو مزارع أو أي شيء من عروض التجارة في بلد آخر غير بلدي الذي أسكن فيه، فهل أخرج زكاته في أهل البلد الذي أسكن فيه، أم أخرجها في البلد الذي فيه هذا المال، أثابكم الله؟
الجواب هذه مسألة مبنية على اشتراط إخراج الزكاة في الموضع الذي فيه المزكى، والدليل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا في حديث معاذ في الصحيحين، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الزكاة في نفس البلد الذي هي فيه، ومن هنا يرد السؤال المذكور: هل العبرة بمال الرجل أو بمسكنه؟ الذي عليه المحققون من الأئمة من أصحاب هذا القول أن العبرة بمال الرجل، فيخرجه في الموضع الذي فيه المال، وإن أخرجه في الموضع الذي هو فيه فلا بأس ولا حرج، لكن الأحوط والأسلم أنه يخرجه في الموضع الذي فيه المال، والله تعالى أعلم.
حكم قضاء السنن الراتبة
السؤال من كان مداوما على السنن الرواتب وفاتته سنة راتبة فلم يتذكرها إلا بعد يوم أو يومين، هل يقضيها أم لا؟
الجواب كتب له الأجر، والسنن الرواتب ليست واجبة مثلما ذكرنا في الواجبات في الصوم، فحينئذ السنن الراتبة إذا نسيها كتب الله له الأجر كاملا، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، فإنك إن داومت على قراءة القرآن والأذكار، وداومت على الأعمال الصالحة، ثم -لا قدر الله- أصابك مرض كتب الله لك الأجر كاملا، وقد يكون الرجل في عز شبابه وقوته يسافر في تعليم الناس وتوجيههم، ويسافر للحج والعمرة والأعمال الصالحة، فلما كبر قعد عن ذلك كله، فيكتب الله له أجر شبابه تاما كاملا، فكل من عذر يكتب الله له أجر الطاعة التي يداوم عليها في السفر يكتب له في المرض يكتب له قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله) وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على حبه وطاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:28 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (504)

صـــــ(1) إلى صــ(18)



شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [2]
أصول الدية: الإبل، والذهب والفضة، والبقر والشياه، وبعض العلماء يرى أن الدية الأصل فيها الإبل.
فإذا أحضر القاتل أيا من هذه الصور فإن الولي يلزم بقبولها، وقد جاء في الكتاب والسنة بيان دية القتل والعمد وشبهه، واختلف العلماء في تغليظها.
أصول الدية ولزوم قبول الولي بأي واحد منها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [هذه أصول الدية] تقدم معنا أن المصنف رحمه الله ذكر أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والماشية، ومن أهل العلم من قال: الإبل هي الأصل، وهذا من حيث الدليل أقوى وأصح وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في الديات، وهذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) فنص عليه الصلاة والسلام على هذا الأصل.
وفي حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الديات ما يشهد بهذا، وقد أجمعت الأمة على قبول هذا الكتاب والعمل به، كما ذكر ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع.
حتى قالوا: إن شهرته أغنت عن طلب إسناده، والعمل عند سلف الأمة الصالح رحمهم الله والتابعين لهم من الخلف على هذا، أي: العمل بهذا الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) فهذا هو الأصل، والمصنف رحمه الله زاد لنا الذهب والفضة، وفيها قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقدر عمر رضي الله عنه الإبل كما بينا في المجلس الماضي، ومن هنا صارت أصلا ثانيا عند العلماء رحمهم الله.
ثم بعد ذلك البقر والغنم على الأصل الذي ذكرناه في خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه اعتبر البقر واعتبر الغنم بديلا عن الإبل، وبديلا عن الذهب والفضة.
لكن عند النظر من حيث الأصل فإن الإبل هي الأصل، وعلى هذا فهي التي عليها المعول، وإنما لزم الرجوع لهذا للتنبيه؛ لأنه سيرتبط كلام سيأتي للمصنف رحمه الله بهذه الجملة، وأن العبرة بالإبل بالغة ما بلغت، سواء غلت قيمتها أو نقصت فهي الأصل وهي التي عليها المعول.
قال رحمه الله: [فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله] : قوله: (فأيها أحضر من تلزمه) أي: الدية (لزم الولي قبوله) أي: قبول الذي أحضره، سواء كان الإبل أو الذهب أو الفضة أو البقر أو الشياه، على التفصيل الذي تقدم، لكن إذا قلنا: إن الإبل هي الأصل؛ فالأصل الذي يلزم بأخذه هو الإبل، وحينئذ لا يلزم بالذهب والفضة وله الحق أن يقول: أريد الإبل.
هذا من حيث الأصل، لكن العلماء والأئمة رحمهم الله نبهوا على مسألة إذا شحت الإبل وقلت.
مثلا: في بعض الأزمنة مثل زماننا تكثر الحوادث ويكثر قتل الخطأ في السيارات ونحوها، فلو تصورت مثلا السيارة ربما يكون فيها الأربعون ويهلكون في لحظة واحدة، وتلزم دية هؤلاء، فإذا كانوا أربعين، فيلزم لهم أربعة آلاف من الإبل، ثم حادث آخر وثان وثالث حتى تشح الإبل، وحينئذ تصبح عزيزة.
لذلك ذكر بعض العلماء هذا من باب المصلحة المرسلة، وعدلوا بها إلى التقويم؛ أي: تقويمها بالذهب والفضة، والتقويم على وجهين: تقويم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعتبر أصلا عند أهل العلم إذا قلنا: إنها ألف مثقال من الذهب.
وهناك خلاف في مسألة مهمة وهي: هل تقديرات الصحابة في الأحكام تعتبر وقتية زمانية بحسب عرفهم؟ أم أنها باقية إلى قيام الساعة، يعني تعبدية؟ إن تقديرات الصحابة واجتهاداتهم مثل أقضية الصحابة في قتل الصيد التي تقدمت معنا، حينما قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحمامة في الحرم شاة، وهذا حكم وقضاء من خليفة راشد، وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم في الوعل والثيتل، كما قضى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعبد الله بن عباس.
إن قلت: إن هذا القضاء يبقى إلى يوم القيامة فلا يستأنف الاجتهاد فيه، فهذا وجه، ويختاره الحنابلة ويدرجون عليه، ومنها مسألة الحمى؛ فمثلا عندنا حمى عمر بن الخطاب وحمى عثمان رضي الله عنهما، فهل إذا حموا يظل حمى إلى قيام الساعة؟ أم أنه وقتي زماني مقدر بذلك الزمان، فإذا تغير الزمان ممكن أن يجتهد باجتهاد جديد، فيحكم بارتفاع الحمى، ويحكم بتجديد اجتهاد الحكمين في مسألة الصيد، ومن أمثلتها مسألتنا.
فإن قلنا: إن عمر بن الخطاب وقت وحدد الدية على سبيل الإلزام فلا تغير، فننظر قيمة الألف دينار كم تعادل في زماننا، والاثني عشر ألف درهم، ونقدرها بالدراهم، مثل الريالات الموجودة وعدلها من الذهب بالجنيهات والدنانير والدولارات، هذه من جهة الذهب وهذه من جهة الفضة، هذا إذا قلنا: إنها زمانية محددة بذلك العرف.
ويشهد لهذا قول عمر: ألا إن الإبل قد غلت.
ففارق بين زمانها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زمانه هو، فجعل طرو الاختلاف في الأسعار موجبا لطرو الحكم وتجديد الحكم، وهذا وجه عند بعض العلماء رحمهم الله.
وبناء على هذا تصبح الإبل هي الأصل وتخرج من الإشكال كله.
فإذا قلنا: إن الإبل هي الأصل.
أصبح التقدير بالعدل من اجتهاد عمر رضي الله عنه، وفيه أحاديث مرفوعة ضعيفة، وقد بينا هذا وأشرنا إليه فيما مضى.
مقدار دية قتل العمد وشبهه
قال رحمه الله: [ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة] .
أنواع الدية واختلاف العلماء في تغليظها
قوله: [ففي قتل العمد وشبهه] : الدية تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الدية المغلظة.
والنوع الثاني: الدية المخففة، أو مطلق الدية، كما يقول بعض العلماء رحمهم الله.
التغليظ في الدية: التشديد والتعظيم، وأصل الشيء الغليظ هو: الشديد والعظيم، وبعض العلماء يرى أنه يشرع تغليظ الدية، ومنهم من لا يرى التغليظ، والذين يرون التغليظ يختلفون: المذهب الأول: منهم من يحصر التغليظ على صفة القتل، فيقول: إذا قتل قتل عمد أو شبه عمد فإنه تغلظ عليه الدية، ولا يسوى بين دية الخطأ المحض وبين دية العمد وشبه العمد.
والمذهب الثاني يقول: إن الدية تغلظ؛ فتغلظ في صفة القتل، وتغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان، وتغلظ بالشخص المقتول، فيغلظونها إذا كانت في حرم مكة، واختلف في حرم المدينة هل تغلظ أو لا؟ فتغليظها في حرم مكة مأثور عن خليفتين راشدين عن عمر حكاية، وعن عثمان رواية صحيحة، وفي شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف.
فهذا التغليظ أثر عن عمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وصار التغليظ إلى ثلث الدية، يعني يجب عليه دية مع زيادة الثلث، وهذا كما ذكرنا صح عن عثمان رضي الله عنه، ويلاحظ أن التغليظ هنا ليس في الإبل، وإنما هو في النقد، ويشمل الإبل والنقد ولا ينحصر في الإبل وحدها.
قضى عمر بن الخطاب في رجل وطئ في الطواف في البيت بدية وثلث، يعني زاد على الجاني ثلث الدية تعظيما للحرم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا.
قالوا: فهذا يدل على أن الدية داخل الحرم تغلظ، وهذا مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وخالف هذا القول قول آخر فقال: إن الدية لا تغلظ في الحرم.
والقول الأول عند الشافعية، وعند الحنابلة قول به، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكن الرواية التي عليها ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب الحنفية وأهل الرأي، وقول فقهاء المدينة السبعة: على أنه لا تغلظ الدية داخل الحرم.
فلو أخطأ شخص وقتل شخصا في الحرم لا تضاعف عليه الدية، واستدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة، قال: (وأنتم يا خزاعة! قد قتلتم القتيل من هذيل وإني عاقله) فخزاعة قتلت الرجل من هذيل، وكانت خزاعة حلفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول ولم يغلظ الدية مع أن القتل وقع داخل الحرم، وهذا يدل على أن الدية لا تغلظ لا بالزمان ولا بالمكان.
الصورة الثانية عند القائلين بالتغليظ: التغليظ بالزمان، يقولون: من قتل خطأ في الأشهر الحرم، فإننا نوجب عليه الدية وثلثا، وهذا من باب التغليظ بالزمان.
ودليلنا على أن هذا القول مرجوح: أن الله تعالى أمر بالدية، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الدية أنها مائة من الإبل، وغلظ في أثمان الإبل وطريقتها أثلاثا وأرباعا على التفصيل الذي سنذكره، ولم يذكر زيادة على الوارد الذي هو مائة من الإبل.
ولذلك نقول: هذا هو الأصل والذي دل عليه الدليل، وحرمة الزمان هذه لا دليل على التغليظ بها، فنبقى على الأصل الموجب للدية الأصلية وهي مائة من الإبل.
كذلك أيضا عندهم التغليظ في الشخص المقتول، ويأتي على صورتين عندهم: منهم من قال: إذا كان المقتول قريبا للقاتل، فلو قتل والعياذ بالله أخاه يغلظون الدية، وهو ذو الرحم المحرم.
وأيضا عندهم وجه ثان من التغليظ، وهذا وجه قليل من يقول به، وهو التغليظ بغير الصفات، فهم يرون أن قتل المحرم تغلظ فيه الدية.
وكل هذه الأقوال الصحيح أنها مرجوحة، وأنه لا تغليظ إلا في قتل العمد وشبه العمد، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غلظ، ولما جاء قضاء الصحابة مخالفا للمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل الاجتهاد منهم بقينا على الأصل، وقلنا: إن الحجة فيما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب العمل به، والأصل أن مال المسلم حرام حتى يدل الدليل على استباحته، وليس عندنا دليل صريح واضح بهذا التغليظ.
فلا تغلظ الدية إلا في المسألة التي ذكرها المصنف وهي قتل العمد وقتل شبه العمد: لو أن شخصا والعياذ بالله قتل شخصا عمدا، ورفع إلى القاضي لأجل الحكم عليه، فقيل لأولياء المقتول: تقتلونه أو تعفون؟ قالوا: نعفو.
فعدلوا إلى الدية، فإذا عدلوا إلى الدية فإنها تغلظ الدية عليه.
هذا التغليظ فيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: القول الأول: كما ذكر المصنف أن تغليظ الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد فصلنا في كتاب الزكاة أسنان الإبل وبينا المراد بها.
ويجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، كما يجب أن تكون حالة ويحضرها دون تأجيل كما تقدم معنا في دية العمد.
هذا القول اختاره المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، كما هو مروي عن بعض السلف.
القول الثاني: وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الشافعية، ورواية أيضا عن الإمام أحمد: أن التغليظ للدية يكون أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة -حوامل- في بطونها أولادها، فيرون أنه يجب عليه أن يحضر الإبل على هذه الصفة.
والذين قالوا بالقول الأول -والذي اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه- احتجوا بحديث الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة -طروقة الفحل- وخمس وعشرون جذعة) فأصبح المجموع مائة.
وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن قتل القتيل فأهله بخير النظرين؛ إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها) .
هذا نص واضح دل على تغليظ الدية، فمن قتل له قتيل فأهله بخير النظرين: (إما أن يقتلوه) هذا يدل على أنه في العمد وليس في الخطأ، إما أن يقاد، والقود لا يكون إلا في العمد، وإما أن يدفع الدية، ثم بين الدية، فلما جعل الدية بدلا عن القتل فهمنا أن هذا في العمد، وأنه عليه الصلاة والسلام شدد في الإبل وجعلها على هذه الصفة.
فنقول: يجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، وهذا القول الثاني أقوى وأرجح إن شاء الله؛ لأن الحديث حسنه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بروايته في هذه المسألة، وهو نص في موضع النزاع، حيث بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى ثبوتا من رواية الزهري عن السائب.
ولذلك يقدم العمل بتثليث الدية كما هو مذهب الشافعية، ويحكى عن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا هذا القول، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ أنها ثلاثون حقة -استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وأن يركب -وثلاثون جذعة- وهي التي تقدمت معنا في الأضاحي والزكاة- وأربعون في بطونها أولادها.
هذا بالنسبة لقتل العمد وقتل شبه العمد.
مقدار دية القتل الخطأ
قال رحمه الله: [وفي الخطأ تجب أخماسا ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض] : قوله: (وفي الخطأ) : أي في قتل الخطأ.
(تجب الدية أخماسا) أي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، هذه ثمانون، ثم عشرون من بني مخاض من الذكور.
وهذه ورد فيها أيضا حديث السنن وحسنه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، وهو نص في موضع الخلاف؛ والذي عليه طائفة من العلماء ما اختاره المصنف رحمه الله أنها تكون أخماسا، لكن عارضه قول وهو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، فإنهم يجعلون العشرين الباقية من ابن لبون ولا يجعلونها ابن مخاض، يعني: يلاحظ في قتل الخطأ أنه أوجب عليه الصلاة والسلام العشرين الخامسة من بني مخاض، والشافعية يقولون: بل يجب ما هو أعلى وهو ابن لبون.
والصحيح ما ذهب إليه المصنف رحمه الله والحنابلة، وأيضا هو قول طائفة من أئمة السلف، ويحكى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب من بني مخاض، حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل بدل بني المخاض بني لبون، والصحيح أنه ابن مخاض، وهذا أنسب، خاصة على التخفيف، ولذلك يترجح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن العشرين الخامسة من بني مخاض وليس من بني لبون.
عدم اعتبار القيمة في الإبل
قال رحمه الله: [ولا تعتبر القيمة في ذلك] : أي: في الإبل، والقيمة هي الألف دينار والاثنا عشر ألف درهم، فهذه المسألة فيها إشكال، وإذا دفعنا الدية من الإبل فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن تساوي قيمة الإبل قيمة الذهب والفضة، وحينئذ لا إشكال عند العلماء ولا اختلاف؛ لأنه حينئذ صارت عدلا، والقيمة مساوية للإبل.
الحالة الثانية: أن تكون قيمة الذهب والفضة الألف دينار، فهل تكون الإبل أغلى أو أرخص؟ تكون أرخص، بمعنى أنها لا تعادل الألف دينار، فتكون مثلا تعادل ثمانمائة دينار -ثمانمائة مثقال- فحينئذ نقصت قيمة الإبل عن معادلة الذهب.
الصورة الثانية: أن تزيد قيمة الإبل على قيمة الذهب والفضة، فتكون المائة من الإبل تعادل مثلا ألفي دينار، يعني الضعف، ولربما ألفا وخمسمائة، فقال: سواء زادت أو نقصت العبرة بالإبل سواء كانت قيمتها غالية أو رخيصة، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأن قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على هذا أيضا؛ فإنه قال: (ألا إن الإبل قد غلت) .
قال بعض الأئمة كما اختاره الإمام ابن قدامة وأشار إليه: إن الإبل كانت على زمان النبي صلى الله عليه وسلم تعادل الثمانمائة دينار، ولذلك يقول عمر: (ألا إن الإبل قد غلت) ولما غلت عادلت في عهده ألف دينار، وهذا يدل على أن الزيادة والنقص لا تأثير له، وأن الإبل هي الأصل، وهذا مبني على المذهب الذي اخترناه؛ أن الإبل هي الأصل في الديات، وأن الواجب الرجوع إلى الإبل والعمل بذلك.
قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة] : بل يجب أن تكون الإبل المدفوعة في الدية سالمة من العيوب بريئة من العيوب المؤثرة، والعيب هو: النقص، يقال: عاب فلان فلانا إذا انتقصه، ولما كان العيب في الإنسان نقصانا في خلقته، قيل له: عيب، من هذا الوجه.
فالعيب ينقسم إلى قسمين: عيب مؤثر، وعيب غير مؤثر.
والعيب المؤثر ضابطه في الإبل والبقر والغنم: هو الذي يوجب نقصان المالية نقصانا مؤثرا، بعض العلماء يضيف هذا القيد (نقصانا مؤثرا) يعني لو أنقصها شيئا تافها أو يسيرا لا يؤثر.
وبناء على ذلك: لو -مثلا- جئنا نأخذ دية الإبل من القاتل، أو أولياء القاتل، فأعطانا إبلا عرجاء، أو شلاء، أو مقطوعة الأذن، أو عجفاء، أو هزيلة أو مريضة، كل هذا لا يجزئ، بل لابد وأن تكون سالمة من العيوب.
وكذلك العيب الخلقي، مثل جنون الحيوان، يقولون: يمكن أن يوصف الحيوان بالجنون، فيجن في بعض الأحيان، وليس له عقل في الأصل، لكن يقول العلماء: إنه لا يستقر ويضطرب، ففي هذه الحالة يقولون: لا يجزئ حتى في الأضاحي والزكاة، فإذا كانت معيبة عيبا مخلا فإنها لا تجزئ في الدية، ومن حق أولياء المقتول أن يردوها.
لكن لو رضوا وقالوا: قبلنا ورضينا بها سقط حقهم، وهم في ذلك بالخيار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.




الأسئلة




حكم التنويع في الدية
السؤال لو خلط في الدية بين الإبل والبقر والغنم، فهل يلزم الولي قبولها؟ أثابكم الله.
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذه دية مشكلة على من يقول: إنها كلها أصول، فحينئذ ينظر إلى التقدير، ويصححون هذا وهو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله، فإنهم يرون هذا، يعني أنه إذا دفع نصفها من الذهب ونصفها من الإبل صح، كما لو شحت عنده الإبل ولم يجد كمالا لها وأخرج الباقي من الذهب والفضة قالوا: يصح هذا؛ لأنهم يرون أنها أصول، وكذلك في حالات الاضطرار إذا لم توجد أصلا في البلد أو المدينة التي هو فيها، فأخرج عدلها فإنهم يصححون هذا ويجيزونه، والله تعالى أعلم.
حكم اشتراك العاقلة في دفع دية العمد
السؤال إذا جرى في عرف القبيلة أن دية العمد يشترك فيها العاقلة، فهل فيه حرج؟ أثابكم الله.
الجواب لا.
هذا خلاف شرع الله عز وجل، دية العمد لا تشارك فيها القبيلة؛ لأن هذا يجرئ العصاة على سفك الدماء.
لكن لو أن هذا القاتل تاب وأصلح واستقام، وأحبت القبيلة أن تقف معه لتوبته وصلاحه هذا أمر آخر، أما عاص مجرم سفاك لدماء المسلمين يقتل عمدا، ثم تأتي القبيلة وتساعده في ذلك، فهذا من الظلم؛ لأن هذا من الإعانة على الظلم، ويقع فيها إحراجات، فلو أتى شيخ القبيلة وفرض ذلك على القبيلة، فيكون قد ظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصول الشريعة والإجماع منعقد على أن العاقلة لا تحمل إلا في الخطأ.
أما إذا قتل عمدا وجئنا نساعده فمعنى ذلك أننا نعينه على قتل المسلمين ولا يبالي، ثم هو لا يحس أصلا أنه قتل؛ لأنه عفا الأولياء عن القتل، ثم قامت جماعته وقبيلته بجمع المال فلم يخسر شيئا، فإذا أصبح الأمر بهذه المثابة لم يشعر بحرمة هذا الدم الذي سفك، لكن عندما يتحمل دفع الدية إذا عفا أولياء المقتول، وغلظت عليه، وامتنعت قبيلته من أن تعينه أو تساعده، شعر أنه منبوذ بجرمه وأنه مسيء بخطئه، وأنه تعدى حدود الله عز وجل بفعله، وحينئذ يصلح حاله ويكون أدعى إلى أن يستقيم.
أما إذا كان كلما جنى جناية يعلم أن قبيلته تقبل شفاعتها، ثم يعلم أن القبيلة الأخرى لا تستطيع أن تطالب بالدم، فيحرجون، ثم يتنازلون عن الدم، وتدفع قبيلته الدية، وهكذا يسترسل في الفساد، ويسفك الدماء المحرمة، فهذا لا يجوز، ويجب على ولي القبيلة وشيخ القبيلة أن ينظر ما هو الأصلح، وأن يتقي الله عز وجل فلا يحمل أفراد القبيلة إلا ما أمر الله عز وجل بتحميلهم إياه، وهو قتل الخطأ، والعاقلة تعقل الخطأ ولا تعقل العمد، وهذا بإجماع المسلمين.
وعلى هذا: فإن هذا الفعل إذا أصبح سنة في القبيلة فإنها سنة سيئة، ويجب تعليم هؤلاء وتذكيرهم بالله عز وجل وبيان الحق لهم، فإن إجماع العلماء على أن العاقلة لا تحمل إلا الخطأ، وعليه: فإننا لو حملنا العاقلة العمد فقد خالفنا شرع الله عز وجل، وهي سنة سيئة ومعونة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] .
فحرم الله عز وجل التعاون على الإثم والعدوان، فالقاتل أثم بقتل النفس المحرمة، واعتدى حدود الله عز وجل، وزوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم المسلم البريء، والكعبة عظيمة الحرمة عند الله، ولدم المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة.
يقول ابن عمر رضي الله عنه: إن من ورطات الأمور سفك الدماء المحرمة.
وفي الأثر: (لا يزال المؤمن في فسحة من أمره حتى يسفك دما حراما) فإذا سفك الدم الحرام والعياذ بالله فقد أوبق نفسه وأهلكها، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشرك بالله عز وجل، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -يعني المهلكات- الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة) .
فهذا يدل على حرمة هذا الذنب وعلى عظمه؛ وهو قتل النفس المحرمة، فكيف يعان عليه؟ هذا لا يجوز، فإذا ثبت هذا فإنه ينبغي تنبيه هؤلاء وإرشادهم وتعليمهم.
لكن نقول لشيخ القبيلة: جزاك الله خيرا على حفظ الرحم وحبك أن تنصر أخاك، ولكن انظر في حال القاتل، فإن وجدت عنده استعدادا أن يتوب، وحاله صلح واستقام، ورأيتم أن تعينوه فهذه حسنة منكم وأنتم مجزيون عليها خيرا، استصلاحا لحاله، لكن لابد وأن يشعر بالجريمة التي فعلها، والعظيمة التي أتاها، والله تعالى أعلم.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 05:33 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




استواء التغليظ في الرجال والنساء
السؤال إذا قتلت المرأة عمدا فهل التغليظ يرد في ديتها؟ أثابكم الله.
الجواب إذا قتلت المرأة عمدا نفس الحكم، يعني التغليظ يشمل الرجال والنساء، والله تعالى أعلم.
حكم استبدال الموقوف
السؤال عندي مجموعة من الضأن وهي لأمي، وهي صدقة لوجه الله، تذبح ذكرانها وتوزع وتباع إناثها، ويصرف منها على بقيتها، أحببت استبدالها بغنم حيث أن الغنم مرغوبة عند الناس وقليلة في مصارفها، أفتوني أثابكم الله.
الجواب إذا كانت الأم قد حددت أو أوقفت هذا الشيء فلا يجوز العدول والتغيير والتبديل، لكن إذا أوصت وقالت في وصيتها النظر لمن يليها، فأنت انظر الأصلح إذا فوضت لك النظر.
أما إذا حددت وقالت: إن هذه الغنم أو هذا الضأن وقف يفعل به كذا وكذا، فالواجب على ولي هذا المال أن يتبع ما قالته وأن يبقى المال بعينه؛ لأنه مخصوص بعينه لهذه الصدقة، فيبقى على حاله.
والحمد لله، الضأن فيه خير كثير، وفيه نفع للناس، ولا شك أن التضحية به أفضل من المعز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوئين) ، وهذا يدل على تفضيله بالنسبة للصدقة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من راح الساعة الثالثة كان كمن قرب كبشا أقرن) لم يقل: كان كمن قرب معزا، وهذا يدل على تفضيله في الصدقات، فلا تستهن بالضأن، الضأن فيه خير، لكن الماعز سبحان الله! فيه بركة، خاصة المعز الحجازي الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أرعاه على قراريط لأهل مكة) وقال: (عليك بالأسود منه فإن فيه بركة) وهو المعز الصغير الموجود بكثرة في جبال الحجاز، فهذا فيه بركة، وأخبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك في الحديث الصحيح، فهذا فيه بركة من جهة النماء، ومثلما ذكرت أنت في السؤال أنه أخف مئونة وأكثر نسلا، هذا فعلا موجود فيه، لكن من ناحية الشرع، فالشرع فضل الضأن، ولذلك قالوا: إنه أفضل، والأضحية به أكمل، وإذا كانت الضأن مقصودة بالصدقة فيبقى مالها على حاله.
أما لو فوضت لك النظر، وقالت: هذا الثلث أخرجوا منه شياها أو غنما، واجعلوها على صفة كذا وكذا، فجعلت أنها شاة بغض النظر عن كونه ضأنا أو معزا، فالأمر إليك أن تنظر الأصلح والأنفع، والله تعالى أعلم.

حكم من وجد نجاسة في ثوبه بعد الاستنجاء
السؤال من استنجى ثم وجد بعد ذلك نجاسة في ثوبه فهل ينتقض وضوءه؟ أثابكم الله.
الجواب إذا استنجى ووجد النجاسة في الثوب، إما أن يغلب على ظنه خروجها بعد الاستنجاء وقبل الوضوء، فحينئذ وضوءه صحيح، ويغسل النجاسة، وصلاته صحيحة لو صلى وهو لم يعلم بهذه النجاسة، إذا كانت النجاسة موجودة ووقعت قبل الوضوء.
مثلا رجل دخل الحمام الساعة الواحدة واستنجى، ثم خرج من الحمام ونسي أن يغسل النجاسة الموجودة في الثوب مثل من معه سلس، أو تقاطر في البول، فهذه النجاسة قبل توضئه وقبل طهارته، ولكنها ليست على وجه النقض، فصلاته صحيحة ووضوءه صحيح، وكونها في الثوب وصلى ولم يعلم بها لا يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بنعليه وفيهما نجاسة ثم خلعهما أثناء الصلاة ولم يعد الصلاة من أولها، فدل على أن من نسي النجاسة وصلى فصلاته صحيحة.
لكن إذا شك هل خرجت هذه القطرة، فصلاته باطلة؛ لأنه صلى بغير وضوء، أو خرجت بعد الصلاة فصلاته صحيحة، فاليقين أنها خرجت بعد الصلاة، ولذلك يقولون في القاعدة: ينسب لأقرب حادث، وهذه القاعدة من فروعها هذه المسألة: أنه إذا شك في الخارج هل خرج قبل الصلاة فيجب عليه أن يعيد؟ أو خرج بعد الصلاة فصلاته صحيحة؟ أو إذا طافت المرأة ووجدت دم الحيض، ولم تدر هل خرج قبل الطواف أو أثناء الطواف، فطوافها فاسد؟ أو خرج بعد الطواف فطوافها صحيح؟ تنسبه لأقرب حادث؛ لأن الأصل صحة طوافها وصحة صلاتها حتى تستيقن أنه خرج منها الخارج قبل الطواف، أو أثناء الطواف أو أثناء الصلاة أو قبل الصلاة.
هذا من حيث الواجب عليه، صلاته صحيحة حتى يتأكد أنه خرج منه ذلك بعد وضوئه وقبل صلاته أو أثناء الصلاة، فيجب عليه أن يعيد، والله تعالى أعلم.
حكم الانتفاع بظل الدار مع وجود الضرر على صاحب الدار
السؤال هل ظل الدار حق لصاحبه يأثم من ينتفع به إذا تضرر صاحب الدار، ومثال ذلك كمواقف السيارات تحت المنازل في الظهيرة؟ أثابكم الله.
الجواب هذا أمر يحتاج إلى نظر، مالك الدار يملك أرضها وسماها، ولا يملك ما خرج عن حدودها وسمتها، لكن الذي ذكره العلماء: إذا تضرر بالوقوف في وجه بابه، يعني إذا كان الظل يأتي على جهة الباب، فالضرر حينئذ من حيث خروج النساء، وخروج الذرية، وخروج الأطفال والعجزة؛ لأنه تنكشف عورته، وأيضا يتضرر بخروج نسائه أمام الأجانب، فمن حقه أن يقول له: لا تقف أمام باب داري.
لكن إذا كان الظل في جانب آخر من جوانب البيت، فهو يملك البيت ولا يملك ظله.
ولذلك هذا الظل من سبق إليه فهو أحق به، لا يستطيع أن يمنعه؛ لأن الظل ملك لله سبحانه وتعالى، وهو من ظل الدار وليس للدار نفسها، وليس بمتصل بالدار ولا بفرع عن الدار، ولا منفعة ناشئة عن الدار نفسها نشوء الفرع من أصله، وإنما جاء استتباعا لجريان الشمس على حسب قربها وبعدها من خط الاستواء في طول الظل وقصره واختلاف جهاته، وهذا أمر ليس مما يملكه الإنسان.
وعلى هذا: الأشبه فيه والله أعلم أنه لا يملكه الإنسان، إنما إذا كان الظل على باب الدار أو على حوش الدار؛ مدخل الإنسان ومخرجه فيمنع، لكن لا يمنع لسبب آخر، أما المنافع التي من الدار نفسها في الأشياء المنفصلة فالأشبه أنه لا يملكها صاحبها، والله تعالى أعلم.
الصبر على بر الوالدين
السؤال لدي مشكلة وهي عدم رضا والدي عني مهما فعلت وبذلت، ويواجه هذا الإحسان بالإساءة والسب، فبماذا تنصحني؟ أثابكم الله.
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أسأل الله العظيم أن يعينك، وأن يرزقك رضا والديك عنك، وأن ينزع ما في قلب أبيك عليك.
أخي في الله! أوصيك بالصبر، ومن صبر ظفر، وليس هناك أعظم للمؤمن بعد الإيمان بالله عز وجل من صبره على طاعة الله عز وجل، فأنت تخوض غمار رحمات الله ببرك لوالديك.
واعلم أن أفضل ما يكون البر إذا وجدت صدودا وإعراضا من الوالدين فأبيت إلا أن تبر، فتحسن ويسيئا، وتكرمهما ويهينانك، وتعطيهما ويحرمانك، فإذا كنت كذلك انصرف قلبك لله، ولم ينصرف لغيره أو أحد سواه، لعلمك أن الله لا يضيع لك الأجر، فاطمأننت بالله ووثقت أن الله نعم المولى ونعم النصير، واستجبت لأمر الله عز وجل، وكأن لسان حالك يقول: يا رب! إني أبر والدي وألتمس رضاهما وأقدم ما أوجبت علي في حقيهما، فأسألك أن تتقبل مني وأن ترضى عني.
ثم بعد ذلك رضيا أو لم يرضيا لم تبال بذلك؛ لأنك تعامل الله وحده وترجو ثواب الله المطلع على الخفايا الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
يقول تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] وكان الناس حينما نزل الوحي مبتلين بشرك الوالدين وكفر الوالدين، فيجاهد الوالدان الولد على الكفر والشرك، ومع ذلك تتنزل الآيات بالعضات البالغات والكلمات الصادقات تأمر ببر الآباء والأمهات، ووالداك على الإيمان والحمد لله، فاصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، واصبر فإن الله مع الصابرين، واصبر فإن الله يحب الصابرين، لا تعلم مقدار ما لك من الأجر، وكم من بار لوالديه قد ضحك الوالدان وسر الوالدان ببره فاغتر بسرورهما، وفاته شيء كثير من الإخلاص بسبب عطفهما وأنسهما.
أما أنت فسلط الله عليك أن تدخل على الوالد عبوسا، وأن تدخل على الوالد سابا شاتما، فينكسر قلبك لله، وتطمع في رحمة الله، وترجو ما عند الله، فيستهزئ بك أبوك، ولكنك واثق أن معك الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} [الفرقان:58] الله لك خير من والديك، ومن ولدك ومن الناس أجمعين.
هل تريد أن يكون لك والداك وتحرم عظيم الأجر من ربك، ولكن كن على ثقة بأن كل الذي تفعله إن أخلصت فيه لوجه الله فإن الله لا يحرمك الخير، ولا يحرمك الثواب والأجر، وهذه من بشائر الخير لولي الله المؤمن، ولذلك كما تجد هذا في الوالدين تجده في الولد، تحسن إلى أولادك فلا ترى إلا قلوبا كافرة للمعروف، تحسن إلى الزوجة فتجد قلبا منصرفا ينكر المعروف ولا يعرف معروفا، وتحسن إلى طلابك، وتحسن إلى تلامذتك، وتحسن إلى جيرانك وأقاربك، فتجد الصدود والإعراض، فيزيدك الأمر إخلاصا لله عز وجل، وطلبا لرحمة الله، ومحبة لله، وثقة بالله، وما ألذها من ساعات للمؤمنين والمؤمنات والمخلصين والمخلصات إذا تلذذوا بمعاملة الله ونسوا كل شيء سواه.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب ماذا تريد من الناس؟ وماذا تريد من الجنة والناس؟ لك ربك الذي لا تخفى عليه خافية، لك ربك الحليم الرحيم الكريم العدل الذي أقام السماوات والأرض بميزان قسط لا يخيب شعرة، ويقيمه يوم القيامة، فإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها، وكفى به سبحانه حسيبا رقيبا، فاطمع في رحمة ربك وثق بالله، وكن قوي العزيمة.
وهذا ليس بخاص بهذا الأخ، بل هو منهج لكل مؤمن أنه إذا فعل الحسنة لا ينتظر من الناس جزاء ولا شكورا، هذا مقام المحسنين والصابرين، وهذا مقام الأقوياء، الذين قوي إيمانهم وصح معتقدهم، وسلمت عقيدتهم في ربهم، فأسلموا لله صدقا وحقا، لا ينتظرون من أحد جزاء ولا شكورا.
تجد علماء السلف ودواوين العلم؛ مثل الإمام البخاري رحمه الله برحمته الواسعة، فقد حفظ للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مئات الألوف من الأحاديث، وأصبح الناس يطعنون حتى في عقيدته، وتوفي رحمه الله برحمته الواسعة وهم يسبونه ويشتمونه، ويختلف فيه أهل سمرقند: هل يدخل أو لا يدخل؟ وذلك لخلل عندهم في عقيدتهم، ولكن أبى الله إلا أن يزكيه ويطهر سيرته، ويرفع قدره، ويحسن جزاءه، فأبقى للأمة مشكاة عظيمة اهتدى بها السائرون، وصلحت بها أحوال المؤمنين، وسيلقى عند الله جزاءها وثوابها.
لا تنتظر من الناس شيئا، الزوجة تعمل في بيت زوجها لا تنتظر مدح زوجها ولا ثناءه، والزوج يخدم زوجته ويقوم على أهله وأولاده لا ينتظر إلا جزاء الحي القيوم الكريم سبحانه، والطالب مع شيخه، والشيخ مع طلابه، لا تنتظر إلا جزاء من الله، خاصة في أمور العبادات.
هذا هو مقام المحسنين ومقام المخلصين: ألا تلتفت إلى شيء غير الله جل جلاله، وأن تطمع في رحمة الله، وأن تعلم أن الله إذا صرف عنك مدح المادحين، وثناء المثنين، تدخل على أبيك وأمك فتقدم مثاقيل الحسنات فتجابه بالسخرية والاستهزاء بأنك متدين أو صالح أو غير ذلك، ويدخل أخوك فلا يقدم إلا القليل الذي لا يذكر فإذا به يرفع إلى السماء، رفع في الدنيا ورفعت في الآخرة، وأعطي الدنيا وحرم الآخرة، وأعطيت الآخرة وحرمت الدنيا {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:16 - 17] .
يا هذا! أخلص لله وكن مع الله ولله وفي الله، وأبشر بكل خير من الله، قال الحسن رحمه الله: لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله.
وهذا عام في جميع أمور الحياة، وهي وصية من يريد الإخلاص لوجه الله عز وجل، ومن أحس لذة الإخلاص، عرف أن الله له حكم في عباده، إذا أحب عبدا من عباده صرف عنه الحرص على مدح الناس وكرهه إلى قلبه، وجعله لا يفكر في مدح المادحين، فهو لم يفكر في مدح المادحين فضلا عن ذم من يذم، فتجده في مقام صدق عند رب العالمين.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فالإخلاص هو سر الحياة، وصلاحها وسعادتها وفلاحها، وللمخلصين جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة، وسرور في الدنيا قبل سرور الآخرة، وهو السرور بالله وحده، فتأنس بالله عز وجل حينما تقدم للناس الخير، وتقدم للناس البر، ولا تجد منهم حامدا ولا شاكرا؛ لأن الله عز وجل يريد أن يدخر لك ذلك كله، فهذه نعمة من الله عليك، فاستبشر بفضل الله، وأحسن الظن بالله، ثبت الله قلبك وسدد قولك وعملك، والله تعالى أعلم.
حكم انقطاع النفاس قبل الأربعين
السؤال امرأة انقطع دم النفاس عنها بعد إحدى وعشرين ليلة من النفاس، هل تصلي وتصوم؟ أو تنتظر إلى الأربعين؟ أثابكم الله.
الجواب إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر وهي القصة البيضاء والجفوف على أصح قولي العلماء، وانقطع يوما كاملا، فإنها تصوم وتصلي فيه، ثم إذا عاودها لفقت؛ يعني أضافت الأيام الجدد إلى الواحد والعشرين حتى تتم أربعين يوما فتحكم بخروجها من نفاسها، والله تعالى أعلم.

الواجب على من أفطر في رمضان لعذر ثم انقطع العذر
السؤال المسافر في رمضان إذا أفطر ووصل إلى أهله بعد العصر، هل يبقى على إفطاره أو يمسك؟ أثابكم الله.
الجواب يمسك بقية يومه، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم صيامي هذا في مقامي هذا، فمن أصبح منكم صائما فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطرا فليمسك بقية يومه) هذا الحديث دل على أن من كان مفطرا لعذر وانقطع عنه العذر وجب عليه الإمساك لحرمة اليوم، وهو أصل عند جمهور العلماء رحمهم الله، على أن المسافر إذا قدم المدينة أنه يمسك بقية يومه، ويكتب له أجر ذلك الإمساك.
يقول تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر} [البقرة:184] والمسافر إذا رجع من السفر انقطع فيه؛ لأنه ليس على سفر، ومن هنا رجع إلى الأصل وهو الإمساك، وأجره مكتوب، ولذلك يلتزم بهذا الأصل الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.
حكم من صام كفارة اليمين بلا تتابع
السؤال حلفت بالله وأردت أن أكفر عن هذه اليمين المنعقدة، فصمت يومين، وفي اليوم الثالث أفطرت، جهلا مني بأن الصيام يجب أن يكون متتابعا، وفي اليوم الرابع أكملت الصيام، فهل يجزئ ذلك؟ أثابكم الله.
الجواب أولا: لا يجوز لك الصيام إلا إذا كنت عاجزا عن الرقبة، عاجزا عن إطعام عشرة مساكين أو الكسوة، فإذا عجزت عن هذه الخصال الثلاث وأنت مخير بينها، حينئذ تصوم ثلاثة أيام متتابعة، ويجب عليك أن تعيد هذا الصوم؛ لأن التتابع لازم في صيام كفارة اليمين على أصح قولي العلماء، لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذه قراءة شاذة، والمراد بالشذوذ: انفرادها عن القراءة المعتبرة، لكن نسخت تلاوة وبقيت حكما.
والقراءة الشاذة يجوز العمل بأحكامها؛ لا القراءة والتعبد بقراءتها، وحكمها لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن تكون القراءة غير شاذة، فالصحيح أنه يحكم بها ويعمل بها، ولذلك يجب عليك قضاء هذه الثلاث؛ لأن التتابع لازم، والله تعالى أعلم.
حكم شراء المصاحف ووقفها
السؤال هل يجوز أن أشتري مصاحف وأضعها في الحرم وقفا لله عن شخص ميت وآخر حي؟ أثابكم الله.
الجواب هذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: بيع المصاحف وشراؤها اختلف فيه العلماء: الجمهور على جواز بيع المصحف وشرائه.
وكره الإمام أحمد رحمه الله ذلك وهو محفوظ عن بعض السلف، حتى قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف.
لكن الصحيح أنه يجوز بيعه كمذهب الجمهور، ويجعل الانعقاد على الصحف والورق، وليس على كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله لا يباع ويشترى، وأشار بعض العلماء إلى ذلك بقوله في خواص القرآن: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي فالجمهور على كراهية ذلك، مع صحة البيع.
إذا ثبت هذا؛ فيجوز شراء المصاحف، فإذا جاز شراؤها بقيت مسألة الصدقة بها إذا قرئت وانتفع بها.
وهكذا كتب العلم، كأن تشتري كتب علم وتضعها في مكتبة أو مسجد على أن ثواب قراءتها لك أو لوالديك الأموات، فهذا لا بأس به ولا حرج؛ لأن الصدقة عن الميت ثبت النص بها كما في الصحيح من حديث سعد رضي الله عنه (أنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم ... ) .
وفي صحيح البخاري جعل سعد رضي الله عنه حائط الخراف -وهو بستان له- صدقة على أمه بعد موتها، فدل هذا على مشروعية التصدق عن الميت بالأمور التي ينتفع بها، سواء كانت دينية أو دنيوية، فالدينية أعظم أجرا وأعظم ثوابا.
ولذلك يجوز أن تتصدق ببئر الماء وثلاجة الماء، والكتب العلمية في مسجد، أو تشتري لطالب علم كتابا يقرؤه تنويه عن والديك أو عن ميت لك، فهذا مما تؤجر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.







ابوالوليد المسلم 22-10-2025 07:51 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (505)

صـــــ(1) إلى صــ(8)



شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [3]
جاء في الكتاب والسنة بيان مقادير الديات، ومنها: دية الكتابي والمجوسي والوثني، وكذلك مقدار دية الجنين والمرأة، وهناك أسباب تؤدي إلى نقصان الدية، وهذه الأسباب هي: الكفر، والرق، والجنين، والأنوثة، وهذه المسائل تعرف عند العلماء بمسألة: أسباب نقصان الدية.

دية الكتابي
قال رحمه الله: [ودية الكتابي نصف دية المسلم] : قوله: (ودية الكتابي) : قد تقدم معنا الكتابي أنه هو اليهودي والنصراني، لقوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام:156] .
فأخبر تعالى أنهم أهل كتاب، وبينا هذه المسألة، ومنهم الذين ينطبق عليهم أنهم أهل الكتاب فيما تقدم معنا في كتاب الذمة.
إذا قتل المسلم كتابيا فقد يكون القتل عمدا، وقد يكون خطأ، وإذا قتله قتل عمد غلظت الدية، وحفظ تغليظ الدية في قتل الذمي عمدا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأيضا حكي عن عمر بن الخطاب لكن عثمان السند عنه صحيح فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وغلظ الدية فيه ونزله منزلة المسلم؛ لأن له ذمة وعهدا بينه وبين المسلمين، فغلظ فيه الدية إذا قتل عمدا، وأما إذا قتل خطأ فلا إشكال.
النقصان في الدية وأسبابه
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في مسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله في باب الديات بمسألة: النقصان في الدية.
المنقصات للدية والتي توجب نقص الدية لها أسباب، والدية مائة من الإبل، لكن يعدل عن هذا الأصل إلى النقص فتجعلها على النصف أو على الثلث، أو تجعل عشر الدية (الغرة) في الجنين إذا أسقط بالشروط التي سنذكرها، والتفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى، أو نصف العشر كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم، هذا كله يسمى: نقصان الدية.
ونقصان الدية له أربعة أسباب: السبب الأول: الكفر.
والسبب الثاني: الرق.
والسبب الثالث: الجنين.
والسبب الرابع: الأنوثة.
فحينئذ تعدل من الكمال في الدية الذي هو المائة وتنقص الدية، ثم يفصل في هذا النقصان: هل تشطر الدية بالنصف؟ أم هل يحكم بنقصانها إلى الثلث؟ كل هذا سنبينه إن شاء الله تعالى.
فابتدأ المصنف رحمه الله بالنقصان من جهة الكفر: أن يكون المقتول كافرا، ثم هذا الكافر على أقسام: قسم: محقون الدم، وله عهد وذمة بين المسلمين، وله دين سماوي وهم الكتابيون، ولذلك فرقت الشريعة بين الكتابيين وغير الكتابيين كالمشركين والمرتدين والوثنيين والملحدين، هؤلاء فرقت الشريعة بينهم؛ لأن الكتابيين لهم أصل من الدين السماوي، ولأن الكتابيين يؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن والعياذ بالله بعض الكفار يقول: لا يوجد إله.
أو يجعل مألوهه حجرا أو شجرا أو بقرة نسأل الله السلامة والعافية، فيعبد غير الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد من هذا أن أهل الكتاب الذين لهم دين سماوي خولف في أحكامهم عن الكفار من سائر الملل الأخرى والطوائف، فالكتابي إذا قتله المسلم اختلف فيه العلماء رحمة الله عليهم على ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول يقول: الكتابي ديته نصف دية المسلم، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف، وأيضا مروي عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.
القول الثاني يقول: دية الكتابي مثل دية المسلم، فإذا قتل المسلم كتابيا، فالواجب أن تدفع الدية لأوليائه وأهله كاملة مثل المسلم، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث يقول: دية الكتابي على الثلث، وهو مذهب الشافعية، والأول مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله على الجميع.
فالذين قالوا: إن دية الكتابي مثل دية المسلم استدلوا بقوله تعالى: {فدية مسلمة إلى أهله} [النساء:92] وسوى في هذا الوصف بين دية المسلم ودية الكتابي، وقالوا: هذا يدل على أن ديته كدية المسلم، واستدلوا بحديث استظهر بعض العلماء عدم صحته، وبعضهم يقول: لا نعرف له أصلا (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الكتابي مثل دية المسلم) .
قالوا: هذان الدليلان من الكتاب والسنة يقتضيان أن الكافر الكتابي إذا قتله المسلم وجب دفع الدية إليه كاملة كالمسلم سواء بسواء، ثم قالوا: إنه لما أصبح ذميا في بلاد المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتكون ديته مثل دية المسلم إذا اعتدي عليه.
والذين قالوا: إن الدية تكون على الثلث استدلوا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه جعل دية الكتابي على الثلث من دية المسلم، وعلى هذا يقولون: إنه تثلث الدية ولا يعطى على التشطير، وقالوا: إن عمر بن الخطاب من الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم، فيصبح هذا الحكم لازما وسنة متبعة.
والذين قالوا: إن دية الكتابي على النصف من دية المسلم كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا استدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل الكتابي على النصف من عقل المسلم) وهذا الحديث حسن إسناده غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل دية الكتابي نصف دية المسلم.
وبناء على ذلك لما قال: (الكتابي) شمل اليهود والنصارى، فتكون ديتهم نصف دية المسلم؛ خمسين من الإبل في ذكورهم، وخمس وعشرين من الإبل في إناثهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وخمسمائة دينار بالنسبة للذهب، وستة آلاف درهم بالنسبة للفضة، ومائة بقرة وألف شاة بالنسبة للبقية، ومائة حلة من الثياب على القول بأن الحلل تدخل في أصول الديات.
وهذا الحديث هو أصح، والقول به أرجح، ويجاب لما ورد في القرآن في قوله تعالى: {فدية مسلمة إلى أهله} [النساء:92] أن هذا مطلق، وجاءت السنة فقيدته، والقاعدة: (إن المطلق يحمل على المقيد) .
وكم قيدت السنن من إطلاقات القرآن وخصصت من عموماته وبينت من إجمالاته، فلا إشكال أن السنة تبين القرآن.
ثانيا: الاستدلال بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقول: تعارض المرفوع والموقوف، فيقدم المرفوع على الموقوف، ويعتذر لـ عمر بأنه يحتمل أنه لم يبلغه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرواية عنه ضعفها بعض العلماء رحمة الله عليهم في كونه قضى بالثلث الذي ذكروه.
وعلى هذا يترجح القول الذي اختاره المصنف: أن الكتابي ديته تكون على النصف من دية المسلم.
دية المجوسي والوثني
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم] : قوله: (ودية المجوسي) : هم عبدة النار، وهم وثنيون في الأصل ومشركون، ولذلك سوى الكتاب العزيز بينهم وبين أهل مكة فقال: {الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله} [الروم:1 - 5] .
هذا مبني على أن الروم غزوا الفرس، وكان الفرس عبدة للنار، ففرح المشركون بانتصار المجوس على الروم، وحزن المسلمون؛ لأن بيننا وبين أهل الكتاب أصل مشترك وهو الإيمان بوجود الله عز وجل، وهم أهل دين سماوي ونحن أهل دين سماوي، فبيننا وبينهم قاسم مشترك من هذا الوجه، ففرح المشركون بانتصار الفرس على الروم كما أخبر الله عز وجل أنهم من بعد غلبهم سيغلبون، وأخبر أنه إذا غلبت الروم الفرس فرح المؤمنون بنصر الله، وجعل انتصار الروم على الفرس نصرا من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي، والذي له دين سماوي أفضل من الذي لا دين له، وأفضل من الملحد، وأفضل من المشرك من جهة أن له أصلا، وهذه من ناحية أن الله عز وجل جعل لكل شيء قدرا، وهذه حكمة في الشريعة الإسلامية.
قال الله تعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله} [الروم:4 - 5] مع أنهم كفار لكن وجد القاسم المشترك بيننا وبينهم، فأنت حينما ترى أهل الأديان السماوية مثل اليهود والنصارى تجد أن أديانهم في الأصل فيها قواسم مشتركة؛ وتجد اللاديني إباحي، يرى الإباحية ويرى -والعياذ بالله- الفواحش والمحرمات أنها مباحة وأنه لا دين ولا خلق ولا قيم ولا تقاليد، لكن تجد اليهودي والنصراني أرحم من هذا الذي لا دين عنده، وهذا من جهة الفارق النسبي وليس من كل وجه، ولذلك تبغض من وجه وترى أصلا توالي فيه من وجه آخر.
ومن هنا جعل الله عز وجل المحبة والفرح مبني على أصل وهو وجود القاسم المشترك؛ لأن المشركين شمتوا بالمسلمين حينما غلبت الفرس الروم.
وبين الله تعالى أنه سيمكن الروم من الفرس، وجعل ذلك نصرا؛ لأن الروم لهم دين سماوي كما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فالشريعة تفرق بين الاثنين، فإن المجوس عبدة النار، وهم وثنيون، والأصل يقتضي أن الوثني والملحد والمشرك دمه لا قيمة له، وليس له دية في أصل الشرع، هؤلاء الذين لا دين لهم لم تجعل الشريعة لهم دية في الأصل.
لكن لو دخل المجوسي إلى بلاد المسلمين بأمان -مستأمن- أو دخل كرسول عنده رسالة يريد أن يؤديها، ثم قتله مسلم خطأ فحينئذ يرد الإشكال؛ لأنه دخل إلى بلاد المسلمين وله أمان، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فلو أنه قتل خطأ مثلا في بلاد المسلمين فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه على هذا طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدية؛ ثمانمائة درهم، وهذا القضاء لم يخالف فيه، ولذلك لم يرد شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض هذا القضاء، فوجب العمل به، ومن هنا عمل بهذه السنة، وقال بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
المجوسي إذا لم يكن له أمان وقتله مسلم خطأ، فهذا ليس له دية في الأصل، وإنما هذا القضاء وقع في الأحوال التي يكون له فيها ذمة وعهد بين المسلمين.
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم] : هذا في أحوال الأمان، ومن أهل العلم من قال: يختص الحكم بالمجوسي، وأما من عداه من الوثنيين والملحدين فهؤلاء ليس لهم شيء، ولو أن شخصا ارتد عن الإسلام واستهزأ بالدين أو سب الله والعياذ بالله ثم ركب سيارته وصدمه مسلم فقتله خطأ، إذا شهد عدول أنه قال كلمة الكفر وحكم بكفره، لا دية على قاتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ليس له حرمة، وليس له دية، وهذا بإجماع العلماء أن المرتد إذا قتله المسلم خطأ لا دية له.
وهكذا إذا قتله عمدا، لكن الأصل أنه يرد إلى ولي الأمر، وهو الذي يستتيبه، كما سيأتينا إن شاء الله في أحكام الردة، لكن من حيث الأصل ليس لهذا عصمة عند الله وعند رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعند المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) .
مفهوم ذلك أنهم إذا لم يفعلوا ذلك سقطت عصمتهم فلا عصمة لهم، وإذا كان المقتول لا عصمة له فقد قدمنا أن الدية لا تثبت إلا لمعصومي الدم، وحينئذ يسقط اعتبارها.
دية نساء أهل الذمة
قال رحمه الله: [ونساؤهم على النصف كالمسلمين] : ونساء أهل الذمة على النصف من ديات ذكورهم، كما أن نساء المسلمين على النصف من دية ذكورهم، وهذا فيه أثر مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضا مرسل عن سعيد بن المسيب في الصحيح رواه مالك في الموطأ: (عقل المرأة على النصف من عقل الرجل) .
وعليه سواد الأمة الأعظم على أن المرأة ديتها على نصف دية الذكر، وهذا هو السبب الثاني من النقصان: الأنوثة، أن يكون المقتول أنثى، السبب الأول: الكفر، والسبب الثاني: الأنوثة، فإذا كان المقتول أنثى فإن ديتها على النصف.
ذكر المصنف الكتابية ثم قال: [كالمسلمين] فأشار إلى أصل المسألة، فالمرأة المسلمة إذا قتلت خطأ فإن ديتها على النصف، وإذا قتلت عمدا أيضا ديتها على النصف -تشطر ديتها- وهذا كما ذكرنا حكى بعض العلماء الإجماع عليه.
وخالف في هذه المسألة الأصم بن علية، وخلافه شذوذ، وللأصم بن علية شذوذات عجيبة، فقد خالف في أشياء منصوص عليها، وخرجوا فيها إجماعات العلماء رحمهم الله، ولذلك لم يعتد بخلافه، حتى إن الإمام ابن العربي رحمه الله الفقيه المشهور لما ذكر مشروعية الإجارة وذكر نصوص الكتاب والسنة الواضحة على أن الإجارة مشروعة، وكان الأصم يقول: لا تجوز الإجارة؛ لأنها بيع لمعدوم، والمنفعة غير موجودة أثناء العقد، فشكك في جوازها مع ورود النصوص في الكتاب والسنة، فقال الإمام ابن العربي رحمه الله كلمته المشهورة: ولم يخالف فيها إلا الأصم فكان عن شرعها أصم.
وعند العلماء عبارات قد تكون ثقيلة في بعض الأحيان، لكنهم يريدون التشنيع على المخالف حتى لا يقتدي به غيره، مثل قول الإمام أحمد عن أبي ثور في مسألة أكل الذبيحة إذا لم يذكر عليها اسم الله عز وجل قال: أبو ثور في هذا كاسمه، ومع أنه يقول عن أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي: أبو ثور أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاما، فأثنى عليه هذا الثناء العظيم.
هذا منهج عند العلماء وهو فقه الفقه: إنه إذا كان القول شاذا يشنعون فيه حتى تستبشع الناس اتباعه وينفر طالب العلم؛ لأن بعض طلاب العلم عندهم قصور في الفهم، فلربما قرأ الدليل لهذا القول الشاذ المخالف للإجماع فاغتر به، لكن لو وجد التشنيع من أئمة السلف والتقريع والتوبيخ صار أمرا زائدا على المسألة، وهذا فقه الفقه، أنه ينبغي النصيحة لعامة المسلمين ولكن لا يقصد بها التحقير، مع أن العلماء ذكروا خلافه واعتنوا بنقل قوله من باب التنبيه، والتحذير من متابعته في شذوذه.
على كل حال: هذه المسألة خالف فيها الأصم بن علية فقال: إن عقل المرأة كعقل الرجل، وهو خلاف من ذكرنا من السلف، حتى إن فتوى الصحابة وقضاءهم على ذلك، يعني على تشطير دية المرأة.
إذا ثبت أن دية المرأة نصف دية الرجل في المسلمين كذلك في الذميين والكتابيين، فلو قتل مسلم امرأة من اليهود أو نصرانية، أو قتلها يهودي مثلها خطأ أوجبنا عليه نصف الدية الواجبة في الكتابي، فيجب فيها خمس وعشرون من الإبل؛ لأن دية الكتابي خمسون.
دية العبد
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ودية قن قيمته] .
هذا السبب الثاني من المنقصات وهو: الرق، فإذا كان المجني عليه رقيقا فإن هذا ينقص ديته، والأصل في الرقيق أنه ينظر إلى قيمته، فلو أنه قتل عبدا نظرنا إلى قيمة هذا العبد، سواء كان مملوكا لسيده ولا زال عليه الرق حتى مات وقتل، أو كان مكاتبا أو كان مدبرا أو كان أم ولد، فجميع هؤلاء قيمتهم بالغة ما بلغت.
وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله: أن دية العبد قيمته بالغة ما بلغت، واختلف في العبد، لكن من حيث الأصل أن العبد مملوك يباع ويشترى، ولذلك تكون ديته إذا قتله الإنسان خطأ أو قتله عمدا ولم يثبت القصاص لمانع أن يدفع قيمته بالغة ما بلغت.
قال: [وفي جراحه ما نقصه بعد البرء] .
يعني: إذا جني عليه جناية فإننا ننظر إلى قيمته قبل الجناية وقيمته بعد الجناية والبرء، والناقص يدفعه ذلك الجاني، فلو كانت قيمته مائة ألف قبل الجناية، وبعد الجناية خمسا وتسعين يجب أن يدفع خمسة آلاف، فما أنقصته الجناية يجب ضمانه، وهذا أصل في جميع الأموال أنها تضمن بالنقص، كما تقدم معنا في باب الضمان.
هناك خلاف للعلماء رحمة الله عليهم: إذا جنى أحد على العبد جناية فقطع يده أو فقأ عينه، أو قطع أذنه، هل ننظر إلى نسبة هذا العضو من قيمته الأصلية؟ أم أننا نقدره فما نقص يدفع؟ وجهان لأهل العلم رحمة الله عليهم: من أهل العلم من قال: إذا قطع يده نظرنا إلى نصف قيمته فأوجبناها على القاطع؛ قياسا على الحر.
ومنهم من قال: ينظر إلى قيمته قبل قطع يده وقيمته بعد قطع يده، ويدفع الفرق كما قدمنا في الجراح.
القول الأخير قيل: إنه هو المذهب، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه، وطائفة من أهل العلم، وصوبه المرداوي رحمه الله في (الإنصاف) ، وهو أحد الأوجه عند الشافعية وينص هذا القول على: أننا ننظر إلى ما نقص من قيمته بعد الجناية بغض النظر عن كونه إتلافا لما في الأصل، ينظر في نسبته إلى الدية مثلما ذكرنا في اليد، فإن فيها نصف الدية، والرجل فيها نصف الدية، والعين فيها نصف الدية كما قدمنا.
في هذه الحالة عندنا قولان: الصحيح منهما الذي اختاره طائفة من العلماء أنه ينظر إلى أرش الجناية وما نقصته الجناية.
فالفرق بين القولين: أنه في بعض الأحيان تنقصه الجناية ثلاثة أرباع القيمة، مثلا: يكون خطاطا بيده، أو عنده صنعة في يده، وتكون قيمته غالية، وقد تكون قيمته ضعفي قيمة العبد المعتاد، ولكن بعد الجناية قد تنقص ثلاثة أرباع القيمة، وحينئذ يكون ضمان هذا أكثر من ضمانه بنسبته لأصل القيمة، فهناك فرق بين ثلاثة أرباع القيمة وبين نصف القيمة، وهذا القول كما ذكرنا اختاره جمع من المحققين رحمهم الله.
دية الجنين
قال رحمه الله: [ويجب في الجنين ذكرا كان أو أنثى عشر دية أمه غرة] .
هذا النوع الثالث من المنقصات وهو: الجنين، والجنين: من جن الشيء إذا استتر، وتوارى عن الأنظار فلم ير، ومنه سمي البستان جنة؛ لأن من دخل البستان سترته أشجاره وزروعه.
وسمي الجن جنا؛ لأنه مستور عن الأنظار ولا يرى، قال تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف:27] .
فأصل الجن هو: الاستتار، وسمي المجن وهو الدرع؛ لأنه يقي الإنسان ويحفظه من الضربات أثناء القتال، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: أنه وقاية للعبد من النار، قال بعض العلماء: المراد بقوله: (الصيام جنة) أنه إذا ضرب الصراط على متن جهنم، وأمر الناس أن يجتازوا كان الصوم وقاية من كلاليب النار، فمن حفظ صومه تاما كاملا حفظه الله من ناره، ومن ضيع خطفته الكلاليب على حسب ضعف هذه الجنة؛ لأنها وقاية، فالجن والمجن هو الساتر هو الاستتار.
لو حصلت جناية على نفس فإنها تضمن بديتها كاملة، هذا الأصل، لكن الجنين نقص عن هذا، وجاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، والجناية على الجنين لها صور.
تارة تكون جناية عمد مثل المرأة الحامل تختصم مع غيرها -ذكرا أو أنثى- فيضربها على بطنها، فيقتل جنينها فتسقطه، هذه صورة من صور العمد، أو يكون الطبيب قاصدا إسقاط هذا الجنين متعمدا لقتله بعد ثبوت حياته, فيعطيها دواء ليقتل الجنين في بطنها ثم تسلبه وتسقطه، هذه جناية عمد كذلك إذا تحقق وثبت أنه حي.
ومن الجنايات: جناية الخطأ وشبه العمد في الاختصام، مثل أن تقع خصومة بين امرأتين ولا تقصد قتل جنينها فتضربها، فمن أثر الضربة تسقط المرأة، أو تأتي الضربة في مكان قريب من الجنين فلا تتمالك المرأة فتسقط جنينها، فهذه تعتبر عند العلماء رحمهم الله والجمهور شبه عمد.
ومن قتل الجنين والاعتداء عليه: الاعتداء على سبيل الخطأ؛ مثل أن يعطيها أحد دواء ولا يعلم أن هذا الدواء يترتب عليه إسقاط الجنين، فتسقط جنينها.
كذلك المرأة نفسها تستعمل الدواء فتخطئ في الدواء فيسلب هذا الدواء جنينها، كل هذه صور من صور إسقاط الأجنة والاعتداء عليها.
هذه المسألة -الاعتداء على الجنين- فيها قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت حادثتان -فيما شهر- الحادثة الأولى: لمرأتين من هذيل، والحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اختصمتا، فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها فأسقطت ما في بطنها وقتلت الجنين) .
كذلك أيضا في الحديث الآخر وهو صحيح: في اختصام امرأتين من بني لحيان اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى فأملصت وأسقطت جنينها.
وجاء عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين أنهم عملوا بهذا القضاء، فـ عمر رضي الله عنه وقعت في عهده هذه الحادثة -وهي الاعتداء على الجنين- فقام رضي الله عنه خطيبا في الناس وقال: أحرج بالله على من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر قضاء أن يخبرنا، فقام له المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
وذكر له الحديث، فقال له: لتأتيني بمن يشهد معك، فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه وشهد معه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص المرأة بغرة وليدة عبد أو أمة.
الغرة هي من أنفس المماليك، وأصل الغرة: البياض في جبين الفرس، وفي قوائمه: التحجيل، ومنه الحديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء) .
والقضاء بثبوت الغرة شبه مجمع عليه، وفيه بعض الخلاف الشاذ لكن لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضى به جماهير السلف والخلف رحمهم الله.
ولابد من وجود أمور حتى نحكم بهذا القضاء، فإذا اعتدى أحد على الجنين لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسقط المرأة الجنين حيا ثم يموت.
الحالة الثانية: أن تسقط الجنين ميتا.
فإذا أسقطت الجنين حيا من أثر الضربة، فلا يخلو إما أن يعيش فترة وجيزة جدا أو يموت مباشرة بعد سقوطه، والضابط عندهم في ثبوت الحياة: أن يتحرك حركة قوية أو يصيح؛ مثل رفع اليد ورفع الرجل، هذه تثبت الحياة، ولذلك يثبت له الإرث، وتترتب عليه أحكام الحي.
فإذا سقط الجنين حيا وثبت بقول أهل الخبرة، أو ظهرت الدلائل على أن موته وسبب موته بفعل الجناية، فهذا فيه دية كاملة ذكرا كان أو أنثى، على نفس التفصيل الذي تقدم معنا.
وإذا قصد قتله فهذا قتل عمد، فإذا ثبت وأقر أنه قصد قتله عمدا وعدوانا فلا إشكال، فيه القصاص على التفصيل الذي تقدم معنا.
من حيث الأصل عند أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا نزل الجنين وسقط مباشرة بعد الضربة أو وجدت الآثار والدلائل الواضحة على أن هذا السقوط كان بفعل الضربة، وأنه أثر في الجنين حتى مات، وكان موته بسبب الإسقاط والإملاص، فإنه حينئذ يكون حكمه ثبوت الدية كاملة إذا عدل عن القصاص، على التفصيل من حيث كونه عمدا أو خطأ.
لكن لو عاش هذا الجنين بعد الإسقاط وبقي فترة ثم مات، وقال الأطباء: إن موته الغالب فيه ليس بسبب الإسقاط، فحينئذ لا ضمان فيه.
إذا: إذا سقط حيا ومات بفعل السقوط بسبب الإملاص والضرب والاعتداء ففيه ما فيه من الاعتداء على الحي؛ لأنه اعتدى على جنين حي وأضر به وأزهق روحه إن كان أدى إلى موته، وحينئذ يضمنه بما يضمن به الزهوق في حال الاعتداء والقصاص، وإذا عفوا فالدية.
لكن الذي يهمنا: أن الدية لا تنقص؛ لأنه في هذه الحالة جناية على روح ونفس لها ما للأنفس، سواء كان الجنين ذكرا أو كان أنثى، هذا الأصل.
الحالة الأولى: أن يعيش فترة ويثبت أن موته بعد عيشه بسبب آخر، فحينئذ لا ضمان عليه؛ لأنه مات بسبب لا دخل للجاني فيه.
الحالة الثانية: أن يسقط الجنين ميتا؛ فإما أن يكون كامل الخلقة أو يكون ناقص الخلقة، فإذا أسقطت جنينا كامل الخلقة أو ناقص الخلقة بل حتى لو أسقطت وليس فيه من صور الآدمي -كما لو أسقطت قطعة لحم فيها تخلق يد أو رأس أو رجل- فهذا هو الذي يضمن بالغرة.
وهذه الغرة: عبد أو أمة وليدة، واختلف العلماء، فبعضهم يقول: ما بين سبع سنوات إلى عشرين سنة، والأنثى لا تبلغ أكثر من عشرين، وهو أحد القولين عن الشافعي، وقيل في الذكر: لا يزيد عن خمسة عشر سنة، وقال بعض العلماء: إنه غرة وليدة أو عبد سواء حتى ولو كانت كبيرة، لكن يشترط في هذه الغرة أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن تكون هرمة، أو يكون شيخا هرما، ولا يجزئ أن تكون معيبة بنقص في الخلقة: كالعور، والعرج، والشلل، والصمم والبكم ونحو ذلك من العيوب التي تقدمت معنا.
فيجب أن تكون سالمة من العيوب، ولا تضمن الجناية بغرة معيبة، ويشترط في إثبات الضمان بالغرة أن ينفصل هذا الجزء، فلو أنها أخرجت يدا أو رجلا أو قطعا من اللحم فيها صورة تخلق الآدمي يشترط أن تنفصل، ولا تكون متصلة، لكن لو أنها أخرجت يدا ثم ماتت ولم ينفصل، وجاء عن بعض العلماء أنه لا ضمان عليه، والضمان على النفس التي هي الأم، ويفصل فيها إذا كان الاعتداء بالجناية عمدا أو خطأ، هذا من حيث الأصل.
(فيها وليدة) الوليدة تعادل عشر دية الأم، ولذلك قضى الخلفاء الراشدون ومنهم عمر رضي الله عنه بأن الغرة تعادل خمسا من الإبل؛ لأن الدية مائة بالنسبة للذكر، وخمسون بالنسبة للأنثى، وعشر الخمسين خمس من الإبل، ولذلك تضمن بهذا القدر (خمس من الإبل) وهناك رواية صححها بعض العلماء عن عمر رضي الله عنه أنه جعل العدل خمسين دينارا أو ستمائة درهم، وهذا على نفس الأصل؛ لأنها تعادل خمسا من الإبل، وهذا عشر الدية، فإذا ثبت أنها عشر الدية فبعض العلماء يخصها بالإبل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول يصبح عشر دية المرأة من الذهب هو خمسون دينارا؛ لأننا بينا أن ألف دينار هي الدية، والمرأة ديتها خمسمائة دينار، وعشر الخمسمائة خمسون، وبالنسبة للفضة فهي اثنا عشر ألف درهم، ونصفها ستة آلاف درهم دية المرأة، وعشر الستة آلاف درهم ستمائة درهم، وبعض العلماء يقول: لا نعطي إلا خمسا من الإبل، والخمس من الإبل تعادل الوليدة.
الجواري والعبيد ما عادوا موجودين في الوقت الحاضر، ففي هذه الحالة إذا قلنا: إن الإبل أصول والذهب والفضة عدل الإبل، ينظر قيمة الخمس من الإبل كم تعادل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول، فحينئذ ننظر كم تعادل الخمسون دينارا؟ وكم تعادل الستمائة درهم؟ لكن إذا قلنا: إنها عدل عن الإبل فحينئذ تنظر إلى قيمة الخمس من الإبل، ولربما كانت قيمة الخمس من الإبل مائة دينار، ولا تعادل خمسين دينارا، وهذا هو الفرق؛ فأنك إذا جعلت الإبل هي الأصل وألغيت الذهب والفضة في الغرة فحينئذ تقول: انظر إلى قيمة الخمس من الإبل بالغة ما بلغت، إذا ما تيسر وجودها يدفع عدلها.
من حيث الأصل قالوا: إن خمسا من الإبل تعادل الغرة، وهي عشر دية الأم.
قوله: [وعشر قيمتها إن كان مملوكا] .
أي: قيمة الأم، إن كان الجنين مملوكا، صورة المسألة: أن يعتق سيد أمة ويستثني ما في بطنها، فيكون ما في بطنها وهو الولد مملوكا له، فمثلا: لو أذن لأمته أن تتزوج وتزوجت عبدا، فلما تزوجت عبدا أعتقها، وإذا أعتقها يكون لها الخيار -كما تقدم معنا في النكاح- فإذا حملت من هذا المملوك فالولد تابع لأمه رقا وحرية؛ لكن المولى استثنى هذا الجنين وقال: هذا الجنين ملك لي، يعني: أعتقها وأستثني جنينها الذي تحمله في بطنها، وهذا وجه عند العلماء، فيجوز أن يعتق الأمة ويستثني ما في بطنها، فإذا استثنى ما في بطنها فحينئذ تنزل الأم -التي قد أعتقت وأصبحت حرة- منزلة الأمة فتقوم كأنها أمة، وينظر كم قيمتها فيدفع عشر القيمة، والسبب في هذا واضح؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إن الغرة تعادل الخمس من الإبل كما ذكرنا، وهي بهذه الحالة تعادل عشر دية المرأة.
وفي الرقيق قلنا: إن المعتبر في ديته النظر إلى ما أنقصته الجناية من قيمته.
قوله: [وتقدر الحرة أمة] .
ال
أحكام جناية الرقيق
قال رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه، أو فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف مالا بغير إذن سيده: تعلق ذلك برقبته، فيخير سيده بين أن يفديه بعشر جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه] .
قوله رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه] .
الرقيق جنايته في رقبته، وبناء على ذلك بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة أنه إذا كانت جنايته قدرت نقول لسيده: إن شئت ادفع قيمة هذه الجناية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ نفعه يتحمل ضرره، ونقول له: إن شئت أن تدفع هذه الجناية وإلا كانت الجناية في رقبة المملوك، وإذا كانت في رقبة المملوك فرضنا أن هذه الجناية تعادل قيمته، أو أكثر من قيمته، فحينئذ قال السيد: أنا لا أدفع! ولا أريد أن أدفع وهذا العبد عندكم، يرد
السؤال لو قال المجني عليه: لا أريد العبد، أنا أريد ثمن الجناية التي جنى علي.
مثلا: الجناية بخمسين ألفا، والعبد قيمته خمسون ألفا، فحينئذ لابد من بيع العبد، فمن الذي يتولى البيع ويتحمل تكاليف البيع وعبء البيع؟ وجهان للعلماء في ذلك، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: هل يتولى السيد أو يتولى ذلك المجني عليه؟ والأقوى في الحقيقة أنه يتولاه سيده؛ لأنه استحقاق وهذا عبده، فيسلم للمجني عليه حقه.
قال: [أو فيه قود واختير فيه المال] .
يعني: شيء يثبت في عوض ماله، وإذا قلت: يثبت في عوض ماله إما أن يجني جناية قطعا فعوضها بالمال وفيها الدية وأرش الجناية، وإما أن يجني جناية عمد ويعفو من جني عليه ثم يطالب بالمال.
قال: [أو أتلف مالا بغير إذن سيده] .
مثلا: دخل مزرعة شخص وأتلف شجرة، أو أحرق سيارة، أو هدم دارا، أو قتل حيوانا، وهذا الحيوان مملوك، فهذه كلها أموال اعتدى عليها، ولكن هذا الاعتداء من العبد لم يكن بإذن من سيده؛ لأنه لو أذن له سيده ففي هذه الحالة يضمن السيد؛ لأن العبد في الأصل مطيع لسيده، وربما كان يظن أن سيده عنده شبهة، فلذلك يتحمل السيد ضمان هذه الأشياء؛ لأن فيها نوعا من الإكراه، والعبد لا يستطيع أن يخرج عن إذن سيده في الغالب، ومن هنا يضمن السيد إذا قهره على ذلك وأمره به وألزمه به.
لكن إذا فعل العبد من تلقاء نفسه هذه الجنايات وأتلف للناس أموالهم، فإنه حينئذ يجب الضمان على ما ذكرناه.
قال: [تعلق ذلك برقبته] .
نقول لسيده: إن شئت أن تدفع وإلا قمت ببيع العبد؛ على القول أنه يتولى بيعه، وإلا أخذناه؛ على القول الثاني أنه يأخذه ولي المجني عليه ويبيعه.
قال: [ويخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته] .
(يفديه): يخلصه، يقول سيده: كم أتلف؟ قالوا: أتلف خمسة آلاف، فيفديه بدفع الخمسة آلاف ويخلصه.
قال: [أو يسلمه إلى ولي الجناية] .
أو يعطيه ولي الجناية ويقول له: دونك العبد، وهذا على ما ذكرنا أن الذي يبيعه هو ولي الجناية، لكن لو امتنع ولي الجناية وقال: أنا لا أريد إلا حقي؛ لأن بيع العبد قد يتأخر، ولأن فيه كلفة ودفع مال للبائع، وأجرة من يتولى بيعه، فهذا كله فيه ضرر على المجني عليه، يعني: ينقص من قيمة العبد.
قال: [فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه] .
لو كانت الجناية قيمتها خمسين، والعبد قيمته خمسون، فقال: رأس برأس! نقول لسيده: هل تدفع؟ فإذا قال: لن أدفع، قلنا: هذا العبد قيمته خمسون والجناية قيمتها خمسون، إذا: الجناية متعلقة برقبته، فنقول للمجني عليه: ما رأيك؟ فإذا قال: أنا آخذه بقيمته، فحينئذ لا إشكال.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 07:56 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (506)

صـــــ(1) إلى صــ(25)



شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [1]
جاءت الشريعة الإسلامية ببيان ديات الأنفس، وجاء عند الفقهاء التفصيل في تحديد المقادير المختلفة لهذه الديات، وكما أن الدية تثبت بالجناية على النفس، فهي تثبت أيضا بالجناية على العضو، والجناية على العضو إما أن تكون بالجناية عليه كقطع اليد أو الرجل أو الأذن، وقد تكون بالجناية على منفعة العضو، وقد بين العلماء رحمهم الله دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، ودية منفعته ودية الشجاج والكسور.
دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيء واحد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ديات الأعضاء ومنافعها] .
تقدم معنا أن الديات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالديات من ذوات الأنفس، فإذا كانت الجناية بالقتل فإن الدية تكون كاملة.
وأما القسم الثاني: فهو الجناية على ما دون النفس، وتقدم بيان الديات إذا كانت متعلقة بذوات الأنفس، فبينا فيها دية المسلم والكافر، على اختلاف أنواع الكافر، وكذلك أيضا دية الرجل والمرأة ودية الجنين.
بعد هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان الدية المتعلقة بما دون النفس، وما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأطراف وغير الأطراف، فالجناية إذا كانت على الأطراف، مثل: أن يقطع عضوا كاليد أو الرجل أو الأذن أو الأنف ونحو ذلك.
وإما أن تكون جناية على منفعة الطرف، أو جناية بالشجاج أو الكسور.
فهذه كلها تتعلق بالجناية على ما دون النفس، والديات إذا بحثها العلماء رحمهم الله فيما دون النفس: إما أن يبينوا دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، وإما أن يبينوا دية منفعته، وإما أن يبينوا دية الشجاج، وإما أن يبينوا دية الكسور.
هذه أربعة مباحث سنتكلم عليها، وسيبينها المصنف رحمه الله: الأول: يتعلق بدية الأعضاء إذا قطعت وأبينت، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بإبانة الطرف، فإذا قطع يده أو قطع أنفه أو أذنه، فإنه تجب عليه الدية في ذلك العضو الذي قطعه.
الثاني: تكون الجناية على منفعة العضو، لا على العضو نفسه، فلو ضربه ضربة -والعياذ بالله- أذهبت سمعه، أو أذهبت بصره، أو أذهبت شمه، فهذه منفعة من المنافع، العضو موجود ولكن منفعة العضو غير موجودة, وحينئذ يكون الضمان للمنافع.
الثالث: يتعلق بالشجاج، وهي الجروح التي تكون في الوجوه؛ خاصة في الرأس.
والمبحث الرابع والأخير: ما يكون من الكسور؛ سواء كانت الكسور تامة أو قاصرة أو ناقصة، كل هذا سيبينه العلماء رحمهم الله في قولهم: (باب ديات الأعضاء ومنافعها) .
إذا كان الأمر يتعلق بأربعة أشياء: الأعضاء، منافع الأعضاء، الشجاج، الكسور، والمصنف رحمه الله قسم هذه الأربعة إلى بابين: الباب الأول: يتعلق بالأعضاء ومنافعها.
والثاني: يتعلق بالشجاج والكسور.
ففي الموضع الأول الذي سنبحثه اليوم -إن شاء الله تعالى- يتعلق بديات الأعضاء ومنافعها، والذي يليه سيتعلق بالشجاج والكسور.
قسم هذا الباب إلى قسمين: الأول: يتعلق بديات الأعضاء، والثاني: يتعلق بمنافع الأعضاء.
قال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد؛ كالأنف واللسان والذكر، ففيه دية النفس] .
الأعضاء في بدن الإنسان تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما كان منه في الإنسان شيء واحد، مثل ما ذكر المصنف رحمه الله؛ كاللسان والذكر.
وهناك أعضاء في الإنسان منها شيئان، مثل: الأذنين، والعينين.
وهناك أعضاء في الإنسان فيها ثلاثة أشياء منقسمة وهو: الأنف؛ لأن الأنف ينقسم إلى منخرين وحاجز بينهما.
النوع الرابع: ما في الإنسان منه أربعة أشياء: كالأهداب والأجفان.
النوع الخامس والأخير: ما في الإنسان أكثر من أربعة أقسام: مثل الأسنان والأصابع.
هذا بالنسبة للأقسام الرئيسة الموجودة في أعضاء الإنسان، وابتدأ المصنف بما في الإنسان منه شيء واحد، فقال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد] .
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا كان العضو واحدا في البدن وقطعه أن عليه الدية كاملة، وهذا له أحاديث وأصول وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه عليه الصلاة والسلام لأهل اليمن.
يقول رحمه الله: [من أتلف.
] الإتلاف أصله: الإفساد، والمراد هنا: أن يقطع العضو كاملا، أو يبينه من الجسد إبانة كاملة، فلو كان الإتلاف ناقصا مثل: أن لا يقطع العضو كاملا، ولكن يقطع نصف العضو، أو ربع العضو، أو ثلث العضو، فحينئذ تكون الدية بحصة ما قطع، فإن قطع النصف فالنصف، وإن قطع الربع فالربع، فمثلا: لو قطع نصف اللسان، وأذهب نصف الحروف، فعليه نصف الدية، ولو أنه قطع نصف الأذن فعليه ربع الدية؛ لأن كل أذن فيها نصف الدية، فإذا قطع بعضها وأتلف بعضها، وكان هذا الإتلاف بقدر النصف، فإنه حينئذ يكون نصف النصف: الربع، فيكون عليه ربع الدية، ولو أنه قطع ثلث الأذن فحينئذ يكون ثلث النصف بالنسبة للأذن اليمنى، أو الأذن اليسرى.
الأنف
قال رحمه الله: [كالأنف] : الأنف هو العضو المعروف، والذي جعل الله عز وجل فيه حاسة الشم للإنسان، والمراد بالأنف: ما لان منه، وهو العضو البارز في الوجه، وقطع هذا العضو المراد منه: أن يستأصل ما لان منه، يعني: الزائد عن حد الوجه، لو أنه قطعه واستتم القطع، وهذا ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (وفي الأنف إذا أوعب جدعا) ، يعني: إذا استوعبه كاملا، وهذا يكون لما لان من الأنف، وهو الذي يسمى: مارن الأنف، وفيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فلو أنه قطع أنفه-والعياذ بالله- فاستتم القطع، فقد أذهب الجمال، وأذهب المنفعة، وفي بعض الأحيان تذهب المنفعة، ولا يذهب العضو، لكن مادام أنه قد أزال العضو كاملا فعليه الدية، وبناء على ذلك: يرد
السؤال ما الدليل على إيجاب الدية في قطع الأنف؟ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه: (وفي الأنف إذا أوعب جدعا: الدية) فأمر عليه الصلاة والسلام في الأنف إذا قطع كاملا: الدية.
ولو أنه قطع نصف أنفه، فأخذ النصف الأعلى، وترك النصف الأسفل، فإنه يجب عليه نصف الدية، أما لو أنه قطع المنخر الأيمن، أو قطع المنخر الأيسر فعليه ثلث الدية، ولو أنه قطع المنخرين فعليه ثلثا الدية، ولو أنه عمل له طبيب عملية جراحية فأزال الحاجز بين المنخرين، وقال الأطباء: إنه أخطأ الطبيب، وأن هذا ليس بسائغ طبيا، وليس له داع، فإذا تبين أن الطبيب أخطأ فعليه ثلث الدية.
إذا: في المنخر الأيمن ثلث، وفي الأيسر ثلث، وفي الحاجز بينهما الثلث، لكن المصنف رحمه الله هنا يتكلم على قطع الأنف كاملا.
اللسان
قال رحمه الله: [واللسان] : والمقصود هنا اللسان المتكلم، أي: إذا قطع لسان متكلم لا أخرس، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان رجل يتكلم أن عليه الدية، سواء كان صغيرا أو كبيرا، يجب أن يضمن له ذلك، ولو قطع بعض اللسان، مثل: نصف اللسان، نظرنا: فإذا أذهب الحروف كاملة وأصبح لا يتكلم، فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، لكن لو أنه بقي يتكلم ببعض الحروف، وذهبت بعض الحروف فإنه تقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي حروف الهجاء، وينظر في كل حرف بحسبه، وينظر ما هي الحروف التي ذهبت، ثم تقسط الدية على قدر ما ذهب من الحروف.
الدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي اللسان الدية) وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان شخص عليه الدية، لكن بعض العلماء يفصل في مسألة الحروف وانقسامها، ويفرق بين الحروف الأربعة التي تخرج من الشفة، والستة التي تخرج من الحلق، التي تخرج من باقي اللسان، فيجعل أقساط الدية على هذا، ولكن المحفوظ المشهور: أنها تقسم على الحروف كلها، وينظر: ما الذي أتلف من هذه الحروف ولم يستطع أن يتكلم به، فيجب عليه ضمانه.
الذكر
قال: [والذكر] : وفي الذكر الدية، أجمع العلماء أيضا رحمهم الله على أنه لو قطع الذكر فعليه دية، مثلا: لو أن طبيبا قرر: أن الشخص مصاب بالسرطان -والعياذ بالله- وقال له: لابد من استئصال هذا العضو، فلما استأصله تبين أنه ليس مصابا به، فإنه يجب عليه ضمان الدية كاملة، ولو أنه جنى عليه جناية فقطع ذكره، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو قطع بعضه كانت الدية بقسط ما قطع، لكن عند بعض العلماء مسألة: إذا منع انتشار الذكر، فإذا منع انتشار الذكر وجبت الدية كاملة، وهذا سيأتي في المنافع أنه أصل عندهم، فإذا ذهبت وجبت الدية.
ذكر المصنف رحمه الله هذه الثلاثة الأشياء: الأنف، واللسان، والذكر، على أنها موجودة واحدة في الإنسان، وعلى أن هذه الأعضاء إذا قطعت ففيها الدية كاملة، إذن الضابط: أن يكون العضو واحدا في الإنسان فتجب به الدية، يلتحق بهذا الصلب؛ فإن الصلب إذا جنى عليه فأضره وأذهب منفعته، وجبت الدية كاملة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه في الديات: (وفي الصلب الدية) ، وأجمع العلماء رحمهم الله من حيث الجملة: أن الصلب فيه الدية.
أيضا يلتحق بالأعضاء الواحدة في الإنسان: الجلد، قالوا: فلو سلخ جلده-والعياذ بالله- مثل: أن يرميه في بركة فيها أسيد، أو مادة حارقة، فانسلخ جلده كله، ثم جاء شخص وقتله، لأن الجنايات -والعياذ بالله- والجرائم تتنوع، فلو أن شخصين اعتديا على شخص، فجاء الأول ورماه في هذا الموضع حتى سلخ جلده، ثم أدركه الثاني قبل موته، لأنهم يقولون: إذا انسلخ الجلد لا يعيش الإنسان، وهذا نص عليه بعض الأئمة رحمهم الله وذكروه عن بعض الأطباء، لكن لو أنه بقي بعد سلخه، وجاء الآخر وقتله، فحينئذ السلخ فيه الدية كاملة، والقاتل أيضا يجب عليه القصاص إذا كانت النفس مستقرة على الأصل الذي قررناه في مسألة ما تقدم معنا في الحياة التي يشرف الإنسان معها على الهلاك، هل هي حياة مستقرة؟ أو هي كالعدم؟ فالشاهد: أنه لو سلخ جلده وجبت عليه الدية كاملة، فلو أنه أخذه فرماه في بركة فيها أسيد، أو صب عليه الأسيد حتى سلخ جميع جسده، ثم جاء سبع وقتله، فإنه يجب على من سلخ الجلد الدية كاملة، والجلد واحد في البدن، فهو من الأعضاء التي لا تتعدد، كذلك أيضا شعر اللحية، وشعر الرأس، هذه واحدة في البدن، فلو أنه سقاه الطبيب دواء، أو قال له: أعالج لك تساقط الشعر، فسقاه دواء فأسقط جميع شعره، فأصبح أصلع الرأس، ولا يمكن علاجه، وجب على الطبيب أن يضمن الدية كاملة، وكذلك اللحية، لو سقاه دواء فأسقط لحيته، وتبين أن هذا الدواء مضر، أو أنه من الخطأ أن يأخذه المريض، أو لا حاجة لسقي المريض منه، فإنه حينئذ يضمن، لكن لو وجدت حاجة، مثلا: في بعض أدوية السرطان -أعاذنا الله وإياكم- أو أدوية بعض الأمراض، إذا سقي الدواء تساقط شعر اللحية، فهذا ليس بمؤثر، خاصة إذا وجدت الحاجة والضرورة إلى ذلك.
قال رحمه الله: [ففيه دية النفس] : أي: فيه الدية كاملة؛ لما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذه الأشياء كما في كتاب عمرو بن حزم، وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الدية كاملة إذا قطع لسانه، أو قطع أنفه، أو قطع ذكره، وكذا إذا اعتدى على صلبه، وإذا اعتدى على الجلد كما ذكرناه، فإنه يجب عليه أن يضمن هذا العضو الذي أتلفه بالدية كاملة.
دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيئان
قال رحمه الله: [وما فيه منه شيئان: كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل، واليدين، والرجلين، والإليتين، والأنثيين، وإسكتي المرأة، ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها] : قال: [وما فيه منه شيئان] : هذا النوع الثاني من الأعضاء، وهو ما في الإنسان منه شيئان، يشمل ذلك: العينين، والأذنين، واللحيين، والثديين، وثندوتي الرجل، وإسكتي المرأة، وإليتي الرجل، والرجلين، واليدين، فهذه كلها مثناة في الإنسان، يلتحق بها الأنثيان، وقد نص عليهما عليه الصلاة والسلام ولم يذكرهما المصنف، لكن تلتحق بالأعضاء المثناة، ويلتحق أيضا حلمتا الثدي، وسيأتي-إن شاء الله- بيانهما.
دية العينين
قال رحمه الله: [كالعينين] : لو أنه قلع عينيه، أو اعتدى على العينين ففقأهما، وجبت عليه الدية كاملة، وذلك محل إجماع بين العلماء رحمهم الله: أن العينين فيهما الدية كاملة، وأن كل عين فيها نصف الدية، ولا تفضل اليمنى على اليسرى، وإذا كان أعور ففقأ عينه، أو قلع عينه، فقضى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عمر، وعلي، وغيرهم رضي الله عنهم أن عين الأعور فيها الدية كاملة؛ لأنها منزلة منزلة العينين، والأصل: أن العين الواحدة فيها نصف الدية، ولكن قالوا: لأنه لما لم تبق له إلا هذه العين واعتدى عليها، أذهب له منفعة النظر.
ويستوي في العينين أن تكونا صغيرتين، أو تكونا كبيرتين، ولو أنه سقاه دواء، أو عالجه طبيب فأذهب عينيه، وقال الأطباء: إن الطبيب قد أخطأ؛ لأن الأطباء يجب عليهم الضمان، فيشهد طبيبان عدلان: أن هذا الذي فعله الطبيب خطأ، ومسألة ضمان الطبيب فيها تفصيل، خاصة في عصرنا الحاضر، في بعض الأحيان يكون الخطأ من التشخيص الذي يكتب للطبيب، ولا يتحمل الطبيب فيه المسئولية، إلا إذا كانت هناك أصول يجب عليه أن يتبعها من التأكد، ونحو ذلك، أما إذا كان العبء الأكبر على غيره، وكتب له ذلك الغير مثل التحاليل، والتصاوير، وكتب المصور تقريره، وبنى الطبيب على هذا التقرير، فحينئذ يكون المتحمل المشخص لهذا المرض؛ لأنه هو الذي تسبب في خطأ الطبيب، المهم أن هذا كله يحتاج إلى تفصيل، لكن من حيث الأصل: لا تذهب أرواح الناس وأجسادهم هدرا، وأن الطبيب إذا أخطأ يتحمل المسئولية؛ وذلك أدعى للاحتياط والمحافظة على أرواح الناس وأجسادهم، ولو أنه سقاه دواء فأذهب البصر، أو أضر بعينيه، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو أضر بإحدى عينيه، أو قال: أفعل لك عملية جراحية، فعمل له العملية الجراحية وأتلف عينه، أو أتلف عينيه فإنه يجب عليه الضمان.
دية الأذنين
قال رحمه الله: [والأذنين] : لو قطع الأذنين فعليه الدية، ولو قطع إحدى الأذنين ففيها نصف الدية، كما نص عليه الصلاة والسلام على هذا، والأصل يدل على هذا، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في اليدين وفي الرجلين الدية، وفي العينين الدية، وقال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) فبين أن الاثنين: وهما اليدان، والرجلان، والعينان، فيهما دية كاملة، أما الواحدة منهما: فيها شطر الدية، ومن هنا أخذ العلماء القاعدة: أن العضو الذي في الإنسان منه شيئان اثنان فيهما الدية كاملة، وإن أتلف واحدا منهما ففيه نصف الدية.
دية الشفتين
قال رحمه الله: [والشفتين] : الشفتان: عضوان في الإنسان، فيهما منفعة المحافظة على الأسنان، والمحافظة على اللثة، ويستفيد منهما في طعامه، ويستفيد منهما في شرابه، ففيهما منفعة للإنسان، وحدهما: مما أقبل منهما على الفم، العليا: إلى حدود المنخر أو الأنف طولا، وبالنسبة للسفلى: من العالي منهما المنطبق مع الشفة العليا إلى الحد الذي ينفصل عن أسفل أصول الأسنان، فلو أنه استأصل الشفتين من المنخرين إلى ما سفل عند اللحي والذقن؛ فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، لكن لو أنه أخذ جزء هذا المحدود بقدر النصف وجبت ربع الدية في الشفة السفلى إذا أخذ نصفها، وربع الدية في الشفة العليا إذا أخذ نصفها.
فهذا العضو: أجمع العلماء رحمهم الله على أن فيه الدية كاملة، وأن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية.
دية اللحيين
قال رحمه الله: [واللحيين] : وهما العظمان السفليان اللذان عليهما الأسنان والأضراس، اللحي الأيمن، واللحي الأيسر، فلو أنه ضربه ضربة أتلفت أحد لحييه، كما في بعض حوادث السيارات ونحوها-نسأل الله السلامة والعافية- فإنه يجب في كل واحد من اللحيين نصف الدية، ولو أنه قضى على اللحيين فأزال اللحيين كليهما فإنه يجب عليه الدية كاملة.
دية ثديي المرأة
قال رحمه الله: [وثديي المرأة] : ثديا المرأة فيهما منفعة الجمال للمرأة، وفيهما منفعة اللبن للرضيع-الولد- فهي ترضع ولدها، وتقوم عليه؛ لما جعل الله عز وجل في هذين الموضعين من الرزق له في شرابه، فلو أنه اعتدى على ثديي المرأة فأزالهما؛ وجبت الدية، ولو قرر طبيب استئصال الثديين مدعيا وجود مرض في المرأة، وتبين أن المرض غير موجود، وأن هذا الاستئصال ليس في محله؛ وجب عليه أن يضمن الثديين بدية كاملة، ولو استأصل واحدا من الثديين دون الآخر؛ وجب عليه نصف الدية، ثم الحلمتان: وهما في أعلى الثدي، ومنهما يكون سقاء الصبي، ويلتقمها الصبي عند ارتضاعه، هاتان الحلمتان: مذهب طائفة من أهل العلم أن في كل واحدة منهما نصف الدية، ولا يمتنع هذا، كما هو معروف في الأجفان والأهداب، فإن كل جفن فيه ربع الدية، ولو أنه اعتدى على جفنه فأتلف الشعر الموجود في الرمش الأسفل الذي في العين وجب عليه ربع الدية، فلا يمتنع أن يكون متشطرا في جزء الجزء الذي فيه نصف الدية، والحلمة جزء الجزء، ولكنها لوجود المنفعة الخاصة بها في التقام الرضيع لها، وحصول منفعة الارتفاق، حتى إن اللبن قد لا يستمسك، وهذا يضر بالمرأة، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أنه لو استأصل الحلمتين فقط، كأن يقول الطبيب: فيهما مرض، ثم تبين أن المرض غير موجود، وأخطأ فاستأصلهما، فإن عليه الدية كاملة، وهذا لا يلتحق بما ذكره المصنف رحمه الله، لكن لو أنه أزال الثدي كاملا فالحلمة تبع، والتابع تابع، لا يعطى دية خاصة، ومن هنا يكون تابعا، ولا يكون أصلا، إنما يكون أصلا إذا كانت الجناية متعلقة به برأسه.
دية ثندوتي الرجل
قال رحمه الله: [وثندوتي الرجل] : وهما موضع الثديين بالنسبة للرجل في مقابل المرأة، لو أنه استأصل هذا الموضع من الرجل، فهل عليه الدية؟ وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: إذا اعتدى على ثديي الرجل فاستأصلهما لا دية عليه، وإنما فيها حكومة، تقدر هذه الجناية عن طريق أهل الخبرة، ثم يجب عليه دفع وضمان ما يقوله أهل الخبرة في الحكومة.
القول الثاني: وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله أن فيهما الدية، وهذا هو الصحيح؛ لأن فيهما جمالا للرجل، وفي استئصالهما ضرر على الرجل، ولأن المرأة قد لا ترضع، ومع ذلك استئصال الثديين يضر بها، فإذن: استوى الرجل مع المرأة في وجود الجمال، وحصول الضرر في إتلاف هذا الموضع منه، فتجب الدية في ثندوتي الرجل، وفي كل واحد منهما النصف.





ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:03 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




احد منهما النصف.




دية اليدين
قال رحمه الله: [واليدين] : نص عليهما عليه الصلاة والسلام فقال: (وفي اليدين الدية، وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن اليد إذا قطعت فيها نصف الدية، وأن اليدين إذا قطعتا فيهما الدية كاملة، وإذا قطع الكف فقد أذهب منفعة اليد، ومن هنا قالوا: تجب عليه الدية؛ لأن الله يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} [المائدة:38] ، فقالوا: وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون) فإذا قطع اليد من الزندين وجبت الدية، ولو قطعهما من المنكب ففيهما الدية، مثلما ذكرنا في الأهداب والأجفان، فهذا كله مشطر لكنه يوجب، ولو قطع الكفين ففيهما الدية، قال بعض العلماء: إذا قطع الكفين فيهما الدية، ثم الزائد عن الكفين نقدر له الزيادة، وهذا مذهب مرجوح، والصحيح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن الدية تشمل اليدين سواء قطعهما كاملة أو قطع الكفين، كما لو أخذ الأشفار والأهداب من الأجفان فإنها تجب الدية كاملة.
دية الرجلين
قال رحمه الله: [والرجلين] : وكذلك الرجلان: فلو قطع رجليه فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا بإجماع العلماء، وإذا قطع رجلا واحدة؛ فعليه نصف الدية.
دية الإليتين
قال رحمه الله: [والإليتين] : وهما في مؤخر الإنسان، وما بدا من ظهر الإنسان، وفيهما منفعة الجلوس، وهما كالوسادة للإنسان إذا جلس، وفيهما منفعة الستر للدبر بالنسبة للرجل والمرأة، فإذا قطعت الإليتان فإنه تجب الدية كاملة، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله.

دية أنثيي الرجل وإسكتي المرأة
قال رحمه الله: [والأنثيين] : بينا أن السنة نصت على اليدين والرجلين، ونصت على العينين والأذنين، فنبهت بهذه المواضع على أمثالها، فيلتحق بها ما يشابهها من كل مثنى في جسد الإنسان، فذكر المصنف رحمه الله الإليتين، وإسكتي المرأة، وهما الشفران على الفرج، فلو أنه قطع أحد الشفرين فإنه تجب عليه نصف الدية، ولو قطعهما فإنه تجب عليه الدية كاملة، وفي الشفرين منفعة للفرج، واستمتاع في الجماع، وقد يستأصل الشفرين فيضر بالبكارة، وحينئذ إذا استأصل الشفرين-وهما إسكتا المرأة- وأضر بالبكارة، وجبت الدية في الإسكتين والشفرين، ووجب ضمان البكارة على الأصل الذي تقدم معنا في النكاح.
قال: [وإسكتي المرأة ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها] : يلتحق بهذا الأنثيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي البيضتين دية) فالأنثيان وبيضتا الرجل إذا قطعهما وجبت الدية كاملة، وفي الواحدة نصف الدية، فلو أن طبيبا عالج مريضا فقطع منه الأنثيين، -استأصل البيضتين- وجب عليه الدية كاملة إذا تبين أنه أخطأ في هذه الجراحة، وأنه لم يكن يجب قطعهما.
دية المنخرين
قال رحمه الله: [وفي المنخرين ثلثا الدية] : (المنخرين) : المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والأنف فيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فهذه الثلاثة الأشياء توجب تقسيم الدية أثلاثا، فإذا اعتدى على واحد منها وجب عليه ثلث الدية.
قال: [وفي الحاجز بينهما ثلثها] : وفي الحاجز بينهما -يعني بين المنخرين- الثلث؛ لأنه قد ذكرنا أن المنخر الأيمن والأيسر في كل واحد منهما الثلث، والحاجز يجب فيه ثلث الدية.
دية الأجفان
قال رحمه الله: [وفي الأجفان الأربعة الدية] : جعل الله الأجفان لحكمة عظيمة، ورحمة منه سبحانه وتعالى بالمخلوق.
سبحان الله العظيم! عجيب أمر هذا الشرع، يعني الفقهاء رحمهم الله بحثوا في الطب، حتى إنك تجد في الجنايات علوما طبية مفيدة جدا، وهذا الذي نذكره كله باختصار، فلو أردنا أن نتوسع في ضوابط هذه المواضع، وكيفية الجناية عليها وتدقيقها، وكلام العلماء فيها لأخذ منا وقتا طويلا، لكن تتعجب كيف أن العلماء رحمهم الله مع قدمهم، وتجد الكتب القديمة الصفراء قد بحثت هذه الأشياء وتناولتها كأنك تدرس علم التشريح، واليوم يفتخرون باكتشافات في الإنسان، وهذا كان يعرفه العلماء رحمهم الله، ثم تأتي في الطب في كتاب الحج، وتأتي إلى مسائل الطيب، وكونه محظورا من محظورات الإحرام، فيبحث العلماء ما هي الشجرة، أو الثمرة التي تعد طيبا، والتي لا تعد طيبا، وهناك عالم عجيب في عالم الأعشاب وخصائصها، وأنواعها، وما الذي يعتبر منها طيبا، وما الذي لا يعتبر منها طيبا.
ثم تأتي إلى الصيد، فيتكلمون على ما أحل الله عز وجل صيده، وما حرم الله صيده، ويكشفون لك كنوز العلوم العجيبة الغريبة، وقد يعجز بعض من يدرس علم الأحياء عن اكتشاف تلك الدقائق؛ لأنها كانت تجربة واقعية مدروسة خلال قرون متعددة من أناس عاشوا هذه البيئات وعرفوها، حتى إنه في بعض الأحيان يقول: وهذا يجوز أكله، وقال فلان: لا يجوز أكله؛ لأنه يورث كذا وكذا، أي أن لحمه يورث مرضا معينا، وهذا من أغرب ما يكون، بل في بعض الأحيان يقول: وهو صيد، ولحمه ينفع من مرض كذا وكذا، فتجد فوائد عظيمة جدا، وهذا كله كتب بعض العلماء فيه في القرن الثالث الهجري، بل بعضهم في القرن الثاني الهجري، ولم يقتصروا على ذلك، بل بحثوا في الأفلاك، ومنازل القمر، وحسابات المنازل وترتيبها، ومتى يحكم بدخول الشهر، ومولد الهلال، ومتى لا يحكم.
فتعيش في علم الفلك، والكسوف، والخسوف، ثم تدخل في علم الفلك في الجهات، واستقبال القبلة، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في غيم، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في سفر، وإذا كانت القبلة في الغرب تجعل الشمس أمامك عند غروبها، ووراء ظهرك عند شروقها، هذه الأشياء المفيدة القيمة درسها العلماء ونبهوا عليها، ومنها ما نحن فيه الآن؛ الأعضاء وصفاتها، وحينما يتكلمون عن الأدلة يفصلون فيها، يقولون مثلا: الجفن فيه منفعة المحافظة على العين، فإذا استؤصل الجفن انكشفت عينه وتضرر، وفيه منفعة الجمال، ويقي ويحفظ، والشفة كذلك: تحفظ الأسنان، وتحفظ اللثة، وأيضا فيها السقيا عند السقاء، واللسان فيه منفعة الكلام، وفيه منفعة إدارة الطعام على الطواحن، وإدارته على الأسنان، وأيضا عند شربه، هذه كلها أشياء ذكرها العلماء رحمهم الله وفصلوا فيها، ثم فصلوا، وهذا ما نؤخره إلى مسألة المنافع كي يتضح أكثر؛ لأننا في الأعضاء نتكلم عن الجفن وإبانته، لكن في المنافع يتضح هذا أكثر، وهنا يبين رحمه الله ما في الإنسان منه أربع: وهي الأجفان: الجفن الأعلى، والجفن الأسفل في العين اليمنى، والجفن الأعلى والأسفل في العين اليسرى، فلو أنه جنى على الجفن الأعلى فيهما-يعني في العينين- وجبت عليه نصف الدية؛ لأن الجفن الأيمن فيه الربع، والجفن الأيسر فيه الربع، ولو جنى على جفن واحد من الأربعة الأجفان فعليه ربع الدية، كذلك أيضا بالنسبة للشعر -الرموش- الموجودة في العين: إذا أعطاه دواء أسقط رمش عينه في الجفن الأعلى وجب عليه ربع الدية، ولو أعطاه دواء أسقط الرمش والشعر الذي في العينين وجبت الدية كاملة؛ لأن كل جفن فيه ربع الدية، وحينئذ يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا أتلف الأربع، وإذا أتلف البعض فبحسابه.
قال: [وفي كل جفن ربعها] : وفي كل جفن من أجفان العين الربع، فإذا كان الأسفل ففيه الربع، وإذا كان الأعلى ففيه الربع؛ من اليمنى، أو اليسرى، مثلما ذكرنا، العين نفسها لو فقأها فيها نصف الدية، وهذا لا يمنع؛ لأن العين نفسها فيها منفعة الإبصار، ثم الجفن له منفعة تغاير منفعة العين، ومن هنا فصل العلماء في مسألة قطع اليد-كما ذكرنا- وذكروا أنه تجب فيه الدية، ونصف الدية على إبانة الكف، وهي منفعة كاملة، فإذا قطع يده من الزندين؛ أذهب منفعة كاملة، لأنه لا يستطيع أن يمسك الأشياء، ولا يستطيع أن يحمل الأشياء، ولا يستطيع أن يرتفق في كتابته، وغير ذلك من المنافع الموجودة في الكف وليست موجودة في الساعد، ومن هنا تكون مستقلة, ويجب ضمانها بحقها كاملا.

دية الأصابع
قال رحمه الله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين, وفي كل أصبع عشر الدية] : الأصابع عشرة، والدية مائة من الإبل، ففي كل أصبع عشر من الإبل بالنسبة للذكر، وخمس من الإبل بالنسبة للأنثى، فكل أصبع يعادل العشر، فنوجب عليه إذا قطع أصبعا واحدا عشر الدية، ولو قطع أصبعين، فعليه عشران، لو نظرنا إلى هذه الأصابع وجدناها مختلفة، فالسبابة ليست كالإبهام، والخنصر ليس كالبنصر، لكن الحكم واحد، تستوي هذه الأصابع كلها، فكل واحد من هذه الأصابع إذا جنى عليه وجب عليه أن يضمنه بقسطه من الدية.
ثم لو أنه جنى على جزء الأصبع، فقطع مثلا أنملة الخنصر العليا، ففيها ثلث العشر، ولو قطع الأنملة الثانية، ففيها ثلثا العشر، فالأنملة لها قسط من هذا العشر، إلا في الإبهام، ففي الإبهام ينقسم العشر إلى قسمين، فيكون نصف العشر في نصف الإبهام الأعلى، وهذا مبني على أن الله تعالى جعل الإبهام على هذه الخلقة، منقسم إلى اثنين، بخلاف بقية الأصابع، فهو الوحيد الذي يفارق جميع الأصابع عند قطع الجزء، لا عند قطع الكل، فإذا قطع الكل فهو مستو معها في وجوب عشر الدية.
قال: [وفي كل أنملة ثلث عشر الدية] : أجمع العلماء على ما ذكرنا في دية الأصبع: أن فيها عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث العشر، إلا في الإبهامين كما ذكرنا، ففي كل أنملة من الإبهام نصف العشر.
لو أنه قطع مثلا أنملة الإبهام اليمنى، وقطع أنملة الإبهام اليسرى، فإن الواجب عليه عشر الدية، لكننا هنا أعطيناه نصف العشر لنصف إبهام اليمنى، ونصف العشر لنصف إبهام اليسرى.
دية الأسنان
قال رحمه الله: [والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية كدية السن] : وهذا -كما ذكرنا- اختصار من المصنف رحمه الله.
الإنسان فيه اثنتان وثلاثون سنا وضرسا، الثابت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جعل في كل سن خمس من الإبل، ولم يفرق بين سن وأخرى، ولذلك تستوي الثنايا، والرباعيات، والنواجذ، والطواحن، وبقية الأضراس، لكل واحد منها إذا جنى عليه يجب أن يدفع خمسا من الإبل، هذه هي السنة، مع أنها على خلاف القياس؛ لأنها تقارب مائة وستين من الإبل، لكن من حيث الأصل، لو أنه أعطاه دواء أسقط جميع أسنانه وأتلفها، فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، وأما بالنسبة للأشطار -التشطير والأجزاء- ففي كل سن ما ذكرناه: خمس من الإبل، يستوي السن الطويل، والسن القصير، لكن إذا كان صغيرا فيشترط أن يكون قد أثغر، وليست السن لبنية، فإذا أثغر الصبي فإنه يجب ضمان هذه السن، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله، وهناك خلاف عن بعض الصحابة يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل في الضرس بعيرين، ويروى عنه بعير، ولكن ضعفه ابن المنذر رحمه الله، وأن السند لا يصح عنه رضي الله عنه في هذا، والسنة واضحة: أن في كل سن خمس من الإبل، وعلى هذا: لو أنه كسر نصف السن وبقي نصفها، فإنه حينئذ يجب عليه ضمان الجناية بحصتها من القدر الواجب في السن، وهو نصف الخمسة، فيقدر نصفها ويجب عليه ضمان ذلك.
لكن لو أنه اعتدى على نصف السن؛ فاختلت وسقطت كاملة؛ وجب عليه ضمان الخمس كاملة، إنما المراد إذا بقي فيها منفعة-منفعة النصف- أما إذا أتلفها ولم يبق فيها شيء، أو اسودت، أو سقطت، فإنه في هذه الحالة وجودها وعدمها على حد سواء.


الأسئلة




حكم الاعتداء على الذراع مقطوعة الكف
السؤال إذا كانت الكف مقطوعة، ثم اعتدى عليه في الذراع هل تجب عليه نصف الدية.
أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء على أنه إذا جنى على اليد بعد استئصال منافعها في الكف وفي الساعد، أنه يقدر القدر الواجب من نصف الدية، فيجب عليه ضمانه؛ وذلك لوجود المنافع في الكف دون الساعد، واختار بعض العلماء رحمهم الله أنه يجب عليه نصف الدية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (في اليدين الدية، وفي كل واحدة منهما خمسون من الإبل) ، وهذا كان يختاره بعض مشايخنا لعموم النص، وإذا كان قد جنى على يده، خاصة إذا كانت يده مقطوعة خلقة كالأكتع ونحو ذلك، قالوا: تجب عليه؛ لأنه توجد له منفعة، ولأنه يحرك اليد، ويرتفق بها في بعض مصالحه، يقولون: إن هذا أشبه من جهة النص؛ لأن النص عام، قال: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصل الذي ذكرناه من كونه يقطعها تامة كاملة، أو يقطع جزءها من مفصل الكف، بعد وجود المنفعة في الساعد، وفي العضد.
والله تعالى أعلم.

حكم إذهاب العقل عمدا أو خطأ

السؤال إذا جنى على شخص، فأذهب عقله عمدا أو خطأ، فما الحكم، أثابكم الله؟

الجواب سيأتينا-إن شاء الله- حكم الجناية على العقل، ولا شك أن فيه الضمان، وتجب الدية كاملة، فلو أنه ضربه بخشبة على رأسه ففقد عقله -والعياذ بالله- وقال الأطباء: إن هذه الضربة لا يرجى منها عود العقل إلى صاحبها، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة، والعقل منفعة كاملة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله: أن في العقل الدية كاملة، فلو أن طبيبا سقى مريضا دواء مخدرا وأذهب عقله، أو مثلا عمل له عملية في دماغه فأخطأ، فترتب على الخطأ اختلال عقل المريض، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا ثبت خطؤه، والله تعالى أعلم.
حكم ضمان التابع
السؤال كيف تكون الدية لو فقأ عينه مع إفساد جفنيه في نفس العين.
أثابكم الله؟

الجواب قلنا: هذا تبع، والتابع تابع، ولذلك لا يجب ضمان أشفار العينين، ولا الأهداب، مع أن كل واحد من الأشفار فيه ربع الدية؛ لأنه وقع تبعا، ولا يجب ضمان التابع، وهذا أصل في الشريعة: أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، ولذلك يجوز بيع البستان قبل بدو صلاحه، وتكون الثمرة تابعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع: (أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها) ، لكنها وقعت تبعا، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) ، فهنا وقعت الثمرة بعد التأبير وقبل بدو الصلاح تبعا، ولم تقع أصلا، فيجوز حينئذ إعطاء حكم التابع، ولا يجب الضمان في مسألة الأجفان، فلو أنه فقأ عينه-والعياذ بالله- قلنا: عليه نصف الدية، سواء اشتمل الفقء على إتلاف الأجفان أو لم يشتمل، والعبرة بذهاب العين، ففي كل عين نصف الدية، سواء بقيت الأجفان أو تلفت، والله تعالى أعلم.
سنن الاعتكاف وآدابه
السؤال من أراد الاعتكاف فما هي سننه وآدابه.
أثابكم الله؟

الجواب الاعتكاف من أجل العبادات وأشرف الطاعات، شرعه الله في كتابه المبين, وبهدي رسوله المبين صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187] ، وقال تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125] ، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف، وأمر أصحابه رضوان الله عليهم الذين اعتكفوا العشر الوسطى من رمضان: أن يعتكفوا العشر الباقية تحريا لليلة القدر.
والأصل عند الأئمة رحمهم الله: أن الاعتكاف جائز في كل زمان، وأنه لا يختص برمضان، ولكنه في رمضان مؤكد الاستحباب، والدليل على جوازه في سائر السنة: عموم الأدلة في كتاب الله عز وجل الواضحة في الدلالة على أن المساجد محل للمعتكفين، لم تخص رمضان عن غيره، وهذا أصل عند العلماء، وفيه شبه إجماع، وليس هناك أحد يقول: لا يجوز الاعتكاف في غير رمضان، هذا الذي يحفظ عن الأئمة رحمهم الله لثبوت النص في كتاب الله عز وجل دون تفريع.
لكن عند العلماء: ما جاء الأصل باستحبابه، يقال مثلا: يجوز الاعتكاف، ولكنه في العشر الأواخر آكد، وفي العشر الأواخر أكثر استحبابا، هذا الذي نص عليه الأئمة رحمهم الله وهو على أنه في العشر الأواخر أكثر استحبابا، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في اعتكافه حينما نذر، ولم يسأل: هل نذرت في رمضان؟ أو غير رمضان؟ وهذا يدل على أن الاعتكاف جائز في سائر السنة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما هو مقرر في الأصول.
فالمحفوظ عند العلماء رحمهم الله أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ولكنه في العشر الأواخر آكد.
المسألة الثانية: إذا ثبت أنه مشروع، والإجماع منعقد على شرعيته، فإنه يشرع في سائر المساجد، لكنه إذا نوى أن يعتكف العشر الأواخر، فلابد وأن يكون المسجد مسجد جمعة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة عليه، فلا يمكن أن يشتغل بالنافلة حتى يضيع الفرض، ولو أنه خرج للفرض لبطل اعتكافه، ومن هنا: اشترط العلماء والأئمة رحمهم الله في العشر الأواخر إذا نواها كاملة أن يكون في مسجد جمعة.
المسألة الثالثة: أن الأفضل في الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) ، وهذا نفي مسلط على حقيقة شرعية محمول على الكمال؛ لورود الدليل الذي يدل على صرفه عن ظاهره، مع أن هذا الحديث فيه ضعف عند طائفة من أئمة الحديث-رحمة الله عليهم- لكن على القول بتحسينه يحمل على الكمال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) : محمول على الكمال، وهو النفي المسلط على الحقيقة الشرعية الذي دل الأصل على صرفه عن ظاهره، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) : فإنه لا يدل على كفر من خان الأمانة، وإنما المراد نفي الكمال.
المسألة الرابعة: إذا ثبت أن الاعتكاف يكون في المساجد الثلاثة، فأفضلها وأعظمها ثوابا وأجرا المسجد الحرام؛ وذلك لأنه تجتمع فيه فضيلتان ليستا موجودة في غيره: الفضيلة الأولى: الطواف، حيث لا يشرع الطواف إلا بالبيت العتيق، وهذه العبادة لا تجوز ولا تكون إلا في هذا الموضع-أعني المسجد الحرام- ومن هنا فضل المسجد الحرام بوجود هذه المزية.
ثانيا: أن فيه مضاعفة الصلاة إلى مائة ألف، وهذه المزية يفضل بها بقية المسجدين: مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فالمدينة بألف، والأقصى بخمسمائة على اختلاف في الروايات.
إذا ثبت هذا نفهم من هنا أن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للكمال؛ لأن في الثلاثة الأشياء قرينة الوصف التي تدل على التفضيل، فدل على أنه للكمال، ولم يأخذ بظاهر هذا الحديث على النفي: (لا اعتكاف) إلا مجاهد، وقال بعض العلماء: إنه قول شاذ.
المسألة الخامسة: ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف: من العكوف على الشيء، والمراد به: لزومه، ومن هنا قال تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لها، فالمعتكف هو الملازم لبيت الله عز وجل-أعني المسجد- بقصد التقرب لله سبحانه وتعالى وطاعته، فإذن لابد من أن يلزم المسجد، وأن تكون النية: إرادة ما عند الله سبحانه وتعالى، والتقرب لله جل وعلا، فلزوم المسجد يقتضي ألا يخرج منه إلا لضرورة وحاجة، مثل: أن يقضي حاجته، ومثل أن يتعذر أن يجد طعاما داخل المسجد؛ فيخرج بقدر أن يطعم، ثم يعود.
فالأصل يقتضي أنه يلزم المسجد، وأجمع العلماء رحمهم الله: على أن من نوى الاعتكاف، أو نذر الاعتكاف، فخرج من المسجد من دون حاجة بطل اعتكافه، وعليه أن يعود ويستأنف النية، ومن هنا لابد وأن يعلم المسلم: أن الاعتكاف: هو الملازمة للمسجد، فلا يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، فلا يخرج لعيادة مريض، ولا لتشييع جنازة، ولا يخرج لغسل؛ إلا إذا كان واجبا محتما عليه كغسل يوم الجمعة على القول بوجوبه، أو غسل جنابة إذا أصابته جنابة، أما إذا لم توجد حاجة، فالأصل يقتضي عدم جواز الخروج.
إذا علم أنه يلازم المسجد، ينبغي عليه أن يعلم أنها ملازمة لذكر الله عز وجل، وأن المعتكف الصادق في اعتكافه هو من ترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقته وساعاته ولحظاته في ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى إنه يحتسب عند الله عز وجل النومة ينامها من أجل أن يتقوى بها على طاعة الله، هذه العبادة مدرسة من مدارس رمضان، وانظر إلى حكمة هذه الشريعة كيف جعلت الاعتكاف في ثلث الشهر، ولم تجعله في كل الشهر؛ لأن الإسلام دين لا رهبنة فيه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعبد واجتهد في العبادة، ينبغي أن يكون بحدود، وألا يغلو كغلو النصارى فيترهبن، ويصبح من الرهبان، فلا رهبانية في الإسلام، ومع أن الموسم موسم طاعة -شهر رمضان- لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف الكامل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك شيئا ويحب أن يفعله، لكن وقع منه اعتكافه عليه الصلاة والسلام تحريا لليلة القدر، والدليل على ذلك: أنه اعتكف العشر الوسطى، فلما نزل عليه جبريل أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وقال كما في الصحيح: (إن الذي تطلبه أمامك) ، أصبح عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه أن يعتكفوا العشر معه عليه الصلاة والسلام.
هذا الاعتكاف يقصد منه إصابة فضيلة ليلة القدر، وهو الاعتكاف المخصوص في رمضان، ويتعلم المسلم منه ذكر الله عز وجل وطاعته، فهذا الجو الإيماني الذي يهيئ العبد لمرضاة الله جل جلاله ومحبته، وبلوغ الدرجات العلا في جنته، ودار كرامته، كم من معتكف صادق في اعتكافه دخل إلى معتكفه ناقصا، فخرج منه مكملا، دخله شقيا فخرج منه سعيدا، دخله مذنبا فخرج منه مغفورا مرحوما، ودخله بعيدا عن الطاعات فخرج بالباقيات الصالحات، المعتكف الصادق في اعتكافه الذي تعلم من اعتكافه حفظ اللسان، وصيانة الجوارح والأركان، والإكثار من ذكر الله عز وجل في سائر الأوقات والأزمان، ومن الناس من خرج من اعتكافه بختم القرآن كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من اعتكافه بالبكاء عند سماع القرآن، ومنهم من خرج من اعتكافه بمحبة كل خير، وكل طاعة وبر، وهل يراد من العبد إلا أن يكون اعتكافه زيادة له في الخير، وزيادة له في البر، وكل معتكف حقيق وواجب عليه: أن يقف في آخر يوم من أيام اعتكافه فينظر إلى نفسه، وينظر إلى قلبه وعمله؛ لكي يسأل: ما الذي خرج به من هذه العبادة؟ فإن وجد أنه خرج بطاعة يحبها ويأنس بها، ويشتاق إليها، ويرتاح بالجد والاجتهاد فيها، فليحمد الله عز وجل عليها، ويسأل الله الثبات، ولذلك علينا أن ندرك أن الاعتكاف مدرسة للخير والبر، يحبس ولي الله المؤمن في بيت الله عز وجل، الذي ترى عينه فيها الراكع والساجد، فينظر إلى هذا ساجدا بين يدي الله عز وجل، وينظر إلى هذا رافعا كف الضراعة إلى الله، وينظر إلى ثالث يتلو كتاب الله، وينظر إلى رابع قد أقبل على نفسه يلومها في طاعة الله، وفي جنب الله، فعندها يطمئن قلبه، وينشرح صدره، مع رفقة إيمانية، وفي مجالس رمضانية، مليئة بذكر الله، مليئة بطاعة الله، يصبح ويمسي بوجوه مشرقة من طاعة الله سبحانه وتعالى، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصبحوا من قيام الليل تلألأت وجوههم: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29] فهذه نعمة من الله عز وجل على المعتكف، كل معتكف يريد أن يكون موفقا في اعتكافه؛ فليسأل الله، وليدع قبل أن يدخل معتكفه أن يرزقه الله عز وجل التوفيق، فالتوفيق أساس كل خير، وأساس كل بر، ومن وفق أصاب الخير؛ لأن الأمور كلها لا تكون بحول الإنسان وقوته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد مفتقرا إلى رحمة الله، وهو يقول: يارب! أسألك التوفيق، يارب! أسألك اعتكافا يرضيك عني، وأسألك ساعات ولحظات معمورة بذكرك وشكرك.
ثانيا: من الأسباب التي تعين على الاجتهاد في الاعتكاف: أن تستشعر نعمة الله عز وجل عليك، فكم من ميت تمنى هذه العشر -التي أنت فيها- فحيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مريض طريح الفراش يتمنى العافية التي أنت فيها، وكم من مشغول في تجارته وأمواله وأولاده، شغل عن المكان الذي أنت فيه، فتحمد الله عز وجل أن هيأ لك ذلك، ويسر لك ذلك، فإذا دخلت مستشعرا أن الله أنعم عليك، وأن الله اختارك من بين الناس، عندها تعرف قيمة هذا الاعتكاف.
ثالثا: إذا دخلت المعتكف فاعلم أنه ليس لك من هذا الاعتكاف إلا ما قضيت في طاعة الله عز وجل، فليكن أنسك بالله عز وجل أعظم من أنسك بالناس، أي معتكف هذا الذي ينتقل من فلان إلى فلان؟!! أي معتكف هذا الذي جعل اعتكافه زيارة الأصحاب، والجلوس مع الأحباب، والتفكه بالنك







ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:10 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (507)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [2]
الحواس جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها بين الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل، فكل حاسة أو منفعة عضو فيها الدية، وإذا اعتدى إنسان على آخر فقطع أذنه مثلا وأصبح لا يسمع، فإنه تكون عليه دية العضو -والتي هي النصف- ودية منفعة العضو أو الحاسة إن ترتب على ذلك فقدها.
دية منافع الأعضاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يرزقنا الصواب والسداد في أقوالنا وأعمالنا، وأن لا يؤخرنا إلى شر، ولا يقدمنا إلى بلاء وضر.
يقول المصنف رحمه الله تعالى [فصل: وفي كل حاسة دية كاملة] .
هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله بعد الباب الذي تقدم، ومن عادة العلماء رحمهم الله في باب الديات؛ أن يتكلموا على الأصل، وهو دية الأنفس، ثم بعد ذلك يتكلمون على دية الأعضاء ومنافعها، ثم الشجاج والكسور.
فهنا أربعة أشياء: أولها: الأعضاء.
وثانيها: منافع الأعضاء.
وثالثها: الشجاج.
ورابعها: الكسور.

بالنسبة للأعضاء، تقدم معنا فيما مضى في آخر الدروس بيان ديات أعضاء الإنسان، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القضاء والفتوى في مسائل الأعضاء.
شرع المصنف رحمه الله، فقال في قسم آخر: (فصل) ، إذا قال الفقيه: (فصل) فمعنى ذلك أن هناك اشتراكا أو رابطا بين اللاحق والسابق، فإذا: لابد من وجود ارتباط بين الفصل الذي نتكلم عليه اليوم، وبين المقطع الذي مضى معنا في آخر الدروس.
المقطع الذي مضى معنا في دية الأعضاء، بين فيه كيف تقسم الدية على ما في الإنسان منه شيء واحد، وما في الإنسان منه شيئان وأربعة كما تقدم، ثم بعد ذلك قال: (فصل) ولذلك يترجم بعض العلماء لهذا الفصل فيقولون: (فصل في دية المنافع) وبناء على ذلك سيتكلم عن القسم الثاني من الباب كله، فالباب في دية الأعضاء ومنافعها، وعليه فيكون قد قسم الباب إلى قسمين: القسم الأول: الأعضاء.

والقسم الثاني: منافع الأعضاء.

المنافع: جمع منفعة، وهي ضد المضرة، ومنفعة الشيء: مصلحته التي تقصد منه، فاليد مصلحة الإنسان فيها أن يبطش بها، ويحمل، ويضع، ويكتب، وغير ذلك مما يكون من حركات اليد وأعمالها، والرجل منفعتها المشي عليها، والاعتماد عليها ونحو ذلك، واللسان منفعته الكلام، ومنفعته الذوق، والأنف منفعته الشم، والأذن منفعتها السمع، فهذه أعضاء خلقها العزيز العليم وقدرها بتقديره، وجعل فيها هذه المنافع، وكل منفعة من هذه المنافع بحثها العلماء رحمهم الله، ومن هنا كان من سمو الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وعظم ما منحها الله عز وجل ووضع فيها من البركة والخير، أنها فصلت في أحكام الجنايات، حتى في أحكام الجنايات على الأعضاء -جملة وتفصيلا- وعلى منافعها، ولن تجد على وجه البسيطة حكما أتم من حكم الله عز وجل، ولا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى: {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] .
فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذا القسم الثاني وهو ما يتعلق بالمنافع، وبناء على ذلك سيتحدث المصنف رحمه الله في الجناية على الحواس؛ حاسة السمع، وحاسة البصر، فلو أن رجلا بطش برجل فضربه ضربة فأصبح المضروب -المجني عليه- أخرس لا يتكلم، أو أصبح أصم لا يسمع، أو ضربه ضربة أذهبت عقله -نسأل الله السلامة والعافية- أو أصبح لا يمشي، أو أصبح لا يستطيع الأكل، أو أصبح لا يستطيع الجماع، كل هذا محل سؤال، فكما بين العلماء رحمهم الله أحكام الجناية على الأعضاء وتقديرها كان من الأهمية واللازم أن يبينوا أحكام الجناية على المنافع وتقديراتها في شريعة الله عز وجل.

قوله رحمه الله: [وفي كل حاسة دية كاملة] .

الحاسة: واحدة الحواس، وأحس بالشيء: إذا شعر به، والحواس: جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) وهذا بالاستقلال؛ يعني كل حاسة ينظر إليها منفردة، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجناية على المنفعة كالجناية على العضو، والذي في كتاب الله عز وجل، الجناية على الأعضاء: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة:45] فهذه كلها أعضاء من حيث الأصل، لكنها أعضاء لها منافع، والغالب في الجناية على المنافع أن يصرف إلى الدية؛ لأنه قد يتعذر أن يفعل بالجاني فعلا يفقده ذلك المعنى الذي أفقده المجني عليه، لكن إذا أمكن أن يفعل بالجاني مثل فعله فلا إشكال، والغالب في هذه المسائل من مسائل الجناية على المنافع، وكثيرا ما تحدث في زماننا في حوادث السيارات ونحوها، وحوادث الأعمال في البناء، والمصانع، والحرف، وتحدث أيضا في الطب، فالطبيب قد يعطي دواء يتسبب في ذهاب السمع، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب البصر، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب حاسة الشم، أو حاسة الكلام، وكل هذه تترتب عليها مسئولية متعلقة بمسئولية شرعية دنيوية قبل الآخرة، وهي ضمان هذا التلف، ووجوب الدية فيه.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) أي من الحواس (دية كاملة) وبناء على ذلك نقول: إن الجناية على العضو غير الجناية على الحاسة، فلو أنه قطع أذنه، فسرت الجناية حتى أتلفت السمع، فحينئذ عليه دية ونصف، دية السمع إذا ذهب السمع من الأذنين معا، ودية الأذن التي هي نصف الدية لو قطع له أذنه اليمنى، قلنا: الأذن فيها نصف الدية، ثم سرى القطع حتى أذهب السمع فأصبح لا يسمع بالكلية بالأذنين، فحينئذ تجب عليه دية كاملة لذهاب السمع، ونصف دية لذهاب أحد العضوين المثنيين، فالأذنان في كل واحدة منهما نصف الدية، مثلما ذكرنا فيما تقدم معنا في دية الأعضاء، فنفصل بين الأعضاء وبين المنافع، وهناك فاصل بين الأعضاء والمنافع، فجعل رحمه الله الأصل أن كل حاسة لها ديتها المستقلة بها.
قوله: (في كل حاسة) الجناية على الحاسة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية موجبة لذهاب الحاسة بالكلية، فحينئذ تكون الدية كاملة، فلو أنه ضربه ضربة، أو صدمه بسيارته صدمة أخرست لسانه وأصبح لا يتكلم ألبتة، فحينئذ له الدية كاملة.
القسم الثاني: أن تكون الجناية موجبة لذهاب شيء من الحاسة، وليس كل الحاسة، فضربه ضربة أصبح بصره فيها بعدها ضعيفا، كما لو كان في السابق يبصر إبصارا تاما، فأصبح بعد الحادث يبصر إبصارا ناقصا، فأذهب بعض البصر أو بعض السمع أو بعض الكلام، كما سيأتينا في اللسان فحينئذ ننظر إلى الجزء الذي ذهب، وقدره من الأصل، فلو ذهب النصف أوجبنا عليه نصف الدية، وإذا ذهب الربع أوجبنا عليه ربع الدية، وإذا ذهب الثلثان، فالثلثان.
وهكذا.
لكن كيف نعرف هذا حتى نعلم أننا أمة لسنا متخلفين، ولسنا متحجرين، وأن قياس السمع كان يعرفه سلفنا الصالح من القرون الأولى؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: تسد الأذن المريضة التي جني عليها وتفتح الأذن السليمة، فيصيح رجل من بعد، فإذا لم يشعر بصوته اقترب حتى يسمع أول سماع من صوته، فيحد الحد عندها، ثم بعد ذلك تفتح الأذن المريضة وتغلق الصحيحة، فلا يزال يقترب ويصيح حتى يبلغ المدى، فلو بلغ نصف المسافة فإنه قد ذهب نصف سمعه من الأذن اليمنى، وإذا بلغ الربع فالربع، وإذا بلغ الثلث فالثلث، والآن لو جئت تقدر بالآلات الموجودة في قياس السمع لا تبعد، يضعون آلات فيها صوت معين لا يزال يرفع حتى يشعر به المريض أو يشعر به الذي يراد قياس سمعه.
أما في البصر، فقارن نفس الشيء، يوضع الرجل عن بعد، ويوضع له شاحصة فإذا لم يرها اقترب ثم اقترب للعين الصحيحة حتى يميزه، فإذا أثبته وميزه كفت العين الصحيحة، ثم اقترب وما زال يقترب، ثم يضع الشاخص أو العلامة على المكان الذي ميز فيه، ثم يقترب والعين المعيبة أو التي جني عليها مفتوحة حتى يميزه، فإن وصل عند ثلثه فثلث بصره بقي وضاع الثلثان، وإن وصل إلى النصف فقد أذهب نصف بصره ووجب عليه ربع الدية؛ لأن البصر للعين الواحدة فيه نصف الدية، هذا كله تفصيل لقوله: (وفي كل حاسة دية كاملة) إن أذهبها كلها وجبت الدية كاملة، وإن أذهب بعضها فبقسط ذلك البعض الذي أذهبه، سواء أذهبه في جناية عمد، وقال الرجل: لا أريد القصاص أريد الدية، أو أذهبها في خطأ كما ذكرنا، فكل ذلك يجب فيه الضمان على التفصيل الذي بيناه.
دية السمع
قال رحمه الله: [وهي السمع] قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع) ، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفا له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد} [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كليا، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملا بديته كاملة.
لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلا قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضا ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.
قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئا، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلا ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلا كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق.
، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئا من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.
يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جدا وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.
الحالة الأولى: أن يحددوا زمانا لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سننا، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهرا أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل: فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقدا لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.
أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.
دية البصر
قال رحمه الله: [والبصر] وهو الحاسة الثانية من الحواس التي إذا جني عليها وجبت فيها الدية كاملة، وهذه الحواس -السمع والبصر- قرنها الله عز وجل في كتابه لعظم أمريهما، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي العينين الدية) وكذلك صح عن الصحابة رضوان الله عليهم قضاؤهم بأن العين فيها الدية، وهذا أصل عندهم أن منفعة الإبصار فيها، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا اعتدى على رجل فأذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله -أصبح مجنونا- فأوجب فيه عمر أربع ديات، وهذا الأثر رواه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عليه، فجعل لكل حاسة دية كاملة، وهذا هو الأصل في الباب، وإن كان في حديث معاذ رضي الله عنه أيضا عند البيهقي وفي المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بالدية، وفي العقل أصل الإجماع على أنه لو ضربه فجن أن فيه دية كاملة.
فإذا جنى على بصره وأذهب البصر، ففيه الدية كاملة، ولو أذهب بصر إحدى العينين وجب قدر ما ذهب وهو النصف، ولو أذهب نصف النظر باليمنى فعليه ربع الدية، فيتقسط المال بقدر الجناية.
دية الشم
قال رحمه الله: [والشم] الشم حاسة يدرك بها الإنسان الروائح، فيميز الروائح طيبها وخبيثها، وهذه الحاسة موجودة في الأنف، ومن نظر وتأمل إلى بديع خلق الله وعظيم صنع الله فيما حار فيه الأطباء، وتعجب واستغرب منه الحكماء، مما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الحاسة؛ من الحفظ والحرز للإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، فكم من الشرور والمصائب والبلايا يحفظ الله بها عبده بفضله سبحانه، ثم بفضل هذه الحاسة، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت ولا ينجو إلا بفضل الله، ثم بوجود هذه الحاسة، وهي حاسة الشم، فبها يميز الأشياء، ويتنعم ويرتفق بالروائح الطيبة، وقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وهو من الروائح، فجعل الله عز وجل في هذه الحاسة الخير الكثير للإنسان.
وتقع الجناية لو أن طبيبا عالج مريضا وعنده حاسة الشم، فأذهب هذه الحاسة، وبعض العمليات الجراحية التي تجرى في الدماغ -نسأل الله السلامة والعافية- قد يحدث فيها خطأ فتذهب حاسة الشم، وبعض العمليات أيضا التي تحدث في الأنف قد تعطل حاسة الشم، فلو حصل هذا وجب فيه الضمان، فإذا أصبح لا يشم ولا يميز الأشياء التي يشمها، فإنه تجب له الدية كاملة، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، ولا يعرف فيه مخالف، فمن اعتدى على غيره فأذهب حاسة الشم، فإنه يجب عليه ضمان تلك الحاسة بالدية كاملة، ولو أذهب بعض الحاسة فإنه يقدر بقدر الجناية، ويجب ضمان ما أذهبه.
دية الذوق
قال رحمه الله: [والذوق] الذوق: تمييز للأشياء التي تطعم وتشرب، يميز حلوها ومرها، وحامضها وعذبها، وهذا التمييز جعله العلماء مقسط على هذه الأربعة التي ذكرناها، قالوا حاسة الذوق موجودة في اللسان، وهناك عصب موجود في اللسان يتذوق به الأشياء بقدرة الله عز وجل، وهذه الحاسة إذا عطلت كلها فلا إشكال، لكن لو أصبح لا يذوق الحلو ولا يجد له طعما، أو العكس لا يجد طعما للمر، ففي هذه الحالة يتقسط بقدر الجناية التي جني عليه فيها، كما تقدم معنا في الحواس الأخرى، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الذوق، فقال بعضهم: الذوق موجب للدية كاملة، وهذا طبعا منصوص عليه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ومشى عليه المصنف رحمه الله، وهناك وجه ثان عند العلماء رحمهم الله يقول: إن الذوق لا يبلغ مبلغ الحاسة الكاملة، وإنه إذا ذهب فيه الحكومة -والحكومة سيأتي إن شاء الله تفصيلها- فيقدر قبل الجناية عليه ثم يقدر بعد الجناية عليه، وينظر إلى الأرش بين الحالين فيجب ضمانه.
دية الكلام
قال رحمه الله: [وكذا في الكلام] هذه الحاسة الخامسة التي ذكرها هي من نعم الله عز وجل على الإنسان؛ لأنه يتكلم فيبين عن مراده ويفصح، ولذلك يعتبر من المعاني، وهذا من الجناية على المنافع والمعاني، فالكلام الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله والأئمة على أنه إذا جنى عليه جناية أخرس لسانه؛ فإنه تجب الدية كاملة، ولو ضربه ضربة على رأسه فأصبح لا يتكلم أو يتكلم فلا تعرف ماذا يقول، أو لا يخرج الحروف كما هي أبدا؛ فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، سواء أخرسه بالكلية بحيث لا يتكلم -نسأل الله السلامة والعافية- أو يصيح بدون أن يبين الحروف، ومن المعلوم أن الأصل في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفا، فإذا جنى عليه جناية وأصبح لا يتكلم بالكلية فلا إشكال، لكن لو أنه جنى عليه جناية فتكلم ببعض الحروف ولم يتكلم ببعضها، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: نقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفا التي هي أصل حروف اللغة العربية، ومن أهل العلم من قال: تقسم على ثمانية عشر حرفا؛ لأن اللسان الذي يخرج منه ثمانية عشر حرفا، والستة الحروف التي تخرج من الحلق، والأربعة التي تخرج من الشفتين هذه خارجة عن المعدود؛ لأن الجناية على اللسان وليست على الكل، ومن هنا اختلف -يعني قول العلماء رحمهم الله والأئمة في هذا- والذي نص عليه الأكثرون أنها تقسم على ثمانية وعشرين حرفا، وأن اللغات من الغير عربية تنزل منزلة العربية، فإذا كانت اللغة غير العربية نظر إلى عدد حروفها، وما أبطلت الجناية من تلك الحروف بحيث تعذر على المجني عليه أن ينطق بها، فلو أنه أفسد له نصف الحروف وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وإذا أفسد الثلثين فالثلثان وهكذا يعني تقدر بقدر الجناية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي اللسان الدية) فأثبت عليه الصلاة والسلام الدية في الجناية على اللسان وإن كان الأصل فيها العضو.
دية العقل
قال رحمه الله: [والعقل] العقل في لغة العرب: الحبس، ومنه العقال الذي يحبس البعير عن المسير، ويسمى العقل عقلا؛ لأنه يحبس الإنسان عن الأمور التي لا تليق بمثله، ولذلك سماه الله حجرا وسماه نهية فقال: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه:54] وقال سبحانه وتعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} [الفجر:5] أي لذي عقل يحجره عما لا يليق به، فالعقل به يدرك الإنسان صحيح الأشياء وفاسدها، وصوابها وخطأها، وجعله الله عز وجل في قلبه، فعقل الإنسان في قلبه، وهذا منصوص النصوص التي جاء بها الوحي من السماء، من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46] ، وقال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف:179] فنسب الفقه والفهم إلى القلوب، وهذه المسألة حصل فيها خلط وخلاف قديم مشهور إلى يومنا هذا، والأطباء يصرون على أن العقل في الدماغ، وهذا خلاف النص الذي نعتقده وندين الله عز وجل به، فإن العقل في القلب، ولا يمنع أن تكون آلة العقل في الدماغ، وهناك فرق بين الآلة وبين الروح التي هي متحكمة في مشاعر الإنسان، ألا ترى الرجل من أكمل الناس عقلا، فإذا دخل عليه الحزن في قلبه لم يعرف أن يفعل شيئا، وإذا دخل عليه الفرح في قلبه لم يعرف أن يقدم أو يؤخر شيئا، ولذلك القلب يؤثر تأثيرا عجيبا في نفس الإنسان خيرا وشرا، ونسب الله عز وجل إليه فلا يمتنع أن يكون العقل في القلب، ولكن مع وجود هذه الأجهزة يقولون: إن الشخص لو ضرب على دماغه يصبح مجنونا ولا يعقل، وهذا ليس بدليل، فقد استندوا إلى أدلة عقلية، أما نحن فنتكلم على الروح الخفية؛ لأن العقل ليس من الأشياء الملموسة، وما يوجد في خريطة الدماغ فهذه أشياء أشبه بالآلة، وهي التي تتصرف بالإنسان وتتحكم وتصدر منها الأوامر للإنسان، لكن العقل والفهم كله في قلب الإنسان، ولذلك تجد الإنسان في نفسيته يرجع إلى قلبه وفؤاده، فإن حزن أو فرح فإنك تجد الفرح والحزن كله متعلق بفؤاده وقلبه، ولذلك وجود هذه القضية، وأنه إذا ضرب على رأسه ربما فقد عقله، وبعض أهل العلم لما احتج عليه بهذا الدليل قال: إن الشخص ترض خصيتيه فيغمى عليه، فهل معنى ذلك أن عقله في خصيتيه، لما اعترض أحد الفلاسفة على أحد أهل العلم رحمة الله عليه وقال له: لقد قلت قولا عجيبا، فأجاب بهذا الجواب، قال له: الإغماء وفقد العقل لا يستلزم وجود العقل في المكان؛ لأنها آلة من الآلات، وقد تكون شدة الأذية والضرر موجبة لذلك، ولذلك الفرح الذي يكون في القلب يعمي الإنسان عن معرفة الأشياء، ونهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ومن القضاء وهو في شدة الفرح والسرور، فمعنى ذلك أن القضية ليست قضية الآلة نفسها، إنما القضية قضية روح موجودة في الإنسان، ولذلك تجد أن إدراك الأشياء يستند إلى روح أودعه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يقول أن العقل مثلا أصفر أو أحمر أو ملموس، ولا أنه ذاك الشيء الذي في الدماغ، وبالرغم من الاكتشافات التي اكتشفوها -والتي نسلم بها- إلا أنهم لا زالوا في حيرة، ولن يزالوا في حيرة ما لم يهدهم الله سبحانه وتعالى، ولا زالوا إلى الآن لا يعلمون أين أماكن السمع، ولم يعلموا إلا فيما بعد، وإن كانوا وصلوا إلى بعض الأشياء التي يثبتون بها محل السمع، ومحل الكلام، ويعملون عمليات جراحية معقدة جدا في الدماغ بأدق الأجهزة، فما إن يختل هذا الجهاز بأقل مقدار إلا ويحدث خلل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا بالرجل لا يستطيع الكلام، وإذا به لا يستطيع أن يتحكم في بوله، أو لا يستطيع أن يتحكم في مشيه، فسبحان الله العظيم {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] هذا تقدير العزيز العليم، فإذا قدره العزيز العليم فلا ينبئك مثل خبير، فإن قال لك العقل في القلب، قلت: نعم، سمعنا وأطعنا، فلو أجمع أهل الأرض كلهم على خلاف ذلك لم نسمع ولم نطع، ولا نعبأ بأحد إذا خالف نص كتاب الله، فقد نص الله عز وجل على ذلك وبين أن العقل هو فهم الأمور؛ لأن الأصل في الفهم مستند إلى العقل، ولذلك لم يوجه الخطاب إلا إلى عاقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فعلى هذا لو أنه جنى على عقله جناية أذهبت العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وأصبح مجنونا وجبت الدية كاملة، وفيه أثر مرفوع عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الجناية على العقل إذا أفسدت العقل كلا أنها توجب الدية كاملة.
لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت العقل حينا دون حين، فأصبح مثلما يقع في بعض الأحوال يجن مثلا فترة ثم يفيق فترة، ولو عمل له عملية جراحية تسببت في حصول غيبوبة للعقل فترة ثم رجع الشخص طبيعيا فترة أخرى ننظر في هذه الفترة التي يفيق فيها والفترة التي يستضر فيها، فلو كان يفيق يوما ويجن يوما، فإنه تجب نصف الدية؛ لأنه عطل عقله نصف عمره، وحينئذ كأنه عطل نصف العقل، لأنك لا تستطيع أن تقول: هذا عاقل أو هذا نصف عاقل، ولا تستطيع أن تقول: هذا ربع عاقل ولا ثلثي عاقل، إنما ينظر إلى التقدير بالزمان، وهذا ضابط كثير من أهل العلم رحمهم الله، لو أنه جنى على عقله فغاب عقله ستة أشهر ويرجع إليه ستة أشهر ففيه نصف الدية، ولو غاب عقله ثمانية أشهر ورجع إليه أربعة أشهر فعليه ثلثا الدية، وهكذا يتقسط بقسطه من العقل.
دية منفعة المشي
قال رحمه الله: [ومنفعة المشي] .
وهكذا لو جنى عليه جناية لم يستطع أن يمشي بعدها فأصبح مشلول الرجلين؛ فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه إذا عطله عن منفعة تامة -وهي منفعة المشي- أنه يجب عليه ضمان ذلك بدية كاملة، لكن لو أنه اختل مشيه فحينئذ يتقسط بقدر ما حصل من الضرر، إن كان يقوم يمشي ويحصل له ضرر ففيه الحكومة، وأما إذا كان عطله على وجه تتشطر معه الجناية فإنه يتشطر بقدرها من الدية.
دية منفعة الأكل
قال رحمه الله: [والأكل] لو جنى عليه جناية عطلت منفعة الأكل فأصبح لا يستطيع أن يأكل وإنما يؤكل، أو لا يستطيع بلع الطعام، أو يستضر في أكله، فإن الذي اختاره المصنف رحمه الله وجماعة وهو منصوص عليه في مذهب الحنابلة أنه تجب الدية كاملة، وهذا مبني على أن الأصل ملحق به نظيره، فأنت إذا نظرت إلى أن السمع حاسة، والبصر حاسة، وهي منفعة قائمة بذاتها، فالأكل منفعة قائمة بذاتها وعليها أود وقوام البدن، وبها يرتفق الإنسان، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد قضى بأن الرجل الذي ضرب الرجل فأفسد نكاحه وهي شهوة من الشهوات لا تعدل شهوة الأكل؛ لأن الأكل أعظم منها بل حياة الإنسان موقوفة على الأكل، فإذا كان هذا فيما عمل به الخلفاء رحمهم الله وقضوا به وقالوا أنه يلتحق بهما هو أولى، فإن منفعة الأكل أعظم.
دية منفعة النكاح
قال رحمه الله: [والنكاح] النكاح: الجماع، والمراد بذلك أن يعطله فلا ينتشر عضوه، ولا يستطيع أن يجامع، فإذا عطله عن الجماع فإنه في هذه الحالة تجب الدية كاملة، وإن عطل بعض المنفعة وحصل عنده ضعف وعجز عن الجماع قدر بحسب ذلك العجز، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب عمرو بن حزم أن في الذكر الدية، وقضى عليه الصلاة والسلام أيضا في البيضتين الدية، ونظر إلى هذه الأعضاء كل عضو ففصل البيضتين عن الذكر؛ فدل على الالتفات إلى المنفعة، ففي الخصيتين -أكرمكم الله- من المنفعة ما ليس في الذكر نفسه، ولذلك كان نظر الفقهاء صحيحا، وهو نظر مستنبط من الأصل المنصوص عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسل والحيوانات المنوية والتأثير في الماء والجينات الوراثية كلها موجودة في الخصيتين، وهي أشبه بالمعمل الذي يخرج وينتج هذا الشيء بقدرته سبحانه وتعالى، ولذلك كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا نوع من الإعجاز، وهذه الأمور لا يمكن أن تدرك إلا بدقائق الطب ومعرفة الأسرار الموجودة في هذه الأعضاء لكن نبأه العليم الحكيم سبحانه وتعالى، وبين له العليم الخبير جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدل على أن اعتبار المنافع في الأعضاء أصل، وثبتت به السنة واعتبرته.
دية استمساك البول والغائط
قال رحمه الله: [وعدم استمساك البول والغائط] هذا يحدث في الجنايات، فلو ضربه على خصيتيه ضربة أو على مثانته ضربة فأصبح لا يستمسك بوله، أيضا يحدث في ضرب الصلب في بعض الخصومات والنزاعات قد يجني أحد على آخر فيضربه على ظهره، فضرب الظهر في بعض الأحيان -نسأل الله السلامة والعافية- يضر بالنخاع الشوكي، وحينئذ يؤثر في استمساك البول واستمساك الغائط، فإذا ضربه على بطنه فلم يستمسك غائطه أو ضربه على خصيته فلم يستمسك بوله، أو ضربه على أي موضع بحيث أثر في استمساك البول والغائط فإنه يتضرر بذلك، وهذه منفعة موجودة في البدن ألحقها كما اختاره المصنف وغيره من بعض العلماء رحمهم الله بمسألة الجناية على المنافع التي تقدمت معنا.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:12 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 



الأسئلة




حكم تحمل العاقلة للدية في منافع الأعضاء
السؤال في حالة إتلاف حاسة بطريق الخطأ فهل تجب الدية على العاقلة، أم على الجاني، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه.
أما بعد: فإذا كانت الجناية خطأ حملتها العاقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأتين بالدية على العاقلة، فالدية تحملها العاقلة إذا كانت الجناية خطأ، والله تعالى أعلم.


تعدد الديات في الجناية على منافع الأعضاء
السؤال أشكل علي استحقاق المجني عليه لأكثر من دية إذا جني على أكثر من حاسة، بينما لو جني على النفس لم يستحق إلا دية واحدة، بينوا لنا هذا الإشكال، أثابكم الله؟
الجواب هذا لا إشكال فيه، والجواب عنه من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الأصل يقتضي تجزئة الجنايات كما هو معلوم، وجاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل الذي جني عليه بالجنايات، وأوجب فيها أربع ديات دون إنكار من الصحابة، فصار عند الفقهاء ناقلا عن الأصل، ولذلك يعتبرون أنه مستثنى، وركبوا منه مسألة الجناية على المنافع، هذا الوجه الأول، وهو أن تقول: لا تعارض بين العام والخاص، الأصل العام أن المقدم للجنايات ويعني إذا جني مثلا على العين كلها فيها دية واحدة مع أن منفعة الإبصار تابعة للعين، ومع ذلك لم تجب ديتها، لم نقل: إن الإبصار منفعة، ثم لم نجزئ مثلا الحاجب؛ الجفن الأعلى فيه ربع الدية، والجفن الأسفل فيه ربع الدية، والرموش كذلك العليا فيها الربع، والسفلى فيها الربع، ومع ذلك تجب دية واحدة، وهنا نقول: تجب أكثر من دية، والجواب أننا نقول: الأصل عندنا أنها تتداخل، لكن جاء قضاء عمر فاستثنى من الأصل، وهذا منهج أصولي لا تستطيع أن تتكلم فيه؛ لأنك لو اعترضت عليه عارضتك التخصيصات في الشريعة، لأنك تقول بها وتعتبرها، فهذا شيء مألوف في الشريعة أنه يجعل شيئا عاما ثم يستثني أشياء خاصة.
الوجه الثاني: أن يقال -وهو أقوى-: أن المستقل ليس كالتابع، فالمستقل لا يأخذ حكم التابع، والجناية المستقلة تأخذ حكم الاستقلال ولا يلتفت إليها تابعة لغيرها؛ لأن الله أعطى كل شيء حقه وقدره، {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] فالنبي صلى الله عليه وسلم أحل لـ كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه أن يحلق رأسه وأن يفتدي مع أن الأصل لو أن شخصا وقعت منه الجناية على الأعضاء سواء كان في ضمان حق الله عز وجل كما في الفدية، أو في ضمان حق المخلوق كما في الديات فإننا نوجب عليه التبعية؛ لأن التابع تابع لكن إذا جنى في الجناية فهناك منهج للشريعة وهي معاقبة الجاني، فإذا قلت: إذا أتلف هذا الشيء وجبت عليه دية واحدة، فحينئذ هذا يخالف أصل الباب؛ لأنه جنى على سمعه، فهذه جناية مستقلة، وجنى على بصره، وهذه جناية مستقلة، وجنى على عقله، وهذه جناية مستقلة، أرأيت لو أن شخصا هجم على بيت فيه ثلاثة أشخاص، فضرب أحدهم فأصمه، والثاني أخرسه، والثالث أصبح مجنونا، ألا توجب على الجاني ثلاث ديات، تقول: نعم، هذا الأصل، نقول: لماذا؟ تقول: لأن كل فعل له حقه وقسطه، نقول: ما دام أن كل فعل في شرع الله له حقه وقسطه متفرقا، كذلك أيضا له حقه وقسطه مجتمعا وهو تعظيم للأنفس، يعني منهج للشريعة في الجنايات وحينئذ لا يستشكل الإنسان، لأنه حين اعتدى على السمع نعاقبه عقوبة من اعتدى على السمع مستقلا، والسمع بذاته له حقه دية كاملة، والبصر كذلك، والعقل كذلك، وهذا لا إشكال فيه، حينئذ نقول: هذا قصد الشريعة، والشرع له أن يقول: دية الإنسان كاملة إذا جنى عليه كاملا فيكون السمع والبصر تبعا؛ لأنه ما فقأ عينه، ولو أنه جاء وفقأ عينه فأعماه، ثم ضربه على أذنه فأصمه، ثم قتله وجبت عليه ثلاث ديات، وليست دية واحدة، وهذا الذي أردنا: أن الشريعة تريد كل جناية لها حقها وقدرها، لكن لو أنه قتله فعطل جميع هذه الحواس لا نقول: إن عليه عشر ديات، هذا أمر واضح، يعني: في حالة الجناية كل شيء فعله يؤاخذ عليه، فلما قتل النفس جاء غيرها تبعا، كما لو جنى على العين فاقتلعها فأصبحت الرموش والشعر والجفن تبعا، فحينئذ لا يوجد ضمان إلا بنصف الدية مع أن كل واحد من هذه الشعور فيه ربع الدية، فالرمش الأعلى فيه الربع، والأسفل فيه الربع، ثم الجفن الأعلى فيه الربع، ثم الجفن الأسفل فيه الربع، هذه تكملة الدية، ثم العين نفسها فيها نصف الدية لكن هذا كله تبع، فإذا جنى على النفس فقتله وجبت دية كاملة؛ لأنه جنى على النفس فأصبح غيرها تبعا، لكن لو أنه قبل جنايته على النفس فقأ عينه أو قلع عينيه، أو أصمه، أو أخرسه أو -والعياذ بالله- ضربه حتى جن، أو سقاه سما حتى أصبح مجنونا ثم قتله واعتدى عليه، فجنايتان وليست بجناية، وحينئذ لا يقال بالاندراج والتبعية؛ لأنه ينبغي أن يعاقب على كل جناية وجريمة فعلها، وهذا الجواب أشبه وأقوى، وحينئذ نقول: إنه لا تعارض، ففي حالة الجناية على النفس جنى على شيء واحد وهو النفس، وحصلت الجناية على الحواس تبعا، فبتعطيل النفس تعطلت الحواس وجاء ذلك تبعا ولم يأت استقلالا، وعندنا هنا جاء استقلالا فوجب أن يعاقب على كل جناية بحقها وقدرها، والله تعالى أعلم.
حكم التنازلات التي يوقع عليها المرضى لإخلاء مسئولية الطبيب
السؤال يطلب الأطباء من بعض المرضى التوقيع على أوراق تخلي مسئوليتهم عن أي خطأ منهم، أو حالة وفاة، أو أي أمر آخر، فهل يعتبر بذلك، وما الحكم أثابكم الله؟
الجواب من حيث الأصل هناك شيء يسمى: التنازل؛ إذا الشخص قال: افعل لي هذا الأمر وأنا متنازل عن حقي، هذا من ناحية شرعية إذا كان عاقلا عنده شعوره فلا إشكال، بشرط أن يكون الذي طلبه من الفعل مأذونا به شرعا، يعني: أن تكون هذه العملية ليست بخطرة، والغالب فيها السلامة، لكن لو الغالب فيها الهلاك وقال له: افعلها لي، قال له: يا أخي! الغالب أن تهلك، فقال: افعلها لي، فهذا لا شك أنه لا يجوز له أن يقدم على هذه العملية الجراحية إذا كان غالبها الهلاك، وقدر الأطباء وعرف بالاستقراء والتجربة أنها تهلك، وقد بينا هذا في شروط جواز الجراحات الطبية أنها لا تجوز؛ لأن هذا من الإقدام على التهلكة، وقد أذن الله بالجراحة إذا كانت نفعا لا إن كانت ضرا، والظنون الفاسدة هي النسب الضعيفة المرجوحة، ولا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية، ولذلك الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، فكما حكمنا بجواز هذه الأعمال عند غالب السلامة نحكم بعدم جوازها عند غالب الهلاك، وحينئذ نقول: إذا أذن له بفعل عملية جراحية أو أمر لا محظور فيه والغالب فيه السلامة فإنه لا يضمن الطبيب، أيضا بشرط أن يكون تطبيق الطبيب للعمل الجراحي أو لطبه أو الدواء الذي صرفه للمريض موافقا للأصول المعتبرة عند الأطباء، فإن خرج الطبيب عن هذا تحمل المسئولية ولا يعتبر معفيا؛ لأن المريض إنما أذن له بالمعروف عرفا ولم يأذن له بغير المعروف، وحينئذ يكون الإذن مقتضيا للإباحة إذا سرى على وفق المتبع عند الأطباء.
إذا: المسألة تحتاج إلى تأصيل؛ وهو: أن المريض لا يجوز أن يقدم على عمل شيء بجسم الإنسان بإذن الإنسان، إذا علم أن هذا العمل مفسدة ولا يجوز شرعا، ويكون الطبيب في هذه الحالة متحملا للمسئولية، وهي مسئولية أخلاقية؛ لأن المسئولية الأخلاقية منها ما يرجع إلى إذن الشرع، ومنها ما يرجع إلى الأخلاق من خلف المواعيد والصدق ونحو ذلك، فالمسئولية الأخلاقية الراجعة إلى الشرع أنه لا يجوز له أن يقدم على هذا العمل إذا كان غالبه الهلاك، ويعلم أن المريض إنما يقتل نفسه أو يتلف عضوه أو نحو ذلك.
فهذا الإذن منه لا يسقط معاقبة الطبيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي فالقاضي يعاقبه؛ لأنه خرج عن مهمته الأصلية، وكذلك اشترط أن يكون الطبيب من أهل العلم والمعرفة، فلو قال له مثلا: اعمل لي عملية، وهي عملية جراحية صحيحة، والغالب فيها السلامة، ولكن هذا الطبيب لا يعمل هذه العملية، كأن يكون طبيب آذان وقال له: اعمل لي عملية في العيون، فهذا ليس من تخصصه وليس من مجاله، فحينئذ يكون من التطبب، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) فالشاهد من هذا أن إسقاط المسئولية ليس على كل حال.
يبقى النظر في مسألة وهي: هل يجوز للأطباء أن يحرجوا الناس ويقولوا لهم: لا تدخلون إلا بعد أن توقعوا.
هذا الأمر يحتاج إلى نظر وبحث؛ لأنه ليس من حق الطبيب؛ لأن الطبيب مأمور شرعا بإنقاذ هذه الأنفس، ولا يستغل حاجة المريض من أجل إسقاط التبعية عنه عند تقصيره، فالطبيب إذا قصر يؤاخذ بتقصيره حتى ولو وقع المريض؛ لأن المريض وقع على أن الطبيب يقوم بواجبه، والمشكلة أن البعض يظن أنه بهذا التوقيع أصبح الطبيب لا ضمان عليه والواقع أن عليه الضمان إذا خرج عن الأصول المتبعة عند الأطباء وخالف المجال الذي يعمل به أو نحو ذلك من الأمور التي كان ينبغي عليه أن يراعيها، فعلى كل حال: لا ينبغي إحراج الناس بإسقاط حقوقهم، وثانيا: لو أن قاضيا رفع إليه هذا الأمر وكان المريض محتاجا إلى هذا العمل والطبيب أحرجه بهذا التوقيع؛ فمن حقه أن يعتبره نوع من الإكراه بحيث لم يوجد إلا هذا الطبيب فقال له: لا أفعلها لك إلا إذا وقعت على هذا، فهذا نوع من الإكراه بإسقاط الحق، وحينئذ تكون هناك شبهة في تنازل المريض، ومن الشبه التي تسقط التنازل: وجود الإكراه أو شبه الإكراه، لأنه جعله بدون محض اختياره، يعني: لم يعطه اختيارا وإنما حاجته إلى النجاة، وإلى التخلص من الألم فإنه لا يخفى على أحد من الناس ما يتعرض له المريض من الأذية والضرر عند وجود العاهات والأمراض عافانا الله وإياكم منها ورزقنا وإياكم السلامة، فهذا كله يعتبر من أنواع الإكراه، كأنه محرج ومضطر، وقيل له: نجاتك في هذا العمل، فأصبح مستعدا أن يقول للطبيب: لست مسئولا، وأن يوقع له ما يشاء، لكن هذا كله يحتاج إلى نظر وإلى بحث، ومرد هذا كله إلى القضاء، والأصل الشرعي يقتضي أن التنازل معتبر إذا كان على السنن الشرعي، والله تعالى أعلم.
حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة
السؤال هل يجوز للإمام أن يكرر بعض الآيات وذلك لتفكير المصلين أو التأثير فيهم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: إذا كان الإمام يكرر الآية من شدة الحزن والتأثر والخشوع فهذا اغتفره بعض العلماء رحمهم الله.
ولكن إذا كان يكرر الآية وهو لم يتأثر ذلك التأثر، وكأنه يتهم الناس بالغفلة ويحاول أن يذكر غيره، وهو أبعد الناس عن التذكير، فهذا نبه بعض العلماء على أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن السنة أن يقرأ بدون تكرار.
أما إذا كان صادقا في خشوعه، صادقا في تأثره، وقد وصل القرآن إلى شغاف قلبه وسكن في فؤاده، وبلغت الآية مبلغها فأصبح يرددها يذوق حلاوتها ويؤثر في الناس بذلك الأثر فلا بأس، قيل: إن عثمان رضي الله عنه قام يتهجد من الليل واستفتح قوله تعالى: {عم يتساءلون} [النبأ:1] فما زال يكررها وهو يبكي حتى انبلج عليه الفجر وأصبحت وتره، وهذه أحوال بعض الناس إذا صدقوا، ولا شك أن الخاشع الصادق في خشوعه ليس بغريب عليه ذلك.
وأما التكلف والتشدد في هذه الأشياء وكل ما قرأ يحاول أن يكرر آيتين أو ثلاثا في أي سورة يقرؤها أو أي مقطع يقرؤه، فالذي أراه تحري السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة المسترسلة، وإعطاء القرآن حقه بمتابعة القراءة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح وسمع نشيجه من البكاء، وهذا من الغالب؛ لأن الخشوع غلبه، لذلك كان يبكي رضي الله عنه خاصة حينما بلغ قوله تعالى: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} [يوسف:84 - 86] فما زال رضي الله عنه يكررها حتى أبكى الناس، وهذا خشوع الصادقين، خشوع المتأثرين الذين صدقوا مع الله عز وجل في سرائرهم وزكى الله سريرتهم وعلانيتهم، وللخاشعين الصادقين في الخشوع دلائل واضحة في قلوب الناس إن خطبوا أو أموا أو صلوا أو وعظوا؛ لأن الله لا يغش عباده، فما من عبد يسر سريرة يصدق فيها مع الله إلا صدق الله معه، ولذلك تجد الصادق إذا قرأ آية وتأثر بها والله يعلم أنه خاشع فيها تبلغ هذه الآية مبلغها، وكان أئمة السلف ومن بعدهم من الخلف من الصالحين يخفون الخشوع ويخافون الرياء، ويخافون اغترار الناس بهم، وكنا نذكر بعض مشائخنا من إذا خلا في قيامه في الليل تسمعه يبكي بكاء الطفل، وإذا جلس أمام الناس وورد شيء يؤثر عليه فيحاول أن يخفي شيئا كثيرا من ذلك، وذات مرة سألت بعضهم، فقال: أخشى أن يتكلف بعض الحاضرين الخشوع فيهلك، والخشوع أمره عظيم، والله الذي يقرأ القرآن بين يديه ويقف الإمام بين يديه أجل وأحق من عبد، وينبغي على الإنسان أن يصدق مع الله، وأن يخاف الله جل جلاله، وألا يكرر القرآن إلا وهو صادق التأثر، وتكون قراءته قد خرجت من قلبه فذلك أصدق وأبلغ.
ولا شك أن الناس بحاجة إلى من يذكرهم الله، وما شرعت الصلاة الجهرية إلا وفيها الخير العظيم والبركة العظيمة من سماع كتاب الله عز وجل، فالله أعلم كم من قلوب اهتدت، وكم من قلوب خشعت وعيون دمعت، وكم من نفوس استقامت على منهج ربها وطاعة خالقها حينما سمعت آيات ربها ممن صدق في تلاوتها، الله أعلم كم من أناس خشعوا وخضعوا وصدقوا، وأرادوا وجه الله عز وجل، وابتغوا ما عند الله في تحبيب عباد الله وتقريبهم لله سبحانه وتعالى، وتعريفهم لله جل جلاله، فتلوا الآيات حق تلاوتها، وتأثروا بها، ومن الأئمة من يقرأ المقطع الذي يريد أن يقرأه على الناس، فلا تسكن له عين من دمعة ولا يفتر له قلب من خشوع خاليا فيما بينه وبين الله، فيتلوها ويتأثر فيما بينه وبين الله عز وجل، ومن الخطباء والوعاظ والمحاضرين ومن الموجهين والمعلمين من إذا أراد أن يعظ أو يحاضر أو يخطب تدبر ماذا يقول، وعرض قلبه عليه وقالبه على ذلك، وتأثر به في نفسه فرآه ربه وعلمه ربه خاشعا متخشعا صادقا في خشوعه وتذلله لربه، فلما خرج إلى الناس وخرجت كلماته موعظة للناس أسكنها الله في القلوب وهز بها المشاعر وأصغى لها الأذان، {جزاء وفاقا} [النبأ:26] {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] أولئك الذين صدقوا وأولئك الذين خشعوا فلم ينافقوا ولم يراءوا، وهان عليهم الناس أمام عظمة رب الجنة والناس، وأن الواحد منهم ليصلي بالناس فيقرأ من كتاب الله جل جلاله ما تخشع له الجبال وتهتز له المشاعر والقلوب، فإذا به يخشع ويتخشع ويبكي ويدمع صادقا لربه، ثم يتمنى بعد صلاته أن لو كان هذا بينه وبين الله لم يره أحد، فلا يفرح أن الناس اطلعت، ولا يفرح أن الناس خشعت، ولا يسأل: هل الناس تأثرت؟ على خلاف من دخله الدخن فتجده يخطب الخطبة ثم يبحث ما هو أثرها وما وقعها، ثم يدخل عليه هذا ويقول له: صار لها موقع وصار لها كذا، فلا يزال الشيطان يأخذ من قلبه الشعبة تلو الشعبة حتى ينصرف القلب كله عن الله، فعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
وعلى كل تال لكتاب الله وكل واعظ وكل إمام وخطيب وكل موجه وكل مرب وكل معلم أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يعلم أن ما عند الله أسمى وأعلى وأزكى {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:16 - 17] الله أكبر! لو أن النفوس أيقنت وتعقلت وفقهت، ولو علمت من تعامل ولمن تذل وتخضع؟ لو علمت أن اللحظة بل لربما طرفة عين من خشوع صادق لربما رضي الله عن عبده رضا لا سخط بعده أبدا، ولو علمت أن هذا الرب الكريم لربما نظر إلى عبده في مقام ذل وانكسار، فجعله في كرامة لا مهانة بعدها أبدا، فكم من عين دمعت حرمها الله على النار! وكم من قلوب خشعت تكفل الله أن يسعدها فلا تشقى أبدا.
يعامل الإنسان ربه، ويعلم أن الإمامة في الدين، وأن التقدم والتصدر والتوجيه والموعظة ليس من أجل أن يجتمع حوله الناس أو ترمقه الأبصار، أو تخطفه الأنظار، ولا أن يتحدث به الناس، إنما المراد أن يذكر في الملأ الأعلى راضيا مرضيا عنه من الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا من عباده ... ) يكون الإنسان إماما فيحبه الله في إمامته، ويكون خطيبا فيحبه في خطابته، ويكون طالب علم فيحبه في طلبه للعلم، ويكون عالما فيحبه الله في علمه، ويكون مفتيا قاضيا في أي أمر من أمور الطاعات، حتى يكون رب أسرة رحيما بأولاده رحيما بزوجه واصلا لرحمه، فتكون خصلة من الخصال الموجبة له للزلفى والوسيلة عند الله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة:35] فجعلها وسيلة إليه من الأعمال الصالحة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا من عباده ... ) اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن أحببت، اللهم اجعلنا ممن أحببته وناديت فيه جبريل (يا جبريل! إني أحب فلانا فأحبه) فإذا نادى الله عز وجل: يا جبريل! ارتجت السموات فقال (.
يا جبريل! إني أحب فلانا فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلانا فأحبوه ... ) ينادي باسم الإنسان في السموات وهذا هو الشرف، وهذه هي الكرامة والعزة، وهذه هي الرفعة، وهذا هو المجد والسؤدد، وهذه هي الغاية التي وراءها جنات عدن التي فيها النعيم المقيم (إني أحب فلانا فأحبه) لكن ليس بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالهوى ولا بالمبالغة، ولا بالتصنع للناس ولا بالتزلف، ولا بالنفاق ولا بالرياء، بل بحقائق أمور صادقة؛ لأن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا (إني أحب فلانا فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا كان إماما قبلت إمامته، ورضي الله عن إمام قبلت إمامته، فإن خشع قبل خشوعه، وإن خضع قبل خضوعه، وإن أمر وضع الله القبول لأمره ونهيه ووعظه، هكذا كان الصالحون، وهكذا يمضي بعدهم الأخيار والمتقون، هكذا وإلا فلا.
معاملة مع الله صادقة نظيفة زكية، يرى العبد ما يقدمه لربه قبل أن يكون في قوله وعمله، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يعمل، يرى ما الذي يقدم لله جل جلاله، أيقدم له شيئا مليئا بالرياء والنفاق، ومحبة المدح والثناء؟ ماذا يفيدك الناس إن غضب عليك رب الجنة والناس؟ إن العبد في منزلة لو سخط عليه أهل السموات والأرض ما استطاعوا أن ينزلوه عنها شعرة إلا بإذن الله جل جلاله، وإن العبد في منزلة إذا رضي الله عنه لو أطبق الخلائق كلهم على أن ينزلوه منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وذلك الذي عناه الله بقوله: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الجمعة:4] .
فعلى الإمام إذا أراد أن يؤثر في الناس أن يعلم أن التأثير ليس بتكرار الآيات، وليس التأثير أن نشتغل بالتأثير في الناس قبل أن نؤثر في أنفسنا، وليس التأثير في الناس بتنميق العبارات وتجميل الكلمات وتحبير الخطب، إنما التأثير أسرار بين الأبرار والواحد القهار، جن عليه الليل وأضاء عليه النهار، أسرار في القلوب لا يعلمها إلا الله جل جلاله، هكذا عاش السلف الصالح؛ بالإخلاص والإحسان واليقين وإرادة وجه الله عز وجل {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} [الإسراء:19] هذا الشرط، ولا إيمان إلا بإخلاص وتوحيد، ولا إيمان إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة من هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا عرف العبد ربه استجمع جميع ما يملك مما بين يديه وخلفه، وفوقه وتحته كله لمرضات الله سبحانه وتعالى.
فنسأل الله العظيم رب






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:17 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (508)

صـــــ(1) إلى صــ(23)



شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [3]
أنواع الشعر في الإنسان أربعة: شعر الرأس، وشعر اللحية، وشعر الحاجبين، وشعر الأهداب، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الشعور: هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة، كما جاء عن أهل العلم التفصيل في الدية إذا كان الجاني أو المجني عليه أعور العين.
دية الشعور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وفي كل واحدة من الشعور الأربعة الدية] .
شرع في بيان أحكام الاعتداء على شعر الإنسان، سواء وقع الاعتداء على شعر الرأس، أو وقع الاعتداء على شعر اللحية، أو على شعر الحاجبين، أو على شعر الأهداب؛ فهذه أربعة شعور في الإنسان يعتدى عليها فتزول ولا تعود، وتكون الجناية موجبة لذهاب الشعر، فلا ينبت شعر الرأس ولا شعر اللحية، ولا ينبت شعر الحاجبين ولا شعر الأهداب، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: إذا اعتدي على الشعر على هذا الوجه في المواضع الأربعة التي ذكرها، هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة؟ في ذلك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فاختار الحنفية والحنابلة ومن وافقهم القول بوجوب الدية، وهو محفوظ عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى بذلك، وكذلك أيضا دل عليه دليل النظر الصحيح، فإن في كل واحد من هذه الشعور الأربعة جمالا للإنسان وزينة، كما أن في ذهابه ضررا عظيما وتأذيا، ولذلك أوجب العلماء رحمهم الله في الأنف الدية، مع أن شاخص الأنف، وهما المنخران والمارن كما تقدم معنا ليس فيهما منفعة الشم، وإنما فيهما الجمال، وبذهابهما وجبت الدية، والأذن كذلك تجب فيها الدية مع أن السمع يكون بداخل الأذن وليس بالصوان الخارجي، وقد بينا وجه وجوب الدية في ذلك كله، وذكرنا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الضمان، فهذا أصل شرعي يدل على أن الديات لا تنحصر في الأعضاء التي فيها المنافع، وإنما تشمل أيضا الزينة، وقوى أصحاب هذا القول مذهبهم لهذا الوجه، وعليه فإنه لو أضر بشعر المجني عليه فسقط بسبب الجناية والاعتداء أو بسبب الخطأ فإنه يجب عليه دية كاملة في كل واحد من هذه الشعور الأربعة.
دية شعر الرأس
قال رحمه الله: [شعر الرأس] نبدأ بشعر الرأس، من أكثر ما تقع هذه الجناية في الطبيب إذا أخطأ في العلاج، أو أعطى دواء تساقط معه الشعر، وهو في هذه الحالة لا يخلو إما أن لا ينبت الشعر بالكلية، وقرر الأطباء أنه لا أمل في رجوعه، فحينئذ الدية كاملة على الوجه الذي ذكرناه من قول أهل العلم رحمهم الله وهو أشبه بالأصول وأقواه.
ثانيا: أن تكون الجناية موجبة لذهاب بعض الشعر دون البعض، فحينئذ إذا كانت مما يتشطر مثل الحاجب لكن الرأس لا يتشطر، فإذا أتلف شعر أحد الحاجبين فإن عليه نصف الدية، وكذلك إذا أتلف أحد الأهداب الأربعة وهي الرموش، الرمش الأسفل من العين اليمنى، والرمش الأعلى منها، وكلاهما من اليسرى، فلو أتلف واحدا من هذه الأربعة فعليه ربع الدية؛ لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت نصف شعر رأسه، فهل يتشطر أو لا يتشطر؟ المعمول به عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يتشطر، وتكون الدية بحصته، فإن أتلف نصف شعر رأسه قالوا: يتشطر، وهناك وجه أن فيه حكومة بتقدير الجناية؛ لأن الشعر في الأصل يتساقط من رأسه لكن هذا لا يخلو من نظر، كذلك أيضا لو أنه جنى عليه جناية وسقط شعر رأسه أو أخطأ الطبيب في العلاج فأسقط شعر الرأس، لكن نبت شعر الرأس بعد ذلك فإنه لا دية، إلا أنه في هذه الصورة لو حصل ضرر في موضع الشعر مثل ما يقع والعياذ بالله في جناية الاعتداء العمد، مثل أن يصب على رأسه حارقا أو أسيدا، وفي بعض الأحيان تكون الجناية مذهبة للشعر فلا إشكال، لكن لو أنها أذهبت الشعر ثم عاد الشعر، لكنها أحدثت ضررا في الموضع، فالشعر ليس فيه شيء، لكن موضعه فيه تشوه أو فيه ضرر، فحينئذ يقدر حكومة بمعنى أننا ننظر، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الحكم وما هو الأصل فيها.
المقصود: أن الجناية على شعر الرأس إذا أتلف الشعر كاملا ففيه الدية يتشطر لبعضه، ويبقى النظر إذا جنى عليه فنبت الشعر، وكان تشوه في الخلقة، فإنه حينئذ يقدر ذلك التشوه بحصته ويعطاه على سبيل الحكومة.
قال: [وهي شعر الرأس] .
وهي: بيان للأربعة، وهي شعر الرأس، والرأس من التراوس وهو العلو، والمراد به الشعر الذي ينبت على رأس الإنسان ذكرا كان أو أنثى، يعني هذه الدية لا تختص بالإناث وهن أكثر تضررا؛ لأن هذه الشعور الأربعة منها ما يختص بالذكور كاللحية ومنها ما يشمل الجنسين كبقية الشعور.
ففي هذه الحالة إذا جنى على شعر الرأس فإنه تجب عليه الدية، سواء كان المجني عليه ذكرا أو كان أنثى، وسواء كان الشعر طويلا أو كان قصيرا، أو كان ملفوفا مثلا، الأصل يقتضي أن عليه الدية كاملة بإتلاف هذا الشعر، وحينئذ إذا كانت الجناية عمدا فلا إشكال، وهناك أصل قررناه في مسألة القصاص، بحيث أنه لو فعل به فعلا يمكن أن يفعل به مثله، أو سقاه دواء يسقط الشعر وهذا الدواء من خاصيته أنه يسقط الشعر، فاعتدى عليه وسقاه هذا الدواء، وهذا الدواء يمكن أن يقتص بالفاعل بمثله، فإنه يسقى نفس الدواء حتى يتساقط شعره كما تساقط شعر المجني عليه.
دية شعر اللحية
قال رحمه الله: [واللحية] .
اللحي: هو العظم الذي هو فك الإنسان، ومجمع اللحيين: هو الذقن، فاللحية تنبت على هذا العظم، ولذلك مبتدؤها من طرف عظم الصدغ، الذي هو ابتداء اللحي وتقيدت به، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في الحج والعمرة إذا أراد أن يحلق رأسه أمر الحلاق أن يقف عند العظمة، وهذه العظمة تفصل بين الشعرين؛ الممسوح والمغسول، وتفصل بين المأذون بحلقه وغير المأذون بحلقه، فاللحية في الأصل ما نبت على اللحي -العظم- وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يقيدها بهذا الموضع، ولذلك يجيز أخذ ما نبت على الخد والوجنة ويقول: هذا ليس من اللحية، وإنما أمر باللحية وهي ما كان على اللحي، وقال أصحاب هذا القول: ما كان أسفل من اللحي، وهو مما يلي الرقبة يجوز أخذه وحلقه؛ لأنه ليس من اللحية، فتقيدت اللحية عندهم بما نبت على اللحي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرخاء اللحى كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح وغيره، فيقولون: إن اللحية تتقيد بهذا الموضع، ومجمع اللحية وهو الذقن: العظم أسفل الفم، ويرون أن العنفقة والمسربة لا تدخل في اللحية، وقد أثر عن بعض الصحابة أخذهم من نفس المسربة، والذي يهمنا الآن هو الشعر الذي على اللحيين.
وهناك وجه ثان يقول: إن ما قارب الشيء أخذ حكمه، واللحية تشمل في الأصل ما نبت على اللحي، وما نبت على الوجنة آخذ حكم اللحية؛ لأن ما قارب الشيء فهو آخذ حكمه، وهذا لا شك أنه أحوط وأسلم لكن لا ينكر على من أخذ من شعر وجنته أو أخذ من جهة رقبته؛ لأن له وجها، وهناك من أهل العلم ومن أجلاء أهل العلم من يقول بهذا القول، خاصة وأن ظاهر اللغة فيه وجه لهذا.
الشاهد من هذا: أن تحديد اللحية على هذا الوجه يشمل ما نبت على أسفل اللحي دون ما يلي الرقبة، فلو سقاه دواء أسقط لحيته فإنه في هذه الحالة يجب ضمان هذه اللحية بدية كاملة على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من المضمونات يختص بالرجال دون الإناث، فالمرأة اللحية ليست لها زينة، وقد قررنا أن الأصل في الضمان لهذه الأشياء إنما هو وجود الزينة، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من زين الرجال باللحى.
فهي زينة من الله سبحانه وتعالى، والأصل عدم جواز حلقها، فإذا اعتدى عليها بدواء أو اعتدى عليها عمدا فإنه لا قصاص في هذه الحالة؛ فهذا مانع شرعي؛ لأن المانع يكون مانعا حسيا من جهة كونه يوجب الزيادة فينتفي القصاص، وكونه مانعا شرعيا؛ لأنه مأمور بترك هذا الموضع، في هذه الحالة يجب عليه ضمان الدية كاملة، لكن لو أنه أسقط بعض شعر اللحية، ففيه الوجه الذي ذكرناه في التقسط؛ أنه يتقسط بقدر جنايته.
دية الحاجبين
قال رحمه الله: [والحاجبين] .
والحاجبان: مثنى حاجب، وهو في الأصل: الشعر الذي ينبت على العظم فوق العين، سواء اتصل الحاجبان أو انفصلا؛ ولذلك جاء في النمص وهو: نتف شعر الوجه الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، وأكثر ما يقع في النساء، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فلا يجوز الاعتداء على هذا الشعر، حتى ولو اتصل الحاجبان؛ لأن سر المنع وورود اللعن هو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، فإذا خلق الله الحاجب متصلا وجاءت هي تفصله فقد غيرت الخلقة ولم ترض بقسمة الله، ولذلك ورد اللعن على هذا؛ لأن هناك أفعالا قد تكون أخف، لكن لما اتصل أمر هذا الفعل بالعقيدة وهو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل والاعتداء عليها؛ ولذلك جاء في آخر والحديث: (المغيرات خلق الله) ، فرجع الأمر إلى الاعتقاد، فمن نمصت شعر حاجبها سواء فيما كان بين الحاجبين لكي تفصل الحاجبين أو كان ترقيقا للحاجب بعد أن كان عريضا ونحو ذلك فيشملها.
الحاجبان إذا اعتدي عليهما، أو مثلا وقع حادث فحصلت منه جروح وحصل منه ضرر على شعر الحاجبين حتى قلع الشعر ولم يعد ذلك الشعر وجبت الدية، وإن حصل الضرر على أحد الحاجبين، تقسطت الدية بقسط ذلك وهو النصف، وهذا يشمل الرجال والنساء؛ لأن الحاجبين زينة في الرجل وزينة في المرأة أيضا.
دية شعر أهداب العينين
قال رحمه الله: [وأهداب العينين] .
والمراد بها الشعور التي تنبت على الجسم الأعلى والأسفل من كل عين، فالعينان لكل واحدة منهما جفنان، فأصبحت الأهداب أربعة؛ وهو الذي يسمى: الرمش، فلو سقاه الطبيب دواء خطأ حتى تساقط شعر العين -الرمش- فإنه يجب عليه ضمان ذلك بالدية كاملا: إن كانت الجناية في العينين فتكون كاملة، وإن كانت الجناية في عين دون أخرى وجب عليه النصف، وإن كان في جزء العين وهو شعر الجفن الأعلى أو شعر الجفن الأسفل فبقسطه وهو ربع الدية؛ لأنها أربعة، فتتقسط الدية وتقسم على أربعة، فكل واحد من هذه الشعور الأربعة إذا جني عليه فإن فيه ربع الدية، وهذا يخالف به شعر الرأس كما قدمنا، ويشمل الرجال والنساء على حد سواء.
سقوط دية الشعر إذا نبت
قال رحمه الله: [فإن عاد فنبت سقط موجبه] .
ليس خاصا بشعر الأهداب، فليس قوله: (فإن عاد) يعود إلى آخر الكلام، وإنما المراد: إن عاد الشعر في هذه المواضع التي ذكرناها سقطت الدية، وإن عاد الشعر في حاجب سقطت نصف الدية، وإن عاد الشعر في أحد الرموش سقطت ربع الدية، فلو اعتدى على رمش منها فعاد الشعر أو قال الأطباء: سيعود.
ننتظر حتى تمضي المدة التي قرروها للعود، فإن عاد فإنه تسقط الدية، ولو أخذ الدية ثم عاد شعره وجب عليه ردها.
مقدار دية عين الأعور
قال رحمه الله: [وفي عين الأعور الدية كاملة] .
قضى بهذا عمر وعثمان وعلي من الخلفاء الراشدين، وقضى به من الصحابة أيضا عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: أن الأعور في عينه الدية كاملة؛ لأنه حينما فقد العين الأخرى قامت منافع العينين في عين واحدة، سواء كان ذلك العور خلقة أو جناية أو مرضا، فقالوا: إن الاعتداء عليها يوجب الضمان بدية كاملة، وهناك قول ثان: أن فيها نصف الدية وهو من حيث الدليل إعمالا للأصل، لكن قضاء هؤلاء الخلفاء الراشدين، لا شك أن له وجها ومعناه صحيح؛ لأنه انتقلت منافع العين الثانية إلى منافع العين الباقية، وتجده في عينه أكثر مصلحة من العين المعتادة، ومن هنا ورود هذا عن هؤلاء الصحابة الخلفاء المأمور باتباع سنتهم جعلوا كان قول الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من أئمة السلف بهذا لوروده عن هؤلاء الخلفاء ولزوم اتباع سنتهم.
حكم الأعور إذا قلع عين الصحيح
قال رحمه الله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فعليه دية كاملة ولا قصاص] .
إذا جنى الأعور على صحيح العينين فقلع عينه اليمنى عمدا فعليه الدية كاملة؛ لأنه في الخطأ تجب نصف الدية ولا إشكال، لكن لو أنه اعتدى على مثل عينه، كأن تكون العين الباقية عنده هي اليمنى فقلع عين خصمه اليمنى عمدا وعدوانا، فالأصل يقتضي أن يقتص من عينه اليمنى، على مذهب طائفة من العلماء، قالوا: لأنه اعتدى، والله أمرنا بالقصاص، فيجب أن نقلع عينه كما قلع عين غيره؛ لأنه هو الذي تسبب بالضرر على نفسه وهو الذي رغب لنفسه بهذا، وذلك بالاعتداء عمدا وعدوانا على أخيه المسلم، وقد أثر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قضيا في هذا، لكن قالوا: لو أن المجني عليه قال: لا أريد القصاص أريد الدية، يعني: أريد العوض، فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: يبقى الأصل، وهو نصف الدية؛ لأنه قلع عينا واحدة ولم يقلع عينيه، ولا يمكن أن نقول: إن عليه الدية كاملة وعينه الثانية باقية، لكن الذين أوجبوا الدية وهم الحنابلة وطائفة من أهل العلم، قالوا: لأنه فدى عينه، يعني: المفروض أن تقلع عين الأعور، فإذا عدل إلى الدية فقد فدى عينه، فيجب أن يفدي بدية كاملة، ولذلك قالوا: الغنم بالغرم، كما أسقط الضمان عنه، وهذا من فقه الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه إعمال للقاعدة التي ذكرناها: الغنم بالغرم، فهنا يغرم دية كاملة؛ لأنه نزلت عينه منزلة تلك العينين، بدليل أن عمر لم يقتص منه، فقالوا: لما سقط عنه القصاص كان واجبا عليه أن يضمن عينيه بالدية كاملة، فله الغنم بإسقاط القصاص عليه، هذه غنيمة ونعمة وخير له، وأيضا عليه الغرم إن فدى هذه العين التي أنجته من القصاص أن يفديها بدية كاملة.
هذا من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهذا مذهبهم وهو الأصل الذي اعتمدوه.
والذين قالوا: إنه لا يجب إلا نصف الدية، مذهبهم أقعد بالدليل وأعمل للأصل.
قال: [ولا قصاص] .
كما ذكرنا
دية قطع يد الأقطع
قال رحمه الله: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كعين] .
قالوا: لأنهم بقوا على الأصل فلا إشكال؛ لأن تلك فيها أقضية عن الصحابة فاستثني، والفقه أن تجري المسائل على الأصول الواردة في الشرع: وهي أن اليد الواحدة فيها نصف الدية، وأن اليدين فيهما الدية كاملة، فإذا حصل العارض من كونه أعور، فلو نظرنا لوجدنا آثارا عن الصحابة الذين أمرنا باتباع سنتهم فخرجنا عن الأصل المستثنى باتباع سنتهم، فاستثنى الإمام أحمد من هذا الوجه وأبقى ما عدا هذا على الأصل، فإذا اعترض معترض وقال: هذا أمر خرج عن الأصل لوجود قضاء عن الصحابة، وهؤلاء مأمورون باتباع سنتهم خاصة الخلفاء الراشدين، فلهم من المزية ما ليس لغيرهم، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومن هنا فإن الشافعية وطائفة الذين يخالفون يلزمونهم بهذا، فيجعلون الأمر فيه اعتراض من هذا الوجه، لكنه لا يلزمهم هذا؛ لأن الاستثناء إنما هو لورود المستثني المقتضي لذلك، فلا يرد الاعتراض به.






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:24 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجته

السؤال المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجة، هل يلزمه البيات، أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: الأصل الشرعي يقتضي حقيقة التعجل، وهذا هو ظاهر القرآن: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة:203] ، واختار بعض العلماء العمل بهذا الظاهر: وهو أنه لابد وأن يكون متعجلا حقيقة، قالوا: ولو فتح هذا لتحايل الناس على الشرع، وأصبح الحكم صورة لا معنى، قالوا: بإمكان الشخص أن يخرج قبل الغروب بجسده، ثم إذا غربت الشمس رجع فأخذ متاعه ثم صدر وسافر، قالوا: وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع نص على أنه متعجل، ومن رجع إلى منى ولم يزل له بها غرض لم يتعجل حقيقة، وهذا وجه من أخذ الأصل، ولا شك دائما في المسائل أنها ينبغي أن تبقى على الأصل؛ لأنه في الأصل ملزم بالمبيت، والرخصة جاءت بشرط، وكثير من الناس يجهل هذه الرخصة حتى إن بعض السلف يقول: من تعجل -ليس كل متعجل- لابد وأن يكون متعجلا بشرطه، قالوا: وما شرطه؟ قال: أن يكون متقيا لله عز جل، يعني: ليس كارها للمبيت، ولا نافرا من المبيت، ولا متضجرا من العبادة لكن إذا كان هذا المعنى أن الشخص يخرج ويأخذ أغراضه بعد المبيت أو مثلما يقول بعض منهم، بمجرد ركوبه للسيارة: إنه تعجل.
والنص القائل: {فمن تعجل} ، لابد أن يطبق كما هو، بمعنى أنه تغرب عليه الشمس وليس في منى لا بمتاعه ولا بحوائجه، قد خرج حقيقة: {فمن تعجل} ، وانظر إلى تعبير القرآن: (تعجل) ومن كان على عجل فحاله يقتضي أن يكون مهيئا لأموره مرتبا لها، فإذا كان على هذه الصفة الشرعية مع هذا يقول الله عز وجل: {لمن اتقى} [البقرة:203] ، فإذا: لابد أن نلاحظ أن الفتوى في هذه المسائل ليست بمجرد الشكل، أي: مجرد أن الشخص يخرج ثم بعد ذلك يعود، حتى كان بعض مشايخنا رحمه الله عندما يسأل هذه المسألة يقول: أمر الناس عجيب، فمنهم من يأتيك ويقول: خرج من منى ثم عاد ثم خرج ولا يقول: عاد لمتاعه، ولا يقول: عاد لحاجته، وهذا من فقه أسئلة الفتوى: أنه ليس كل سؤال يقبله المفتي؛ فإن عاد سأله: لماذا عاد، وكيف عاد، وما الذي دعاه للعود؟ إن عاد إلى متاعه ليس بمتعجلا حقيقة، فالمفتي يقول له: قد خرجت، والعبرة بالخروج، وأنت إذا خرجت فأنت في حل المبيت، فإذا رجعت بعد ذلك لا يضر، وقد يكون خرج بجسده ولم يخرج متعجلا حقيقة، ومن هنا لابد من رعاية الأوصاف الشرعية.
الوصف الشرعي فيه أمران: أحدهما، فمن تعجل، ثانيا: أن يكون لمن اتقى، واللام للاختصاص، أي: هذا الحكم خاص بمن اتقى، والشخص الذي تحرى فامتثل أمر الله سبحانه وتعالى وخرج آخذا بسماحة الشرع، وآخذا بيسره ورفقه، أو شخص عنده مريض أو عنده ضعفة أو عنده أناس يحتاجون إليه، فهذا هو الأصل، وهذا هو الذي عليه العمل، فكونه يقول: (ثم عاد) على صورة مبهمة فلا يقتضي أن يجاب، بل لابد أن ينظر فيه ويفصل، والله تعالى أعلم.
حكم من تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق
السؤال رجل تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق بيومين فما الذي عليه؟
الجواب قال بعض العلماء: إن الهدي يتقيد كتقيد الأضحية، ولذلك يكون فواته بفوات زمانه، فيرون أن الهدي مقيد بالزمان، ومنهم من يعتد ببلوغه للبيت سواء كان في أيام التشريق أو قبل خروجه من شهر ذي الحجة فإنه يجزيه، وهذا القول يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليه ويميل إليه؛ أنه لو ذبح قبل خروج شهر ذي الحجة فلا بأس بذلك.

سبب إلزام النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بالفدية وهو مضطر

السؤال أشكل علي لماذا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بالفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل والخفين رغم الحاجة والضرورة في الكل.
أثابكم الله?

الجواب هذه هي العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو التسليم، وهذا هو الشرع، أن يجمع بين المفترق وأن يفرق بين المجتمع، حينما يأتي الشرع ويأتي بأشياء تجدها نظائر فإذا أحكامها مختلفة، وتجد أشياء متضادة وأحكامها متفقة، هنا تأتي العبادة ويأتي التسليم والرضا.
أما بالنسبة للمسألة، فالله تعالى يقول: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] ، هنا أوجب الله سبحانه وتعالى على الذي به ضرر كما أثر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى) ، يعني: ما كنت أظن القمل والضرر المترتب عليه أن يصل بك إلى هذه الحالة، من يتأمل حالنا اليوم يعلم ما نحن فيه من النعمة والرخاء، فقد كان الرجل يجلس عامه لا يحلق شعر رأسه، وكان الرجل إذا كان عنده شعر كبير لا يفتأ كلما جاء في ليلة ينام يتسلط عليه القمل ويتسلط عليه هوام الأرض، حتى إن الرجل يحمل شعر رأسه فيحمل هم إزالة هذا الشعف الذي فيه والقمل الذي بينه من شدة العناء والتعب، ينامون تحت الأشجار، بل ينامون في بيوتهم، لا يهدءون من البعوض والذباب، ولا من الحيات والعقارب، فمن يشكر نعمة الله التي نحن فيها اليوم، ومن يشكر منة الله عز وجل؟! كان الرجل يضع رأسه لكي ينام في الظهيرة فلا يستطيع أن ينام من أذية الذباب، وإذا انصرف عنه الذباب سلط الله عليه النمل، وإذا سلم من هوام الأرض وطائر السماء جاءه من الغبار والأتربة ما الله به عليم، من الذي يتفكر ويتدبر في نعمة الله عز وجل؟ الناس اليوم في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله عز وجل، فالرجل ينتقل من قاع الأرض إلى سبعين مترا إلى مائة متر في عنان السماء في ظرف دقيقة أو دقيقتين بالمصعد، وكانوا سابقا لا يبلغون ذلك إلا بشق الأنفس، لا يصعد إلى الدور العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين إلا وروحه في حلقه، واليوم يصعدون في دقائق، بل حتى في بعض الأحيان في ثوان، من الذي سخر هذا؟ هو الله، ولكن هل هناك شاكر، هل هناك ذاكر؟! السؤال يقول: لماذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على كعب الفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل؟ الفرق بينهما واضح، ولو تأملت رحمك الله لوجدت أن هناك فرقا شاسعا؛ لأن حلق الرأس إزالة لجزء من البدن ولبس السراويل ليس فيه إزالة، هنا أتلف جزءا من البدن بحلقه وهو الشعر، ولذلك الناسي لو نسي وحلق شعره يجب عليه الضمان ولو كان ناسيا، ولو نسي وغطى رأسه ثم أزال الغطاء لم يجب عليه شيء؛ لأنه ما حصل إتلاف، ولو نسي وقلم أظفاره لوجب عليه الضمان، ولو نسي وتطيب ثم أزال الطيب لم يجب عليه الضمان، والفرق واضح بين الاثنين، يعني الأول ليس فيه ضمان، والثاني فيه الضمان الأول فيه إزالة وإتلاف، والثاني لا إزالة فيه ولا إتلاف، فهذا عين الحكمة وعين التقدير، والله تعالى أعلم.

حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع البقاء
السؤال امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة وهي لا تستطيع البقاء حتى الطهر، فهل يجوز لها الطواف وهي على هذه الحال؛ لأنه قد يترتب على تأخرها ضرر، أثابكم الله?
الجواب الذي أعرف في دين الله وشرع الله: أن المرأة لا تطوف وهي حائض، وفي هذا أحاديث واضحة صحيحة صريحة مما اتفق عليها الشيخان، هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (عقرى حلقى! أحابستنا هي؟) ، يقول العلماء في شرح الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة: (أحابستنا) ما قال: أحابستني، قالوا: لأنه لو لم تطف طواف الإفاضة لتأخر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها، وهذا يثبت أنه سيتأخر، وإذا تأخر تأخر المسلمون معه، فقال: (أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذا) ، معناه: أنه لو لم تكن طافت يوم النحر للزمنا أن نبقى حتى تطهر، فأيهما أهون أن تتأخر امرأة من أجل حجز في طائرة، أو مائة ألف من الصحابة يحبسون؟ هذا دين وشرع، وهذا ركن من أركان العبادة، فليس هناك طواف أجمع العلماء على ركنيته في الحج إلا طواف الإفاضة: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29] ، وما هذا إلا لعظم أمره وعظم شأنه.
لو أن هذه المرأة حصل عندها خطأ بسيط في اسمها وجوازها لتأخرت وقعدت ولو قعد معها مليون شخص، وهذا في حكم البشر فكيف بحكم رب الجنة والناس؟ هذا دين وشرع، فإذا لابد أن تبقى حتى تطهر، ولا تدخل بيت الله؛ لأن الله منع منه الحائض، قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) .
ثانيا: عائشة رضي الله عنها وأرضاها جاءت بعمرة نسك قصدت به البيت، والله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] ، وجاءها الحيض بسرف -كما في الرواية الصحيحة- قبل الحج، فهي لا تستطيع أن تؤدي عمرتها قبل الحج، فانقلب نسكها من نسك إلى نسك كله من أجل أن لا تدخل البيت؛ تعظيما لهذا البيت.
فلو قالوا: تلبس حفاظة وتذهب تطوف، فنقول: أعطونا دليلا من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! لسنا نحن الذين نرخص ما دام أن الشرع شدد في هذا، وهذا ليس بتشديد، كل من أفتى بفتوى له دليل من أدلة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو المشدد، ومن وصفه بالتشديد فقد جار وظلم؛ لأنه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليأتين على الناس زمان تصبح الواجبات أشبه بالسنن، وليأتين على الناس زمان لا يعرفون واجبا ولا يعرفون سنة! فهذا من غربة الشرع والدين.
تجد أنك إذا جئت قلت لها: تتأخر، قالوا: هذا والله تشدد، وهذا والله التضييق على الناس، وهذا خلاف شرع الله، الدين يسر ورحمة، جاء بها من آلاف الكيلومترات من أجل أن تحج، هذا يسر: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) نحن نيسر إذا يسر الله سبحانه وتعالى، أما ديننا وأركان شريعتنا وواجباتها وفرائضها فنبقيها كما أبقاها النص، لا نتقدم ولا نتأخر، سواء أرضي الناس أو كرهوا، المهم عندنا حكم الشرع، قال: (أحابستنا هي -ثم يدعو ويقول:- عقرى عقرها الله، وحلقى حلقها الله) ، بمعنى: أن تأتيها مصيبة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأنه إذا دعا، قال: (أيما مسلم دعوت عليه أو سببته فاجعلها له رحمة) ، فهذا من مناقب أم المؤمنين أنها عادت عليها رحمة، لكن انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة تعظيما للأمر، مع أن العذر ليس بيدها.
فالمقصود نقول: تتأخر، فإذا كان لا يمكنها التأخر لها أن تسافر، ولكن لا يقربها زوجها وترجع وتؤدي فرض الله كما أوجب الله عليها، فتطوف بالبيت معظمة لشعائر الله عز وجل وهي طاهرة، أما أن نقول: تلبس حفاظة تتلجم من عنده دليل فليأتنا به، أما أن نوسع للناس أمرا ضيقه الله، أو نضيق على الناس أمرا وسعه الله فلا، الذي عندنا من النص أنه لا يجوز لها أن تطوف ببيت الله ولا أن تدخل بيت الله وهي حائض، هذا نص واضح، فينبغي أن نلتزم به.
فالذي ظهر لي: أنه يجب عليها أن تبقى حتى تطوف طواف الإفاضة، إما إن كان هناك عليها ضرر وتريد أن تسافر فلتسافر، وأجمع العلماء على أنه لو صدر الحاج قبل أن يطوف طواف الإفاضة أنه عليه الرجوع من أجل أن يطوف طواف الإفاضة ويلزمه ما يلزم من التحلل الأصغر، ولم يتم التحلل، فتمتنع من الموانع التي منها: الجماع، والمباشرة، وعقد النكاح، ومقدمات الوطء ودواعيه، واختلف في قتل الصيد: هل يبقى محظورا على الطواف أو لا؟ على وجهين مشهورين للعلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.
الواجب على الصبي إذا تمتع في النسك
السؤال لو تمتع الصبي فهل يلزمه الدم أم لا؟ وإذا لم يستطع الدم فهل يصوم، أثابكم الله؟
الجواب إذا تمتع الصبي لزمه الدم، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة البالغ من حيث صحة الحج، وهذا مذهب جمهور العلماء من حيث الأصل، أن الصبي يعامل معاملة الكبير على تفصيل في كونه: هل أحرم هو أو أحرم وليه، فالشاهد من هذا: أنه إذا كان وليه هو الذي لبى عنه مثل أن يكون صغيرا لا يعرف التلبية فتكون حينئذ في مال الولي وليس في مال الصبي، ولكن إذا لبى الصبي نفسه وتمتع بعمرته إلى الحج فإن الضمان يكون في ماله، والله تعالى أعلم.
حكم من ترك المبيت بمنى أيام التشريق
السؤال هل يكفي دم واحد لمن ترك المبيت بمنى أيام التشريق كلها، أثابكم الله؟
بالنسبة للمبيت في منى فيه وجهان: بعض العلماء يرى أن لكل ليلة نسكا تاما، وهذا هو الذي يظهر والأصول تقويه، ومنهم من يرى أن مبيت الليالي كلها نسك واحد، وعليه دار الخلاف: هل عليه دم أو ثلاثة دماء؟ والصحيح: أن المبيت كل ليلة يعتبر نسكا تاما مستقلا يجب ضمانه بحقه، والله تعالى أعلم.
مكان إحرام المكي لنسك القران
السؤال لو أراد المكي نسك القران فمن أين يحرم للعمرة، أثابكم الله؟
الجواب الصحيح أنه يصح القران من أهل مكة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] ، فجعل التمتع عاما شاملا للمكي وغير المكي، والتمتع؛ تمتع القران والتمتع المعروف بالعمرة، فلما عبرت الآية على سبيل العموم فقال الله: {فمن تمتع بالعمرة} [البقرة:196] ، دل على أن أهل مكة يتمتعون تمتع القران وتمتع العمرة المعروف، وبناء على ذلك: فإنه في هذه الحالة إذا أحرم أهل مكة بالعمرة مع الحج، فإن مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أنهم يخرجون إلى أدنى الحل تغليبا للأصل في العمرة؛ لأنه إذا وجد ما يوجب الخروج وما لا يوجبه وهما مجتمعان قدم الذي يوجب؛ لأنه شغل للذمة يوجب الخروج عن الأصل، فيقدم، ومن هنا قالوا: إنه يخرج إلى أدنى الحل ويحرم بمكان العمرة، ومنهم من يقول: إنه مغتفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحج والعمرة بمثابة النسك الواحد، فيكون مخففا عليه في ذلك، والأول هو الأحوط، والله تعالى أعلم.
حكم من رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ومات قبل أن يطوف
السؤال رجل سافر إلى بلده وبقي عليه طواف الإفاضة ثم لم يتمكن من الرجوع حتى توفاه الله، فهل يحج عنه، أثابكم الله؟
الجواب إذا توفي الشخص قبل أن يتم حجه فأصح قولي العلماء أنه لا يتم الحج عنه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته دابته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة فوقف معه هذا الرجل، فجنحت دابته فأسقطته فاندقت عنقه، فمات رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب) ، قالوا: ولم يأمر بإتمام الحج عنه، مع أنه حاج وقف بعرفة وبقيت عليه بقية الأركان، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بالحج عنه، وهذا وقت الحاجة ووقت البيان، قالوا: فلما سكت عليه الصلاة والسلام عن ذلك دل على الإجزاء، وهذا أصل؛ لأنه أدى ما عليه، وجاء إلى الحج وبذل ما يستطيع والله لا يكلفه فوق طاقته، وورثته ليسوا ملزمين؛ لأن ذمته لم تشغل، ولما تعذر عليه الإتمام تعذر بعارض من الله سبحانه وتعالى، وحينئذ لا يلزم بالإتمام ولا يلزم ورثته أيضا بالإتمام على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.
أسباب استجابة الدعاء
السؤال ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علما نافعا وعملا صالحا، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب في هذا السؤال جوانب: الجانب الأول: من ألح على الله في الدعاء فحري به ألا يقنط وألا ييئس، بل عليه أن يتخذ من كثرة الإلحاح ما يدعوه إلى الزيادة؛ لأن الله يحب من عبده الإلحاح وكثرة الدعاء، فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة سبحانه وتعالى، فالله يحب من عبده كثرة الإلحاح، ثم إن كثرة الإلحاح توحيد لله عز وجل؛ لأنه إذا دعا المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة، ثم ما زال يدعو، وما زال مؤمنا موقنا أن الله يسمع دعاءه، وأن الله أحكم وأعلم، وأن الله أعلم بحاله، فقد يكون من الحكمة من الله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو أعطاه العلم الآن فتن في دينه، فيؤخر عنه تلك العطية، فلذلك يرضى عن الله سبحانه وتعالى، وسعادة الدنيا وسرورها وبهجتها في الرضا عن الله سبحانه وتعالى، أي شيء تسأله الله عز وجل فيؤخره عنك، فارض عن ربك فهو أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأرحم بك من والديك، وأرحم بك من الناس جميعا، فهو الحليم الرحيم، إذا لا يقنط الإنسان ولا يسئ الظن بالله مهما ألح.
ثانيا: عليه أن ينظر إلى حاله بما يدعوه بحسن الظن بالله عز وجل، فمثلا: المبتلى يبتلى بمرض أو يبتلى في دينه فيجد أنه لا زال على نفس المعصية أو لا زال على نفس البلاء في جسده، والله لو لم يدع لكان حاله أسوأ، ولكن الله عز وجل يلطف به بهذا الدعاء.
ثالثا: أنه ما من عبد يدعو الله عز وجل مخلصا موقنا إلا أعطاه الله سؤله، أو صرف عنه من البلاء مثل ما دعاه، أو ادخرها له يوم القيامة.
فإذا: قد يدعو الإنسان فيؤخر الله عز وجل عنه الإجابة، فلا يزال يكسب خيرا كثيرا، وما يدريك ما الذي سيعود على الإنسان الملح إن أكثر في سؤال الله عز وجل والله يؤخر عنه الإجابة، فكم من درجات تنتظره يوم القيامة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ادخرها الله له يوم القيامة، فإذا يدعو الإنسان، قالوا: (نكثر يا رسول الله! قال: الله أكثر) ، يعني أكثر كرما وأكثر جودا، {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة:186] ، فأكثر من الإلحاح واستمر في دعاء الله عز وجل، لكن إذا سألت الله فكن في سؤالك على بصيرة، من سأل الله العلم فليسأله العمل، ومن سأله العلم والعمل فليسأله الإخلاص، ومن سأله العلم والعمل والإخلاص، فليسأله القبول، وإذا رزق الله العبد العلم والعمل والإخلاص والقبول؛ احتاج إلى الثبات وحسن الخاتمة، فيسأل الله أن يثبت ذلك في صدره، وأن يثبته على الحق حتى يلقاه سبحانه وتعالى راضيا عنه، ثم بعد ذلك يسأله من خير المسائل مما يعين على هذه المنزلة الشريفة الكريمة؛ وهي حسن الخلق، فيسأل الله هذه المسائل الجامعة للخير؛ علم وعمل وإخلاص وقبول، وثبات على الحق، في بر وحسن خلق، ومن رزقه ذلك فبخ بخ، أي تجارة رابحة وأي منزلة رابحة فاز بها من الله جل جلاله، أن يسأل الله هذه المسائل العظيمة وأن يكون على بصيرة.
كيف يسأل الله عز وجل، ذكروا عن الإمام أبي بكر بن العربي الفقيه المشهور المالكي في مسألة: (زمزم لما شرب له) يقول: إني شربته فسألت الله العلم فرزقنيه، فندمت أني لم أسأله مع العلم العمل، فانظر إلى فقه الدعاء؛ وهو أنه كان ينبغي أن يسأل مع العلم العمل.
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن وتسأل الله البركة؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون الإنسان من أعلم الناس في زمانه، لكنه ممحوق البركة من علمه، وقد ترى الرجل حافظا للسورة والسورتين من كتاب الله عز وجل، وضع الله له فيهما البركة بما لم يخطر لك على بال، فهو يردد هذه السورة على لسانه، فينال ملايين الحسنات، ثم إذا جلس لا يرى شخصا لا يحفظها إلا حفظه إياها، فكم له من الأجور والحسنات والخيرات والبركات، وكم له من قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) >فالمقصود: أن الإنسان يبحث عن الأمور المهمة في الدعاء، نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل ما وهبنا من العلوم نافعا شافعا: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88 - 89] ، والله تعالى أعلم.
حكم تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة
السؤال من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة أو آخره؛ وذلك بسبب الزحام، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب ما شاء الله تبارك الله! الزحام مستمر إلى آخر ذي الحجة! إذا كان الذي ليس عليه حج يزاحم، فمن باب أولى الذي عليه باقي حج أنه يذهب يزاحم.
على كل حال: ليس كل ما قاله الناس في أسئلتهم يكون صحيحا، المطاف يخلو خاصة في الليل، ويخلو في أوقات مثل ساعات الظهيرة، والأصل يقتضي أن من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد أيام التشريق فيه وجهان: بعض العلماء يقول: العبرة بأيام التشريق، ومن أخر لغير عذر فعليه دم، وبعضهم يرى أن الدم لا يجب إلا بخروج ذي الحجة، وهذا هو الذي أميل إليه، أن الدم لا يجب على من أخر طواف الإفاضة إلا إذا خرج عليه شهر ذي الحجة، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
وينسب للجمهور أنهم يرون أنه إذا خرج عن ذي الحجة، وهذا هو الذي عني بقوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة:197] ، قالوا: تمام الأشهر في ذكر الآية مراعاة للانتهاء، فنهاية الحج بنهاية طواف الإفاضة، وآخر أمده بغروب شمس آخر يوم من شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم.

أحكام صيام العاشر من محرم
السؤال أيهما أفضل: صيام يوم قبل العاشر من محرم أم بعده مع صيام العاشر؟ وهل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت، أثابكم الله؟
الجواب أما بالنسبة للمسألة الأولى: الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو السنة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل أن يصوم يوما قبله ويوما بعده، ولكن شهر محرم الأفضل صيامه والإكثار من صيامه، لما سئل عليه الصلاة والسلام: (ما أفضل الصيام بعد شهر رمضان؟ قال: شهر الله المحرم) ، يعني كل شهر محرم مرغب فيه الإكثار من صيامه، لكن في هذا اليوم يوم عاشوراء سنة المخالفة أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) والتاسع محمول على الحقيقة، والعاشر محمول على الحقيقة، وأما بأن العاشر المراد به: تاسوعاء فهذا فيه ما فيه، وتكلم العلماء على هذا، لكن الأصل أن الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر.
فلو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) ، ولم يقل: والعاشر، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن الأصل مستصحبا له؛ لأنه هو قالها: (نحن أولى بموسى منكم) ، يعني في شكر نعمة الله بنجاة موسى صوم هذا اليوم، فإذا: الشعيرة باقية؛ لأن سببها بخصوص اليوم، وهو شكر الله عز وجل على نجاة هذا النبي، حمدا لله عز وجل بنصرة أهل التوحيد على أهل الشرك، وأهل الإيمان على أهل الوثنية، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم) ، لأنه على التوحيد والإخلاص، وأنتم غيرتم وبدلتم، فإذا: الموجب للصوم باق لا يتغير، فلما كان ثابتا سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معمول على القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ثانيا: نقول: من منع من صيام يوم عاشوراء خالف الأصل؛ لأن الأصل إذا ثبت الصوم بدليل شرعي يدل على الفضيلة، لا ينقل عنه إلا بدليل مثله، والدليل المثبت صريح، والدليل النافي الذي يدعونه محتمل؛ لأنه لما قال: (لأصومن التاسع) ، سكت عن العاشر، هل يصومه أو لا يصومه، وليس إثبات أحد النقيضين بأولى من الآخر كمسلك جدلي، فلا يستقيم لهم الاستدلال بقوله:: (لأصومن التاسع) ، وهذا ما أحببنا أن ننبه عليه حول من يقول: إنه يصوم التاسع فقط، وهذا شذوذ، يعني: مذهب من أضعف المذاهب، ومخالف للأصل الذي ذكرناه، ويفوت مقصود الشرع بتعظيم نعمة الله عز وجل بهذا، فصوم يوم التاسع والعاشر هو الأفضل في صوم عاشوراء على ما ذكرناه.
أما الجانب الآخر من السؤال والذي يقول: هل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت؟ الجواب: إفراد العاشر بالصوم هو خلاف السنة، والسنة أن يخالف اليهود، فيصوم يوما قبله أو يوما بعده، وأما بالنسبة لإفراد عاشوراء، إذا وافق السبت وصام السبت، فإن النهي عن صوم يوم السبت حديثه متكلم في إسناده، وإثبات هذا الحديث مبني على القول بتحسينه مع أن فيه ما فيه، إذا قيل بتحسين هذا الحديث، فإن الحديث الحسن لا يعارض الحديث الصحيح، ولذلك: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح ثانيا: الذي عليه العمل عند أهل العلم رحمهم الله: أن المنع من صوم يوم السبت المراد به من قصد يوم السبت تعظيما للسبت، وهذا أصل في جميع ما ورد، مثل يوم عرفة لو وافق يوم سبت ونحو ذلك من الأيام المفردة، فإنه يشرع صيامها، ولا بأس في ذلك، ولا حرج أن يصومه؛ لأنه يصومه لسبب شرعي، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ثم قال: (إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه) ، فهذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما كان معتادا لصيام ذلك اليوم والشريعة منعت من صوم يوم قبل رمضان حتى لا يزيد في العدد فيغلو في العبادة أذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فات المعنى الشرعي.
فالمعنى الشرعي في إفراد يوم السبت، هو تعظيمه؛ لأنه شعار اليهود، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب، ومن هنا لا بأس ولا حرج إذا وافق يوما، لأن الشرع ندب إلى صيامه، والله تعالى أعلم.
أمور تعين على استجابة الدعاء
السؤال ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علما نافعا وعملا صالحا، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا شك أن من توفيق الله عز وجل لك: أن ألهمك أن تدعو الله عز وجل بهذا الأمر، وإذا وقف الإنسان في يوم عرفة أو وقف في ساعات يرجى فيها إجابة الدعاء فاختار أفضل المسائل وأحبها وأكرمها وأعظمها ثوابا وخيرا للعبد في الدنيا والآخرة، فليعلم أن هذا من توفيق الله عز وجل له، فالدعاء إذا وفق العبد فيه نال خير الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: في قولك (علما نافعا وعملا صالحا) أعظم الأسباب التي تعين على بلوغ العلم النافع: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وهو أساس النفع في كل عمل صالح، فلا يمكن أن يكون العمل نافعا إلا إذا أراد طالب العلم به وجه الله سبحانه وتعالى، فينطلق في طلبه للعلم، والجنة والنار بين عينيه، وكل يوم يجدد إخلاصه، بل كل ساعة بل كل لحظة إذا أمكنه ذلك، كلما جلس في مجلس علم ينظر ماذا في قلبه، وكان السلف إذا سئلوا عن حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أثر عن سفيان رحمه الله يمتنع من الحديث ويتأخر قليلا فيقولون: ما بك؟ يقول: حتى أنظر ما في قلبي، يعني: هل أريد أن أحدث لله أو أريد أن أحدث لغير الله عز وجل، وكان يقول قولته المشهورة: ما رأيت مثل نيتي، إنها تتقلب علي، يعني أشد ما جاهدت النية لإرادة وجه الله عز وجل، يمشي الإنسان إلى مجلس من مجالس العلم وهو يريد وجه الله، ولا يريد قضاء الأوقات، ولا إضاعة الوقت، ولا من أجل التفكه في المجلس أو التندر فيه، وإنما يريد وجه الله سبحانه وتعالى، يستشعر هذا الإخلاص حينما يشعر بالمسئولية، فوالله ثم والله ما جلست في مجلس علم ولا سمعت علما ولا نظرت عيناك إلى علم إلا حوسبت بين يدي الله عليها.
ما من مجلس تجلسه فتسمع قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هذا حلال أو هذا حرام؛ شيء من دينك وشرعك إلا سئلت أمام الله عز وجل عن هذا العلم الذي بلغك، إن هذه الكلمات وهذه الأحكام وهذه المسائل حجج يلقيها العلماء من على أكتافهم ويلقونها على ورثة العلماء وهم طلاب العلم، وهذا يحتم عليك كطالب علم أن تعرف ماذا يراد بك، وماذا ينتظر منك، كم من عالم تمضي عليه عشرات السنين، وقل أن يجد طالب علم يملأ عينيه، كم من عالم يضحي ويتعب ويكدح، فقل أن يجد طالب علم جمع فأوعى، وهذا بسبب عدم الاستشعار، يصحب أناس أهل العلم وكأن الأمر نوع من التفكه والتندر، ويقفون لمسائلهم والأسئلة التي تنهال عليهم وتكرر الأسئلة عشرات المرات، ثم يفاجأ ذلك العالم والشيخ وإذا بنفس الطالب يأتي بنفس الأسئلة، وقد كان أهل العلم يضبطون العلم من أول مسألة، فإذا سمع المرة لم تعد عليه، يحفظ كلام الشيخ حتى إن طالب كان يحفظ الفتوى من العالم ثم يمكث العلم يجلس الأربع سنوات والخمس سنوات وإذا به يجدها عند العالم كما هي فيطمئن على أن قلبه لا يزال بخير حيث حفظ ووجد العلم كما هو لم يتغير.
أما أن يأتي هكذا تفكها وتندرا، والله ما اقترب أحد من أهل العلم إلا حوسب بين يدي الله عز وجل وسئل أمام الله عز وجل.
إذا: استشعار المسئولية بعد الإخلاص، هذا الاستشعار يلهب القلب، ويلهب الضمير والإحساس، حتى إنك تجد طالب العلم إذا جلس مع العالم لا يفرط في ثانية أو دقيقة فضلا عن ساعة، ولذلك تجد العلماء يجلسون مع الناس ويحضرون، فقل أن تجد سائلا يسأل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا سئل العالم أسئلة مكررة وأسئلة فيها خلاف بين العلماء ليرى هل هذا العالم أخذ ذات اليمين أو أخذ ذات الشمال، أو يميل إلى قول فلان أو علان؟ ما لهذا كان العلم، ولن يكون العلم من أجل هذا، العلم رفعة لهذه الأمة ومجد لها، ولن يكون مجدا ورفعة لهذه الأمة إلا إذا كان حملته أصحاب مبادئ، وأصحاب أسس صحيحة، أهل الدنيا يتنافسون في علومهم ويكدحون ويتعبون، وكل واحد يستشعر ما الذي يتعلمه، ودين الله عز وجل قل أن تجد من يرعى حرمته، فالشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، لا يعني هذا أنه لا يوجد طلاب العلم، إنما نتكلم على الصفة الغالبة، فإذا: الاستشعار أمر مهم جدا بعد الإخلاص.
ثالثا: يصحب هذا الاستشعار الثقة بالله عز وجل، والثقة بالله سبحانه وتعالى هي التي تفتح لطالب العلم آفاق العلم ورحابه الواسعة بمجرد أن يضع قدمه في أي منهج أو طريق أو سبيل يقوده إلى العلم، يضع قلبه في السماء وإن كان قالبه في الأرض؛ لأنه من أولياء الله سبحانه وتعالى وتولى الله سبحانه وتعالى، يريد أن يحمل شرعه ودينه ويكون أمينا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في منزلة شريفة كريمة.
كيف تكون الثقة بالله عز وجل؟ يبدأ طالب العلم وكله أمل في أن الله سبحانه وتعالى ينفحه برحماته: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء:79] ، {وعلم آدم الأسماء} [البقرة:31] ، من الذي علم آدم؟ ومن الذي فهم داود وسليمان؟ الله سبحانه وتعالى، الثقة بالله عز وجل، الصدر المنشرح، القلب المطمئن، النفس القوية، قوية صادقة؛ لأنها توقن أن الله سبحانه وتعالى لا يخيب من سلك هذا السبيل، وتكفل الله بالجنة لأهله لما أعد لهم من النعيم، كيف تثق بالله؟ تثق بالله أنه سيعلمك، والله ثم والله لو تعلمون كيف كان أهل العلم ممن أدركنا وعرفنا، ومما رأينا من ألطاف الله في أنفسنا يحار عقل الإنسان، العالم حينما تنظر كيف يجمع هذا العلم، وكيف يفهم هذا العلم، وكيف يرتب مسائل العلم تثق ثقة تامة أنه لا حول له ولا قوة، وأن وراءه قوة إلهية، وحفظا إلهيا فوق ما يخطر للإنسان على بال، والله إن الإنسان يكون متعبا منهكا مريضا لا يفتر أن يجلس في مجلس العلم، وكأن لسانه يقاد فيما يقول وفيما يتكلم؛ لأن هذا دين الله عز وجل، وإن لم يكن العلماء أولياء الله عز وجل فمن؟ فيا طالب العلم! إذا كنت تريد أن تسلك سبيل الله عز وجل فلابد أن يكون عندك ثقة أن الله يفهمك؛ ولذلك كل طالب علم يأتي الشيطان ويقول له: أنت لا تستطيع أن تحفظ، أنت إنسان كسول خمول، ابحث عن شيء آخر غير العلم، فيثبطه عن طاعة الله عز وجل ويجعل الأمر راجع إلى ملكته، وليس راجعا إلى فتوح الله جل جلاله الفتاح العليم الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، لكن حينما يقول: أنا الضعيف، أنا المسكين، أنا الجاهل، أنا المقصر، وربي هو الكريم، وهو الحليم الرحيم، وأملي في الله كبير، فتح الله له أبواب رحمته: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، إخلاص واستشعار وثقة بالله سبحانه وتعالى، كنا جاهلين فعلمنا الله، وكنا ضلالا فهدانا الله، والله عز وجل يقول لنبيه: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى:7] ، {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا} [الشورى:52] ، يقولها لخير الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، يا طالب العلم! حينما تطلب العلم وصدرك منشرح أن الله يكرمك ويعلمك، وأن الله يرحمك، وأن الأمة في حاجة إلى من يعلمها ويفهمها، فتطرح بين يدي الله عز وجل، وكان بعض العلماء يصغي بخده، ويقول: يا معلم آدم! علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيكون فتوح من الله سبحانه وتعالى، ولعل العبد في ساعة من الساعات يحتقر نفسه فيسمو إلى درجات الكمال، فإذا كان هناك إخلاص واستشعار بالمسئولية وثقة أخذت بالأسباب؛ من ضبط العلم وإتقانه فلا تفوتك الكلمة فضلا عن الجملة والعبارة، وتحس أنك ستسد ثغرا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء العلماء لا يبقون ولا يدومون، وأن سنة الله ماضية ومضت في خيرهم وخير خلق الله عز وجل وأحب رسل الله إلى الله: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30] ، فإذا علم الإنسان أنهم سيزولون وأنهم سيذهبون ويرتحلون، وأن الأماكن التي استنارت بعلومهم ستخلو يوما من الأيام، وتخبو فيها شموسهم وتطفأ فيها أنوارهم، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما خلفوه من ثقات أهل العلم الذين صحبوهم، وينبغي ألا نكون مقصرين نائمين لا نستشعر أين نحن ولا نحس أين يجب أن نكون، بل على كل إنسان أن يستنهض الهمة في نفسه.
كذلك أيضا من الأمور التي تعين على ضبط هذا العلم وإتقانه: كثرة التكرار والترداد، طالب العلم الصادق في طلبه قد نزع الله من قلبه الدنيا وملأ قلبه بالآخرة، وثق ثقة تامة أنه لا طالب علم ولا عالم إلا بمبدأ، العلم ليس بالمظاهر وليس بالألقاب، وليس بكثرة الكتب ولا بكثرة الزينة والتعالي، وإنما هو مبادئ قيمة، وما سما العلماء إلا بمبادئهم وبصدقهم مع الله وقولهم للحق، وصدعهم بالحق، وتبليغهم لرسالة الله عز وجل، وتفانيهم في نصح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على تعليم الجاهل وتنبيه الغافل ودلالة الحائر وإرشاد التائه، كل هذه المبادئ كانت من أسس صحيحة وهو استشعار المسئولية والتفاني فيها بالجد والاجتهاد، وإذا أراد طالب العلم أن يطلب العلم فعليه أن يتعب وأن ينصب، وأن يعلم أنه على قدر تعبه اليوم يبوأ غدا من الله سبحانه وتعالى، فمن كانت له بداية مليئة بالمصاعب والمتاعب ستكون له النهاية التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، العلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، وهنا أنبه على مسألة مهمة جدا ينبغي على كل طالب علم أن يستشعرها، فإذا صحب العلماء أو صحب عالما فوجد العالم يعطيه ألقابا أكثر مما يستحق أو وجد العالم يزكيه وكأنه أخرجه من النار وأدخله الجنة، وكأنه أصبح مزكى فليعلم أن هذا هلاك للعبد، ولذلك على الإنسان أن يصحب العلماء محتقرا لنفسه مقبلا على آخرته مجدا مجتهدا في تحصيله وضبطه وإتقانه، لا يفتر ولا ينصب في حفظ هذه الأمانة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله كم من عيون للعلماء بكت، وكم من قلوب انكس






ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:31 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (509)

صـــــ(1) إلى صــ(30)



شرح زاد المستقنع - باب الشجاج وكسر العظام
إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الحدود، حتى لا يتساهل الإنسان بدم أخيه، فلم يهمل حتى الشجة، وجعل منها ما قدر ديتها ومنها ما جعل فيها حكومة، أي: يحكم القاضي فيها وبقدرها بحيث لا تزيد على المقدر شرعا، والشجاج يختص بما يكون في الرأس والوجه، بينما الكسر يختص بما يكون في العظام.
بيان الديات المتعلقة بالشجاج المقدرة وغير المقدرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشجاج وكسر العظام] هذا الباب يختص بالديات المتعلقة بالشجاج فيما ورد التقدير فيه من الشرع، وكذلك أيضا بيان حكم كسر العظام، وما يجب فيه من الحكومة والتقديرات الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.
قوله: (الشجاج) جمع شجة، تقول العرب: شج المفازة إذا قطعها، وأصل الشج في لغة العرب: القطع، والشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه، ومن هنا تختص بالجناية على الرأس والوجه، وتشمل الشجة ما كان في مقدم الرأس عند الناصية، وما كان في وسط الرأس عند الهامة، وما كان في القذال وهو آخر الرأس، وكذلك أيضا تشمل الشجة ما كان في أعراض الرأس، مثل أن تكون في العظم الذي يلي الأذن، سواء من الأذن اليمنى أو اليسرى، فكل هذا تقع الجناية عليه وتسمى: بالشجة، فتارة تكون جرحا للجلدة، وتارة تنفذ من الجلدة إلى اللحم، وتارة تنفذ من اللحم إلى العظم، وتارة تكسر العظم وتهشمه، وتارة تكسره وتهشمه وتنقله، وتارة تصل إلى خريطة الدماغ، كما إذا كانت الضربة في جهة الدماغ، هذا بالنسبة للشجاج في الرأس.
كذلك في الوجه، والوجه يشمل اللحيين، والخدين، والوجنتين، وكذلك أيضا الجبهة، واستظهر طائفة من العلماء الأنف بطرفيه، فكل هذه المواضع الجناية عليها تكون على الترتيب الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وفيه المقدرات الواردة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في سنة الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وأما العظام فجمع عظم، ومراده هنا كسر العظام، أي: الجناية على العظم بكسره، فتارة تكون الجناية بهشم العظم وتارة تستفحل فتهشم العظم وتكسره، ثم ينتقل العظم بحيث ينفصل بعضه عن بعض، والعظم تارة يكون في الصدر، وتارة يكون في الذراع، وتارة يكون في الفخذ، وتارة يكون في الساق، إلى غير ذلك من المواضع التي تكون فيها العظام.
قوله: (باب الشجاج وكسر العظام) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالجناية، والاعتداء بالشجاج وكسر العظام، ثم هذه الجناية تكون عمدا وتكون خطأ، ومن أمثلتها في العمد: هي أن تحصل الخصومة بين الرجل والرجل، فيأتي والعياذ بالله! فيضربه على رأسه فيشج رأسه شجة تدميه، يعني: تسيل الدم، أو شجة حارصة أو قاشرة تقشر الجلد ولا يسيل معها الدم، وتارة تكون شجة تكشف اللحم وتصيبه، وتارة تكشفه وتصيبه وتغوص فيه، وتارة تكون الشجة بالوصول إلى العظم دون قشرته حتى تحول القشرة دونه وهي السمحاق، كل هذا يقع بالعمد.
ويقع بالخطأ مثل حوادث السيارات، فلو أنه كان يقود سيارة فانقلبت به وبمن معه، فأصابت من معه شجة قشرت جلدة رأسه، أو أدمته، يعني: سال الدم منها، أو كسرت عظامه، فهذا من الخطأ، أو طبيب يعالج، فأخطأ في علاجه فترتب على الخطأ ضرر في العضو، وحصل منه جناية من هذه الجنايات، كذلك يعتبر من الخطأ أن يقوم رجل يحمل متاعا ثم أسقط المتاع على غيره فشجه، وقس على هذا من الصور في الأخطاء التي تقع بين الناس، وكل هذا له أحكام خاصة في العمد اختلف العلماء في بعضها، يقولون: في بعضها القصاص، وبعضها لا يتأتى فيه القصاص؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه بالمماثلة، فمثلا لو كانت الهاشمة: تهشم العظام، وتكسر العظام، فلا نستطيع بحال أن نضرب الجاني إذا كان متعمدا ضربة مثل ضربته بحيث تكسر نفس العظام وتصل إلى ما وصلت إليه الضربة الأولى في الجناية، ومن هنا يسقط القصاص وينتقل إلى الأرش إلى الحكومة إلى الدية، على حسب نوع الجناية، فهذه الأشياء التي سيذكرها المصنف في الشجاج تشمل عشرة أنواع، منها: الخمس التي لا تقدير فيها.
ومنها: الخمس المقدرة، فهي عشرة أنواع من الجنايات في الشجاج وما يتبعها، وهي الجائفة التي تكمل العدد العاشر، وفي بقية البدن لا تكون هذه الأشياء الخمسة التي لا تقدير فيها، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.
حقيقة الشجة وما تختص به وعددها وحكمها
قال رحمه الله: [الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة] قوله: (الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة) وهذا عليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، وأصله قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم خصوا الشجة بالوجه والرأس، وله أصل في اللغة، ومن هنا قالوا: إن الجناية بالشجاج تختص بالضربات في الرأس والضربات في الوجه، على ما سبق بيانه، يستوي في هذا أن تكون في مقدم الرأس أو في وسطه أو في آخره، أو في جوانبه، لكن اختلف في آخر الرأس، فآخر الرأس مما يلي الرقبة وهو العظم المتدلي هل يعتبر من الرأس أو يعتبر من الرقبة؟ فالرقبة لا يعتبر فيها شجاج سواء من جهة ما أقبل أو ما أدبر، فالجناية عليها لا تأخذ حكم الجناية على الرأس والوجه، وبالنسبة للوجه يشمل ما ظهر وحصلت به المواجهة، وما كان تحت الحنك، أو تحت اللحيين، أو تحت الذقن مما لا مواجهة فيه فإنه آخذ حكم الوجه، ما لم يصل إلى الرقبة، فإن وصل إلى الرقبة ففيه الحكومة على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قال: [وهي عشر] : قوله: (وهي عشر) أي: الشجات أو الشجاج، أو الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه عشر، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل، وبينا أن المراد به استحضار الذهن وتهيئته لما يذكر بعد.
هذه العشر منقسمة إلى قسمين: الخمس الأولى: التي فيها الحكومة وليس فيها مقدر ولا دية.
والخمس الثانية: التي فيها مقدر، الخمس الأولى إذا أراد طالب العلم أن يضبطها؛ ليعلم أنها مرتبة تلو بعضها، فالمصنف رحمه الله من دقته وحسن بيانه ذكرها مرتبة، فراعى ترتيب الوقوع على حسب الجنايات.
ومن العلماء من عكس فقدم الخمس المقدرة على الخمس التي لا تقدير فيها، وهذا من باب العناية بالأهم، وهو الذي فيه مقدر شرعا، لكن طريقة المصنف أنسب وأدق في البيان والتوضيح.
الحارصة حقيقتها وحكمها
قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلا ولا تدميه] .
الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يحتج بتفسيره، كـ الأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.
حقيقة الدامية وحكمها
قال رحمه الله: [ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم] قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم.
قوله: (وهي التي يسيل منها الدم) أي: أن الدم يسيل منها قليلا.
يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلا: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان.
وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.
حقيقة الباضعة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم] هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمبضع هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.
حقيقة المتلاحمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم] قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواء في الوجه أو في الرأس، وسواء في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.
حقيقة السمحاق وحكمها
قال رحمه الله: [ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم.
وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعا ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم.
قال: [فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقدير شرعي، وحينئذ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما.
ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالا، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه.
الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمسا من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدرا ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.
حقيقة الموضحة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة] الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسرا يسيرا أو كثيرا متفاحشا، منحصرا في الموضع، أو متفرقا في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.
حقيقة الهاشمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة] : الهاشمة: توضح العظم وتهشمه، والهشم الكسر للعظم، ويقال: هشم الشيء إذا فككه وكسره، ومنه هشم الثريد، ولذلك سمي جد النبي صلى الله عليه وسلم: بـ هاشم؛ لأنه هشم الثريد للناس بمكة من كرمه فكانت مفخرة له.
الشاهد أن الهاشمة هي التي تهشم العظم في الوجه والرأس، وفيها عشر من الإبل، وللعلماء في هذه العشر وجهان: الوجه الأول: أن خمسا من العشر لكونها أوضحت العظم، والخمس الثانية؛ لأنها هشمت العظم.
الوجه الثاني: أن الهاشمة فيها عشر من الإبل ولا يفصل.
فائدة الخلاف بين الوجهين: أنه لو ضربه فهشم عظمه دون أن يجرحه، يعني هشم العظم داخل الجلد دون جرح، فعلى القول الأول لا يجب عليه إلا خمس من الإبل؛ لأنه لم يقع إلا الهشم، ولم تقع الموضحة، وعلى القول الثاني يجب عليه عشر من الإبل، سواء كان هناك جرح وإيضاح للعظم، أو لم يكن هناك جرح وإيضاح للعظم.
الموضحة: فيها خمس من الإبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، وقد تقدم معنا وبينا أنه الكتاب الذي أجمعت الأمة على تلقيه وعلى قبوله، وضربه العلماء مثالا للحديث الذي أغنت شهرته عن طلب إسناده، وحسن أئمة الحديث كالإمام الترمذي وغيره إسناد هذا الحديث، والعمل عند العلماء على حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم له في الديات ومقاديرها، هذا الكتاب جاء فيه: (وفي الموضحة خمس من الإبل) ، وسكت عليه الصلاة والسلام عن الهاشمة، فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يبين حكم الهاشمة، ولكن جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، وقضى زيد بن ثابت وهو الصحابي الفقيه رضي الله عنه وأرضاه ولم يعرف له مخالف: أن الهاشمة فيها عشر من الإبل، وبناء على ذلك جرى العمل عند أئمة الإسلام سلفا وخلفا على هذا القول، هناك من خالف من العلماء رحمهم الله وقال: إن فيها حكومة، وذلك بأن يقدر المجني قبل الجناية ويقدر بعد الجناية -وسيأتي إن شاء الله بيان الحكومة- وهو مذهب مالك رحمه الله وغيره، والصحيح ما ذكرناه.

حقيقة المنقلة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المنقلة وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل] قوله: (ثم المنقلة) المنقلة والمنقلة هي التي تنقل العظم من مكانه، فيلاحظ أن الضرب في الهاشمة أخف من الضربة في المنقلة، فالمنقلة ضربة قوية تهشم العظم فتفصله عن بعض حتى ينتقل، ويعرف ذلك الآن عن طريق الأشعة، وكانوا في القديم يعرفون ذلك بالسبر، ويلاحظون العظم ويلاحظون انتقاله، ويكون ذلك من أهل الخبرة كالأطباء.
(خمس عشرة من الإبل) وذلك كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، فإذا ضربه في رأسه أو ضربه في وجهه فكسر عظمه وانتقل هذا العظم المكسور، فإنه حينئذ يلزمه خمس عشرة من الإبل؛ لأن الكسور تكون متفاوته، فإما أنه يهشم العظم ولا ينتقل، أو يهشم العظم هشما قويا يفصله عما جاوره، وحينئذ ينتقل، فإذا حصل هذا الهشم بهذه القوة ففيه خمس عشرة من الإبل، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولون الذين سبق بيان مذهبهم يقولون: المنقلة: خمس من الإبل للموضحة، وخمس من الإبل للهاشمة؛ لأنها هشمت العظم، وخمس لكون العظم انتقل، هذه خمس عشرة من الإبل يجعلونها على هذا الوجه.
حقيقة المأمومة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية] قوله: (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) أم الشيء أصله، وأم الدماغ خريطة الدماغ، فإذا ضربه -والعياذ بالله- على دماغه ضربة أوضحت عظم الدماغ، وكشفت خريطة الدماغ، فإنها في هذه الحالة يقال لها: مأمومة، وأم الدماغ، هذه جناية، فإذا لامست الدماغ ووصلت إلى الدماغ يقولون لها: دامغة، والمصنف قال: المأمومة والدامغة.
وفي الحقيقة من العلماء من يذكر المأمومة ولا يذكر الدامغة؛ لأنهم يقولون: في الغالب إذا وصل إلى الدماغ يقتله؛ لأنها في مقتل.
وغالبا ما تحدث أضرارا توجب الديات مثل أن تخرسه -والعياذ بالله- فلا يتكلم، أو يصبح أصم لا يسمع، خاصة إذا جاءت على مواضع الحواس، فالشاهد عندنا أنه إذا ضربه على دماغه ضربة كشفت خريطة الدماغ، فحينئذ يجب عليه ثلث الدية، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لـ عمرو بن حزم (أن المأمومة فيها ثلث الدية) .
الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة يستوي فيها الذكر والأنثى، يعني: من حيث تقدير الجناية، أما من حيث ما يجب على الجاني فالأنثى على النصف من الذكر، تقدر على الأصل الذي قررناه: أن الأنثى يكون لها النصف، ومن أهل العلم من يرى: أن عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث، وهذا في حديث السنن: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها) .

حقيقة الجائفة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف] الجائفة تكون في غير الرأس والوجه، تكون جائفة في البطن، وجائفة في الصدر، وتكون الجائفة في ثغرة النحر، وتكون جائفة فيما بين السبيلين، وهذه الجائفة فيها ثلث الدية، فلو طعنه بسكين ودخلت السكين إلى جوفه فأبانت أحشاءه فهي جائفة، وهكذا لو ضربه من ظهره فأظهر عظمه فهي جائفة، ولو ضربه على صدره فأبان جوف الصدر فهي جائفة، ولو ضربه بين السبيلين فنفذ إلى مجرى البول ففيه وجهان عند العلماء رحمهم الله: من أهل العلم من قال: إنها جائفة كالضرب في جهة العجان سواء بالذكر أو الأنثى.
قوله: (وهي التي تصل إلى باطن الجوف) باطن الجوف من جهة البطن ومن جهة الصدر ومن جهة الظهر، وغالبا ما تكون بالآلات الحادة، وممكن أن تكون بغير آلة حادة.
حكم كسر الضلع وإحدى الترقوتين
قال رحمه الله: [وفي الضلع وكل واحدة من الترقوتين بعير] (وفي الضلع) لو كسر ضلعا من المجني عليه ففيه بعير، وهذا في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهي سنة راشدة عمرية لا مخالف له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا باتباع سنته- حين كتب إلى عامله رضي الله عنه وأرضاه: أن الضلع فيه جمل، فإذا كسر أحد أضلع شخص فإنه يجب عليه ضمان الكسر بجمل، لكن لو أنه كسر هذا العظم أو هذا الضلع ثم برئ مستقيما فلا إشكال، وإن برئ مشوها معوجا ففيه وجهان للعلماء: منهم من قال: يأخذ فقط المقدر ولا شيء زائد.
والصحيح أن فيه حكومة في الشين، والحكومة في هذا تتبع الشين، وتتبع الضرر، وتتبع الألم، فلو أنه كسر الضلع أو مثلا الترقوة فحصل شيء مثلا في الترقوة كأن ينعقد العظم، ويصبح موضع الإصابة مثل الكرة عند الالتحام، فهذا الشين يقدر بحكومة، ينظر إليها أهل الخبرة، وسيأتي معنا الحكومة، فنقدر كم تضرر وكم نسبة هذا الضرر فيعطى حقه في ذلك.
لو حصل أيضا ألم، حيث برئ ورجع العظم على صفته، ولكن يوجد ألم في الموضع إذا قام وإذا قعد، وإذا تنفس فينظر في هذا الألم، وقدر تضرره ويقدر له حقه.
حكم كسر الذراع والعضد والفخذ
قال رحمه الله: [وفي كسر الذراع -وهو الساعد والجامع لعظمي الزند والعضد- والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران] قوله: (وفي كسر الذراع) لو كسر عظم الذراع، وهو العظم الجامع ما بين الزند والعضد، والزندان: هما عند مفصل الكف مع الساعد، الزند الأعلى والأسفل، فهذان العظمان الناتئان هما زندا اليد، يلي الزندين الساعد إلى المرفق، والمرفق هو الذي يرتفق به الإنسان والذي أمر الله بغسله في الوضوء وهو حد غسل اليد في الوضوء، هذا كله يسمى: بالساعد، فكسره فيما ذكر رحمه الله فيه بعيران، أي: في الساعد وفي الزند، وإذا كان الزندان فمعنى ذلك: أن فيهما أربعة أبعرة، وهذا له أصل من كتاب عمر رضي الله عنه أيضا، فإنه كتب إلى عامله بذلك، ومن هنا عمل به جمهور العلماء رحمهم الله على أن فيه بعيرين.
قوله: (والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بغيران) يدل على أن المصنف يرجح مذهب من يقول بالحكومة في الشين والألم والضرر بعد البرء، يعني: إذا حصلت الجناية وانكسر العظم ننتظر إلى أن يشفى ويبرأ، فإذا شفي والتحم العظم، ننظر في هذا العظم الذي التحم، هل التحم مستقيما لا اعوجاج فيه ولا ألم معه، ولا شين؟ فحينئذ لا إشكال، حكمنا بهذا المقدر، وأما إذا جبر معوجا، أو جبر وفيه شين، أو فيه ألم قدر هذا الزائد بحقه وحكومته.
ومن نص المصنف رحمه الله على قوله: (إذا جبر ذلك مستقيما) ، وعظم الفخذ والساق ذكر فيه البعيرين كله من باب الإلحاق؛ لأن عمر رضي الله عنه لم ينص على عظم الفخذ والساق، ولكن هو في حكم عظم الساعد والزندين، والمنافع فيه كالمنافع في المفصل؛ لأنه من جنس المفاصل التي يرتفق بها.
بيان وحكم الجروح التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] ذكر المصنف رحمه الله الواجبات المقدرة في الاعتداء على الأنفس والأعضاء، وبينا فيما مضى ما ثبت من النصوص ودلت عليه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدرات وأحكام الجنايات، هناك جنايات لا تقدير فيها، وهي ما عدا ما ذكر مما له أصل مقدر، فلو أنه جرحه جرحا لا تقدير فيه، أو ضربه ضربة على مكان أورمت المكان، وحصل ضرر لا تقدير فيه في الشرع، فما الحكم؟ قال رحمه الله: (وما عدا ذلك) أي: من الشجاج والكسور والجراحات.
قوله: (ففيه حكومة) الحكومة: أن يقدر هذا المجني عليه وينزل منزلة العبد، فيقدر قبل الجناية ويقدر بعد الجناية، وينظر كم أنقصته الجناية من القيمة، وهذه النسبة تكون مقدرة من دية المجني عليه، وسميت بحكومة؛ لأنها راجعة إلى الحكام وهم القضاة، فلا يقدر هذا التقدير ولا يجتهد هذا الاجتهاد ولا يبين حكم هذه المسائل إلا الحكام والقضاة، ومن هنا وصفت بكونها حكومة، وبين رحمه الله أنه يرجع فيها إلى حكومة عدل، إذ يطالب القاضي من له خبرة ومعرفة بتقدير المجني عليه على الوجه الذي ذكرناه، ثم إذا ثبت ذلك القدر حكم به، وسيبين المصنف رحمه الله ذلك بالمثال.
الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به] قوله: (لا جناية به) مثل أن يقدر بمائة ألف قبل الجناية.
قال: [ثم يقوم وهي به قد برئت] قوله: (وهي به) أي: الجناية.
قوله: (قد برئت) أي: بعد البرء فينظر ماذا حدث في الجسم أو في العضو من النقص؟! فإذا قوم قبل الجناية بمائة، ثم قوم بعد الجناية بخمس وتسعين أو بسبع وتسعين ونصف، فحينئذ يكون نصف نصف العشر، يكون قد أنقصته نصف نصف عشره، فيقدر ذلك القدر الذي أنقصته من الدية؛ لأنه لا تقدير في تلك الجناية.

شروط صحة الحكومة في الأمور التي لا تقدير فيها
ويشترط في صحة الحكومة ما يلي: الشرط الأول: أن تكون الجناية لا تقدير فيها في الشرع، فهذا محل اتفاق على أن هذا الأمر -وهو الحكومة- يختص بالجنايات التي لا تقدير لها في الشرع، هذا أول شرط.
الشرط الثاني: أن يكون من ذوي الخبرة والنظر والمعرفة، يقال لهم: قدروه قبل الجناية وقدروه بعد الجناية، وانظروا نسبة النقص هذه التي تكون من هذا الشخص المجني عليه ذكرا كان أو أنثى، يعني: يستوي في ذلك أن يكون المجني عليه ذكرا أو أنثى.
قال رحمه الله: [فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية] سيذكر هذا بالمثال.
قال: [كأن كان قيمته عبدا سليما ستين وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس ديته] أي: إذا كانت القيمة تساوي الستين، يعني: يعادل ستين ألف ريال، ثم بعد الجناية أصبح بخمسين، فمعنى ذلك: أنها أنقصته عشرة، والعشرة تعادل السدس من القيمة، فحينئذ يجب على الجاني أن يدفع له سدس ديته، وهنا بالنسبة للحكومة يكون الرقيق أصلا والحر مبنيا عليه، والعكس بالنسبة للديات، يكون في المقدرات والأعضاء المقدرة يكون الحر أصلا والرقيق مبنيا عليه.
قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر] مثلا: لو كانت الجناية على أصبع من أصابعه، وهذه الجناية ليس لها تقدير، بمعنى: أنه ما قطع الأصبع كاملا، وفي بعض الأحيان يكون الرقيق ذا صنعة، وإذا قدر قبل الجناية على أنه بمائة ألف، ثم أنقصته الجناية الربع، مثلا: أصبح بخمسة وسبعين ألفا، فحينئذ أنقصته ربع القيمة، يعني: لو حصلت فيه هذه الجناية في أصبعه، وكان قبلها كاتبا، أي: عنده صنعة الكتابة، أو عنده صنعة غيرها ينتفع بها، فأنقصته -مثلا- الربع، في هذه الحالة الأصبع لا تعادل الربع؛ لأن الأصبع لو قطعت ففيها عشر الدية، فلا تبلغ الحكومة أو مقدر الحكومة لا يبلغ دية العضو الذي فيه الجناية، وهذا أصل شرعي، وبناء على ذلك ينقص من هذه الحكومة حتى تصل إلى أقل من عشر الدية؛ لأن الأصبع موجود ولا يعقل مساواتها بعدم الوجود، فلو قطعت الأصبع كاملة لكان فيها عشر الدية، فكيف نقول له: جناية الحكومة يقدر أكثر من المقدر شرعا والأصبع موجودة؟! فهذا يخالف شرع الله عز وجل.
ومن هنا اشترط العلماء رحمهم الله شرطا في الحكومة وهو الشرط الثالث: أن لا يبلغ التقدير أكثر من قيمة العضو الذي فيه الجناية.


ابوالوليد المسلم 22-10-2025 08:50 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
الاسئلة

إشكال في تعبير المؤلف بالبعير لا الإبل في الهاشمة

السؤال ذكر المصنف في حد الهاشمة عشرة أبعرة، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، والمعروف عن الأبعرة هي ذكران الإبل، أما الإبل فيشمل الذكر والأنثى، فهل في ذلك فرق، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، في الحقيقة هذا أمر ملاحظ، والأصل في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التعبير بالبعير، وإنما ورد التعبير بالإبل، قال: خمس من الإبل، وعلى هذا فقد يكون هناك تسامح من المؤلف، وأنه لا يعتبر المعنى الذي ذكرته، والله تعالى أعلم.
حكم طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج

السؤال لو طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج بدلا من الدية هل يعطى ذلك؟

الجواب نعم إذا أراد أن يخالف شرع الله، ويجتهد من عنده، ويعبث بالأحكام الشرعية، هذه أحكام شرعية ما فيها تلاعب، لا ينظر لا إلى أجرة الطبيب، ولا إلى تكاليف العلاج، هذا دين وشرع جاء بهذه الصفة، ينفذ هذا الوارد كما ورد، كونه يقول: أريد تكاليف العلاج أو قيمة العلاج ليس من حقه ذلك، وليس له غير هذا الذي حكم به الشرع، حتى ولو كانت تكاليف العلاج أكثر، العبرة بالمقدر شرعا قليلا كان أو كثيرا؛ لأنه لو فتح هذا الباب قد تكون تكاليف العلاج لا تساوي شيئا، ولذلك الشريعة لا تنظر إلى تفاوت الأزمنة، وهذا من سمو منهج الشريعة أنها أعطت أحكاما تقديرية، سبحان الله العظيم! الآن لو جئت تنظر تجد في غالب الأحوال أن هذا المقدر يعادل العلاج وزيادة، وهذا نعرفه من خلال أسئلة الناس، وعلى كل حال هذا غير وارد، وتكاليف العلاج ليست بواردة، إنما الوارد أنه يعطيه حقه الشرعي سواء كان قليلا أو كثيرا، وعليه أن يرضى بحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
الصحيح في تعريف الموضحة
السؤال تعددت النسخ في قول المصنف رحمه الله في تعريف الموضحة وهي ما توضح اللحم، وفي بعض النسخ ما توضح العظم، فأيهما أصح، أثابكم الله؟

الجواب الصحيح ما توضح العظم، وهذا استدركه الشراح رحمهم الله، وقالوا: إن هذا موجود في النسخ، ولكن الصحيح أنها توضح العظم، وهذا هو الذي ذكره أئمة اللغة، والاحتجاج في هذه التفسيرات مرده إلى أئمة اللغة؛ لأن القاشرة إيضاح اللحم، والقاشرة مع ذلك ليس فيها ما في الموضحة، الموضحة هي التي توضح العظم، وعبارات النسخ توضح اللحم خطأ، ونبه على ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم من فرط في قضاء الصوم حتى عجز عنه

السؤال تبلغ أمي من العمر خمسين سنة، كانت تفطر في شبابها من التعب، وبعد زواجها أفطرت في ولادة إخوة لي، وكانت تجهل قضاء ما عليها من الأيام، وهي الآن مريضة حيث عندها القلب والضغط وتجلط في الدم، أفيدونا في قضاء هذه الأيام أثابكم الله؟

الجواب أولا: لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، والصوم إذا وجب على المسلم فهو دين، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) حق الله أحق بالوفاء، وأحق بالقضاء، ولا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، سواء كانت كفارة في الصوم أو كفارة في الحج أو كفارة في العمرة، أو كفارة في سائر الأمور التي تجب فيها الكفارات فلا يتساهل في شيء منها، حتى قالوا: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يؤدى عنه) يقولون: إن الإنسان والعياذ بالله! قد يرهن عن كثير من الخير بسبب تعطيل حقوق الله عز وجل وحقوق الناس، ولذلك تجد المديون في بعض الأحيان لا يستطيع تحصيل أشياء من الخير كان يحصلها قبل دينه وقبل انشغال ذمته للناس، تجده قبل تحمل ديون الناس مستجما ومنشرحا ومنطلقا، ولكن ما أن يقع في الدين حتى يصبح كالمرهون، وهذا مصداق قوله: (نفس المؤمن مرهونة) والرهن الحبس.
ولذلك ينبغي للمسلم أن يبادر بسداد حقوق الله عز وجل، فإذا تساهل وفرط لم يأمن أن يأتيه المرض أو يأتيه البلاء أو يتقدم به السن ويعجز عن أداء حق الله، وحينئذ تكون الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر، فيخرج من الدنيا وقد فرط في حق الله، حتى أصابه الكبر فحيل بينه وبين الوفاء، وبين رد الحقوق والقيام بالواجبات، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم موفون بعهودهم مؤدون للحقوق التي عليهم، فعلى المسلم والمسلمة أن يتقي الله عز وجل كل واحد منهما في حق الله خاصة، وفي الحقوق عامة؛ لأن حق الله أحق، الله أحق أن يعبد وأحق أن يؤدى حقه، وهو الغني عن عباده في جميع ما أوجب عليهم سبحانه وتعالى.
ثانيا: إذا بلغت هذا المبلغ وأصبحت عاجزة عن الصوم فإنها تنتقل إلى الإطعام عن كل يوم، مع الندم والاستغفار والتوبة، والله تعالى أعلم.
جواز الرد على الخطيب عند خطئه في الآية
السؤال إذا أخطأ الإمام في الآية مثلا في خطبة الجمعة هل يرد عليه أم لا؟
الجواب الصحيح أنه إذا أخطأ في الآية فإنه يرد عليه ويفتح عليه؛ لأن كتاب الله عز وجل تجب صيانته عن الخطأ، وهذا جائز في الصلاة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه في آية، ثم لما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ما منعك أن تفتح علي آنفا؟) فدل على عظمة كتاب الله عز وجل، وعظيم حقه أنه يصان من الخطأ، ومن اللحن، ومن القصور الذي يكون من بني آدم، المبني على الجهل والإساءة كما قال تعالى: {إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] فلا ينبغي التساهل في كلام الله عز وجل، بل ينبغي الرد عليه وتنبيهه على الخطأ والفتح عليه، فإذا كان هذا في الصلاة فمن باب أولى في خطبة الجمعة، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الليل جماعة في غير رمضان
السؤال أسكن ومعي زميلي في بيت وأصلي صلاة الليل فهل يجوز أن نصلي جميعا ونوتر مع بعضنا، أثابكم الله؟
الجواب يجوز اتفاقا لا قصدا، فإذا قمت تصلي بالليل وجاء أخوك وصلى معك فلا بأس، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، لكن أن يكون بالترتيب والقصد كأن تقول له: إذا صارت الساعة الثانية أقوم وتقوم معي، أو إذا صارت الساعة الواحدة من الليل فلا؛ لأن الأصل أن القيام المرتب لا يكون إلا في التراويح، وقيام رمضان خاصة، وأما في بقية السنة فإنها عبادة خفية قصد منها الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل، ولا تكونوا جماعة إلا في الوارد، والله تعالى أعلم.
كيفية تشميت من عطس أكثر من ثلاث مرات
السؤال إذا عطس الإنسان مرات عديدة خارج الصلاة هل يشرع تشميته في كل مرة يحمد فيها الله، أثابكم الله؟
الجواب نعم يشرع إذا عطس وكرر العطاس ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عطس الرجل رد عليه، ثم عطس الثانية فرد عليه، ثم عطس الثالثة فقال: إنه مصاب) فمن أهل العلم من قال: لا يرد عليه؛ لأنه مريض، وإنما يدعى له بالشفاء، فانتقل من العطاس المألوف المأمور بتشميته إلى الدعاء له بالشفاء، ومن أهل العلم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه مريضا، فبقي الأصل على ما هو عليه وهو تشميت العاطس، ولم يسقط هذا الأصل صلوات الله وسلامه عليه فهذا وصف حال.
وعلى كل حال إذا شمته فهذا أفضل، فهو إذا قال: الحمد لله فعليك أن تشمته، أما إذا عطس وسكت فهذا منه، وبعض العلماء يقول: إنه إذا كانت الثالثة والرابعة وكان مريضا فلا يقول: الحمد لله؛ لأنه أصبح مريضا والأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، لكن كل هذه اجتهادات وآراء، هذا الأصل عطس رجل عند رجل فشمته، ثم عطس الثانية فشمته، ثم عطس الثالثة فقال: يرحمك الله مائة، فعطس الرابعة فقال: اللهم من عندك، يعني أصبحت المائة دين كلما عطس قال: اللهم من عندك، هو لو نظر اللهم من عندك، أخف من أن يقول له: يرحمك الله، نسأل الله السلامة والعافية من الحرمان! هذا دعاء بخير وفيه أجر لك ولمن تدعو له، فلا يبخل الإنسان بهذا.
كم هي سعادة للمسلم أن يلهج لسانه بذكر الله عز وجل؟! هذا اللسان الذي تجده يتحدث في أمور الدنيا فلا يكل ولا يتعب، ويجلس الرجل مع ضيفه وصاحبه وحبه، يسأله عن ثوبه ومأكله وملبسه ومخبزه وبيته وعن كل صغيرة وكبيرة ولا يكل ولا يمل، ولكن لما يريد أن يكرر يرحمك الله أربع مرات خمس مرات تجد السآمة والملل، وهذا حال الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- في تقصيره في حق الله عز وجل، ولكن للآخرة أهلها، فيا حبذا المسلم أن يكون متلذذا بذكر الله عز وجل حريصا على هذا الخير، يشمت العاطس، فكلما قال: الحمد لله تشمته، فهو من ذكر الله سبحانه وتعالى، قال بعض العلماء: إلا إذا كان هناك ما يشغل، مثل: أن يكون هناك ما هو أشرف كاشتغالك بقراءة القرآن، أو اشتغالك بعلم، أو اشتغالك بشيء أوجب وأوكد، حينئذ لا مانع أن تأخذ بالسنة، وهي أن يشمت ثلاث تشميتات، ثم بعد ذلك يكون الإنسان في العفو، والله تعالى أعلم.
نصيحة عامة لمن يتكرر منه الذنب بعد التوبة منه
السؤال عندي ذنب كلما تبت منه رجعت إليه، وأدعو الله أن يبعدني عنه، ولكن كلما أردت الاستقامة لم أثبت على ذلك بم تنصحني، أثابكم الله؟
الجواب إذا كان المستقيم هو السالم من الذنب فإنا لله وإنا إليه راجعون! يعني: إذا كان المستقيم هو الذي لا ذنب له البتة فحينئذ الله المستعان، من هو هذا الذي لا ذنب له، ولا خطأ عنده؟! إن الله تعالى يقول: {إن الله يحب التوابين} [البقرة:222] ووصفهم بأنهم توابون، والتواب فعال، أي: كثير التوبة وما كثرت التوبة إلا من كثرة الذنوب.
أخي في الله! لا يتسلط الشيطان على قلبك، ولا يحولن بينك وبين ربك، فالله جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو سبحانه الحليم الرحيم، هل رأيته دفع تائبا عن بابه؟ هل رأيته خيب تائبا في رجائه؟ هل رأيته قطع تائبا من محبته وإنابته إلى ربه؟ كلا والله بل إنه فرح بتوبته وشمله بعفوه وحلمه ومنه وكرمه ورحمته.
أخي في الله! تب إلى الله، واقهر عدوك إبليس بالإنابة إلى الله ولو (مليون) مرة تكرر التوبة، صادقا منيبا إلى ربك، ولا تبال إن قال لك: أنت منافق، أنت كذاب، أنت غشاش، تبت المرة الأولى، تبت المرة الثانية ثم ترجع، ثم تبت المرة الثالثة، إذا كان الشخص يقع في الذنب وبعد فعله للذنب يكره هذا الذنب ويمقته في جنب الله، ويعقد العزم في قرارة قلبه على كراهته وعدم الرجوع إليه، فإنه مبشر بخير وهو التوبة من الله، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} [الفرقان:71] .
والله سبحانه يقول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر:53] فقوله: (قل يا عبادي) لأنه علم سبحانه أنه لا رب لنا سواه، ولا أمل ولا رجاء لنا في أحد عداه، فأخي في الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، ولا تقولن: تبت مائة مرة، أو ألف مرة.
ثم هنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أن الشيطان عليه لعائن الله تترى إلى يوم الدين، قعد للإنسان بالرصد وأعظم شيء يحرص عليه الشيطان قطع العبد عن ربه، وبالأخص إذا كان خيرا صالحا، فإنه يأتيه بالذنب ويحول بينه وبين الله، فيقول له تارة: لو كنت من الصالحين ما أوقعك الله في الذنب، ولو كنت صالحا بحق ما أوقعك في الزلة، قاتله الله عدو الله! أنى يؤفك وأنى يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل إن الله يبتلي ويمتحن ويختبر إذا كان التائب موحدا لربه؛ لأنه إذا قال: رب اغفر لي فقد علم أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب.
وينادي الله في ملائكته: (يا ملائكتي! علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي) .
فإذا كان الإنسان في هذه الصورة من الفتنة جعله يعود إلى الذنب المرة تلو المرة، ثم يقول له: أنت لا تصلح أن تكون مع الأخيار، اترك الأخيار واترك الملتزمين، واترك الصالحين, ولا تجلس معهم، لا تدنس مجالسهم، يعني: وكأن إبليس ما شاء الله! غيور على الصالحين، ومحب للصالحين.
وضع السم في العسل؛ لأنه يعلم أنه متى ابتعد عن الصالحين تخطفته الشياطين، فأعرض عن سبيل رب العالمين، فكانت الهلكة والضلال المبين نسأل الله السلامة والعافية! فيأتيه من هذا الباب.
ثم هناك صنف ثالث: إذا أذنب الواحد منهم المرة والمرتين والثلاث والأربع يأتيه بنوع من الانشراح يخلي بينه وبين الطاعة؛ لأنه يعلم أن المعصية قد استحكمت في قلبه، وأن قرناء السوء حوله، فتراه يتركه اليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين في نوع من الانشراح، ويكف عدو الله عنه حتى يأمن ويطمئن ويقول له: افعل عهدا على أنك لا تعود، واجعل عليك المواثيق بينك وبين الله أنك ما تعود، فهذا المسكين من حبه لربه، وحبه للطاعة يأتي بالعهود المغلظة ثم لا يلبث في اليوم الثاني أن يتسلط عليه عدو الله، فينهزم وينكسر وعندها يريد أن يسلخه من دينه بالكلية والعياذ بالله! فيقول له: أنت فعلت هذا فإذا لا عودة ولا رجعة، وهذا كله من الأباطيل، ومن الإرجاف من عدو الله.
ولذلك على المؤمن أن يعلم أن ربه هو الحليم الرحيم الغفور الذي يفرح بتوبته، ويشمله بعفوه وحلمه ورحمته، والذي وسعت رحمته كل شيء سبحانه وتعالى.
أخي في الله! لو تبت (ملايين) المرات، فكل مرة تتوب فيها فاعلم أن الله يعوضك خيرا مما فقدت، وكل ذنب تقع فيه فقف بعد ذنبك منكسرا إلى ربك، وقل يا رب! أسأت وأخطأت، منك الخير ومني الشر، منك الإحسان ومني الإساءة، تب علي يا خير التوابين! تب علي وارحمني وأنت أرحم الراحمين! واسأل الله عز وجل أن يجبر كسرك في دينك، فكم من شخص يقع في الذنب فيقول صادقا من قلبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي هذه واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وخلف له خيرا منها، وصفع الشيطان على وجهه، واندحر عدو الله مغاظا مهانا ذليلا، هكذا يكون ولي الله المؤمن.
ثم قضية الرجوع إلى الذنب ففي بعض الأحيان -والعياذ بالله- قد يبتلى الإنسان بالذنب تلو الذنب، قد يكون سببها غيبة الصالحين، وقد يكون سببها أذية أولياء الله المتقين؛ لأن أعظم شر ينزل على الإنسان عداوته لله أو لرسوله أو للصالحين من عباده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في صحيح البخاري وغيره يقول الله تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، لما يشتكي الشخص من كثرة الرجوع إلى الذنب يقول له: تفقد نفسك، لابد وأنك عاديت وليا من أولياء الله.
مثال ذلك: أن الشخص يأتي ويحضر الجمعة ثم يخرج من الجمعة ويقول: والله الخطيب أطال الخطبة، والله عندنا إمام مسجد يطيل بنا.
فيغتاب عبدا صالحا، وهذا العبد الصالح في كل ليلة يناجي ربه ويقول: اجعل ثأرنا على من ظلمنا، فهذا الذي اغتابه ظلمه بغيبته فلا يأمن أن ينكب، ولذلك ينبغي الحذر من التعامل مع الصالحين والأخيار؛ لأن القرب منهم خير، لكنه سلاح ذو حدين لمن لم يحفظ حرمتهم، وكنا نجد أناسا يجلسون في مجالس العلم يكثرون الاعتراض، ويكثرون الأذية للعلماء ولإخوانهم من طلاب العلم، فما وجدناهم سلكوا سبيلا -نسأل الله السلامة والعافية- في الطاعة، وغالبا ما تأتي نهايتهم سيئة، وغالبا ما يحرمون، حتى إن الواحد منهم يأتي ويشتكي ويقول: قسا قلبي، كنت على حال طيبة ثم أصبحت في حال سيئة، يعني كان الإنسان على حال صالحة حينما كان يحفظ الحقوق والذمم.
كذلك أيضا مما يبتلى الإنسان به الوقوع في الفتن بسبب أذية أولياء الله، والله تعالى يقول في الذين سبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بهم وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يكثرون عند الطمع، ويقلون عند الفزع، وفي بعض الألفاظ يجبنون عند اللقاء، فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة:65] انظروا كيف جعل الاستهزاء بالقراء استهزاء بالله والرسول؛ لأنه جاء من جهة الدين.
فكل شخص ينتسب لهذا الدين من داعية وعالم وخطيب وإمام يجب أن تحذر في التعامل معه؛ لأنه ولي لله تعالى قائم بحقه، ولما تستهزئ به من خلال أدائه لرسالته وأمانته التي يحبها الله عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله} [فصلت:33] هذا الذي أثنى عليه ربه من فوق سبع سماوات، فقال الله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا} [التوبة:65 - 66] حتى لم يقبل منهم المعذرة وقال: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:66] لأن الأمر نشأ من الاستخفاف بالدين والاحتقار للصالحين، فقد يجلس الشخص يلمز جماعة وقد يلمز منهجا لإخوان عندهم بعض الأخطاء، ثم يأتي يتهكم بهم، ويسخر بهم، ويستهزئ بأمور قد تكون من أمور الطاعة في شأنهم، فهنا تأتي الفتنة والعياذ بالله.
قال تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة:66] فجعل - والعياذ بالله- هذا البلاء والفتنة بسبب التعرض لأولياء الله عز وجل، وكانوا يقولون: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله! وقل أن تأتيه حسن خاتمة، وقل أن يتولاه الله برحمته، وهذا معروف في بعض أهل البدع نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود من هذا الحذر حتى لا يقع في الفتنة، ولذلك تجد شخصا يتوب توبة صادقة، ومع ذلك يبتلى بالوقوع في الذنب مرة ثانية، بمعنى: أن هناك أمرا بينه وبين الله عز وجل، فليقل بصادق من قلبه: اللهم! إني أستغفرك من ذنب أوقعني في هذا البلاء، اللهم أدركني برحمتك، ونحو ذلك من الدعاء الصادق.
كذلك أيضا مما يوجب الوقوع في الفتن تلو الفتن، والمعاصي تلو المعاصي، عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ولذلك قال الله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية! فالعقوبة التي جلت بهم الصمم وعمى البصيرة مع اللعنة، وكل هذا جاء بسبب قطيعة الرحم، فما بالكم بعقوق الوالدين! وهو أعظم من قطيعة الرحم! الرجل يستهزئ بأمه فيكون عاقا، ويستهزئ بأبيه فيكون عاقا، ويرفع صوته في وجه أبيه كاشحا له في وجهه فيكون عاقا، ولربما والعياذ بالله يلمز أباه في وجهه فيكون عاقا، وتبقى جرحا في قلب الأب إلى أن يموت، فيكون عاقا والعياذ بالله! كلما تذكر الأب آلامها وأحزانها تجدد البلاء على من قالها.
إذا على الإنسان أن يحذر في التعامل مع الناس: إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمو
بيان فضيلة الجماعة الأولى والفرق بينها وبين الثانية
السؤال بعض الناس يتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد ويقيمون جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى فهل يكون أجر هذه الجماعة مساويا لأجر الجماعة الأولى، أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل: الجماعة الأولى من حيث الأصل أفضل، وقد حصلت فضيلة أول الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها وما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها) الثواني بين الجماعة والجماعة خير من الدنيا وما فيها، يصلي أهل المسجد الأول في الوقت ويصلي أهل المسجد الثاني بعده ويكون الفرق بينهما يسيرا وبينهما كما بين السماء والأرض، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) يعني: على أول وقتها، فهذا أفضل الأعمال وأحب إلى الله، فالجماعة الأولى أفضل وأعظم وأزكى أجرا عند الله عز وجل.
ومن هنا كان من الخطأ قول أهل الرأي -وبعض المتأخرين اختار هذا القول-: إن الشخص إذا أتى والجماعة في التشهد فيظل واقفا حتى تأتي جماعة ثانية، نقول: أولا: دخولك مع الجماعة الأولى إدراك لفضيلة أول الوقت، وحينئذ تدرك فضيلتها، ثم بعد ذلك إذا كان بجوارك شخص فتتمان جماعة، وتحصلان على الفضيلة وإن لم تحصلا على الحكم، فهذا أمر يغفل عنه الكثير، ومن هنا ينبغي الحرص على الجماعة الأولى.
ثانيا: الجماعة الثانية تكون أقل من جهة العدد، فإن الجماعة الأولى في الغالب هي أكثر عددا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذه الفضيلة الثانية: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى) فالجماعة الأولى أزكى من هذا الوجه ومن حيث إدراك فضيلة أول الوقت.
كذلك أيضا ينبغي أن ننبه على أمر وهو: قدم الإنسان في الطاعة، فإن إمام المسجد في محافظته على الإمامة أكثر خيرا ممن هو دونه، والصلاة وراء الإمام الراتب المداوم على إمامة الناس والصلاة بهم ومعونتهم على الخير، أفضل من الصلاة وراء شخص لا يلي الإمام إلا في الأحوال الطارئة، وهذا هو الراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان فاعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان كحجة معي) فجعل للفضل مزية في الطاعة، ومن هنا قالوا بأفضلية القدم، وكانوا يفضلون في الأئمة من يكون الأخشع، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقدمهم سلما) يعني: أقدمهم إسلاما، فهذه كلها من الفضائل، فالإمام الراتب هذا أكثر فضلا وأكثر طاعة وأحض، خاصة إذا كان لا ينسى المأمومين، ويأخذ بالسنة في دعائه له ولمن وراءه، فإن بعض الأئمة يكون حريصا على الدعاء بالخير للمأمومين، فيسأل الله لهم الطاعة والخير والبر، ويكون فيهم حفظة لكتاب الله عز وجل، قائمون بحقوق الله، داعون إلى الله، فالصلاة وراء هؤلاء المتمسكين بالسنة، المتمسكين بطاعة الله عز وجل، لا شك أنها أفضل وأعظم وأقرب وأحظى منزلة، والله تعالى أعلم.
حكم رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه والجسم بعده
السؤال ما حكم رفع اليدين في التأمين، وكذا مسح الجسم بعد الفراغ من التأمين أثابكم الله؟
الجواب السؤال عام: من حيث الأصل المؤمن داع، قال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} [يونس:89] وكان هارون مؤمنا ولم يكن داعيا، ومن هنا نص العلماء على أن المؤمن داع؛ لأنه يقول: آمين.
ومعنى: آمين، اللهم! استجب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه رفع كفيه في الدعاء، وجاء عنه في ذلك أكثر من خمسين حديثا، ما بين صحيح وحسن وضعيف، مما يقبل بعضه الانجبار، فهذه السنة محفوظة ما فيها إشكال، حتى في الصحيحين عليه الصلاة والسلام أنه ذكر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء) يقول العلماء: إن هذا الحديث فيه ثلاث خصال من أسباب إجابة الدعاء، أولا: أشعث أغبر، وقد قال في الحديث الآخر: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) لأن الدنيا ولت عنه، فدفعه أهل الدنيا وأهانوه، ولكن الله لم يدفعه ولم يهنه، بل فتح له أبواب رحمته، فلم يجمع له بين هم آخرته ودنياه، بل عوضه عن دنياه بأحسن الثواب وأتمه وأكمله، فلو أقسم على الله لأبره واستجاب دعاءه.
ثانيا: قوله عليه الصلاة والسلام: (يطيل السفر) فالمسافر مستجاب الدعاء، وإذا كان سفره أبعد فإن الاستجابة أحرى، كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله ونقله عن الأئمة.
ثالثا: يمد يديه إلى السماء، وقد قال في الحديث الذي حسنه غير واحد من العلماء: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أنه رفع كفيه ودعا، إلا في بعض العبادات التوقيفية مثل: الصلاة، فلا يرفع فيها الكف إلا في المواضع التي شرع فيها رفع الكف، مثل: القنوت.
وذكر الحافظ ابن الملقن وحسن إسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رفع يديه لما قنت عليه الصلاة والسلام) ، ونص الأئمة على أنه يشرع للمأمومين أن يرفعوا أيديهم تأمينا لدعاء الإمام في القنوت، فهذا الرفع ما فيه بأس.
وأما مسح الجسد والوجه فهناك تفصيل: مسح الوجه فيه حديث عمر، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: أن له طرقا يقوي بعضها بعضا، مما يشهد أن للحديث أصلا، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) وهذا الحديث أصل في مشروعية مسح الوجه، وذكر الإمام الصنعاني رحمه الله في السبل وغيره: أن هذا من باب الفأل، كأنه من ثقته بالله وكمال توحيده وصدق ظنه في الله أصابته الرحمة، وأخذ حاجته من ربه، فكان أفضل وأشرف شيء ما عفره بالسجود لله وهو أن يمسح وجهه، هذا إذا صح الحديث، ومن العلماء والأئمة من ذكر: أن المسح للوجه يشرع في الدعاء، فلا ينكر على من فعله، لأن له أصلا وإن توقف الإنسان متحريا للسنة فلا بأس.
وأما بالنسبة لمسح الجسم كله فلا؛ لأنه لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسحه، وإذا كان في مسح الوجه إشكال فكيف بمسح الجسم كله؟! ولذلك إن كان ولابد ماسحا فإنه يقتصر على مسح الوجه، والله تعالى أعلم.
المرأة المسلمة والدعوة إلى الله
السؤال ما هو واجب المرأة المسلمة تجاه أخواتها من الأقارب والجيران في الدعوة إلى الله؟ وما هي الوسائل المعينة على ذلك؟ وهل المرأة مأجورة على دعوتها لأهلها وأقاربها، حتى وإن رفضوا وأعرضوا، أثابكم الله؟
الجواب في الحقيقة الكلام على دعوة المرأة أمر يحتاج إلى تفصيل، ويحتاج إلى تأصيل، ويحتاج إلى شرح وبيان؛ لأنه كلما عظم الشيء وجلت مرتبته ومنزلته عند الله عز وجل، كان أحق أن يوفى حقه، ولكن هناك أمور: فالمرأة الصالحة إذا أراد الله بها خيرا حبب الدين إليها، فشرح صدرها، وطمأن قلبها بذكر الله عز وجل، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها، وأن يعلي منزلتها، ألهمها طلب العلم، وألهمها أن تتبصر في أمور دينها، فتحب العلم، وتحب سماع العلم ومذاكرة العلم، فتتفقه في أمور دينها، وتعرف حلال ربها وحرامه، وشرعه ونظامه.
وتعلم كذلك ما يجب عليها فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى، من تصحيح عقيدتها، وسلامة إيمانها والتعرف على حقوق ربها، من الإخلاص وابتغاء ما عنده سبحانه وتعالى، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها أكثر هيأها إلى العمل بهذا العلم الذي تعلمته، فتجد المرأة الصالحة تبحث عن الخير، فإذا وجدته تعلمته وعلمته، ثم إذا تعلمت ذلك العلم حرصت على التطبيق والعمل، فإذا أراد الله أن يزيدها علوا في الدرجة وعظما في الأجر، شرح صدرها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحت آمرة بأمر الله، ناهية عما نهى الله عنه، تقول بقول الله، وتنهى بنهي الله، وعندها تنال الحكمة التي لا يعطاها ولا يؤتاها إلا من أراد الله له الخير الكثير: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة:269] وكثيرا من الله ليست بالهينة.
والحكمة المراد بها هنا علم القرآن والسنة؛ لأن الله أحكم بهما الأمور، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود:1] فالدين المستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محكم في ذاته، أحكمت آياته وأحكمت شريعته، فهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، وهو محكم في بيانه، ومحكم في تفصيله، {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] .
فتؤتى المرأة الحكمة، والنساء هن شقائق الرجال، فإذا أصبحت المسلمة حريصة بدأت أول ما تبدأ بفلذات كبدها، وأهل بيتها، فأمرت بطاعة ربها، بين بناتها وأبنائها، وكانت خير قدوة لهم، فكم من أبناء نشئوا على الخير والطاعة والبر حينما تربوا في أحضان أم صالحة، وكم من بنات نشأن على الخير والبر حينما كانت تتلقفهن الأيدي الأمينة، من تلك الأم التي تخاف الله عز وجل في أمانتها ورسالتها، فتبدأ بأولادها والذكور والإناث، فإذا أراد الله عز وجل أن يعلي لها الدرجة جعلها داعية في قرابتها.
فلا تجلس مجلسا إلا كانت مباركة على ذلك المجلس، كما قال الله عن نبيه يحيى عليه السلام: {وجعلني مباركا أين ما كنت ?وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم:31] فحملة العلم ودعاة العلم مباركون أينما كانوا، ما داموا يعلمون العلم وينشرون العلم، ويقولون بالحق وبه يعدلون، فالمرأة الصالحة إذا قالت بالخير ودعت إلى الخير كانت مباركة.
أما واجبها تجاه مجتمعها فإنها تأمر بما أمر الله عز وجل به، وتنهى عما نهى عنه بالموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والنصيحة الهادفة، وتأخذ بمجامع قلوب بنات المسلمين، وتحرص على أن تحببهن في الخير، وتؤلفهن في الخير، ما تكون فظة، ولا تكون غليظة، ولا تكون منفرة، وإنما تكون ميسرة لا معسرة، مبشرة لا منفرة، إذا جاءت المجلس وتكلمت كان كلامها كالغيث لتلك القلوب العطشى الظمأى التي تنتظر ماء الوحي أن يحيي مواتها بإذن الله عز وجل، فتتكلم ذلك الكلام الهادف، الكلام المختصر المفيد الجيد، وعلى كل امرأة أرادت أن تسير في هذا المسير أن تكون على بصيرة.
فالذي ينبغي أن يحذر منه الرجال والنساء في مسألة الدعوة: الحذر من فتنة الدعوة، فإن للدعوة فتنة، قل أن ينتبه لها من يتحمل مسئوليتها، وهي فتنة الغرور بالنفس، فالمرأة والرجل والداعي والداعية، يبدأ الواحد منهم في الوعظ والرقائق، ثم يفتي في المسألة الواضحة، ثم لا يلبث أن يجر إلى الفتاوى الكبرى، التي لو عرضت على أئمة السلف لجثا الواحد منهم على قدميه خوفا من الله عز وجل، ومع ذلك تجده من أجرأ الناس فيها، وهذا هو سبيل الردى؛ لأن الشيطان إذا يئس من الشر أخذ -والعياذ بالله- المفتون من جهة الخير، فعلى المرأة الحذر من هذه الفتاوى العجيبة التي يطلقها بعض النساء في الدعوة.
والعجب والأعجب من هذه الفتنة أن بعض النساء يغرر بهن، يقال لهن: من قال لكن: إن الدعوة خاصة بالرجال، ومن قال لكن: إنه لابد أن نحضر عند الرجال وعند المشايخ، ينبغي أن يكون عندنا مشايخ أيضا من النساء، ونحن شقائق الرجال، والمرأة مثل الرجل، وغيرها من الدعوات والنعرات التي تخالف شرع الله عز وجل، من الغلو في أمر المرأة.
أقول: لا حرج أن يكون هناك داعيات من النساء، لكن أن تغتر هؤلاء الداعيات، وتصبح الواحدة منهن متصدرة لكي تفتي في الحلال والحرام، يقولون: ما وجدنا شيخا إذا هذه هي التي تفتي، وهي التي تعلم، وهي التي تجتهد، وهي التي تقعد وتؤصل، هذا هو الغلو الذي ينبغي الحذر منه.
وما هو موجود في النساء موجود في الرجال أيضا، ولذلك تجد أناسا يتصدرون للدعوة بالوعظ، وما عرفوا إلا بالخطابة وترقيق القلوب، وفجأة أصبحوا يتكلمون في الأحكام، وفجأة أصبحوا يفتون، وفجأة أصبحت لهم أقوال، حتى إذا نزلت النازلة بحث عن رأيهم في المسألة، الله الله! رحم الله امرأ عرف قدر نفسه! ورد الأمر إلى أهله، وأنزل نفسه منزلتها اللائقة بها، فإذا كان واعظا وقف عند وعظه، وزم نفسه بزمام التقوى، وجلس في مجالس العلم يتعلم ويضبط العلم حتى يصل إلى الدرجة التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، ولا يغشن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
من الغش أن يأتي الإنسان ويتصدر وليس عنده علم، ولم يأذن له العلماء بالفتوى، ولم يأذن له العلماء ببيان الأحكام، وهل تشتت الأمة وتفرقت إلا حينما لمع أقوام لا حظ لهم في العلم، فأصبحوا يفتون، وأصبحوا يقعدون ويؤصلون، حتى شوشوا على أئمة العلم والهدى، فأصبح منار الحق ملبسا عليه بفتاوى عجيبة غريبة قل أن تجد الناس تصل إلى عالم يوثق بدينه وعلمه من كثرة من يفتي، فتجد الفتوى على لسان كل أحد، والأعجب من هذا أنك تجد مثل هذا في الرجال والنساء على حد سواء، فالمرأة تقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، والرجل يقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، متى كان الرأي حكما في دين الله وشرعه؟ متى كان الرأي يفتى به في الحلال والحرام؟ والله عز وجل يقول: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23] فالذي يريد الهدى من ربه، فليتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمرأة الداعية تزم نفسها بزمام التقوى، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه قالت: الله أعلم، أو قامت بسؤال العلماء ونقل المسألة إلى العلماء، لكي يفتوها ويعلموها ويرشدوها ويدلوها، كي تدل أخواتها على الخير، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله علمه، ومن اتقى الله فهمه، ومن اتقى الله جعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وجعل له نورا يمشي به، وصراطا يهتدي به إلى لقاء ربه، حتى يلقى الله غير مبدل ولا مفتون ولا مفتون به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا لهذه النعمة الكريمة، وفي الختام تعلمون ما أصاب إخوانكم في فلسطين وهم أشد ما يكونون حاجة إليكم بعد الله عز وجل، وللمسلم على أخيه المسلم حقوق ينبغي عليه أن يحفظها ولا يضيعها، والمسلم إذا أصابته النكبة فينبغي على أخيه المسلم أن يقف معه، وأن يناصره ويؤازره بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وأقل ما يكون -وليس بالقليل- كثرة الدعاء لهم، والابتهال لله سبحانه وتعالى، فكم من كف صادقة من قلب صادق كبت الله بها عدوه! وكم من كف صادقة من رجل مؤمن صادق مع الله عز وجل رفع الله دعوته! وأعلى بها منزلته! فكونوا صادقين في الدعاء لإخوانكم، وتذكروا ما يعانونه من الظلم ومن الاضطهاد، ومن الأذية والبلاء مما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، فاجتهدوا في الدعاء لهم ومناصرتهم ومؤازرتهم بالماديات والمعنويات على قدر الاستطاعة، وتذكير المسلمين بذلك.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا في فلسطين، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! أصلح أحوالهم، اللهم! نور قلوبهم، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! اجمع شملهم، اللهم! وحد صفوفهم، اللهم! سدد آراءهم، اللهم! صوب آراءهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم! عليك باليهود فإنهم طغوا وضلوا، وأشركوا وأفسدوا وأرجفوا، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يسمع الدعاء ويكشف البلاء فاطر الأرض والسماء، اللهم! إنا نستغيث بك لا إله إلا أنت لإخواننا، اللهم! عليك باليهود ومن شايعهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! فرق جمعهم، أنزل بهم لعنتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجسك ولعنتك إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اجعل أمرهم إلى سفال، وعاقبتهم إلى خزي ووبال، يا ذا العزة والجلال! يا كبير يا متعال! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت نسألك بعزتك وق




ابوالوليد المسلم 23-10-2025 03:53 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (510)

صـــــ(1) إلى صــ(35)



شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [1]
إن من رحمة الله بعباده أن فرض على العاقلة التي هي عصبة الإنسان وقرابته أن تتحمل الدية عنه في قتل الخطأ، ولقد كانت العاقلة موجودة في الجاهلية، وأقرها الإسلام؛ لما فيها من الألفة والتكاتف والترابط والمحبة بين الأقرباء بعضهم بعضا.
وللعاقلة ثلاث جهات: جهة النسب، وجهة الولاء، وجهة الحلف.
وللعاقلة أحكام كثيرة منها: الاكتفاء بالأقربين حال الغنى واليسار، وعدم وجوب العقل على غير المكلف ولا الرقيق ولا المرأة، ولا مع اختلاف الملة وغير ذلك من الأحكام.
حقيقة العاقلة وما يجب عليها وجهاتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
فقال رحمه الله تعالى: [باب العاقلة وما تحمله] العاقلة من العقل، والعقل في لغة العرب: الحبس والمنع، يقال: عقل البعير إذا ربطه ومنعه من السير، وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه، بمعنى: يمنعه عما لا يليق من سفاسف الأمور، والمراد بالعاقلة هنا في اللغة والاصطلاح شيء واحد: وهو العصبة، والعصبة سميت عصبة من العصابة، والمراد بهم قرابة الإنسان المتعصبون بأنفسهم، كإخوانه وبني إخوانه من جهة الأشقاء أو لأب، وكذلك أيضا بنو العمومة كأعمامه وبني أعمامه وبني بني أعمامه وإن نزلوا من جهة الأب والأشقاء، هؤلاء كلهم قرابة الإنسان، يوصفون بكونهم عصبة كما تقدم معنا في العبادات والمعاملات أكثر من مرة، وصفوا بذلك لأنهم كالعصابة تحيط بالرأس وهم يحيطون بالقريب، فإذا نزلت به نازلة أو ألمت به مصيبة -لا قدر الله- فهم الذين يتعصبون له ويحيطون به، هؤلاء يوصفون بكونهم عاقلة؛ لأنهم يعقلون قريبهم، بمعنى: يحيطون به فيمنعونه من الأعداء إذا أرادوه بسوء؛ ولأنهم إذا وجدت الدية أخذوا الإبل فعقلوها عند باب المجني عليه؛ لأنهم هم القرابة الذين يذهبون؛ ولأنهم يعقلون بمعنى: يتحملون الدية، يقال: عقلت الدية أي: تحملتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا عاقله) يعني: دافع ديته، فهذه كلها أوجه في سبب تسميه العاقلة بهذا الاسم.
المراد بالعاقلة: تشريع إسلامي كان موجودا في الجاهلية، حيث كانوا في الجاهلية تتحمل قرابة الإنسان الدية وتدفعها عن قريبهم، وأقر الإسلام هذا العمل الذي كان موجودا في الجاهلية، وهذبه وقومه، وجاءت شروط شرعية أحق الله بها الحق وأبطل بها الباطل، وبناء على ذلك لو أن شخصا أخطأ فقتل شخصا خطأ ووجبت عليه الدية، فقرابته وعصبته يدفعون هذه الدية ويتحملونها عنه، وهكذا لو أنه صدم شخصا بسيارته خطأ فوجبت عليه نصف الدية، فقرابته هؤلاء من العصبة يدفعون نصف الدية، فهم يتحملون عنه هذه الحمالة، وهذا قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قضى بالدية على عاقلة المرأة من هذيل، وذلك حينما اختصمت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فقضى عليه الصلاة والسلام بديتها على عاقلتها.


الجهة الأولى: جهة الحلف

في قصة قتيل هذيل الذي قتلته خزاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تحمله من باب الحلف؛ لأنه بين أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخزاعة حلفا في الجاهلية، وخزاعة أحلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، ولذلك كما تعلمون في صلح الحديبية أن من أسباب نقض هذا الصلح من قريش إغارة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة، حتى قال قائل خزاعة: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فناشده بالحلف الذي كان موجودا واستمر وبقي بعد الإسلام، ويدل هذا على مشروعية العاقلة بالأحلاف بين القبائل، فإذا وقع الحلف بين القبيلة والقبيلة على المناصرة والمؤازرة والتحمل، فإن هذا له أصل في الإسلام، ومحمول على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أبقى حلف آبائه وأجداده مع خزاعة، مع أنه حلف مع القبيلة، فإذا وقعت المناصرة بين قبيلة وقبيلة وبينهم حلف، فإن هذا الحلف تجب به المناصرة، وتتحمل به القبيلة عن القبيلة الأخرى إذا حصلت دماء، وحصلت ديات كثيرة لم تستطع القبيلة الأولى أن تتحملها، فإنها تنتقل إلى القبيلة الثانية بالحلف.
والعاقلة في الأصل كما سيبين المصنف رحمه الله: من جهة النسب ومن جهة الولاء، ويلتحق بذلك حلف القبائل -كما ذكرنا- لثبوت السنة به، وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء:33] على أن المراد به التعاقد باليمين، والحلف على النصرة بين القبائل بعضها مع بعض، وأما إذا انتقل شخص من قبيلته إلى قبيلة أخرى؛ بسبب دم أو فرار من حق فهذا لا حلف فيه على قول طائفة من العلماء، ولا يحصل به العقل، كما قرره غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وبينوا: أن المراد به الأحلاف الظاهرة، والحلف إذا كان على الوجه الذي ذكرناه، وكان على أمور شرعية لا جاهلية فيها فإنه مشروع؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت) وهذا الحلف: هو حلف الفضول، وحلف الفضول وقع في دار عبد الله بن جدعان في أنهم يناصرون المظلوم، ويعينون المحروم، وأنهم يعينون الحاج والمنقطع، ونحو ذلك من الأمور التي لا تخالف شرع الله عز وجل.
قوله: (باب العاقلة وما تحمله) هذا الباب في الحقيقة هو من عدل الله عز وجل، وهو باب عظيم، عدلت فيه الشريعة بين الناس، وجعلت العقل على قرابة الإنسان؛ لأن الذي يرث الإنسان هم قرابته، فكما أنهم يأخذون الإرث ويغنمون، كذلك يتحملون الخسارة، ومن يعترض على الإسلام أنه أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين أخطأ في فهم الإسلام؛ لأن الإسلام في الأصل جعل الذكر يتحمل ويعقل ويغرم، وفي النفقة يتحمل النفقة والأنثى لا تتحمل هذه التبعات، ولذلك في نظام العاقلة في الإسلام لا تتحمل الأنثى، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ لأن العقل للقرابة بالنسبة للعصبة المتعصبين بأنفسهم، وهذا من أقوى الأمور التي تدمغ بها هذه الشبهات.
والإسلام ربط بين الغنم والغرم، والقاعدة تقول: إن الغرم بالغنم والغنم بالغرم، وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن: (الخراج بالضمان) .
فالمصنف في هذا الموضع سيذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقل الديات.

الجهة الثانية: جهة العصبة من النسب

قال رحمه الله: [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب] قوله: (عاقلة الإنسان عصبته كلهم) أي: أن عاقلة الإنسان إذا جنى جناية هم عصبته، لو أنه قاد سيارة ودهس شخصا، أو كان معه في السيارة أربعة أشخاص وماتوا، وكان متسببا في موتهم، فعليه أربع ديات، من الذين يتحملون هذه الديات؟ هم العاقلة، وهم عصبته كلهم، العصبة هي الأقرب فالأقرب.
وعصبة الإنسان هم عمود النسب: أولا: آباؤه وإن علوا، أبيه وأبو أبوه الذي هو جده من جهة الذكور متمحضا بالذكور دون الإناث.
ثانيا: أولاده الذكور وفروعه من الذكور: أبناؤه وأبناء أبنائه وإن نزلوا، فالإناث لا يدخلون في هذا التعصيب.
ثالثا: فروع أبيه كإخوانه الأشقاء، ومن شاركه في والده وهم الأخوة لأب دون الأم، فالأخ لأم ليس من العصبة ولا يتحمل.
ثم رابعا: ننظر إلى من شاركه في جده الذين هو أصل أبيه، وهم أعمامه الأشقاء، وأعمامه لأب، وأبناؤهم.
خامسا: ننظر من شارك أبا الجد، ثم من شارك جد الجد، ننظر في هؤلاء الأقرباء، إن كان عندهم قدرة وعندهم مال، واستطاعوا أن يدفعوا خمسين ألفا التي هي نصف الدية، أو مائة ألف فلا إشكال، حينئذ نكتفي بالأقرباء، الأقرب فالأقرب، فإذا كانوا فقراء وضعفاء وفيهم من لا يتحمل، وظروفهم لا تساعد ننتقل إلى الأبعد فالأبعد، حتى نصل إلى جميع العشيرة، يعني: ينظر إلى الأقرب، ثم إلى العشيرة، ثم إلى القبيلة بكاملها فيتقسم عليها، فلو كانت القبيلة قليلة العدد، قليلة المال، ولا تستطيع، ولها حلف مع قبيلة أخرى، انتقلت العصبة إلى القبيلة الأخرى كما ذكرنا في العقل بالأحلاف.
هذا بالنسبة لجهة النسب والقرابة، وقد بينا تعريف النسب والقرابة وقلنا: ما سمي بذلك إلا لأن الإنسان ينسب، بمعنى: يضاف؛ لأن النسب أصله الإضافة، وسمي القريب بهذا الاسم؛ لأنه يضاف إلى قريبه.

الجهة الثالثة: جهة الولاء

قال رحمه الله: [والولاء] الولاء: نعمة المعتق على العتيق، وهناك مولى أعلى ومولى أسفل: المولى الأعلى: هو نفس المعتق، والمولى الأسفل العتيق، فإذا أعتق المولى صار بينه وبينه ولاء، ونحن بينا أن الرق ليس مختصا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، وإنما هو راجع إلى الكفر، فإذا ضرب الرق بهذا السبب وأعتق شخص مولى له صار هذا العتق موجبا للولاء، حتى ولو أعتقه في كفارة واجبة، فإذا ثبت الولاء، ففائدته: أن هذا الرقيق لو توفي يرثه موالاه عند انعدام الورثة، مثلا: لو فرضنا أنه أخذ عبدا من الروم، ثم أسلم هذا العبد وأعتقه سيده في كفارة أو أعتقه نافلة، فلما أعتقه قام هذا المعتق وباع واشترى فأصبح ذا مال كثير، فلما توفي نظرنا إلى قرابته لم نجد له قريبا يرثه، وليس عنده أولاد ولا إخوان ولا قرابة ولا زوجة، أو عنده زوجة وفاض المال، من الذي يرثه إذا انقطع من جهة النسب؟ الميراث ينتقل إلى الولاء، فالولاء سبب من أسباب الميراث، كما أن السيد يأخذ الولاء في حال الغنيمة، يتحمل أيضا مع المولى الأسفل في حال الجناية، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيح، وقال: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته) ، فجعل هذه وصلة بين المعتق والمعتق، وفي هذه الحالة يتحمل بالولاء كما ذكرنا.
الاكتفاء بالأقربين في الدية حال الغنى واليسار
قال رحمه الله: [قريبهم وبعيدهم] قوله: (قريبهم وبعيدهم) نبدأ بالأقربين، إذا اكتفوا بهم، خاصة إذا كان فيهم غنى ويسار وتحملوا الدية، وقالوا: نحن نتحمل، فمثلا: لو أن شخصا لزمته دية في قتل الخطأ، وكان له، ثلاثة أعمام أشقاء، أو ثلاثة أعمام أشقاء ولأب، وهم أغنياء أثرياء فقسموا هذه الدية بينهم، وقالوا: نتحملها، سقطت عن الأبعد، ولزمت هؤلاء، لكن لو لم نكتف بالأعمام، فحينئذ ننتقل إلى بني الأعمام وبني بني الأعمام، وإذا كان الأعمام في درجة الجد، فإنه ينتقل إلى أعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد الجد وبنيهم، يعني: لو كان لهم نسل وذرية، فهؤلاء كلهم قريبهم وبعيدهم يستوون في فرض العقل.
وهذا من نعم الله عز وجل على المسلمين، وما كانت تعجزهم هذه الحقوق، ثم انظر رحمك الله! إذا أعان القريب قريبه في حال الخطأ كيف تجتمع القلوب! وكيف تتآلف وتتكاتف وتتعاطف! ويحصل بينها المحبة والتواصل! وهذا مقصود الإسلام: أنه يحرص على ربط الناس بعضهم ببعض، فكيف إذا كانوا أقرباء؟! فلو أن إنسانا مثلا: يقود سيارته ومعه أشخاص وحصل له حادث وتوفي هؤلاء الأشخاص، ثم جاء أقرباؤه وتحملوا الديات، كيف يكون أثرها في نفس هذا الشخص؟ وكيف يحب جماعته وقرابته ويتصل بهم؟ إذا الإسلام يقوي هذه الوشائج، ويقوي هذه الصلات، ويذكر القريب بحق قريبه عليه، ولا شك أن في هذا خيرا كثيرا، مع أن فيه تحملا للمسئولية وتحملا للضرر؛ لكنه يحدث شيئا من المحبة والترابط بين أفراد المجتمع، ناهيك عن القرابة الذين هم أولى وأحق من يكون بينهم ذلك.
وجوب الدية على الحاضر والغائب من الأقرباء
قال رحمه الله: [حاضرهم وغائبهم] (حاضرهم وغائبهم) الأقرباء فيهم الذي يكون في نفس المدينة، وفيهم الذي يكون في مدينة أخرى، وفيهم الذي يكون في الحضر، وفيهم الذي يكون في البادية، فبعض العلماء يرى: أنه إذا كان الغائب غائبا بعيدا فإنه ينظر إلى الأقرباء الحاضرين ولا ينظر إلى الأقرباء البعيدين، وتفرض الدية مقسمة على الأقرباء الحاضرين.
ومن أهل العلم من قال: إن الأقارب لو كانوا في بلد بعيد، فعلى قاضي البلد الذي فيه الجناية أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه البعيد ويلزمه، والحقيقة من حيث الأصل هذا أقوى؛ لأن العبرة بوجود الموجب للتحمل والمسئولية، وهذا موجود من جهة القرابة، فيستوي قريبهم وبعيدهم، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.

حكم دخول الجاني في تحمل الدية
اختلف العلماء رحمهم الله في أخذ الدية من القاتل نفسه، لو أن شخصا قاد سيارة، وحدث له حادث وتحمل فيه ثلاث ديات، هل الدية يدفع هو فيها أم أنها تكون على العاقلة فقط؟ وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: العاقلة هي التي تحمل والقاتل لا يتحمل شيئا، وهذا له نظائر في الشريعة، ويقولون: إن العاقلة ترثه، وتأخذ الميراث من تعصبهم بأنفسهم، كما ذكرنا في القرابة من جهة الآباء والأصول، فقالوا: في هذه الحالة يتحملون، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث في الصحيحين: (قضى بديتها على عاقلتها) ما قال: عليها وعلى عاقلتها، قالوا: فخص الدية بالعاقلة، وفي الحديث الآخر: (فقضى بديته على عاقلته) وقال: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أنه يعقل، ما قال: إن على القاتل أو على قرابة القاتل أو في مال القاتل شيئا من العقل.
والوجه الثاني: أن يتحمل القاتل جزءا على قدر غناه ويسره، كما سيأتي إن شاء الله، فإن كان القاتل ما عنده مال فإنه ينتقل إلى أقربائه.
وفي الحقيقة القول الأول قوي جدا من جهة النص.
قال: [حتى عمودي النسب] في المسألة الأولى: إذا أثبتنا أن القاتل لا يتحمل بناء على ظاهر الحديث، في هذه الحالة اختلف العلماء في عمودي النسب أصوله وفروعه، قالوا: إذا امتنع فإن عليه أن يدفع فأصله آخذ حكمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) فالولد قطعة من والده، وإذا كان الفرع لا يلزمه فالأصل من باب أولى وأحرى؛ لأنه أصله، ولأنه لم يجن الجناية، قالوا: فتسقط عنه، والفرع كذلك؛ لأنه بضعة من القاتل، والأصل كذلك؛ لأن القاتل بضعة منه.
فقوله: (حتى عمودي النسب) يرد على هذا القول، ويرى بعض العلماء: أن الحكم مختص بالقاتل فقط؛ لأن الأصل أنهم يتحملون، وسقطت عن القاتل الدية على الذي ذكرناه، فيضعف جريان القياس أو جريان الأصل من هذا الوجه.

الأصناف التي لا يجب عليها العقل


عدم وجوب العقل على الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عقل على رقيق] قوله: (ولا عقل على رقيق) ؛ لأنه لا يملك المال، وملكيته ضعيفة، والدليل على ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.
عدم وجوب العقل على غير المكلف
قال رحمه الله: [وغير مكلف] قوله: (وغير مكلف) الذي هو الصبي والمجنون، فلو أن قرابته كان فيهم صبيان، كما لو كان لو كان ابن عمه صبيا دون البلوغ، وعنده مال، أو كأن يكون يتيما وورث عن أبيه مالا، فإننا لا نوجب في ماله عقلا؛ لأن العاقلة لا تثبت في غير المكلف، قالوا: لأن الأصل في العاقلة المعاضدة والنصرة، فكما أنه ينصره إذا أخطأ، كذلك يتحمل هو خطأه، الآن هذا الولد لو أنه بالغ وحصل له نفس الخطأ تحمل قريبه، والعكس مادام وقع لقريبه فإنه يتحمل، لكن حينما يكون قاصرا ودون البلوغ ولا يستطيع النصرة ولا يستطيع المعاضدة، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا عليه، وهذا الحق سقط عنه بناء على الحديث الذي ذكرناه، وقالوا: إن غير المكلف من صبي ومجنون لا عقل عليهما؛ وذلك لسقوط المعاضدة والمناصرة منهما.
عدم وجوب العقل على الفقير
قال رحمه الله: [ولا فقير] قوله: (ولا فقير) ؛ لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] فلو كان بنو أعمامه كلهم فقراء فإنه ينتقل إلى بني أعمام الأب، وإذا كان بنو أعمام الأب كذلك فإنه ينتقل إلى بني أعمام الجد، يعني: ينتقل إلى الأقرب فالأقرب على حسب اليسار والغنى، ولا تجب على فقير، فالفقير لا يستطيع أن يعول نفسه فكيف يعول غيره؟ ولذلك قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] والإجماع على أن الفقير لا يجب عليه العقل.
عدم وجوب العقل على الأنثى
قال رحمه الله: [ولا أنثى] قوله: (ولا أنثى) لقد ذكرنا أن هذا مختص بالذكور دون الإناث، ولذلك الذكر عليه النفقة وله الميراث بالعصبة، ولذلك لو انفرد هذا الذكر لأخذ مال قريبه كله بالتعصيب، وانظر كيف يكون التفريق في الشرع بين الذكر والأنثى، في الميراث وفي المؤاخذة، ومن هنا جاء العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأنثى لا تناصر ولا تعاضد؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة والمعاضدة، ولذلك سقط الجهاد عن النساء، ومن هنا قالوا: إن الأنثى لا تتحمل ولا تعقل.
الأحوال التي لا يجب فيها العقل على العاقلة




عدم وجوب العقل على من خالفت ملته ملة الجاني
قال رحمه الله: [ولا مخالف لدين الجاني] قوله: (ولا مخالف لدين الجاني) ؛ لأنه ينقطع إذا كان على ملة غير ملة الجاني، فليس بينهما الأصل الموجب للمعاضدة والمناصرة في الدين والشرع؛ لأن العاقلة فيها المناصرة والمعاضدة بالطبع، والمناصرة والمعاضدة بالشرع، فإذا وجد ما يمنع المناصرة والمعاضدة بالطبع امتنع، وإذا وجد ما يمنع المعاضدة والمناصرة بالشرع امتنع، ومن هنا لا يقضي القاضي على قريبين من ملتين مختلفتين، وصورة هذه المسألة: كانوا في القديم -هذا بالنسبة لأهل الكتاب- إذا كانوا تحت حكم المسلمين وحكم القاضي بينهم في العقل بشريعتنا، فإن القاضي يحكم بالعاقلة، فإذا كان هناك قريب من العاقلة على ملة غير ملة الجاني لم يحمل، ولا يقضي القاضي بحمالته، فلا يقضى بين ملتين مختلفتين، ومن باب أولى بين المسلمين والكفار.
ولذلك قطع الله التوارث بين المسلم والكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، حينما قال له أسامة بن زيد -حبه وابن حبه رضي الله عنه وعن أبيه-: (أين تنزل غدا؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ -ثم قال عليه الصلاة والسلام-: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، منزلنا بخيف كنانة حيث تقاسموا على الكفر) ، فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التوارث بين المسلم والكافر.
عدم وجوب العقل على العاقلة في العمد المحض
قال رحمه الله: [ولا تحمل العاقلة عمدا محضا] قوله: (ولا تحمل العاقلة عمدا محضا) بعد أن بين حقيقة العاقلة، ومن هم العاقلة، ومن الذي يدخل في العاقلة، ومن الذي لا يدخل، شرع رحمه الله في الموجبات للعقل، وهو الخطأ دون العمد، لكن لو قتل -والعياذ بالله- عمدا فالعاقلة لا تحمل الدية، لو قال أولياء المقتول: نريد الدية، فقال القاتل لعاقلته: ادفعوا الدية، نقول: لا تلزم العاقلة الدية، إذا كان عمدا محضا.
عدم وجوب العقل على العاقلة إذا جنى الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عبدا] قوله: (ولا عبدا) كذلك لا تحمل العاقلة العقل إذا كان الجاني رقيقا مملوكا؛ لأن جنايته في قيمته.
عدم وجوب العقل على العاقلة في صلح الإنكار
قال رحمه الله: [ولا صلحا] قوله: (ولا صلحا) أي: لا تحمل العاقلة العقل في صلح الإنكار، وهذا تقدم معنا في مسألة الصلح، وبينا في مسائل الصلح أن الصلح يكون على الإقرار وعلى الإنكار، فخصه طائفة من العلماء على أن العاقلة لا تحمل في صلح الإنكار خاصة، وهذا الذي نفاه المصنف من عدم العقل في هذه الصورة، وأصله أثر ابن عباس الذي رواه البيهقي في سننه، وصحح وقفه وضعف رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزيلعي في المرفوع: إنه غريب، يعني: المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعف بعض العلماء رحمهم الله إسناد المرفوع، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله.
عدم وجوب العقل على العاقلة في اعتراف لم تصدق به
قال رحمه الله: [ولا اعترافا لم تصدقه به] لو اعترف بجناية وقال: أنا قتلت فلانا خطأ، والعاقلة لا تصدقه بهذا، قالوا: إنه لا تحمل العاقلة هذا الاعتراف الذي تنكره، إذا كان لإنكارها وجه؛ لأنه قد يتواطأ هذا الشخص مع أولياء المقتول، في أنه يضغط على جماعته وقرابته وقبيلته، ثم يقتسم ذلك بينه وبين من يدعي زورا وكذبا أنه اعتدى على صاحبهم أو سفك دمه، وهذا من باب سد الذرائع.
أقوال العلماء في القدر الذي تحمله العاقلة
قال رحمه الله: [ولا ما دون الدية التامة] قوله: (ولا ما دون الدية التامة) اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة القدر الذي تحمله العاقلة، بعض العلماء يقول: العاقلة تحمل القليل والكثير في الضمانات التي ذكرناها، ولا يتقيد هذا لا بالثلث ولا بنصف العشر من الدية، ولا بما يعادل الغرة، ومن أهل العلم من حده بالغرة كـ أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من حده بالثلث كما هو مذهب الحنابلة، والمالكية عندهم وجه في ذلك رحمة الله على الجميع، وفي الحقيقة عندهم نظر في الأدلة قد يقوى حمل القليل والكثير؛ لأن التحديد بالثلث مبني على النظر، والأصل في الحمالة بأسبابها وموجباتها أنه يتحمل جناية غيره، سواء كانت قليلة أو كثيرة.






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 03:59 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم الانتقال من القريب إلى البعيد في العقل مع الاستطاعة
السؤال هل الانتقال من القريب إلى البعيد توقيفي، أم أننا نلزم القبيلة بالدفع والمشاركة، علما بأن أقرباء الجاني يستطيعون تغطية الديات، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فعلى القاضي أن ينظر في قرابة الشخص ويفرض عليهم على حسب غناهم ويسرهم، فهناك الغني، وهناك المتوسط، فإذا اجتزأ بالأقرباء القريبين من الشخص فإن له ذلك، ولا ينتقل للأبعد، فهي تختص بالأقرب فالأقرب، فإذا سدوا لم ينتقل إلى الأبعد، والله تعالى أعلم.
حكم جمع المال للنوازل وحكم زكاته
السؤال عندنا في القبيلة يلزم كل بالغ بدفع مبلغ معين، وأحيانا تتكدس الأموال المجموعة لغرض العقل، فهل في هذه الأموال زكاة، أثابكم الله؟
الجواب بالنسبة لصندوق القبيلة، ينبغي أن يعلم أنه لا يحكم بخروج المال من ذمتي أنا الدافع إلا إذا وصل لمستحقه، فمن هنا نقول: إن الأصل أن المال لمن دفع، وإذا كان لمن دفع فلا نحكم بانتقال يده؛ بدليل أنه لو مات لوجب رده إلى ورثته شرعا، لو قالت القبيلة: ما نرده، نقول: هذا حكم خلاف شرع الله عز وجل، الأصل أنه يرد إلى صاحبه؛ لأنه دفع من أجل الطارئ، وما دفع لسبب يتقيد بذلك السبب، وإذا مات الشخص ولم يدفع ذلك المال فإنه يرد إلى قرابته وورثته، هذا مال يجب أن ينظر إلى سبب الدفع فيه، فإذا كان الذي دفعه على أنه للنوازل والعوارض، وإذا لم توجد هذه النوازل والعوارض، فهو في ملكيته حتى تحدث هذه النوازل والعوارض، إذا ثبت هذا فعليه زكاته، وإذا مات فإنه يرد إلى ورثته ولهم النظر في ذلك المال.
بعض العلماء يقول: هذا المال أصبح لا مالك له، وإذا كان لا مالك له فإنه لا تجب فيه الزكاة، وهذا محل نظر، أولا: إذا اختلف عندنا قولان نرجع إلى الأصل، هل الأصل في هذا المال أنه مملوك لدافعه أو لغيره؟ وهل الذي دفعه لسبب خرج عن يده؟ كأن يقول: إذا حدث حادث، فاخصموا منه قسمي أو نصيبي من العقل، فلو قال قائل: إن هذا مدفوع ومفروض على أفراد القبيلة، من أجل إذا طرأ طارئ، بغض النظر عن العاقلة أو غيرها، نقول: إن هذا الأصل ينبغي أن ينظر فيه؛ لأن إلزام الناس بالدفع في غير ما ألزمت به الشريعة يحتاج إلى نظر، ولا يحرج الناس ولا يؤخذ المال بسيف الحياء، وأموال الناس لها حرمة كحرمة الدماء.
ومن هنا نقول: إن هذا المال ملك لمن دفع، حتى يدل الدليل على أنه خرج عن ملكيته، فلو قال قائل: إنه تصدق به، قلنا: لم يصل إلى يد المتصدق عليه، فأصبح شيخ القبيلة وكيلا بدفعه للمحتاج، ومن دفع صدقة إلى شخص من أجل أن يعطيها إلى محتاج ولم يعطها، فالوكيل منزل منزلة الأصيل، ولا زالت يده يد أمانة، والمال واجب زكاته، فلو أعطيت رجلا مائة ألف ليتصدق بها على الفقراء، وحبسها حتى حال عليها الحول وجبت زكاتها إجماعا؛ لأنها لم تصل إلى مستحقيها، ولم تخل يدك من الموجب للزكاة إلا بعد أن يستلمها المسكين والمحتاج، فإذا كانت الأموال دفعت بسبب، والسبب لم يقع ولم يحدث، فلا زالت في ملك أهلها، ويجب ردها إلى أهلها إذا طلبوا ذلك المال، أو حدث أن توفي الشخص حينئذ يرجع المال إلى ورثته، وينظر في قول الورثة، ويجري عليها حكم التصدق بالثلث، على الأصل المعروف في الشرع إذا قصد بها الصدقة، وأما إذا قصد بها العقل فلا إشكال أنها ترجع إلى الورثة، ثم ننظر في عقل الورثة إذا نزل الموجب للعقل، والله تعالى أعلم.
حكم تحمل الدية عن الفاسق
السؤال إذا كان القول الصحيح: أن العاقلة تتحمل الدية ولا يتحملها القاتل المتسبب في الحادث، فهل إذا كان هذا القاتل معروفا عنه عدم المبالاة وعدم الاستقامة؟ فهل يدفع عنه أيضا، أثابكم الله؟
الجواب تحمل العاقلة يستوي فيها البر والفاجر، يعني: لو كان هذا السائق فاسقا يشرب الخمر أو يزني -والعياذ بالله- فهذا حق من حقوقه، فلو أنه توفي لورثته سواء كان برا أو فاجرا، ما دام أنه مسلم ولم يخرجه فسقه عن الإسلام، فالشاهد: لا ينظر فيه إلى كونه فاسقا أو صالحا، هذا لا عبرة به، العبرة بكونه قريبا له حق القرابة، وما بينه وبين الله من الأخطاء والذنوب هذا شيء بين العبد وربه وليس بيننا وبينه، فنحن لسنا مكلفين بهذا الأمر.
إذا يستوي في ذلك برهم وفاجرهم، وعليه فيعقل عن الفاسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت تقية، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت صالحة، هذا حكم عام في الشرع، له سبب وهو القرابة، ومن ذلك يبقى الحكم على هذا الأصل، والله تعالى أعلم.

التوفيق بين قوله: (ولا تبطلوا أعمالكم) وقوله: (المتطوع أمير نفسه)

السؤال كيف نوفق بين قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه) ، أثابكم الله؟
الجواب لا تعارض بين عام وخاص، فقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] عام وقوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) خاص، فلا تبطلوا أعمالكم عام، يشمل الفرائض والنوافل، ويشمل جميع الأعمال الصالحة، سواء كانت في الفريضة: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] فإذا كبرت لصلاة الفريضة فعليك أن تتمها، وإذا ابتدأت صوم الفرض فعليك أن تتمه، وإذا حججت فعليك أن تتم الحج، وإذا اعتمرت فعليك أن تتم العمرة، {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] هذا في الفرائض.
أيضا قوله سبحانه: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] في النوافل، فلو أن شخصا تطوع بصلاة، فإنه لا يقطعها إلا إذا طرأ له طارئ، أو رخص له الشرع بالقطع.
لقد نهانا الله عز وجل أن نبطل أعمالنا؛ لأن إبطال الأعمال فيه مخالفة للشرع إذا كان العمل واجبا، فمن قطع صلاته وهو يصلي الظهر بدون سبب فإنه آثم شرعا؛ لأن الله أمره بإتمام صلاته وأداء حقه سبحانه، ومن أفطر في رمضان من دون عذر فإنه آثم شرعا، ولم يقضه صيام الدهر ولو صامه، ومن جاء في حج فجامع زوجته قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وأبطله، وهكذا لو جاء في عمرة فجامع قبل الطواف بالبيت فإنه قد أفسد عمرته، هذا كله منهي عنه شرعا في الفرائض وفي النوافل.
فجاء النص في النافلة: (المتطوع أمير نفسه) في مسألة الصوم، فمن صام الإثنين ثم رأى من المصلحة أن يفطر، إما جبرا لخاطر قريب، أو دعي إلى وليمة، أو أمره والده أو والدته أن يفطر فهذا خاص، قال صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه) ؛ لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع، فوسع الشرع في حقه أكثر من غيره، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، والله تعالى أعلم.
حكم التكبير لسجود التلاوة في الصلاة
السؤال سجود التلاوة إذا وقع في الصلاة هل أكبر أم أسجد بدون تكبير، أثابكم الله؟
الجواب الظاهر والصحيح وجوب التكبير على ظاهر حديث أبي داود وغيره في سجوده عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فيشمل الصلاة وغيرها، والله تعالى أعلم.

أجر النافلة في الصف الأول كأجر الفريضة عدا روضة المسجد النبوي
السؤال هل أجر النافلة في الصف الأول مثل أجر صلاة الفريضة في الصف الأول، أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل: في بعض المساجد النافلة في غير الصف الأول أفضل، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في الروضة أفضل من النافلة في سائر المسجد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه الروضة يحرص المسلم على أن يصلي فيها ويستكثر فيها من الخير، وهذا عليه عمل أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف، هذه الروضة أفضل بقعة في المسجد النبوي.
لكن في الفريضة الصف الأول أفضل على أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله جمعا بين النصوص، وقال: إذا أقيمت الصلاة فالصف الأول أفضل؛ لورود النص الخاص به؛ لأن الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في غير الروضة، وحينئذ يتقدم من أجل الصف الأول، أما في سائر النوافل فالأفضل أن يصلي في الروضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) دل على فضلها وفضل العمل الصالح فيها، وهذه مزية منصوص عليها، لا يقدم الإنسان معها ولا يؤخر، شيء ثبت به الدليل لا يعمل رأيه في رد هذه السنة الصحيحة، ولذلك الذي عليه العمل عند العلماء: أن الطاعة في هذا الموضع أفضل، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضا فهو في خرفة الجنة) وهذا دليل على عظم الأجر، فدل على فضل هذا المكان وعظم الأجر.
قال بعض العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) أي: أن الطاعة فيها موصلة لدخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وخير كبير جدا، والإنسان يحرص على أن يكون في هذا المكان؛ لأنه أفضل ما في المسجد، أما ما عدا المسجد النبوي، مثلا: الآن شخص دخل المسجد، وجاء إلى الروضة وصلى نافلة، فإذا أقيمت الصلاة يريد أن يتقدم إلى الصف الأول، نقول: الأفضل أن تأتي إلى الصف الأول وتصلي تحية المسجد فيه، وتجلس في مكانك؛ لأن الملائكة تصلي وتترحم عليك مادمت في مصلاك.
ومن هنا فلا تقطع هذا الفضل العظيم، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى مسجده لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه!) وهذا فضل عظيم يفوت بالانتقال، ومن هنا يحرص على هذا الفضل من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

حكم استخلاف الإمام في الصلاة
السؤال كيف يتصرف الإمام إذا تذكر أنه على غير وضوء أثناء صلاته بالمأمومين، أثابكم الله؟
الجواب إذا علم أنه محدث أو حصل له الحدث أثناء الصلاة فإنه يسحب شخصا ويستخلف، وهذا يسمى: بالاستخلاف، يسحبه ويقيمه مكانه ثم ينصرف، ويسحب أولى الناس بالإمامة، فإذا كان وراءه ثلاثة أشخاص أحدهم أولى فإنه يقدمه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فهذا لأجل وجود حاجة الإمام قالوا: إن هذا الحديث نبه على قضية الاستخلاف؛ لأن الإمام يحتاج إلى أن يستخلف عند حدوث عارض له، والله تعالى أعلم.
بيان وقت النهي قبل الظهر وحكم التنفل فيه
السؤال هل هناك وقت نهي قبل صلاة الظهر؟ وإذا كان فمتى يبدأ، أثابكم الله؟
الجواب قبل صلاة الظهر إذا انتصف النهار لا يتنفل الإنسان، وانتصاف النهار عند وقوف الشمس عن الحركة، فالشمس تسير من المشرق إلى المغرب، وإذا وصلت في منتصف النهار في كبد السماء وقفت هنية، يعني: وقت يسير، وهذه الساعة ممنوع من الصلاة فيها؛ وذلك لقوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) حين يقوم قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا جاءت من المشرق فإن الظل يتقاصر حتى تقف الشمس في كبد السماء، فالظل يتحرك أثناء مسيرها من المشرق إلى منتصف كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقفت، فيقوم قائم الظهيرة الذي هو الظل، فإذا وقفت الشمس وجدت الظل لا يتحرك لا بنقص ولا بزيادة، هذه ساعة انتصاف النهار، فإذا انتصف النهار منع من صلاة النافلة؛ لأنها ساعة تسجر فيها نار جهنم والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام علم بعض الصحابة بأوقات النوافل حيث يقول: (فإذا طلعت الشمس فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة) يعني: تنفل، وقوله: حاضرة مشهودة، أي: تحضرها الملائكة وتشهدها، وقيل: مشهودة بالخير، أو مشهود لها بالخير، (فإذا قام قائم الظهيرة -يعني: انتصف النهار- فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها نار جهنم) يعني: أنها ساعة غضب وليست بساعة رحمة، هذا وقت نهي، والصحيح مذهب جمهور العلماء: أن هذا النهي يشمل حتى يوم الجمعة، والإمام الشافعي رحمه الله وبعض أئمة السلف يستثنون يوم الجمعة، وفيه حديث ضعيف وأشار إليه الحافظ ابن حجر في البلوغ، والصحيح أنه يشمل يوم الجمعة وغيره على حد سواء؛ وذلك لورود النص على العموم، والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها)

السؤال ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه) ، أثابكم الله؟

الجواب النضارة: هي الحسن والجمال، فقوله: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب فيه الأمة إلى حفظ السنة، والعناية بهذا الحفظ حتى يكون حفظا متقنا لا يرويه بالمعنى، قال: (فحفظها فأداها كما سمعها) فقوله: (نظر الله) النضارة: هي الحسن، قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة:22 - 23] فلما نظرت إلى وجه الله عز وجل ازدادت جمالا وحسنا.
النضارة التي وردت في هذا الحديث اختلف فيها العلماء على قولين: أولا: قال بعض العلماء: إنهم يحشرون يوم القيامة تتلألأ وجوههم كالشمس، وهم حفظة السنة، فمن أكثر من حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله وجهه، ونوره بالسنة، ولذلك أهل السنة على وجوههم نور، وقال بعض العلماء: إن لأهل السنة نورا في وجوههم في الدنيا، وذلك أن الله عز وجل يجعل لهم النور والنضارة، فوجوههم وجوه خير، إذا رأيت وجه الرجل منهم يطمئن قلبك، ورأيت أنه وجه رجل فيه خير وصلاح وبر؛ لأن الناصية والوجه تابعة للعمل، قال تعالى: {ناصية كاذبة خاطئة} [العلق:16] .
ولذلك تجد أهل الظلم والأذية والإضرار، لو نظرت إلى شخص منهم يقطع رحمه تجد وجهه مظلما، وانظر إلى شخص واصل للرحم أو بار بوالديه أو كثير الصدقات أو كثير الحسنات ترى نور الطاعة في وجهه، وهذا أمر جرت به العادة من الله سبحانه وتعالى، وهو معروف، وقوله: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها) يعني: سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشمل الصحابة من باب أولى؛ لأنهم الذين باشروا السماع منه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، ويشمل من بعدهم؛ لأنه قال: (سمع مقالتي) ما قال: سمع مني، يعني: سمع حديثي، وفي قوله: (مقالتي) يختص بالصحيح دون المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المكذوب لا ينسب إليه عليه الصلاة والسلام، وقوله: (سمع مقالتي فوعاها) يعني: وعى هذه المقالة، وشبه القلب الفاهم للشيء بالوعاء الذي قد حفظ ما فيه، (فأداها كما سمعها) يعني: عنده ضبط في الحفظ، وضبط في الأداء، فيأتي باللفظ كما سمعه، وهذه أعلى منازل حفظ السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تستطيع، فلك من النور والنظارة على قدر ما حفظت؛ لأن الله وعدنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل العظيم، ومن نضر الله وجهه في الدنيا نضر الله وجهه في الآخرة.
ومن هنا يبدأ الحرص على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية بما اتفق عليه الشيخان، فيبدأ المسلم بالأحاديث التي في أحكام دينه، مثل أحاديث: عمدة الأحكام؛ لأنها تتعلق بالحلال والحرام والعبادة، وكيفية القيام بحق الله، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الآداب والأخلاق ونحو ذلك، ويتوسع في الحفظ، فالأصل أن هذا الفضل خاص بمن حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: لم يكتم هذا العلم بل أداه وبلغه، فمن بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فحفظه كان له مثل أجره، ولم ينطق لسان ذلك الذي حفظته من أولادك أو من طلابك بهذا الحديث إلا كان لك مثل أجره، ولا يعلم أحدا فينطق به ذلك المعلم إلا كان لك مثل أجره، فالله أعلم كم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة والأجر؟ ولذلك فازوا بخير لا تستطيع الأمة أن تدركهم في ذلك الخير والفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) في هذا الحديث إشارة إلى أنهم تبوءوا المنزلة السامية العالية في هذا الفضل العظيم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على حفظ السنة ومحبتها، وأن يجعلنا من أهل هذا الفضل، وأن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب، والله تعالى أعلم.
صلاة المسافر خلف المقيم
السؤال مررت وأنا مسافر بأحد المساجد على الطريق، ووجدت جماعة يصلون صلاة العصر، ودخلت معهم في الركعة الرابعة، وبعد أن سلم الإمام قمت وصليت ركعة واحدة وسلمت بنية القصر، ثم سألتهم هل صليتم أربعا أم قصرتم الصلاة؟ قالوا: صلينا أربعا، فقمت فأتيت بركعتين ثم سجدت للسهو، هل عملي هذا صحيح؟ وإن كان غير ذلك فماذا أفعل، علما أنه مضى على ذلك شهر، أثابكم الله؟
الجواب الصلاة صحيحة وما فعلته صحيح سديد، وفيه خروج من خلاف العلماء رحمهم الله، أما كونك تكلمت بين الركعتين الأوليين والأخريين، فكلامك كان لعذر ولمصلحة الصلاة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر أو العصر والشك من الراوي- فسلم من ركعتين، فقام له رجل يقال له: ذو اليدين -وهو الخرباق رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك ... ) الحديث، فأنت تكلمت لمصلحة الصلاة، وصححت صلاتك، خاصة على مذهب من يقول: المسافر يتم وراء المقيم مطلقا سواء صلى الصلاة مع الإمام من أولها أو من آخرها؛ لعموم قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم) وهذا أحوط في الخروج من خلاف العلماء.
ولكن لو أنك سلمت من ركعتين واجتزيت بهما فإنه يجزيك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) فدل على أنك في السفر تصلي الركعتين، وأقرت على هذا الأصل، فلما كان المسبوق يتم النقص في صلاته، والمسافر لا نقص له في صلاته؛ لأن الله فرض عليه الركعتين، ومن هنا لو أدركه في الركعة الأخيرة فأضاف ركعة أجزأه، ولو أدركه في الركعتين الأخيرتين من الظهر فسلم معه أجزأه، ولكن الخروج من الخلاف أفضل، ولاشك أن الذي فعلته صحيح وصلاتك صحيحة، والله تعالى أعلم.
أقسام التشهدات في الصلاة وأحكامها
السؤال ما حكم التشهد في الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب التشهد تشهدان: التشهد الأول: في الثلاثية والرباعية واجب وليس بركن، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه- في الصحيحين قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في الظهر، ثم لما كان السجدة الثانية من الركعة الثانية قام عليه الصلاة والسلام ولم يجلس -يعني: لم يجلس في التشهد الأول- فسبح له القوم فأشار إليهم أن قوموا) فلم يرجع عليه الصلاة والسلام إلى التشهد، ولو كان ركنا لرجع إليه، فلما لم يرجع إليه قال رضي الله عنه: (حتى إذا كان في التشهد وانتظر الناس تسليمه كبر فسجد سجدتين عليه الصلاة والسلام جبرا للنقص) فدل على أنه من الواجبات لا من الأركان، ولذلك رجع عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين إلى الركعتين؛ لأنها أركان، ولم يرجع إلى التشهد الأول؛ لأنه واجب، ومن هنا كان تقسيم العلماء رحمهم الله للواجبات والأركان منتزع من أصول شرعية صحيحة.
فالشاهد من هذا: أن التشهد الأول واجب وليس بركن، والتشهد الثاني ركن من أركان الصلاة، ومن هنا أمر به عليه الصلاة والسلام، وبين للمسيء صلاته هذه الركنية فقال: (ثم ارفع -يعني بعد السجدة الأخيرة- حتى تستوي جالسا) فالتشهد الأخير والجلوس له ركن من أركان الصلاة على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

ثبوت الولاء للمعتق مطلقا مع عدم جواز عتق الكفار

السؤال هل الولاء يبقى مكانه لو أسلم هذا المعتق؟ أم حتى لو بقي على كفره وأعتق ثم مات فهل يرثه مولاه، أثابكم الله؟

الجواب أولا: إذا كان كافرا لا يعتق؛ لأن الدخول في الرق سببه الكفر، وتوضيح هذه المسألة أنا ذكرنا غير مرة: أنه في حال الإسلام إذا كان هناك كفار ودعوا إلى الإسلام فامتنعوا، فإن كانوا من أهل الكتاب عرضت عليهم الجزية، فإن امتنعوا وجاءوا يقاتلون المسلمين وجمعوا بين الكفر ومحاربة الإسلام، حينئذ يضرب عليهم الرق، والرق لا يضرب إلا بولي أمر المسلمين، وفي حال الجهاد الشرعي الصحيح، ولذلك لا يختص بمكان ولا بزمان ولا بلون ولا بطائفة ولا بجنس معين، بل يشمل كل من كفر بالله؛ لأن الله يقول: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] يعني: الكفار، فلما يقف في وجه الإسلام فإنه ينزل عن مستوى الآدمية إلى مستوى البهيمية، بل أضل من البهيمة، وحينئذ يباع ويشترى.
ومن هنا لا يعتق إذا كان كافرا، إذ كيف يعتق وهو إنما ضرب الرق عليه بسبب الكفر؟ إذا تفوت مصالح الشريعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي أن يعتق أمته قال: (علي بها، فلما جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) جملة (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، يعني: أعتقها؛ لأنها مؤمنة، ومفهوم ذلك: أنها لو كانت كافرة لما عتقت؛ لأنه فات مقصود الشريعة، وعلى هذا يختص العتق بهذا الوجه الذي ذكرناه، والولاء ثابت على كل حال للمعتق، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الجمعة مع عدم إتمام الخطبتين
السؤال شخص صلى في مسجده بالناس الجمعة، وخطب الخطبة الأولى ولم يتمها؛ لمرض ألم به منعه من إتمام الخطبة الأولى، ولم يخطب على ذلك الثانية، ولم يصل بالناس، وبعد ذلك قام رجل من الجماعة وصلى بالناس ولم يتم الخطبة الأولى، ولم يأت بالخطبة الثانية، هل صلاتهم صحيحة أم باطلة، أثابكم الله؟
الجواب إذا لم تقع الخطبة الثانية فإنهم يصلون ظهرا، والأصل فيهم أنهم ينظرون إذا كان فيهم أحد يحسن الخطبة ويحسن أن يعظ الناس قام وخطب، وقد بينا في باب الجمعة أنه لا تشترط للخطبة شروط معينة، وأن المدار يدور حول البشارة والنذارة، فلو وقف أمام الناس وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم بالصلاة، وأمرهم ببر الوالدين، وأمرهم بأي عمل من أعمال الخير، ونهاهم عن أي عمل من أعمال الشر، أو حذرهم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة، فقد تمت الخطبة، وكما قلنا: ليس لها شروط معينة بحيث لو أنها فقدت بطلت الجمعة، لا، إنما تقوم على البشارة والنذارة، فإذا حقق ذلك المقصود فقد تمت الخطبة وكملت وأجزأت، وبقيت الخطبة على السنة كاملة تامة.
أما الوارد في السؤال: فلا تصح الجمعة على هذا الوجه، بل كان عليهم أن يجعلوا شخصا يخطب بهم، وإذا تعذر فإنهم يصلونها ظهرا، وإذا لم يفعلوا ذلك فإنهم يعيدون الصلاة ظهرا، والله تعالى أعلم.

حكم من ترك الحلق في العمرة ناسيا

السؤال اعتمرت قبل خمس سنوات ولم أحلق ناسيا، ولبست الثياب وانشغلت ولم أتذكر إلا بعد مدة، فماذا علي، أثابكم الله؟

الجواب الله المستعان! ما أهون الدين عند الناس؟! وما أكثر الغفلة عن حقوق الله عز وجل؟! شخص يأتي في عمرة ويأتي في حج ولا يحس أنه ضيف على الله سبحانه وتعالى، ولا يفرغ قلبه من هذه الدنيا، ولا يحس أنه في أشرف المواطن وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحس بنعمة الله عز وجل، ولا يستشعر أن الله اختاره من بين (الملايين) لكي يطوف حول بيته، وقد يكون في ساعة لا يطوف فيها إلا القليل، ولا يحس بنعمة الله عز وجل الذي سلمه من المصائب والنكبات والبلايا، وقد كان بالإمكان أن تنقلب به سيارته، أو تغرق به سفينته، أو تهوي به طائرته ولكن الله سلم سبحانه وتعالى.
يا ليت الذي يعتمر أو يحج يستشعر أين هو؟ وما هو حاله؟ وفي باب من يقف؟ لو أن الإنسان بمجرد أن يلبي بالعمرة يستشعر أنه ينادي ربه، كان علي زين العابدين يقول: لبيك، فيخر مغشيا عليه، فقيل له: ما شأنك رحمك الله! يا ابن بنت رسول الله؟! قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، فعلى الإنسان أن يستشعر أنه ضيف على الله عز وجل، فإذا جاء ووطئ هذه الرحاب مؤمنا مخبتا خاشعا متخشعا متذللا لربه سبحانه يرجو رحمته، عندها تهون عليه الدنيا وما فيها، ويصبح في لذة وأنس، فالإنسان عندما يدخل -ولله المثل الأعلى- ضيفا على غني من أغنياء الدنيا يحس أنه في نشوة، بعضهم إذا زار غنيا جلس يتحدث بهذه الزيارة السنة، بل السنوات، بل عمره كله، وهو يتحدث أنه زار فلانا، لا إله إلا الله! كيف وهو في هذه الرحاب الطاهرة في زيارة لملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟! الحاج والمعتمر ضيف على الله، وهذه الغفلة من الناس سببها أن الشخص يأتي ويفعل المناسك وكأنه في سجن، إذا أهل بالحج والعمرة فهو ينتظر فقط متى ينتهي من حجه وعمرته؟! ومتى يحل إحرامه؟! ثم إذا حل من إحرامه لم يفكر مع الغفلة إلا بالرجوع إلى بلده، يريد أن يرجع إلى أهله، لا ينظر إلى نسكه هل أتمه أو لم يتمه؟ لا ينظر هل كان في نسكه على حال توافق السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على خلاف ذلك؟ لا يتفقد نفسه ولا ينظر، ولذلك يعتمر المعتمرون ويكررون، وحالهم بعد العمرة كحالهم قبل العمرة.
ومن الناس من اعتمر فزار بيت الله عز وجل، وسعى بين الصفا والمروة، فانقلبت حياته وتغيرت شئونه، ومن الناس من وقف في هذه المواقف ونزل في هذه المنازل، فرفع الله درجته وأعظم أجره وكفر خطيئته، وهو في كل لحظة وفي كل ثانية يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، فأفاض الله عليه من الرحمات والبركات والخيرات، ما لم يخطر له على بال، وما أسعد أولئك الأقوام والفئام من الناس، الذين وقفوا وابتهلوا وتضرعوا وتذللوا وتبذلوا بين يدي الله عز وجل، في عمرة ما جاوزت طوافا وسعيا، ولكنهم قاموا بحقها وحقوقها وآدابها وصفاتها على أتم الوجوه وأكملها، فدعوا الله دعوة نالوا بها سعادة لم يشقوا بعدها أبدا.
كيف بهذا الإنسان الذي يأتي ويعتمر، ولم يقصر ولم يحلق؟! بل بمجرد ما ينتهي يركب سيارته، وينسى أين كان غفلة ما بعدها غفلة؛ لأنه لو كان مستشعرا لهذه العبادة، مستجم الروح والبدن؛ لأصبح في هذه اللذة، من الناس من يعتمر ويبقى في لذة عمرته شهرا، بل منهم من يبقى في لذة عمرته سنة، بل منهم من يبقى في لذة عمرته دهرا.
أناس يأتون من مسافات بعيدة وهم يتمنون أن يعتمروا، فإذا وقفوا أمام بيت الله عز وجل خشعت قلوبهم، وذرفت من خشية الله عيونهم، والواحد منهم يتأمل الكيلو مترات وآلاف الأميال التي قطعها وجاوزها، راجيا لرحمة ربه، فيقف أمام ذلك البيت متضرعا لربه، متخشعا متذللا كل التذلل والتبذل في ذلك المقام الكريم، فيجد تلك النشوة وتلك اللذة وتلك السعادة وذلك الأنس العظيم بربه سبحانه، قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] .
ويقول تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) [النساء:5] اربط بين الآيتين، من أجل المال تقوم به الدنيا ولا تقعد، والله عز وجل يقول: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] ؛ لأن فيها قيام الدين والدنيا في هذه العبادة الجليلة؛ لأنها تذكر بالتوحيد وبالإخلاص وبالتجرد.
الإنسان يأتي إلى هذا المكان وإلى هذا البيت، الذي هو بيت ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ولذلك قل أن يأتي مكروب بكربه إلا فرج كربه عنه، أو ملأ الله قلبه من الإيمان واليقين ما يجعل كربه أنسا عليه إلى أن ينتهي، نعم! إنها المنازل التي لو علم الناس مقامها عند الله جل جلاله، لعظمها الإنسان؛ لأن تعظيمها من تقوى القلوب لله جل جلاله.
قوله: (ذلك) اسم الإشارة الذي يدل على العلو، العرب لا تقول: ذلك إلا لشيء بعيد بعيد، ما تقول ذلك لشيء قريب، (ذلك) يعني: الشيء البعيد، (ذلك ومن) يعني: من ذكر وأنثى، غني وفقير، قال تعالى: {ومن يعظم} [الحج:32] والتعظيم كلمة ليست بالسهلة، {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32] زكى الله من فوق سبع سماوات الذين يعظمون شعائره، ووصفهم بأنهم متقون، وزكاهم سبحانه وتعالى بأنه قد صلحت قلوبهم؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بالتقوى، أما من كانت فيه الغفلة نسأل الله السلامة والعافية! فهو يأتي بمناسكه ولا يلتفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحرص على أن يتحلل في مكة بعد عمرته كما هو هديه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.
وعلى الإنسان عندما يأتي بعمرته ويطوف ويرمل عند بيت الله عز وجل، أن يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل، ويتذكر أنها أماكن وأنها منازل تسكب عندها العبرات، وأنها منازل تستجاب فيها الدعوات، هنا خشع المؤمنون والمؤمنات، هنا بكى الصحابة والصحابيات، هنا رجفت القلوب، هنا أنابت إلى علام الغيوب، هنا المقامات بين يدي فاطر الأرض والسماوات، هنا السعادة التي لا شقاء بعدها أبدا، هنا الكرامة التي لا مهانة بعدها أبدا، هنا العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، فكم من رجل فقير وقف بهذا المكان فسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، فرجع غنيا بالله وحده لا شريك له، فالذي يطوف بالبيت وعنده هذه المشاعر، ويبث أشجانه وأحزانه إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويقف عند المقام يصلي ركعتين فيبتهل إلى ربه، فيسأله في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه، ثم ينطلق إلى الصفا والمروة فيقف كما وقف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يترسم خطاه وكأنه أمامه عليه الصلاة والسلام، يقف كما وقف، ويبتهل كما ابتهل، ويدعو كما دعا، ويسأل كما سأل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الصفا حتى إن أصحابه يصيبهم الملل، يقول ابن عمر: فكنا نمل ونحن شباب من طول موقفه عليه الصلاة والسلام، لماذا يقف؟ إنه يقف بين يدي الله عز وجل، وكانت له دعواته، وكان من دعائه كما روى البيهقي في سننه بسند صحيح: (اللهم! إنك قلت وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم! كما وعدتني فاستجب لي، اللهم كما أذقتني الإسلام وهديتني إليه فلا تنزعه مني حتى ألقاك مسلما) ، فسأل الله أعز مسألة.
من عاش هذه اللحظات وهذه المواقف، وجاء وسعى بين الصفا والمروة فهرول وتذكر المكروبة التي فرج الله همها في هذا المكان، لما يأتي بهذه المشاعر ويستشعر هذه المشاعر أينسى هذه العبادة؟ لما يكون متبعا للسنة ينسى الحلق والتقصير؟ أو ينسى شيئا من نسكه؟ لا ينسى؛ لأنه متبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن السنة نسأل الله السلامة والعافية! من أسباب الحرمان.
فإذا استشعر هذه المشاعر انتهى من سعيه وقلبه ونفسه يحدثانه، يريد أحب شيء وأعز شيء وهو رحمة الله عز وجل، ومن أصابته رحمة الله فلا عذاب بعدها أبدا، رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكتبها للذين يتقون ويقيمون الصلاة فأفلحوا في الدنيا والآخرة، هو ينتظر الرحمة من الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها ثلاث مرات، (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين) .
حسنا! إذا كان عنده هذا الشعور بمجرد ما ينتهي من عمرته، وقلبه يحدثه أن يبادر حتى يصيب هذه الدعوة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات يدعو له بالرحمة من نبي لا ترد دعوته، إنها رحمات مكررة سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتهل بها إلى الله جل جلاله، ثم يأتي وينتهي من عمرته وقلبه معلق بالسماء؛ لأنه في سائر عمرته يدعو الله عز وجل هذه الدعوة: اللهم ارحمني، ومن رحمه الله فلا يعذب، ومن رحمه الله سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وأصاب العز الذي لا ذل بعده أبدا؛ لأن من أصابته رحمة الله فهو في حفظ الله ورعاية الله له سبحانه وتعالى، حتى إن الجنة التي هي غاية ما يتمنى الإنسان من رحمة الله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) من تغمده الله برحمته حسنت خاتمته، وصلح قوله وعمله، وزكى ظاهره وباطنه، ومن أصابته رحمة الله أمن في قبره وسعد في حشره ونشره، ودخل جنة الله برحمته عز وجل.
نعم! أعدنا وكررنا في هذا السؤال؛ لأنه عمت به البلوى، وكثرت الشكاوى من الناس، بمجرد ما يذهب بعائلته ويركبون السيارة وينطلقون إلى جدة، وبعد أداء العمرة يقول: يا الله! انتهينا من العمرة، وكأن العمرة ثقل يلقى، وكأنها حمل يتخلص منه، ما يستشعر أين كان؟ وأين هو؟ وما هذه الرحمة التي يعيشها؟ فحينئذ ندعوه إلى أن يحرص عل






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 04:04 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (511)

صـــــ(1) إلى صــ(12)







شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [2]
لقد جعل الله عز وجل في قتل الخطأ كفارة، والحكمة من ذلك أن يحذر الناس من التساهل في هذا الأمر، ولعظم حرمة الدماء عند الله سبحانه وتعالى، والكفارة لا تكون إلا في قتل الخطأ؛ لأن قتل العمد عقوبته القصاص.
ويشترط في كفارة القتل أن يكون المقتول نفسا معصومة، كأن يدوس مسلما بسيارته خطأ.
وقتل الخطأ يدخل فيه مباشرته للفعل بنفسه أو تسببه فيه، وفي كل تلزمه الكفارة.
بيان كفارة القتل وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: من قتل نفسا محرمة خطأ مباشرة، أو تسببا بغير حق فعليه الكفارة] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان كفارة القتل، وهذه الكفارة قد دل عليها الدليل الشرعي الثابت في كتاب الله عز وجل، حيث أمر من قتل خطأ أن يكفر، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله، ومن عادة أهل العلم أنهم إذا فرغوا من بيان مسائل القتل، والأحكام المترتبة عليها من الحقوق، والواجبات، من الديات للأنفس، والأعضاء، والجروح، والشجاج، والكسور، فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان حق الله عز وجل من وجوب الكفارة، وهذا حق لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن حق الله هو أعظم الحقوق، ولكن المقاصة والمشاحة في حقوق المخلوقين أكثر، ومن هنا أمر الله عز وجل بالدية المسلمة إلى أهل القتيل إن قتل خطأ، فقال: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما} [النساء:92] فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الحق له جل جلاله، بعد أن رتبه على حق المخلوق: {فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} فابتدأ العلماء بالديات، وأحكام الديات، ثم ثنوا بعد ذلك بحق الله عز وجل، ومن هنا هذه الدية تكفر عن العبد، وأصل الكفارات: أنها تكفر الذنوب، بمعنى: أنها تسترها، وتذهب بلاءها وشقاءها عن صاحبها، فإذا كفر الله عز وجل للعبد ذنبه، فإنه قد أمن العبد من عقوبة الله عز وجل، وأمن من سوء السيئة في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، ولذلك سميت المغفرة كفارة للعبد، وقالوا: الكفر في لغة العرب أصله: الستر، يقال للباذر الذي يبذر البذر: كافر؛ لأنه إذا بذر البذر غطاه، فيقولون للمزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر، والكفر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: وفي ليلة كفر النجوم غمامها.
يعني: ستر النجوم الغمام ولما كانت توبة الله عن العبد، ومغفرة الله للعبد تمحو ذلك الذنب، فكأنها صارت غطاء لذلك الذنب، فكأنه لم يكن من العبد، فلا تراه عين، ولا يحس به أحد، فالكفر والغفر، معناهما متقارب، فلما كانت هذه الحقوق التي أوجبها الله عز وجل لقاء ذنوب معينة من العبد، سواء كانت في الجنايات بين المخلوقين بعضهم مع بعض، مثل: كفارة القتل، أو كانت الجناية والاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى: كالجماع في نهار رمضان، أو كانت جامعة بينهما: كقوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهذا جعل الله عز وجل فيه الكفارة.
والكفارات كما تقدم معنا منها ما هو مغلظ، ومنها ما هو دون ذلك، فأعظم الكفارات المغلظة: عتق رقبة، ويترتب على ذلك، وجوب صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة، وقد جعل الله ذلك في الظهار، وجعله سبحانه في قتل النفس المؤمنة المحرمة, وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك في من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، هذه الكفارة المغلظة اعتنى العلماء ببيانها، وتقدمت معنا، ولذلك المصنف رحمه الله لم يفصل كثيرا فيها في باب القتل؛ لأنه تقدم معنا ما هي الرقبة التي تجزي، وبينا هذا في كتاب الصوم، وكذلك في كفارة الظهار، ولذلك أجمل المصنف رحمه الله الكلام في تفصيلات هذه الحقوق الواجبة.
الكفارة في الشريعة منها ما هو مخير؛ أي: يخير الإنسان فيها، ومنها ما هو مرتب، فإذا كانت الكفارة تخييرية، كقوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] فهذا كله على التخيير، يختار أي نوع من هذه الثلاث، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن بأو فهو خيار للعبد-يعني: يختار أي واحدة منها فيجزيه- وما كان بثم فلا يجزي الثاني إلا إذا عجز عن الأول.
ومن هنا اختلفت كفارة القتل عن كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان: من جهة النوع الثالث وهو: إطعام ستين مسكينا بدلا من صيام شهرين متتابعين، والذي يقويه الدليل، ويختاره طائفة من أئمة العلم رحمهم الله: أنه لا إطعام في كفارة القتل، وأن الواجب هو عتق الرقبة، فإن عجز عن عتق الرقبة، أو لم يجد الرقبة، فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة من الله عز وجل على عبده، وإذا كفر بعتق الرقبة المؤمنة، أعتق الله كل عضو منه من النار، كما ورد في الخبر، وصحيح أن هذا التكفير ورد في قتل الخطأ، وجعل الله عز وجل هذه الكفارة في قتل الخطأ، ويجري مجرى الخطأ شبه العمد، وقد تقدم معنا ضابط الخطأ، وضابط شبه العمد، وبينا أن كثيرا من المسائل يشترك فيها شبه العمد مع الخطأ، ولذلك تجب الكفارة في شبه العمد كما تجب في الخطأ؛ لأن شبه العمد جرى مجرى الخطأ ولم يجر مجرى العمد، ولذلك لا يجب القصاص في شبه العمد، كما لا يجب في الخطأ، فهذه الكفارة جعلها الله سبحانه وتعالى في قتل الخطأ، ومن هنا يرد الإشكال: كيف يجب على الإنسان أن يكفر، مع أنه قد أخطأ ولم يكن متعمدا للقتل؟ هذا فيه تعظيم للدماء، وتعظيم لأرواح المسلمين، والدماء المحرمة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتساهل في تعاطي الأسباب التي تزهق أرواح الناس، كأن يتهور في أمر مثلا: يحفر لعمارته دون أن يضع حواجز تقي الناس من السقوط في هذه الحفرة، أو مثلا: يأتي إلى طريق سابل فيضع فيها شيئا يوجب هلاك الأنفس، كل هذه الأشياء في مجامع الناس، أو في الأماكن التي يوجد فيها الصيد، ولكنها عامرة بالسكان، فلا يأمن إذا صوب بندقيته أو سلاحه أن يقتل شخصا، أو يصيب شخصا، فلما وضعت الشريعة كفارة القتل زجرت الناس عن التساهل، صحيح أنها لم توجب القصاص، ولكنها أوجبت الدية فعظمت دم المسلم.
هذا الفصل فصله المصنف، وبناه على ما تقدم، وذلك لوجود الإشتراك؛ لأن العاقلة تحمل الخطأ، وكذلك أيضا الكفارة تكون في قتل الخطأ، فإذا قتل خطأ فإنه تجب عليه الدية، وأما قتل العمد فإنه لا كفارة فيه؛ لأن من قتل عمدا فقد صار الحق لأولياء المقتول، فإما أن يقتلوه، وإما أن يقبلوا بالدية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد -يعني: يأخذ بالقصاص- وإما أن يودى -يعني: يأخذ الدية) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حال العفو عن القاتل بالكفارة، والصحيح من مذهب العلماء رحمهم الله: أن قتل العمد عقوبته القصاص، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وفي كتاب الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، فإذا عفا المؤمن عن أخيه القاتل وسامحه، فقد سقط الحق في هذه الحالة، إن سامحه لبدل فحقه أن يأخذ الدية، وإن سامحه لغير بدل فقد عظم أجره وثقل ميزانه، والله عز وجل مثيبه على ذلك، حتى قال بعض العلماء: من فك الرقبة كان له أجر ما يكون فيها من صلاح وعبادة إذا بقيت، يعني: جميع ما يكون منها من طاعة وخير وبر، فهو في ميزان حسنات الذي عفا، وهذا يشمل كل من يتسبب في إنقاذ الأرواح، أو يكون مثل الأطباء ونحوهم، ويتسبب في إنقاذ إنسان من الهلاك، ناويا أن يبقى فيعمر حياته بطاعة الله ومرضاته.
فإذا تنازل عن حقه وعفا، فقد سقط الحق كله، ومن هنا قالوا: لا كفارة في قتل العمد.
أوجه الكفارة وشروط وجوبها
هذا الفصل بين المصنف رحمه الله فيه وجوه الكفارة: بقوله: (من قتل نفسا محرمة) .
من قتل نفسا محرمة -فخرج بذلك من قتل نفسا غير محرمة- مثلما يقع بين العدو وعدوه، فقد تقع عداوة وخصومة بين اثنين من المسلمين، فيقتل أحدهما الآخر، هذا ظاهره العموم، فيشمل العمد.
أو يقتلها خطأ مثل أن يدوسه بسيارته، فيقتل نفسا محرمة، إذا يشترط أن تكون نفسا معصومة، سواء كانت هذه النفس صغيرة، أو كبيرة، يعني: لو قتل طفلا صغيرا، فإنه تجب عليه الكفارة، كما لو قتل كبيرا، ولو قتل أنثى وجبت عليه الكفارة، كما لو قتل ذكرا.
فإذا لابد أن تكون النفس محرمة، وعلى هذا قالوا: لو ضرب امرأة حاملا خطأ، فألقت جنينها ميتا، وعلمت حياته قبل الضرب، قالوا: إن هذا عليه كفارة القتل، أو طبيب أعطاها دواء فأخطأ فأسقطت الجنين، فخرج ميتا، فإنه يجب عليه كفارة، أو أعطى دواء لصغير قريب الولادة، فكان سببا في موته خطأ، فإنه يجب عليه أن يكفر.
قال: (محرمة) بناء على ذلك يرد
السؤال لو أنه قتل نفسا مباحة القتل، مثلا الآن: وجب القصاص على قاتل، فجاء السياف وضرب عنق القاتل، فالسياف قاتل، لكنه قاتل لنفس يباح قتلها، فلا تجب عليه الكفارة.
إذا يشترط أن تكون النفس محرمة، كذلك أيضا لو أن شخصا كان في بيته، فهجم عليه شخص معه سلاحه يريد أن يقتله، أو يريد أن ينتهك عرضه والعياذ بالله! أو يريد أن يأخذ ماله، فقال بعض العلماء: بمشروعية المقاتلة؛ وذلك لقوله كما في الحديث: (يارسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد) ، فجعل من ذب عن عرضه، وعن نفسه، وعن ماله شهيدا، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) ، ففي هذه الحالة، لو أنه كان في بيته فهجم عليه شخص صائل، وحاول أن يدفعه بالموعظة فلم يندفع، وحاول أن يذكره بالله فلم يتذكر، أو لم يسع الوقت أن يذكره، كأن جاء شاهرا سلاحه، وعلم أنه إذا لم يقتله سيقتله، أو أنه يريد أن يقتل قريبه، أو زوجه، وكان هو متخفيا ومعه سلاحه، فعلم أنه لو تأخر سيقتله.
والشرط في دفع الصائل: هو أن لا وسيلة لدفع شره من اعتدائه على العرض بالزنا مثلا إلا بقتله، فإنه يكون هدر الدم، ففي هذه الحالة لو أطلق عليه النار وقتله، وكان مستوفي الشروط، فإنه حينئذ تكون نفسا يباح قتلها؛ لأنه باعتدائه على عرضه، وصولانه على أعراض المسلمين بدون حق، أهدر حقه وأسقطه، فإذا قتله فقد قتل نفسا مباحة القتل، بهذا الوجه، كذلك أيضا البغاة الذين يبغون، ويخرجون على إمام المسلمين، فلو قاتلهم شخص فقتل منهم، فلا يجب عليه القصاص ولا الدية.
إذا يشترط في وجوب كفارة القتل الخطأ: أن تكون النفس المقتولة معصومة محرمة، وعلى هذا لو كان حربيا، لو كان باغيا، لو كان صائلا، لو كان مباح الدم؛ بأن قتل فقتل بالدم الذي قتله، أو كان محصنا فتأول قتله، فإنه لا تجب عليه الكفارة.
قوله: (خطأ) مفهومه أنه لو قتله عمدا فلا كفارة عليه، وفي قوله: خطأ يلتحق به شبه العمد؛ لأن شبه العمد يجري مجرى الخطأ ويأخذ حكم الخطأ.
قوله: (مباشرة) مثل أن يحمل السلاح ويقتله، كما تقدم معنا في قتل المباشرة.
قوله: [أو تسببا بغير حق] مثلا: ألجأه حتى أدخله في مكان فيه أسد، وقفل عليه الباب، فالذي باشر القتل هو الأسد، أي أن الذي افترسه وقتله هو الأسد، لكن الذي تسبب وأغلق الدار، أو ربطه في حوض، وملأ عليه الحوض بالماء حتى فلتت نفسه، هو ذلك الشخص المتسبب في هذا.
وقد تقدمت معنا صور السببية والمباشرة، وفصلنا فيها، فإن كانت سببية -وهذا في العمد- فالشافعية عندهم: أن العمد يوجب الكفارة، لكن إن قلنا: إن العمد لا يوجب الكفارة، كيف يكون قتل المباشرة؟ مثلا: أخطأ وظنه كافرا، وأطلق عليه على أنه حربي أو معاد، فقتله، وتبين أنه مسلم فعليه الكفارة، كذلك أيضا في مسألة السببية: أن يتسبب في قتله، مثل الطبيب يخطئ في دواء فيعطيه لمريض خطأ، ويكون هذا الدواء قاتلا، فتناوله المريض، فالذي باشر قتل نفسه هو المريض حينما تناول الدواء؛ لأن الطبيب لم يضع الداء، لكن لو أعطى الطبيب الحقنة للمريض بنفسه فقد باشر، لكن حينما يصف له دواء فقد تسبب، هذا قتل بالسببية، وهو خطأ؛ لأن مقصود الطبيب أن يداوي ويعالج، والظن بالطبيب أنه يريد الخير للمريض، فإذا أخطأ ووقع المكروه من فوات النفس، وجبت عليه الكفارة.
قوله: (فعليه الكفارة) .
أي: تلزم القاتل الكفارة.






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 04:08 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




الأسئلة




حكم الكفارة على من قتل نفسه خطأ

السؤال يقول الشارح: ومن قتل نفسا محرمة، ولو نفسه، فهل تجب الكفارة في ماله؟ ولمن تدفع أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمصنف رحمه الله يقول: (ولو نفسه) يعني: ولو قتل نفسه خطأ، هل ممكن أن يقتل نفسه خطأ؟ ممكن، مثلا: جاء يصلح سلاحه، فثار عليه السلاح وقتله، أو جاء يريد أن يأخذ السكين فحركها فسقطت عليه وقتلته، هذا هو الذي تسبب في قتل نفسه، في هذه الحالة للعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: تجب عليه كفارة نفسه، على هذا القول؛ لو توفي وله مال، أخذنا من ماله قيمة الرقبة، قبل أن نقسم التركة؛ لأنه دين لله عز وجل، نأخذها من ماله ونشتري رقبة ونعتقها كفارة لنفسه؛ لأنه قتلها، قتل هذه النفس، والمصنف قال: (ولو نفسه) لو: إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء يقولون: لا يجب عليه في قتل نفسه، وهذا أظنه أقعد وأقوى، ولذلك لا يجب عليه في قتل نفسه أن يكفر.
والله تعالى أعلم.
حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية
السؤال هل تجب على المأموم قراءة الفاتحة، مع الدليل، وبيان قول المخالفين في ذلك؟ وإذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في سكتة الإمام فهل يقرؤها والإمام يقرأ؟ وماذا عن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال على التفصيل، وقولان من حيث الإجمال: القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية وراء الإمام، وهذا هو مذهب الشافعية، وطائفة من أصحاب الحديث رحمهم الله.
واستدلوا بأدلة منها: أولا: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ... ) والقاعدة في الأصول: أن أي من صيغ العموم، تقول: أيما رجل، أيما امرأة، هذا من صيغ العموم.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ما قال: إلا إذا كان مأموما.
ثالثا: ورود الدليل النصي في موضع النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى وارتج عليه، قال: (إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!) لأن المسألة في أول الإسلام- فكانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة بعد الفاتحة، قرءوا معه، فكان إذا قرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1] وهو إمام، يقرءون هم: {إنا أعطيناك الكوثر} فقال: (إنكم تقرءون ورائي قالوا: نعم.
قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) هذا نص صريح واضح على أن فاتحة الكتاب مستثناة.
القول الثاني: الذين قالوا: إنه لا يقرأ وراء الإمام احتجوا بحديث جابر، وغيره رضي الله عن الجميع وفيه: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) : أولا: هذا الحديث من حيث السند أضعف، ومختلف في ثبوته، وبين العلماء نزاع طويل في حديث:) من كان له إمام) وغاية ما فيه أنه حسن لغيره عند بعض العلماء بالشواهد، ولعل القول بأنه حسن لا يرتقي إلى معارضة الصحيح الصريح؛ لأن قوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وهذا من أقوى المتون.
ثانيا: هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث حسن، هذا من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) : القراءة تحتمل أمرين: الأمر الأول: تحتمل كل شيء يقرؤه الإمام.
الأمر الثاني: تحتمل ما بعد الفاتحة؛ لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معتقدين فيه بالإمام، ولابد أن نفهم الأحاديث كما فهمها الصحابة، لا على فهمنا الآن، وهذا أمر مهم جدا يفيد طالب العلم، لأن البعض يتصور الأحاديث الآن ويحملها على صور معينة محدودة، مع أن الأحاديث في زمان التشريع لها أوجه، ومن هنا: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) كانوا يقرءون وراء الإمام، فماذا قال لهم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) ، فقراءة فاتحة الكتاب مأخوذة من هذا الحديث، وهذا الحديث يفسر ذلك الحديث.
أولا: نقول: إن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام ... ) من ناحية السند أضعف من حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .
ثانيا: من ناحية المتن، نقول: احتمل معنيين: معنى العموم، ومعنى الخصوص، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) عام، نخصصه بحديث: (إلا بفاتحة الكتاب) ، وتخصيص العموم واضح ومعروف، أو نقول: إنه محمول على قراءة غير الفاتحة، حينئذ لا إشكال؛ لأنه خرج عن موضع النزاع، وموضع النزاع في الفاتحة لا فيما بعد الفاتحة، هذا بالنسبة للذين قالوا: لا يقرأ وراء الإمام.
أما آية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] هذه الآية الكريمة لا تعارض ما نحن فيه؛ لأن الآية غاية ما فيها وجوب الاستماع للقرآن عند الإمكان، ولذلك لو أخذت بعموم هذه الآية: كأن خرجت إلى السوق وسمعت شخصا يقرأ القرآن، أيجب عليك أن تستمع له؟ لا يجب عليك؛ لأن المراد بها الفضل في قوله: {لعلكم ترحمون} أي: من أجل أن ترحموا، وبالإجماع عند العلماء رحمهم الله: أن من مر على قارئ قرآن لا يجب عليه أن يجلس ويستمع لقراءته، بل هو مخير إن أراد الرحمة جلس، وإن أراد الانصراف انصرف، وقد نزلت في الصلاة, والمراد بهذا: {فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أي: أنصتوا للقرآن، وهذا أعم من موضع النزاع؛ لأن عندنا أحاديث مستثناة خاصة، فغاية ما تقول في الآية: إنها متعارضة مع الحديث، وهذا القول لا يسلم به؛ لأنه في اعتراضات واردة، لكن لو سلم أن هذه الآية تعارض الحديث، وأنها في الصلاة، نقول: الحديث دل على ركنية الفاتحة، حتى الذين قالوا بالاستثناء؛ فإنهم يسلمون أنها ركن، إلا الحنفية رحمهم الله، فإذا كان يسلم أنها ركن، فالحديث الذي أثبت وجوب قراءة القرآن في الركنيات، وآية: {فاستمعوا له وأنصتوا} غاية ما فيها أنها في الواجبات التي هي ليست أصلا في الصلاة؛ لأن هناك واجبات من أصول الصلاة، مثل: التسبيح، والتحميد، وأذكار الصلاة، وواجبات ملحقة بأصول الصلاة، ليست هي أصلا في الصلاة، بدليل أنها لا تجب إلا في القراءة الجهرية، دون غيرها، فليست من الواجبات المؤصلة، إنما من الواجبات العارضة، وواجبات العوارض لا تعارض واجبات أصول الصلاة؛ لأن الفاتحة واجبة في الصلاة، ثم كيف تعارض ما هو ركن في الصلاة؟! حتى لو سلم أنها من واجبات الصلاة، وأنها داخلة في واجبات الصلاة، والفقه أن تعرف دلالة كل دليل، ومنزلة هذا الدليل، هل في أصول الصلاة، أو هو ملحق بالصلاة؟ وبناء على ذلك نقول: إن هذه الآية الكريمة لا يمكن بحال أن ننزلها منزلة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) الذي هو نص في موضع النزاع.
ثم نقول: إن حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وآية: {فاستمعوا له وأنصتوا} يمكن الجمع بينهما: فليقرأ الفاتحة، ويسمع القرآن، أليس عند قراءة الفاتحة يستمع للإمام، وحصل امتثال للأمر فيما هو في الإمكان؟! فجاءه عذره الشرعي، فقرأ القرآن واشتغل بما هو ركن عن واجب، وعندنا نظائر في الشريعة في الاشتغال بالأركان عن الواجبات، وبالواجبات الأهم عن الواجبات المهمة، وبناء على ذلك نقول: إننا نقدم الأقوى، والقول بوجوبها على المأموم من هذه الأوجه كلها أقوى وأحرى، ويدل على ذلك فعل السلف: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعترض عليه بهذه الآية، وقال المعترض: إن الإمام يقرأ، فقال له: إقرأها في نفسك يا فارسي! من شدة تشديده على هذا الأمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: اقرأها في نفسك، فإذا قرأها في نفسه فقد اشتغل بواجب في حظ نفسه، وحرص على إتمام ما فرض الله عز وجل عليه إتمامه.
والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق بركعة في الرباعية مع قيام الإمام للخامسة سهوا
السؤال صليت مسبوقا بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته، وصلى خمسا، فماذا علي؟ هل أسلم معه أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقا بها أثابكم الله؟!

الجواب إذا صلى الإمام ركعة زائدة، عذر بالسهو في قيامه، لكن يسبح له المأمومون، فإن أصر على أنه بقيت ركعة، فمن ناحية شرعية يتعبد الله الإمام باعتقاده، والمأمومون يتعبدون الله باعتقادهم؛ فمن كان قد صلى أربع ركعات لا يقوم وراء الإمام إذا علم أنه في الخامسة، وإذا قام المأموم بطلت صلاته؛ لأنه قام إلى شيء زائد، وزاد ركنا في الصلاة عالما متعمدا، فتبطل صلاته.
لكن لو كان مسبوقا بركعة جاز له أن يتابع الإمام؛ لأن ركعة الإمام في حق نفسه صحيحة، وغاية الأمر أنه مفترض يتأسى بمتنفل، وحينئذ تسلم مع الإمام، ثم إذا سجد الإمام سجود السهو، سجدت معه، كمن لم يدرك سهو الإمام؛ فإنك تسجد لمكان المتابعة، فصلاتك تامة، وصلاة الإمام مجبورة.
والله تعالى أعلم.

معنى قوله: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة)

السؤال ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة) أثابكم الله؟

الجواب ( خير النساء بركة أيسرهن مئونة) : يعني: أن المرأة إذا تزوجها زوجها، فخففت في مهرها، وخففت في وليمة عرسها، وخففت في تكاليف زواجها، وضع الله البركة في ذلك النكاح، وهذا مجرب، وقد أخبرنا الثقاة: أنهم تزوجوا فبالغوا في زواجهم، فما مكثوا إلا مدة وجيزة، ثم تزوجوا وخففوا قليلا فلم يمكثوا إلا مدة أطول قليلا من التي قبلها، حتى تركوا البذخ والإسراف فتزوجوا بيسر الحال، وبقيت الزوجة الأخيرة معه مدة طويلة، ولذلك يقول لي شخص: تزوجت ودفعت قرابة ثلاثمائة ألف، قال: والله ما مكثت معها إلا شهرا ونصفا، أو قرابة شهرين، قال: ثم تزوجت الثانية: بحوالي مائتي ألف -وكان ثريا عنده مال- فمكثت معي ستة أشهر، ثم تزوجت الثالثة، ويسر الله عز وجل أن تزوجت من رجل صالح، وكانت مئونة الزواج بجميع ما فيه قرابة ستين ألفا، قال: هي الآن أم أولادي، والآن لي بلغت سبع سنوات وأنا معها، فخير النساء أيسرهن مئونة، وهذا ليس في النكاح فقط، كل من يسر على المسلمين، وأخذ الأمور بالسماحة واليسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، وأي أمر من الأمور الآن تشاهده وتجده مبنيا على السماحة واليسر، إلا وضع الله فيه البركة، ووضع الله فيه الخير؛ لأن الله يحب التيسير على عباده؛ لأنها من الرحمة، والراحمون يرحمهم الله.
والله تعالى أعلم.

حكم من صرف مالا ولم يعطه الصراف كل المال

السؤال كان عندي مبلغ من المال، فأردت أن أصرفه، فذهبت إلى الصراف، فأعطاني جزءا من المبلغ، وقال لي: تعال غدا؛ لأنه ليس لدي الباقي.
فهل هذا ربا؟

الجواب إذا لم يكن هذا هو الربا، فما هو الربا؟ هذا ربا نسيئة، وإذا قال لك الصراف: تأتي بعد عشر دقائق، أو تعال بعد خمس دقائق، فقد افترقت ولم تأخذ حقك من الصراف، وهذا عين الربا، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن يفارقك وبينكما شيء) يدا بيد، تصرف عشرة ريالات، وتأخذ عشرة ريالات حديد يدا بيد، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد، فلعنة الله على من أخذ وأعطى، فهذا عين الربا، فإذا قال شخص: هذا ورق، وهذا حديد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، نقول: لماذا تزكي الورق والحديد؟ لماذا يقال له: نصف ريال؟ ولماذا يقال له: ربع ريال؟ ولذلك هذه رصيدها فضة، فإذا صرفها ورقا، أو حديدا، ناقصة بزائد؛ فاللعنة على الآخذ والمعطي، ولو لم يكن ربا لكان من أكل المال بالباطل؛ لأنه بأي حق يأخذ الواحد عشرة من أخيه المسلم، ويعطيه تسعة، واليوم يصرفون بتسعة، وغدا سيصرفون بخمسة، يقولون: والله عندنا فتوى أنه لا بأس في ذلك، لي الحق أن أصرف بأربعة، من يمنعني؟ وقد قيل: بيعوا كيف شئتم، وحينئذ يتسلط الأغنياء على الفقراء؛ لأن السيولة موجودة عند الأغنياء غالبا، وما الذي جعل الشريعة تحرم الربا في القروض؟ لأن الغني الذي عنده رأس مال يعطي الناس قروضا، وتأتيه الأموال زائدة بالقرض ويصبح غنيا، الآن يفتح له مكتب صرافة، ويصرف العشرة بتسعة، وبعد شهر ما شاء الله يغتني، على حساب من؟ على كد الفقراء وضعفهم، تصرف من راتبك خمسمائة ريال، إذا جئت تصرف الخمسمائة تصرفها بنقص، ثم تصرفها مئات بنقص، ثم تصرفها بخمسينات بنقص، ثم تصرفها عشرات بنقص، لو لم يحرم من جهة الربا، لحرم من جهة أكل أموال الناس بالباطل، لابد أن نعي الأمور، ليس المسألة أن الإنسان يبحث عن مخرج، ثم يأتي الشخص وينشر هذه الفتوى ويعلقها، وما شاء الله! من الحق الواضح، ينبغي علينا أن نتورع وننتبه، وأن لا ننظر إذا كان الناس يفعلون هذا الأمر نقوم ونبحث لهم عن مسوغ شرعي، علينا أن نزن الأمور بموازين الشريعة، وأن ننظر إلى الأصول العامة، وإلى القواعد العامة، وأن نعرف أين هذا الأمر؟ أمر الربا أمر عظيم، فهذا هو الربا الذي حرمه الله ورسوله: (ولا يحل لكما أن تفترقا وبينكما شيء) يجب التقابض، ويجب التماثل، يدا بيد، ومثلا بمثل، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نصيحة لمن سئم مذاكرة العلم ومدارسته
السؤال ما نصيحتكم لطلبة العلم الذين سئموا المذاكرة، وأصبحت قلوبهم فيها قسوة؟ وما علاج هذه القسوة أثابكم الله؟
الجواب الله المستعان! هل أحد يسأم من العلم؟! يا أخي! والله لو تعلم مقدار نعمة الله عليك، وأنت جالس في مجلس واحد من مجالس العلم، لجثوت على ركبتيك، ولخررت ساجدا لربك حامدا لنعمته وفضله عليك، أي نعمة أنت فيها! وأنت تذاكر قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ إن لم يكن أهل العلم في جنة فلا أدري من هو الذي في الجنة؟
حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن قراءة القرآن
السؤال أنا أصلي خلف إمام مسجد الحي، وهو لا يجيد قراءة القرآن! هل يجوز أن أصلي في مسجد آخر في نفس الحي؟ وما حكم صلاة المصلين الذين يصلون خلفه أثابكم الله؟
الجواب قولك: لا يجيد قراءة القرآن، فيه وجهان: الوجه الأول: أن يكون مرادك أنه يخطئ في قراءة القرآن خطأ مؤثرا، والخطأ المؤثر عند العلماء: أن يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى، أو يبدل حرفا مكان حرف، فهذا هو الذي يسميه العلماء: الأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، فهذا لا تصح صلاته إلا بمن هو مثله أو دونه، أما إذا كان الإنسان الذي يصلي خلفه يضبط الفاتحة، فلا يصلي وراء مثل هذا، ولا يجوز تقديم أمثال هؤلاء الجهلة الذين يخطئون في قراءة الفاتحة خطأ يحيل المعنى، أو لا يتقنون إخراج الحروف على الوجه المعتبر الذي يحصل به الإجزاء، ففي هذه الحالة لا تصل معه، وينبغي نصح هذا وتعليمه، وإذا صليت وراءه تصحح له الخطأ، وتفتح عليه في خطئه، ولو امتنع تردد عليه حتى يرجع عن خطئه، فلا تصح صلاة الأمي إلا بمن هو مثله أو دونه.
الوجه الثاني: أن يكون قولك: لا يجيد القرآن: يعني: لا يحسن بعض الأحكام المتعلقة بالتجويد، فتحصل عنده بعض الأخطاء في القراءة، فإذا كان هذا في القراءة من مراعاة أحكام التجويد، فالأمر أخف، إذا كان لا يحسن هذا لا يحكم ببطلان الصلاة، لكن يعلم وينبه على أنه ينبغي عليه إتقان هذه الأشياء، إلا إذا كانت قراءته قراءة سرد وحدر، وخفف فيها في بعض الأحكام، هذا شيء آخر، لكن الظاهر أن سؤالك أنه ليس من هذا النوع.
على كل حال: إذا كان من النوع الثاني، فالذي أراه أن تصلي معه، وتحرص على تقويمه، وإعطاء ملاحظتك له بين الفينة والأخرى، فلعل الله أن يقومه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة، وعليهم خطؤهم، هذا إذا كان الخطأ لا يحيل المعنى، وليس بذاك الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة، لكنه آثم، هذا الإمام إذا أمكن أن يضبط أحكام التجويد ويتعلمها لكنه لم يتعلمها، فإنه آثم شرعا؛ لأن تجويد القرآن واجب، والقرآن ينبغي أن يقرأ كما نزل، وأما قول البعض: إن التجويد بدعة، فقوله رد عليه؛ لأن أئمة الإسلام، ودواوين العلم كلهم على إثبات هذه القراءة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المرد فيها إلى أهل العلم بالقراءة، ولذلك فالتجويد لازم، فمعنى قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل:4] أي: رتله كما نزل، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما نزل فليقرأه ... ) الحديث، فقال: غضا طريا كما نزل، وهذا يدل على أن التلقي عمن روى موجب ومتبع، ومن هنا قال العلماء: القراءة سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، فالأصل في هذا: أن هذا التجويد واجب، ولا يجوز الإخلال به، وعليه ضبطه وإتقانه، فإن قال قائل: إنه لا دليل على هذا، نقول له: أنت الآن تقول: {الم} [البقرة:1] ما الدليل على أنك تقول: ألف لام ميم؟ لماذا لم تقل: ألم، وهي مكتوبة: ألم، من الذي قال لك: إنها تقرأ: ألف لام ميم، وكذلك: {كهيعص} [مريم:1] تقرأها: كهيعص ما يمكن هذا.
لو قال شخص: إن زيادة الحرف في القرآن باعتقاد أنه من القرآن، وهو ليس من القرآن موجب للكفر، ونقص حرف من كتاب الله، وباعتقاد أنه من كتاب الله موجب للكفر، فهو يقول: {يا بني اركب معنا} [هود:42] لا ينطق بالباء، وهي قراءة حفص، لماذا تسقط حرفا من كتاب الله؟ لو جاء وقال: يا بني اركب معنا، خالف الأصل في الرواية؛ لأن هذه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تقرأ على هذا الوجه.
إذا من أين الدليل على هذه الأشياء؟ نقول: الدليل على هذه الأشياء: الرواية عن أئمة القراءة، يقول شيخ الإسلام: كل أهل علم يرجع إليهم فيه، وكل أهل فن يرجع إليهم فيه، هذا الذي أمرنا الله عز وجل أن ننزل الناس منازلهم، ونأخذ عنهم العلم، فالذين يقولون: إن التجويد بدعة، هؤلاء لا يفقهون، ولا يعرفون ما كان عليه سلف الأمة، ولو كان بدعة والله ما بقي يوما واحدا بين أئمة الإسلام، وما كانوا ليجاملوا في أعظم شيء وهو القرآن، ما شاء الله! الأمة أربعة عشر قرنا ساكتة عن هذه البدعة، وتسكت عن أئمة القراء يعلمون الناس البدع! هذا أمر ما ينبغي، إذا كان الإنسان يجهل التجويد، أو على وجه لا يحسن به التجويد، لا يأتي يهين هذه القراءة النبوية المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي جثا فيها أئمة الإسلام جيلا بعد جيل ورعيلا بعد رعيل في مجالس العلم يتلقون فيها ويكافحون ويكابدون من أجلها، فالتجويد سنة متبعة، ولذلك ينبغي الأخذ به، والأصل: أن الله عز وجل أمرنا بترتيل كتابه على الوجه الذي نزل، وقال سبحانه: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] وإبانة القرآن: إفصاحه، وإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها دون تغيير ولا تبديل، فالمقصود من هذا أنه يجب عليه أن يتعلم هذه الأحكام، وأن يلم بها؛ حتى يؤدي للقرآن حقه وحقوقه.
والله تعالى أعلم.
عدم جواز إخراج المصاحف الموقومة وغيرها من المساجد
السؤال لا يخفى على فضيلتكم ما لكتاب الله عز وجل من تأثير في النفوس، كما لا يخفى الأجر العظيم المترتب على تلاوته، وحفظه، وتدبره، وحيث أن كثيرا من أبناء العالم الإسلامي حرم هذا الأجر بسبب عدم تملكه لكتاب الله، ولضيق ذات اليد، وحيث إنه توجد أعداد كثيرة من نسخ المصحف في المساجد، وهي في حالة جيدة موضوعة في المستودعات، وعدم الحاجة إليها، مما يعرضها للتلف، والامتهان، إضافة إلى عدم الاستفادة منها، حيث أن المساجد تستقبل سنويا أعدادا جديدة من المصاحف، مما يجعل القديمة التي في حالة جيدة لا يستفاد منها، لذا اقترح بعض منسوبي بعض الجمعيات الخيرية، والتي لها نشاط واسع في أنحاء العالم، وخاصة العالم الإسلامي: مخاطبة أئمة المساجد بأخذ تلك المصاحف الموجودة في المستودعات، والتي غالبها من طبعة المجمع، ولا يحتاج لها، وإرسالها مع الدعاة إلى تلك المناطق الخارجية؛ لتوزيعها على المسلمين هناك مجانا للاستفادة منها، لذا نأمل منكم إيضاح الحكم الشرعي في هذه المسألة أثابكم الله؟
الجواب أولا: حقيقة هذه الطبعة-طبعة المجمع- من يعرف حال الطبعات قبل عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، يعلم أنه من أجل نعم الله، وأعظم نعم الله عز وجل في حفظه لكتابه وجود هذه الطبعة، هذه الطبعة التي نعرف من العلماء والأئمة الذين قاموا على تحريرها وضبطها، ممن شهد لهم في العالم الإسلامي من أئمة القراءة، ومن علماء الأزهر، ومشايخ الأزهر القدماء، الذين نعرفهم بالصلاح والاستقامة والضبط والتحرير، وبلوغ الإمامة في هذا الشأن، وغيرهم من العلماء الفضلاء، رحم الله أمواتهم! وأحسن الخاتمة لأحيائهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، هذه الطبعة: الحقيقة كنا في الحرم النبوي نجلس فتأتي طبعات من مختلف العالم الإسلامي، بعضها القرآن فيها محرف، يعني: اطلعنا على بعض طبعات محرفة، والكلام محرف، والآيات فيها سقط، وفيها تحريف، فنعمة عظيمة من الله عز وجل وجود هذه الطبعة، نسأل الله أن يعظم الأجر والمثوبة لمن كان سببا فيها؛ لأنها حقيقة أغنت العالم عن كثير من الغثاء، وعن الدخل الذي ضر المسلمين في كتاب الله، وأن الله تكفل بكتابه.
المسألة الثانية: مسألة المصاحف الموجودة في المساجد لا يجوز إخراجها من المسجد، هذا أول شيء.
والأصل أنه إذا وضع في مكان، هذا يسمونه: دلالة الفعل على خصوص الحبس، والوقف هو الحبس.
أولا: الوقف إذا وضع في مكان، كأن يضع فراشا في مسجد، نفهم من هذا الفعل أنه قصد وقفه على هذا المسجد، ولو لم يتلفظ بلسانه، فيصبح وقفا على هذا المسجد إلى أن يتلف بالكلية، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد، حتى ولو كانت قديمة، وهذا للأسف يتساهل فيه البعض، والذين أوقفوا مصاحف للمساجد، فهم يرجون الأجر والمثوبة، وفيهم أموات أوقفوا هذه المصاحف، وهذه البسط، وهذه الأجهزة، لا يجوز لأحد أن يقدم على التغيير، أو التبديل بها إلا بوجه شرعي، هذا أمر مقرر عند العلماء في الوقف.
ثانيا: حينما يقول الإنسان: أوقفت هذا، أو سبلت هذا، فقد أخرجه من ملكيته لله عز وجل، ما يستطيع أحد أن يتولى النظر فيه؛ لأنه أصبح وقفا لوجه الله عز وجل، مسبل المنافع، فلا يجوز العبث بالأشياء الموجودة في المساجد والاجتهاد فيها، إلا ممن له الشأن في ذلك، هذه المصاحف تكتبون في شأنها إلى جهات الأوقاف، هناك جهات معنية بهذا الشيء، مفوض إليها النظر في هذا الشيء، هي التي تتحمل المسئولية، أما أن يأتي كل شخص ويجمع المصاحف من المساجد ويخرجها ويرسلها إلى الخارج فلا! هذا اجتهاد باطل مردود؛ لأن هناك ضوابط شرعية.
هذا وقف مسبل على هذا المسجد، فلا يجوز إخراجه.
نعم هناك أماكن تحتاج إلى مصاحف، ليس معنى هذا أنها ما تحتاج، بل هناك حاجة وهناك فاقة، بإمكانك أن تكلم الأغنياء أن يشتروا نسخا وطبعات وترسل بها إليهم.
هناك جمعيات جزاهم الله كل خير، يعتنون بهذا الأمر، لكن ليس من حق الإنسان أن يأتي إلى طبعة موقوفة في المسجد، ويخرجها من هذا المسجد، هذا أمر لا إشكال فيه، من جهة الوقفية هناك أمور: الأمر الأول: أن من سبل أو حبس، فإنه لا يجوز لأحد أن يخرج حبسه عن مكانه إلا بوجه شرعي، ولذلك قالوا: إن الأوقاف لا تباع إلا بقضاء من القاضي؛ لأنه ليس لها ولاية، فتحتاج إلى الولاية العامة من القاضي؛ حتى يحكم ببيعها وصحة التصرف فيها.
الأمر الثاني: لا يجوز لأحد أن يأتي والمصاحف موجودة في المسجد، ويدخل مصاحف جديدة، مادام المسجد مستكفيا، ولذلك مادام أن المسجد مستكف، فاذهب بالمصاحف إلى مسجد آخر، وبدلا من أن تخرج المصاحف القديمة التي أوقفها أصحابها فبقاؤها أولى وأسبق، خذ الأشياء الجديدة وقل لهم: أرسلوها إلى من هو أحوج، أما من سبق فهو أحق، ولذلك لا ينبغي إخراج حتى الفراش، لو أن شخصا فرش مسجدا، وفتح هذا الباب، لأتى شخص وقال: والله هذا الفراش ما يعجبني، فيأتي بفراش آخر، والثاني يقول: وأنا أيضا هذا الفراش ما يعجبني، أبغي الأجر والمثوبة، ولما انتهى هذا الأمر، ولذلك الأصل أن من سبق فهو أحق، ونقول لمن لحق: ابحث عمن هو أحوج، واجعلها له، إن شئت أن توقف مصاحف، أو أن توقف أجهزة، أو أن توقف أشياء أخر، فالأصل أنه ليس من صلاحية الإمام ولا غيره النظر في هذه الأشياء، إنما توكل إلى من هو معني بهذا الأمر، تكتبون إليه، ثم يجتهد في هذا الأمر بما فيه المصلحة، نسأل الله التوفيق لذلك! أحب أن أنبه إلى ما يعانيه إخوانكم في فلسطين من الكرب العظيم، والبلاء العظيم الذي نزل بهم، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعجل بالفرج لنا ولهم وللمسلمين، وتعلمون كما لا يخفى على الجميع تكالب أعداء الإسلام عليهم، وما فعله اليهود بهم، الأمر الذي يحتم على المسلم أن يكون مع إخوانه، كما بين الله عز وجل في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك أقول: على كل مسلم أن يقدم ما يستطيع تقديمه لإخوانه، ومن أعظم ما تنصرون به إخوانكم كثرة الدعاء، فإن الدعوة فيها خير عظيم، ولعل دعوة منك تفتح لها أبواب السماوات، تفرج بها كربات المؤمنين والمؤمنات، ترفع بها إلى عالي الدرجات، وتعظم لك فيها الحسنات في الدنيا والآخرة، فاجتهدوا -رحمكم الله- في الدعاء لإخوانكم، وتصوروا كربهم حينما يقتل شيوخهم، وترمل نساؤهم، وييتم أطفالهم، وهم إخوانك في الدين والعقيدة، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله، وصدقوا رسله، فالمسألة مسألة إيمان وعقيدة، فعلى المسلم أن يجتهد في الدعاء لهم بين الأذان والإقامة، وفي السجود في الأسحار، في مظان الإجابة، عند خشوعه، وحضور قلبه، يجتهد في الدعاء لإخوانه المسلمين.
فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، اللهم!! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يكشف البلاء! ويزيل العناء! يا فاطر الأرض والسماء! لا إله إلا أنت، نسألك اللهم!! أن تجعل لإخواننا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم!! داو جرحاهم، واشف مرضاهم، وتقبل شهداءهم، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، واجمع شملهم، وأصلح ذات بينهم، يا حي يا قيوم! اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم! بارك أقواتهم، اللهم! بارك أرزاقهم وأقواتهم يا حي يا قيوم! اللهم! أنزل عليهم من الثبات والصبر أضعاف ما أنزلت عليهم من البلاء، اللهم! إن اليهود قد طغوا، وبغوا، وأسرفوا، وأرجفوا، اللهم! جبار السماوات والأرض لا إله إلا أنت، يا من يسمع الدعاء! ويكشف البلاء! يا فاطر الأرض والسماء! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تزلزل عروشهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم! اسلبهم عافيتهم، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجزك ولعنتك، إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! شتت شملهم، وشمل من شايعهم، وظاهرهم، وأعانهم، ورضي أفعالهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! شتت أمورهم، يا حي يا قيوم! اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، عجل لنا ولإخواننا بالفرج، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.








ابوالوليد المسلم 23-10-2025 04:15 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (512)

صـــــ(1) إلى صــ(16)






شرح زاد المستقنع - باب القسامة [1]
كانت القسامة مما يعمل به العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرها وهذبها وجعل لها شروطا، فهي لا تكون في أموال أو عروض أو غيرها، وإنما تكون في القتل والدماء.
والأيمان في القسامة إما أن تكون أيمان إثبات من أولياء الدم، وإما أن تكون أيمان نفي من أولياء المدعى عليه.
مقدمة في القسامة وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسامة] .
تعريف القسامة ومشروعيتها
القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة.
والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولا: أننا لا نقتل أحدا إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمدا عدوانا، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء.
ثانيا: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلانا قتل فلانا، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظا ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص.
إذا: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلانا؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلانا قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحا يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص.
لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبدا، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئا مخالفا للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني) ، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته.
إلخ.
الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك) ، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك) ، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كل منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط.
ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها.
فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف.
إذا: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب: احضروا خمسين رجلا منكم يحلفون خمسين يمينا ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلا إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيمانا فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية.
ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذبا إثباتا أو نفيا، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبدا؛ لأنه يثبت أن فلانا قتل، فيقتل هذا المسكين ظلما، ومن هنا صار أمرها عظيما، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجرا، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم.
ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.
حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة
هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولا قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا.
إذا: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر.
كذلك من اللوث أيضا قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفوا، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضا لوث.
إذا: عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلا: وجدنا شخصا مقتولا ملطخا بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم.
وبناء على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضا لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة.
وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته) ، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يمينا، فيقتل به قصاصا.
ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلانا كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضا: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث.
قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله.
!) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوم أخلاقهم، وقوم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يمينا؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلانا قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة.
فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا) ، فدل على فائدة وهي: أولا: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلانا قتل فلانا، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلان بن فلان، فإذا كانوا خمسين رجلا فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يمينا) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يمينا على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي.
قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود) ، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!) ، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناء على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلا: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعا للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقنا لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام.
ومن هنا حدثت القضية لـ عمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: ال
مناسبة ذكر باب القسامة بعد كتاب الجنايات والقتل والديات
قوله رحمه الله: [باب القسامة] .
أيك في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بباب القسامة.
وكأن باب القسامة مرتب على باب القتل، فبعد أن بين لنا متى يكون القتل قتل عمد وقتل شبه عمد وقتل خطأ، وبين أحوال القتل ومن يقتص منه ومن لا يقتص منه، ثم تكلم على الجناية على الأطراف؛ شرع في باب القسامة؛ لأن إثبات الشيء أو طلب الإثبات -كما يسمى في القضاء- لا يكون إلا بعد وجود الجريمة، فلا نطالب بإثبات شيء غير ثابت في الأصل لا تتقدمه دعوى، فعلى هذا لابد أول شيء أن تثبت الجريمة على صفة معتبرة، ثم بعد ذلك يسأل عن إثباتها.
وكان المفروض أن يؤخر باب القسامة إلى باب القضاء؛ لأنه متعلق بالحجج والبينات، ولكن نظرا لأن القسامة لا تكون في شيء غير القتل -وهي خاصة بالقتل- فمن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرون الخاص في بابه الخاص، ويذكرون المتعلق الخاص في بابه، ولا يذكرونه في الأبواب العامة.
وباب الشهادات العام سيأتي الكلام فيه عن ضابط الشهادة عموما في القتل، وفي الحدود والجنايات، وفي الأموال وفي الحقوق ونحوها، ولكن في باب القتل هناك نوع من الإثبات خاص به، من المناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في بابه، ولا يذكره في الباب العام، وعلى هذا يكون ترتيب المصنف ترتيبا منطقيا راعى فيه تسلسل الأفكار، حيث بين القتل والجريمة، ثم بعد ذلك بين ما يتعلق بإثباتها.
يرد الإشكال أن المصنف رحمه الله ذكره بعد باب الجناية على النفس والأطراف، ولا شك أن هذا له عذره فيه، فقد ذكر الجناية على الأطراف لأنها مرتبة على الجناية على النفس؛ ولأنه قسيم مشارك، ثم بعد ذلك ذكر القسامة باختصاصها بهذا الحكم الذي بيناه، وهو متعلق بباب القضاء، فكان الأولى والأجدر أن يؤخر، ومن هنا يكون منهجه منهجا صحيحا راعى فيه ما ذكرناه.
ثم من المعلوم أن القسامة لا تثبت إلا في قتل مخصوص وعلى صفة مخصوصة، ومثل هذا -عند الفقهاء رحمهم الله- يسمى الباب الخاص، ويؤخر عن الأبواب العامة.
قال رحمه الله تعالى: [وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] .
قوله: (وهي) أي: القسامة، فالضمير عائد إليها، وحقيقتها عندنا -معشر الفقهاء- أيمان، وهي جمع يمين، وأصل اليمين: الحلف، والأصل في اليمين القوة، يقال: أخذها باليمين: أي: بقوة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين يعني: بالقوة، ثم تطلق على اليد، وهذا إطلاق حقيقي وليس بمجازي، وكذلك أيضا هنا تطلق على الحلف، وهو القسم، قالوا: سمي القسم يمينا لأنه يقوي جانب المقسم، فالشخص إذا حلف وأقسم قوي جانبه، وضعف جانب مكذبه؛ لأن كل من يخبر عن شيء فهو متردد بين أن يكون صادقا أو يكون كاذبا، أو مخطئا، ومن هنا إذا حلف فإنه يقوي ما يقوله، ويقوى جانبه في الخبر.
وقوله رحمه الله: (أيمان) جمع، وعبر بصيغة الجمع؛ لأن القسامة خمسون يمينا يحلفها أولياء المقتول على الصفة التي سنذكرها، فنظرا لكونها أكثر من واحدة، جمعها رحمه الله، وهذا الإجمال بينته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال -كما في الصحيحين- للمدعين: (تحلفون خمسين يمينا) ، ولذلك قال المصنف: (أيمان) ، والمراد باليمين هنا: اليمين الشرعية المعتد بها، وهي اليمين بالله سبحانه وتعالى.
وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ الأصل ألا تغلظ اليمين إلا إذا دل الدليل على تغليظها، وتغليظ اليمين أن يقول: والله الذي لا إله غيره، أو والله الذي لا إله إلا هو، فإذا أضاف هذا القيد فقال: والله الذي لا إله إلا هو فقد عظم يمينه، وإذا فجر فيها كان فجوره -والعياذ بالله- أعظم وأشد جرأة على الله سبحانه وتعالى مما لو قال: والله، فالأصل فيها أن تكون باليمين المجردة: والله.
وبعضهم يقول: يضيف قوله: والله الذي لا إله إلا هو ما قتلناه، ولا نعلم من قتله.
هذا بالنسبة لمن يدعى عليهم، وهي ما تسمى عند العلماء بيمين النفي.
أقسام القسامة
والقسامة -التي هي الأيمان المكررة- التي ذكرها المصنف، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أيمان إثبات.
والقسم الثاني: أيمان نفي.

أما أيمان الإثبات فتكون من أصحاب الدم، وهم الذين جني عليهم وهم أولياء المقتول، فأيمانهم أيمان إثبات، لابد أن يحددوا القاتل ويصفوه بما يتميز به عن غيره، وإن كان موجودا في مجلس الحكم والقضاء، يقولون: والله إن هذا -ويشيرون إليه- قتل مولينا أو فلان بن فلان.
ويذكرونه بما يتميز به أيضا.
هذه يمين الإثبات.
أما أيمان النفي: فتكون من المدعى عليهم؛ لأن الطرف الثاني وهم المدعى عليهم، إذا امتنع أولياء المقتول من الحلف طالبناهم أن يحلفوا، فيحلفون بالله خمسين يمينا أنهم ما قتلوا ولا يعلمون من قتله، فتكون اليمين على الأمرين، أما اليمين الأولى -وهي يمين الإثبات- فقد أشار إليها عليه الصلاة والسلام بقوله: (تحلفون خمسين يمينا وتستحقون بها دم صاحبكم) وفي اللفظ الآخر أيضا في الصحيح (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، فيدفع إليكم) ، وفي لفظ أحمد (تحلفون خمسين يمينا) أو (تقسمون خمسين يمينا على رجل فيدفع إليكم برمته) هذه كلها أيمان إثبات.
أما أيمان النفي فقوله: (فتبرئكم يهود بخمسين يمينا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم يهود) أي: يحلف المدعى عليهم -وهم الطرف الثاني الذين وقعت فيهم الجريمة، وادعي أنهم هم الذين قاموا بالجريمة، أو فيهم من قام بالجريمة- يحلفون خمسين يمينا.
فقوله رحمه الله: (أيمان) يشتمل على أيمان الإثبات من المدعي، وأيمان النفي من المدعى عليه.
ومن هنا كانت القسامة متضمنة للنوع الثاني من شهادة النفي، فالأصل عند العلماء أن شهادة النفي لا تعتبر حجة إلا في مسائل منها هذه المسألة؛ لأنه يحلف المدعى عليهم أنهم والله ما قتلوه، ولا يعلمون من قتله، أو يحلف الشخص الذي يدعى عليه أنه قتل، يقول: والله ما قتلته، ولا أعلم من قتله.
قوله رحمه الله: (أيمان مكررة) إن كانت من شخص واحد، سواء في الطرف الأول، إذا قلنا: الطرف الأول فهم أولياء المقتول؛ لأنهم هم الذين يبدءون أولا، وإذا قلنا: الطرف الثاني، فهم الذين يدعى أن فيهم القاتل، فأولياء الطرف الأول تكون الأيمان مكررة منهم -طبعا- على صور، منها: ألا يوجد ولي للمقتول إلا شخص واحد، كأن يكون المقتول ليس له إلا ابن، ذكر عاصب، فحينئذ -بالإجماع- تتوجه إليه الأيمان ويحلف الخمسين كاملة.
ومن حيث الأصل هناك من العلماء من قال: لا يقبل فيها أقل من شهادة اثنين، فلا يقبلون شهادة الواحد، كما هو منصوص عليه في بعض المذاهب كمذهب المالكية، لكن وعلى هذا يكون قول الجماهير على أنه يكررها.
وأيضا الصورة الثانية: تكرر الأيمان إذا كان أولياء المقتول -مثلا- ابن وأخ شقيق فبعض العلماء يرى أنها تقسم بالميراث وبعضهم يرى أنها تقسم بالعصبة، فعلى التقسيم بالعصبة يحمل الأخ الشقيق أيضا.
لو توفي في الأيمان المكررة من الوليين مثل ابنين أو أخوين شقيقين، الابنين تقسم اليمين بينهما، فيحلف أحدهما خمسا وعشرين والثاني يحلف خمسا وعشرين، فهي مكررة من هذا الوجه.

شروط القسامة




من شروط القسامة: أن تكون في قتل

قال رحمه الله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] يشترط في هذه الدعوى ألا تقع القسامة حتى يدعي أولياء المجني عليه أنه قد اعتدي على وليهم، وهذه الدعوى لا تكون إلا بالقتل، ولذلك قال: (في قتله) ، فلو أنهم ادعوا أن شخصا قطع يد شخص أو قطع يد فلان من أقربائهم، أو رجله، أو فقأ عينه، فلا تقبل في الجناية على الأطراف، لماذا؟ لأنه في الجناية على الأطراف المجني عليه يتولى الخصومة عن نفسه، وحينئذ لا تكون فيها قسامة، إلا وجه شاذ عند الشافعية، ورده بعض العلماء كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، لكن من حيث الأصل فالقسامة لا تكون إلا في القتل والدماء.
أيضا لا تكون في الأموال، فلو أن شخصا اعتدى على سيارة شخص، أو على بيته، أو على داره، وادعى أولياؤه أن فلانا عدو فلان هو الذي صدم سيارته أو أتلفها، أو أتلف مزرعته، أو أتلف ماله، لا نقول بالقسامة، إذا القسامة لا تكون في دعوى الأموال، ولا تكون في دعوى الجناية على الأطراف.
فهي تختص بالقتل، ويشترط في الدعوى أن تكون مبينة ومحررة، وما يشترط في دعوى القتل من حيث الأصل، ولابد أن تكون الدعوى بالقتل، وهذا شرط.

من شروط القسامة: أن يكون القتل مفسرا

الشرط الثاني: أن يكون القتل مفسرا، يقولون مثلا: قتله قتل عمد، فيبينون هل القتل قتل عمد، أو قتل شبه عمد، أو قتل خطأ، فإذا قالوا: قتل عمد، يقولون: إن فلانا ابن فلان قد قتل ولينا بالسيف، ضربه السيف، أو حز رقبته وطعنه بخنجر، أو أطلق عليه النار، فهذا التفسير لابد منه، فلا تقبل مجملة.

من شروط القسامة: أن تكون الدعوى على مكلف

وكذلك أيضا تكون الدعوى على شخص مكلف، فلا تقبل الدعوى على غير مكلف، فلو ادعوا أن الذي قتله صبي، أو مجنون، فإنه لا تقبل الدعوى على الصبي والمجنون، وجها واحدا عند الأئمة الأربعة رحمهم الله.
وعلى هذا لابد أن تكون هناك دعوى، وأن تكون بالقتل، فلا تقبل في غير الدماء: كالأطراف والجناية على الأعضاء، ولا تقبل في الأموال.
ويشترط في هذا القتل أن يكون لمعصوم، وهو معصوم الدم، وقد تقدم معنا هذا الأصل الشرعي في الاستحقاق للدية وللقصاص، أنه لا تستحق الدية ولا يستحق القصاص إلا إذا كان في قتل معصوم، وبينت الضوابط في ذلك، متى تستحق الدية ومتى يستحق القود والقصاص في قتل معصوم.
وهذه الدعوى لابد أن تكون في مجلس الحكم والقضاء، يأتون إلى القاضي ويدعون، والأصل في هذا -يعني لماذا وصف المصنف رحمه الله بهذا الوصف- لأن الأنصار رضي الله عنهم -وهم قوم عبد الله بن سهل - جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس القضاء والحكم، وادعوا أن اليهود قد قتلوا ابن عمهم، وادعى عبد الرحمن أنهم قد قتلوا أخاهم، وبينا سبب ذلك وهو أن عبد الرحمن أخو القتيل، لم يكن موجودا، وإنما الذي خرج إلى خيبر محيصة، وعبد الله بن سهل، قيل: إنهم كانوا يرتادون للتجارة، وقيل: إنهم كانوا يطلبون مالا، وكان هذا لا شك أنه بعد فتح خيبر، وهذا يؤكد أن القسامة كانت بعد السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، نعم.

من شروط القسامة: اللوث

قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] : اللوث: وهو العداوة الظاهرة، واللطخ، وبعض العلماء يرى أن اللوث هو العلامة التي تدل على صدق الدعوة، وفي الحقيقة أن اللوث له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، ومما يتميز به وجود العداوة، فإذا كان بين شخص وشخص عداوة، أو بين قبيلة وقبيلة عداوة، أو بين جماعة وجماعة عداوة، ووجد المقتول مقتولا في أرض الأعداء؛ فإن هذا واضح الدلالة على أنهم هم الذين قتلوه.
وبناء على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه من حيث الأصل لا تقبل القسامة في غير علامة ظاهرة، وأمارة ظاهرة.
ثم اختلف العلماء في هذه العلامة والأمارة، كلهم متفقون على أنه لو وجدت عداوة، أننا نحكم بالقسامة، لماذا؟ لأن الذي كان بين الأنصار وبين اليهود عداوة، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الأقضيات في حال مخصوص، على صفة مخصوصة، ووجدت هذه الصفة وهي صفة العداوة، فقالوا: العداوة تنقسم إلى قسمين: عداوة دينية، وعداوة دنيوية.
والعداوة الدينية: مثل ما وقع بين الأنصار واليهود؛ لأن عداوة الأنصار لليهود، وعداوة اليهود للمسلمين أصلها عداوة ناشئة من دينهم المحرف وديننا الأصلي، فهي عداوة عقدية.
كذلك أيضا تكون العداوة عداوة دنيوية مثل: أن يكون هناك تنافس بين شخصين، أو تحصل فتنة أو خصومة بين اثنين، فحلف أحدهما أن ينتقم، فتوعده وقال: سأريك، أو سأفعل بك، أو سأقتلك، فإذا توعده بالقتل، وشهد شهود أنهم سمعوا أن زيدا قال لعمرو المقتول: سأقتلك، ووجد عمرو بعد ذلك مقتولا، فإن التوعد السابق بالقتل قرينة وأمارة على اللوث، ومن هنا يستحق أولياء المقتول أن يحلفوا على هذا القاتل.
كذلك أيضا إذا كان هناك أشخاص معروفين بالأذية والإضرار: كأهل السوء والشر، ووجد بينهم مقتول، فإن هذا يكون علامة وأمارة على اللوث.
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] قال: (من شروطها) فلها عدة شروط، وهذا من شروطها، وإذا قال العلماء: من شروطها كذا، فإن هذا لا يعني الجمع لكل الشروط.
ومن هنا فائدة المتون أنها تختصر، وإذا قال: من شروطها؛ نبه القارئ على أن هناك شروطا ينبغي عليه أن يرجع إليها زائدة عن ما ذكر.
ومن هنا قلنا: أول شرط: أن تكون الدعوى في القتل.





ابوالوليد المسلم 23-10-2025 04:17 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 



ثانيا: أن تكون الدعوى مبينة مفسرة لهذا القتل: قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ.
ثالثا: أن يكون المدعى عليه مكلفا، إذا لم تكن الدعوى على غير مكلف.
رابعا: اللوث، وهو الذي أشار إليه رحمه الله بقوله (ومن شروطها اللوث) وهو العداوة الظاهرة.
ومن هنا فائدة في قوله: (من شروطها) ، بعض الأحيان ترد هذه العبارة في الفتاوى في كلام العلماء المتقدمين، وينبه على أن بعض العلماء مثلا لما يسأل: ما هي أسباب السعادة؟ مثلا.
فيقول: من أسبابها تقوى الله، من أسبابها كذا، ليس معنا ذلك أنه جمع كل الأسباب، وليس معنى ذلك أنه أراد استيفاء أو بيان جميع أجزاء المسئول عنه، وهذا منهج عند العلماء، أنه إذا عبر بـ (من) التي تقتضي التبعيض أنه ليس ملزما بالإحاطة والشمول.
ومن هنا فإن بعض العلماء من المتقدمين رحمهم الله يذكرون في فتاويهم بعض المسائل حينما يسألون في الفتاوى، أو يسألون في الشروط، فيذكرون بعض الشروط لأهميتها، هذا ما يسمونه بفقه الفتوى، أنهم لا يتعرضون لأشياء ظاهرة معلومة، أو يتعرضون لأشياء عظمت بها البلوى فيركزون عليها في الإجابة أكثر من غيرها، ولما يقولون: من الشروط كذا، ومن أسباب السعادة كذا، فقد حفز ونبه السامع إلى أن هناك أمورا ينبغي أن يرجع إليها، إما في كتابه أو في موضع آخر، غير الموضع الذي سئل عنه.
فهذه من فوائد الإشارة في التبعيض، وهي في الحقيقة تسقط المسئولية أمام الله عز وجل، فالمسئول إذا سئل عن أمر وهو يعجز عن إحاطته لضيق الوقت، أو عدم مناسبة المكان، وأراد أن يتخلص من المسئولية أمام الله عز وجل، فيقول: من كذا من الأسباب كذا من الشروط كذا، فهذا لا يكلف فيه بالإحاطة والشمول، وهذا منهج معروف عند العلماء رحمهم الله.
قال: [وهو العداوة الظاهرة] : (وهو) أي اللوث (العداوة الظاهرة) البينة الواضحة، وفي الحقيقة لا يختص الأمر بوجود العداوة فقد، بل تقع القسامة في القتل الخطأ، مثلا: لو أن شخصا كان في زحام، ثم سقط ميتا، وانقشع الناس عنه وهو ميت، وكان معه قريبه، فقال: هذا مات بفعل فلان وفلان، أحدهم كان أمامه والثاني خلفه، فزحماه حتى ضاق نفسه فمات.
أو أحدهما مثلا وكزه خطأ فمات، ففي هذه الحالة يكون القتل خطأ، حيث أنه لم يقصد أن يقتله، لكن في هذه الحالة لا توجد عداوة ظاهرة، مثل أن يزدحموا على بئر -كما ذكر العلماء-، أو في رمي الجمرات في الطواف، فإذا ازدحموا في مكان ومات أحدهم، يحتمل أمرين: الأول: يحتمل أن يكون مات قضاء وقدرا، وحينئذ لا يجوز لأوليائه أن يحلفوا القسامة؛ لأنه إذا مات قضاء وقدرا لا يستحقون الدية.
الثاني: يحتمل أنه مات بفعل فاعل، بإذن الله عز وجل وقدرته، فهذا الفعل تسبب في موته، وحينئذ يستحقون القسامة، فإذا استحقوا القسامة استحقوا الدية، لكن هذا يقع في صور، ويغلب على الظن فيها أن توجد الأمارات والدلائل، لكن في قوله رحمه الله (من شروطها اللوث وهو العداوة الظاهرة) طبعا في بعض الأحيان يكون القتل عمدا، ونجد علامة ظاهرة بغير لوث، مثل أن نجد شخصا حاملا لسكين ملطخة بالدماء، وهو واقف على رأس القتيل، فلما أخذ، ما أقر، قال: ما قتلته.
وإذا بثيابه ملطخة بدم القتيل قالوا: هذا أيضا من اللوث، ومما يبيح ويحل القسامة على هذا الشخص فيحلفون خمسين يمينا، ويستحقون به.
إذا: لابد للعلماء أن يضعوا شروطا لكي يحكم بالقسامة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط التي منها اللوث، وما ذكرناه من الشروط؛ فإنه حينئذ تصبح الدعوى على الأصل.
ما معنى على الأصل؟ معناه أن نقول للمدعي: أحضر البينة، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للخصم: احلف اليمين, وتنتهي القضية.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة والمدعى عليه باليمين في عجز مدع عن التبيين هذا أصل في القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة أي أن حالة العموم واضحة، فلو جاءنا أصدق الناس، وقال: فلان قتل فلانا؛ فإننا لا نقبل منه دعواه هذه، ولو كان أصدق الناس، ما لم يقم دليلا وحجة.
ولو جاءنا أفجر الناس وأفسق الناس وقال: فلان قتل فلانا، نقول: أحضر بينة؛ لأننا لا نحكم بكلامه، وإنما نحكم بالبينة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة) للخصم لما ادعى، (لو يعطى أناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم) وعلى هذا لابد من وجود البينة.
ومن هنا قال العلماء: القسامة خرجت عن الأصل، وما معنى خرجت عن الأصل؟ معنى ذلك أنها استثنيت من الأصل العام، ليس المعنى أنها شاذة، كما يفهم البعض، أو أنها شيء عقلي خرجت عن القياس أو أصبحت خارجة عن العقل والنقل، لا إنما في الشرع أصول عامة كما ذكرنا خرجت القسامة عنها، فإذا لم يتوفر شرط اللوث رجعت المسألة إلى العرف القضائي، نقول له: أحضر بينة، فإذا عجز المدعي عن دعواه، نطالبه بيمين واحدة، ما نطالبه بخمسين يمينا، ومن هنا نفهم أن القسامة باب خاص، وله أحوال خاصة -كما ذكرنا.

من شروط القسامة: وجود أثر القتل

أيضا مما يشترط إضافة إلى اللوث وجود أثر القتل عند جمهور العلماء رحمهم الله على تفصيل، قالوا: أن يكون المقتول قد وجدت به أمارة وعلامة تدل على أنه قد قتل عمدا، فإذا لم توجد فيه أمارة، قالوا: إنه يحتمل أنه توفي قضاء وقدرا، وليس مجنيا عليه، بمعنى أنه ليس هناك قتل عمد.
وعلى هذا قالوا: لابد من وجود الأمارة بأن يكون مطعونا بسكين، أو محزوز الرقبة، أو مضروبا في مقتل، أو مخدوشا في موضع في مقتل، فبعض العلماء يقول: هذا لا يشترط؛ لأنه يمكن أن يقتل بالخنق.
وفي عصرنا الحاضر، يوجد ما يسمى بعلم الطب الشرعي، وهذا علم خاص في كشف الجنايات والجرائم، ممكن أن يثبت هذا الأمر أو ينفيه، وحينئذ يمكن أن يعول على هذا الإثبات والنفي، في إثبات القسامة وعدمها، فمثلا لو قال الطبيب الشرعي: هذا جاءته سكتة قلبية، أو مثلا: حصل له عارض، فعنده نزيف داخلي، وليس له علاقة بالجناية، فحينئذ تسقط دعوى القسامة؛ لأنه ليس هناك دليل على القتل.
وأما إذا وجد عن طريق البصمات أو الآثار التي تدل على الجناية، كأن لا يوجد أي أثر للقتل، لكن ثبت أنه قتل بالخنق، أو مثلا بحقن مادة مسمومة ونحو ذلك، فالطبيب الشرعي يمكن أن يثبت هذه الأشياء بإذن الله عز وجل، فيعول عليه، ويعمل بأدلته، وتكون أيضا قرينة أو شاهدة على اللوث.
قال: [وهو العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر] : وهذا من طبيعة البشر حيث أنه إذا وقعت بينهم ثارات، أنه يطلب كل منهم ثأره عند الآخر، من هنا قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، فبين سبحانه وتعالى أن في القصاص حياة للناس، ولعدم وجود القصاص في الجاهلية كانوا إذا قتل القتيل لربما قتلوا به المائة.
ومن هنا الحروب التي وقعت في الجاهلية كحرب البسوس وغيرها، لما قتل القتيل في حرب البسوس، وكانت من أشدها ضراوة، قال ولي المقتول: لعلك قتلته بكليب، فأطفأ الثأر، فقال له: قتلته بشسع كليب، يعني -أكرمك الله- بالنعل الذي يلبسه المقتول، فكانوا يستحلون الدم، ويجعلون المقتول إذا قتل لزعيمهم أو كبيرهم مقابل لشسعه أكرمكم الله، أو نعله، وهذا يدل على ما كانوا عليه من الجرأة على الدماء والعياذ بالله.
من هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم الحارث ... ) في قصته المشهورة في قتيل هذيل، فالمقصود من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الثارات، والإسلام قطعها، فإذا وجدت ثارات بين القبائل أو عداوة بينهم واضحة، فحصل شيء من هذا، فإنه يوجب القسامة، وهذا يرجع إلى القاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويتحرى حتى يستطيع أن يحكم بثبوت.
ما الدليل على هذا الشرط؟ طبعا نحن ذكرنا شرط دعوى القتل، والدليل عليها أن الصحابة رضوان الله عليهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا قتل يهود لـ عبد الله رضي الله عنه.
ثانيا: أن تكون دعوى القتل مبينة، بأن يكون بالقتيل أثر القتل، وهذا يشترطه بعض العلماء رحمهم الله، وهي الأمارة.
والدليل عليه: رواية الصحيح فوجد عبد الله وهو يتشحط في دمه، فلما وجده كان على صفة المقتول المعتدى عليه؛ لأن محيصة افترق عن عبد الله رضي الله عنه، ثم رجع محيصة إلى المكان الذي كان فيه، فوجد عبد الله رضي الله عنه يتشحط في دمه، فهذه أمارة.
أن تكون القسامة على مكلف، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على رجل منهم) ، والأصل أن شرائع الإسلام منوطة بالمكلف لا بغير المكلف، ولأنه مستثنى عن الأصل.
كذلك أيضا أن يكون الذي يدعيها مكلف، فلا يدعيها صبي؛ لأن الصبي لا يمكن أن يحلف أيمان القسامة، ولا تقبل يمينه.
وأن لا يدعيها مجنون؛ فالمجنون لا تقبل دعواه.
فأيضا يشترط في المدعي أن يكون كذلك؛ لأن الصحابة حرصوا على الاستدلال بهذه الصفة، بوجود اللوث وهو العداوة الظاهرة؛ لأنه كانت بين اليهود وبين الأنصار العداوة الظاهرة.
هذه كلها شروط نبه عليها الشرع، وقوله رحمه الله: (اللوث) وهو العداوة الظاهرة، والعداوة تكون ظاهرة وتكون خفية.
والمراد بالظاهرة: الواضحة الجلية، كأن يأتي شخص ويقول: وجدنا مقتولا في موضع كذا، فقال أولياء المقتول: هم الذين قتلوه، قلنا: لماذا قتلوه؟ قالوا: لأنهم أعداؤه، فنقول: هل عندكم دليل على دعواكم؟ فلو قيل في الدليل مثلا: هؤلاء فقراء وهذا غني، ودخل بثياب الغنى فقتلوه، نقول: هذه ليست علامة ظاهرة، هذه علامة يسمونها ظن التهم، والظن المرجوح، ومثل هذا صحيح، أن تكون هناك عداوة بين الأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، لكن لا تصل في الغالب إلى هذا الحد، أو إلى هذه الصفة، ومن هنا لا تكون عداوة ظاهرة.
فالمصنف رحمه الله قال: (اللوث وهو العداوة الظاهرة) .
قال: [فمن ادعي عليه القتل من غير لوث؛ حلف يمينا واحدا وبرئ] .
(فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) يعني: من غير عداوة (حلف يمينا واحدة وبرئ) .
هناك تفصيل كبير للعلماء رحمهم الله في مسألة دعوى القتل، فإذا ادعوا على شخص، سموه، أو على شخصين سموهما، مثلا: إذا قالوا: قتله بنو فلان، نقول لهم: حددوا من الذي قتله منهم، وما الدليل على التحديد؟

من شروط القسامة: تحديد القاتل

ومن شروطها: تحديد القاتل؛ لأن بعضهم أوصل الشروط إلى عشرة لكن فيها نظر، فتحديد القاتل أصل في دعوى القتل، وهو شرط معروف في دعوى القتل بأن يذكروه محددا باسمه ونسبه، ويرفعون النسب، أو يكون حاضرا في مجلس الحكم كما ذكرنا، فيشيرون إليه.
لكن لو أنهم ادعوا وقالوا: جماعة قتلته، فلا تقبل القسامة؛ حتى يحددوا، فإذا حددوا وبينوا؛ فحينئذ تقبل دعواهم.
وعلى هذا قال رحمه الله: (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) فإذا ادعوا على شخص أنه قتل موليهم، نقول لهم: أثبتوا اللوث.
كيف يثبت اللوث؟ يثبت اللوث بالعداوة بين قبيلة القاتل وقبيلة المقتول، فيشهد الشهود أن بين بني فلان وبني فلان ثارات، وقد يكون بين البيتين، فإذا ثبت بشهادة العدلين، فهو لوث.
ثانيا: يثبت اللوث أيضا -وهو العداوة- بأن تكون خصومة وقعت بين اثنين، كأن يكونا قد اختصما في أرض، أو في مال، فهذه عداوة ظاهرة.
فإذا ادعى عليه ففي هذه الحالة نحكم، لكن لو لم يثبت اللوث، بأن قالوا: فلان قتل فلانا، قلنا: هل هناك عداوة ظاهرة؟ هل هناك لوث؟ قالوا: لا، فحينئذ إذا كان هناك حال لاجتماعهم مثلا: أن يكونوا في زحام على سيارة، أو في زحام على بئر، أو في زحام على طاعة أو قربة، وتفرقوا وهذا مقتول، فحينئذ هذا لا يشترط فيه اللوث، فتقبل فيه الدعوى، لكنها دعوى على قتل خطأ، وليست على قتل عمد، ونحن نتكلم على قتل العمد.
ومن هنا ينبغي أن ينتبه إلى كلام المصنف؛ فقوله: (من غير لوث) ليس على إطلاقه.
قد تقع القسامة في غير قتل العمد كما ذكرنا، كالقتل الخطأ، وقد يكون في زحام شديد، أو طلب لحاجة أو مصلحة، فيجتمعون ويعصر بعضهم بعضا ويؤذي بعضهم بعضا، ويحصل القتل، فإذا حصل القتل من هذه الجماعة، قالوا: فلان هو الذي رأيناه أو شاهدناه يفعل كذا وكذا، وحينئذ يؤخذ ويطالب فإذا ثبتت عليه الأيمان، فإننا نحكم عليه بموجب القسامة.
لكن لو لم تكن هناك عداوة ظاهرة فيما هو من قتل العمد، ولم يكن هناك لوث، فإنه في هذه الحالة إذا قالوا: فلان قتل فلانا، قلنا لهم: أحضروا البينة، قالوا: نحلف أيمان القسامة، قلنا: لا نقبل؛ لأنه ليس هناك ما يدل على شرعية القسامة في هذه القضية، فإذا قلنا لهم: لا تحلفوا، أحضروا البينة، قالوا: لا بينة عندنا، قلنا للخصم الذي ادعي عليه: احلف اليمين، فإذا حلف اليمين بالله عز وجل أنه ما قتل، ولا يعلم من قتله، فلا إشكال، لكن لو امتنع من حلف اليمين فوجهان: قال بعض العلماء: إذا امتنع من حلف اليمين كان اللوث، وأصبح نكوله عن اليمين موجبا للتهمة فيه؛ لأنه لو برئ سيحلف، ولا تضره اليمين شيئا، فإذا نكل وامتنع، فإنه حينئذ يثبت اللوث، فيقيم القاضي القسامة، ويأذن لأولياء المقتول أن يقيموا عليه أيمان القسامة.
هذا طبعا مذهب الجمهور من حيث الأصل، حيث يذهبون إلى أنه لا تقام القسامة مجردة.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية ثانية: أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصا، ولم يكن هناك لوث، فعند عجز المدعي عن البينة يطالب المدعى عليه بأن يشهد خمسين يمينا بالله عز وجل أنه ما قتل ولا يعلم من الذي قتله، هذا الأصل.
وعلى هذا نقول: الصحيح أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصا لا نحكم بالقسامة إذا لم يكن هناك لوث، ما لم تكن في المسائل التي لا يشترط فيها اللوث، فإذا عجز أولياء المقتول عن إثبات اللوث، قلنا للخصم: احلف اليمين عند عجزهم عن إثبات اللوث، وعجزهم عن البينة؛ فإذا حلف اليمين برئ؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن اليمين على المدعى عليه) ، وفي لفظ: (ولكن اليمين على من أنكر) وفي حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، وفي لفظ: (على المدعى عليه) فنحن لا نطالب المدعى عليه بأكثر من يمين واحدة، فإذا قال: ما قتلته، فإننا نقبل قوله، ونقول له: احلف اليمين أنك ما قتلت، فإذا نكل عنها، فاختار جمع من العلماء -كما نص عليه الإمام النووي رحمه الله وبعض المحققين- أنه يكون أمارة على اللوث؛ فيستحق الأولياء بعد ذلك أن يشهدوا أيمان القسامة.


الأسئلة




إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء
السؤال أحسن الله إليكم، وأجزل لكم المثوبة والأجر، فضيلة الشيخ! التوسع في ضابط اللوث، ألا يؤدي إلى الوقوع في ظلم الغير، وهل للقاضي أن يقتصر على العداوة الظاهرة، كما في حديث عبد الله بن سهل، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كررنا النصيحة أكثر من مرة لطالب العلم بأن يكون عنده ورع، وأن يكون عنده أدب مع العلماء رحمهم الله، فكل شخص جاء ليقرأ شيئا لم يفهمه، ولم يضبط بضوابط العلماء رحمهم الله واستغربه، وأراد حصر العلماء في شيء معين؛ فهذا من الخطأ بمكان، ولن يستطيع أن يفهم طالب العلم فهم العلماء ما دام بهذه الصفة؛ فعند أن تقول: التوسع في اللوث، من الذي قال لك أن هذه الضوابط التي ذكرها العلماء توسع، بعض طلاب العلم تعود أسلوب النقد، وإلا فضبط الشيء يمنع من التوسع فيه، فهذا تناقض من السائل أصلا، توسع في ضابط اللوث! بالعكس العلماء حينما يضعون ضوابط للوث، يمنعون من التوسع فيه، حينما تأتي الشريعة بالعداوة الظاهرة بين اليهود والأنصار، ووجدت به القسامة.
فاعلم رحمك الله أن الشريعة تنبه بالنظير على نظيره، وبالمثيل على مثيله، وإلا فقد حجرت واسعا؛ لأنك إذا انطلقت من هذا المنطلق فستقول: لا أقبل إلا العداوة الدينية؛ لأن الذي ثبت في النص العداوة الدينية، أثبت لي أن العداوة بين القبائل يثبت بها القسامة، أين الدليل؟ لا دليل.
ومن هنا قال العلماء: اللوث العداوة، ثم وضعوا الضوابط فقالوا: العداوة الظاهرة، التي لا تكون مبنية على الشكوك والشبهات والتهم، وهذا صحيح؛ لأن الشريعة تعتبر أن العداوة الظاهرة هي التي تحمل على الضرر والأذى، وباب القسامة في باب الضرر والأذى؛ فينبغي أن تتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرط أن تفهم وتقعد وتأصل من خلال الفهم، أما أن يأتي شخص ويضع قواعد من عنده، فهذا توسع كما قلت، ونردها.
لكن أن يفهم شخص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الفهم محمود غير مذموم، مأجور غير مأزور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) يعني: يزيده فهما.
فإذا كان ذلك فلماذا وضع العلماء ضوابط اللوث؟ أولا: حكمة مشروعية القسامة؛ لها أبعاد أكثر مما يتصورها الإنسان القاصر في فهمه، فالأصل أن كل أهل محلة ومدينة ومنطقة وقرية وجماعة مسئولون عن محلتهم وقريتهم وجماعتهم؛ فإذا وجد القتيل بينهم طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وهذا نبه عليه الإمام الكاساني رحمه الله في (بدائع الصنائع) ، فله كلام جميل نفيس لو يرجع إليه! لماذا شرعت القسامة وطولب بها، يعني مثلا في العداواة الظاهرة حينما تكون أهل محلة وأهل قرية وأهل بلدة؟ لأنهم قصروا في حفظ محلتهم وقريتهم ومدينتهم، طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وتحملوا المسئولية ثم يلزمون بعد ذلك بأن يقوموا على محلتهم ويحفظوا دورهم.
ليست القسامة فقط أن تأتي بالناس يحلفون، فهذا له أبعاد بعيدة جدا، فأوجدت الشريعة الدية، وصوم شهرين متتابعين، وعتق الرقبة، وصوم الشهرين المتتابعين على شخص قتل خطأ، لماذا وهو قتل خطأ؟ قالوا: تعظيما للدماء، ولذلك فالمسلم يأخذ حذره، فإذا جاء يصيد في البر، فهو يعلم أنه لو أخطأ سلاحه، فقتل مسلما أنه سيلزم بديته، ويلزم بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إن عجز عنها، عندئذ يعرف أين يصيب وكيف يصيب، وكيف يحافظ على أرواح المسلمين.
وإذا جاء يقود سيارته، وهو يرى أنها قد تفضي بمن معه إلى الموت، بحيث قد تكون قديمة، فيتساهل في أشياء قد تفضي به إلى الموت، ثم تذكر ذلك دعاه ذلك إلى أن يتحفظ، ولذلك قالوا: إن القسامة شرعت في الدماء، ولم تشرع في الأطراف؛ تعظيما لأمر الدماء.
فإذا قلت: القسامة محصورة في العداوة الظاهرة، بمثل ما ورد في حديث عبد الله بن سهل، كيف تحجم السنن بهذا التحجيم؟ فعندما يلزمك بالنظير من نظيره، يصبح الحكم بالقياس، وعند هذا يستوي العلماء والجهلاء، وما على أحد -إذا أراد أن يصير فقيها- إلا أن يحفظ الأحاديث، ويطبقها مثل ما وردت على ظاهرها، ولا يعمل فكرا ولا فهما، وعندئذ يكون من حفظ السنن وفهمها على ظاهرها أعلم الناس وأعلم الخلق، فهذا ممكن أن يكون، فلابد من الفهم، ولابد من التقعيد، ليس هناك تثريب على من فهم إذا كان فهمه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن نقول هذا؛ لأننا نعرف من خلال الطلب حينما كنا مع علمائنا ومشايخنا كانوا يمنعون الطالب من النقد المشكلة الآن في العصور الأخيرة، مسألة التربية على النقد، الآن الطالب يأتي ويقول: لماذا لا نقتصر على العداوة؟ ولو جئت أسأل الآن: ما هي الشروط التي ذكرناها؟ لم يستطع أن يرددها، نقول: قبل أن تنتقد العلماء اضبط ما يقال لك، مشكلتنا اليوم أن الشخص يجلس ويستمع، فهل يفهم هذا الشيء؟ ثم هل يتقبله أو لا يتقبله؟ هنا المحك، أما أن يأخذ شيئا مستنبطا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يحاول أن يجلس ويضبط هذه الأشياء ويلخصها ويفهمها، ويقرأها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وعندها تكون منحة الله له بعد ضبط هذه العلوم، وتقريرها وتكرارها وإتقانها والإلمام بها، بعد ذلك يأتيك فتح الله عز وجل، وتصل إلى ما وصل إليه العلماء، وتضبط كما ضبط العلماء والفقهاء، ولا تعجل رحمك الله، لا تعجل فلست الآن في إطار النقد، ولا أفتح مجالا لطلاب العلم في بداية الطلب للنقد، ومن جاء ناقدا رجع فاقدا.
أول شيء نريد ضبطه هو حفظ هذا العلم، وإتقانه، ثم بعد أن تصل إلى درجة تضبط فيها أصول الفقه، الذي يسلحك بسلاح الفهم، حتى تصل إلى درجة هؤلاء العلماء، عندها تعرف لماذا قالوا هذا الكلام.
والله ثم والله، ما من طالب علم يقعد ويؤصل بتأصيل العلماء، ويفهم ويقرأ الكتاب والسنة، بحيث يحضر تفسير القرآن على يد عالم أهل لتفسير كتاب الله، ثم يحضر دروس الحديث على يد عالم أهل لتفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلس السنوات تلو السنوات وهو يضبط ويحصل ويقرر، إلا جاء اليوم الذي يستوي فيه فهمه، وينضج فيه فكره، وإنه ليقرأ كلام العلماء، فيقرأ الصفحات التي كان بالأمس يعيبها، وإذا به لا يمل ولا يسأم، ويعذر العلماء حين قعدوا وأصلوا.
كنا في القديم نقرأ بعض المطولات، فنستغرب منها -نستغفر الله- هذا شيء عايشناه، وكان الوالد رحمه الله يمنعنا من المطولات في بداية الطلب.
وأقسم بالله ما نمدح أنفسنا، لكن بعد أن قرأنا ورأينا ضوابط العلماء، أصبحنا نقرأ عشرات الصفحات، لا نمل ولا نسأم ونعرف قيمة العالم، ونتلذذ بهذه الفروع المبنية على الأصول، ثم نجد أيضا الشوارد والتتمات والفوائد والمسائل الملحقة، حتى إذا ما قررت الأصل، جاء بعد ذلك يقرر لنا دليله ووجه دلالته، وكيف دل على المسألة؟ وهل دلالته عامة أو خاصة؟ مطلقة أو مقيدة؟ بعد أن ننتهي من هذا كله، نأتي إلى تطبيقات هذه الفهوم التي فهمها العلماء رحمهم الله على ما عايشوه، فنجد كيف أنهم يختلفون في هذه التطبيقات، وكيف أن كلا منهم يدلي بحجته، ويبين سبيله ومحجته، ثم بعد ذلك تأتي أنت من نفسك تجد أشياء في داخل نفسك ربما أنها تلحق بما ذكره العلماء.
ويمكن أن تتربى فيك ملكة هذا التأصيل والفهم، ومن هنا قالوا: لا يعرف قدر العالم إلا العالم.
مثال بسيط: الشخص إذا جاء وجلس عند عالم يفتي في مسألة من المسائل، فوجد العالم يقول: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال كذا وكذا، وهذا الحديث عام، فهذا جواب، في بعض الأحيان يقول: وهذا الحديث عام، إلا أنه يستثنى منه هذه المسألة.
عامة الناس إذا سمعوا العالم يفتي بهذه الفتوى، يكون الأمر عاديا عندهم؛ لأنه مفت، فما يشعرون ولا يحسون بقيمة هذا العلم.
لكن لو جاء إنسان متمكن من الفقه، متمكن من هذا العلم، ينظر أول شيء إلى حكم الشيخ على المسألة.
ثانيا: دليله ووجه الدلالة، ثم لا يقف عند وجه الدلالة، بل يرى ما هي العبارات التي اختارها هذا الشيخ لبيان وجه الدلالة؟ وهل هذه العبارات محتملة أو غير محتملة؟ تفيد المقصود أم لا تفيد المقصود؟ هل هذه العبارات يستطيع أحد أن يستغلها في الفتوى أم لا؟ وهل العالم لما أجاب في هذه المسألة يقصد الفتوى، أو يقصد التوجيه، أو يقصد مطلق النصيحة؟ فلا يعرف العالم إلا العالم، فهل الذي تراه من الضوابط لا يعرف قدرها إلا من اشتغل بفهم النصوص وضبطها، يا سبحان الله! إذا قعد العلماء وأصلوا، قالوا: بالغوا، وإذا اختصروا ولم يسهبوا، قالوا: متون معقدة، وطلاسم غير واضحة، فلا يفهم العلماء إذا فصلوا وقعدوا، ولا يسلم الاختصار.
الآن تجد بعض المعاصرين يقول لك: يا أخي! كتب المتقدمين هذه أساليبها صعبة، وغير واضحة نحتاج الآن أن نشرحها ونوضحها، ثم بعد ذلك يقول لك: نريد أن نقتصر فقط على المطلوب والأصل.
والآخر يأتي ويقول: هذه المطولات كثيرة، نريد الآن أن نختصرها ونختصر فيها على المراد، دعونا من الذين يقولون: أسهبوا، ومن الذين قالوا: اختصروا، دعونا نأخذ علما موروثا عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أخذوا هذا العلم بحقه، دعونا نتعلم، دعونا نضبط، قالوا: تعلم ثم تكلم، أما إنسان بمجرد أن يجلس يشتغل بالنقد، فهذا لا نريده، ولا نعول على طلاب علم بهذه المثابة، وثقوا ثقة تامة، فمثل بعض الإجابات أسهب فيها؛ لعموم الحاجة إليها والبلاء فيها؛ تحذيرا من ذلك، وبعض الأحيان أكثر من عشرين مسألة، نحتاج إلى بيان حكمها؛ لأنه إذا لم يكن لطالب العلم منهج، وإذا لم يكن له سبيل يقوم ويسدد، فلا يستطيع أن يصل إلى المراد.
فنحن نقول: إن ضوابط العلماء التي ذكروها، مبنية على أصول، وهذه الأصول ما دام أن السنة قد قررتها وبينتها؛ فلا إشكال، فإذا قلت: العداوة الظاهرة، ما تستطيع أن تضع لها ضابطا.
والعداوة الظاهرة كيف نفهمها وكيف نفهمها للغير، هذا هو الذي اعتنى العلماء رحمهم الله بوضعه بالضوابط التي تستشكلها.
وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا الأدب، وأ
بر الوالدين مقدم على غيره من أعمال البر
السؤال فضيلة الشيخ! يقول السائل: يحتاج الوالدان إلى الولد كثيرا، خاصة أثناء العطلة، الأمر الذي قد يتعارض مع بعض الأنشطة، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أوصيك أخي بوالديك خيرا، وأن تبدأ بوالديك بعد حق الله عز وجل، وإذا كنت تبحث في الأنشطة عن مرضاة الله، ومحبة الله، فاعلم أن محبة الله في رضا الولدين، وأن الله رضي عمن رضي عنه والداه، فمن أرضى والديه أرضاه الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك حق قرنه الله بحقه -ونبه عليه سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعد حقه وتوحيده- مثل حق الوالدين، فاتق الله في والديك، واعلم أن الله سيفتح عليك -إن كنت تطلب العلم- بفضله ثم برضا الوالدين، وأن الله سيبارك أنشطتك، وأمورك الخيرية بعد رضا والديك، كم من بار بوالديه بكت عيناه، وتفطر قلبه، وعظم حزنه، حينما كان مشغولا في دراسته، وكان يتمنى أن يكون عند رجل أمه وأبيه، وكان يتمنى ساعات رضا من والديه، وحيل بينه وبين ذلك بأمور قاهرة أثناء تعلمه وانشغاله.
هاهي العطلة سويعات ولحظات، وأيام وليال، فهل لك أن تشتري مرضاة الباري في رضا والديك، اجتهد في رضا الوالدين، وقدم والديك على الناس، الله أعلم كم قدمتك أمك على غيرك، وعلى نفسها، الله أعلم كم قدمك أبوك على نفسه وماله وأهله والناس أجمعين، فاتق الله في والديك.
وأحسن كما أحسن الله إليك، فإن وجود الوالدين نعمة عظيمة من الله عز وجل، هنيئا لبار لزم والديه فقام بحقهما وحقوقهما، وأدخل السرور عليهما حتى فاز بمرضاة الله، والأنشطة والأمور التي فيها إدخال سرور على الأصدقاء أو على الملتزمين أو على من يريد الخير، هذه أمور تكون تبعا لرضا الوالدين، فإذا جاء الوالد أو الوالدة يطلبان أمرا، وأنت خارج لأي شيء فقل: سمعا وطاعة، واعتذر من أصدقائك، قائلا: أعتذر لأن عندي ظرفا، قلها بشرف، وبرضا وافتخار وقوة؛ لأنك تعلم أنه ليس هناك أحد أوجب أن تطيعه بعد الله عز وجل من والديك، فاتق الله في والديك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان، قال: أتريد الجنة، قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة) ، فهذا الذي أوصيك به أخي في الله! ودع عنك التأويلات، ودع عنك الاجتهادات والآراء، فوالله لن تفلح إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن توفق إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن تعان على أمرك إلا برضا الله ثم برضا الوالدين.
وكم من قابع عند قدم والديه، يقوم عليهما ويدخل السرور عليهما، حتى لربما مضت عليه أكثر أيام العطلة وهو في جهاده يبر والديه، ولم يفوت إلا أياما معدودة لإخوانه وخلانه وأصحابه، بورك له في هذه الأيام، ما لم يبارك له في غيرها من أيام العطلة كلها، البركة في أمور الدعوة وأمور الخير، إذا نزعها الله منها فلا خير فيها، فابدأ بوالديك، ابدأ بمن أمرك الله ببرهما، الشاب يخرج إلى زيارة المسجد النبوي ويسافر الأيام، ووالدته مريضة، الشاب يخرج إلى مسافات شاسعة ويسافر إلى بلدان بعيدة، وأبوه في أشد الحاجة إليه، وقد يكون الوالد مريضا، وقد تكون الوالدة مريضة، بل والله لو كانت لأبيك مصلحة -في بيع وشراء- وقبعت في دكانه ومتجره، تجاهد في بره ورضاه؛ ليفتحن الله عليك إما عاجلا أو آجلا، ما ضر البر أحدا، فالبر مفتاح لكل خير (وإن البر ليهدي إلى الجنة) ، ومن أعظم البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: بر الوالدين.
فيا رعاك الله! احرص كل الحرص على والديك واتق الله فيهما، واعلم أن الله أعطاك نعمة بقاء الوالدين أو أحدهما، فهما من أبواب الجنة، فليحرص على هذه الأبواب، حتى ينتهي به ذلك إلى حسن خير في صلاح وهدى وصواب.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقنا لذلك، أوصي كل موفق أن يحس أنه أيام الشغل كان مقطوعا عن بره لوالديه، فليحتسب العطل والإجازات في بر والديه، في ليس للمسلم عطلة وإجازة، وإنما هو أمر نسبي، فهذه فرصة يبتلي الله فيها الصادق.
بعض الناس أيام الدراسة يقول: لا أستطيع أن أقوم الليل؛ لأني إذا قمت الليل تعبت في النهار.
نقول له: الآن ما عندك شيء، فإذا تعود في أيام عطلته أن يقوم الليل، وداوم عليه، ثم شغل بدراسته ومرت عليه الشهور كلها، مشغول، كتب أجر القائم لليل، لأنه أظهر لله عز وجل أنه في فراغه لا يقصر في طاعة، يصوم الاثنين والخميس، لكن إذا جاءت أيام الدراسة لا يستطيع الصيام؛ لأن والده يمنعه شفقة عليه، فيبره، ومع ذلك إذا جاءت العطلة يصومها، فالعطلة والإجازة مدرسة للخير والصلاح والبر، مدرسة وفكر للإنسان فيها في تقديم الأهم فالمهم، أولا بر الوالدين، ثم صلة الرحم، إذا لم تصل عمك وعمتك وخالك وخالتك، , وأقرباءك وتدخل السرور عليهم في العطلة، فمتى تصلهم؟ متى تأتيهم إذا لم تأتهم في الإجازات، ليست الإجازة هملا، ولا عبثا، فما خلق الله الخلق سدا، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلا، {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} [ص:27] ، فالإنسان ينبغي عليه أن يتفكر وأن يتدبر أن الله أعطاه هذه الأيام امتحانا، فإذا كنت في أيام العطلة تحرص على بر والديك، ورضاهما؛ فقد سعدت ونجحت وأفلحت، وحينئذ يجب على المربين والدعاة، والأفاضل الذين يقومون على أبناء المسلمين أن يكونوا خير عون لهم على ذلك.
وللأسف أن البعض يستهزئ من بعض الطلاب ويقول: اذهب واجلس عند أمك، فقل له: نعم أجلس عند أمي، وهذا شرف لي أن أجلس عند أمي قبل أن أراك أو أجلس معك.
هكذا بلغنا عن بعضهم، يقول: اذهب واجلس عند أمك! هل أصبح البار بوالديه محلا للنقد والسخرية؟! هذا أمر عظيم.
قد يخرج الإنسان تاركا والديه وهما غضبانان عليه، ولربما يرجع ولا يلقاهما أبدا، فيموتان وهو عاق لهما والعياذ بالله، فهو مسئول أمام الله عن ذلك.
الشاهد: أن يأتي إنسان إلى أمه يبلغها أنه سيسافر، فلا توافقه أمه في ذلك؛ شفقة عليه وخوفا من أن يصيبه مكروه، هل تلام أمك لشفقتها عليك؟ يعقوب عليه السلام أبيضت عيناه من الحزن -وهو من أولي العزم من الرسل- على فراق ابنه، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، ويشفق أن يرسل ولده للعب يقول: {إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} [يوسف:13] ، هو يعلم أنه نبي ولا يأكله ذئب، لكن هذا نوع من الشفقة، تذكرنا بشفقة الآباء على الأولاد، وتذكرنا بشفقة الأمهات على فلذات الأكباد، فهذا شيء لا يملكه أحد.
نبي مرسل عليه الصلاة والسلام، فضله الله عز وجل وشرفه، وقد أوتي من الصبر والقوة حتى أنه يقاتل كقتال الأربعين شدة وبأسا، وحين فقد ابنه دمعت عيناه، فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) من هذا الذي يريد أن يدخل بين أم وفلذة كبدها، من هذا الذي يستطيع أن يقف بين يدي الله عز وجل وهو يربي أبناء المسلمين على العقوق، بل ربهم على المحبة والبر، وقل لهذا: قم لوالديك، واذهب إلى والديك وأدخل السرور عليهما، يجب أن تكون مجالسنا مع أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم ومن كل من يلوذ بنا التربية على بر الوالدين ومحبتهما، والحرص على بر الولدين، ولو كنا في كل درس وفي كل محاضرة نؤكد هذا، والله ما ملت منه أذن يؤمن صاحبها بالله واليوم الآخر؛ لأنه يعلم أن هذا منهج القرآن وهذا منهج الكتاب والسنة.
فالله عز وجل في أكثر من موضع يقرن هذا بتوحيده، ومع ذلك يؤكد عليه ويقول: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] الشخص حينما يقرأ: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] ثم بعد ذلك يعقبها ويقول: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] ، هل هذا كله لا يعقله الإنسان ولا يعيه، فنحن لا نربي لدعوة ولا خير ولا بر ولا ندعوا لمشاركة في دعوة وخير وبر، إلا بعد أن نرى بارا بوالديه، رضي عنه والداه، حتى إذا تكلم بارك الله في كلامه، وإذا دعا بارك الله في دعوته، وإذا نصح وفقه الله في نصحه وإرشاده أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا البر، وأن يعيذنا من العقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.







ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:19 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (513)

صـــــ(1) إلى صــ(16)






شرح زاد المستقنع - باب القسامة [2]
القسامة هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وقد بين الشرع القسامة على صفة مخصوصة لابد من وقوعها عليها، وعلى هذا فيلزم في القسامة أن يبدأ فيها بأيمان الرجال من أولياء الدم، فإن نكلوا أو بعضهم انتقلت القسامة إلى المدعى عليه وبرئ بها.
أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة




من يبدأ بالقسامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم] : شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة القسامة، وكيف يجريها القاضي في مجلس الحكم والقضاء، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله ببيان هذه الجملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع القسامة أو بين القسامة على صفة مخصوصة، فلابد من وقوعها على هذه الصفة، فقال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال) .
هذه المسألة الأصل فيها ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه حينما ادعى حويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل، قال صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، وتستحقون دم صاحبكم) ، وفي اللفظ الآخر: (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته) .
فهذا يدل على أنه توجه أيمان القسامة إلى المدعين أولا قبل أن توجه إلى المدعى عليه، فلو ادعى شخص على شخص أنه قتل، أو ادعت جماعة على جماعة أنها قتلت، فالأصل أن نبدأ بالمدعين، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وظاهر السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم يقوي هذا القول.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم، واحتجوا برواية الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة -أي: الأنصار الذين ادعوا الدم- عن البينة بأن اليهود قتلوه، يعني عن الشاهدين، فقالوا: لا بينة عندنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (فتبرئكم يهود) فقالوا: لا نقبل بأيمان قوم ضالين، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعى عليهم قبل أيمان المدعين.
وحديثنا الذي في الصحيح أوضح وأتم وأشد بيانا، وحديثهم فيه نوع إجمال، ولا يمتنع أن يحمل على أصل القضية؛ لأن الحادثة لما وقعت وقعت على صورتين، ينبغي لطالب العلم أن يلم بهما حتى يستطيع أن يجمع بين الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الصورة الأولى: هي الأصل.

والصورة الثانية: هي المستثناة التي شرعت بها القسامة.
فأما صورة الأصل فهي أصل الحكومة والقضاء، أن كل من ادعى على شخص أنه قتل نطالبه بالبينة؛ إما إقرار القاتل، أو شهود عدول يثبتون الجريمة على الصفة المعتبرة في الشهود، فهذا الأصل، وهو أن نطالب المدعي بالبينة، فجاء حديثهم الذي ذكروه على صورة الأصل، وحديثنا على الصورة الخارجة عن الأصل، وهي أيمان القسامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الأنصار عن البينة وقالوا: لا بينة عندهم، وجه اليمين إلى اليهود، فإما أن نقول: إنها يمين الدعوى، وهي أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحينئذ تكون يمينا غير يمين القسامة، ومن هنا نقول: إن هذه جارية مجرى الأصل، ثم جاء حديثنا بالتفصيل للصورة المستثناة وهي صورة القسامة، فوجه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أيمان القسامة أولا للمدعين، وهذا الحديث واضح الدلالة، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم؛ فتستحقون دم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نر ولم نشهد، فقال: فتبرئكم يهود) ، فجعل أيمان المدعى عليه بعد أيمان المدعي، وهذا جار مجرى الأصل، وهذا هو الوجه الأول الذي نرجح به حديثنا على حديثهم.
الوجه الثاني: أن حديثنا يقوى بالأصول الشرعية، فإن الأصول الشرعية تقتضي أن المدعي هو الذي يبدأ أولا قبل المدعى عليه بالنسبة للحجج، فلما نوجه أيمان القسامة على المدعى عليه فكيف نوجهها على المدعي بعد ذاك، ومن هنا الأصل يقتضي رجحان رواية المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه جار على السنن.
والقاعدة أنه لو جاءت روايتان: إحداهما موافقة للأصول معتمدة ومعتضدة، فإنها مقدمة على غيرها مما خالف، وإلا قد يكون الذي خالف ناقل عن الأصل فيقدم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في صور من الخلاف الذي وقع بين العلماء رحمهم الله.
في هذه الجملة دليل على أننا نبدأ بالمدعي، فنقول له: احلف خمسين يمينا، وهذه الخمسين يمينا تقسم على الورثة، إما على العصبة -وهذا وجه- وإما على أقرباء الميت الذين يرثونه، وتقسم على قدر حصصهم في الميراث، فلو كان المقتول له ابن وبنت، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فالابن له ثلثا المال، والبنت لها الثلث؛ فتقسم الأيمان بين الابن والبنت، ولو توفي عن أربعة أبناء أو خمسة أبناء تقسم الأيمان على الخمسة الأبناء؛ لأن حظوظهم متساوية، فتقسم على حسب الرءوس إن حصل كسر في الخمسين ولا تنقسم الأربعين إلا بكسر على أربعة؛ فحينئذ يجبر الكسر ويتمم، فلو كانوا أربعة قلنا: يحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يمينا؛ لأنه جبر من كسر اثني عشر ونصف فيحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يمينا.
يطالبهم القاضي أن يحلفوا هذه الأيمان، ويشترط في هذه الأيمان أن تكون في مجلس القضاء والحكم؛ لأن الحجج المعتبرة مكانها مجلس القضاء، والإقرار معتد به في مجلس القضاء، فإذا حلفوا هذه الأيمان، اشترط أن يكون في مجلس القضاء، وأن تكون أيمان شرعية بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، والذي عليه العمل عند أئمة العلم رحمهم الله أن القاضي يبدأ قبل أن يحلف هؤلاء أيمانهم بتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذيرهم من غضبه وسخطه جل وعلا؛ لأن اليمين توجب غضب الله للعبد إن كانت يمينا فاجرة، فما بالك إذا كانت أكثر من يمين.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بين الكندي وأخيه خصومة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألك بينة؟ قال: ليس عندي يا رسول الله! بينة، قال: ليس لك إلا يمين، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر، ويحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب؛ ليقتطع بها حق امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان) ، وهذه يمين واحدة، وأعظم الأيمان أيمان القضاء التي تكون في مجلس الحكم، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله-، فيخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى أن يصدقوا وألا يكذبوا، ولهم الحق كما ذكرنا أن يبنوا على غالب ظنهم.
قال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال) أي: يبدأ بأيمان الرجال من المدعين قبل النساء؛ لأنهم الأصل.
قال: [ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يمينا] : (فيحلفون خمسين يمينا) تقسم هذه الأيمان على قدر حصصهم من الميراث، وإن كانوا عصبة كانت منقسمة على عدد الرءوس، ويشترط أن يستتم هؤلاء الأيمان، فلو أنهم كلهم حلفوا إلا واحدا؛ فإنه لا توجب القسامة الحكم بالدم، يعني: لا يقتل حتى يحلف الجميع، فلو حلفوا الأيمان إلا يمينا واحدا لم يقبل منهم إلا أن تكون تامة كاملة، وهذا هو الأصل، ولا يشترط الولاء المتتابع بين اليمين والأخرى، فلو حلف بعض الأيمان في مجلس، ثم أتمها في مجلس آخر -كأن يحلف خمسة أيمان، وكانت عليه عشرة أيمان، ثم تردد، ثم حلف بعدها الخمسة، أو حلف الخمسة وجاءه عذر فقضى حاجته، ثم رجع وحلف الخمسة- فهذا لا يؤثر ما دام أنه حلف العشرة الأيمان المطلوبة كاملة في مجلس القضاء والحكم.
نكول الورثة عن الحلف
قال رحمه الله: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساء؛ حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] : يحلف المدعون في الأيمان على القاتل، ويقولون: والله إن فلانا أو إن هذا قد قتل فلان ابن فلان إذا كان القاتل في مجلس الحكم، وإذا لم يكن في مجلس الحكم يذكرونه باسمه على وجه لا يشترك معه غيره، كما ذكر العلماء بأن يرفعوا نسبه، فيذكرون اسم أبيه وجده، وما يتميز به عن غيره أنه قتل فلانا قتل عمد أو قتل خطأ أو قتل شبه عمد، فيصفون القتل، وهذا حتى تكون اليمين معتبرة.
بين رحمه الله أنه يبدأ بأيمانهم، ثم إذا نكل هؤلاء بأن قالوا: لا نحلف، أو نكل بعضهم فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، فالنكول عن أيمان القسامة وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، وهذا يدل على مشروعيته، وأن من حق الإنسان أن يتورع عن القسامة، وقد وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيار الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟ ولكن في حوادث من الحوادث الأخرى يأتيك شخص تثق به ثقة كاملة، أو مثلا يقع القتل على وجه تطمئن أنت إلى صدق المخبر، ولا تعرف فيه كذب؛ فتطمئن إلى قوله، ويسبق أن هذا الرجل توعد المقتول، أو بينه وبين المقتول عداوة، أو بينه وبين المقتول ثأر، فأنت مطمئن لهذه اليمين، وإن لم تر ولم تشهد، لكنك تحلف على غالب الظن، ومن رحمة الله عز وجل وتيسيره للعباد أنه أجاز الحلف على غلبة الظن، ففي هذه الحالة لك أن تنكل وتمتنع من اليمين تورعا، وقد امتنع عن اليمين تورعا خيار الأمة من الصحابة.
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه باع عبدا، فظهر في العبد عيب، وقال المشتري: به عيب، واشتكاه إلى عثمان رضي الله عنه، فقال: ما علمت فيه عيبا، فقال له: تحلف اليمين، قال: لا أحلف اليمين، ولكن يأخذ ماله ويعطيني العبد، فتورع رضي الله عنه عن حلف اليمين، وما كان في ذلك منقصة له رضي الله عنه، وشاء الله أن يبيع العبد بأضعاف قيمته بعد ذلك؛ لأنه ما عامل أحد ربه إلا غنم في دينه ودنياه وآخرته، فهو تورع عن هذه اليمين؛ لأنه يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تبين للإنسان أن هناك حقا، وأن هناك دما، وأن هناك قاتلا ظالما، وأراد أن يشهد اليمين ويحلف بالله على هذه اليمين شهادة حق، فإنه لا ملامة عليه ولا غضاضة.
(فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟) وفي هذا دليل على أن الحلف ينبغي أن يكون على علم في الأصل، فتستفيد فائدة وهي: أن هناك أصلا، وهناك مستثنى من الأصل، فالأصل في حلف اليمين: أن يكون عن علم وبينة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فجعل الشاهد لا يكون شاهدا بالحق إلا إذا كان بشيء يعلمه، قال: (وما شهدنا إلا بما علمنا) ، واليمين شهادة، {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون:1] فقالوا: نشهد، يحلفون بالله أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به من تسمية الأيمان شهادة، وكقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6] فهذا كله فيه تسمية الأيمان شهادة، فدلت على أن اليمين لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وبناء على ذلك فالأصل أنه يحلف على شيء يعلمه، فإذا كان قد غلب على ظنه -لاحظ لم ير ولم يسمع ولم يشاهد ولكن غلب على ظنه- بأن جاءه مثلا عشر نسوة أو عشرون امرأة قد شاهدن القتل، وجئن يشهدن ما تقبل شهادتهن في القتل، وبين الرجل وبين الرجل ثارات، أو بينه وبينه عداوة، أو سبق وأن توعد -كما ذكرنا- في فاطمئنت نفسه لهذا أن يشهد به، فحلف يمينه، فإنه في حكم ما ذكرناه؛ لأن الشهادة واليمين على غالب الظن معذور فيها صاحبها.
قال: [فإن نكل الورثة] : (فإن نكل الورثة) : النكول هنا يستوي فيه -كما ذكرنا- كلهم أو بعضهم، صورتها: أن يكون النكول من الورثة جميعهم بقولهم: لا نحلف، مثلما قال الأنصار، أو أن يكون النكول من بعض الورثة لا من كل الورثة، سواء كانوا أكثر أو أقل، فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، وهنا ننبه على مسألة مهمة، وهي أنه إذا امتنع البعض عن الحلف لا يكره على الحلف، كما يقع بين القرابة، حيث يغضبون عليهم ويقولون لهم: أنتم ضيعتم دم قريبنا، أنتم ليس لقريبنا عندكم حق، وليس له قدر، وهذا لا يجوز، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يلم بعضهم بعضا، وتورعوا، بل إنه إذا تورع أحد يقبل منه هذا الورع، هذا بالنسبة للنكول، وهناك صورة ثالثة وهي: أن يكون النكول من من حلف، فيحلف بعض الأيمان ويمتنع من بعضها سواء حلف أكثر مما نكل أو أقل أو استويا -الحلف والنكول- بأن تكون عليه يمينان فحلف واحدة ونكل عن الثانية، فالحكم في جميع هذه الصور واحد.
والنكول من البعض كالنكول من الكل، وإن نكول بعض الورثة كنكول جميع الورثة، وإن نكول الحالف عن بعض الأيمان كنكوله عن جميع الأيمان، ما نقول: تقسط الدية أو نقسط الحكم، أو يحكم ببعض ويترك بعض أبدا، يبقى الحكم أن يحلف الجميع أو يحكم بالنكول إذا وقع من بعضهم دون البعض.
كون الورثة نساء
قال رحمه الله: [أو كانوا نساء] إذا كان الذين يحلفون رجالا ونساء فلا إشكال، ويقولون بالاندراج، ويكون النساء مع الرجال، لكن أن يتمحضوا إناثا، فمذهب الجمهور عدم قبول شهادة النساء منفردات على الدم، وهذا له أصل؛ لأن الله عز وجل لم يجعل شهادة النساء في غير الأموال، وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فالمرأة يعتريها من الضعف والتسرع ما لا يكون في الرجل، ولذلك لا يقبل في شهادة القتل امرأة، فلا تثبت بشهادة امرأتين أو أربع نسوة، بل لابد وأن تكون شهادة القتل والزنا للرجال، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب القضاء، ونبين الأدلة، ونبين وجه الحكمة في ذلك، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى ولا تعقيب لأحد على الشريعة في هذا، فالله عز وجل إذا حكم لا يعقب على حكمه، وهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
فالمرأة لا تستطيع أن ترى مشهد قتل أو غيره، ولو وقع أمامها منظر من المناظر المؤلمة -فضلا عن القتل- سرعان ما تغيب وجهها، أو تضع يديها على عينيها، ولا تستطيع أن تستمر في المشاهدة والرؤية، وقد تستعجل من الخوف من رعب الحوادث، فتخطئ في تصور الحوادث وتسلسلها، بل إنك لو سألتها أن تصف شيئا رأته، فإنك لن تستطيع أن تنتزعه إلا على أحوال متعددة: إذ يغلبها البكاء ويغلبها الضعف، وهذا شيء جبلت عليه فلا تلام عليه، فالله يخلق القوي والضعيف، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى.
ولكن لا ينبغي لأحد أن يكابر في الحقائق، ولا ينبغي لأحد أن يحملها ما لا تتحمل، وأن يظن أنه يحسن وقد أساء؛ لأنه لا أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بخلقه منه سبحانه، بل هو أعلم بكل شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه {ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر:14] .
فالشاهد أن أيمان النساء لا تقبل؛ لأن شهادتهن في الأصل إذا انفردن لا تقبل، لكنهم اعتضدوا بالأصل هنا، وإن كان بعض العلماء لم يقبلها مطلقا في الأيمان، وهذا له أصل سنذكره إن شاء الله في باب الشهادات في مسألة الاعتضاد.

حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي
قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] قال المصنف: (ويبدأ بأيمان الرجال) ، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟
قولان للعلماء رحمهم الله: جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعا أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم) ، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يمينا -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يمينا على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته) ، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم) ، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته) ، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد.
وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالا للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد.
قال: [حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] : فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يمينا أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يمينا ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وفي الصحيح: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر) .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي: (ليس لك إلا يمينه) ، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان.
قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ) (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يمينا -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلا من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلانا، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقا بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة.
لو حلف المدعي الخمسين يمينا، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يمينا حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.





ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:24 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


الأسئلة




حكم قسامة القصار
السؤال إذا كان من بين ورثة الدم قصار فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله هل ينتظر الصبي حتى يبلغ ويطالب بالحق؟ وهذا اختاره جمع من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه بالأصول، ولكن إذا كان هناك من به عذر مثل الصبا يمنع، ولكن إن كان فيه ما يصعب انتظاره: كالجنون؛ فإنه لا ينتظر، ويكون وجوده وعدمه على حد سواء، فينتقل إلى غيره، فلا يحلف إلا من كانت به أهلية، والله تعالى أعلم.
حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد
السؤال لو حلف المدعون أيمانا كاذبة على المدعى عليه، ولم يعلم ذلك إلا بعد إنفاذ الحكم، فهل يقتلون جميعا، أثابكم الله؟
الجواب أولا: كيف يعلم أنهم كاذبون، لابد وأن يقروا ويقولوا: إنهم كاذبون في الأيمان وإنهم تعمدوا قتله، كما سيأتينا إن شاء الله في باب شهادة الزور، أن من شهد على إنسان أنه قتل، أو شهد شهود على أن شخصا قتل، ثم جاءوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإنهم قتلة، وسبقت الإشارة في مسألة القتل بالسبب، ومن القتل بالسببية شهادة الزور، أن يشهد شهود زور أن فلانا قتل فلانا، وكانوا قاصدين لقتله، لكن لو قالوا: أخطأنا؛ فهذا قتل خطأ، فهل تقبل شهادتهم الثانية؟ لأن ثبوت خطأ في الشهادة الأولى يوجب الضعف في الضبط عندهم، ومن شرط صحة الشهادة الضبط، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
لكن إذا قال الشهود، أو قال أصحاب هذه الأيمان: إنهم يعلمون علما أكيدا أن فلانا لم يقتل، وهذا لا يتأتى إلا لمن كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، فإذا كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، وعدلوا إلى شخص آخر، وحلفوا -والعياذ بالله- الأيمان الفاجرة، فلينتظروا ما يصيبهم، فقد كان يقال: من حلف اليمين الفاجرة في أي مجلس من مجالس القضاء، لا يمر عليه الحول وهو بخير.
هذه من السنن المجربة، حتى في أيمان القسامة هذه، فقد وقعت لـ عبد المطلب وجاء ولي يتيم وامتنع، فدفع المال، وهذا على سنن الجاهلية، فحلف التسعة والأربعين يمينا، فمضت السنة فلم تبق فيهم عين تطرف، كلهم ماتوا، وهذا من عجائب ما يقع، ولذلك فإن كبار السن وأهل العقول تجد الواحد منهم يدفع ماله كله ولا يحلف يمينا في مجلس القضاء، فالأيمان أمرها عظيم، خاصة في مجلس القضاء، فإنه لا يحول الحول على صاحبها بخير، وهذا مما يعلم بالسنن، ولا يشترط فيها الدليل إذا ثبتت بالتجربة، وعادة الله عز وجل وسنته لا تتخلف؛ لأنه عندنا أصل عام وهو أن الله منتقم، وينتقم من كل ظالم، ومن أظلم الظلم سفك الدماء البريئة، وأكل الأموال المحرمة، واتخاذ القضاء وسيلة للوصول إلى هذه الأغراض، ولو كان سفك الدم مباشرة أهون من أن يأتي ويكذب على القاضي، ولذلك قالوا: من كذب على القاضي بشهادة زور فقتل بها، أعظم مما لو قتل مباشرة؛ لأنه لو قتل مباشرة فهو قاتل فقط، لكن أن يستخدم القضاء وسيلة للوصول إلى غرضه -والعياذ بالله- من استباحة دماء المسلمين المحرمة وأموالهم وأعراضهم، فحينئذ يكون قد جنى فوق جنايته الأصلية الذنب والإثم، ثم جنى على القضاء، وذلك بكونه استغله لكي يبطل الحق ويحق الباطل، نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى كل حال إذا كانوا يعلمون من هو القاتل فذلك يقع بالصور التالية: الصورة الأولى: أن يعلموا من هو القاتل حقيقة، فيعدلون إلى غيره.
الصورة الثانية: أن يعلموا أن فلانا لم يكن موجودا أثناء القتل، على وجه يتحققون من أنه لم يقتل.
الثالثة: أن يكون بينهم وبين هذا الشخص الذي حلفوا عليه عداوة وأرادوا أن يقتلوه إشفاء لغليلهم، لا إحقاقا لحق، ولا وصولا إلى حق، هذه كلها من الصور التي تكون فيها الأيمان كاذبة فاجرة -والعياذ بالله- فإذا قالوا: تعمدنا قتله؛ قتلوا به جميعا، ولو كانوا مائة شخص، ولو كانوا مليونا، وقد ذكرنا هذا في قتل الجماعة بالواحد، على قول عمر رضي الله عنه: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) ، فتقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عصم دماء المؤمنين، ولو فتح الباب أن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لقامت عصابات بقتل الناس ثم يسلمون من القصاص، وفي ذلك من الشر والبلاء ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
بعض آداب طلب العلم
السؤال إن من النعم الكبيرة علي أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيرا إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟
الجواب بارك الله فيك، نعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جدا، وأي خير وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبدا من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح.
كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالا، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله.
الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسبا، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] ، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.
هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفا، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حري بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعا لنعم الله عز وجل عليهم.
يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟! طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشرا ولا بطرا ولا غرورا ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟! فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبدا، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظما لنعمة الله، لاهجا لسانه بشكر الله، معتقدا في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجرا، وأعظم عند الله ثوابا، وأكثر إخلاصا وقربا من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغا رفيعا حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه.
نعم، علينا أن نتذكر أولا مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم.
ثانيا: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها: أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلا مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئا كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا.
ثانيا: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يدريك فلعل من بينهم أئمة سيهتدى بهم غدا، وما يدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غدا، وما يدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز.
فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغارا -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل.
ثالثا: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجرا عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروما، ولا تجعلني شقيا، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه.
رابعا: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئا ثم هنيئا لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير.
من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخا له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! خامسا: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذرا، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن.
ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات.
فإذا لا تلتفت إلى عيوب إ

حكم قراءة يس عند المحتضر والميت
السؤال ما حكم قراءة سورة يس عند احتضار الميت، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالحديث في هذا حسن، وجاء في ذلك أنها تسهل خروج الروح، ولا بأس بذلك ولا حرج، وقد استحب غير واحد من الأئمة رحمهم الله حين يكون الإنسان محتضرا أن تقرأ عنده؛ لثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قراءتها بعد الدفن هو الذي لا أصل له، وهو من البدع المحدثة، والله تعالى أعلم.
جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة
السؤال في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سببا في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟
الجواب التركيز في طلب العلم مهم جدا، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيرا، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل) ، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظا وفهما وعملا، وهم من أقوى الناس حفظا، وأصفاهم ذهنا، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط.
فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلا، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلا سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهما بسيطا أو سهلا يسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ.
نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعا- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني! أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقا له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوما من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أيا كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد ألقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم.
الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط.
واكتب قليلا إن أردت تحفظ.
الحروف إن أردت تلفظ فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غدا عالما بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كما هائلا، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط.
والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درسا في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درسا، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفا علميا، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق.
هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخا منهم، فـ ابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة.
فكثرة الشتات والتنوع متعب جدا وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علما وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم
السؤال ما الحكم على من قتل حمامة في مكة بسيارته وهو غير محرم، أثابكم الله؟
الجواب الحمامة فيها شاة، قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة؛ لأنها تعب الماء، وقتل الصيد في الحرم موجب للضمان، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فمن قتل حمامة -ولو كان حلالا- فإن عليه أن يذبح شاة بمكة، على الصفة المعتبرة، وهي: الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، وأن تكون سالمة من العيوب، وتذبح وتكون صدقة للفقراء في الحرم، أو يكون عدلها طعام مساكين، والله تعالى أعلم.

حكم وضوء من لمس الكلب
السؤال هل لمس الكلب ينقض الوضوء، أثابكم الله؟
الجواب لمس الكلب لا ينقض الوضوء، ولكن إذا لمسه ففيه تفصيل: إن كان هو الطري أو الكلب؛ فقد انتقلت النجاسة، أما إذا كان لمسه وكل منهما جامد أو جاف؛ فإنه لا شيء فيه، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام
السؤال امرأة قبل ولادتها بخمسة أيام رأت بعض السوائل تخرج منها، وذهبت إلى المستشفى وبعد خمسة أيام ولدت، فتركت الصلاة في الخمسة الأيام التي قبل الولادة، فهل تقضي الصلاة الفائتة، أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يرى أن سبق الدم للولادة متصل بالولادة في حدود الثلاثة الأيام نفاس، قالوا: لأنه يسبق، وهذا القول قوي، وأما إذا كانت خمسة أيام فلا، المحفوظ أن الخلاف في ثلاثة أيام، أما إذا كانت خمسة أيام فعليها أن تقضي هذه الأيام، والله تعالى أعلم.
حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز
السؤال سائلة تقول: لي والد عاجز لا يستطيع أن يقوم على شأنه من جهة إزالة الحدث، ورفضت أمي القيام على شأن والدي، وكذا إخوتي، فهل يجوز لي أن أقوم بتطهيره، وقد يؤدي ذلك إلى الكشف عن عورته والنظر إليه، أثابكم الله؟
الجواب أولا: لا ينبغي للأم أن تمتنع؛ لأنه لا أحد أقدر على النظر إلى عورة الرجل من زوجته، والله إنه لأمر يقرح القلوب أن يكون العشير مع عشيره، حتى إذا ضعف بدنه وخارت قواه وشاب رأسه ورق عظمه، نسي العهود التي بينه وبينه.
فعلى هذه الأم أن تتقي الله عز وجل، وعلى هذه البنت أن تذكرها الله، وأن تذكرها حق الزوج، إذا كان عندها القدرة على القيام بحقه، فأوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تحسن إلى بعلها، وأنه جنتها ونارها.
ثانيا: إذا عجزت الزوجة، فيجب على الذكر من الأبناء أن يتولى تنظيف والده؛ لأنه لا يجوز للأنثى أن تغسل الرجل ما لم تكن زوجة، وهذا أصل، ولذلك الميت إذا مات ولو كان عنده أخواته ولم يشهد موته إلا النسوة ييمم، تعظيما لأمر العورة.
فكون البنت تلمس عورة أبيها لا يجوز، وإنما الذكر يغسل الذكر، والأنثى تغسل الأنثى، وهذا هو الأصل المقرر عند أئمة الإسلام، وعليه العمل والفتوى، فأوصي هؤلاء الإخوان أن يتقوا الله عز وجل، وأن يتذكروا حق والدهم وأن يرحموا ضعفه وحاجته، وأن يتذكروا حينما كانوا صغارا كيف كان يحملهم بيديه ويحسن إليهم ويتولاهم، ويقوم برعايتهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وعليهم أن يتقوا الله عز وجل حتى ولو بالتناوب، فينوب بعضهم بعضا، وكل شخص يكون له يوم يرعى فيه والده، وأي شيء أعظم من بر الوالدين، من الناس من بر والديه فتمنى أن يقضي حاجة والده بيده حتى ينال شرف الذلة للوالد {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء:24] ، وفي ذلك قصص يعرفها الناس، وسارت بها الركبان، تبتهج بها النفوس، وتنشرح بها الصدور؛ من كمال بر الأولاد لوالديهم، فعلى الأبناء الذكور أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا برعاية هذا الوالد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.








ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:29 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (513)

صـــــ(1) إلى صــ(17)






شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [1]
الحدود: هي زواجر وجوابر، فهي زاجرة عن الوقوع في المعصية، وهي جابرة ومكفرة لمن وقع فيها وأقيم عليه الحد المقدر شرعا.
وقد اهتم الشارع الحكيم ببيان هذه الحدود، لما فيها من حفظ الحقوق العباد من أن تهدر أو يتساهل بها.
الحدود الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود] .
تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمى واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.

تعريف الحدود لغة واصطلاحا

الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حد، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.
ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حدادا، وسمي السجان حدادا؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضا يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.
والحدود فيها وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدها، ووضع لها قدرا معينا، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدودا من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حد الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدودا من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعا، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلا: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالبا -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضا للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] .
وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا} [النور:17] ، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.
فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعا للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعا من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.
أنواع الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود) ، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوبات محددة مقدرة شرعا، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.
وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعا مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعا، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضا اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.
هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود) .
وهنا
السؤال هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟ منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.
أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.
وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـ البغوي، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.
والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جليا في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلا، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد: أولا: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟ أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.
ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.
ثالثا: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحا في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.
بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبع للزنا، وليس أصلا للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداء على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.
ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أمورا تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولا عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.
الأدلة على مشروعية الحدود
الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، ونص على حد القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، ونص على حد السرقة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة:38] ، ونص على حد الحرابة: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] .
كذلك أيضا في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفا عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.
وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) ، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناسا من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون) ، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.
الحكمة من مشروعية الحدود
للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظا واعتبارا، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجما لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.
ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.
قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة) ، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) ، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟) ، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزا شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) ، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر.
وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائما بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيبا إلى الرب، تائبا من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .
والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضا زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.
شروط من يقام عليه الحد
قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ] .
قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ) ، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ.
قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبيا لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) ، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلا؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغا.
قال المصنف رحمه الله: [عاقل] .
العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنونا- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنونا فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق) ، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله.
ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافا لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر.
إذا: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره.
قال المصنف رحمه الله: [ملتزم] .
الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزما بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟ الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49] ، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء.
إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.
قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم] .
وهو أن يكون عالما بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحدا منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.





ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:33 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: [فيقيمه الإمام أو نائبه] .
أي: يقيم الحد الإمام أو نائبه، والأصل أن الأئمة والحكام مطالبون شرعا بالحكم بما أنزل الله عز وجل، ومطالبون شرعا بالقيام بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأصل في تنصيب الوالي في ولايته أن يطلب المصالح للمسلمين، ويدرء المفاسد عنهم، وقد أجمع العلماء والأئمة رحمهم الله على أن المعني بتنفيذ هذه الأحكام والحدود هم الحكام، وأنه ليس كل إنسان ينفذ الحد بمجرد أن يرى رجلا يفعل جريمة فيقيم عليه الحد، بل الأصل أنهم هم المخاطبون، أو من يقيمونه مقامهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الأمر بإقامة الحدود، وتولى من بعده الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إنهم قد أنابوا غيرهم في إقامة الحدود، ففي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن ماعزا لما أقر، قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمرا؟) يعني: هل أنت سكران؟ فقام رجل فاستنكهه، أي: شم رائحة فمه، فلم يجد خمرا، ثم قال: (أبه جنون؟) حتى يتأكد من شروط الإقرار، هل هو مؤاخذ بإقراره أم لا؟ فأخبر أنه غير مجنون، قال بريدة رضي الله عنه: (فأمر به فرجم) ، وهذا يدل على أن الأصل أن الوالي هو الذي يأمر بإقامة الحد، فأمر به فرجم، كذلك أيضا أناب غيره عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا -لأنها لم تكن بالمدينة- فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، وهذا يدل على مشروعية الإنابة، فالإمام ومن يقيمه مقامه يعتد بهم، وهذا مهم جدا حتى نحكم بتمام الحد واعتباره، ولو أن شخصا غيورا وجد زانيين فجلدهما مائة جلدة، فهذا من حيث الأصل ليس حدا، لابد وأن يكون أول شيء عن طريق الحاكم، ويثبت عند الحاكم هذا الحد، ثم بعد ذلك يقضي به وبتنفيذه، فلا بد من وجود هذه الأشياء، وإقراره في غير مجلس القضاء والحكم ليس كإقراره فيهما، ولو أنه أقر بالجريمة وعلم به الناس، ولكنه لم يرفع إلى القاضي، فلا يأخذ حكم الإقرار الشرعي، فهناك أمور لا بد من مراعاتها في هذه الجرائم والحدود، وهذا كله يدل على عظمة هذه الشريعة، ولو أن الناس قرءوا ما ذكره أئمة أهل الإسلام في كتبهم من هذه التراتيب القضائية الإدارية لتعجبوا من حسنها ودقتها، فوالله ثم والله! ما عرف العالم كيف ينظم أمره إلا عن طريق المسلمين، ولقد مرت على أوروبا قرون مظلمة، لا تعرف كيف تدبر أمورها، حتى تعلموا ذلك في مدارس المسلمين في الأندلس، وأخذوا منهم هذه التراتيب الإدارية، والشرائع الإلهية التي جاءت مقننة محددة مرتبة من الله سبحانه وتعالى، وقد فهم المسلمون كيف يسيروا أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا من فضل الله عليهم، فجاء هؤلاء فنظروا إلى نعمة الله على المسلمين فاقتبسوا كثيرا من الأمور التي يصدرونها اليوم إلى المسلمين الذين ما عرفوها، فلو نظرت إلى كتب المسلمين التي ترجمت، وإلى كتبهم التي قرئت؛ لعلمت أنهم ما تعلموا هذا الانضباط، ورتبوا أمورهم الدنيوية؛ إلا عن طريق المسلمين، ولقد عاشوا حياة مظلمة لا يعلم جحيم ما كانوا فيه إلا الله وحده، ولكن كل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذه الشريعة، والناس اليوم تنخدع بأمور الدنيا ولا تفقه، وكثير من المسلمين -إلا من رحم الله- جاهل بهذه الثروات الهائلة من الدقة والتنظيم في العبادات والمعاملات، والانضباط التام في ترتيب الأمور، وحينما كان الإسلام من مشرق الأرض إلى مغربها، وقل أن تغيب عن دولته شمس، رتبت أمور المسلمين حتى في الجرائم، وقل أن تجد أمرا صغيرا أو كبيرا إلا ووضعوا له ما يضبطه، وما يردع الناس عنه إن كان خطأ، وما يحببهم فيه إن كان صوابا، ولكن، يا ليت قومي يعلمون! ولذلك شباب المسلمين يحتاجون أن يبصروا بهذه الحقائق، فبهذا الترتيب والتنظيم لم تكن مجتمعات المسلمين فوضى، بحيث إذا وقعت الأخطاء كل يتحمس ويقيم الحد، وتجد اليوم كل يحس أنه هو وحده الذي يدافع عن الإسلام، فتجد الأمور سائرة هملا، لكن حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بهذا الانضباط وهذا التأقيت الذي ذكره العلماء والأئمة في أبواب العبادات والمعاملات؛ يجد المتأمل فيها عظيم نعمة الله على هذه الأمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فبين المصنف رحمه الله أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، أي: من ينوب عن الإمام، ويحضر الإمام إقامة الحد أو يحضر نائبه؛ لأن هذا مهم جدا، فعلى سبيل المثال في حد الزنا لو أن الزاني اعترف فمن حقه أن يرجع عن اعترافه ولو أثناء تنفيذ الحد، فلو اعترف أنه زنى ثم أقيم عليه الحد، فأحس بحرارة الحد، فأراد أن يرجع عن إقراره؛ فله ذلك، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بـ ماعز أن يرجم فرجم، جاء في الحديث: (فلما أذلقته الحجارة، ووجد حرها؛ فر إلى الحرة؛ حتى لقيه رجل فضربه بلحي جمل فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه) ، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، ومن هنا إذا كان الإمام أو نائبه موجودا؛ فإنه يستطيع أن يأمر بإيقاف الحد وبإيقاف التنفيذ، ويستطيع أن يتدارك ما يمكن تداركه من هذه الأمور، ولا يشكل على هذا ما وقع لـ ماعز؛ لأن الصحابة ما كانوا يعلمون الحكم، وكانوا يظنون أنها عزيمة ليس فيها رجعة.
حكم إقامة الحدود في المساجد
قال رحمه الله: [في غير مسجد] .
تقام الحدود في غير مسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل وهو ينشد ضالته قال: (لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا) ، والله عز وجل يقول: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، والحدود ليست مجانسة لهذا.
وقد يشكل على هذا أن القضاء يكون في المسجد، والقضاء تكون فيه المخاصمة والمشاجرة حتى تثبت الحدود، وقد استحب بعض العلماء أن يكون مجلس القاضي في المسجد، وفي القديم كان هذا متيسرا، ومن هنا قال الناظم: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد فيستحب أن يكون القضاء في المسجد تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لكن إقامة الحد شيء آخر غير القضاء، فيقام الحد في غير المسجد، وفي حديث السنن -وفيه ضعف- النهي عن إقامة الحدود في المساجد.
كيفية الجلد في الحد




كيفية جلد الرجل
قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائما بسوط لا جديد ولا خلق] .
شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضا على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضا في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطا غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق) : الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاما وتمزيقا للجسد.
ويضرب الرجل قائما في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانيا أو شاربا للخمر أو قاذفا؛ فإنه يضرب قائما، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعدا، وقال بعضهم: يضرب قائما، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائما؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعدا لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه.
وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعدا والضارب قائما زاد في الإيلام غالبا، ولكنه إذا كان قائما والجالد قائما؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعا ولم يقصر.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط] .
أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاما وأشد وقعا، سواء إذا كان منبطحا أو كان قائما فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد) ، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك) ، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان] .
مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثيابا ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصا أو قميصين ثم يضرب؟ قال بعض العلماء: يجرد صيفا وشتاء ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضا من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد] .
المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضربا يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديدا في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضربا شديدا، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطا، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصودا، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر.
وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها.
قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه] .
اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلا للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالبا، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطانا.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر.
قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه] ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم.
أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور) ، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل] .
ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.

كيفية جلد المرأة
قال المصنف رحمه الله: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة] .
والمرأة كالرجل في الضرب يفرق الضرب على بدنها، ويتقى مقاتلها على القول بأنه يفرق على البدن، وتخالف الرجل أنها تجرد اتفاقا؛ لأن الرجل اختلف فيه: هل يجرد أم لا؟ أما المرأة فاتفقوا على أنها لا تجرد، وفي مسألة تجريد الرجل ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجرد، وهو قول المالكية رحمهم الله، ومنهم من لا يرى التجريد وهو مذهب الجمهور، ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام إذا رأى المصلحة أن يجرده جرده، وإذا رأى المصلحة ألا يجرده لم يجرده، وهو قول الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، والصحيح ما ذكرناه.
وهل تضرب المرأة قائمة أو قاعدة؟ تضرب قاعدة، لأنه أمكن للستر، وهذا قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله.
قال المصنف رحمه الله: [وتشد عليها ثيابها] .
هذا أثر عن علي رضي الله عنه، وله أصل في السنة في قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها فشدت عليها ثيابها، وفي بعض الألفاظ: أمر بها فشكت عليها ثيابها؛ لأن الشوك مثل الرابط الذي يمنع من انكشاف عورتها أثناء الحركة، فإذا ضممت طرفي الرداء ووضعت الشوكة بينهما؛ انحبس الرداء وامتنع من الانكشاف، فلفظ: فشكت عليها ثيابها يعني: أنه جعل فيها الشوك بمثابة الرابط لطرفي الثوب الذي عليها ليمنعها من التكشف، وهذا واضح الدلالة على أنه يطلب سترها أثناء إقامة الحد عليها؛ لأنها تضطر إلى الحركة فتنكشف عورتها، فيؤخذ بالأسباب المانعة من انكشاف عورتها.
قال المصنف رحمه الله: [وتمسك يداها لئلا تنكشف] .
لأنها إذا ضربت وتحركت فإنه قد يحصل منها انكشاف، فقوله: وتمسك يداها، من درء المفاسد، فالمرأة عورة، وانكشافها مفض للوقوع في الفتنة، فيخرج الناس من الاعتبار بالنظر إلى الفتنة، وهذا خلاف مقصود الشرع، وهو أن يكون النظر موجبا للاتعاض والاعتبار.

الأسئلة




وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود
السؤال هل تعريف الحدود شرعا يشمل القتل، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا فصلهما المصنف عن بعض؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقوله: (عقوبة) عام؛ لأن العقوبة تكون بالقتل وغير القتل، وهذا الصحيح؛ لأن الحدود فيها قتل، فحد الحرابة يكون فيه القتل، والمرتد حده أن يضرب عنقه إذا استتيب فلم يتب، فهذا التعريف: أن العقوبة مقدرة شرعا؛ تعريف صحيح، ودخول القتل لا يمنع صحة التعريف؛ لأن من الحدود حد القتل، وعلى هذا لا يكون تعريف المصنف فيه إشكال، ولا يمنع من وجود القتل في الحدود، وانفصالها عن باب القتل؛ لأن القتل متقدم لحقوق العباد، والقتل الذي نعنيه هنا إنما هو في الغالب في حق الله عز وجل كما في حد الردة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم الجلد في الحد بغير السوط
السؤال هل الضرب بالسوط بالحد متعين أم يضرب بغير السوط؟
الجواب الأشبه الضرب بالسوط، وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم في حد الخمر فقط أن منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بنعله، ومن هنا اختلف في حد الخمر هل هو حد أو تعزير؟ وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وعلى كل حال الأصل الضرب بالسوط، والله تعالى أعلم.

حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد
السؤال إذا دخلت المسجد قبل الفجر بدقائق ولم أوتر، هل تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؟
الجواب لا تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؛ لأن الأقل لا يجزئ عن الأكثر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) ، والوتر ركعة واحدة، ولذلك يجب عليك أن تقوم فتأتي بتحية المسجد تامة كاملة، ولا يحصل الاندراج في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج الأكبر تحت الأصغر، والركعة الواحدة لا تجزئ عن الركعتين كما هو معلوم، وجلوسك في الوتر له أصل، وهو مستثنى كجلوس الخطيب بعد تسليمه يوم الجمعة قبل أن يصلي صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مباشرة ويسلم ويجلس، وعلى هذا فليس فيه إشكال؛ لأنه مبني على أصل شرعي؛ لأنك جلست للعبادة، وجلوس العبادة لا يؤثر، لكن إذا انتهى الوتر فيجب عليك القيام مباشرة، والإتيان بركعتي التحية، ومن هنا لا يرخص لك بالقعود بعد سلامك من الوتر، والله تعالى أعلم.
حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها
السؤال زوجتي إذا منعتها من فعل شيء، أو من الذهاب إلى مكان أو من البقاء في مكان ولي الحق في ذلك المنع؛ تمنعني من نفسها، فما التوجيه أثابكم الله؟
الجواب أولا: أوصي هذه المرأة، أن تتقي الله عز وجل في هذه الحقوق التي فرضها الله عليها لزوجها، فلا يجوز للمرأة إذا أمرها زوجها أو نهاها عن أمر وله الحق في ذلك -بمعنى أنه مصيب في أمره ونهيه- أن تمنعه من حقه، فإذا فعلت ذلك انطبق عليها الوعيد، فلو أنها منعته من الفراش باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح والعياذ بالله! فإذا كانت لا تبالي بذلك فلتفعل، فعلى كل امرأة مؤمنة أن تتقي الله عز وجل في حقوق زوجها، وأن تؤدي هذه الحقوق كاملة، ومنها السمع والطاعة للزوج، خاصة إذا أمر بطاعة الله عز وجل، ونهى عن معصية الله.
ثانيا: على المرأة أن تحمد الله وتشكره أن رزقها زوجا يذكرها بالله إذا غفلت، ويعينها على طاعة الله عز وجل إذا ذكرت، ولم يبتلها بزوج متهتك فاجر، عاص لله سبحانه وتعالى، يجر عليها المصائب والويلات، فكم من امرأة أقض مضجعها مهرب للمخدرات، ومدمن للمسكرات، وكم آلمها، وضيع حقوقها، ولم يبال بها من لا يرعى حدود الله عز وجل ومحارمه.
فلتحمد الله المرأة المؤمنة، ولتشعر أن زوجها إذا أمرها بطاعة الله ونهاها عن معصية الله أنه يريد لها الخير، وأنه آخذ بحجزها عن نار الله، قائم بحق الله الذي فرضه عليه؛ لأن الله فرض عليه ذلك وجعله راعيا مسئولا عن رعيته، وما يحدثه أعداء الإسلام في نساء المؤمنين من التمرد، وإشعار المرأة أن على الزوج ألا يتدخل في شئونها، وأن هذا غمط لمكانتها، وانتقاص لقدرها، فأف لهم ولما يدعون، فما هم إلا ظالمون مفترون، فإن الزوج له حق القوامة شاءت المرأة أم أبت، وهذا أمر سارت عليه هذه الأمة سلفا وخلفا من السلف الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن والتابعيات وأتباع التابعين من النساء الصالحات.
وعلى المرأة أن تسمو بنفسها عن مثل هذه الدعوات التي تريد منها أن تتمرد على بعلها، وألا يتدخل في شيء من أمرها، وهذا كله خلاف الفطرة، ولا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين إلا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، فعلينا أن نرجع إلى حكم الله عز وجل، وأن نرضى بما كتب الله عز وجل لنا، وليس في هذا غضاضة أبدا، وتفضيل الرجل على المرأة لا ينقص من قدر المرأة، فإن العالم أفضل من الجاهل، لكن ليس معنى ذلك أن الجاهل قد هلك، وأنه ليس له حظ من الخير أبدا، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، والعلماء أنفسهم بعضهم أفضل من بعض، والرسل والأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، وإذا فضل ربك من يشاء؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض، ولا أن يختلق من تصرفاته ما يشعر بالاعتراض، فبعض النساء عندهن هذا الشعور، فالمرأة التي تتمرد على زوجها لعدم استشعار قوامة الزوج عليها تكون مضادة لشرع الله عز وجل، وللسنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل مسئول عن امرأته وأهل بيته، وأنه وال عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع ومسئول عن رعيته) ، فعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأذية الزوج خاصة في الفراش لا خير فيها، والمرأة التي تفعل ذلك ستجني العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من ذلك إلا تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وزجره، حتى إنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) ، والملائكة هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا لعنوا -والعياذ بالله- فلعنتهم مصيبة، فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن الأمر جد خطير.
ثالثا: هذا الأمر يفسد الحياة الزوجية، ويشعر الزوج بأن الزوجة لا تريده ولا ترغبه، وهناك خطوط حمراء - إن صح التعبير- بين الزوج والزوجة؛ وأخطر ما تكون إذا وصلت إلى المحبة، وأفسدت صدق المشاعر بين الزوجين، فإذا فعلت المرأة فعلا تنبئ الزوج أنها لا تبالي بهذا الأمر الذي بينهما؛ فإن هذا يدمر حياتهما، ويعود بالعواقب الوخيمة على الزوجين، فلتتقي الله المرأة المؤمنة.
وقد ذكرنا أهل المعاصي وما تعانيه زوجاتهم من الويلات والآهات، حتى تعرف المرأة المؤمنة نعمة ربها عليها، فلتحمد الله سبحانه وتعالى أن الله رزقها زوجا غيورا، وعلى كل امرأة أن تفهم أن غيرة زوجها من المحبة لها، ومن كمال الرجولة والفحولة فيه، وهي الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها أتقياءه الصلحاء ومن كان على نهجهم، أما من يكون ميت القلب -والعياذ بالله- ديوثا يصاب بلعنة الله؛ فلا خير فيه.
رابعا: نوصي الرجل ألا يستغل حق القوامة على المرأة، ويتخذ من هذا الحق ما يشعر بأنه مستبد ظالم، يريد أن يفرض آراءه وأقواله فقط، بغض النظر عن كونه مصيبا أو مخطئا، فهنا تكون المشاكل؛ لأن الإنسان إذا كان تقيا نقيا سويا سائرا على صراط الله عز وجل.
بارك الله في قوله، ونصحه وتوجيهه، ورزقه القبول بين أقرب الناس منه فضلا عن أبعد الناس عنه، ومن هنا على الزوج أن يتقي الله عز وجل، وأن يكون حكيما في أمر الزوجة ونهيها، فهناك أمور قد تكون دنيوية، وليس فيها ضرر في الدين، وقد تضر منك بعض الشيء في المادة، كأن تطلب المرأة مالا تتوسع فيه، وهذا الأمر فيه ضرر محدود، لكن قد يكون طلبها مرة أو مرتين في السنة، أو ثلاث مرات، وعندك القدرة، فإنك في هذه الحالة تستطيع أن تتنازل بحيث لا يفلت الزمام، وتكون التوسعة على الأهل، مع أنك ترى أن الأصلح والأفضل شيء آخر، لكنك تكسب من وراء هذا شيئا كثيرا، والحكماء والعقلاء يراعون هذا خاصة في هذه الأزمنة، فالمرأة بعض الأحيان تريد أن تخرج مع أولادها خارج المدينة في نزهة أو نحو ذلك، فتطلب ذلك من زوجها، وكان المنبغي على الزوج الكريم الصالح التقي أن يبدأ الزوجة بذلك، ولا ينتظر أن تقول له المرأة: أريد أن أخرج، وهذا إذا مضت فترة طويلة، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان دقيقا في معاملته لأهله وأولاده، ومع ذلك في بعض الأحيان كانت إذا مضت فترة -وقد كانت عنده مزرعة- يقول لي: قل لأمك تخرج معك، خذها واخرج بها؛ ويقول لي: هذه امرأة ضعيفة، محبوسة بين هذه الجدران، وأنت نفسك لو حبست في هذا الموضع لشعرت بالملل والسآمة في يوم واحد، فكان يحس ويقول: الحمد لله أننا نجد مثل هؤلاء النساء، فعلينا أن نوسع عليهن حتى يوسع الله علينا.
فالإنسان لابد أن يشعر بمشاعر المرأة، المرأة ضعيفة، خاصة إذا كانت في مكان تؤذى من نظيراتها، من أخواتها، من قريباتها، من جاراتها، وقد تأتي المرأة إلى المرأة فتذكر حسنة زوجها عليها، والله يشهد أنها لا تريد أن تذكر الحسنة، وإنما تريد أن تفسدها على زوجها، ولذلك ينبغي الحذر من هذا كله، وعلى الصالح الدين أن يحس أن المرأة الصالحة محتاجة -خاصة في هذا الزمان- إلى شيء يثبت قدمها على طاعة الله، ويكف عنها الألسنة الظالمة الجائرة التي لا تتقي الله في بيوت المسلمين ونساء المسلمين، فعليه أن يوسع على أهله، ولكن بقدر، ويوسع بنية إحسان العشرة، هناك توسيع بنية الدنيا، وهناك توسيع يراد به وجه الله عز وجل، فإذا قصد به وجه الله رحمه الله، وإذا قصد به الخير آجره الله سبحانه وتعالى.
فنوصي الزوج والزوجة بتقوى الله عز وجل، وجماع الخير كله في التقوى، فمن اتقى الله؛ جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
وأوصي الأزواج في حالة اختلاف الرأي في المسائل المباحة أن يكون هناك شيء من المرونة، الحزم مطلوب ولكن بقدر، قال الشاعر: قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم ولكنها قسوة بقدر مبنية على شوب من الحذر، ومرضاة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.







ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:40 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (514)

صـــــ(1) إلى صــ(9)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [2]
حد الزنا من أعظم وأشد الحدود الشرعية عقوبة من الله تبارك وتعالى، ويليه بعد ذلك حد القذف ثم حد السكر ثم التعزير، وقد ثبت تحريم الزنا في الكتاب والسنة، وأجمعت الشرائع كلها على ذلك؛ لما فيه من هتك للأعراض، وإفساد للذرية، وتخليط للأنساب، وقد فرق الشرع الحكيم في العقوبة بين الزاني المحصن وغيره المحصن، فأغلظ الحد في المحصن بالجلد والرجم، وجعل للمحصن شروطا لابد من توافرها من أجل إقامة الحد عليه.
بيان أشد الحدود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأشد الجلد جلد الزنا] .
تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضا، فهل يكون الجلد كله واحدا في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حد دون آخر أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حد على آخر، أو بيان أن الجلد في حد يكون أقوى من الحد الآخر.
وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر.
والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة: أولا: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقل من الزنا عددا، والسكر أقل من الزنا عددا، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلا لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى.
ثانيا: أن الله تعالى قال في الزنا: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، وقال في القذف: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، فذكر في حد الزنا الجلد مقرونا بقوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله.
وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلا في التعزير ضربا شديدا، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل، وكان رجلا مفتونا -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر: إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضربا شديدا، ثم قال له: هل تجد شيئا مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضربا شديدا، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديدا بالنسبة لغيره.
ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن.
قال رحمه الله: [ثم القذف] .
القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد.
فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافا لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقا للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا.
قال المصنف رحمه الله: [ثم الشرب] .
وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساويا للقذف، ولا أقوى من القذف.
قال المصنف رحمه الله: [ثم التعزير] .
التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلا هجم على بيت، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.
حكم من مات في حد الجلد
قال المصنف رحمه الله: [ومن مات في حد فالحق قتله] .
لو أن شخصا أقيم عليه الجلد في حد الزنا، وأثناء الجلد سقط ميتا فالحق قتله، لا نقول: إن على الضارب الدية لأنه تسبب في قتله؛ لأن هذا الضرب مبني على أمر شرعي، والذي أمر به هو الشرع، فجميع ما ترتب على هذا الضرب إنما هو من الشرع، وليس منا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ويروى أن رجلا مات لما جلد الحد فقال علي رضي الله عنه: الحد قتله، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله حد الله الذي أقيم عليه، فنحن مأمورون بإقامته، وما ترتب عليه فلسنا متحملين المسئولية.
لكن إذا زاد الضارب في العقوبة، وتجاوز الحد الشرعي فإنه يضمن، فلو أنه ضربه في مقتل -وقد قلنا: لا يضرب في المقاتل- فسقط ميتا، فقد تعدى الضارب، فيتحمل المسئولية، وفي هذا تفصيل عند العلماء، ففي بعض الصور يكون من باب الخطأ، وهل يضمن بيت مال المسلمين أم يضمن الجلاد أم يضمن القاضي الذي حكم بتنفيذ الحد عليه أم تكون مسئولية مشتركة وتكون من بيت مال المسلمين؟ ثم إذا قلنا: بتضمين الجلاد، فهل الدية على عاقلته أو عليه؟ في ذلك كلام للعلماء رحمهم الله.
حكم الحفر لمن يرجم في الزنا
قال المصنف رحمه الله: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا] .
الرجم عقوبة من الله عز وجل للزاني المحصن من الرجال والنساء، فإذا زنى المحصن؛ فإنه يرجم، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم) .
والرجم يكون بالحجارة وما في حكمها، ولذلك رجم الصحابة رضوان الله عليهم حتى بالعظام الكبيرة، وقتل ماعز عندما رجم بعظم بعير، ضربه به رجل فقتله، وكان قد رجم بالفخار وبجلاميد الصخر رضي الله عنه وأرضاه، فالرجم عقوبة، وهذه العقوبة اختلف العلماء رحمهم الله فيها: هل يحفر للشخص الذي يراد رجمه أو لا يحفر؟ قال بعض العلماء: لا يحفر له، واحتجوا بما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز رضي الله عنه قال: (فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا حتى إذا استحر من الرجم ... ) الحديث، فقال: (ما أوثقناه) يعني: ما ربطناه، (ولا حفرنا له) ، وهذا يدل على أن الحفر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بـ ماعز، واستدلوا أيضا بقصة الرجل والمرأة اليهوديين الذين زنيا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لهما كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (أمر بهما فرجما -يعني الرجل والمرأة- فرأيت الرجل يجني على المرأة) ، أي يعطف عليها ويميل إليها حتى لا تأتيها الحجارة، ولو حفر لهما لما وقع هذا، فالحفر لا يشرع للرجل عند جماهير العلماء، واختلفوا في المرأة: فبعض العلماء يرى أن المرأة يحفر لها، واستدلوا بقصة ماعز في رواية بريدة، ففيها أنه حفر لها، فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، وبريدة أثبت أنه حفر له كما في إحدى روايات أحمد ومسلم، ولذا قالوا: يحفر للمرجوم، وجمع بين الروايتين بأن المثبت للحفر يعني بذلك حفرة ليست بتلك التي تمنع، ومن نفى الحفر قصد الحفرة التي تمنع، ولكن عدم الحفر أقوى من ناحية الرواية، خاصة وأن رواية خالد بن اللجلاج -وهي صحيحة- نص فيها على عدم الحفر، فتقوى رواية النفي، وقالوا: لو حفر لـ ماعز لما فر عنهم، فكيف فر عنهم وهو محفور له؟ وكيف خرج من الحفرة؟ قالوا: الأقوى عدم الحفر، خاصة أن الروايتين لما تعارضتا جاء ما يرجح إحداهما على الأخرى، وبقي الخلاف في النساء، والخلاف فيهن أقوى من الخلاف في الرجال؛ لأن الحاجة إلى الحفر للنساء أشد، وفزعهن أعظم، ومن هنا اختلف في المرأتين اللتين زنتا، لكن حديث اليهودية مع اليهودي ليس فيه حفر، والرواية واحدة والسند فيها من السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فهي من أصح الروايات، فلا إشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها.
ولذا اختار المصنف رحمه الله عدم الحفر، وهناك قول لبعض العلماء -وهو قول جميل وفيه جمع بين النصوص- وهو: أنه يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده، فإن رأى الحفر في بعض الأحوال أمر بالحفر، وإن لم ير الحفر لم يأمر به، فالأمر إليه، ويجمع بهذا القول، وهو أشبه إن شاء الله تعالى.






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:42 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


الأسئلة




حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن
السؤال هل كان في أول الأمر إذا زنا المحصن يجلد ثم يرجم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اختلف العلماء في المحصن هل يرجم فقط أو يرجم ويجلد؟ والذي تدل عليه الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها غير واحد من أصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه والثوري، وطائفة من أئمة السلف: أنه يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو الصحيح؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم) ، فقرن بين الجلد والرجم، وطبق هذه العقوبة علي رضي الله عنه في شراحة حينما جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم رحمهم الله من فرق بين الإقرار وغيره، فمن أقر بالزنا وهو محصن، يرجم ولا يجلد، ومن قامت عليه البينة، يجلد ويرجم، وهذا القول قوي جدا، خاصة وأن النصوص التي ورد فيها الاعتراف ليس فيها إلا الرجم، كحديث (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها، (فأمر به فرجم) ، (فأمر بها، فشكت عليها ثيابها، ثم رجمت) ، وكل هذا في الاعترافات، وحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لا مانع أن يخصص بمن لم يعترف؛ لأن الذي اعترف تحمل وتجشم وصدق في التوبة إلى الله عز وجل، فلا مانع أن تخفف عنه العقوبة، وهذا القول يجمع به بين الأدلة، وهو من القوة بمكان، فيفرق على حسب حال البينة، والله تعالى أعلم.
أما أول الأمر فكانت العقوبة الحبس في البيوت، كما أخبر تعالى في آية النساء: {حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء:15] ، فكانت العقوبة إذا عثر على الزاني والزانية أن يقفل عليهما في بيتهما، ويمنعان من الخروج، ثم جاء الحديث بالعقوبة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) ، وهو الحكم المحكم في آخر الأمرين، والله تعالى أعلم.
حكم من أراد المعصية في مكة
السؤال ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام:160] ؟
الجواب أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قول باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام:160] ، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو) ، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه.
لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيم بالنسبة لغيره، فمثلا لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثلي يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثلي يناسبها، فإن وقع سب خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج.
وهناك قول ثان لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها.
بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب: أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر.
وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس.
فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم.
فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم.
فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلا حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفو عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عمل قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازما إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجه لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصدا، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها: قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} [النور:19] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها.
وقال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] ، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] ، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا علم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها) ، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس.
ومع قولهم أن هناك نصوصا أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريدا له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها.
لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جدا- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعمل قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلا من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرم في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئا بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) ، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئا مسندا إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عمل قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيرا مباحا حلالا وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عمل قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر.
ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين: إما أن يكون موافقا أو مخالفا، فإن كان موافقا أو مخالفا فإما أن يوافق ظاهرا وباطنا، أو يخالف ظاهرا وباطنا، وإما أن يوافق ظاهرا ويخالف باطنا، وإما أن يخالف ظاهرا ويوافق باطنا، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.
كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها
السؤال في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟
الجواب هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم: خواطر القلب خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط) ، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة.
هذان البيتان يقول فيهما الناظم: (خواطر القلب خمس هاجس ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطر فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا) .
وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله: وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب ما ذكرت -أخي السائل- أمر عظيم، هنيئا ثم هنيئا لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئا لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه.
مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيما له في الحرمات، وتذكيرا لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس) ، حرمها من فوق سبع سماوات.
في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبد فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس.
هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر} [المدثر:1 - 5] .
من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام.
مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟ قال عبد المطلب لـ أبرهة: أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطا للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها) ، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد) ، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمرا أو زائرا أو مجاورا ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفا عليه في بيته؟ لو أن الإنسان وهو قادم في عمرته يحس أنه ضيف على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع.
في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوب غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟ هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون.
من هنا صدر أناس جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا هم ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يوم أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعا لله، وإعظاما لهذه الحرمة التي حرمها الله.
هنيئا لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكان عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض.
قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيمانا وتسليما موحدا لله مخلصا، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحدا لله، معظما لله، سائلا الله من فضله.
يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء:5] ، وفعلا المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] ، ففي هذه الكلمة (قياما للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
يأتي العبد محملا بالذنوب والخطايا، تائبا إلى الله، صادقا مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمرا، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموما مغموما مكروبا، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيبا إلى الله ضيفا على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحدا يغيثه ولا أحدا يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمنا بالله، متوكلا على الله، واثقا بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقا من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنى بالله سبحانه وتعالى.
وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منج إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات.
هنيئا ثم هنيئا لمن دخل البيت الحرام مؤمنا بالله كامل الإيمان، هنيئا لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرما وجودا سبحانه وتعالى.
فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين! آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات! آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى! آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره! ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ.
إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
كل من جاء ضيفا إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جدا.
وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفا إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده.
فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناس مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتا في مكانه.
هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول:
حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء
السؤال ما حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء؟
الجواب رفع اليدين من مضان الإجابة، وفيه خمسون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن وضعيف قابل للانجبار، وفي الصحيحين أحاديث واضحة ما فيها إشكال تدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ولكن يتوقف في العبادات التوقيفية على الوارد.
أما إنسان أصابه كرب فرفع كفه إلى الله، واستغاث بالله، ونادى ربه مستغيثا مسترحما سائلا له من فضله؛ فإنه لا ينكر عليه، والسنة دالة على هذا، بل نص الأئمة على أن من أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) يقول الحافظ ابن حجر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسباب؛ لأنه يريد أن يبين أن المطعم الحرام يرد الدعوة، فجاء بأبلغ أحوال العبد الداعي، حتى يبين أن الله قد لا يستجيب الدعاء مع هذا الاسترحام، ومع هذه الوقفة العظيمة التي قل أن يخيب الله فيها عبده، وهذه الأسباب هي: السبب الأول: أشعث أغبر، بمعنى: رثاثة الحال، أي: أنه ليس من أهل البذخ، ولذلك قال في الحديث الصحيح الآخر: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ورثاثة الحال ليس المراد بها أن الإنسان ما يلبس الطيب، ولا يعتني بمنظره، لكن الإنسان قد لا يكون عنده مال، فتأتيه الرثاثة دون تكلف، ودون تنطع، ودون مبالغة في التزهد، تأتيه طبيعة وسجية، أو يكون عنده مال ولكن يلبس الحال الذي يليق به في أوساط الناس دون مبالغة.
السبب الثاني: إطالة السفر، قالوا: وكلما بعد السفر كان رجاء الإجابة للدعاء أقرب، والمسافر مستجاب الدعوة حتى يعود إلى أهله، رحمة من الله؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فالمسافر مستجاب الدعاء، فإذا طال سفره كان أرجى لإجابة دعوته.
السبب الثالث لإجابة الدعاء: قوله عليه الصلاة والسلام: (يمد يديه إلى السماء) فهذا يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وفي الصحيح في قصة عبيد بن مالك الأشعري رضي الله عنه لما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، ورمي بسهم فقبل أن يموت قال لـ أبي موسى الأشعري: (أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى رضي الله عنه: فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبره، قام فاستقبل القبلة، ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم! اغفر لعبيدك أبي عامر، واجعله فوق كثير من خلقك يوم القيامة) ، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه.
والأحاديث في رفع اليدين كثيرة، وكما ذكرنا أنها قرابة خمسين حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف ينجبر، فالسنة رفع اليدين، فإذا رفعها بين الأذان والإقامة فلا حرج، ولا بأس، ومن تحرى السنة في هذا لا ينكر عليه.
لكن هل الأفضل أن يكون دعاؤه داخل صلاة النافلة والراتبة أو يكون بعد الصلاة؟ الجواب: إذا كان الإنسان يصلي الراتبة فليدعو فيها، ثم إذا خاف إقامة الصلاة فسلم، وبقي وقت، وأراد أن يدعو ورفع كفيه؛ فإنه لا بأس بذلك.
ونسأل الله بعزته وجلاله ونحن في هذا الوقت المبارك بين الأذان والإقامة أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين! اللهم! إنا نسألك بعظمتك ورحمتك ولطفك بخلقك، وقد عظمت الفتن والمحن، وأنت أعلم بما ظهر منها وما بطن.
يا حي يا قيوم! نسألك بعزتك وجلالك أن ترحم غربتنا، اللهم! ارحم غربتنا في هذا الزمان، والطف بنا يا رحيم يا رحمان، اللهم! ثبتنا على الدين الذي يرضيك عنا، واختم لنا بخير.
اللهم! فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين في كل زمان ومكان، اللهم! فرج عن إخواننا في فلسطين، اللهم! اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعداء الدين حيثما كانوا، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، يا حي يا قيوم! خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل عليهم بأسك ولعنتك، إله الحق، يا حي يا قيوم! إنهم طغوا وبغوا، اللهم! فعليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! من لليتامى والأرامل والضعفاء المضطهدين المشردين في مشارق الأرض ومغاربها من عبادك المسلمين.
اللهم أغثنا وأغثهم يا حي يا قيوم! وأغث كل مسلم ومسلمة يا حي يا قيوم! يا أرحم الرحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.








ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:46 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (515)

صـــــ(1) إلى صــ(7)



شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [1]
الزنا حرمه الله في جميع الشرائع لعظم فحشه وكثرة أضراره، فهو يفسد الفرد، ويدمر المجتمعات، ومن رحمة الله بعباده أنه حرمه عليهم، وزجرهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزاني، ولابد من توافر شروط حتى تقام هذه الحدود.
تعريف الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد الزنا] معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبل أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاح ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجا من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح.
وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعا بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: (ولا شبهة) ، وذلك لو أن شخصا حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحا، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلا جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضا لو أن امرأة وطئها رجل، وكانت تظنه زوجا لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضا، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفا، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.
أدلة تحريم الزنا
حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] ، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام:151] ، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء:32] ، فنهانا عن القرب من الزنا فضلا عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصدا وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحا وجرما عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.
ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) [الفرقان:68] ، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.
ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دال على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، قيل في قوله: {وحرم ذلك} [النور:3] : إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقا، وكانت امرأة بغيا بمكة، وكان فقيرا، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد، ونظرا لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.
الحكمة من تحريم الزنا
الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة.
والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره) ، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه! قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرما وأعظم ذنبا من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلا، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقا، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قتل تعزيرا.
والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) ، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه.
والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاء، وأعظمها فسادا على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالا، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقا من قلبه.
قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.
رجم الزاني المحصن
قال رحمه الله تعالى: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] أي: إذا فعل الزنا في حالة كونه محصنا، وتوافرت فيه شروط الإحصان؛ فإنه يرجم حتى يموت، وهذه العقوبة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .
ونص عليه الصلاة والسلام على الرجم بالفعل؛ فإن ماعزا لما اعترف عنده قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، كما في صحيح مسلم، ورجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا، ورجم اليهودي واليهودية، فهذا كله يدل على مشروعية الرجم، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن تطاول الزمان بالناس ليقولن أحدهم: إن الرجم ليس في كتاب الله، كما يقول ذلك الآن من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون: ما نعمل إلا بالقرآن، ولا يعملون بالسنة! ألا ساء ما يقولون، وساء ما يزرون، فرد السنة كرد القرآن -والعياذ بالله-، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان ريان متكئا على أريكته) -وقد وقع هذا من بعض العظماء المتأخرين من أهل الجاه، فصدقت معجزته عليه الصلاة والسلام- قال: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث مما قلته أو أمرت به فيقول: ما نجد هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه) ، وأنكر عمر في خطبته على من ينكر الرجم لكونه غير موجود في القرآن، حيث أن الله يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] وما ذكر الرجم، فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: إنها كانت في كتاب الله ثم نسخت، قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة؛ نكالا من الله، والله عزيز حكيم) والحديث فيها صحيح، ثم نسخت، وهذا مما نسخ تلاوة وبقي حكما، وقد بينا أن المنسوخ أقسام: منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ الحكم دون التلاوة، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا من أمثلته، ومن أمثلته كذلك ما تقدم في الرضاعة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات) .
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرجم عقوبة شرعية، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ورجم الأئمة في القرون المفضلة، وكلهم على اعتبار هذه العقوبة، وأنها شرعية، وشرطها الإحصان.
حقيقة الإحصان
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح] في الزنا عقوبتان: العقوبة الأولى: للبكر، والعقوبة الثانية: للثيب، والعقوبة للبكر أخف، وهو غير المحصن، وسنبينه إن شاء الله، والعقوبة للمحصن -وهو الثيب- أشد؛ لأنه كما يقول العلماء: كفر نعمة الله عليه، فإن الله حصن فرجه بالزوجة، وحصن فرجه بالحلال، فأبى إلا أن يعتدي حدود الله عز وجل، فابتدأ المصنف رحمه الله في عقوبة الزنا بالأشد، وهي عقوبة المحصن، وبعض العلماء يبدأ بعقوبة البكر من باب التدرج بالأدنى إلى الأعلى، لكن لما كان الباب باب حدود وعقوبات؛ فالبداءة بالحد الأعظم أنسب، وفي بعض الأحيان يراعي المصنف البداءة بالأدنى تدرجا إلى الأعلى، ولكل له وجهه.
قوله: (من وطئ) يعني: من جامع امرأته المسلمة، والإحصان في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمعنى النكاح، والعفة، والحرية، والإسلام، فهذه كلها من معاني الإحصان، وأصل مادة (حصن) في لغة العرب: منع، فالإنسان الذي تتوافر فيه شروط الإحصان؛ الغالب أنها تمنعه من الوقوع في الحرام، قال: من وطئ زوجته المسلمة، ولا بد من الوطء وهو: إيلاج الحشفة، بأن يجامع زوجته، فلو عقد على امرأة ثم زنى قبل أن يدخل بها فليس بمحصن؛ لذا قال: من وطئ زوجته، فلو أن رجلا بكرا عقد على امرأة ثم -والعياذ بالله- زنى قبل أن يدخل بها، فلا نقول: إنه محصن؛ لأنه لم يتحقق شرط الدخول والوطء، فلا بد أن يكون هناك وطء، وأن يكون الوطء لزوجته، فخرج وطء الأمة، الذي هو التسري، فلو أنه وطئ أمته ومملوكته فليس بمحصن، ثم قال: (المسلمة) ، فلو تزوج من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية فهل يحصن؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، وظاهر حديث كعب بن مالك عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحصنك) ، فأخذ منه أن من تزوج كتابية فلا يتحقق الإحصان بها، فلا بد وأن تكون زوجته مسلمة، لكن في الحديث كلام.
واختار المصنف رحمه الله أن الذمية يتحقق بها الإحصان، ومن العلماء من قال: إن الوطء للكافرة سواء كانت يهودية أو نصرانية لا يتحقق به الإحصان، واحتجوا بحديث الدارقطني في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية قال له: (إنها لا تحصنك) ، واحتج الحنابلة ومن وافقهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب) ، ووطء الذمية كوطء المسلمة من حيث الأصل؛ لأنه عف بوطء شرعي معتبر.
وحديث الدارقطني فيه ابن أبي مريم، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، ومنهم الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، فعلى القول بضعفه يترجح المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أن الذمية يتحقق بها الإحصان كالمسلمة؛ لإذن الشرع بنكاح أهل الكتاب، وعلى القول بأن الحديث حسن، فهو نص في موضع النزاع، حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الذمية لا تحصن الناكح، والأشبه أنها تحصنه، لعموم حديث: (الثيب بالثيب) .
وقول المصنف رحمه الله: (في نكاح صحيح) ، خرج النكاح الفاسد، فلو أنه نكح بنكاح شغار، أو نكح بنكاح متعة، وكان يظن أن هذا جائزا، لبس عليه شخص وقال له: نكاح المتعة جائز، فجاء وعقد عقد متعة، ثم لما علم أن عقد المتعة حرام؛ ترك زوجته التي استمتع بها، ثم زنى، فهل عقد المتعة الذي وقع منه يحصل به إحصانه؟
الجواب لا؛ لأنه لا بد أن يكون الوطء في نكاح صحيح معتبر، فيخرج من هذا المختلف فيه، فلو أن حنفيا تزوج بدون ولي على مذهب الحنفية أن الولي لا يشترط، وعند الحنابلة والشافعية لا يصح النكاح بدون ولي، ولكن نحكم بصحته؛ لأنه يعتقد صحة هذا النكاح، فخرج المختلف فيه في الفروع، فالمراد: أن يكون فاسدا بحكم الشرع، فإذا كان فاسدا بحكم الشرع؛ فإن وجود هذا النكاح وعدمه على حد سواء، ونقول: ليس بمحصن فلا يرجم، وإنما يجلد.
شروط إقامة الحد على المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وهما بالغان عاقلان] .
أي: لا نحكم بكونه محصنا إلا إذا تزوج بالغة، فلو أن رجلا تزوج امرأة عمرها أربع عشرة سنة ولم تحض، فوطئها ثم زنى، فالعقد موجود، ووطء المرأة موجود، ولكنها غير بالغة؛ فإذا لم تكن بالغة فإنها لا تحصنه، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله، وخالف بعض الشافعية رحمهم الله، لكن يقول البعض: قبل خلافه لم يكن يوجد من يخالف في هذه المسألة، فلا بد من البلوغ ولا بد من العقل؛ لأن هذا محل التكليف، قالوا: ومن الأدلة عليه أنه لو أن صبيا وصبية زنيا لم يقم عليهما الحد، فكيف نحكم بثبوت الإحصان الذي هو موجب الحد؟!! قالوا: فلا بد وأن يكون بالغا، وأن تكون زوجته بالغة، حتى يثبت إحصانه، وإذا ثبت إحصانه يرجم، أما إذا تزوج صغيرة أو مجنونة، مثلا كانت قريبته مبتلاة بمس من الجن فقال: أريد أن أتزوجها وأسترها، أو رجل فقير ليس عنده مال، ولم يجد إلا امرأة مجنونة، فعقد عليها وأراد أن يسترها، أو رجل أراد أن يحتسب في امرأة مسلمة مجنونة فتزوجها، فلما تزوجها زنى بعد نكاحها، فإننا لا نحكم بإحصانه، لا بد من وجود الكمال في الاثنين، في الرجل والمرأة، فيكون بالغا وتكون بالغة، ويكون عاقلا وتكون عاقلة، وعلى هذا؛ لا إحصان إذا كان أحدهما مجنونا أو كانا مجنونين، فلو أن مجنونا زوج أثناء جنونه، ثم أفاق من جنونه فزنى، فإننا لا نحكم بإحصانه حينما كان في حال جنونه ناقص الأهلية، ولو أن ولدا صغيرا زوجه أبوه قبل البلوغ، ثم بمجرد بلوغه وقع في الزنا، فإنه غير محصن.
إذا: يشترط أن يكون الاثنان بالغين عاقلين حتى يثبت الإحصان، فالإحصان يشترط فيه: البلوغ والعقل في الزوج والزوجة.
ويقول بعض العلماء: يشترط ذلك في أحدهما، بحيث لو كان الثاني مجنونا ثبت الإحصان لغير المجنون، ولو كان أحدهما صبيا ثبت الإحصان للبالغ، فلو أن رجلا بالغا تزوج صبية، ثم وطئها، ثم زنى، حكمنا بإحصانه، ولكن هذا قول ضعيف، وهو القول الذي ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وقد وافقهم بعض أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
قال المصنف رحمه الله: [حران] .
لأن الله تعالى يقول: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، فبين سبحانه وتعالى أن الأمة عليها نصف ما على المحصنة، فجعل الإحصان قيدا في الحرية، وهذا شبه إجماع من العلماء رحمهم الله، وهناك من يحكي قولا شاذا، لكن المعروف عند أهل العلم أن الرجم لا يكون للعبد ولا للأمة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن اختل شرط منها في أحدهما؛ فلا إحصان لواحد منهما] .
إن اختل الشرط في الاثنين فلا إشكال قولا واحدا، وإن اختل في أحدهما فالجماهير على أنه كاختلاله فيهما، وقد بينا هذا.






ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:48 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (516)

صـــــ(1) إلى صــ(13)



شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [2]

الزنا من أعظم المحرمات، وقد شرع الله الحد فيه ليزجر العباد عن الوقوع في هذه الفاحشة، ويختلف الحد بحسب اختلاف حال الزاني: فإن كان محصنا فعقوبته الجلد ثم الرجم، وإن كان غير محصن فعقوبته الجلد ثم التغريب عاما.
واللواط من أعظم الفواحش، وقد اختلف العلماء في عقوبة من فعل ذلك.
حد الزاني غير المحصن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا زنى الحر غير المحصن، جلد مائة جلدة، وغرب عاما] شرع المصنف رحمه الله في بيان عقوبة الزاني غير المحصن، وهو الذي وصف في السنة بالبكر، فبعد أن بين أعلى الحدين في الزنا -وهو حد الرجم- شرع في بيان عقوبة الزاني البكر، وهي عقوبتان دل عليهما الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما العقوبة الأولى فهي الجلد، وأما العقوبة الثانية فهي التغريب.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، واختلفوا في تغريبه، وسنبين إن شاء الله تعالى أقوال العلماء وأدلتهم والراجح منها.
عقوبة الجلد
أما بالنسبة لعقوبة الجلد فقد نص الله عز وجل عليها في كتابه، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من سنته، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله سلفا وخلفا.
فأما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] ، وهذه الآية الكريمة -كما يقول علماء الأصول- نص في وجوب الجلد على الزاني، وإذا قيل: إن الآية نص أو الحديث نص؛ فهذا أقوى أنواع الدلالة؛ لأن الدلالة على مراتب أعلاها وأقواها -كما بينا غير مرة- هو النص، والنص هو: الذي لا يحتمل معنى غيره، مثل: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] ما فيها احتمال، ولا تتردد بين معنيين فأكثر، فالآية المذكورة نص في ثبوت حد الجلد مائة جلدة على من زنى، والقاعدة عند علماء الأصول: أن الحكم إذا جاء مرتبا على وصف مشتق دل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم أو الوصف هو علة الحكم، فالله عز وجل يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، جاء الحكم في قوله: (فاجلدوا) مرتبا على اسم مشتق وهو اسم الفاعل: (الزانية والزاني) فدل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم وهو الزنا علة الحكم، فكأن الله يقول: أمرتكم بجلدهما من أجل الزنا، وعلى هذا فإن الآية الكريمة نص على ثبوت هذا الحد.
أيضا الآية نص من وجه آخر وهو: أن الله جعل الحد مائة جلدة، والإجماع على أنه لا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ لأن الله يقول: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، وعند العلماء لفظة (المائة) لا تحتمل معنى آخر، فالحكم نص، والعقوبة التي تضمنها ذلك الحكم نص أيضا.
وفي الصحيحين في قصة العسيف -وهو الأجير- الذي زنى بامرأة صاحب الغنم، فلما ترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: (إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام -الذي هو البكر-، وعلى امرأة هذا الرجم، واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، فهذا يدل على أن الجلد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث عبادة في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) .
فثبت نص الكتاب والسنة على عقوبة الجلد، وأجمع العلماء سلفا وخلفا على أن الزاني غير المحصن الحر يجلد مائة جلدة، هذه هي العقوبة الأولى.
عقوبة التغريب
والعقوبة الثانية في حده: التغريب، والتغريب في لغة العرب: مأخوذ من (غرب الشيء) : إذا توارى وغاب عن الأنظار، ولذلك يقولون: غربت الشمس، إذا توارت عن الأنظار، وهذه المادة تطلق على الشيء البعيد، ومنه سمي الغريب غريبا؛ لأنه بعيد عن أهله، وقد غاب عن وطنه وبلده ومسكنه، فالتغريب: عقوبة شرعية تقع في الحدود وفي التعزيرات، فأما في حدود الله عز وجل فيقع في حد الزنا وحد الحرابة، ونص الله عز وجل عليه في حد الحرابة {أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] بلفظ: النفي، والنفي هو: التغريب، ونصت السنة عليه في حد الزنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (وتغريب عام) في حديث العسيف، وفي حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم.
فثبت بهذا أن عقوبة التغريب تقع في الحدود الشرعية، في حد الزنا وفي حد الحرابة، لكنها قد تقع في غير الحدود على سبيل التعزير، كما أثر عن عمر في نفي شارب الخمر، وهذه العقوبة قد يستخدمها الإمام إذا رأى المصلحة في نفي رجل فاسد، وعليه حمل ما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفى المخنثين، فهذا يدل على مشروعية هذه العقوبة في التعزير للإمام، فإذا رأى المصلحة في إبعاد شخص أو أشخاص عن مكان ما أو موضع ما؛ فإنه لا بأس بذلك ولا حرج، وقد يستخدمه المفتي في فتاويه تنبيها على استصلاح الأنفس كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فاستفتى أعلم أهل زمانه -وهو آخر الرجلين قولا في المسألة- فدل على هذا العالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، آخرها نفس عابد، فهل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك من التوبة؟ ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون، فارتحل إليها، فهذا يستخدمه أهل العلم في الفتوى، ويستخدمه الإمام، ويستخدمه القاضي للمصلحة، وهذا التغريب يسمى (التعزير) ، وبابه باب التعزير.
فالزاني المحصن -رجلا كان أو امرأة- يغرب سنة كاملة إلى مسافة القصر فأكثر، وما كان دون مسافة القصر -وهو مسافة السفر- فليس بتغريب، وهذا التغريب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين السابقين، وثبت عن أبي بكر وعمر كما في رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا وغربا، وأثر عن علي رضي الله عنه أنه غرب إلى البصرة، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن غرب إلى خيبر، وإلى البصرة، وكل ذلك مسافة قصر فأكثر.
مسألة: هل يشرع التغريب في عقوبة الزنا؟ وهل هو واجب لازم من تمام العقوبة والحد؟ قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع أنه يجب تغريب الزاني الحر غير المحصن سنة كاملة، وهذا من حيث الجملة، وعندهم خلاف في مسألة: هل يشمل التغريب الرجال والنساء؟ فالجمهور متفقون على أن التغريب عقوبة في الزنا من حيث الجملة، وإذا قلنا: من حيث الجملة فمعنى هذا أن الجمهور عندهم خلاف عند التفصيل، من الذي يغرب؟ ومن الذي لا يغرب؟ دائما إذا قلنا: في الجملة؛ فمعناه أن التفصيل فيه خلاف، وقد تكون هناك شروط عند بعضهم، لا يعتبرها آخرون.
القول الثاني: لا يجب التغريب، وهو إلى الإمام إن رأى المصلحة أن يغرب غرب، لكنه ليس من الحد، وليس بلازم ولا واجب، وهذا مذهب الحنفية.
أما الذين قالوا بوجوب التغريب في حد الزنا فقد استدلوا بصحيح السنة في حديثي عبادة بن الصامت وأبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عن الجميع، ووجه الدلالة منهما أن في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قال صلى الله عليه وسلم: (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام) ، وفي لفظ: (جلد مائة، ونفي سنة) ، وقال في حديث عبادة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام) ، قال الجمهور: نص هذان الحديثان على ثبوت هذه العقوبة، والإلزام بها، فدل هذا على وجوبه، وأنه من تمام الحد، وأن حد الزاني البكر غير المحصن أن يجلد، ويغرب سنة كاملة.
واستدلوا أيضا بقضاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، وحكي عن عثمان أيضا رضي الله عن الجميع، فإنهم غربوا في حد الزنا، قالوا: فهذا كله يدل على أن التغريب سنة كاملة من الحد والعقوبة.
أصحاب القول الثاني قالوا: لا يجب التغريب، وللإمام التغريب إن رأى المصلحة، لكن من حيث الأصل ليس بواجب، وليس من تمام الحد، واستدلوا بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، قالوا: إن الله عز وجل أمر بجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولم يأمر بشيء زائد عن ذلك، وعند الحنفية قاعدة وهي: الزيادة على النص نسخ، فإن قيل لهم: إذا كانت الزيادة على النص نسخ فهذه زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله وعليه وسلم، قالوا: هي جاءت في خبر الآحاد، والقرآن قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني، فعندهم أصلان: الأول: أن الزيادة على النص نسخ، والثاني: أنه لا يجوز نسخ القطعي بالظني، قالوا: إن الظني -وهو خبر الآحاد- يمكن أن يخطئ فيه الراوي، وتدخل عليه الاحتمالات، والخبر القطعي لا مجال فيه لذلك، فلا يمكننا أن نترك اليقين بالشك، هذا وجه قولهم من ناحية نظرية، والمسألة مبسوطة في الأصول.
وقالوا أيضا: التغريب فيه عقوبة من لم يذنب.
واستدلوا أيضا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نفى شارب الخمر إلى خيبر، فلحق بـ هرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب أحدا بعد اليوم، هذا حاصل ما استدلوا به.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب التغريب في الحد؛ لما يلي: أولا: لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وبهذا قال الجمهور، وهو مذهب صحيح وثابت، ولا إشكال فيه من حيث الدليل.
ثانيا: استدلالهم بالآية الكريمة لا يصح، ونقول: إن الزيادة على النص ليست بنسخ، ولا نسلم لهم أنها نسخ؛ لأن النسخ فيه رفع، والزيادة على النسخ ليس فيها رفع، بل فيها إثبات، وقد تكلم الجمهور على هذه المسألة، وبينوا أن الزيادة على النص ليست نسخا.
ولو سلمنا جدلا أنها نسخ، فما المانع أن تنسخ السنة القرآن إذا ثبتت بنص صحيح، ولقد صلى الصحابة رضوان الله عليهم بقباء، فأتاهم رجل فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر وقد وجه إلى الكعبة، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، وكان عندهم نص قطعي أن يستقبلوا بيت المقدس، وقد رءوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم فيه شك، ثم جاءهم النسخ بخبر الآحاد، وخرجوا عن قطعي ما شاهدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ من الدلالات المحتملة- ورجعوا إلى خبر الآحاد، والقول بأنه لا ينسخ خبر الآحاد النصوص القطعية قول مردود، فالصحابة ما قالوا: كيف نترك اليقين بهذا الخبر؟ هناك يقين، وهناك شك، وهناك درجة بين اليقين والشك ملحقة باليقين، وهي غالب الظن، فإذا جاءنا الخبر من رجل معروف بالصدق ثقة عدل؛ فإنه يغلب على ظننا أنه صادق، ولذلك أباحت الشريعة دماء الناس وأعراضهم، وأوجبت الحدود بشهادة العدلين، فالقصاص يثبت بغلبة الظن بشهادة العدلين، فالشريعة نزلت الظن الغالب منزلة اليقين، وبهذا يبطل ما استدل به الأحناف.
حكم تغريب المرأة الزانية
إذا ثبت أن التغريب عقوبة شرعية ف
السؤال هل تغرب المرأة مع الرجل أم أن التغريب يختص بالزاني دون الزانية؟ وجهان عند الجمهور الذين قالوا بثبوت التغريب: فجمهور الجمهور -وهم: الشافعية والحنابلة والظاهرية- يرون أن التغريب يشمل الرجال والنساء، وخالف المالكية رحمهم الله فقالوا: يغرب الرجل، ولا تغرب المرأة.
استدل الجمهور بعموم قوله عليه الصلاة والسلام (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام) ، وهذا شامل للذكر والأنثى.
واستدل المالكية بقوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث ابن عمر في الصحيحين-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) ، قالوا: أنتم تقولون: إن التغريب إلى مسافة القصر، ومعنى ذلك أن المرأة إن غربناها ستسافر بدون محرم، وهذا خلاف النص، وإن غربناها مع المحرم فسنظلم المحرم الذي لا ذنب له، هذا وجه استدلالهم بالحديث.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بثبوت التغريب للرجال والنساء على حد سواء لما يلي: أولا: لصحة دلالة السنة على ذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام) ، ولم يفرق بين الرجل والمرأة.
ثانيا: أن ما ذكروه من الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) ، جوابه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أننا ظلمنا المحرم، وهذا من أقوى الأجوبة، قال بعض العلماء: لأنه لا تزني المرأة إلا بتقصير من أهلها ومحارمها، وإذا علم المحرم أن زناها ووقوعها في الحرام سيجره إلى العقوبة معها، وسيتحمل شيئا من العقوبة؛ حفظ الناس أعراضهم، فمن هنا نقول: ما ظلمنا المحرم؛ لأنه لا يقع زنا المرأة إلا بنوع من تفريط أهلها، وهذا أبلغ في تعظيم حدود الله، وزجر الناس عن التساهل فيها، وحينئذ لا يمتنع أن الشريعة تشرك المحرم في عقوبة التغريب.
الوجه الثاني: نقول: لا مانع أنه يذهب بها، ثم يقفل راجعا؛ لأن الأصل أن الإمام إذا غرب الزانية أن يضعها في مكان يؤمن فيه الفساد، كما لو سافرت لحاجتها في بلد، فتركها المحرم في البلد عند قرابتها أو نحوهم ممن يصونها، ففي حال السفر يشترط المحرم، أما إذا بقيت واستقرت في موضعها بدون محرم فرخص فيه غير واحد من العلماء، وبهذا يبطل ما ذكروه، وناظر الإمام الشافعي رحمه الله في هذه المسألة مناظرة طويلة نفيسة، مليئة بالعلم، وقوية في الحجة في كتابه النفيس (الأم) ، وبين أن نصوص الشرع على هذا، وأنها دالة على ثبوت التغريب واعتباره.
إذا ثبت هذا، فيغرب سنة كاملة، وهذا -كما ذكر العلماء- فيه حكم عظيمة، قالوا: إن الزاني لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يكون فاسدا في نفسه.
والحالة الثانية: أن يكون الفساد من غيره.
فإن كان فساده من نفسه فالمائة جلدة على ظهره أبلغ في زجره ومنعه من الزنا مرة أخرى، وإن كان زناه بسبب قرناء سوء أو نحو ذلك، قطع عنهم سنة كاملة، ويهيئ له ما يعينه على الصلاح بعد العقوبة، فتغريبه عن موضعه الذي هو فيه أبلغ في حصول التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
حكم حبس الزاني عند تغريبه
مسأله: إذا غرب سنة كاملة، ينقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى أخرى، ولا يبقى في المدينة التي فعل فيها الزنا، وإذا كانت المدينة التي فعل فيها الزنا هي مدينته التي هو فيها، فلا إشكال أنه يغرب عنها إلى أي موضع على مسافة القصر، وإذا غرب هل يحبس أو يترك؟ وجهان للعلماء: جمهور العلماء رحمهم الله أنه يغرب إلى غير مدينته ولا يحبس، بل يترك يقضي مصالحه، ويفعل مصالحه، ويراقب فلا يرجع إلى بلده التي غرب منها، وهذا مذهب الجمهور الذين قالوا بالتغريب.
ومن أهل العلم من قال: إذا غرب فإنه يسجن في مكان تغريبه سنة فيمنع من الناس، خشية أن يفر أو يرجع إلى البلد الذي زنى فيه، والأول أقوى وأظهر.
وقول المصنف رحمه الله: (الحر) أخرج العبد والرقيق، والجمهور على أن الرقيق لا يغرب، وبعض العلماء يقول بالتشطير في الجلد وفي التغريب لقوله تعالى: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، وستأتي هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [ولو امرأة] .
سبق أن قلنا: إن المصنف إذا جاء بلفظ (لو) فإنه يشير إلى خلاف مذهبي، وذكرنا أن من العلماء من يقول: إن المرأة لا تغرب، وعلى هذا فإن قوله: ولو، يشير به إلى أن في المسألة خلاف، والذي اختاره جماعة الأصحاب عن الإمام أحمد رحمه الله أن التغريب يشمل الرجال والنساء على حد سواء، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
حكم الرقيق الزاني
قال المصنف رحمه الله: [والرقيق خمسين جلدة ولا يغرب] هذا القول الذي أشرنا إليه؛ لأن الرقيق مرتبط بخدمة سيده، فالقول بأنه لا يغرب هو الأقوى، وقال بعضهم: بالتغريب، وبعض المتأخرين يقول: بالتشطير، والذي عليه الأكثرون أنه لا يغرب الرقيق سواء كان ذكرا أو أنثى، والدليل على أنه لا يغرب: ما ثبت في الصحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت في الثانية؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الرابعة؛ فليجلدها الحد وليبعها ولو بظفير) ، ولم يذكر التغريب، وهذا يدل على أن عقوبة التغريب ساقطة، فأصح القولين سقوطه خلافا لمن قال: إنه يغرب، وأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه غرب أمة من إمائه.
حد اللوطي
قال المصنف رحمه الله: [وحد لوطي كزان] اللواط من الفواحش العظيمة، وهي من كبائر الذنوب -أعاذنا الله وإياكم منها- وهي: إتيان الرجل الرجل، وقد عاقب الله عز وجل من فعلها -وهم قوم لوط- فرفعهم إلى السماء ثم جعل عالي القرية سافلها، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل، وهذا أبلغ ما يكون من العقوبة، وذكر بعض أئمة التفسير أنه رفعت القرية حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الدواب، وهذا من أبلغ وأشد ما يكون عقوبة نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك شنع الله عز وجل هذه الفاحشة، ووصفها بالخبث، ووصفها بالفسق وبالسوء قال: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} [الأنبياء:74] ، فوصفهم بهذه الأوصاف، ووصفهم بالجهل، ووصفهم بالاعتداء {بل أنتم قوم تجهلون} [النمل:55] ، فهذا كله يدل على حرمة هذا الذنب.
وأجمع العلماء على التحريم، وأنه من كبائر الذنوب، لكن اختلفوا في عقوبة من فعل هذه الجريمة، والذي عليه الحنابلة والشافعية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أصحاب الإمام مالك أن حد اللواط كحد الزنا، سواء بسواء، يجلد ويغرب إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا.
ومذهب الحنفية أن يحبس حتى يتوب أو يموت.
وقال بعضهم: يقتل، وهو اختيار بعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، واختلفوا في قتله، فقال بعضهم: ينظر إلى أعلى دار فيرمى منها منكسا، كما أثر ذلك عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، واستدلوا بأن الله عز وجل عاقب قوم لوط بهذه العقوبة، ولكن هذا ضعيف، ووجه ضعفه أننا لو قلنا بأنه يرمى من أعلى دار أو يحرق بالنار كما أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ للزم من هذا أن التاجر إذا طفف الكيل أخذ بعقوبة قوم شعيب المذكورة في القرآن، والذي يظهر أن قوم لوط كان عندهم جريمة أشد من اللواط وهي كفرهم بالأنبياء، فكفروا بنبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، واجترءوا على حرمته، وعقوبتهم كانت جماعية، وجاءت بسبب ذنوب الجماعة، وليست كعقوبة الفرد، فالاستدلال بمثل هذا يحتاج إلى نظر؛ لأنه لو درج على هذا لانتقضت كثير من الأحكام، وما أثر عن بعض الصحابة فلا يمنع أن يكون ذلك منهم على سبيل التعزير والزجر؛ لأنه إذا وقع الشيء كأول حدث فإن الفاعل قد يعاقب بأشد العقوبة حتى لا يتتابع الناس عليه، فيكون فيه معنى زائد عن الجرائم المعتادة المألوفة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن إلحاق النظير بنظيره أقوى من إلحاقه بعقوبة الله عز وجل لقوم لوط؛ لأن قوم لوط كفروا بنبي الله عز وجل، وكذبوه، وردوا ما جاء به، ولم يقبلوا أمره لهم بالطهارة، ولم يقبلوا أمره لهم بالعفة، فهذا يضعف جعل هذه العقوبة أصلا، وأما ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أصل، فيلتحق اللوطي بالزاني، ويأخذ حكمه محصنا كان أو غير محصن، هذا هو الأشبه والأقعد والأقرب والأقوى دليلا إن شاء الله تعالى.
وقد بين المصنف رحمه الله تعالى أن حده كالزاني، وقد تقدم حد الزاني سواء كان رجلا أو امرأة، فإن كان اللوطي محصنا جلد ثم رجم، وإن كان غير محصن فإنه يجلد ويغرب سنة.
مسألة: السحاق هو: استمتاع المرأة بالمرأة، وهو محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وهل يأخذ حكم الزنا أو لا يأخذه؟ الصحيح: أنه لا يأخذ حكم الزنا؛ لأنه لم يحصل فيه الإيلاج الذي يترتب عليه الحكم، كما سيأتينا في حد الزنا، ومن هنا تكون عقوبة السحاق قاصرة، والأشبه أنه يرجع فيها إلى نظر الإمام، فيعزر بما يراه زاجرا ومانعا عن السحاق.
لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللواط شيء، فيه أحاديث فيها الأمر بالقتل لكن في سندها ضعف، والأشبه ما ذكره أهل العلم.
وهنا مسألة نحب أن ننبه عليها: المبالغة في فهم بعض النصوص أمر صعب جدا على طالب العلم وعلى من يريد أن يؤصل تأصيلا شرعيا صحيحا، فبعض العلماء يقول: إن من فعل جريمة اللواط لا تقبل له توبة ولا يختم له بخير، ولا يدخل الجنة!! وقد وردت كثير من الأسئلة فيها استشكال هذا، سبحان الله العظيم!! من هذا الذي يستطيع أن يقول: إن اللواط فاق الشرك، وأصبح أعظم من الشرك والكفر بالله عز وجل!! نعم هو جريمة ممقوتة، وملعون من فعلها، لكن لا نقول: إن الله لا يقبل توبته، وإنه لو تاب لا تحسن خاتمته، وإنه لا يمكن أن يدخل الجنة، من هذا الذي يستطيع أن يذكر هذه الأمور ويقطع بها على الله عز وجل، والنصوص جاءت بخلافها!! والله تعالى يقول في محكم كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48] ، وقد مر بنا في بعض الأسئلة أن رجلا وقع في هذا البلاء، فقال: إنه لا يريد أن يسلم، ولا يريد أن يطيع الله عز وجل بعد سماعه هذا الكلام، يأس من رحمة الله عز وجل نهائيا، حتى فهم وبين له بالدليل الشرعي: أن هذه المعصية من تاب منها توبة نصوحا تاب الله عز وجل عليه، وليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل، وقد تاب الله عز وجل على المشرك إذا تاب وصدق في الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
فننبه على هذا، خاصة وأن بعض الوعاظ ينقل من بعض هذه الكتب، وهذا الشخص الذي يأس -والعياذ بالله- من رحمة الله، وكاد أن يهلك، قال: سمعت خطيبا قالها في خطبته، وبعضهم يقولها في المحاضرات المسجلة على الأشرطة، وهذا من ضعف الفقه في وعظ الناس، ليس كل وعظ يقال ينقل للناس، بل ينبغي أن يضبط بالضوابط الشرعية.
وننبه أيضا على الأصل العام، وهو أن الوعظ فيه دخن، وينبغي الحذر منه، وكتب العلماء التي في الوعظ والرقائق وذكر العباد والصالحين وما كانوا عليه من الصلاح؛ قد يدخل فيها أمور تخالف النصوص الواضحة من الكتاب والسنة، والعلماء لم ينبهوا عليها؛ لأن هذه الكتب أصلا كانت تنسخ باليد، وما كانت تقع إلا في يد عالم، وليس كزماننا الآن الكتاب يقع في يد كل شخص، كان في القديم الكتاب عزيز، ولا تجد منه في العالم كله إلا نسخة أو نسختين، فما كان يقع إلا لعالم يأتي ويقول: أريد هذا الكتاب تنسخه لي، ويجلس الناسخ سنة كاملة أو سنتين وهو ينسخ الكتاب، هذا كله لعزة الكتب، فكانت هذه الكتب لا يقرؤها إلا العلماء، وهم يعرفون غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، ومن هنا يعرف الجواب على من يستشكل أن هذه الكتب كانت منشورة وتنسب لأهل العلم، فنقول: إنها كانت منشورة بين أهل العلم الذين يعرفون صحيحها من ضعيفها، وهذا الذي جعل بعض الغيورين ينبهون على بعض ما فيها من الأخطاء، مثل قولهم عن الإمام فلان: كان يصلي ثلاثة آلاف ركعة، وآخر كان يسبح ثلاثين ألف تسبيحة في اليوم، كيف ثلاثين ألف تسبيحة؟!! كيف يكون هذا؟!! في الثانية كم سيسبح؟!! هذا من المبالغات، إلا إذا كان كما يقول بعضهم: من وصل إلى مقام رفيع فإنه إذا جر سبحة فيها ألف حبه تحسب له ألف تسبيحة، سبحان الله!! قول على الله بدون علم، وجرأة، انظروا كيف الشيطان يستزل الإنسان؟ إذا يئس منه بالمعصية جاءه من باب الطاعة، فليحذر من مثل هذه الأمور، والتحذير منها مهم جدا، ومثل ذلك أيضا ما قيل عن الإمام أبي حنيفة أنه مكث أربعين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء، أستغفر الله! كيف وزوجته عنده؟ لا تستطيع أن تقطع أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، من هذا الذي جلس مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله يراقبه أربعين سنة أو عشرين سنة كما يذكر بعضهم؟ هذه أشياء العاقل المنضبط الذي يعرف أصول الشرع لا يمكن أن تنطلي عليه.
قال بعض العلماء: يعرف ضعف الرواية والخبر بضعف متنها، وهذا من ضعف المتن، فوجود الغرائب في المواعظ، وفي أخبار العلماء أو في الأحكام الشرعية يدل على ضعفها، فينبغي للخطيب وللواعظ وللمحاضر وللمعلم أن يحذر من نقلها، ويحذر منها نصيحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرة على هذا الدين، وبعدا عن أن يكون الإنسان حاطب ليل، ينقل ما صفا وما كدر، وعلى طلاب العلم واجب كبير في هذا الأمر.
انظروا كيف الوعظ بمثل هذه الأمور أوصل الشخص إلى درجة اليأس من رحمة الله! حتى كاد -والعياذ بالله- أن يبقى على البعد عن الله عز وجل إلى أن يموت! ما فكر أن يرجع إلى الله لأنه سمع من قال له: إنه لا توبة لك، وإن تبت فإنه لا تحسن خاتمتك، وإذا تبت وندمت لا تدخل الجنة! فهذا من أبلغ ما يكون من القول على الله بدون علم.
وعلى طالب العلم أن يحذر، وأن ينتبه من مثل هذه الأشياء، وأن يحذر منها، وأن يبقي الأمر على السنن الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامتها وخاصتها.




ابوالوليد المسلم 23-10-2025 11:56 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
الأسئلة




حكم جمع المرأة والرجل إذا زنيا أثناء الرجم أو الجلد
السؤال رجم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة اليهوديين اللذين زنيا، فهل يفهم منه أنه ينبغي أن يقام الرجم عليهما مجتمعين وكذا الجلد أم لا حرج أن يكونا منفردين؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيشرع أن يرجما معا، ويشرع أن يرجم كلا على حده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم الزاني منفردا، ورجم الزاني والزانية جميعا، ولا يجب الجمع بينهما في العقوبة؛ لأنه قد تختلف الجناية منهما كبكر مع ثيب، وثيبة مع بكر، فالجمع بينهما ليس بواجب، وليس بصفة معتبرة في الحد، ويرجع الأمر إلى القاضي، وإلى الوالي، فإذا نظر أن المصلحة أن يفرق بينهما فرق، وإذا رأى أن المصلحة أن يجمع بينهما جمع، لما فيه من زجر للناس، وما يكون أبلغ في تحقيق المقصود الشرعي، والله تعالى أعلم.


حكم المبعض إذا زنا
السؤال إذا زنى المبعض فهل يقام عليه حد الرجم؟
الجواب المبعض فيه شبهة، وهي شبهة الرق، ولا يقام عليه حد الرجم سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأنه فيه شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، وأما قدر العقوبة فينظر إلى قسط الحرية وقسط الرق، ثم يشطر الحد بحسبهما، والله تعالى أعلم.
حكم سفر المرأة من غير محرم
السؤال إذا كان هناك بعض الأقوال على منع تغريب المرأة واختصاصه بالرجال، فما توجيهكم حفظكم الله لبعض النساء اللاتي يسافرن بالطائرات في الإجازات أو مع السائقين للعمل لمسافات أكثر من مسافة القصر؟
الجواب هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، وإذا كان أحد من أهل العلم أفتى هؤلاء النسوة بأن يسافرن بلا محرم فهو الذي يتحمل مسئوليتهن، وهن إذا كن -فيما بينهن وبين الله عز وجل- يعتقدن علم هذا العالم، وأنه حجة لهن بين يدي الله، وعملن بقوله؛ فلا ينكر عليهن، وهذا قول طائفة من السلف رحمهم الله، إذا كانت الرفقة مأمونة، وفيها حديث عدي بن حاتم المشهور في الصحيح، ولا إنكار في المختلف فيه، هذا إذا كن يتأولن هذا القول، وأما القول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز خروج المرأة مسافة القصر بدون محرم، وفي هذا نص واضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) ، فوجب البقاء على هذا النص، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (أنه جاءه رجل، وقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك) ، وما قال له: هل الرفقة مأمونة أو غير مأمونة؟ وكانت في رفقة حج، وهم صحابة رضوان الله عنهم وأرضاهم، ومع ذلك يقول: (انطلق فحج مع امرأتك) والقاعدة الأصولية أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
قال بعض العلماء: في قوله: اكتتبت، مسألة فقهية؛ لأنه حينما اكتتب في الغزوة، تعين عليه الغزو والجهاد، ومع ذلك أسقط عنه الواجب والفرض؛ لأنه إذا اكتتب الشخص وعينه الإمام، أو جاء متطوعا وقبله الإمام؛ فقد تعين عليه الخروج، وهذا حدده الإمام، قال: إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) فلا يسقط هذا الواجب إلا بواجب أعظم منه؛ لأنه من باب تقديم الفرض على الفرض، فدل على أن أمره هذا فيه صيانة للعرض، وهو أعظم، وهو نوع جهاد، فإن سفر الرجل مع زوجته ليحافظ عليها، وسفر الأخ مع أخته كذلك؛ نوع جهاد.
ولكن هنا ننبه على مسألة وهي: أن على كل واحد منا أن يتقي الله في قرابته ونسائه وعرضه، وألا يقصر في مساعدتهن، فإذا احتاجت أن تخرج وقالت له: أريدك أن تكون معي، أن تسافر معي، وبإمكانه ذلك؛ فليحتسب عند الله عز وجل ذلك، وهذا من صلة الرحم، ما دام أنها في غير معصية، وأنها في غير غضب الله عز وجل، وأنها لا تفعل الحرام، تكون خارجة لأمر مباح، أو مصلحة من مصالحها الدنيوية أو الأخروية، المصالح الدنيوية مثل: التجارة والعمل، والمصالح الدينية مثل: الحج والعمرة وبرها بوالديها، مثل أن تسافر بوالديها، فعلى الرجال أن يضحوا، أما أن يقول لها: ما يجوز لك أن تخرجي، ثم هو لا يوصلها، ويجلس المحرم يقول لها: ما يجوز لكي أن تفعلي هذا، ثم لا يفعل شيئا، ولا يقدم شيئا، فهذا من الصعوبة بمكان، ولذلك من يريد السنة أن تقبل، والحق أن يقبل، والخير أن ينتشر؛ فليضح وليقدم الثمن، ومن أبلغ ما يكون من مرضات الله عز وجل بر الوالدين وصلة الرحم، فهذان الأمران خيرهما عاجل وآجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي: يزاد له في عمره- فليصل رحمه) ، وأقرب الناس منك رحما أختك وأخوك، فالأخت والأخ هم أحق القرابة -بعد الوالدين والولد- بالصلة والبر والإحسان.
فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن ننظر للأمر بهذه النظرة، وأن يحرص الإنسان على القيام على عرضه وأهله، بعض الأخيار تحتاج أخته أن تذهب لشراء بعض الأمور التي تحتاجها أو يحتاجها أولادها، فتقول له: أريدك أن تذهب معي إلى السوق، فيقول: لا، ما تذهبي إلى السوق، وما تذهبي إلى السوق إلا مرة واحدة، جزاك الله خيرا على الغيرة، ولكن حينما تكون حكيما لبيبا محافظا على حدود الله محسنا إلى خلق الله؛ فهذا أكمل وأفضل، قل لها: اختاري وقتا مناسبا أبعد عن الفتنة، فيذهب بها مثلا في الصباح الباكر، ويقضي لها حوائجها، وينتظرها حتى تشتري ما تريد، فيكون أمر ونهي؛ وهي تحس أنه يريد الخير لها، لكن يأتي ويقفل أمامها الباب، لا تخرج ولا تدخل، ولا يقضي لها حوائجها، وإن قضى لها حوائجها جاءها بكل هم وغم، وتكلم عليها، وأساء إليها، ويحاسبها، وهذا أمر ينبغي لكل إنسان منصف أن ينظر إليه في نفسه.
والله! إننا لنعيب من غيرنا ما لو عبناه على أنفسنا لأهلكنا أنفسنا بأنفسنا، يشهد الإنسان على نفسه من حيث لا يشعر، فالواحد منا إذا قال له أخوه: أريد أن أذهب إلى السوق، يقول له: ماذا تفعل؟ وماذا تشتري؟ وكم تشتري؟ ما هذا التدقيق الذي يدققه مع أخيه؟ ولو نظر إلى نفسه لوجد أنه يذهب إلى السوق عشرات المرات، وأن الذي اشتراه أخوه مرة؛ يشتريه هو مئات المرات، هناك أمور ندقق فيها، وكأن الشيطان يتسلط علينا، ولذلك من سنن الله عز وجل أنه يجازي المخلوق بما يعامل إخوانه، ومن شدد على الناس؛ شدد الله عليه، ومن يسر على الناس؛ يسر الله عليه، وأولى الناس بتيسيرك أقرب الناس منك، جرب وانظر، فما من زوج ولا أخ يحسن إلى أهله وولده ورحمه وقرابته، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم؛ إلا كانوا أسمع ما يكون له إذا أمر أو نهى، وهذا هو الذي تؤخذ به الحجز عن النار، فلا بد للإنسان أن ينظر للأمر نظرة عامة كاملة شاملة، وألا يحرجهم لهذا الأمر، وإذا جاء في مسألة فيها شبهة، سأل بالأفضل والأكمل، وجاء به على أحسن الأوجه وأتمها.
كان بعض العلماء والفضلاء إذا احتاج أهله إلى لباس، نظر إلى أهله قبل أن يسألوه، وجاءهم بما يحتاجون إليه، ما يأتيهم بالشيء الواحد، يأتي بأربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أصناف، من أجود وأحسن ما يكون، ويضعها بين يدي زوجته، ويقول: اختاري ما شئت، فإذا بها تحار! لو نزلت هي إلى السوق لا تجد مثل هذا، فمن يريد أن يحفظ أهله؛ فليضح.
عليك أن تنظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام مع أمهات المؤمنين ومع ولده، وإذا أردت أن تكون مثل ما كان عليه، وتأمرهم، وتنهاهم، وتلزمهم بالسنة؛ فانظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام في إحسانه وبره لهم، تنظر إليه زوجا يقف لزوجته من أجل أن تنظر، وتنفس عن نفسها، وتنظر إليه عليه الصلاة والسلام أبا يدخل السرور على بنته زينب رضوان الله عنها بحمل ابنتها أمامة في الصلاة التي جعلت قرة عينه، المسألة كلها مشاعر، فقد ملك عليه الصلاة والسلام القلوب ببره وإحسانه، وكان عليه الصلاة والسلام يفتح القلوب قبل أن يفتح الأسماع، فمن ينظر إلى سيرته وهديه عليه الصلاة والسلام عندما يريد أن يقيم بيتا قائما على السنة فينبغي أن يتفقد مداخل الشيطان على أهله وولده.
بعضهم إذا أرادت زوجته أن تذهب أو تسافر يقفل أمامها الباب: لا تذهبي، ولماذا تذهبين؟ وكم تذهبين؟! جزاك الله خيرا على الغيرة، ولكن عليك أن تفكر في الأصلح والأكمل، حتى لا تجعل للشيطان عليها سبيلا، إذا فعلت ذلك؛ اتقيت الله، وكنت أحسن ما يكون حالا، وأمنت من الفتنة، فقل أن يجد الشيطان سبيلا على أمثال هذه النفوس الكريمة الأبية السوية الرضية الهنية التي تبحث عن سعادة أهلها وأولادها.
والعكس بالعكس، فإذا شدد الإنسان شدد الله عليه، وهكذا تجد من يكون عنيفا في أسلوبه، ونعرف هذا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، فبعضهم يأتي بمسائل معقدة تماما حتى تتعارض عنده نصوص الشرع؛ لأنه أوصل نفسه إلى حرج وضيق بطريقته التي يسير عليها، فلما تسأل عن أمور ترتبت عليها هذه المسائل؛ تجد أنه لا يتتبع السنة، ولا يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الأكمل والأفضل.
فهذه وصية عامة: أن يحرص الإنسان كل الحرص على أن يحفظ عرضه، ولكن يقفل الوسائل أو الطرق التي تفضي إلى وقوعهن في الفتنة، وعماد الخير في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا من المتقين، وأن يحفظ أعراضنا وأعراض المؤمنين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.
أفضلية الستر والتوبة على الاعتراف بالذنب
السؤال عدة أسئلة فيها: رجل فعل فعلا يوجب الحد وقد تاب، ولا زالت نفسه تؤنبه، فهل له أن يذهب إلى شخص من أصدقائه ليقيم عليه الحد وترتاح نفسه؟ ويقول سائل آخر: كلما قرأت قصة ماعز رضي الله عنه أصبح عندي شعور أنه لا يطهرني إلا الحد، ويقول آخر: إن كان الزاني يستغفر ويتوب فعلى من يطبق حد الزنا؟ نرجو من فضيلتكم التوجيه.
الجواب هذه الأسئلة فيها جانبان: الجانب الأول: جانب الاعتراف بالذنب، والإجماع منعقد على أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، ويحسن الظن بربه عز وجل (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ لغفرتها لك ولا أبالي) يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء -يعني: ما من ذنب إلا وفعله- ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ، من عظم ذنبه وعظم رجاؤه في الله؛ كان أكمل توحيدا لله عز وجل؛ لأن الذي يتوب مع عظم الذنب ما يتوب إلا عن عقيدة، فهو يعلم أن الله غفور رحيم، ولا يتوب إلا عن إيمان بأن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .
الله سبحانه وتعالى فتح أبواب التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، فمن هذا الذي يقفل رحمة الله عز وجل عليه؟! الإجماع منعقد أنه يستتر، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) ، وهذا أمر من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فالشيطان يأتي إلى أمثال هؤلاء ويقول لهم: إن الله لا يقبل منكم التوبة، وييأسه من رحمة الله، ويشككه في توبته إلى الله، والله عز وجل قال قولا -وهو أصدق القائلين، ووعد وعدا ولن يخلف وعده، وهو رب العالمين- فقال سبحانه وتعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه:82] ، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا أذنب بذنب فقال: رب اغفرلي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي) ، فالشاهد من هذا كله؛ أن الأصل يقتضي أن على الإنسان أن يستر نفسه، وأما اعترافه عند القاضي فهذا خلاف الأولى، وخلاف الأفضل والأكمل، وبقاؤه في الدنيا مطيعا لله؛ أعظم لأجره، وأثقل في ميزانه، وأرضى لربه، وفي الحديث أن رجلا توفي بعد أخيه بأربعين يوما، وكانا صحابيين، فتوفي أحدهما، وبقي الآخر بعده أربعين يوما، وهو أقل منه صلاحا وإحسانا، فلما توفي الثاني اختصم الصحابة: أيهما أفضل؟ فخرج صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (وما يدريكم ما الذي تبلغه صلاة أربعين يوما) ، فطول العمر في طاعة الله عز وجل غنيمة للعبد، وكم من ذنب أصلح الله به حال العبد! كم من أناس لم يتلبسوا بالذنوب فاغتروا بصلاحهم فزلت أقدامهم! وكم من أناس عرفوا السيئات فهجروها! فكلما جاءتهم لذة السيئات؛ كرهوها ومقتوها، فرفع الله درجاتهم بهذا البلاء إلى ما لم يخطر لهم على بال! حتى أن بعض العلماء يقول: من ابتلي بالذنب فتاب؛ أعظم مقاما من الذي لم يبتل به؛ لأن الذي ابتلي بالمعصية وذاق لذة الشهوة وحلاوتها ثم أعرض عنها فهذا لا يكون إلا بقوة إيمان، وقوة وازع من الله عز وجل، ومع هذا كله فإن الأصول كلها دالة على هذا الأصل ولزومه.
الجانب الثاني: مسألة من يقول: أذهب إلى زميلي ليقيم علي الحد، هذا لا يغنيه شيئا؛ لأن الحدود لا تقام إلا بوالي، ويقيمها السلطان على الوجه المعتبر بعد ثبوتها شرعا، حتى لو أقر في غير مجلس القضاء لم يؤاخذ بإقراره؛ لأن الحد لا يثبت حتى يقر به في مجلس القضاء، وهذا له أصول شرعية، فلو ذهب إلى شخص وقال له: اجلدني مائة جلدة، ما ينفعه ذلك، ولو أحضر جميع الناس لينظروا إليه، إذا لم يكن على وجهه الشرعي بقضاء شرعي، فلابد أن يكون هناك قاض يستمد قضاءه من ولاية شرعية، فإذا فعل الحد غير القاضي؛ فإن هذا لا يسقط الحد، ولو قال له: ارجمني، فرجمه، فإنه لا يعتبر حدا شرعيا من حيث الأصل.
القضية الأخيرة: وهي قول البعض: إذا كان من يتوب يستتر فمن الذي يقام عليه الحد؟ نقول: من الذي قال لك: لا بد أن تقام الحدود؟ ومن قال: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يقام فيها حد إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم؟ يقام الحد إذا ثبت، لكن لا نقول للناس: لا بد كل شهر يطلع لنا واحد يعترف بذنب من أجل أن نقيم عليه الحد! رحمة الله واسعة فلا نضيقها، لو أن الأمة عاشت الدهر كله والقرون كلها وما ثبت فيها حد زنا واحد؛ فالحمد لله، ستر من الله ستر به عباده، هل تريد أن تهتك ستر الله على عباده؟ ما تستطيع؛ لأن هذه رحمة من الله عز وجل، ولا عجب أن تكون هذه الرحمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كم من أناس زنوا ثم صلحت أمورهم واستقاموا إلى ربهم! ومنهم عباد صالحون من أئمة السلف، لهم قدم راسخة في العلم والعمل والصلاح وهداية الناس، تابوا وتاب الله عليهم، وهل هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل؟ وهل رأيت مثل عمر يحمل السيف يريد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يجعله الله إماما من أئمة المسلمين؟ من أنت حتى تدخل بين العبد وربه؟ لا يستطيع أحد أن يدخل بين الله وبين عباده، هو ربهم، وهذا حكمه، وهذا شرعه، قال لنا: نستتر، فنستتر، لو قال لنا: نكشف أنفسنا، كشفنا أنفسنا، ونعمت أعيننا بحكم ربنا، والله! لا نقدم ولا نؤخر، رضيت أنفسنا بذلك، فهذا حكم الله، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك قال سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا رحمة مهداة) ، فهذه من سمات الرحمة في الشريعة.
الشريعة وضعت الحد لمن فعل الجريمة أمام الناس، وشهد عليه الشهود، وهتك ستر نفسه، وفعل الزنا أمام أربعة شهود وشهدوا عليه؛ فهذا يقام عليه الحد حتى ولو قال: تبت، حتى ولو كان من أصلح الصالحين، وبهذا أقفلت الشريعة على الناس أبواب الفساد، لكن من وقع في الفاحشة في ستر، أو شرب الخمر في ستر، فالأفضل أن تستره.
أذكر بعض الأخيار أنه جلس معنا مجلسا ذات يوم فذكرنا مسألة الستر، فقال: أعرف رجلا كان مسرفا في الخمر، وكان شريرا كثير الفساد، فشاء الله أن أراه يوما سكران، قال: وبإمكاني أن أفضحه، فأخذته إلى بيتي حتى أفاق ثم كشفت له الأمر، وقلت له: والله! إني كنت قادرا على أن أوصلك للقضاء، ولكن صن نفسك، واتق الله في نفسك، وذكره بالله عز وجل، فانصرف ثم رجع له بعد نصف شهر وقد تغير حاله، وتلألأ وجهه، وقد كان من أشر عباد الله وأفسقهم فقال له: سترتني، أسأل الله أن يسترك في الدنيا والآخرة، واعلم أنني في تلك الساعة -التي كلمتني فيها بأنك كنت قادرا على فضيحتي ولم تفضحني- تفطر قلبي وتألم، حتى كرهت هذه المعصية تماما، وتاب وصلح حاله، ثم حفظ القرآن وأصبح من خيار الدعاة إلى الخير.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يعفو عنا وعن المسلمين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 12:00 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (517)

صـــــ(1) إلى صــ(13)





شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [3]
الشريعة الإسلامية كاملة، وقد جعلت لكل حكم شرعي قدرا، ومن الأحكام التي قيدت فيها الشريعة تقييدا شديدا إثبات الزنا، إذ لابد لإثباته من توافر عدد من الشروط، حتى لا تكون أ'راض المسلمين غرضا لأصحاب الأغراض والنوايا السيئة.
شروط وجوب حد الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط] .
بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد.
قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج:36] ، وكذلك أيضا يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجب عليك، ومنه الواجبات الشرعية.
وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.

الشرط الأول: تغييب الحشفة

قال المصنف رحمه الله: [أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها] .
لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيب رأس الذكر، وعبر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلا إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولا من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.
يبقى
السؤال متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلا؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟ كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبين رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.
قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية) ، فإذا كان رأس الذكر مقطوعا، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.
وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعا.
قال المصنف رحمه الله: [في قبل أو دبر أصليين] .
قوله: (في قبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطا -والعياذ بالله-.
وقوله: (أصليين) أخرج مثلا الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانيا، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانيا، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.
قال المصنف رحمه الله: [حراما محضا] .
قوله: (حراما) أي: هذا الفرج حراما، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضا) : أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصنا، وهذا تصحيف، والصواب: محضا، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.
والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المعارج:29 - 30] ، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:7] ، إذا لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعا، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

الشرط الثاني: انتفاء الشبهة

قال المصنف رحمه الله: [الثاني: انتفاء الشبهة] .
أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالا، ووقع فيه وهو يظن أنه مباح له شرعا؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته.
وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريبا منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالا؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلا: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظانا حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده.
إذا: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله.
قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك] .
لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظن أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناء على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناء على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها.
قال المصنف رحمه الله: [أو لولده] .
لو وطئ الجارية التي فيها شرك لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالا له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعا لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكا محضا لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركا للغير؛ فإن الشبهة أيضا مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو.
قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته] .
هذا يسمى بشبهة المحل، مثلا: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأة يظنها زوجة له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالما بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا.
ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهرا، فإنه في الباطن يظنه حلالا له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات.
قال المصنف رحمه الله: [أو سريته] .
ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالا له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالا، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته.
قال المصنف رحمه الله: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته] .
هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غلبوا أخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلو أن شخصا لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقد باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد.
كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه.
فلو أن شخصا عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقد غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) ، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبرا لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية:32] ؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصا قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعة من الله على عباده.
على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها.
أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولا؟ قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولا.
وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقا وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟ وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟ كل هذه المسائل لها وجه من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولا شاذا لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلا: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علما فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص

الشرط الثالث: ثبوت الزنا

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا] .
هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين] .
ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل.
قال المصنف رحمه الله: [أحدهما: أن يقر به أربع مرات] .
أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحد عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذبا وزورا، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه.
بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاة للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر) ، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟ أولا: أن يكون بالغا، فلو أن صبيا أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف.
ثانيا: أن يكون عاقلا، فلو أن مجنونا أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟) ، وفي لفظ مسلم: (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون) ، فقوله: (أبك جنون) ، (أبه جنون) ، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به.
إذا: يشترط أن يكون المقر بالغا عاقلا.
وأيضا أن يكون مختارا، فلا يكون مكرها على الإقرار، فلو أن شخصا هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجه فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام.
واشتراط العقل يخرج أيضا السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهودا شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح) ، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواء كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعا لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر.
يشترط أيضا أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب ماعزا أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزا قال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلا: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني) ، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي.
انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملا، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار.
اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره.
استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ماعزا أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حدا فطهرني) ، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضا: الأصل في هذه الجريمة إثباتا ونفيا التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4] ، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد.
أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها) ، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز: إني أصبت حدا فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار.
وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصا ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله.
إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة.
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس] .
بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلانا جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟ بعض العلماء يقول: إن ماعزا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم





ابوالوليد المسلم 24-10-2025 12:03 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 


الأسئلة




الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا
السؤال لقد أشكل علي كيف أن المرأة المكرهة على الزنا لا يقام عليها حد الزنا بينما يقام الحد على من قتل وهو مكره؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: لا إشكال في هذا إن شاء الله تعالى، وتوضيح ذلك: أن الإكراه شرطه أن يكون ما طلب من الشخص أقل مما يهدد به، فلو هددت المرأة أن تقتل أو تزني؛ فاختارت التوسع وزنت، فإن زناها أقل من القتل، ولو أن بعض الناس يستحب القتل على الزنا، لكن من حيث الأصل؛ جعل الله عز وجل جريمة القتل أعظم من الزنا، لكن حينما يهدد أحد ويقال له: اقتل فلانا وإلا قتلناك، استوى الأمران؛ لأنه في هذه الحالة لو قتل فلانا فقد قتله من أجل أن يعيش، فيكون استبقى نفسه بنفس أخيه، والنفس مع النفس حرمتهما واحدة، لكن الزنا مع القتل حرمتهما ليست بواحدة، ومرتبة الاثنان مختلفة، و {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، ولذلك تسقط المؤاخذة بالزنا عند الإكراه، ولا تسقط في القتل، والله تعالى أعلم.

من هو العسيف؟
السؤال قول الصحابي رضي الله عنه: (إن ابني كان عسيفا) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على البكر جلد مائة، وتغريب عام) ، فهل يقوي هذا قول من قال بتغريب الرقيق؟
الجواب العسيف ليس له علاقة بالرقيق، من قال لك: إن العسيف هو الرقيق! العسيف هو: الأجير، فهذا حر، كان عسيفا أي: أجيرا، وليس المراد أنه مملوك، فطالب العلم لا يفسر العبارات من عنده ثم يركب الإشكالات!
حكم المطلق إذا زنى
السؤال هل الرجل المطلق يعتبر محصنا يقام عليه حد الزنا بالرجم أم يعتبر بكرا ويجلد، وكذلك المرأة المطلقة؟
الجواب كل من تزوج امرأة ووطئها ولو مرة واحدة، على الصفة المعتبرة في الوطء؛ فهو محصن إلى يوم القيامة، فإذا زنى بعد ذلك يطبق عليه حد المحصن.
إذا: لا يشترط أن تبقى عنده المرأة، ولا يشترط في المرأة أن يكون زوجها معها أثناء الزنا، فمن يثبت إحصانه بالوطء في نكاح صحيح على الشروط التي ذكرناها في الإحصان؛ فلا يشترط بقاء زوجته عنده، ولا أيضا أن تكون الزوجة معها زوجها، والله تعالى أعلم.
حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله
السؤال ما قولكم فيمن قال: إن حكم الله بالرجم للزاني يرجع إلى أن هذا الزاني هدم بيتا، ولذلك يرجم بحجارة هذا البيت؟
الجواب نقول: إنه قال على الله بدون علم، هذه والله الجرأة، هل نهدم بيوت الناس من أجل أن نرجم الزناة؟ من قال: إن من زنت أو زنى نهدم بيت من زنى بها، ونأخذ حجارة البيوت للرجم؟ من قال بهذا الكلام؟ هذا قول على الله بدون علم، قوله: إنه هدم بيتا فيرجم بحجارة البيت الذي هدمه، ما هذا؟ هل هذا علم؟ علينا أن نحذر من بعض الوعاظ والقصاص الذين ينمقون ويرقعون، ويحاولون أن يتفيهقوا، وليس عندهم علم ولا فقه، تجد الواحد منهم يتحذلق، ويأتي بالكلمات العجيبة، وسنبين هذا في الجزئية الثانية، والجزئية الأولى أن هذا كذب، وليس له علاقة، وليس بأمر صحيح؛ لأن رجم الزاني يكون بحجارة من الأرض وليس من حجارة البيت.
ورجم الزاني عقوبة من الله سبحانه وتعالى، أمر بها من فوق سبع سماوات، وهي: تعبدية، جعل الله عز وجل عقوبة من زنى وهو محصن قد استوفى الشروط المعتبرة للإحصان؛ أن يرجم حتى يموت، ألا يقتصر هذا الحد في ردع الناس من فعله؟ بلى، بل يردع الأمة التي فعل فيها أو الجماعة أو القبيلة، فهي عبرة من أشد العبر، حتى إن الشخص لو حمل حجرا يريد أن يرجم زانيا فلا يرجمه إلا وقد أخذ من العبر والعظات ما الله به عليم، يهتز قلبه، ويرجف فؤاده، ويعرف عندها ما هي جريمة الزنا، وكيف يكون عقاب من دمر بيوت المسلمين؛ لأنه أحصن وزوج ثم بعد ذلك لم يرض بحلال الله، بل ذهب يسعى إلى نساء المسلمين ليفسد أعراضهم ويهتكها عليهم؛ فهذه عقوبته من الله عز وجل، وتكون بالرجم ولا تكون بالسيف، بل تكون بما أمر الله عز وجل به، وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
الجزئية الثانية: الشخص قد يأتي لحد من حدود الله عز وجل يريد أن يبين لماذا كان هذا؟ فيقول: من أجل كذا، بلا علم، فهذا من أخطر الأشياء، لا يجوز لأحد أن يقول: إن الحكم الشرعي لعلة كذا، أو لسبب كذا، إلا بطرق معروفة عند علماء الشريعة، تعرف بطرق التعليل، ومسالك التعليل، وهي طرق شابت فيها رءوس العلماء، وحارت فيها ألباب الحكماء، ألف فيها بعض العلماء خمسمائة صفحة في منزع العلة، وبيان ما هو علة، وما هو شبه علة؛ وما هو تخييل، ككتاب: شفاء الغليل وبيان مسالك التعليل، وبيان أوجه الشبه والتعليل.
هذه أمور ليست فالتة لكل أحد، وليست نهبا لكل متحذلق يأتي ويتكلم، المصيبة الآن كثرة المتعالمين، الذين يحاولون أحيانا أن يتكلموا عن محاسن الشريعة فيخوضون في شيء لم يعلموه ولم يعوه، ولا يجوز لإنسان أن يصدقهم في هذا، وإذا كان الزاني المحصن هدم البيت ليرجم الزاني المحصن بحجارته، فلو أن بكرا زنى بامرأة متزوجة وهدم البيت، لكنه ما يرجم، انظر كيف التعارض؟ هذه ما انطبقت علته، هو يقول: من هدم البيوت يرجم، هذا خطأ، لو كان عنده علم ما قال هذا؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكر لرجم البكر؛ لأنه لو جاء إلى امرأة وأغراها وزنى بها وهي متزوجة فقد هدم بيتها، ولولا أنه زنى ما انهدم البيت، فتعبيره خاطئ، ومثل هذا لا يصدق، ولا يكشف عوارهم إلا العلماء، وينبغي على الإنسان ألا يأخذ علم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يوثق بعلمه، والحذر من القصاص والوعاظ الذين يحاولون أن يحسنوا وهم مسيئون، زين لهم سوء عملهم، تجد الشخص منهم عجب الناس من بلاغته وفصاحته وتأثيره، فخاض في علم التعليلات، وليس عنده مسلك للعلم، وليس عنده ورع يمنعه عن القول على الله بدون علم، فالحذر من أمثال هؤلاء، والحذر من الخوض في التعليلات، علينا دائما أن نراعي جانبا يقال له: جانب التسليم، وهذا هو أساس الإيمان والعقيدة، ما سمي الإسلام إسلاما إلا من الاستسلام، التعليلات إذا لم تأت عن طريق عالم متمكن بصير لا تقبل.
العلة تعرف بطريقين: الطريق الأول: يسمى الطريق النقلي، والطريق الثاني: الطريق العقلي.
أما الطريق النقلي فهي: العلة المستنبطة بنص الكتاب أو السنة، وهو أن ينص الكتاب أو السنة على العلة، وهذه العلة المنصوصة مجمع عليها، والإجماع له مستند، وأما العلة المستنبطة بالعقل فهذه فيها كلام للعلماء رحمهم الله، ولها ضوابط وقيود.
وعلى كل حال؛ أعود إلى أساس الأمر، وهو الرضا والتسليم، وعلينا دائما أن ننتبه لمن يحاول تعليل الأحكام بلا علم، وأن نكون في الأصل مسلمين قبل أن نكون معلمين، علينا أن نكون مسلمين مستسلمين قبل أن نكون من أهل الرأي والعقلانيين الذين يقول أحدهم متبجحا: إذا لم أعرف شيئا أو لم أعقل شيئا في دين الله فلا أقبله! يعني لو جاءه نص من أصح النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يبلغه عقله؛ يقول لك: لا، أنا ما أقبله! نسأل الله السلامة، ونعوذ بالله من انطماس البصائر، ونسأل الله بعزته وجلاله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا! وعلى المسلم أن يحذر وأن يحذر غيره من هذا، والخطباء والوعاظ عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وألا يقولوا على الله بدون علم، وأن يحذروا مسائل التعليل، ويحذروا الكتب التي فيها وعظ وترقيق، وبيان لمحاسن الشريعة التي كتبها أناس لم يضبطوا الفقه وأصوله، وهذا أمر نعرفه عنهم بالخبرة، فهم يقعون في أخطاء شنيعة، لو أن هذه العلل أخذت على ظاهرها، لكانت هدما لأمور من الشريعة مستقرة، فالحذر من مثل هذه الأمور، الحذر منها ما أمكن.
وعلى كل حال؛ جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن تقوى الله ألا يقبل العلم إلا من أهله، ومن أخذ العلم عن أهله؛ استنارت بصيرته، وحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، من كان علمه على أيدي العلماء من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، يأخذ علمه وفهمه للنصوص عن سلف وأثارة وطريق بين واضح؛ فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن كان علمه تتبع العبارات، وتنميق الكلمات، وتحسينها خداعا للمؤمنين والمؤمنات؛ فليبك على نفسه، فإنه قد قال على الله بدون علم، وليقفن بين يدي الله ويسأل عما قال، فعلينا أن نحذر من ذلك، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.
زكاة الرطب
السؤال هل في الرطب زكاة أم أن الزكاة خاصة بالتمر؟
الجواب الرطب فيه زكاة، ولكن لا تخرج الزكاة رطبا، وإنما تخرج تمرا بعد الحصاد والجذاذ، بعد أن ييبس يقدر ما في البستان وما في النخل بالخرص عند بدو الصلاح كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، فيأتي الخارص وينظر في النخل عند بدو صلاحه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص النخل عند بدو الصلاح قبل أن يصير رطبا، وقبل أن يصير تمرا، ثم يطرح منه الربع؛ لأن هناك ما تسقطه الرياح، وهناك ما يأكله سابلة الطريق، وهناك المنيحة ونحوها، فهذا يسقط، ثم ينظر لو كانت مثلا أربعة آلاف صاع، يسقط ألف صاع، ويقول: هناك ثلاثة آلاف صاع، هذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه (وصى الخارص أن يسقط الثلث أو الربع) مراعاة لذلك، وإذا كنا مثلا خرصنا أربعة آلاف صاع، وأسقطنا الثلث وحددنا القدر الواجب العشر أو نصف العشر -على حسب السقي-؛ فإن الواجب أن نخرجه تمرا، فلو أنه أخرج الثلاثمائة صاع الواجبة عليه رطبا؛ لم يجزه، لا بد أن يخرجها تمرا، والله تعالى أعلم.
حكم بيع المعيب
السؤال اشتريت سيارة فوجدتها معيبة، فهل يجوز لي بيعها بهذا العيب أم ماذا أفعل؟
الجواب العيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة؛ إن كانت عيوبا مؤثرة، وهي عيوب الزكاة المؤثرة، وضابطها: ما يوجب نقصان المالية نقصانا مؤثرا، مثلا: السيارة فيها عيب يؤثر في مشيها ويضر، وقد يقلب صاحبها أو يحدث له ضررا، فهذا العيب مؤثر، أول شيء يشترط في العيب أن يكون مؤثرا.
ثانيا: أن يكون موجودا في السلعة أثناء العقد، أو قبل العقد، فلو طرأ في السلعة بعد العقد؛ فإنه طرأ على ملكي، ولا يجوز لي أن أرد في هذه الحالة، أي: في حالة إذا كان العيب مؤثرا وطرأ أثناء العقد أو بعده.
والشرط الثالث: أن يكون المشتري لا علم له بهذا العيب، البائع لم يبين له العيب، أما لو قال له: في سيارتي عيب كذا وكذا وأعلمه به؛ فقد سقط حق المشتري، هذه الشروط لا بد من وجودها للرد بالعيب: أن يكون العيب مؤثرا، وأن يكون موجودا في السلعة أثناء العقد أو قبل العقد؛ وإذا قلنا: أثناء العقد فمن باب أولى قبل العقد، وأن يكون المشتري لا علم له بذلك العيب، إذا ثبتت هذه الشروط؛ فمن حقك الرد، والأصل في هذا حديث أبي هريرة في الصحيح عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها) ، وفي اللفظ الآخر (فمن اشترى شاة مصراة ثم حلبها؛ فهو بخير النظرين: إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر) ، فالشاهد قوله: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها) ، والصاع من التمر عوضا عن الحليب الذي حلبه، وهنا السيارة إذا وجدت فيها عيبا، نقول لك: أنت بالخيار، إن شئت تبقي السيارة في ملكك، وإن شئت تردها على البائع، ولا يجوز أن تغش بها المسلمين، فإذا أردت أن تبيعها على غيرك، فإنك تقول له: فيها عيب كذا وكذا، نصيحة وبراءة من العيب، وإلا كان بيع غش، وأنت المسئول عن ذلك العيب، والله تعالى أعلم.
وصايا لطلاب العلم
السؤال أنا فتاة من الله علي بالاستقامة ولله الحمد والمنة، ولي أكثر من ثلاث سنوات وأنا أحضر هذا الدرس المبارك دون انقطاع، والحمد لله، والمشكلة أني حتى الآن لا أجد نفسي طالبة للعلم كما ينبغي! وسؤالي: كيف أكون طالبة علم مستفيدة؟
الجواب في هذا السؤال جانبان: الجانب الأول: أوصيك أختي في الله، وأوصي كل طالب علم، وكل من حضر أي مجلس فيه ذكر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله؛ أن يلهج لسانه بالثناء على الله، وأن يحمد الله على نعمته، فلا يدري كم حاز من الأجر والثواب والدرجات العلى في جنة الله بما تعلمه! لأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وليس درجة، قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ، قال بعض العلماء: من جلس مجلسا فتعلم علما لوجه الله، وضبطه وأتقنه؛ رفع الله درجته، قال الله: (درجات) ، وما قال: درجة واحدة، وقرن الله العلم بأعز الأشياء وأحبها إليه على الإطلاق وهو: الإيمان والتوحيد، فانظر إلى أي شرف وإلى أي مكان بلغ العلم وبلغ أهله! ثانيا: أن تعلمي أن العلم نعمة من الله سبحانه وتعالى يؤتيها من يشاء، وعلى الإنسان أن يدرك أنه متى جلس في مجالس العلماء وهو يريد أن يتعلم، ويريد أن يضبط العلم؛ فأجره على الله سبحانه وتعالى، قد يقوم من ذلك المجلس وقد بدلت سيئاته حسنات، وهذا من أعلى الدرجات، وقد يقوم من ذلك المجلس كيوم ولدته أمه، وقد يقوم من ذلك المجلس برحمة من الله عز وجل لا يعذب بعدها أبدا، عطايا وهبات، يقال لهم: قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات، وقد يقوم من ذلك المجلس بشيء نذر المسلمون والصالحون والأخيار والأبرار وصفوة الله عز وجل أرواحهم في سبيل الله من أجل أن يفوزوا به ألا وهو محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في) ، فالذين جلسوا في ذكر الله لله وفي الله، فقد وجبت وثبتت لهم محبة الله عز وجل، فأي شيء ثلاث سنوات! كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا واحدا يبارك له فيه، ليس من شرط النفحات والخيرات والبركات التي تكون في مجالس العلم أن الإنسان يصير عالما، قد يحفظ الإنسان في دينه فلا تضره فتنة، قد يحب العلماء ويحرص على مجالسهم فيعصمه الله عز وجل من البلايا في نفسه وفي عقله، يحفظ له عقله ونور قلبه، وقد يحفظه الله عز وجل في ولده، وقد يحفظه الله عز وجل في قرابته وأسرته، وقد يحفظ الله عليه ماله؛ لأن الله عز وجل لا أوفى منه لعباده، ما أحد يحب العلماء إلا نال خيرا، ولا غشي مجالسهم إلا عن محبة، ولا استمع إليهم إلا عن محبة، ولا جاء زحفا على الركب إلا عن محبة، يترك مصالحه ويترك دنياه وراء ظهره، ويترك اللهو واللعب وهو في عز شبابه، وقد يكون عنده المال والتجارة ويترك ذلك كله من أجل أن يسمع كلمة تذكره بالله عز وجل، أو يجلس مجلسا تتنزل عليه السكينة وتغشى فيه الرحمة، ثلاث سنوات وأنت تطلبين العلم! فالهجي بحمد الله والثناء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها في هذه المجالس المباركة، وفي هذا الذكر، وفي هذا الخير، وفي هذه البركة، واحمدي الله سبحانه وتعالى على منه وكرمه، بل إني حينما أسمع ذلك والله! إن القلب يتفطر ألما وأقول: سبحان ربي! الذي سخر لي أن أجلس للناس سنة وليس سنتين أو ثلاثا أو أربعا أو عشرا، والله! إن الإنسان لو جلس محاضرة واحدة حفظه الله عز وجل بها، يمشي مسافة الكيلو والكيلوين والعشرة والمائة حتى يصل إلى المكان الذي يلقى فيه كلام يرضي الله ورسوله، فحري به أن يبكي فرحا بنعمة الله عز وجل عليه، وحري بنا ذلك ونحن في نعم قليل من يتذكرها، كم من دروس مرت علينا إلى الآن ونحن في عافية؟ قد لا يشعر إلا القليل منا كيف أن الله فرغه؟ والله قادر قبل الدرس بدقائق أو أثناء الدرس أن يسلط عليه صداعا لا يستطيع أن يفهم معه شيئا، والله قادر أن يسلط عليه حصى في بوله، أو يسلط عليه شغلا في أهله وماله وولده، من الذي فرغك؟ ومن الذي أمدك بالحول والقوة ويسر لك ذلك؟ ثم لما جلس، من الذي فرغ لك هذا، وصفى لك هذه الحواس؟ ومن الذي أعطاك السمع والبصر لعلك أن تعقل ولعلك أن تشكر الله عز وجل؟ {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} [السجدة:9] ، قليلا ما تشكرون إي وربي! فالإنسان يوصى أول شيء بهذا، ولقد كنا أيام طلب العلم نزدري أنفسنا ونقول: ما استفدنا شيئا، ومن يقول: جلسنا ثلاث سنوات وما شعرنا أنا طلاب علم؟ لا، بل أنت طالبة علم، وأنت طالب علم، إذا ما غدوت إلى مجلس علم وأنت تريد وجه الله لا رياء ولا سمعة؛ فأنت طالب علم على قدر ما حصلت، هذا الجانب الأول.
الجانب الثاني في السؤال: كيف تصير طالب علم؟ أولا: الإخلاص لله عز وجل.
ثانيا: ليس العيب في الدرس وفي العلم، العيب فينا، وليس العيب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشا- بل العيب فينا، كل الأمور مسهلة ميسرة، طالب العلم قبل أن يأتي إلى الدرس المفروض أن يقرأ الدرس المرة والمرتين والثلاث والأربع، فمن منا يقرأ الدرس؟ من منا يراجع قبل جلوسه في مجالس العلماء؟ ومن منا إذا راجع حرص أن تكون مراجعته في أعلى الدرجات حتى إنه ليحفظ الكلمات كما هي؟ قليل من يراجع! ثالثا: إذا جلست في مجلس العلم، وطن نفسك على الإخلاص، واحرص كل الحرص على أن تكون كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأفضل ما يكون عليه طالب العلم من الإنصات والوعي عن الله ورسوله، ولا يمكن لأحد أن يكون بالمرتبة الطيبة في الوعي عن الله ورسوله إلا إذا قدر الوحي عن الله ورسوله حق قدره، والآية الواحدة من كتاب الله إذا فسرت له أو ذكر له الحكم الشرعي من كتاب الله عز وجل؛ طار بها فرحا، كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثا واحدا يضع الله له به البركة فيبلغ الآفاق، وتسير به الركبان، ويبلغ به من النفع ما الله به عليم، بورك لهم في علمهم، فلما تأتي إلى مجالس العلم عليك أن تحس أن كل كلمة لها قيمة، وكل كلمة لها معنى، وكل كلمة لها أثر؛ فيبارك الله لك في علمك.
إذا: الإخلاص ثم قراءة الدرس قبل الجلوس، ثم الانتباه أثناء الشرح والضبط لما يقال، وأي إشكال يسجله ويكتبه.
رابعا: إذا انتهى مجلس العلم يحرص ألا يشغل نفسه بعد مجلس العلم بشيء عن ذكر الله عز وجل وحمده، أي مجلس تجلسه بمجرد ما تقوم تحمد الله أولا: {أن اشكر لي} [لقمان:14] ، أمر الله بشكره، {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة:152] ، فأي نعمة لا تشكر فإن الله ينزع منها البركة، وقرن الله العبادة بالشكر، فمن شكر زاده الله عز وجل، فأوصيك بالشكر، ولا تستطيع أن تشكر شكرا على أحسن ما يكون عليه طالب العلم في الشكر إلا إذا عرفت فضل الله عز وجل عليك أولا، ثم فضل هذه الصفوة من علماء السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فترحمت على علماء المسلمين، وقلت: جزاهم الله عنا خير الجزاء، هذا كتاب الإمام العالم الحجاوي رحمه الله وأصله للإمام ابن قدامة، من منا لما قام قال: رحمة الله عليه، اللهم اجزه عن الإسلام خير الجزاء؟ من منا إذا جاء وجلس مجلس العلم وتعلم من هذا العالم الذي يقرأ كتابه ورأى فضله عليه ترحم عليه؟ ينبغي أن يكون الناس أوفياء لعلمائهم ولسلفهم وأن يتربوا على حب العلماء، فلما نسينا الدعاء لعلمائنا، والترحم على أمواتهم، وحفظ جميل أحيائهم؛ نزع الله شيئا يقال له: البركة، وإذا نزعت البركة -أجارنا الله وإياكم- من الشيء فكلا شيء، والله! لو أن الشخص ملئ علما من أخمص قدمه إلى شعر رأسه ولم يضع الله البركة في علمه؛ فكأنه لم يعلم شيئا! البركة في العلم تكون بالشكر، ومعرفة فضل من له فضل، ولا يبارك للإنسان إلا بهذا، وجرب ذلك، كن وفيا لعلماء السلف والخلف والتابعين لهم بإحسان، وترحم على أمواتهم، واعتقد حبهم وفضلهم، وانظر كيف يبارك لك في علمك، وكيف تجلس المجلس في الأسبوع -ليس الشهر وليس السنة- وترى بركة العلم؟ قد نجلس في مجالس العلماء ولا نعرف قدر ذلك العلم الذي نتعلمه! ونقوم من تلك المجالس وقل أن يشعر الإنسان بنعمة الله عز وجل عليه! ثم تترك هذه النصوص دون مراجعة! فكيف نضبط العلم وكيف نراجع العلم؟! والوصية الأخيرة: إذا قرأ طالب العلم وضبط الدرس قبل مجلس العلم ثم راجع بعد مجلس العلم؛ أعد نفسه للسؤال، وهذه الوصية الأخيرة التي أختم بها، أن تهيئ نفسك أنك ستسأل عن هذا العلم، وكان من وصايا بعض مشايخنا -نسأل الله بعزته وجلاله أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء- أنه كان يقول: يا بني! احرص على أي شيء تتعلمه أن تضع في نفسك أنك ستسأل عنه.
كانت بعض الفوائد بسيطة نادرة ما كنت أظن أن أحدا يسأل عنها، والله سئلنا عنها على رءوس الأشهاد، فمن وضع نفسه أنه سيسأل عن هذا، وأنه سيبتلى بقضاء أو فتوى أو بتعليم أو تدريس؛ فتح الله عليه، وبارك في علمه، وحفظ هذا العلم وحافظ عليه، وحينما يقوم طالب العلم من مجالس العلم أو يتعلم العلم ولا يستشعر أنه سيسأل عن ذلك؛ فإنه لا يغبط بذلك ولا يبارك له، فإذا كان الإنسان لا يحس أنه مسئول في الدنيا، أو نظر إلى الناس وقد زهدوا في العلم والعلماء وغفلوا عن مكانة الحكمة والحكماء، وقال: من يأتي يسأل عن هذه الأنوار الربانية، والحكم الإلهية، وهذه النصوص التي شرفني الله عز وجل بالعلم بها؟ إذا ظن ذلك الظن؛ فعليه أن يتذكر أنه سيسأل بين يدي الله عن هذا العلم، إذا لم يسأله الخلق فسيسأله الخالق، فاضبط هذا العلم وراجعه وأتقنه لوجه الله، فإن الله يبلغك أجر من علم الناس، وحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها وشرعها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، اللهم! اجعله خالصا لوجهك الكريم، ونسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا ذ








ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:13 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [4]

جريمة الزنا لا تثبت إلا ببينة شرعية، كشهادة الشهود، ولابد فيهم من صفات يجب توافرها حتى تصح شهادتهم، وقد بينها العلماء رحمهم الله بأدلتها، وفصلوا الأحكام الشرعية التي تتعلق بالشهادة، وإذا لم تصح شهادة الشهود فيجب أن يقام عليهم حد القذف، وللقذف أحكام بينها العلماء رحمهم الله.
إثبات حد الزنا بشهادة الشهود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه لله تعالى: [الثاني: أن يشهد عليه] .
تقدم معنا أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأدلة شرعية معينة، منها الإقرار، وهو سيد الأدلة كما يقول العلماء رحمهم الله، وهو أقوى الحجج؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، ثم بعد ذلك شهادة الشهود، وهو أن يشهد الشهود المعتبرون في حد الزنا على هذه الجريمة بالصفة المعتبرة شرعا.
فبعد أن بين المصنف رحمه الله النوع الأول من الأدلة ووسائل الإثبات وهو الإقرار، شرع في الشهادة، وهذا من باب التدرج من الأقوى إلى ما هو دونه، فالإقرار أقوى ثم يليه بينة الشهادة، وقد نص الله عز وجل على هذه البينة كما قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4] ، فنص سبحانه وتعالى على اعتبار هذا النوع من وسائل الإثبات وهو الشهادة، وقال: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15] ، فنص أيضا في هذا الموضع على اعتبار هذه البينة، وهي شهادة الشهود، وبين تعالى أن هؤلاء الشهود لا بد أن تتوافر فيهم صفات من جهة العدد، والمصنف رحمه الله في هذا الموضع سيذكر جانبين: الجانب الأول: يتعلق بصفات الشهود.
والجانب الثاني: يتعلق بمضمون الشهادة.
وهذان الجانبان -عند العلماء- مهمان جدا في البينات، جانب صفة البينة التي ينبغي أن تكون عليها سواء كانت شهادة أو إقرارا أو كتابة أو غيرها من الحجج في عموم الأشياء والإثباتات، خاصة في قضايا غير الحدود والقصاص، ثم بعد ذلك جانب مضمون البينة.
وينبغي التنبيه على أمر مهم جدا، وهو أن مسألة الشهود والشهادة الأصل فيها أن تذكر في باب القضاء، وشروط الشاهد التي ينبغي توافرها فيه للحكم بشهادته في الحقوق سواء كانت لله عز وجل أو كانت لعباده؛ محله باب الدعاوى والبينات، وأفرده العلماء رحمهم الله بالكلام والتفصيل في ذلك الموضع، لكن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يقدمون الشهادات الخاصة التي تتميز ببعض الصفات أو ببعض الشروط الخاصة، لقوتها وأهميتها ثم ينبهون على جملة من مسائلها في مواضعها، فالأصل أننا نؤخر الكلام على هذه البينة إلى باب البينات والدعاوى، ولكن هنا الشهود لابد أن تتوافر فيهم صفات معتبرة.
وقبل ذكر صفات الشهود، اعلم أن الله تعالى رضي بالمسلمين بعضهم شهودا على بعض، فدين الإسلام ووشيجة الإسلام التي بين المسلم وأخيه المسلم تفرض عليه أن يتقي الله في أخيه المسلم، وأن يقول فيه الحق، ولا يقول فيه الكذب، ولا يزور في قوله، ولا يغير ولا يبدل في شهادته، ولا يبني على التهم ولا على الظنون ولا على الأراجيف، وإنما يبني قوله على علم، وأشار الله إلى هذه الأسس في قوله: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فبين أن الشهادة الحقة المبنية على العدل والإنصاف لا تكون إلا بعلم، ونهى عن الزور ظلما فقال: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام:152] ، وهذا يقتضي أن المسلم ينصف أخاه المسلم، ويعدل ولا يظلم، فرضي الله بالمسلم أن يكون حكما على أخيه المسلم في الشهادة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم مؤكدا لما دل عليه الكتاب: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، فمن كانت شهادته قائمة على العدل والإنصاف الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ فهو مؤمن مسلم حقا، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا توافرت فيه الشروط المعتبرة.
الشروط المنبغي توافرها في الشهود
الشرط الأول: الإسلام؛ لأن الإسلام سلامة واستقامة على دين الله ومنهج الله، (فالمسلم -كما قال صلى الله عليه وسلم- من سلم المسلمون من يده ولسانه) ، بمعنى أنه لا يظلم، فالإسلام شرط معتبر لقبول شهادة الشاهد على المسلم، فلا يشهد على مسلم إلا مسلم، فلا تقبل شهادة الكافر، سواء كان ذميا، أو كان وثنيا، أو كان مشركا، أو كان ملحدا لا دينيا، أو كان مرتدا، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ لأن الكافر عدو للمسلم، والعدو تحمله العداوة على الأذية والكذب والضرر، وبعض الناس يرضى ديانة أن يؤذي من عاداه في الدين، ولذلك قالوا: عداوة الدين أعظم ضررا من عداوة الدنيا؛ لأن عداوة الدين تأتي عن عقيدة، فقد يشهد اليهودي والنصراني والملحد والشيوعي والوثني على المسلم زورا؛ لأنه يحب له الضرر، بل ربما يدعي أنه يتقرب إلى الله بأذيته.
إذا: لابد من الإسلام، ولا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأن هذا علو على المسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، ولو قبلنا شهادة الكافر بالزنا على المسلم؛ فقد جعلنا للكافر على المسلم سبيلا، والآية خبر بمعنى الإنشاء، وقد بين تعالى عداوتهم بقوله: {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} [النساء:101] ، فهذه الآيات كلها تدل -بشهادة الله عز وجل- أن الكافر لا تقبل شهادته، إلا ما استثناه الله عز وجل في مسألة واحدة تقبل فيها شهادة الكافر على المسلم، وهي: الشهادة على وصية المسافر المسلم إذا لم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته، وبشروط معينة: أن يكونوا من أهل الكتاب، وأن يشهدوا شهادة الحق على الصفة التي بينتها آية المائدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانها.
إذا ثبت هذا، فالأصل أنه لابد أن يكون الشاهد مسلما، لكن تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهذا في مسألة أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، وقد وقع هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما زنى اليهوديان ورفعت القضية إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فدعا ابن صوريا وسأله فقال: نجد في التوراة أنه إذا شهد أربعة أنهم رءوه.
الحديث، (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا) ، فهذا يدل على أنه تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهل هذا يختص باتحاد الملة أم نقبل شهادة الكفار إذا اختلفت مللهم؟ هذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب الشهادات.
الشرط الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون بالزنا؛ لأن المجنون مرفوع عنه القلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ، ولأن المجنون لا يوثق بقوله، ولا يوثق بخبره، فسقط اعتبار شهادته؛ ولأن المجنون لا يتكلم عن علم، والأصل في الشهادة أن تكون عن علم.
الشرط الثالث: أن يكون بالغا، فلا تقبل شهادة الصبي، فلو شهد الصبي -مميزا كان أو غير مميز- لا تقبل شهادته؛ لأنه في حكم المجنون، وليس عنده عقل يردعه ويمنعه؛ ولأنه مرفوع القلم ولا يؤاخذ، فيمكن منه الكذب لذلك.
الشرط الرابع: أن يكون عدلا، فلا تقبل شهادة الفاسق، ولذلك قال الله تعالى فيمن فسق بالقول: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، فالفاسق ساقط القول، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، ونبأ نكرة، أي نبأ وأي خبر {فتبينوا} [الحجرات:6] ، فلو كان الفاسق مقبول القول والشهادة لما توقفنا في قبول خبره، فأمرنا الله أن ننتظر حتى نعلم صدقه من كذبه، فدل على أن قوله المجرد ليس بحجة، وأن شهادته ليست موجبة للحكم، والفاسق لا يوصف بالفسق إلا إذا أخل بما يجب، فإذا علم منه الإخلال في حق الله وحق عباده؛ لم يؤمن منه أن يخل في شهادته، ومن هو العدل؟ العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فلا تقبل شهادة الفساق سواء كان فسقهم من جهة الاعتقاد أو من جهة الجوارح أو من جهة الأقوال.
الشرط الخامس: أن يكون معروفا بالضبط وعدم الغفلة، فالمغفل قد يظن شيئا ويتوهم شيئا ويشهد به، وخفيف الضبط قد ينسى أشياء تضر بشهادته مع الغير؛ لأن الشهود على الزنا قد يسألون عن أشياء مهمة، فمن حق القاضي إذا شهدوا عنده أن يسألهم عن أشياء يعرف بها صدقهم من كذبهم، فمثلا لو قال: في أي ثوب رأيته يزني؟ فلربما قال الثلاثة الشهود، مثلا: كان ثوبه أبيض أو رأيناه بقميص، فإذا كانت عنده غفلة حرف شهادته وغير في الشهادة ووهم، فيضر بنفسه ويضر بغيره، وخفيف الضبط ليس عنده علم يوثق به، والله تعالى يقول في الشاهد المقبول الشهادة: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فهي شهادة عن علم، وخفيف الضبط لا يعلم علما تاما؛ لأنه لا يضبط ضبطا تاما.
الشرط السادس: ألا يكون عدوا للمشهود عليه، فإذا ثبت أن أحد الشهود الذين شهدوا على المتهم بالزنا بينه وبين المتهم خصومة، أو عداوة قديمة، أو بينه وبينه ثارات، أو بين بيته وبيته ثارات، أو بين أسرته وأسرته ثارات، ويغلب على الظن أنها تحمل على الضرر والأذية؛ فإنها لا تقبل الشهادة في هذه الحالة، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الحاكم وصححه غير واحد-: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) ، الخصم معروف من الخصومة، والضنين هو المتهم كما قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] أي: بمتهم، فالضنين هو المتهم على أحد الأقوال في تفسير الآية، فالشاهد أن الحديث أسقط شهادة الخصوم بعضهم على بعض؛ لأن العداوة تحمل على الحقد والأذية والضرر، ولذلك لا تقبل شهادة الأعداء، فإذا ثبت أن أحد الشهود أو كل الشهود بينهم وبين المتهم عداوة؛ فإنها لا تقبل شهادتهم عليه.
قد نتعرض -إن شاء الله في باب الشهادات- لشهادة الديانة، وذلك إذا اختلفت الطوائف وكانت هناك عداوة بينها؛ فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله.
حكم الشهادة في غير مجلس القضاء والحكم
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس واحد] هو مجلس الحكم والقضاء، فلابد في الشهادة أن تكون في مجلس القضاء، فلا يحكم بشهادة في غير مجلس القضاء، وعلى هذا؛ إذا شهد الشهود الأربعة فإنهم يأتون القاضي في مجلسه ويشهدون هذه الشهادة، وإن شهد اثنان؟ وبقي اثنان، قال بعض العلماء: إذا قال المدعون: أمهلنا يوما حتى نأتي بالشهود الباقين، يعطون المهلة التي يتمكنون في مثلها من إحضار الشهود دفعا للضرر عنهم؛ لأنهم ربما كانوا صادقين، فيمكنون ويمهلون، وهذه من مسائل القضاء التي تحصل فيها النظرة والإمهال، ويمكن فيها القاضي المدعي والشاهد وصاحب القضية من استيفاء أدلته وجمع أدلته، بشرط ألا يكون هناك تلاعب أو ضرر.
وقوله: (في مجلس واحد) قالوا: لأن الأصل أن يكون في مجلس واحد، فلو شهد ثلاثة في مجلس، أو جاء أربعة فشهد ثلاثة منهم، وامتنع الرابع؛ فحينئذ يقام عليهم حد القذف، وتسقط شهادتهم؛ لأنها لم تستتم العدد المعتبر، لابد أن يكونوا أربعة، ولا نفتح الباب ونقول: ننتظر يمكن يأتي رابع بدون طلب، وبدون أن يكون هناك ما يدل عليه، فهذا لا تقبل شهادته، لكن لو قالوا: عندنا من تقبل شهادته وهو فلان وسنحضره فلا بأس، لكن لو قالوا: هذا شهد وردت شهادته، فنحن يمكن أن نجد رابعا، فحينئذ يقام عليهم الحد، ولا نظرة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب من يشهدون بالزنا ويقولون: والله! يمكن أن يأتي رابع يشهد معنا، فالأصل أن تكون الشهادة في مجلس واحد؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة يهود في مجلس واحد، وكذلك عمر رضي الله عنه في قصة المغيرة المشهورة حينما جاء الشهود وشهدوا في مجلس واحد.
مضمون الشهادة
قال المصنف رحمه الله: [بزنا واحد] دخل المصنف رحمه الله في مسألة مضمون الشهادة، فلابد أن يشهدوا بفعل زنا واحد لا متعدد، فلو قال اثنان: رأيناه يزني العصر بالأمس، وقال اثنان: رأيناه يزني الصبح، فحينئذ شهادة الصبح غير شهادة العصر، فإما أن تكمل بينة أحد الموضعين وإلا جلد الجميع؛ لأن الشهادة ليست بزنا واحد، قد يقول قائل: هذا زان لأنه لو جئنا بالشهادتين ولفقناهما فمعناه أنه زان، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله أمر أن يشهد أربعة بأنهم رءوه يزني بفعل واحد، وليس بفعل للزنا متعدد، فإذا شهدوا بفعل متعدد فلا تلفق الشهادة، وهذا يسميه العلماء: اتفاق مضمون الشهادة، وهي: أن يتفق مضمون الشهادة زمانا ومكانا وصفة، والصفة تكون بأمور قد يضطر القاضي إلى الاستبيان منها.
لكن هنا مسألة وهي أن الأصل أن الشاهد لا يعنت، ولا يبالغ القاضي في التضييق عليه: كيف رأيته؟ وكيف كذا؟ ويدخل على الشاهد الأسئلة المحرجة؛ لأنه ربما التبس عليه الأمر، وأدخل عليه الغلط، وهذا معنى قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] ، وهذه المسألة فيها إشكال في بعض الجوانب عند الأئمة، وهي متى يحق للقاضي أن يتدخل في مضمون شهادة الشاهد فيسأله عن أمور، ويستوضح ويستبين، إبراء للذمة وإحقاقا للحق وصيانة للقضاء عن شهادة الزور والكذب؟ بعض العلماء يقول: من حقه أن يتدخل، وأعطوه صلاحية أكثر من غيرهم، ويقولون: نحن عندنا متهم، وعندنا مظلوم، حتى يثبت أنه ظالم وأنه مسيء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتحري والضبط، فلابد أن نراعي جانب المشهود عليه، وبعضهم قال: إن الله تعالى نهانا عن أذية الشهود، وقال: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] فلا ينبغي للقاضي أن يتدخل إلا في أحوال مخصوصة.
من حيث الأصل العام نفرق بين قضيتين، فنقول: الأصل أننا نطالب الشهود أن يبينوا شهادتهم على وجه تتفق به الحادثة، هذا شيء، ومن حق القاضي أن يعرف، هل شهدوا بحادثة واحدة أو متعددة؟ وأن يسأل عن بعض الأمور المهمة لإثبات الشهادة وإثبات الجريمة، يبقى الجانب الثاني الذي شدد فيه أصحاب القول الأول وقالوا: من حقه أن يشدد على الشهود حتى يثبت ويعلم على وجه يصون به القضاء عن شهادة الزور والكذب والخطأ، وبعض المحققين من العلماء يقول: من حقه أن يفعله عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ فإن من حقه أن يتدخل وأن يراعي حال المشهود عليه، وهل يقدم حال المشهود عليه أو الشاهد؟ المنبغي العدل، وأن تكون الأمور على السنن، وإن كان عمر رضي الله عنه أثر عنه أنه قدم حق المشهود عليه، ولكن هذا قد يكون خاصا في قضية المغيرة بن شعبة، حينما شهد عليه أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد بأنه زنى، فأحظر الشهود، وشهد أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد، ولما أتي بـ زياد قال له عمر رضي الله عنه -كما في الرواية-: ما وراءك يا أبا عفان؟! إني لأرجو ألا يفضح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد أبو بكرة أولا، فقال: ذهب ربعك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثاني فقال: ذهب نصفك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثالث فقال: ذهب ثلاثة أرباعك يا مغيرة! ثم رجا الله عز وجل ألا تتم الشهادة؛ لأن مغيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت فراسته، فلم يأت الشاهد الرابع -وهو زياد - بمضمون الشهادة على السنن، ووصف وصفا لم يثبت فيه الإيلاج، وقال: إنه رآه على صفة -سنذكر القصة إن شاء الله- ولم ير الإيلاج، فكبر عمر رضي الله عنه وحمد الله، قال بعض العلماء: إن عمر نبه الشاهد الرابع أن يرجع عن شهادته، تعظيما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستشكله بعض العلماء وقالوا: كيف هذا فإنه في هذه الحالة سيجلد الثلاثة ويحكم بفسقهم؟ وأجيب بأن هذا أهون من قتله، فإنه إذا شهد عليه وهو محصن؛ فسيقتل، قال بعض العلماء: إن عمر ورى ولم يقل له: ارجع عن شهادتك، لكن جعل له الخيار أن يشهد أو يمتنع، والأصل يقتضي أنه يجب عليه أن يشهد، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: القضية على ما جرت عليه، وعمر رضي الله عنه لم يقصد التورية ولا التنبيه له، وإنما رجا الله عز وجل، وحقق الله رجاءه، وكان رضي الله عنه محدثا ملهما، فما يقول لشيء أراه وأظنه إلا وافق الحق.
فالشاهد من هذا: أنه بالإمكان أن يدقق القاضي في الشهادة عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ ففي هذه الحالة من حقه أن يدقق حتى ننصف المشهود عليه، خاصة إذا كان محصنا والأمر سيفضي إلى قتله ورجمه.
قال المصنف رحمه الله: [يصفه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه] يصف الزنا أربعة وصفا خاليا من الاحتمال، خاليا من اللبس، والشريعة تراعي الأدب والكمالات والمروءة، ومن ذلك ألا يتحدث صراحة بالأمور المستبشعة مما يحدث بين الرجل وامرأته، ومما يوصف به الفرج، ونحو ذلك، والله عز وجل يقول في كتابه: {أو لامستم النساء} [النساء:43] ، {طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يكني، وهذا من أدب القرآن، حيث أن الله علم عباده الأدب، ولكن انظر إلى كمال هذه الشريعة ودقتها، فإذا جاءت الأحكام الشرعية والمسائل الشرعية، واحتاج العالم أو الفقيه أو القاضي أو المفتي أو المعلم أن يصرح بهذه الأشياء؛ فيأتي بها صريحة ولا يأتي بها محتملة؛ لأنه إذا جاء بها محتملة ربما ضاعت حقوق الناس، ولذلك لابد أن يسأله عن الجماع وعن الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أدخل ذلك منك في ذلك منها؟) ، (أنكتها؟) لا يكني صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا حتى لا تذهب حقوق الناس، ولو كانت على الكنايات والاحتمالات لربما شهد الشاهد كناية حتى يخدع القاضي، ولذلك في هذا الموضع لابد من التصريح، وأن يقول: إنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، ولا يشترط أن يقول: كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، فإذا قال: رأيت ذكره في فرجها والجا أو داخلا، فهذا يكفي، لكن بالنسبة للأصل كما جاء في قصة اليهوديين، أنه صلى الله عليه وسلم سأل ابن صوريا (ما الذي يجدونه في التوراة؟) فذكر أن فيها أن يشهد منا أربعة أنهم رءوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا يدل على حصول الدخول والإيلاج، وأنه لا يكفي أن يرى امرأة تضاجع رجلا، أو يرى امرأة مع رجل متجردين، فهذا لا يكفي؛ لأنه ربما حصل التجرد ولا يحصل الإيلاج، ولربما كان بصفة دون الوطء، فإذا لابد أن يصفوا الزنا.
ومن هنا قيل في قصة المغيرة رضي الله عنه أنه هو الذي أفحم الشاهد، وهذا قول من يقول: إن عمر لم يكن، وذلك أنه لما شهد الثلاثة وجاء الرابع، وأراد أن يصف قال له: يا أمير المؤمنين! سله أرآني مقبلا أو مدبرا؟ يعني: رآني من جهة الأقدام أو من جهة الوجه، فقال: رأيته مدبرا، وهذا قيل في قضية شبل فقال: يا أمير المؤمنين! هي امرأتي وكنت أجامعها، فهذا من الأشياء التي يحصل بها التأكد من الزنا؛ لأنه ربما وطئ زوجته، وربما كان مجامعا لأهله، وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقبل الشهادة هكذا، يقول: فلان رأيناه يزني، بل لابد أن يصرح بالزنا، ويصفه وصفا خاليا من الاحتمالات.
قال المصنف رحمه الله: [سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين] عندنا مسألتان: المسألة الأولى: إتيان الشهود، والمسألة الثانية: مجلس الحكم، فالقاضي إذا جلس في الصباح مجلسا واحدا وأتاه الأول: الساعة الثامنة، والثاني: الثامنة والنصف، والثالث: جاءه التاسعة، والرابع: جاءه العاشرة، فهذه شهادة واحدة في مجلس واحد، لكنهم أتوا متفرقين، فالتفرق مع اتحاد المجلس لا يضر؛ لأن هذا لا يشكل مع ما تقدم؛ لأن الشرط اتحاد المجلس، واتحاد المجلس تكون معه شهادة المتفرقين والمجتمعين، قالوا: الشهادة المتفرقة كقضية المغيرة، وشهادة المجتمعين هي الأصل، والله عز وجل لم يفرق بين الشهود متفرقين أو مجتمعين.
ولكن إذا جاءوا مجتمعين فإن أسئلة القاضي تنكشف أكثر مما لو فرقهم، فإذا جاءوا مجتمعين فللقاضي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم على حدة، ويقول للأول مثلا: متى وقع الزنا؟ قال: رأيته يزني في الصباح، فيقول: داخل المدينة أو خارج المدينة؟ قال: داخل المدينة، يقول: هل كانا متجردين أو على بعضهما بعض الثياب؟ صف ذلك، ويكون هذا الكلام بغيبة البقية، ثم يأذن للثاني ويسأله، ثم يأذن للثالث ويسأله، والرابع ويسأله، حتى يستبين من الشهادة؛ لأنه لو سألهم أمام بعضهم البعض لاتفقت كلمتهم، ولقن بعضهم بعضا الجواب، فله إذا جاءوا مجتمعين أن يفرقهم للاستبيان والتأكد.
حكم من حملت ولا زوج لها ولا سيد
قال المصنف رحمه الله: [وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] الأصل الشرعي أن المرأة إذا كانت منكوحة وذات زوج فإن الولد للفراش، ولا يجوز اتهامها بأن هذا الولد ليس بولدها، وإن كان المتهم زوجها فيلاعن أو يقام عليه الحد، وإن كان غيره فيثبت ذلك أو يقام عليه الحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) ، فأثبت أن المرأة إذا كانت فراشا لرجل أنه يلحق الولد به، وهكذا إذا كانت أمة؛ لأن أصل الحديث في قصة عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في يوم الفتح، والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) ، فجعل الأمة التي كانت لـ زمعة تابعة للفراش، ولذلك قالوا: إذا كانت أمة يطؤها سيدها؛ فالولد لذلك السيد، وكذلك إذا كانت زوجة، فالولد لذلك الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) .
لكن لو حملت وهي بكر، أو طلقت وبانت من زوجها ومضت مدة أكثر الحمل، يعني بعد أربع سنوات من الطلاق؛ لأنه تقدم معنا في الطلاق ومسائل الإلحاق أنها تمضي إلى أكثر مدة الحمل، فمضت إلى أكثر مدة الحمل، ثم فوجئ بها وهي حامل، فهل مجرد حمل المرأة دليل على زناها إذا لم تكن ذات زوج وثيب؟ للعلماء والأئمة رحمهم الله في ذلك قولان: القول الأول: إن الحمل ليس دليلا على الزنا، ولا تحد المرأة بمجرد الحمل، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث، وهو مروي عن عمر بن الخطاب في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: إن حمل المرأة غير ذات الزوج والثيب دليل على زناها، فيقام عليها الحد، فترجم إن كانت محصنة بأن طلقت ثم حملت على هذا الوجه، وتجلد وتغرب إن كانت بكرا، وهذا مذهب المالكية وطائفة من السلف رحمة الله على الجميع، وهو رواية أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روي عن عمر القولان: القول الأول: في خطبته عندما ذكر حد المرأة إذا زنت وقرأ آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكم) وقال: إذا كانت البينة أو الحبل، فجعل الحمل دليلا من أدلة الإثبات في المرأة إذا لم يكن لها زوج ولا سيد.
القول الثاني: في قضية امرأة كانت بمكة، وكان عمر في الموسم أو في عمرة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، فأتي بامرأة كانت بكرا وهي حامل، والناس يريدون جلدها، فسأل عن حالها، فأخبر أنها من بيت صالح، وأنها امرأة صالحة مستقيمة، فدعا بها وسألها وقال: ما بك؟ قالت: إنني كنت أصلي من الليل ما شاء الله، ثم غلبتني عيناي فلم أشعر إلا وقد اعتلاني رجل وقذف في كالكوكب أو كالشهاب، فعلم عمر رضي الله عنها غفلتها مع أنها معروفة ببيت صالح وبيئة صالحة، فأسقط عنها الحد، ولم يقم عليها الحد، وكتب إلى الآفاق ألا يقتل بمجرد الحمل حتى يكتب إليه.
ولكن هل هذا رجوع من عمر عن قوله الأول، أو تخصيص من عموم الأصل؟ للمسألة وجهان: إن قلنا: إن عمر رضي الله عنه ذكر البينة والحمل كدليل ما لم توجد شبهة تدرأ الحد، فحينئذ يبقى الحمل من أصله دليلا وحجة، لكن إذا وجدت قرائن تدل على إسقاط الحد، مثل أن تدعي المرأة أنها غلبت أو أكرهت أو سقيت منوما أو نحو ذلك؛ قبل قولها وسقط الحد عنها؛ لأن الله تعالى قال: {فإذ لم يأتوا بالشهداء} [النور:13] ، فجعل الأصل قائما على البينة، وهي الشهادة، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمت هذه) فجعل البينة في الأصل الشهود، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف خلافا لبعض العلماء الذين يرون عمومها، ولكن الأصل في البينة هذا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء: (البينة أو حد في ظهرك) وقد أجمع العلماء أنه لا بينة في الزنا إلا الشهود، وهذا يدل على أن الشريعة تطلق البينة عموما وتريد الخصوص وهو شهادة الشهود.
وعلى كل حال الأشبه أنه لا يقام الحد إلا بالبينة على ظاهر النص، ويقال: إذا وجدت الشبهة اندرأ الحد، وعلى هذا فقول الجمهور الذين يقولون بالبقاء على الأصل أولى وأحرى؛ لأنه لم يرد نص في الكتاب والسنة باعتبار الحمل دليلا على ثبوت الزنا.
الأسئلة




الشهادة على الزنا بآلات التصوير
السؤال هل تقوم آلات التصوير الحديث مقام الشهود في إثبات الزنا، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه وسيلة ناقصة، ولا تعتبر موجبة لثبوت الحد، فهذه الأشرطة وهذه الصور لا يعمل بها ولا يعول عليها، ولا تعتبر دليلا يثبت الجريمة، التشابه موجود، وربما يكون فعل هذه الفعلة من زمان قديم ثم تاب بعدها وأصلح، وكذلك الآلة ليس فيها تكليف يمكن أن يبنى عليه الحكم الشرعي، ومن أقوى الأدلة على رد مثل هذه القرائن ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة في اللعان التي تلكأت، شهدت المرأة وشهد الرجل ثم قال عليه الصلاة والسلام: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ثم قال: (انظروا إليه -يعني: الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين وكذا وكذا) وذكر صفة، فهو للرجل الذي اتهمت به، وهي كاذبة، وزوجها صادق، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لزوجها، وهو كاذب، فجاءت به على صفة الزاني فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة -يعني: من غير الشهود- لرجمتها) فقطع كل الأدلة، هذا دليل واضح ما فيه إشكال؛ لأنه حتى القافة يستطيعون أن يقولوا: هذا ولد هذا، وينسبوه لأبيه، لكن الشريعة جعلت الأمر تعبديا، وجعلته للشهود، وجعله للشهود فيه حكم عظيمة، وحتى الشاهد نفسه يندب له الستر وألا يفضح، فهناك أمور تعبدية وأحكام شرعية منبنية على وجود الشهادة، فهذا الحكم هو الأصل الشرعي.
ممكن شخص يأتي ويرفع السلاح ويقول له: ازن بالمرأة، ولما يزني يصوره معها، ليس قضية وجود الجريمة وحدها كافيا، ممكن أن يهدد الرجل ويهدد المرأة، وممكن أن يأتي بامرأة على صفة المرأة، ويأتي برجل على صفة الرجل، ما يمتنع هذا، هذا سهل، الوسائل هذه ليست كالشهود الذين يدخلون على الرجل في حالة لا إكراه له فيها، ولا شبهة له تمنع من إقامة الحد عليه، وإذا امتنع من الاعتراف يشهدون عليه، فهذا كله على وجه واضح بين، وفيه أمر التعبد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

الفرق بين شهادة الشهود والإقرار بالزنا في اعتبار المجلس الواحد
السؤال أشكل علي لماذا اشترط المصنف رحمه الله في شهادة الشهود بالزنا أن تكون في مجلس واحد، ولم يشترط ذلك في الإقرار بالزنا، مع أن كلا الأمرين يثبت بهما الزنا، أثابكم الله؟

الجواب لأنه إذا أقر على نفسه في مجلس أو مجالس متعددة، فهو قد أثبت أنه زنى، وبعبارة واضحة الشهادة كبينة تتجزأ، لكن الإقرار من الشخص نفسه ما يتجزأ، توضيح ذلك: إذا شهد شاهدان أنه زنى بعد العصر أمس، وشهد شاهدان أنه زنى الصبح أول أمس، فالزنا الأول غير الزنا الثاني، لابد أن تكتمل بينة الأول، وتكتمل بينة الثاني.
إذا: إذا أقر في مجلس واحد أو أقر في مجالس متعددة فقد شهد على نفسه بالزنا؛ لأن المرة الواحدة منه في الزنا كافية بإقراره، وهو يقصد تلك المرة، وأما إذا تعددت المجالس وفتح باب التعدد؛ لما استطعنا أن نقيم الحد على شهود نقصت شهادتهم أو ردت؛ لأنهم يقولون: سيأتي واحد، أو سنبحث عن من يعضد شهادتنا؛ لأن المجالس متعددة، ولذلك لا يعطون مهلة إلا لمجلس واحد، فإذا تيسر ذلك أو أقيم عليهم الحد فلا إشكال.
وعلى هذا نقول: إن المجلس الواحد في الشهادة غير المجلس الواحد في الإقرار؛ لأنه إذا أقر على نفسه بالزنا ولو تكرر منه الزنا مائة مرة فإقراره بالمرة الواحدة صادق على أي زنية، ولكن إذا تعدد المجلس في الشهادة فإنه يكون لأكثر من زنية ولأحوال متعددة، ولذلك لا يثبت به الحد كثبوته في الإقرار، والله تعالى أعلم.
حكم إعطاء الأم من الزكاة
السؤال أريد إخراج الزكاة، فهل يجوز أن أعطيها لأمي وهي في أمس الحاجة إلى المال، أثابكم الله؟
الجواب الأم لا تعطى الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الولد مع والديه كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) فجعل فاطمة بضعة منه عليه الصلاة والسلام؛ أي: أن الولد قطعة من الوالد، فإذا أعطيت الزكاة لأمك؛ فكأنك أعطيتها لنفسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ولذلك لا تعطى الزكاة لا للوالدين ولا للأولاد.
ولكن -أخي في الله- عليك أن تتقي الله في أمك، وأن تحسن إلى والدتك، وأن تحاول أن تتفقد مواطن النقص فيها فتكملها، وأن تجبر كسرها، وأن تكون معها كما أمرك الله {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] كيف تكون ابنا بارا بها وعندك المال الذي تزكيه ووالدتك في أمس الحاجة إلى مال قليل لا يساوي إلا اثنين ونصف من مائة من مالك؟ اتق الله في نفسك، واتق الله في والدتك، وعلى هذا لا تعطها الزكاة، ولكن أنفق عليها بالمعروف حتى تغنيها، عل الله أن يرد عليك بأضعاف، ويجزل لك الخير في مالك، والله تعالى أعلم.
توجيهات تتعلق بدروس الشيخ في شرحه لعمدة الأحكام بجدة والمدينة
السؤال هل تنصحنا أن نأخذ مذكرات عمدة الأحكام القديمة التي في جدة، أو مذكرات عمدة الأحكام التي -حفظكم الله- تشرحونها في المدينة، أثابكم الله؟
الجواب عمدة الأحكام التي في جدة تكمل التي في المدينة، والتي في المدينة تكمل التي في جدة، عمدة الأحكام شرح الحديث، لكن عمدة الفقه فهو في الفقه، ودرس عمدة الفقه القديم الذي في المدينة لم أسمح للتسجيلات أن تبيعه، وأحب من طلاب العلم أن ينبهوها على ذلك، ومن باع تلك الأشرطة فقد آلمني بذلك؛ لأنها قديمة، وهناك مسائل رجعت عنها، والحرم يغني عنها، فأحب أن تنبهوا التسجيلات على هذا، درس المدينة القديم هذا لم أسمح به، ونبهت أكثر من مرة على أنه لا ينشر؛ لأن هناك شرحا ثان أوسع وأكثر توضيحا للمسائل التي رجعنا عنها، ووجه الرجوع، فينبه على ذلك، ويستغنى بدرس عمدة الفقه الموجود في الحرم، نسأل الله أن يجعله خالصا لوجه، وأن يعين على إتمامه.
أما عمدة الأحكام في المدينة وفي جدة، فأنا عندي منهج أسأل الله أن يعينني عليه، وهو أنني لا أحب تكرار المسائل أو المنهج في كتاب واحد أشرحه مرتين أو أكثر، ولا أريد طالب العلم أن يقتصر بكتاب على آخر، وأرجو من الله أن يفتح علي في جدة، ويفتح علي في المدينة، فالذي يريد أن يستغني بدرس المدينة أظن أنه لا يستغني عن درس جدة، في درس جدة فوائد كثيرة، وأيضا الذي يصبح جداوي: سيفوته خير كثير من الشرح المدني، وعلى كل حال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وهما عينان في الرأس، لكن أظن اليمنى الذي في المدينة، وإن شاء الله يكون في كلا الشرحين خير، في درس جدة بعض المسائل توسعت فيها وأسهبت، وفيه بعض الجوانب التربوية، ودرس المدينة أيضا فيه جوانب طيبة، وعلى كل حال: المعول كله على القبول من الله عز وجل، والمعول كله على ما خلص وأريد به ما عند الله، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، والله تعالى أعلم.
تحية المسجد لا تنقض الوتر
السؤال هل تحية المسجد تنقض الوتر، أثابكم الله؟
الجواب لا تنقض تحية المسجد الوتر، ولا تنقضه ركعتا الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ثم صلى ركعتين بعد الوتر، والسنة أن تجعل الوتر آخر صلاتك بالليل، ولكن إذا دخلت المسجد بعد وترك فصل ركعتين، أو توضأت فصل ركعتين، وهذا لا ينقض الوتر، والله تعالى أعلم.
حكم الاستفتاح في صلاة الجنازة
السؤال هل أستفتح في صلاة الجنازة؟
الجواب السنة عدم الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأنه ورد في حديث علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح فيها، وأنه اقتصر على الفاتحة، ولم يذكر دعاء الاستفتاح، وبعض العلماء قال بدعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة ولكنه قول ضعيف، واستدل بالعموم، (كان إذا استفتح الصلاة) ولكن الأقوى والأشبه أن المبين مقدم على المجمل، والمفصل مقدم على المجمل، فنأخذ بحديث ابن عباس وعلي رضي الله عنه لما اختلفت صورة الصلاتين، وهنا لا يعترض المعترض بالنافلة والفريضة بأننا دائما نأخذ عمومات النافلة ونجعلها أصلا للفريضة؛ لأن صورة صلاة الجنائز مختلفة عن صورة الصلاة الأصلية، ومن هنا قوي أن تخص بأحكامها، وألا يعمل بالعموم على هذا الوجه في هذه المسألة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.







ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:16 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (519)

صـــــ(1) إلى صــ(4)



شرح زاد المستقنع-باب حد القذف [1]
من أعظم الفتن النازلة في زماننا، التكلم في أعراض العلماء والدعاة بلا علم باسم الدين، وهذه محنة عظيمة، عواقبها وخيمة، وشرورها كثيرة، وقد حرم الله ورسوله أن تنتهك الأعراض، وأعراض العلماء والدعاة والصالحين أشد حرمة، فوجب الحذر والتحذير من هتك أعراضهم.
معنى القذف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] القذف في لغة العرب: الرمي، يقال: قذف بالشيء إذا رماه، والمراد به في الشريعة المعنى الخاص وهو الرمي بالفاحشة، وقولنا: بالفاحشة، المراد بها الزنا أو اللواط، وعلى هذا إذا اتهم شخص شخصا وقذفه بالفاحشة زنا أو لواطا؛ فإنه قاذف، والعرب تجعل هذا المعنى الخاص من معاني الرمي، ويقال: رماه، إذا اتهمه، فالرمي هو التهمة: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني والقذف باب عظيم، وهو حد من حدود الله عز وجل، اجتمع فيه دليل الكتاب والسنة، تعظيما لشأنه، وتحذيرا للعباد منه، ومن أعظم الورطات التي تهلك الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته؛ أن يكون طليق اللسان في اتهام عباد الله عز وجل، وإذا أرادت عيناك أن ترى رجلا يتقحم نار الله على بصيرة؛ فانظر إلى ذلك الذي لا يتورع عن اتهام الناس، والوقوع في أعراضهم، ويسهل عليه القبائح والأمور التي لا تليق بالمؤمنين والمؤمنات، فإذا وجدته كذلك، وسهل عليه أن يلفق التهم في الدين والعرض؛ فاعلم أنه من أعداء الله ورسوله، ولو تقمص في ذلك ثوب النصيحة وثوب الإحسان، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى، وما من مؤمن يقرأ نصوص الكتاب والسنة متجردا إلا أورثه ذلك الخوف من الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وعلم أن اللسان يقوده إلى النار شاء أو أبى إذا لم يردعه بالخوف من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك حذر الله عباده وإماءه من الخوض في أعراض المؤمنين، وجعل المسلم الحق على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من عرف كيف يزم لسانه، فسلم المسلمون من ذلك اللسان، فلا يتهم مؤمنا أو مؤمنة بالزور والباطل، وكان السلف الصالح رحمهم الله يشددون في هذا الأمر أيما تشديد، فإذا أرادت عيناك أن ترى إنسانا مؤتسيا بالسلف؛ فانظر إلى ذلك الورع الذي يخاف الله في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وإذا أرادت عيناك أن ترى عالما بحق يلتزم منهج السلف في الخوف من الله ومن أعراض المؤمنين والمؤمنات؛ فانظر إلى ذلك العفيف اللسان، الذي يربي طلابه وأتباعه على ذلك.
أنواع القذف
القذف قذفان: قذف في الأعراض، اعتنى القرآن ببيانه؛ لأنه يقع بين العوام كثيرا، وهناك قذف أعظم منه وأشد منه، وهو حديثنا في هذه اللحظات، ونمهد به لهذا الباب العظيم، ألا وهو قذف العلماء، خاصة سلف هذه الأمة، وقذف الصلحاء، وقذف الدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الخير وأهل الاستقامة، والتهكم والسخرية بهم، والحط من أقدارهم وحرماتهم، وانتقاصهم، وسهولة ذلك على اللسان، حتى يصبح الإنسان صفيق الوجه -والعياذ بالله- لا يرعوي، ويأتي أمام الناس يشهر بهم، فلا عقل يردعه، ولا دين يمنعه، وعندها فليقل عن نفسه ما شاء، وليأخذ بمفاتيح الجنة مزكيا ومثنيا على نفسه، وليجعل نفسه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه حفيظ عليها ومسيطر عليها، يبدع من شاء، ويفسق من شاء، ويضلل من شاء، ما كنا نعرف هذا بين أهل العلم رحمهم الله، ووالله! لقد رأينا علماء أجلاء، تحمر وجوههم وتصفر ألوانهم؛ إذا ذكر عوام المسلمين فضلا عن صالحيهم، فضلا عن علمائهم، فضلا عن خيارهم، فضلا عن سلفهم الصالح الذين زكتهم الأمة، علماء أجلاء أطبقت الأمة على جلالة قدرهم، وحفظ مكانتهم كالإمام أبي حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، تجد من لا علم عنده، ولا فضل لديه، يتطاول على أمثال هؤلاء العلماء، وكأنهم سوق للألسنة!! نقول هذا؛ لأننا نعلم أن الله سيسألنا ويحاسبنا عن عدم التنبيه على ذلك، وسنلقيها من على ظهورنا أمانة لكم ولغيركم أن تحذروا أمثال هؤلاء، من يوم مشهود ولقاء موعود ترهن فيه الألسنة بما قالت، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] .
كان السلف الصالح رحمهم الله يجرحون، لكن متى؟ إذا بلغت الحلقوم، وما كانوا يرون التجريح إلا عند الحاجة الماسة، وكان الرجل منهم يرعد قلبه من الخوف من الله عز وجل، جلس أحد أئمة الحديث فتكلم في الرجال، فمر عليه أحد العلماء الصالحين -والقصة مشهورة- وقال له: لعلك تجرح في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سبعين عاما، فخر مغشيا عليه، ما قال: هذا عدو للسنة، هذا عدو للحديث، أبدا؛ لأنهم كانوا يتهمون أنفسهم بالخطأ، وكان الرجل إذا تكلم في أحد بما يجرحه؛ يتكلم بعبارات شديدة ولكن عند الحاجة الماسة، ولا يتكلم إلا في حدود ضيقة، وبأساليب محدودة محسوبة؛ لأنه يعلم أنه سيسأل بين يدي الله عز وجل عن قوله.
إن أعراض المسلمين ليست رخيصة، وما كانت أفكارهم ولا عقائدهم مكشوفة أمام الناس حتى أن الشخص يشق عن قلب الرجل، انظر في السنة تجد فيها أدب في كف الألسنة عن الأعراض، تجد فيها وعيد شديد عن الدخول في قلوب الناس واتهام عقائدهم، قال: (يا رسول الله! ما قالها إلا فرقا من السيف) ، هذا حديث واضح، ما قال: (لا إله إلا الله) إلا لما علاه الصحابي رضي الله عنه بالسيف، وما قالها قبل ذلك، التهمة واضحة، وبساط المجلس دال على أنه قالها فرقا من السيف، فقتله، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم -مع هذه الدلائل كلها-: (أشققت عن قلبه؟) وهو رجل كافر أسلم، فيقول له: (أشققت عن قلبه؟) فما زال يرددها عليه، قتله ثم قال: إنه قالها فرقا من السيف، وهكذا كل من قال هذه الكلمة في حق إنسان دون أن يستبين أو يخبره عن مكنون قلبه؛ فنقول له: أشققت عن قلبه؟ ولذلك قل أن تجد إنسانا يتهم الناس إلا ويقول لك: هو يقصد كذا، وهو يعني كذا، وإذا أراد الإنسان أن يعلم حقيقة الإسلام والالتزام فليتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) .
التحذير من الخوض في أعراض العلماء والدعاة
إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون أمام الله بعرض مؤمن أو مؤمنة، إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون بعالم من علماء المسلمين أو إمام من أئمة الدين؛ فافعل ذلك، ما لم تكن محتاجا للجرح، لكن من الذي يحتاج؟ هل هم البسطاء وطويلبي العلم أم الأئمة والعلماء الذين يكشفون ويبينون؟ ثم إذا كشف العلماء، فكم من أخطاء كشفت وما قامت الدنيا ولا قعدت؟ فالجرح لا يلقن لعوام المسلمين الذين يحتاجون بدهيات المسائل لسلوكهم وأخلاقهم ودينهم وعقيدتهم، فقد تجد الواحد منهم لا يحسن أحكام صلاته، ولا مسائل السهو في عبادته، ولا حجه ولا عمرته؛ ومع ذلك يلوك لسانه في أعراض المسلمين: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف:103 - 104] ، منهم من ظل يلفق الأخطأ بالدعاوي العريضة والتضخيم دون أن تجد عنده ورعا، أئمة الجرح والتعديل عرفوا بالورع، قال الإمام النووي رحمه الله وغيره من الأئمة: إن من يتكلم في الجرح والتعديل ينبغي عليه أن يصون نفسه صيانة عظيمة خوفا من أن يسترسل فينتقل من الجرح لله والتعديل لله إلى الجرح لهوى النفس؛ لأن النفس ضعيفة، والله يقول: {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء:28] .
نقول هذا؛ لأنه من أعظم الفتن، والله عز وجل يحذر عباده من العرض، وما من أحد يرمي مسلما أو مسلمة فيقذف المحصنات المؤمنات الغافلات إلا لعنه الله في الدنيا والآخرة، فإذا رمى مؤمنة أو مؤمنا لعنه الله في الدنيا والآخرة، وأعد له عذابا عظيما، وفضحه على رءوس الأشهاد، ثم يفضحه بأن يتكلم لسانه بأنه كذاب، وتتكلم عليه جوارحه، حتى رجله ويده تنطق بأنه من أهل الزور لا من أهل الصدق، ومن أهل الخيانة لا من أهل الأمانة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجعل هذا النص أمام عينيه، وهو هذه الآية الكريمة: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور:23] ، وهذا عظيم والله! ما هو بالسهل، والله إذا وعد لا يخلف الميعاد، والله يعفو عن حقه لكن لا يعفو عن حقوق عباده، عجبت من رسول الهدى يمر على مقبورين يشتعل عليهما القبر نارا وعذابا، وهو رسول الهدى يشفع فيشفع، فقال: (أما هذا فقد كان يمشي بالنميمة!) وأذن له أن يضع الجريد حتى ييبس فقط، ولا يمكن أن يرفع العذاب عنه؛ لأنه وقع في إخوانه المؤمنين وأفسد ما بين المؤمنين.
وهنا تجد من ينقل الأحاديث للجرح والتعديل، في العلماء، وفي الصلحاء، وفي الأتقياء، هل نسكت ولا ننبه على هؤلاء؟ وإذا جاء من ينبه قال: والله! هذا عدو للكتاب والسنة، حشفا وسوء كيلة؛ لأن اللسان إذا زل زلت توابعه، فتجده لا يرعوي، وتحذره ولا يحذر، ثم بعد ذلك يتهم من يحذره ومن ينبهه، والله الموعد، فإذا قلب الإنسان إلى قبره ووضع في لحده قال الله: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق:22] ، في تلك الساعة تنجلي الغشاوة، وينجلي الكذب، وتنجلي التزكية للنفس، ويجازى على التهكم في حدود الله عز وجل ومحارمه.
على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله يتولى عباده المؤمنين، {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج:38] ، {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف:196] ، تصور يوما من الأيام، جاءك شخص وقال لك: والله! سمعنا في المجلس من يقول عنك: إنك تستعجل، تقوم الدنيا عليك ولا تقعد، وتذهب إلى فراشك لكي تنام، فتجد أن مضجعك قد تغير عليك، وأن الليل القصير صار ليلا طويلا بكلمة: إنك عجول، فكيف إذا قيل: والله سمعت أن الداعية فلانا يقولون عنه كذا، والداعية الفلاني يقولون عنه كذا؟ {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور:15] ، إذا كان منامك لم يطب لك عندما يقال لك: عجول، ويقال لك: مستعجل في الأمور، فكيف يطيب لأولياء الله وقد اتهموا في عقائدهم، وقد اتهموا فيما بينهم وبين ربهم؟ إلى أي حد بلغت الغفلة بالإنسان أن يصل إلى درجة -والعياذ بالله- لا يعرف قيمة الكلام في عقيدة الناس؟ إلى متى يبقى الإنسان غافلا عن أعظم الأشياء للناس فيما بينهم وبين ربهم؟ والله يقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: {لست عليهم بمصيطر} [الغاشية:22] ، {وما أنت عليهم بوكيل} [الأنعام:107] ، وهذا يقيم نفسه وكيلا على من؟ إذا كان رسول الهدى على كفار يخاطبه الله بذلك! فكيف بمن أقام نفسه على أولياء الله وعباد الله؟ ويل لمن جرح عالما صلى الفجر في جماعة فكان في ذمة الله، فطلبه الله بذمته، فعندها: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] .
وقل أن تجد قلبا خاشعا، أو لسانا ذاكرا موفقا مسددا وهو جريء على أعراض المسلمين، ومن هذا المجلس اعرف ما الذي لك وما الذي عليك، واعرف من هم علماء الأمة وسلف الأمة، واعتقد فضلهم، واعتقد مكانتهم، علماء أجلاء سقطوا من أعين الناس، وعلماء عظم بلاؤهم، وقادوا هذه الأمة سنينا وقرونا، ومع ذلك ذهبوا أدراج الرياح عند الذين انطمست بصائرهم -والعياذ بالله- وزلت أقدامهم.
شيخ الإسلام له كتاب: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكلمة الأعلام من شيخ الإسلام ليست سهلة، وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، فيذكر أولهم الإمام أبا حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، ثم ذكر الإمام مالكا والشافعي وأحمد، ما عاش علماء الأمة إلا على المحبة، ما عاشوا إلا على التقدير، ما عاشوا إلا على معرفة منازل أهل الفضل، وهل يعرف الفضل إلا أهله؟ وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في جلالة قدره وعلو شأنه إمام عظيم، نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبره، وأن يقدس روحه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ولنقولنها وسنقولها إلى أن نلقى الله، بأننا وجدنا له القبول الذي وضعه الله له بين المسلمين، وإن كانت عنده مسائل اجتهد فيها وأخطأ رحمه الله، فغيره اجتهد كما اجتهد والله الموعد، سيجزي الذي أصاب بالأجرين، ويجزي الذي أخطأ أجرا واحدا، ولن نستطيع أن نقفل باب رحمة فتحه الله، ومن هذا الذي ليس عنده عقل ولا تمييز ينظر إلى هذا الإمام الذي وضع له القبول بعين الازدراء! وأئمة السلف كلهم على جلالة قدره ومعرفة فضله، لا يجوز أن تؤخذ الكلمة والكلمتان الطائرة من هذا وذاك؛ فيجرح بها، فهذا الإمام مالك يقول في ابن إسحاق: دجال من الدجاجلة! وما قبلت كلمة مالك فيه، وقال ابن أبي ذئب في مالك في مسألة الخيار: يستتاب مالك وإلا قتل! هذه كلمات قد يقولها بعض العلماء ولا يلتفت إليها، ولا ندري حقيقتها، ولا يستدل بها.
والعجيب من هؤلاء أن يستدلوا بهذه الكلمة ونحوها، فإذا ذكرت لهم حجة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في مسائل وتقول لهم: قال الإمام كذا، يقول لك: هم رجال، ونحن رجال، تقولون: قال أبو بكر، وقال عمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! ما شاء الله، متى؟ إذا خالفهم، ثم يأخذون أقوال الرجال في القرن الثالث والرابع ويحتجون بها، في ماذا؟ في نقصان أهل الفضل، وتتبع عورات أهل الكمال والإحسان.
ينبغي للمؤمن أن يربي نفسه على احترام العلماء والأئمة والفضلاء، عكرمة صاحب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه حمل علم ابن عباس رضي الله عنه؛ لكن تجد الجاهل من هؤلاء المتأخرين لا يرعوي ويتكلم فيه، ويحاول أن ينقص قدره، ويتهمه بالإرجاء والبدعة، ما هذا؟! أهذه هي سوق العلم؟! وهل هذا هو سبيل المؤمنين والمحسنين؟! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت إليك المشتكى، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يقوم للحق نصابه، وأن يقطع دابر أهل الفساد، فيهدي من كان راضيا هدايته، ويأخذ من كان منهم على ضلاله، وأن يريح العباد والبلاد من شرهم وكيدهم.
سبحان الله! ينبغي أن نجرد أنفسنا لتربية أبناء الأمة على الكتاب والسنة، من هذا الذي يقول: إنه على الكتاب والسنة، وهو من أجهل الناس بأحكام القرآن والسنة؟ ومن هذا الذي يريد أن يربي الناس على الحقد على الأخيار والصالحين ثم يدعي أن ذلك هو منهج الكتاب والسنة؟ لا والله يأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى الصالحون، وما قلناه سنلقى الله به، ولكن هذا الذي نعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أدركنا عليه العلماء والصلحاء والأتقياء أنهم يحببون الناس في سلف هذه الأمة علماء وصالحين، ويعتقدون فضلهم، حتى أن بعض علماء العقيدة ذكر من عقيدة أهل السنة الترضي على علماء الأمة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، يقول الإمام الطحاوي: أهل الخير والأثر، والفقه والنظر، هؤلاء كلهم فقهاء الأمة وعلماؤها، لهم جلالة قدرهم، ومكانتهم تحفظ ولا تضيع، يكرمون ولا يهانون، ويذكرون بالجميل -كذا قال رحمه الله:- ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل؛ لأنه شاق الله ورسوله، فالسبيل الأقوم أن تحفظ فضل أهل الفضل.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وقد يل







ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:27 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (519)





شرح زاد المستقنع - باب حد القذف [2]
القذف من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات، وقد شرع الله عقوبات لهذه الجريمة، وحد القذف لا يثبت إلا بشروط يجب توافرها في القاذف والمقذوف، والقذف قد يكون بلفظ صريح وقد يكون بلفظ غير صريح، ولكل حكمه.
عظم ذنب قذف المسلمين في أعراضهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] .
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله: (حد القذف) ، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟ فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت) ، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازور عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولا خاطئا في أعراض المسلمين.
وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا أكثر من ستين بابا، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه) ، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر: (وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم) ، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} [النور:23] ، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرما والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاء على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قل أن يسلم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئا على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟) .
ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكى نفسه وزكاه من في الأرض جميعا وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئا ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطا، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد.
وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصيا للأمة مبينا لها أمورها المهمة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) .
فنظرا لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظرا لاشتمالها على جملة من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود.
يقول رحمه الله: (باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.
ما يشترط في القاذف
قال رحمه الله: [إذا قذف المكلف محصنا] .
هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف.
وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغا، فلو أن صبيا قال لرجل: يا زان، أنت زان، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم) ، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزا، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخص إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزا يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزا؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملا بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظرا لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله! فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغا.
كذلك أن يكون عاقلا، فلو أن مجنونا سب رجلا فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي.
وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرها، فلو أن شخصا هدد شخصا وقال له: إن لم تقذف فلانا، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرها، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان مكرها، فأنزل الله سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، قالوا: فإذا قذف مكرها وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجبا لاندراء الحد عنه، ومسقطا للعقوبة.
وقوله: (إذا قذف المكلف محصنا) ، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.
حكم من قذف جماعة
والأصل أنه إذا قذف محصنا واحدا يقام عليه الحد ثمانون جلدة، وهذا لا إشكال فيه، إذا كان حرا وانطبقت الشروط المعتبرة للحد، فالمصنف رحمه الله بين الحكم إذا كان القذف لمحصن سواء كان ذكرا أو كان أنثى، حتى ولو قذف خنثى مشكلا فإنه يقام عليه الحد، فالمحصن يشمل هؤلاء كلهم.
ولكن لو أنه خاطب اثنين، فقال: أنتما زانيان، أو فلان زنى بفلانة، أو فلان وفلانة زانيان، أو فلان وفلان وفلان زناة، فهل لكل واحد من هؤلاء حد، وله الحق أن يطالب بحده أم أنه إذا طالب به أحدهم أو طالبوا به جميعا أقيم عليه حد واحد؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وأصح القولين -والعلم عند الله-: أن كل واحد منهم له حق، وأن مطالبة الواحد لا تسقط حق الثاني؛ لأنه خاطب الجميع واتهم الجميع بالزنا، وعلى هذا؛ فإنه إذا قذف ثلاثة، فطالب أحدهم بحقه اليوم أقمنا عليه حده، ولو طالبوا الثلاثة مع بعض أقيم لكل واحد منهم حده، هذا هو الأصل؛ لأنه وجه التهمة لكل واحد منهم، ومما يقوي هذا القول: أنه لو كان في الثلاثة من لا يقام عليه الحد لم يسقط الحد عن الجميع، فلو أنه خاطب جماعة وقال: يا زناة، وفيهم واحد زان فعلا، ثبتت عليه تهمة الزنا، واتهمهم وفيهم هذا الزاني، فلو قلنا: إنه قذف واحد يأخذ حكم الواحد؛ لأسقط وجود الخلل في أحدهم حق الباقين، لكننا نقول: إنه قد خاطب الجميع، وكل واحد منهم له حق، فإذا امتنع البعض عن المطالبة بحقه، فمن حق الآخر أن يطالب بحقه، وإذا طالب أحدهم لم يسقط حق الباقين؛ لأنهم متهمون جميعا، وكما أقيم لهذا حقه يقام للآخر حقه.
وعلى هذا فإنه يتعدد الحد ويتكرر على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ والنظر يقوي هذا، فإنه إذا قذف ثلاثة، يكون كما لو قذف كل واحد منهم قذفا مستقلا، فلو أنه قال لمحمد وعلي وعبد الله: أنتم زناة، فحكمه كما لو انفرد بمحمد فقال له: أنت زان، وحكمه كما لو قال لعلي مباشرة: أنت زان، وكما لو قال لعبد الله: أنت زان، فكما أنه لو قذف كل واحد منهم مستقلا لا تجمع الحدود في حد واحد؛ كذلك لو قذفهم جميعا مباشرة؛ لأن الكل وقع عليه اعتداء في عرضه سواء كان مجتمعا مع غيره أو منفردا، وعلى هذا -تعظيما لحدود الله وحرماته- فإنه يقام عليه الحد لكل واحد منهم يريد أن يطالب بحقه، فيعاقب بالحد، ويكرر عليه، على ظاهر النص أن المقذوف له حق المطالبة بإقامة الحد على من قذفه.
عقوبات القاذف
قال المصنف رحمه الله: [جلد ثمانين جلدة إن كان حرا] .
أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حرا، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات: العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة.
العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلانا له عند فلان ألف ريال، أو أن فلانا قتل فلانا -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزان، فتوبته بأن يكذب نفسه.
العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة: الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة.
الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلانا كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين: بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلانا بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {إلا الذين تابوا} [النور:5] ، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب.
الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرة، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة.
ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.

الفرق بين الحر والعبد في الجلد للقذف
قال المصنف رحمه الله: [وإن كان عبدا أربعين] .
مذهب جماهير السلف والخلف -ومنهم الأئمة الأربعة- على أن العبد إذا قذف غيره يقام عليه الحد أربعين جلدة، واستدلوا -أولا- بقوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، حيث شطر الله حد الزنا الذي هو الأصل، فمن باب أولى تشطير حد القذف، وهذا من باب التنبيه بالأعلى على ما هو دونه.
واستدلوا -ثانيا- بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم أجمعين كانوا يجلدون الرقيق في القذف أربعين جلدة، قال أبو بكر بن حزم: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا والأئمة يجلدون العبد أو المولى إذا قذف أربعين جلدة، وهذا يدل على أنه سنة ثابتة، وعليها إجماع الصحابة حيث لم ينكر أحد من الصحابة تشطير عقوبة القذف على الرقيق، وعليه فإنه يجلد أربعين جلدة.
قال المصنف رحمه الله: [والمعتق بعضه بحسابه] .
للعلماء وجهان في المعتق والمبعض: فبعض العلماء يقول: إذا كان نصفه حرا ونصفه رقيقا فإنه يجلد بحسابه، وعلى هذا تكون ستين جلدة، الأربعون: تشطير أصل الحرية، مراعاة للحرية، والعشرون: تشطير الرق، فإذا كان مبعضا فإنه بحسابه على القول الذي اختاره المصنف.
والقول الثاني: إذا كان مبعضا فإنه على النصف دائما، وهم متفقون أنه لو كان نصفه حرا ونصفه رقيقا فإنه يجلد على النصف، ولكن إذا كان ثلثاه أو كان ثلثه رقيقا والآخر حرا فعلى القول الأول: يتشطر بحسابه، وعلى القول الثاني: يتشطر على النصف، سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأن الحكم واحد عند الذين لا يفصلون، وهو اختيار أصحاب الشافعي وطائفة من العلماء رحمهم الله.
حكم قذف غير المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير] .
مثلا: لو قذف صغيرا، في هذه الحالة الصغير لا يتأتى منه الزنا ولا يتضرر بقذفه، لكن يجب أن يعزر، فلو اشتكى هذا الصبي أو بعد بلوغه اشتكى -وكان القذف حال صغره- فإنه يقام عليه التعزير.
والتعزير: عقوبة لا حد لها، وهي تكون -في الأصل- في غير المقدرات شرعا، والتعزير ستأتينا إن شاء الله ضوابطه: أنه يتبع حالة المجني عليه والجاني والبيئة التي فيها الاثنان، فمثلا: يختلف التعزير لو كان الصبي يستلزم الرعاية أكثر، فقذف الصغير من القرابة ليس كقذف الصغير الغريب، وقذف الصغير من أبناء أو بنات الصالحين ليس كقذف عامة الناس؛ لأن الله جعل لكل شيء قدرا، فالناس لهم حقوق، ولهم منازل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) ، فإذا كان القذف متعلقا بمن لا يقام الحد بقذفه؛ فإنه لا بد من عقوبة للقاذف، وتكون العقوبة تعزيرية، ينظر القاضي فيها إلى حال المقذوف وحال القاذف، فيعزر كل قاذف بما يناسبه، وهذا أصل في التعزير.
الحد حق للمقذوف
قال المصنف رحمه الله: [وهو حق للمقذوف] .
قوله: (وهو) الضمير عائد إلى حد القذف (الجلد ثمانين جلدة) حق للمقذوف، وهذا قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أنه حق للمقذوف، وإذا قلنا: إنه حق للمقذوف؛ فلا يقام إلا بطلب المقذوف، ويبقى على هذا الطلب إلى إقامة الحد.
إذا: لا بد أول شيء أن يطلب المقذوف من القاضي حقه، فيقول: فلان قذفني، فيؤتى بفلان فيقر أو يأتي بالشهود ويثبتون أنه قذفه، فإذا أقر أو قامت عليه بينة بأنه قذف، وثبت عند القاضي أنه قذف، يقول له القاضي: أنت قذفت أخاك في الإسلام، فإما أن تحضر البينة أو أقيم عليك حد القذف، فإن قال: ليس عندي بينة، يأمر القاضي حينئذ بجلده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فإذا قال: لا بينة لي، أقيم عليه الحد، فإذا استمر المقذوف بالمطالبة مضى الحكم، ولو عفا عنه بعد الحكم وقبل التنفيذ، لا يقام عليه حد القذف، فلو أن القاضي حكم عليه بأنه قاذف، ثم أردنا تنفيذ الحد، فقال صاحب الحق: عفوت -ومن حقه أن يعفو- ففي هذه الحالة يسقط عنه الحد، ولا تجب العقوبة.

ما يشترط في المقذوف
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن هنا: الحر] .
أي: في باب القذف، فلا بد أن يكون المقذوف حرا كاملا، فإذا كان رقيقا فإن نقص الرق يؤثر، وجماهير السلف والخلف أن قذف العبيد فيه التعزير، وليس فيه الحد، ولهذا أصل؛ لأن أصل الرق الكفر، ومن هنا لم يسو الشرع بين المسلم والكافر، وإن كان الرقيق قد يسلم، لكن هذا في الأصل ناقص.
ومن هنا اطردت أحكام الشريعة في التفريق بين المسلم والكافر، فإذا قذف عبدا فإنه لا يقام عليه الحد كاملا، خلافا لمن شذ، وقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أن فيه التعزير، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4] ، والإحصان: يطلق بمعنى الحرية، وهذا تقييد للحكم بالعقوبة، ومن هنا فهم جماهير السلف والخلف من الآية أن الإحصان يشمل الحرية، وأنه لا إحصان بدون حرية.
قال المصنف رحمه الله: [المسلم العاقل] .
(المسلم) فلو قذف الكافر فإنه يعزر، (العاقل) فلو قذف المجنون فإنه يعزر؛ لأن المجنون -أولا- لا يستطيع أن يطالب بحقه، وثانيا: لوجود النقص فيه، وظن السلامة في الاعتداء على عرضه ليس كالعاقل؛ لأن المجنون قد يتأتى منه هذا ولا يضمن نفسه ولا يملك نفسه، ومن هنا نقص عن العاقل الذي يلتزم بشريعة الإسلام وهو على دينه واستقامته، فالمجنون لا يؤمن أن يقع منه الزنا وهو لا يدري، ولا يستطيع أن ينفي عن نفسه ذلك؛ لأنه مجنون ليس عنده عقل، ولذلك يعزر قاذفه، ولا يحكم بجلده الحد.
قال المصنف رحمه الله: [العفيف] .
فلو قذف زانيا وقال له: يا زان، فقد أصاب قوله الواقع؛ لأنه قد زنى، وحينئذ ليس بقاذف، وبعض العلماء يرى التفريق في هذا بين من أقيم عليه الحد وتاب، وبين من لم يقم عليه، ولكن حتى لو أقيم عليه الحد وتاب، وقيل له: لم قلت له: زان؟ قال: قصدت ما كان منه في السابق، فهذا يعتبر وصفا وليس بتهمة بالزنا، ومن هنا فرق بين من يصفه بالزنا وكان قد وقع منه زنا وبين الذي هو عفيف لم يقع منه فحش.
قال المصنف رحمه الله: [الملتزم] .
الملتزم بشرائع الإسلام، ومن هنا يخرج الحربي فإنه لا حرمة له، واختلف في الذمي، وإن كان شرط الإسلام في الأول قد تضمن مفهومه إخراج الذمي وإخراج الكافر عموما، وعلى هذا لو قال لحربي: يا زان، أو قذف حربية أو قال عن أهل الحرب: إنهم زناة، أو نحو ذلك من عبارات القذف، فإنه لا يقام عليه الحد، ولكن في الذمي خلاف: فبعض أهل العلم يرى أن الذمي له حرمة المسلم، فقد حرم ماله وعرضه فلا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبعض العلماء يرى أنه لا يأخذ حكم المسلم، وقاذفه يعزر ويؤدب.
القول الأول: أسقط الحد لوجود الشبهة، وهو مذهب قوي، والقول الثاني: راعى الأصل في حرمة الذمي، ولكن هل هي مساوية للمسلمين من كل وجه؟ قال المصنف رحمه الله: [الذي يجامع مثله] .
أي: الذي يتأتى منه الجماع، والسبب في هذا أن القذف تهمة، فإذا قال لصبي لا يتأتى منه الجماع: يا زان، علم الناس كذبه، وحينئذ لا يحصل ضرر على الصبي كضرره عليه إذا كان بالغا، قالوا: إذا قذف من لا يتأتى منه الجماع؛ سقط الحد عنه، وهذا لا ينفي أنه يعزر، بل إنه يعزر، ولكن القضية هل يقام عليه الحد أو لا يقام عليه الحد؟ وهذا إذا كان لا يتأتى من مثله الجماع، أو لا يجامع مثله، كما لو كان صغيرا لا يتأتى منه الجماع.
ومن كان مجبوب الذكر هل يكون قذفه قذفا؟ على وجهين عند العلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من قال: قاذف المجبوب يقام عليه الحد، واحتجوا بعموم الآية الكريمة، ولكن في الحقيقة إذا سقط القول، وظهر الدليل على كذب القاذف، ووجدت الشبهة؛ قوي القول الذي يقول: بإسقاط الحد عن القاذف، وهذا ما كان يرجحه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أنه إذا وجد ما يدل على كذب القاذف، وظهرت الدلالة على كذبه، كما لو قذف صغيرا لا يتأتى منه الجماع، أو المجبوب الذي عرف جبه؛ فإنه توجد شبهة تسقط عنه الحد، وكان بعض العلماء يقول: إن قاذف المجبوب يقام عليه الحد لاحتمال أن يقصد أنه زنى قبل جب ذكره، وقبل قطع عضوه، وهذا لا شك أنه يقوي مذهب من يقول بوقوع الحد، ولكن الشبهة لا تزال قائمة، إلا إذا فصل في تهمته له بالزنا على وجه تندرئ به الشبهة فيجب عليه الحد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشترط بلوغه] .
فالصبي قد يجامع قبل البلوغ، فإذا تأتى منه أن يجامع؛ تأتى وصفه بالزنا لاحتمال أن يقع منه الزنا، فلا يشترط أن يكون بالغا.
صريح القذف
قال المصنف رحمه الله: [وصريح القذف يا زاني، يا لوطي، ونحوه] .
بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يعاقب، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفا مؤثرا موجبا للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف.
واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحا وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفا، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفا مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح.
وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئا آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهما يطلب تفسيره، وما كان مجملا يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان.
إذا: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة.
قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولا، فإذا قال لرجل: يا زان، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقا عاريا عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زان، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد.
لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح.
وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كل منهما، وإذا قال: يا زان، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفا قذفا صريحا، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمة بالفاحشة أو تهمة بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف.
وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [ونحوه] ، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضا قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواء لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.
كنايات القذف
قال المصنف رحمه الله: [وكنايته: يا قحبة] .
وكناية قذف، أي: اللفظ المحتمل الذي نسأل من قاله عن نيته، فإذا قصد به ما يدل على الفاحشة، كأن يقول: أردت أنه زنى؛ فهو قاذف، وإذا قال: لم أرد الزنا، فهو ليس بقاذف، فإذا قال لها: يا قحبة، أو قال لرجل: يا ابن القحبة، والعياذ بالله! فإن هذا لفظ محتمل، فإنه يحتمل أنها زانية، ويحتمل أنها تتعاطى الأمور الرذيلة التي يتعاطاها أهل الفحش، وليس مراده أنها فعلت الفحش، وفي هذه الحالة يسأل عن قصده، ويحلف بالله إنه ما أراد الزنا، هذا إذا قلنا: إنه كناية، فالكناية ينوى ليبين، ينوى: يعني نسأله عن نيته، فإذا لم يوافق خصمه وقال: لا، ما أراد هذا، ولم يصدقه؛ نقول له: احلف بالله إنك لم ترد الزنا.
إذا: هناك أمران: الأمر الأول: أن يصرف اللفظ عن معناه الدال على الزنا وفعل الفاحشة.
الأمر الثاني: إذا لم يصدقه خصمه، نقول له: احلف بالله عز وجل إنك لم ترد هذا المعنى الموجب للحد.
قال المصنف رحمه الله: [يا فاجرة] .
وهكذا إذا قال للمرأة: يا فاجرة، أو قال للرجل: يا فاجر، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاجر، كل هذا -والعياذ بالله- من الألفاظ المستقبحة، ولكن يسأل عن نيته: هل قصد بالفجور فعل الزنا؟ فإذا قال: قصدت أنه زان، فهذا قذف، وإذا قال: ما قصدت الزنا، وصدقه خصمه فلا إشكال، فلو قال: ما قصدت فعل الزنا، ولكن قصدت أنه يفعل أفعال أهل الفجور من التساهل أو نحو ذلك، فحينئذ يحلف إذا كذبه خصمه، وفي حكم ذلك أن يقول له: يا ديوث، كما ذكر ذلك العلماء والأئمة، أو إذا قال للمرأة: يا قوادة، أو للرجل: يا قواد، ونحو ذلك من الألفاظ التي بسطها أهل العلم، وفي الحقيقة هذه الألفاظ تخضع للمجتمع، فقد تكون هناك ألفاظ قذف عند العامة وليس لها معنى في اللغة، وذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني- نحو ذلك من الألفاظ التي ليس لها أصل في اللغة، وقال أئمة اللغة: لا نعرف لها أصلا، لكن جرت العادة بين العامة باستخدام هذا اللفظ ومن هنا يرجع القاضي إلى من عنده معرفة، فإذا وقع هذا الكلام في بيئة، فيسأل أهل تلك البيئة: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ وماذا تقصدون من هذه الكلمة؟ فإن كانت في العرف صريحة الدلالة على التهمة بالزنا فلا إشكال، وإن كانت في العرف محتملة تطلق على معنى الزنا وعلى معنى آخر، فحكمها حكم الكنايات كما تقدم.





ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:33 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
قال المصنف رحمه الله: [يا خبيثة] .
وهكذا الوصف بالخبث، والخبث يحتمل فعل الفاحشة -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء:74] ، ويحتمل خبث اللسان، ويحتمل خبث النية، ويحتمل خبث العمل، أي: أنه غشاش، لا يحسن معاملة الناس، ونحو ذلك.
إذا قال: فلان خبيث، أو فلان من أهل الخبث، أو هذه خبيثة، أو فلانة خبيثة، فإنها إذا اشتكته إلى القاضي ورفعت أمره إلى القاضي، سأله القاضي: ماذا تريد بهذه الكلمة؟ فقال: أردت بها أنها زانية أو أنه زان -والعياذ بالله- أقيم عليه الحد، فببيانه يرتفع الإجمال، وبتفسيره يزول الإبهام، وأما إذا قال: لم أرد هذا، إنما أردت بالخبث خبث اللسان، أي: أنها تسب الناس أو أنه يسب الناس، أو أردت خبث العمل أي: أنه ليس أمينا في معاملته أو أنه يضرب الناس، أو أردت خبث النية، أي: أنني أرى فيه الحسد، وأرى فيه احتقار الناس، وأرى فيه العصبية، وأرى فيه الغمط للناس وعدم احترامهم، فإذا فسره بغير الزنا ورضي خصمه فلا إشكال، وإلا حلف له.
قال المصنف رحمه الله: [فضحت زوجك] .
وهكذا إذا قال: فضحت زوجك، الفضيحة تحتمل فضيحة العار والزنا، وتحتمل الفضيحة التي هي دون ذلك، فيسأل عن قصده كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [أو نكست رأسه] .
الرجل إذا ابتلي بالبلية في أهله أو في عرضه وجلس في مجلس أذلته، ومن هنا ينكس رأسه، وتنكيس الرأس في المجالس غالبا يكون لسبب، وقد يكون محمدة، وقد يكون مذمة؛ فيكون محمدة إذا كان على سبيل الخشية لله عز وجل والخوف منه، والبعد عن التشبه بأهل الكبر والغرور، ولذلك تجد العلماء والصلحاء إذا جلسوا في المجالس العامة أو جلسوا بين الناس، وأرادت الناس أن تفخر بهم؛ طأطئوا رءوسهم ذلة لله، والدليل على مدح ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دخل مكة في يوم الفتح طأطأ رأسه حتى كادت طرف لحيته تمس قربوس سرجه تواضعا لله عز وجل) ، فتنكيس الرأس قد يكون عزة وكرامة، فهي ذلة في موضع عزة، ومهانة في مقام كرامة، وذلك إذا كان لله وتواضعا له، إذا كان بين من يمدحه ويثني عليه وخشي على نفسه الفتنة ممن ينظر إليه أو من يهابه، فيطأطئ رأسه ذلة لله عز وجل، واعترافا بفضله، واعترافا بإحسانه سبحانه، والله هو المطلع على القلوب والضمائر، فهذا فخر للإنسان وشرف وعزة، خلاف أهل الكبر الذين إذا مدحوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا رءوسهم، وتعالوا وانتفخوا، فهذا من نفخ الشيطان فيهم والعياذ بالله! فطأطأة الرأس وتنكيس الرأس يكنى بها على أن الرجل أصيب بمصيبة، وأعظم المصيبة بعد الدين أن يصاب في عرضه، ولذلك يطأطئ رأسه، فيقال لها: نكست رأس زوجك، نكست رأس أهلك، فهذا يكنى به على أنها فعلت الفاحشة، حتى إن قريبها لا يستطيع أن يرفع رأسه في القوم، وهذه العبارات كانت موجودة، لكن قد تستبدل الناس عنها عبارات أخرى، والجنون فنون، وسب الناس -والعياذ بالله- من الجنون، والتهور فيه لا يفعله إلا إنسان انعدم عقله الذي يعقله عن سفاسف الأمور، وعن التسلط على الناس، ولذلك إذا قال لها: نكست رأس زوجك، وقال: قصدت أنها امرأة لم تعتني بإكرام زوجها، وقصدت أنها امرأة لم تحافظ على زوجها كما ينبغي، ولم تحافظ على وقته بحيث يتفرغ لأموره وشئونه، حتى إنه انشغل بأشياء ما كان ينبغي أن ينشغل بها، ولو كانت زوجته كاملة لحافظت عليه حتى يرتفع رأسه، وما قصدت الزنا؛ فيكون هذا موجبا لاندراء الحد عنه، أما لو قال: قصدت الزنا، فإنه يقام عليه الحد، وهو قاذف.
قال المصنف رحمه الله: [أو جعلت له قرونا] ، ونحوه جعلت له قرونا أو حتى شياطين! لا نتوقف عند لفظ معين، المتون الفقهية فيها كلمات غريبة، قد يكون هذا اللفظ (جعلت له قرونا) قذفا في القديم، ففي كل زمان نسأل أهل الخبرة، وقد تحاشيت ذكر ألفاظ يجوز أن أذكرها في مجالس العلم، ولكن الإنسان يجل مجالس العلم من ذكرها، ذكر العلماء رحمهم الله ما يقارب خمسين لفظا، ألفاظ بشعة جدا، تنزعج منها الآذان، وتقلق منها القلوب، ويجوز لنا أن نذكرها لأجل العلم، لكن الحمد لله ما دام أن الكتب موجودة، فمن يريد أن يتوسع في ضبطها وفهمها، فليرجع إليها، لكن الذي يهمنا هنا القاعدة والضابط، فلما كانت هذه الألفاظ التي ذكرها العلماء رحمهم الله لا يستعملها الناس كلها، وما ندري ما يستعملون الآن منها، والألفاظ القديمة المعروف منها أعداد معينة، ونحن والله! ما عندنا خبرة بهذه الألفاظ، فكثير منها نجهلها ولله الحمد، ونسأل الله أن يزيدنا بها جهلا لا يضر بعلمنا.
فهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله، وتتعجب منهم وهم أئمة فحول كيف أخذوها؟ أخذوها بالتلقي، إذا: نقول لكل قاض وكل مفتي وكل شيخ يريد معرفة هذه المسائل والأحكام: ارجع إلى الضابط والأساس، فالعبرة بقول أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا عندنا لا يستعمل إلا في الدلالة على الزنا، فإنه قذف، وإذا قالوا: يستعمل في معنيين فأكثر، سئل القاذف عن نيته، لماذا نرجع إلى أهل الخبرة؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام وخليفة راشد وكان يقول: لست بخب ولا الخب يخدعني، وكان يعرف أحوال الناس، مع هذا إذا جاء اللفظ المحتمل سأل عنه، ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وأرضاه بقوله: واقعد فأنت الطاعم الكاسي، فجاء الصحابي يشتكي إلى عمر رضي الله عنه من الحطيئة وعمر يفطن ويعرف، ولكن من باب درء الشبهة، قال: ما أرى بهذا بأسا، واستدعى حسان رضي الله عنه لأنه من أهل الشعر، وما رجع إلى غيره، بل رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، فقال له: أترى -يا حسان - في هذا هجاء؟ قال: ما هجاه، بل سلح عليه، يعني: ألعن من الهجاء فإنه قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي كان الرجل فيه بخل، فلما جاءه الحطيئة ولم يكرمه، قام وقال فيه هذه المقالة، فسأل عمر رضي الله عنه حسان فقال له حسان: ما هجاه، بل سلح عليه -أكرمكم الله- يعني: قضى حاجته عليه، وهذا أشد من الهجاء، وعمر رضي الله عنه يقول: ما أرى بهذا بأسا، يعني: ما ظهر له فيه بأس، لكن لما رجع إلى أهل الخبرة؛ قالوا له: ليس هذا بهجاء، بل ألعن وأسوأ وأشد من الهجاء، إذا: لا بد لطالب العلم ولأهل العلم أن يرجعوا إلى أهل الخبرة والمعرفة.
قوله: (ونحوه) يعني مثله.
قال المصنف رحمه الله: [وإن فسره بغير القذف قبل] .
وإن فسر هذه الكناية بغير القذف قبل، أي: قبله القاضي، فصرف عنه الحد، ودرأه عنه للشبهة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزر] .
إذا قذف الجماعة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف؛ دل الظاهر على كذبه، وذكرنا أن من الأصول التي يندرأ بها الحد أن تقوم الدلالة على كذب القاذف، كما لو قذف من لا يتأتى منه الجماع، ولا يتأتى منه الزنا، وهذا في حكمه.
سقوط حد القذف بالعفو
قال المصنف رحمه الله: [ويسقط حد القذف بالعفو] .
أي: عفو من جني عليه، وهذه من الأحكام المترتبة، فبعد أن بين رحمه الله ما يثبت به الحد، شرع في بيان من يسقط الحد، وهذا من ترتيب الأفكار.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يستوفى بدون الطلب] .
أي: لا يقام الحد بعد ثبوته، ولا يستوفى إلا إذا طلب ذلك الخصم، وقال للقاضي: أطالبه بحقي، أو أقم عليه حد الله عز وجل، أو أريد أن يقام عليه حد الله، فإذا طلب ذلك فإنه يقام عليه الحد، أما إذا لم يطلب فإنه لا يقام عليه الحد.
مسألة: هل يورث الحد؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حد القذف يورث، فلو قذف أمه الميتة أو أباه الميت، فمن حقه أن يطالب بإقامة الحد، أو قذف أباه فمات أبوه، وتقدم الورثة بطلبه فإنه يورث، وهذا يختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.

الأسئلة




حكم أخذ تعويض مالي بدلا من إقامة حد القذف

السؤال إذا طلب المقذوف تعويضا ماليا بدلا عن الجلد، فهل يعطى المقذوف التعويض؟ أثابكم الله.

الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحكام الله لا تغير ولا تبدل، والعقوبات الشرعية توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فنقول له: حقك عند القاذف الجلد، وأما هذه الأحكام الجاهلية من وضع الغرامات المالية في القذف وتشويه السمعة ونحو ذلك، فهذا لا أصل له في الشرع، لكن بعض المسائل قد يقضى فيه بهذا، الذي نتكلم عنه كحكم وقضاء، لكن لو أن أهل القاذف وأهل المقذوف اتفقوا على الصلح بينهم، وجاء أهل القاذف بشيء يرضون به من صالحوه أو كافئوه على تنازله عن الحق، فهذا غير هذا، وباب الصلح ليس له علاقة بمسألة الحد، الحد الذي يحكم به القاضي حد الله عز وجل، لا يحكم بشيء آخر من العقوبات، فلا يعاقبون بالتعويضات المالية في مسائل القذف، الذي يحكم به القاضي هو شرع الله عز وجل، فإذا ثبت القذف وطالب المقذوف بالحد فإنه يقيم عليه حد الله ثمانين جلدة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، لكن لو أن أهل المقذوف وأهل القاذف اصطلحوا فيما بينهم قبل أن يأتوا إلى القاضي، أو صدر الحكم من القاضي واتفقوا فيما بينهم على أنه يعفو ويعطى شيئا، فهذا جائز من باب الصلح وتقدم معنا ذلك في مسائل الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق المالية، والله تعالى أعلم.
العلة في عدم إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي
السؤال لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على عبد الله بن أبي وقد نص القرآن بذلك ودل عليه؟ أثابكم الله.
الجواب هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله في مسألة ثبوت الجناية والجريمة، أما الثلاثة الذين هم مسطح وحسان وحمنة حصل منهم القذف، وعرفوا بين المسلمين بالكلام والخوض في هذا الأمر، والذي حركهم لذلك خفية هو عبد الله بن أبي وتولى كبر القذف، فاختار الله عز وجل له ألا يظهر منه ما يوجب ثبوت الحد عليه بالكلام في الفحش، فأرجئت عقوبته إلى الله عز وجل في الآخرة، وهي أشد وأعظم من عقوبة القذف في الدنيا وهي الجلد، ولذلك أقيم الحد على الثلاثة لأنهم كانوا من أهل الإسلام، أما هذا فإنه منافق كافر بالله عز وجل، لا يشتغل بحد القذف فيه وهو كافر بالله عز وجل، ولذلك أطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الجناية من هؤلاء الثلاثة، وأمر بعقوبتهم، ولكن عبد الله بن أبي وهو الذي تولى كبره أرجأ الله عقوبته، وتولى الله عز وجل عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، والخبيث كان يثير هذه الأشياء ويحسن التخلص منها، كان يحسن ألا يكون في الصورة، وألا يكون أمام الناس، ومن هنا قالوا: من ناحية شرعية الله عز وجل على علم بأنه من أهل الكفر والنفاق، وما هو معقول أن يجلد حد القذف وهو على ما هو أخبث منه! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قبل منه الظاهر، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الظاهر، مع أنه معلوم النفاق، ومن أهل النفاق الذين لا يألون -والعياذ بالله- جهدا في أذية الإسلام والمسلمين، وبقي امتحانا من الله لنبيه، وسنة لعباده وأوليائه في كل زمان ومكان، فإذا كان نبي الأمة يبتلى بهذا الرأس من رءوس النفاق حتى يتكلم في عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلكل عالم ولكل داعية رأس من رءوس النفاق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولكل مصلح رأس من رءوس النفاق، ولذلك تجد كل عالم من علماء السنة في كل زمان له -والعياذ بالله- من يترصد به، ويؤذيه، ويتظاهر بأنه على الحق والخير، إنها سنة ماضية، ولذلك تعزى المسلمون، وتعزى الأخيار والصالحون بمثل هذا، لو أقيم عليه الحد كان أمره ليس كما لو لم يقم عليه الحد، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، وفضوح الآخرة أعظم من فضوح الدنيا، والله سبحانه وتعالى بالمرصاد: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ، ومن كانت عقوبته إلى الآخرة فأمره إلى وبال وخسارة؛ لأن الأمور بالعواقب، ولذلك من أقيم عليه الحد طهر، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله -وكان بعض مشايخنا يختاره في التفسير-: إن العقوبة للتطهير، ومثل هذا المنافق لا يطهر، قلبه فيه البلاء، في قلبه وليس في جسده: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} [النساء:145] ، فهذا من أشد البيان على أنهم بلغوا -والعياذ بالله- الغاية في التمرد على الله عز وجل، ومشاقة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.
حكم لعن وقذف المغنيات اللاتي يظهرن في التلفاز
السؤال رجل كلما رأى المذيعات والمغنيات في التلفاز يلعنهن، ويتهمهن بالفجور والفسق، فهل يجوز هذا؟ أثابكم الله.
الجواب الذي أراه أن الإنسان يمسك لسانه، ويحذر من الوقيعة في الناس، إن رأى ضالا دعا له بالهداية والصلاح، وإن كان عنده أخطاء ويريد أن يبين أخطاءه، فليبين أخطاءه، ولا مانع من ذلك، أما أن يتهمهم بالعهر والفجور فهذا لا يجوز، إلا إذا كان الغناء فيه فجور، وفيه عهر، وفيه دعوة للفساد؛ حكم عليهم بقولهم، ولكن أن يتخذ ذلك سنة، كلما خرج إنسان أيا كان سواء مغنيا أو غيره؛ يحكم عليه بذلك، ويتجرأ على عباد الله عز وجل، وقد نبهنا على أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه ما أمكن.
إذا حرص كل من فيه خير على هداية الناس ودلالة الناس على الخير، وإذا رأى عاصيا لم ييأس من نصحه وتوجيهه؛ وفقه الله عز وجل، وعظم خيره، وكثرت بركته على الناس، انظر إلى رجلين، رجل يمر على الفاسق فيسبه ويلعنه ويشتمه، ولربما ينتقل من الغيرة على الحق ومن حدود النصح، إلى نوع من العداوة الدنيوية التي خرجت من الدينية إلى الدنيوية، والرجل الآخر لا نقول: إنه يمدح، ولكن يقول له: يا أخي! اتق الله عز وجل، وخف الله سبحانه وتعالى فيما تفعله، الله عز وجل يقول لأوليائه وأهل طاعته والملتزمين بكتابه وسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، فهل السب والشتم قول بليغ؟ هل السب والشتم يقود إلى الخير؟ (قولا بليغا) : موعظة حسنة تهز القلوب، حينما تنظر إلى العاصي الذي تسلط عليه عدوك وعدوه وهو الشيطان، وتريد أن تكثر به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد أن تهديه إلى الخير؛ فتح الله عليك، فتقول كلمات مؤثرة وقد يكون ذلك في موقف بسيط جدا، وتلهم فيه الكلمة المؤثرة ما دامت نيتك وطريقتك أنك تحرص على هداية الناس، وأهم شيء النية، انظر إلى أي شخص صالح نيته هداية الناس لا ييأس، ولو يقف أمام أفجر خلق الله يتمنى أن يهديه الله عز وجل؛ تجد أنه يوفق في كلام قد لا يوفق إليه غيره ممن يحضر الكلمات والخطب لحسن نيته ولصلاح طويته، وتجد الشخص ربما يتجرأ على الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الرجل يقول: هلك الناس فهو (أهلكهم) وفي لفظ: (أهلكهم ) ) فهو أهلكهم لأنه آيسهم من رحمة الله فهو أهلكهم؛ لأنهم وإن كانوا هالكين فقد قطع على الله عز وجل بأنهم هالكون، مع أن الأمور بالخواتم، وقيل: فهو أهلكهم، أي: أهلكهم ولكن الله لم يهلكهم؛ لأنهم ربما تابوا، وهذا رسول الأمة أصلح خلق الله عز وجل، وأهداهم سبيلا، وأقواهم طريقا، يقول الله له حينما لعن عصية التي عصت الله ورسوله ورعل وذكوان، وقنت عليهم شهرا يدعو عليهم: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران:128] ، وجاء في بعض ألفاظ السير: (يا محمد! إنا لم نبعثك صخابا ولا لعانا، وإنما بعثناك رحمة للعالمين) .
تصور أن شخصا كان في جاهليته ومعصيته وقف عليه شخص وسبه سبا إلى أن استطال فيه، ثم اهتدى بعد ذلك، كيف يكون وجه هذا من ذاك؟ كيف يلتقيان؟ كيف يكون الأمر؟ لكن لو أنه مر عليه وقال له: اتق الله، لعل الله أن يهديك، أسأل الله أن يهديك، أسأل الله أن يتوب عليك، أسأل الله أن يأخذ بيدك إلى ما فيه الخير، لا شك أنه سيؤثر فيه، في بعض الأحيان تأخذك حمية الدين وتقول قولا قويا، لا نلومك، الولاء والبراء مطلوب، لكن بشرط أن يكون دافعك الخوف والخشية من الله عز وجل، رأيت المنكر فارتعدت فرائصك، لو رأيته من أقرب الناس منك كما لو رأيته من أبعد الناس منك؛ لأنها حمية لله، وليست حمية نفس، ولا عصبية، فالولاء والبراء الصادق النابع من نفس مؤمنة استنفدت كل الأسباب لهداية الناس ودلالتهم على الخير؛ خير وبركة، ولا بد للإسلام من عزة وكرامة، لا نرى فاسقا فنمسح على رأسه ونقول: الله يهديك، ونذل له! لا يصلح هذا، هكذا سيتجرأ أهل الفساد على فسادهم، ولذلك إذا رأيتم فاسقا فمر عليه الأول ونصحه، والثاني ونصحه، والثالث ونصحه، ثم مريت عليه، وقلت له: اتق الله،* لا تأمن أن يأخذك الله بأخذه، لا تأمن أن يسلبك عافيته، وأخذته بالقول الرادع فهذا قول بليغ؛ لأنه وقع في موقعه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! أميطي عنا قرامك هذا) ، وكانت فيه التصاوير، فنسيت عائشة رضي الله عنها، فجاء من صلاته عليه الصلاة والسلام فوقف متغير الوجه وامتنع من الدخول، فقالت: يا رسول الله! أغضب الله من أغضبك، ما تدري رضي الله عنها لما رأت من شدته في الحق.
فإذا: كل شيء له مقامه وله مقاله، ولكن أن يأتي الشخص أمام المغنية أو المطرب ويقول: الله يفعل به كذا والملعونة والكذا، هل هي تسمع كلامه فتتأثر وتتوب؟ إذا: هذا نوع من إضاعة الوقت، لكن شخص حمية لدينه لم يتمالك نفسه، فقال قولا شديدا غليظا عنيفا في موقعه غيرة على الحق، لا يلام، لكن بشرط ألا يتعدى حدوده، وألا ينسى حق الإسلام إذا كان العاصي مسلما، لا ينسى حق الإسلام، ولا ينزله منزلة الكافرين، شخص ارتكب ذنبا لا يوصله إلى الكفر لا ينزل منزلة الكافرين، وكأنه خرج من ربقة الإسلام من السب واللعن والشتم، وكأنه يئس من رحمة الله، لا، هذا هو الغلو، وهذا هو التنطع، ينبغي علينا أن نضبط الأمور بضوابط الشرع، وأن يتقي الإنسان ربه، وأن يعلم أن الهدف هداية الناس إلى الخير ودلالتهم على الخير.
بعض الأحيان قد تعبر تعبيرات تؤثر على العاصي، ذات مرة رأيت شابا قارب البلوغ، وقد لبس القصير إلى أنصاف فخذه، فركب معي، فقلت له: أخي! أسألك سؤالا: هل ثوبي هذا فيه عيب؟ قال لي: ما فيه عيب، قلت: يا أخي! ما أدري أنا كأني أرى فيه عيبا، فقال: والله! ما فيه عيب يا شيخ! قلت: يا أخي! ما فهمت ما أقول، رأيتك لابسا هذا اللباس فظننت أن اللباس الذي علي لا يليق، فطأطأ رأسه من الخجل وتأثر، لو أني قلت له: فيك كذا، وأنت مثل الكفار، وأنت كذا، فعلا هذا لباس الكفار، فهم الذين يتعرون ويتبجحون بذلك، ولا نعرف هذا من عاداتنا وأخلاقنا وشمائلنا، لكن لما قلت له ذلك طأطأ رأسه خجلا، ودمعت عينه وقلت له: والله! -يا أخي- إنك بثوبك عندي أعز منه في هذا اللباس، أين أنت يا أخي؟ أي نقص فيك لتتبع غيرك؟ وأي مهانة فيك حتى تظن الكرامة في غيرك؟ ولباس التقوى والستر خير لك، قال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا ألبس هذا بعد اليوم، فلو أنني قلت له مباشرة: أنت لبست لباس الكفار، أنت كذا، لكان ربما يقول لي: أتقول: إني كافر؟! مع أنه لبس لباسا ليس من لباس المسلمين ولا من عادتهم أنهم يأتون في مجامعهم بهذا العري وهذا التفسخ.
إذا: القول البليغ أن تنصح الناس، وتوجه الناس وتأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل.
النقطة الأخيرة: ألا تيأس، فمن خبث الشيطان أنه إذا جاء الشخص أمام أي إنسان مخطئ أول عقبة يضعها أمامه، أن يقطع رجاءه من الخير، كأن المخطئ الذي أمامه ليس براجع عن خطئه، وكأن المخطئ الذي أمامه سيموت على هذا الخطأ، ولكن الله عز وجل أحيا الأمل في النفوس وقال عن المنافقين: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، فإذا: لا بد أن يحيا هذا الأمل في النفوس، وهي هداية الخلق إلى الله، ودلالتهم على الحق، لعل الله أن يأخذ بالقلوب إلى الخير.
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.
حكم الخضاب بالسواد
السؤال ما حكم الخضاب بالسواد لمن شاب وهو صغير؟ وهل النهي عنه معلل أم لا؟ أثابكم الله.
الجواب السنة تغيير الشيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب) ، وسواء كان في كبير أو صغير، فإذا ابيضت لحيته وهو في شبابه؛ فإنه يغير هذا الشيب بالحناء أو الكتم، كما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجنب السواد، هذه هي السنة، ومن قال من السلف -كما هو مذهب الحسن وطائفة من الصحابة-: إنه خاص لمن يريد الزواج أو يريد أن يغش النساء، فهذا قول مرجوح، والظاهر عموم النص، وأن المنع عام، والله تعالى أعلم.

مسألة: ضع وتعجل

السؤال اشتريت محلا، وكان الاتفاق على أن أدفع نصف ثمنه نقدا، والنصف الآخر على أقساط شهرية، كل شهر خمسة عشر ألفا، وبعد أن دفعت عددا من الأقساط وبقي علي مائة وخمسون ألفا؛ اتفقت أنا والبائع على أن أدفع له باقي المبلغ نقدا، بشرط: أن يجري لي خصما قدره عشرون ألفا، أي: أدفع مائة وثلاثين ألفا فقط، هل هذا جائز أم لا؟ وهل يعتبر بيع دين بحاضر؟ أثابكم الله.

الجواب هذه المسألة فيها شبهة كبيرة، وهي من مسائل ضع وتعجل، ولها صور بعضها جائز، كما في قضية بني النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، (وقالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، فقال: ضعوا وتعجلوا) ، وهذه الصورة المذكورة في السؤال فيها شبهة قوية، ولذلك الأشبه منعها والتورع والابتعاد عنها أي: إذا قال له: بالشرط، يعني: أنا أسددك العشرة الأقساط الباقية نقدا، وتحسب الفائدة المركبة على التأخير وتسقطها وأعطيك نقدا، هذا شبهة الربا فيه قوية، وهو الذي أمنع منه، وأرى عدم جوازه.
وأما إذا كان الإسقاط في أصل المبلغ، مثلا: شخص استدان منك عشرة آلاف ريال على أساس أن يسددها في محرم، فجاءك ظرف قبل شهر محرم وقلت له: يا فلان! أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال وظروفي ميسرة، والآن ضاقت بي الأمور، إن أعطيتني ثمانية آلاف منها؛ سامحتك في الألفين، فهذا جائز وهو إسقاط في أصل المبلغ.
فرق بين مسألتنا إسقاط زيادة مركبة على الأجل وبين الإسقاط بأصل المبلغ الذي هو محض الفضل، ومن حقك أن تتنازل عن المبلغ كاملا، ومما يفرق بين ما كان الإسقاط فيه متمحضا لقاء الأجل بالشرط أن يقول مثلا: والله! لا أسددك إلا لما تسقط عني، أو نفس الشركة تقول: إذا سددت الآن نسقط عنك، هذا كله فيه الشبهة التي ذكرنا، وأما إذا كان إسقاطا في أصل المبلغ فلا بأس، وأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس واختاره الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فمذهب طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أن الإسقاط في أصل المبلغ لا بأس به، وعليه يحمل حديث: (ضعوا وتعجلوا) ، والله تعالى أعلم.

حكم من رأى بولا في ثوبه بعد الصلاة

السؤال وجدت قطرات من البول في الثوب عندما صليت صلاة الصبح، هل أعيد الصلاة أم لا؟ أثابكم الله.

الجواب هذا فيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا كان وجدانك لهذه القطرات فيه أمارة ودلالة تدل على أنها بعد الصلاة، فصلاتك صحيحة ولا تعيد، مثلا: تجدها طرية، وبينك وبين الصلاة نصف ساعة، فإن طراوتها خلال نصف ساعة يدل على أنها بعد الصلاة، فلو أنها كانت قبل الصلاة لنشفت، لكن كونها طرية في هذه الحالة فالأغلب أنها بعد الصلاة، فهذه دلالة ظاهرة.
الحالة الثانية: أن يكون هناك دلالة عكس تدل على أنها قبل الصلاة، مثل أن تسلم من الصلاة وتقوم فتجد القطرات يابسة ناشفة، والثوب جديد لبسته بعد وضوئك، فحينئذ تعلم أنها أثناء صلاتك أو قبل الصلاة مباشرة بعد الطهارة، فحينئذ تعيد.
الحالة الثالثة: إذا لم تجد أي دلالة، ما تدري: هل هي قبل أم بعد؟ فإذا صليت ووجدت أثر البول بعد الصلاة على وجه لا يدل على السبق أو اللحوق، فالقاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، وقولهم: ينسب لأقرب حادث، أي: هناك حادثان: حادث قبل أو أثناء الصلاة يوجب الإعادة وبطلان الصلاة، وحادث بعد الصلاة لا يوجب الإعادة بل يوجب براءة الذمة وصحة الصلاة، فينسب لأقرب حادث، فإذا كان ما بعد الصلاة فصلاتك صحيحة، ولا يحكم ببطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.

علاج الطبع الحاد
السؤال أنا شاب مستقيم وطالب علم فيما أحسب، إلا أنني أعاني من مشكلة تؤلمني كثيرا وهي: الطبع الحاد، والشدة في التعامل مع الناس؛ مما يسبب لي كثيرا من المشاكل والتصرفات التي سرعان ما أندم عليها، أرجو من فضيلتكم التوجيه والنصح، أثابكم الله؟
الجواب لا يهذب أخلاق المؤمن شيء مثل كثرة الدعاء؛ لأن الأخلاق منحة من الله عز وجل، ولذلك قال: (يا رسول الله! أهو في أم شيء جبلني الله عليه؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله) .
الأخلاق بالدعاء، ونعمة عظيمة أن يلهم الإنسان كثرة الدعاء، دائما تقول في مظان الإجابة: اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال، وتسأل الله أن يهديك حسن الخلق، الدعاء أمر مهم جدا.
الأمر الثاني من الأمور التي تهذب أخلاق الإنسان وتقومه: كثرة تلاوة القرآن؛ لأن القرآن مع التأثر والاتعاظ يحكم القلب، وسلطانه على القلب قوي جدا، فالقلب إذا ارتدع بالقرآن خاف، وإذا خاف راقب الأعضاء والجوارح فزمها بزمام التقوى، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء:9] ، فهذا القرآن الذي أقام الناس على مشاهد الآخرة ومشاهد الحساب ومشاهد المسؤولية، فيصبح طبعك مع الناس بدل الشدة اللين، وبدل العنف الشفقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح عندك تروي في الأمور بفضل الله ثم بفضل القرآن، وقل أن تجد رجلا من أهل القرآن إلا وجدته معصوما بعصمة الله عز وجل في لسانه.
الأمر الثالث مما يعين على سلامة القول وسلامة الخلق وذهاب حدة الطبع: قيام الليل، فالمحافظة على قيام الليل من أعظم الأمور التي تهذب أخلاق العبد، ولذلك قال الله لنبيه: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] ، فغالبا ما تجد قائم الليل زكي الأخلاق زكي النفس، اجعل لك حظا من كتاب الله في جوف الليل الأظلم، خاصة في الثلث الأخير من الليل، وجرب بكاء الأسحار وتلاوة القرآن في الأسحار، فإن لها أثرا بليغا في تهذيب الأخلاق وتقويمها ودلالتها على التي هي أقوم، وهذا شيء معروف يعرفه من يعرفه، فالأخلاق تهذب بقيام الليل، فتنشرح الصدور وتطمئن، فيذهب القلق، وتذهب الحدة، ويذهب الانزعاج.
الأمر الرابع: التسليم لله عز وجل، إذا كان هذا الأمر طبع فيك وما تستطيع أن تخرجه من نفسك، فهذا شيء لا تملكه، ولذلك موسى عليه السلام من أنبياء الله عز وجل لما أخذ برأس أخيه هارون وبلحيته، وألقى الألواح التي فيها كلام الله عز وجل، فإن هذا من شدة الغيرة على دين الله عز وجل، والشدة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} [الأعراف:150] ، بين له عذره، فاستغفر له ولنفسه {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} [الأعراف:151] ، فهذا طبع في الإنسان، أبو بكر رضي الله عنه كان محرما مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك خادمه ويضربه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا يصنع المحرم!) ، وهو صديق الأمة وخير الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه.
يوجد أشياء لا تملكها، فإذا كان الخلق الحسن لا تملكه فأوصيك -وهذا الأمر الخامس- أول شيء بالرجوع إلى الحق، بمجرد ما تنتهي من أذية أحد ترجع إليه وتقول له: يا أخي! أنا أخطأت في حقك، والاعتذار يؤثر في نفسك، ويحرجك أن تعود المرة الثانية، فاعتذر مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى تخجل من نفسك، وأقل ما فيها -وليس بالقليل- أنك تحملت الظلم، فإذا أخطأت فعود نفسك أنك تعتذر مباشرة.
الأمر السادس: أن تبتعد عن الأمور التي تستفزك! وصية أخيرة: الحدة غالبا ما تأتي أمام الضعفاء، فدائما إذا ابتليت بضعيف في حق من حقوقك أو في أي شيء فتصور كأنك أمام إنسان عظيم، وهذا مما يعين على الأخلاق الكريمة، خاصة لو أردت أن تعرف حقيقة الرجل فانظر إليه مع الضعفاء، وكان أئمة السلف يضربون في ذلك المثل العظيم، يقول القائل: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله، فكان يعز الفقراء والضعفاء، فالحدة ما تشتد أكثر إلا على الضعفاء، لكن أمام الأقوياء تنزل السكينة، وينزل الهدوء، وينزل التعقل، ابتلاء من الله عز وجل.
فالناس بسبب ضعف الإيمان إذا وقفوا أمام الأقوياء استضعفوا، وإذا كانوا أمام الضعفاء استقووا، فإذا وقفت أمام ضعيف تصور أنه قوي، تصور أنه من أقوى الناس، وإذا تصورت ذلك التصور فاعلم أن قوته -إذا كان مظلوما وتريد أن تحتد عليه- من الله وليست من الناس، فهذا أقوى الأقوياء وهو الضعيف الذي تراه أمامك، من يكون مظلوما فالله جعل له سلطانا ونصيرا، فلا تستضعف الناس، ولا تظن أن الناس ضعفاء، فإنهم بربهم أقوياء خاصة أهل الإيمان يقول الله: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج:38] (إن) للتحقيق، وقال: (يدافع) وما قال: يدفع، وزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، أي: دفاعا عظيما، ثم كلمة دفع في لغة العرب لها قوة ولها معنى، أي: أن كل الظلم الذي سيأتيهم والأذية سيدفعها الله عز وجل، ثم قال: (عن الذين آمنوا) ، عن فقرائهم وأغنيائهم، عن ضعفائهم وأقويائهم، عن كل شخص يذل أو يهان ما دام أنه من أهل الإيمان، فقد تولى الله أمره والدفاع عنه، وإذا تولى الله الدفاع عنه ما يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فالله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فعلى كل إنسان أن يحاول قدر المستطاع أن يأخذ بهذه الأسس التي تعينه على سلامة قلبه والتحكم فيه.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:36 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (520)

صـــــ(1) إلى صــ(14)


شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [1]

لقد دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تحريم الخمر، حفاظا على الدين والعقل والبدن والمال والعرض، فالخمر أم الكبائر، ومفتاح الرذائل، وباب كل شر، تنفر عنها العقول السليمة، وتستقبحها الطباع المستقيمة والفطر الكريمة.
ضابط المسكر وتعريفه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد المسكر] ، تقدم معنا تعريف الحدود، وبينا أنها العقوبات المقدرة شرعا، وعلى هذا فإن حد المسكر هي: العقوبة التي نص عليها الشرع، إما مقدرة محددة كما اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، وإما أن تترك لنظر الإمام فيما هو أولى في ردع الناس وزجرهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه وبيانه.
أما من حيث الأصل فالجماهير على أن للسكر والخمر حدا في شريعة الله عز وجل، وعقوبة شرعية.
وقوله [المسكر] يقال: أسكر الشيء يسكر فهو مسكر، اسم فاعل، والمراد به ما خامر العقل وغطاه، سواء كان ذلك بالشراب أو بغيره، وسواء كان قليلا أو كثيرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع هذا الضابط فيما صح عنه من الأحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، هذا عام وشامل للقليل والكثير؛ ولذلك قال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام) ، وفي لفظ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، وكل هذا يدل على أن العبرة بوجود الإسكار، وأنه لا فرق في هذا الذي يتعاطاه الناس بين أن يكون قليلا أو كثيرا ما دام أنه يخامر العقل.
وفرق بعض العلماء رحمهم الله بين السكر والجنون: فجعلوا الجنون ما يذهب العقل، وجعلوا السكر ما يغطي العقل، فهم يرون أن هناك فرقا بين السكر والجنون من هذا الوجه؛ ولذلك وصف المسكر بكونه خمرا لأنه يخامر يعني: يغطي، وعلى هذا فالعقل في الأصل يكون موجودا، وتجد السكران تارة يفهم الأشياء وتارة لا يفهمها.
واختلفت ضوابط العلماء رحمهم الله في السكر، ومن هو السكران: فقال بعض العلماء رحمهم الله: هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب، لا يفهم ما تخاطبه به، ولا يحسن أن يجيبك، ويختل ذلك الكلام المعهود منه، ولذلك لما أرادوا أن يختبروا بعض العلماء -وهو علي بن داود - عندما تصدر للفتوى والعلم، سألوه: متى يكون الإنسان سكرانا؟ فقال رحمه الله: إذا اختل كلامه المنظوم، وأباح بسره المكتوم.
فهذه من دلائل السكر أن يختل نظام كلامه، فربما تكلم بأشياء لا تفهم، وربما تكلم بأشياء تفهم، ولكنه يقدم أو يؤخر أو يدخل فيها غير المفهوم.
ومن هنا قال: إذا اختل كلامه المنظوم، وأيضا أباح بسره المكتوم، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل بالعبد أنه رزقه العقل، وما سمي العقل عقلا إلا لأنه يعقل، فهو يحمل الإنسان على الحياء والخجل، ويحمل الإنسان على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويجعله ينتقي أفاضل الكلام كما ينتقى أفاضل الطعام، كل هذا بفضل الله ثم بالعقل، فإذا ذهبت هذه النعمة أو غطيت أو سترت أو حجمت أو أصابها الضرر اختلت كلها، فأباح بسره المكتوم؛ لأن العقل يمنعه أن يبيح بسره، فليس هناك إنسان عاقل يبيح بأسراره أو يكشف ستر الله عز وجل عليه، أو على خلقه، أو على من يحب وعلى من يود؛ ولكن السكران ليس له عقل، ولذلك يبيح بأسراره، ويتكلم ويهذي بما يعرف وما ينكر.
وقوله رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: بيان العقوبة الشرعية لمن شرب الخمر، أو تعاطى ما يسكر العقل سواء كان بالخمر أو كان بالمخدر الموجود في زماننا.
وذكر المصنف رحمه الله باب حد المسكر بعد باب القذف، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله لهم نظرة في العقوبات، فقدموا حد الزنا لقوة عقوبته، ولأنه أشد جلدا، ثم يليه حد القذف؛ لأنه من جنسه؛ فالأول اعتداء على العرض بالفعل، والثاني اعتداء على العرض بالقول، وعقوبته أخف؛ فكان بعده مباشرة، ثم بعده الخمر، والمناسبة واضحة في العقوبة؛ فإن عقوبة الثلاث كلها بالجلد، فاتفق العلماء رحمهم الله على أن عقوبة الزنا الجلد بإضافة التغريب والرجم على التفصيل إذا كان محصنا كما تقدم معنا، لكن في الأصل عقوبته الجلد، ولذلك قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور:2] ، ومن هنا قال بعض العلماء: يجلد الزاني سواء كان محصنا أو ثيبا، حيث يجمع للثيب بين الجلد والرجم -كما تقدم معنا- على ظاهر حديث عبادة.
إذا: الجلد في الزنا وفي القذف، ثم اتفق حد الخمر مع هاتين العقوبتين -أعني الزنا والقذف- في كونه يحد السكران بالجلد، ولذلك ناسب أن يذكره بعد هذين النوعين، بعد حد الزنا وحد القذف.
يقول رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة شارب الخمر، أو من تعاطى المخدرات، وما في حكمها، سنبينه من كلامه رحمه الله.
بعض العلماء يقول: (باب حد المسكر) وبعضهم يقول: (باب حد الشراب) وبعضهم يقول: (باب حد الخمر) ، وكلها متقاربة، وبعضهم يقول: (كتاب الأشربة) كما فعل الخرقي رحمه الله، فإنه قال: كتاب الأشربة، فيتكلم عن الخمر ثم تكلم عن أحكام الأشربة، وعادة العلماء أنهم يذكرون الأحكام في مظانها؛ فمظان أحكام الأشربة أن تذكر في باب الخمر، ولذلك يذكرون الخمر وتحريمها، ثم يفرعون على ذلك شرب السموم أو شرب الأمور المحرمة، وهذا كله من بيان الأشياء في مظانها.
قال رحمه الله تعالى: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] وهذا أصل مستنبط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة انبنت عليها فروع، وأصل انبنى عليه غيره، ومنتزع من قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، و (كل) من ألفاظ العموم والشمول عند العلماء رحمهم الله؛ ولذلك عندما تقول: (كل) حكم على المجموع، وليس حكما على فرد، ولا أفراد معينين: الكل حكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع فإذا قيل: (كل) ، فهذا من ألفاظ العموم كما نص على ذلك أئمة الأصول رحمهم الله، فهنا نص المصنف رحمه الله على هذا فقال: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام) .
قوله: (كل شراب) سواء كان من التمر، أو كان من الرطب، أو كان من البسر وهو البلح، أو كان من الزبيب، أو كان من العنب، أو كان من العسل، أو كان من التين، أو كان من الحنطة، أو كان من الشعير، أو كان من الذرة، فهذا عموم، وكانت الخمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما تتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت من خمس: فذكر هذه الخمس رضي الله عنه في خطبته المشهورة.
والذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم هو العموم والشمول، فكانوا في ذلك الزمان يتخذون الخمر من هذه الأشياء، فيأخذون التمر؛ فينقع وينتبذ في الماء حتى يشتد ويقذف بالزبد، ثم بعد ذلك إذا شرب أثر في العقل، وخامر العقل والإدراك.
وكذلك أيضا بقيت الأشياء التي ذكرت، ثم توسع الناس في هذا، وما زالت الأشربة تختلف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا) ، والنبيذ: من النبذ، وأصل النبذ في لغة العرب الطرح، وسمي هذا الشراب نبيذا لأنهم كانوا يطرحون التمر والبسر -البلح- والرطب والتين والعسل حتى يشتد ويقذف بالزبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا حرج في هذا الانتباذ إلا أن يكون مسكرا.
قال رحمه الله: (كل شراب أسكر) العلة هي الإسكار، فإذا أثر في العقل فغطى العقل والإدراك فإنه محرم أيا كان هذه الأنواع.
وقال: (كل شراب) لأن الأصل في الخمر أنها شراب، وهذا الذي كان موجودا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنص جاء في الشراب؛ لأنه كان هو الموجود، لكن النص نبه على العلة، وبين السبب الذي من أجله حرم هذا الشراب؛ لأن الله لا يحرم على عباده إلا لسبب ولأمر، فلما بين عليه الصلاة والسلام أن العلة هي الإسكار: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، وقال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، دل على أن العلة هي مخامرة العقل وإزالة الشعور، فأي شراب أذهب الشعور أو أزال الإدراك فإنه يدخل تحت هذا التحريم؛ لأن العبرة بالمعنى، وليست العبرة أن نجمد عند الألفاظ، إنما العبرة أن ننظر إلى العلة التي من أجلها حرم الله ورسوله هذا الشراب، فتتطور الأمر حتى وجدت أشياء ليست بشراب، وتؤثر في العقل، فتارة تكون من المأكولات، وتارة تكون من المشمومات كالسموم الطيارة التي تشم فتذهب الشعور، وتارة يتعاطاها الإنسان عن طريق الحقن والعياذ بالله! يحقنها في دمه حتى تؤثر على عقله وإدراكه.
أدلة الكتاب على تحريم الخمر
إذا: نحن ننظر إلى العلة، فقال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر) ، وهذا نص منه رحمه الله على تحريم الخمر، وأنها في الأصل كانت من الشراب، وهذا التحريم له دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأيضا دليل العقل: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90 - 91] ، وهذه الآية الكريمة لما نزلت صاح عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح-: (انتهينا! انتهينا! انتهينا!) .
دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه
وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] ، {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] ، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة:90] ، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (والأنصاب) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين.
فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر.
ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجسا: (( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان )) [المائدة:90] ، والرجس: النجس الخبيث.
ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيما لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} [المائدة:90] ، هي رجس، والله يقول: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج:30] ، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلا عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر.
ثالثا: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} [الإسراء:53] ، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئا من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27] ، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي.
رابعا: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: {فاجتنبوه} [المائدة:90] ، فيه أمران: الأول: كونه جاء بصيغة (افعل) ، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افعل) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب.
الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب) ، و (دع) ، و (اترك) ، و (ذر) ، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج:30] .
خامسا: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقا إلى حرام أو سبيلا إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلا إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر} [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، هذا الوجه الخامس.
الوجه السادس: {ويصدكم عن ذكر الله} [المائدة:91] ، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} [المائدة:91] ، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما، فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضا تكون الخمر طريقا إلى ترك الصلاة.
كان تحريمها تدريجيا، فنفر الله منها في قوله:: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكا متعبا فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة.
الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] ، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا) ، فإنه لما قال: {فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم.
هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلا عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر.
وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فاجتنبوه) ، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فاجتنبوه) ، فلما قال: (فاجتنبوه) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه.
وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولا مرجوحا، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين.
لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعا باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيبا بل تضر ولا تنفع.
الأدلة من السنة على تحريم الخمر
ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها.
كذلك أيضا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها) ؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاما يزينها أو يدعو إليها أو مجدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري.
فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيما لأمرها.
ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجر في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمنا على الخمر وشاربا لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة.
ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماما، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: {نور على نور} [النور:35] ، فالنور الأول نور الوحي (على نور) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما.
فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله.
واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذا اشرب من هذا الكأس قليلا وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.
الإجماع على تحريم الخمر
أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلا فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.



ابوالوليد المسلم 24-10-2025 04:43 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 




دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال
وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بين الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله: {رجس من عمل الشيطان} [المائدة:90] ، وقال: {يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، فنص على أن فيها أضرارا دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع {يوقع بينكم العداوة والبغضاء} ، إذا: الضرر الديني موجود فيها.
وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقينا بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضا ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث.
ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء) ، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضا في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء) ، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتا من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضا مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلا، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء.
وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاما جيدا في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبيا عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله.
إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه.
كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء إلى أن قال: فنشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء فقال: فنشربها فتتركنا ملوكا، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيدا عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندما شديدا وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبدا، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء.
تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نعم الله عز وجل أنه حرم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس.
وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل:67] ، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بين الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كف عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} ، فجعل هذه الثمرات رزقا حسنا، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيها، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائما يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر) ، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما.
ثم نزلت الآية الثانية: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيما، وإنما المراد: (وإثمهما) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] ، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها.
ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43] ، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب.
ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جدا، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهدا منهكا أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر.
ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعما؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجا فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت.
ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتا، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع) ، فأصبحت بلاء وداء وشرا، ولا منفعة فيها ولا خير.
فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى.
المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية
المخدرات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موجودة في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تكن موجودة في القرون المفضلة، كان يوجد (البانجو والشيكران) وهذا نبت معروف، يؤثر على العقل، ولذلك الإبل لو أكلت (الشكيران والبانجو) تهيم وتصبح سكرانة، لكن هل للإبل عقل حتى نقول: إنها فقدت عقلها؟ فهي تهيم، ولو تحمل عليها أي شيء، تمشي، لأنها تفقد التحكم، وهي ليس لها عقل، ولكن لها هداية من الله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فهدى الإبل لكي تخدم الإنسان وتقوم على مصالحه، فإذا أكلت هذا النبت تهيم وتصبح بدون وعي فلا تتحكم في نفسها، وتتحكم في عواطفها، فالشيكران والبنج كان موجودا، وذكره العلماء المتقدمون رحمهم الله في علاج قطع الأعضاء، كما قيل لـ عروة بن الزبير: ألا نسقيك خمرا؟ وذلك عند قطع رجله، فأبى رحمه الله برحمته الواسعة، وقيل: إنهم عرضوا عليه البنج كما ذكر الإمام أبو نعيم الحافظ في الحلية، فامتنع، وأمرهم أن يقطعوها وهو يذكر الله، قال الزهري: فوالله! ما تغير وجهه يعني: ما تغير من قوة الإيمان، وهكذا الذين يذكرون الله عز وجل بقلوب حاضرة تستشعر عظمة الله عز وجل، حتى إنها تقطع منه الرجل ولا يشعر، وقد وقع هذا لبعض الشهداء، فإنه كان في إحدى المعارك فانفجر به لغم، فقطع رجله وسقط كالمغشي عليه، ثم أفاق فجاءوا يحملونه وهو لا يشعر بقطع رجله، وهو معاق تماما، فحملوه وهو يضحك ويتحدث معهم، ويقول: والله! إني بخير أشعر بسعادة، ويحدثهم في طاعة الله وذكره عز وجل، ورجله مقطوعة ينزف منها الدم، ومكث ما بين ثلاث دقائق إلى خمس دقائق، وهو يقول لهم: أحس بانشراح وسعادة عجيبة! يقولون له: ألا تشعر بألم؟ يقول: لا، أبدا! إنما أحس بشيء بسيط مثل دبيب النمل عند ركبتي؛ لأن ساقه مبتورة تماما، حتى فاضت روحه إلى الله رحمه الله برحمته الواسعة.
فالشاهد من هذا، أن الإنسان إذا كان قوي الإيمان يذكر ربه، وهو حاضر القلب؛ لا يحتاج إلى مثل هذه الأشياء، حتى إن الوالد رحمة الله عليه حصل له حادث -وهذا نذكره لأجل الاعتبار- فانقشع جلد رأسه إلى آخر الدماغ، فجاءوا به إلى المستشفى وهو ينزف، فأرادوا أن يخيطوها، يقول من حضر: قيل له: نعطيك المخدر؟ قال: لا، فبدءوا بخياطة جلده بدون مخدر، يقول الشاهد: والله! إنه يتلو القرآن، والله! لم يتألم، ولا تغير وجهه، وهو صابر متجلد، وحدثنا الطبيب الذي أشرف على علاجه فقال: كان الحادث بعد الظهر، وأتيته عند صلاة العصر، فخيطت له الأماكن، حتى إن الممرض الذي يقوم عليه سقط مغشيا عليه، نفس الممرض الذي يداويه ما تحمل هذا الشيء، صار يعيش مع المريض بآلامه أكثر مما يتألم المريض، فسقط مغشيا عليه، ثم إنه قام رحمة الله عليه فتوضأ لصلاة العصر، وهذه القصة حكاها لي الدكتور، وحكاها لي الوالد نفسه رحمة الله عليه، وكان يحكي لي فضل الطاعة وفضل ذكر الله، وفضل القرآن، وكان سني صغيرا في تلك الفترة، كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تقريبا، فلما جئناه بعد العصر وهو في المستشفى جلس على سريره، فقال: سمعت الأذان فقمت أتوضأ، فجاء الدكتور يبحث عنه وما وجده على سريره، وهذا الخبر يحكيه لي نفس الطبيب، وما يصدق أن إنسانا فيه هذه الإصابة يقوم من مقامه قال: فوجدته يتوضأ، فقلت له: يا شيخ! والله! لولا الله ثم فضل القرآن الذي في صدرك ما تفعل هذا الفعل؛ لأنه جلس ينزف ما لا يقل عن ربع ساعة قبل أن يصل إلى المستشفى.
فالشاهد من هذا، أن السلف رحمهم الله كانوا يستخدمون هذه الأدوية من البنج ونحوه، حتى كان القرن السادس الهجري وأوائل السابع فوجدت المخدرات، وأول ما وجد منها الحشيشة، وهذا الحشيش نبت جلب إلى المسلمين حينما جاء جنكيز خان، بالتتار إلى بلاد الإسلام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: فجلبوا معهم هذه الحشيشة الملعونة، فتعاطاها فساق المسلمين، واستمرءوها حتى أصبحت داء بين المسلمين، وما كان المسلمون يعرفون هذه المخدرات ولا يتعاطونها، ثم توسع الأمر في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، فجاء الأفيون ونبت الخشخاش وغيرها من المخدرات النباتية، ثم في القرن الحادي عشر وجدت المخدرات المصنعة والمركبة كيماويا، وفتح على الناس من باب البلاء والشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) ، والأصل أن هذه المخدرات محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، وبين أن العبرة والعلة هي الإسكار وذهاب الإدراك والشعور وتغطية العقل.
وفي المخدرات من تغطية العقل والشعور ما يعدل الخمر أو قد يفوقه، ولذلك بين شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر أدلة تحريم الحشيشة أنها أشد تحريما من الخمر، وفيها أضرار أشد من الخمر من وجوه، والخمر أشد منها من وجوه أخر، وقال: إنه يصعب فطام الإنسان عن الحشيشة، وهذا من دقة فهم علمائنا المتقدمين رحمهم الله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قرأ الطب، وعرف معلومات من الطب أفاد بها أثناء فتاويه رحمة الله عليه، ولما تكلم عن الحشيشة ذكر أنها تضر الكبد، وأنها تحدث ما يسمونه بتشمع الكبد ونحوه من الأضرار، وهذا لا يعرفه إلا الأطباء في زمانه، ولكنه رحمه الله كان يلم بهذه الأشياء، ويرجع إلى أهل الخبرة في معرفتها وتقريرها.
فدليل تحريم المخدرات: أولا: عموم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) ، وهذا شامل لكل شيء يسكر العقل، ويؤثر فيه.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل مسكر ومفتر) ، والمخدرات فيها المعنيان، فهي تسكر وتفتر والعياذ بالله! وتؤثر في العقل والإدراك.
ثالثا: أن الأضرار الموجودة في المخدرات كالخمر أو أشد من الخمر من وجوه، وحينئذ يجتمع دليل النقل والعقل على تحريم المخدرات، وسنتكلم إن شاء الله على بقية المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الجملة في الدرس القادم إن شاء الله.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعافينا من هذا الداء ومن كل بلاء، وأن يرفع عن المسلمين هذا الداء، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.


الأسئلة




الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق
السؤال هل ما يعرف بالدخان يعتبر من المسكرات أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذا السؤال يحتمل أمرين: يحتمل أن السائل يسأل عن بعض المواد التي تستنشق، وتؤثر في العقل.
ويحتمل أنه يقصد الدخان المعروف أنه يأخذ حكم الخمر، ما أظن واحدا عنده عقل يجعل الدخان مثل الخمر، ينبغي على الإنسان أن يكون واقعيا، وخاصة إذا تحدثنا عن الأحكام الشرعية أن نتكلم بعقل وببيان، الدخان شيء, والخمر شيء آخر، والدخان بلاء ومصيبة، ولا يمكن أبدا أن يأخذ حكم الخمر، ولا يمكن أبدا أن نقول: إن من شرب الدخان كأنه شرب الخمر، ما يجوز هذا، هذا قول على الله بغير علم، وافتراء وكذب.
الدخان محرم لأضراره للموجودة فيه، ولو أن طعاما وشرابا تضمن ضررا وإهلاكا للصحة كما يتضمنه الدخان لحرمناه كما حرمنا الدخان، ولكن الدخان لا يؤثر في العقل ولا يذهب الشعور، ليس هناك أحد يتعاطى الدخان فيصبح كالسكران أو كالمخمور، فالله تعالى يقول: {لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8] ، لا بد من العدل، والعدل أن تقول الصواب والحق، فالخمر شيء والدخان شيء آخر، هذا إذا كان مراده أن يجعل الدخان مثل الخمر.
والخمر كبيرة والدخان ليس بكبيرة يعني: شرب السيجارة الواحدة ليس بكبيرة بحد ذاتها، لكن المداومة عليه تنقله من كونها صغيرة إلى كبيرة، ووجود الأضرار بالدخان في نفسه، وأهله، وولده، لا تقع بسيجارة واحدة يشربها.
ومن هنا ينبغي التفصيل والبيان، فالخمر شيء والدخان شيء آخر.
وإذا كان المراد الأمر الأول الذي ذكرناه وهو: أنه يسأل عن الأمور التي تؤثر تأثير الخمر، ولكنها عن طريق الشم والتدخين ثم تستنشق كما في بعض المواد المخدرة، فهذا لا إشكال أننا لا نفرق في المخدرات بين المشموم وبين المحقون بالحقن وبين المشروب وبين المأكول، كل هذا يأخذ حكم المخدرات في التحريم، والأصل يقتضي عدم جوازه؛ لأن العلة واحدة وهي وجود التأثير على العقل والإدراك، والله تعالى أعلم.
حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة
السؤال رجل فاتته من صلاة الجنازة تكبيرة، ثم سلم مع الإمام، فماذا يلزمه أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل من فاتته تكبيرات من صلاة الجنازة ولم يمكنه أن يقضي، فإنه يكبر عدد ما فاته من التكبيرات ثم يسلم.
فمثلا: لو فاتته تكبيرتان، فبعد أن يسلم إذا سلم الإمام يقول: الله أكبر، الله أكبر، ويسلم.
أن الجنازة تترك بعد تسليم الإمام ولا ترفع مباشرة حتى يتمكن الإنسان من القضاء فإنه يقضي كما نص على ذلك جمهور الأئمة رحمهم الله، فيفصل في مسألة القضاء في صلاة الجنازة بين الجنازة التي ترفع مباشرة والجنائز التي تؤخر، فإن كانت ترفع مباشرة فإنه يوالي بين التكبير، وفي هذه الحالة يسقط عنه قراءة ما فاته وصلاته صحيحة.
أما لو سلم مع الإمام مباشرة، وهو يعلم أن هناك تكبيرات قد فاتته عامدا متعمدا ولم يقض هذه التكبيرات فصلاته باطلة؛ لأنه لا بد من الإتيان بهذه التكبيرات، وهي لازمة في الصلاة، ومن تركها متعمدا وهو يعلم أنه واجب عليه قضاؤها فصلاته باطلة، والله تعالى أعلم.
حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة
السؤال ماذا يجب على رجل أحرم بالعمرة ثم طاف بالبيت وعاد إلى داره دون أن يسعى بين الصفا والمروة، ظنا منه بأن العمرة تقتصر على الطواف فقط، أثابكم الله؟
الجواب الجهل ليس بعذر، الجهل عذر في مسائل محدودة، ولأشخاص معينين، وفي فتاوى معينة، أما أن يأتي إنسان إلى بيت الله الحرام، والعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة موجودة، ويمكنه أن يعرف ما هو الواجب عليه في عمرته أو على الأقل يسأل المرشدين الموجودين، ثم يأتي ويقول: والله! أنا كنت أظن أن العمرة طواف، هذا ليس بعذر، هذا تلاعب وتقصير وإهمال، ومن قصر يتحمل مسئولية تقصيره، ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواما أقدامهم تلوح بعد الوضوء، ولم ينتبهوا للأعقاب التي في أقدامهم، فلم يغسلوها فقال: (ويل للأعقاب من النار) ، فأخبرهم عن هذا الوعيد مع أنهم ما علموا، وهم من الصحابة، وتوعدهم بهذا الويل: (ويل للأعقاب من النار) ، فويل لأصحابها من عذاب الله وعقوبته، لماذا؟ لأنهم أهملوا وقصروا في تفقد القدمين، فالله أمرهم بغسلها كاملة، وكان المنبغي أن يحتاطوا وأن يتنبهوا للفرض الذي أوجب الله عليهم.
فهؤلاء الذين يؤدون مناسك العمرة والحج وأحكام العبادات دون أن يسألوا أهل العلم، ثم يأتون ويقولون: والله ما ندري، والله ما نعلم، هذا ليس بعذر لهم، هذا إهمال وتفريط، ويتحمل المهمل تفريطه.
أما السعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان العمرة، كما هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لعمري لا أتم الله حج وعمرة من لم يسع بين الصفا والمروة) .
إذا: لا بد عليه أن يرجع، وهناك وجهان للعلماء: فبعضهم يقول: لا يصح السعي إذا وقع الفاصل بينه وبين الطواف في العمرة، وهذا ما يسمونه بشرط الموالاة وعدم الفصل، فعلى هذا القول يلزمه أن يعيد الطواف، فيطوف ثم يسعى أي: لا يسعى إلا بعد طوافه، وهذا أحوط، فيرجع فيطوف ثم يسعى بين الصفا والمروة، والله تعالى أعلم.

دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب

السؤال أخي يتعاطى الخمر، ومع ذلك لا يصلي، وهو متزوج وله أولاد، وهو في غالب وقته كذلك، وأنا أريد أن أدعوه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، وأن أدعو له وأن أضاحكه؛ لأنه مع ذلك لين القلب، أثابكم الله؟

الجواب نسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، ويتوب علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين، وأن يرفع عن كل مبتلى بلاءه.
أخي في الله! أولا: عليك بمناصحته، وواجب عليك أن تسعى في نجاة أخيك من النار، وهذا فرض عليك، والدعوة للأقارب أعظم وآكد من دعوة الغريب، دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب.
ثانيا: تحرص على بذل الأسباب التي تؤثر في أخيك، وأنت تعرف النقاط التي هي نقاط ضعف فيه، فتوجد له من يؤثر عليه فيها، فتغتنم الفرص إذا -لا قدر الله- أصيب بمصيبة، فتذكره ذكرته بالله عز وجل، وإذا حدث عنده سرور ذكرته بنعمة الله، فتحاول أن تؤثر عليه، وتأخذ بالأسباب التي يكون لها وقع كبير في نفسيته وفي قلبه لعل الله أن يهديه.
ثالثا: عليك -أخي في الله- أن تحذر مجاراة أهل المعاصي في معاصيهم، خاصة إذا نظروا إليك على أنك على خير وبر، فإذا كانت مؤاكلتك ومشاربتك ومباسطتك له تزيده جرأة على حدود الله، واستخفافا بمحارم الله فإياك إياك! لا يختمن الله على قلبك، خاصة إذا كان جلوسك معه أثناء المنكر، أو أثناء شربه للخمر، إلا أن تعظه وتذكره بالله عز وجل، فالأكل والشرب مع أهل المعاصي حال معاصيهم مشدد فيه؛ ولذلك جعل الله عز وجل من جارى أهل المعصية في معاصيهم -دون أن ينصحهم، ودون أن يعذر إلى الله فيهم حكمه حكمهم: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} [النساء:140] ، يعني: لو جاء شخص ووجد شخصا يستهزئ بالدين أو بالعلماء أو بالصالحين فلا يجوز له أن يجلس معه.
افرض يوما من الأيام أنك في مناسبة، وجاء أحد يستهزئ ويتكلم في الدين، أو يستهزئ بالعلماء، فقام له واحد في وسط الغداء فقال له: اتق الله! لا تتكلم في العلماء، أمسك لسانك أو اخرج، سيقولون لك في اليوم الأول: متشدد! اليوم الثاني: متشدد! اليوم الثالث: يمسكون هذا الذي يتكلم ويقولون له: احذر! لا تتكلم في الدين، ولا تؤذي من جلس، على الأقل حتى يجاملون أهل الحق.
فإذا سكت الإنسان عن معصية الله محاباة لقريبه أو غيره؛ فإن هذا يعين أهل الباطل على باطلهم، ولا يمكن أن تقام حجة الله على العباد بهذا التخاذل، فينبغي عليك أن تنصحه.
وهناك أمر أخير ننبه عليه: إذا أردت أن تكلمه أو تبين له الحق فإياك ثم إياك! أن يتسلط الشيطان على قلبك فتكون موعظتك من أجل العاطفة لا من أجل الله عز وجل! ولذلك كثيرا ما تضعف دعوة الأقارب؛ لأن الإنسان يأتي بها من منطلق العاطفة، فيقول: فضحتنا، نكست رءوسنا أمام الناس، الناس يقولون: أخوك يفعل إذا أصبح الإنسان يدعو لهذه الأشياء فهي ليست لله، وإنما هي حمية للنفس.
وعلى هذا عليك أن تحرص على الإخلاص، وإرادة وجه الله عز وجل وطلب الخلاص، وأن تتفكر أنك إن أخذت بحجز أحدهم عن نار الله عز وجل عظمت مثوبتك، وجل ثوابك عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإذا كان قريبا كان الأمر أعظم، وإذا كان قريبا كان الجزاء من الله أجل، فتحرص على أن تعامل الله سبحانه وتعالى، وعلى أنك تنصحه لله وتذكره بالله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.







الساعة الآن : 04:17 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 1,084.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 1,083.16 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.16%)]