رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم أخذ القيمة في النفقة وقوله: [لا قيمتها] أي: لا قيمة النفقة، يعني: لو جاء بالطعام والشراب ووضعه في البيت ومكنها منه، وأخذت قدر ما تريد من طعامها وشرابها بالمعروف هي وأولادها فلا إشكال، فلو قالت: أنا أريد المال، وأنا أشتري بنفسي، وأفعل بنفسي، فليس لها ذلك، إنما لها حق أن تطعم وتكتسي من ماله بالمعروف، فإذا أصرت على أن تأخذ النقد، فمن حقه أن يمنعها ويقول: لك طعامك وشرابك بالمعروف. وهكذا لو كانت النفقة شهرية، فقالت: أريد النقد نفسه، فإن من حقه أن يقول: لك حق الطعام والشراب، وهذا لك وللأولاد بالمعروف، وليس لك حق عين المال، أي: لا تستحقين عين المال، إنما فقط تستحق أن تطعم وتكسى بالمعروف. قال رحمه الله: [ولا عليها أخذها] أي: لا يجب عليها إذا أعطاها قيمة النفقة نقدا أن تأخذه، إذ الأصل الإطعام والقيام بالحقوق المعتبرة في النفقة، وأما بالنسبة للقيمة والنقد فلا يجب عليه أن يعطيها إياه إذا طالبت، ولا يجب عليها أن تأخذه إذا فرضه عليها، فإذا قال: أعطيك النقود وعليك أن تشتري ما شئت، فلا يجب عليها هذا. لكن إذا تراضيا فيما بينهما بالمعروف، واتفق الزوج مع الزوجة على تحقيق الأمور الزوجية، كأن يتفق الزوج مع زوجته أن يعطيها ألف ريال كل شهر، أو يعطيها ألفين أو يعطيها ثلاثة أو أربعة على حسب ما يتفقا ويتراضيا مع بعضهما بالمعروف، فهذا كله لا إشكال فيه، إنما الإشكال في الحكم الشرعي من حيث الأصل، فالذي للمرأة أن تطعم وتكتسي بالمعروف، وللزوج أن يقوم بذلك، ويشتري لها ما يعد عرفا نفقة لمثلها كما بينا، ويقدر بمثله غنى وفقرا كما تقدم معنا، فالنفقة تتقيد بحال الزوج، ثم ما بعد ذلك ليس بواجب عليه. حكم الاتفاق على تأخير النفقة أو تعجيلها قال رحمه الله: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة قريبة أو طويلة جاز] كأن اتفقا على أن تكون النفقة في آخر الشهر، أو على أنها تأخذ النفقة كل شهرين، أو على أنها تأخذ النفقة كل أسبوع، أو على أخذ النفقة كل ثلاثة أيام، فلا جناح عليهما فيما تراضيا بينهما بالمعروف، وهذا هو الأصل في بيوت المسلمين؛ أنها تقوم على المحبة والمودة والتفاهم والرضا والقناعة، وإنما يذكر العلماء هذا إذا وقعت مشاحة وأصرت المرأة على شيء أو أصر الرجل على شيء، فحينئذ يفصل بينهما بمقاطع الحق، أن الذي تستحقه المرأة على زوجها ينفقه عليها. وقت لزوم الكسوة للزوجة على زوجها قال رحمه الله: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله] أي: للزوجة، وللمطلقة الرجعية، وللمطلقة البائنة الحامل، والمتوفى عنها زوجها حاملا: كسوتها مرة في العام. والكسوة في الحقيقة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، لكن الأوجه أن الكسوة تختلف بالصيف والشتاء، فيكسوها كسوة الصيف ويكسوها كسوة الشتاء، والزائد على ذلك لا يجب عليه، وكون المرأة كلما حدثت مناسبة فرضت على الزوج أن يكسوها؛ كل هذا من الإسراف والبذخ والمجاوزة للحدود الشرعية. نصيحة للنساء في عدم الإسراف في الملابس ولذلك محق الله بركة الأموال، وأصبح كثير من النساء يجدن الضيق والعنت بسبب أنهن ضيقن على أنفسهن، ولربما أدخلن أزواجهن في الديون وأرهقن كاهل الزوج فيما لا طائل تحته، فالمرأة تتقي الله عز وجل، وتعلم أن حقها عند زوجها كسوة صيفها وشتائها، وأنه إذا كساها على هذا الوجه بالمعروف فقد أدى ما أوجب الله عليه. وأما ما وراء ذلك من شراء الملبوسات والمبالغة فيها، حتى إن المرأة كلما جدت لها مناسبة اشترت ثوبا، حتى بلغ ببعضهن أن تقسم أنها لن تلبس فستانا مرتين، وتقول: كيف أحضر زواج فلانة بما لبسته في زواج فلانة؟!! وكم من أمور يراها الناس أدق وأقل من الخردلة في أعينهم، وهي عند الله عظيمة كأمثال الجبال. وإن العبد ليصنع الأمر اليسير فيوجب مقت الله له وهو لا يدري، ولذلك أخبر الله عن شؤم عاقبة هذا الأمر وهو الإنفاق بالإسراف والبذخ، وتوعد الله سبحانه وتعالى أهله بوعيد شديد، حيث قال: {إنه لا يحب المسرفين} [الأنعام:141] فمن أعظم البلاء وأعظم الشؤم على المرأة التي لا تتقي الله عز وجل -حتى ولو كان عندها راتب ولو كان عندها مال- كلما حضرت مناسبة اشترت ذهبا وفستانا ولباسا، وأخذت تتباهى بما تلبسه في كل مناسبة وكل سبب، ولا تلبس لباسها مرتين بل تحاول أن تجدد لباسها، وهذا كله عواقبه وخيمة، وإذا كانت امرأة صالحة وقدوة للغير فالأمر فيه أشد وأعظم. وينبغي على الصالحات أن يكن قدوة لغيرهن، فإذا كان غيرهن يسرف فعليهن أن يتقين الله عز وجل، وكم من أمور في المجتمعات تصلح بصلاح الصالحات حينما تتمسك الصالحة بشرع الله عز وجل، وترى أن هذا المال بدل أن تنفقه فيذهب في كسوة ربما تأتي من أعداء الله ورسوله، ويذهب المال لهم بالملايين، ترى أنها لو أنفقته وكست به عارية، أو أطعمت به جائعة، واقتحمت العقبة، ونالت مرضاة الله عز وجل بإطعام ذي المسغبة، لفازت فوزا عظيما. وكم من امرأة لم تبال بهذه الأمور والترهات جعل الله لها من المحبة والقبول والعزة والكرامة، فلم يتق عبد ولم تتق أمة ربها إلا جعل الله لها من أمرها يسرا وجعل العاقبة لها؛ لأن الله يقول: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف:128] ، خصوصا إذا كانت ملتزمة، وخصوصا إذا كانت طالبة علم، فإذا كانت تشهد كل درس وكل محاضرة وكل مناسبة بلباس جديد، وتبالغ في ملبسها وتبالغ في هيئتها، فلتعلم أنها تكون قدوة للغير، وكم من امرأة تجر بلاء على غيرها من حيث لا تشعر، فقد تكون جارة لامرأة ضعيفة أو زوجها فقير، فإذا أخذت تفعل هذه الأفعال ربما دعت الزوجة أن تتنكب على زوجها، وأن تحمله ما لا يطيق، أو تفسد عليه فراشه. ولذلك كان على النساء المؤمنات أن يتقين الله عز وجل، وأن يخفن الله سبحانه وتعالى، خاصة في أمور الكسوة والمبالغة فيها؛ لأن كثيرا من عائداتها تذهب إلى من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولو أن المرأة علمت أن الدرهم بل الريال الواحد قد يكف الله به نار جهنم عن عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فشق تمرة يحجب العبد عن نار الله عز وجل؛ فما بالك إذا كان المال الغزير! هذا عثمان رضي الله عنه لما صب الذهب والفضة في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب عليه الصلاة والسلام ماله وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ، فما بالك بالمرأة الصالحة الدينة، التي تشح بمالها ومال زوجها أن تنفقه فيما لا طائل له ولا نفع، والله إن الناس لا ينظرون إلى الجمال، ولو نظروا إليه فإنه متاع حائل وظل زائل، ولكن إذا سمت المرأة المؤمنة بأخلاقها وآدابها وسلوكها، واستقامت على طاعة ربها، وكان بينها وبين الله سريرة صالحة نقية تقية، زكاها الله عز وجل، وأبقى في النساء محبتها وإجلالها. وكم من امرأة تراها النساء ويجتمعن بها وهي تملأ قلوبهن محبة وإجلالا لم ينظرن يوما من الأيام ماذا لبست وماذا تركت؛ لأن المحبة في القلوب، والمحبة محبة المبادئ والأخلاق والقيم، وأنت ترى الرجل ربما تراه أشل، وربما تراه دميم الخلقة، ولربما تراه بحالة بائسة، ومع ذلك قد تحبه أكثر من أخيك، بسبب أخلاقه وتصرفاته وأدبه واحترامه للناس وإلفه في تواضعه وما يكون من شمائله وخلاله، فليس السمو والكرامة والعلو بهذه الملبوسات، ولتسأل المرأة نفسها: كم وقفت؟ وكم أخذت؟ وكم أعطت؟ وما زادها هذا اللباس؟! وكم من كاس في الدنيا عار في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) . فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن هذا قد جر على الأمة بلاء عظيما، حينما أصبحت المرأة تتبرج من سوق إلى سوق، ومن مكان إلى مكان، بحجة أنها محتاجة إلى الكسوة، وكلما طرأت مناسبة تذهب لكي تشتري لها كسوة، وخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، خير للرجال أن لا يروا المرأة، وأن لا يحتكوا بالمرأة، واليوم أصبحت المرأة خراجة ولاجة كل يوم، وفي كل مناسبة تجدد ملابسها وتعد إلى أن تتعب من المناسبات واللقاءات، وكلما جاءت مناسبة أخذت تفكر ماذا تلبس لهذه المناسبة، ولكنها لو اتقت ربها وخافت من الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كانت طالبة علم، وخاصة إذا كانت قدوة داعية فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تترسم المنهج السوي. وليس المراد أن تتبذل وتذهب جمال الإسلام وجلاله، ولكن المراد العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فتتطيب وتتزين في الحدود الشرعية، وتتجمل لأخواتها، والإسلام لا يمنع من هذا، ولكن يمنع من الغلو والإسراف المبالغ فيه، وكم من أشياء تجدها في أوقاتها جميلة جليلة، ولكن بمجرد أن تزول يذهب وقتها تزول بزواله، ولذلك يذهب عقل المرأة وراء هذه الأشياء التي لا تجني منها خيرا، ولربما تجني منها سخط الله وغضبه، فتجدها اليوم تصيح على هذا اللباس أنه أفضل الموجودات، وأنها محتاجة إليه، حتى تقنع زوجها بشرائه. فإذا لبست وذهبت به في المناسبة، ومضى يوم أو يومان، فإذا بها في اليوم الثالث تأتي وتقول له: هذا لا يصلح. سبحان الله! بالأمس كان أفضل اللباس، وبالأمس كان أطيب اللباس، وبالأمس كان هو الذي لا يمكن أن يستغنى عنه، لكن بمجرد أن يمضي اليوم واليومان كأنه لا شيء!! وهذا ليس في اللباس فحسب، بل حتى في متاع البيت، إذا جاء العيد، أو جاءت المناسبة، أقامت الدنيا وأقعدتها من أجل أشياء معينة، ومظاهر معينة، وأنفقت الألوف، وذهبت أموال المسلمين ومحقت بركتها، لكن لو أن أمة الله عز وجل اتقت الله عز وجل زال كل هذا، فأكثر هذا البلاء جاء من المرأة، ونحن لا نتهجم على المرأة ولكن نقيم الأمر في نصابه، فالمرأة هي التي تحكم زوجها وتستطيع أن تقول: لا أريد، وهذا شيء طيب! وكم من امرأة صالحة منعت زوجها من الإسراف في البذخ، وكم من امرأة حفظت مالها فبارك الله لها ولزوجها ولأولادها، فهذه أمور ينبغي للمرأة أن تنتبه لها، وبالأخص طالبات العلم، وبالأخص النساء الصالحات؛ لأنهن قدوة لغيرهن، فعليها أن تحمد الله عز وجل على العافية، ولذلك يقول تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31] خاطب الله عز وجل عباده قال: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31] ما حرم الطيبات ولا منع منها {وكلوا واشربوا} [الأعراف:31] فجمع جميع أصول النفقة: الكسوة والأكل والشرب، ثم قال بعد ذلك: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31] ثم انظر التأكيد بـ (إن) وقوله: (لا يحب) نفي للمحبة، والعبد يصوم نهاره ويقوم ليله، وهذا كله من أجل أنه يبحث عن محبة الله عز وجل، في صلاته وزكاته، وإذا بهذه المحبة تزول عند الإسراف، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك ينبغي على المرأة أن تحاسب نفسها في هذا الأمر، وأن تتقي الله عز وجل في نفسها، فليس لها من نفقة الكسوة إلا كسوة الصيف وكسوة الشتاء، كما هو مقرر عند أئمة الإسلام رحمهم الله. إلزام الزوج بما أنفقته زوجته في حال غيابه قال رحمه الله: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى] أي: إذا غاب الزوج ولم ينفق بأن سافر عن المرأة سفرا مفاجئا، فأنفقت المرأة بنية الرجوع أخذ بذلك، ولزمه أن يدفع لها تلك النفقة التي أنفقتها على نفسها وعلى ولدها. حكم ما تنفقه الزوجة من مال الزوج بعد موته قال رحمه الله: [وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتا غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته] كأن أعطاها النفقة، ثم سافر عنها وتوفي في السفر، ولم يتبين أنه ميت إلا بعد شهرين، وكان قد أعطاها نفقة ثلاثة أشهر، فشهر قبل وفاته وشهران بعد الوفاة، رجع عليها الوارث بالشهرين، لأنها لا تستحق هذا، إذ قد انتهى حقها في النفقة بموته. الأسئلة حكم استئذان الزوجة من الزوج في أداء التطوع السؤال إذا أرادت الزوجة أن تكثر من الطاعات غير الصوم، ككثرة الصلاة والعكوف على قراءة القرآن، فهل يجب أن تستأذن زوجها أيضا؟ الجواب لا حرج على المرأة أن تستكثر من الخير، ولكن إذا طرأ شيء في البيت أو احتاجها زوجها أو احتاجها أولادها فلتعلم أن ذلك أفضل من الطاعات النوافل، من صلاتها وذكرها؛ لأنه أمر واجب فتقوم عليه وتقوم به على وجهه. فعلى كل حال تطيع الله عز وجل، ولا تحتاج إلى استئذان أثناء وجودها في البيت، لكن إذا طرأت حاجة تقوم بها وتسدها بها سواء للزوج أو للأولاد، والله تعالى أعلم. حكم أخذ المال بدل الطعام في النفقة كما في حديث هند السؤال هل يكون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما، دليلا على إعطاء المال في النفقة بدل الطعام والشراب والكسوة؟ الجواب هذه المسألة في البدل وليست في الأصل، لأن هند رضي الله عنها، قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟) أي: هي لا تستطيع أن تأخذ طعاما ولا شرابا ولا كسوة، وليس لها إلا البدل وهو النفقة، فأمرها أن تضمن بالبدل؛ لأن الأصل ليس بموجود، ولذلك تقدر وتأخذ بقدره، أي: تأخذ بقدر قيمة الطعام والنفقة، وهذا لا ينقض الأصل الذي ذكرناه، ولذلك أرسل زوج فاطمة بنت قيس رضي الله عنه لها بالشعير، وهو نفقتها من الطعام، وهذا يدل على أن المعروف عند الصحابة والسلف إنما هو الإطعام والقيام بالنفقة الأصلية، فإذا تعذر وجود الأصلية أعطاها البدل، كما لو أنفقت هي وقامت على البيت وهو غائب ثم رجع، فإنها تحتسب النفقة بالنقد، أي: يعطيها نقدا. على كل حال: الأصل هو الإطعام والكسوة والنفقة العينية، ثم بعد ذلك يكون عوضها بالتقدير، وهو القيمة، والله تعالى أعلم. حكم الاقتداء من خارج المسجد مع عدم رؤية من بالداخل السؤال ما هو حكم صلاة المأمومين خارج المسجد إذا كانوا لا يرون الإمام ولا المأمومين؟ الجواب لا يصح الاقتداء خارج المسجد إلا برؤية الإمام أو رؤية من يأتم بالإمام، وأما بالنسبة للبلاغ فمذهب جمهور العلماء أنه لا يكفي، وجمهور الأئمة على أنه لا بد من رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولذلك لو تعطلت الكهرباء لم يعلموا ماذا يصنعون، ولو أن الإمام كان يصلي -مثلا- الظهر وسها ولم يجلس التشهد الأول ووقف، فإن الذين هم خارج المسجد سيجلسون؛ لأنهم لا يرون الإمام ولا يرون من يقتدي بالإمام، فلا يرون سهو الإمام، فسيجلسون، فإذا كبر للركوع ستختل صلاتهم، وهذا قد وقع، فإذا كانوا لا يرون الإمام ولا من يقتدي بالإمام، ففي هذه الحالة كيف يصلون مع انقطاع الكهرباء؟ ولذلك اشترط العلماء والأئمة رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولو كان شخصا واحدا فقط، لأن هذا الشخص يرى غيره، ولو خرج شخص واحد من الباب ورئي من ورائه صح الاقتداء؛ لأن هذا الشخص مبلغ، فبمجرد أن يحدث سهو للإمام يرى، وبمجرد ما ينتقل الإمام من ركن إلى ركن يرى، وإذا تعذر السماع أمكنت الرؤية، ولذلك كان المقرر عند الجمهور رحمهم الله أنه لا بد من رؤية الإمام أو من يقتدي بالإمام على الصحيح. هناك من العلماء من أجاز الاقتداء بسماع الصوت، وقاس بعض المعاصرين عليه الأجهزة، واستدلوا لهم بحديث أسماء في الحجرات، حينما ائتم أقوام بصلاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في قبته في الاعتكاف، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه قد يكون باب القبة مفتوحا ويرون النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم. أما اقتداء أسماء فكان في الحجرة وهي تسمع الصوت، وحجرات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بذلك البناء والشموخ، فهي تراه في بعض الأركان دون بعضها، فلا يصح الاستدلال به من كل وجه. ثم أيضا أسماء تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمع تكبيراته عليه الصلاة والسلام. ومن يعرف المسجد النبوي يعرف أن حجراته بجوار روضته عليه الصلاة والسلام، ما بين حجرة عائشة التي كانت تجلس فيها أسماء وبين الروضة إلا الجدار، وهذا شيء بسيط جدا بجواره، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تسمع خطبه، وميمونة رضي الله عنها كانت تقول: (ما حفظت سورة ق إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها في الجمعة) وحجرة ميمونة كانت في آخر الحجرات فإذا كانت في آخر الحجرات تسمع الخطبة فما بالك بالتي في أول الحجرات. وهذا أمر مهم وهو أن النصوص لا بد من ضبطها ولا بد أن يكون طالب العلم عند الاستدلال بها يعرف الحال الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام، حتى يستقيم الاستدلال بها على هذا الوجه. وبناء على ذلك: فالذي نراه أحوط للصلاة والعبادة ولشرع الله عز وجل، أن المأموم رجلا كان أو امرأة لا بد أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام، ولو شخصا واحدا، حتى يحصل به البلاغ، ويكون الاقتداء على وجهه، لأنه يبني صلاته على صلاة الإمام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فكيف يتابعه إذا كان لا يراه، وإنما يسمعه بواسطة، وأسماء رضي الله عنها كانت تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخشى انقطاع تيار كهربائي، ولا يخشى وجود فاصل ولا حائل، ولكن الآن في زماننا بوجود هذه الأجهزة لا يؤمن انقطاعها، ولا يؤمن أيضا اختلال صلاة المأمومين فيها، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم زكاة الدين السؤال يقول السائل: لي مبالغ مالية عند بعض الناس استدانوها مني وفيهم الموسر وفيهم المعسر، وفيهم من لا أعلم حاله، فما حكم زكاة بهذه الأموال؟ الجواب إذا كان لك دين على أحد، فإن كان غنيا ويمكنه السداد، أو كان عنده قدرة أن يسددك وجبت عليك الزكاة؛ لأنك إذا طالبته كأن المال في يدك، وفي بعض الأحيان يكون هذا الغني صديقا لك، أو يكون أخا لك، فتستحي أن تقول: أعطني المال، لكن في الحقيقة ما دام أن الأجل حل، وهو قادر أن يسدده، فكأن المال في يده إذا كان غنيا قادرا على السداد، فتجب زكاته، وأما إذا استدان منك فقير، أو استدان منك شخص، ولما جاء وقت السداد قال: أنا عاجز ولا أستطيع أن أسددك، فإنه لا زكاة عليك؛ لأن المال غير موجود. ومن هنا تنتظر حتى يسددك وتزكي لسنة واحدة، فلو مكث خمس سنوات أو عشر سنوات، وأعطاك المال بعد عشر سنوات، فلا تزكي إلا لسنة واحدة، والله تعالى أعلم. حكم إدخال العقيقة تحت الأضحية في النية السؤال هل يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؟ الجواب لا يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؛ لأن الأصل عند العلماء في مسائل الإدراج أن يتحقق مقصود الشرع، فالعقيقة مقصود الشرع أن تكون في يوم السابع للولد والولد مرهون بها، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن عن سمرة: (كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فهذا حق واجب مقصود لسبب. وأما الأضحية فإنه على القول بوجوبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها) تكون مقصودة، ولا يجزئ أن يعق بنية الأضحية، ولا أن يضحي بنية العقيقة، لا يجزئ أحد الأمرين عن الآخر، فواجب عليه أن يذبح لكل منهما ذبيحته المعتبرة، والله تعالى أعلم. حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس السؤال من استدان مالا وماطل في السداد، وتساهل، هل يعتبر غاصبا وآكلا للمال بغير حق؟ الجواب منع الناس حقوقهم والتساهل في رد الحقوق إلى أصحابها كبيرة من كبائر الذنوب، عواقبها وخيمة، ونهايتها موجعة أليمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة بأنها ظلم، والمظلوم إذا دعا على من ظلمه فإن دعوته مستجابة ولو بعد حين، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه) . حتى لو أنه أخر راتبه أو منعه إياه مدة خمسة أشهر أو ستة أشهر فهذا ظلم، ويحاسب بين يدي الله ويسأل بين يدي الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يقول الله تبارك وتعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن أكن خصمه فقد خصمته، رجل أستأجر أجيرا فلم يوفه حقه) قال العلماء: ممكن أن يعطيه راتبه ولكن بعد شهر، فلم يوفه؛ لأنه قال: (لم يوفه) وهذا يدل على أنه ينبغي الوفاء؛ فإذا قال: أعطيك في نهاية الشهر، فإنه يعطيه في نهاية الشهر. كذلك أيضا إذا استدان وقال: أعطيك في نهاية الشهر، أو أعطيك بعد سنة، فإنه يجب عليه أن يفي إذا كان قادرا، أما إذا كان عاجزا فإن الله تعالى يقول: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280] والتأخير والتوسعة على المديون من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبها تفرج الكربات، وبها تكون النفحات والرحمات من الله عز وجل، فالشخص إذا أعطيته دينا، ووجدت أموره معسرة، وأنه محتاج إلى هذا المال، وأنه يحتاج أن تأخره وأن تنظره، فهذا مكياله أوفى عند الله عز وجل، بل قال بعض العلماء: الصدقة على المستدين أعظم من الصدقة على المحتاج. فعندما ترى إنسانا مديونا مكروبا في دينك، قد ضاقت عليه الأرض، وتأتيه في ظلمة الليل أو ضياء النهار وتقول: يا فلان مالي ومالك كالشيء الواحد، قد عفوت عنك، فهذا من أعظم الأعمال الصالحة عند الله عز وجل. كان رجل يدين الناس ويقول لغلمانه: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق أن نتجاوز عن عبدنا، قد غفرت لعبدي) فغفر الله له وتجاوز عنه لما تجاوز عن عباده وخلقه؛ لأن الله رحيم ويحب من عباده الرحماء، ويرحم من عباده الرحماء. والمشكلة اليوم دخول شياطين الإنس والجن، تأتي إلى شخص لك عليه دين، ويتأخر في السداد، فتجدهم يأتون ويقولون: لماذا لا تأخذ حقك؟ هذا يتلاعب بحقك، هذا كذا هذا كذا نزعت الرحمة من المسلمين إلا من رحم الله، لكن لو أنزل الإنسان نفسه منزلة هذا المديون ونظر في حاله وقدر ظروفه وقال: قد سامحتك، قد أسقطت عنك نصف الدين، قد أسقطت عنك بعض الدين؛ يرجو رحمة الله عز وجل، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، : {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] فهذا من الإحسان، والنفوس مجبولة على محبة الأموال. فالتوسعة على المديونين وعدم التضييق عليهم أمر مطلوب. أما أن يكون قادرا على السداد ويمنعك حقك ويماطل، فبعضهم يقول: إنها شطارة في التجارة، وبعضهم يقول: إنها شطارة في الأموال أن يتأخر عن حقوقك، وأن يماطلك في حقوقك حتى يستفيد من المال، ولا يريد أن يدفع المال مباشرة! فهذا من الظلم، ولو دعا صاحب المال على هذا الشخص فإنها تستجاب دعوته؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) ودعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولذلك نجد بعض الناس الذين أعطاهم الله الأموال ويؤخرون الناس في السداد، تكون أمورهم منكدة منغصة، لا يأتون إلى باب إلا أقفله الله في وجوههم، ولا يسلكون طريقا إلا عسر الله عليهم؛ لأن الله مكنهم من الخير فضيقوا على العباد مع قدرتهم أن يوسعوا على العباد. وتجد الشخص الآخر إذا استدان من الناس يوفي لهم ويعطيهم، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ويتسلف من أجل أن يفي بوعده، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأ سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) والسمح إذا قضى: كما إذا قلت لك: أسددك في نهاية الشهر، فوجدت المال قبل نهاية الشهر، فآتي لأسددك وأقول لك: جزاك الله كل خير. ولا أنتظر إلى نهاية الشهر، مع أن الذي بيني وبينك نهاية الشهر، فآتي وأقدر أن بيني وبينك التزاما، لكني مع ذلك أقدم السداد، هذه من السماحة. ومن السماحة أنه إذا استدان -مثلا- ألفا يزيد ويعطي عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم أحسنكم قضاء) فينبغي على المستدين أن يقدر المعروف، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فلا يماطل ولا يؤخر، وإذا ماطل وأخر وظن أن ذلك يكثر ماله، فإن الله ينقص ماله، ويذهب البركة من ذلك المال، ومن أراد أن يجرب ذلك فليفعل. فتأخير حقوق الناس مضرته عظيمة، يمنع خشوع الصلاة ويمنع رقة القلب، ويمنع بركة الرزق، ويوجب على الإنسان ويجلب عليه العواقب الوخيمة، وربما يكون المال الذي جمعه وأخره يريده لشيء فيمحق الله بركة ذلك الشيء، ولذلك ينبغي إنصاف الناس، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] والعقود: الالتزامات التي بين المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) فإذا اشترط عليك الوفاء في نهاية الشهر فعليك أن توفي له، خاصة الخدم والضعفاء والغرباء، فهؤلاء أمرهم أعظم، فإذا كان الإنسان يستغل ضعف صاحب الدين، أو ضعف الخادم، فيؤخر حقوقه، إذا قال له: في نهاية الشهر أعطيك المال، فإن نفسه مرهونة بالدين، هذا الراتب أو هذا الحق الذي للأجير أو الدائن إذا جاء الأجل ولم توفه، فإنه يصير دينا عليك، وحتى ولو كان راتبا، فيصبح هذا الضعيف أو هذا الخادم أو هذه الخادمة أو هذا الأجير دائنا لك. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نفس المؤمنة مرهونة بدينه) ولذلك تجد طالب علم بمجرد ما يدخل في الديون تتنكد حياته، وإذا كان أعبد الناس بمجرد ما يدخل في الديون يتنغص عيشه، الدين هم الليل ذل النهار، فيحرص الإنسان على أن لا يدخل في الدين، خاصة إذا كان قادرا، وخاصة إذا جاءه الأجير وقال: عندي ظروف فأريد راتبي وأريد حقي. والأعظم أن يجمع بين السيئتين، تأخير الحقوق، وإذا طلب منه أن يقضيها أقام الدنيا وأقعدها وظن أن هذا من سوء الأدب، ويقول: كيف يقول: أعطني مالي؟! وكيف يقول: أعطني حقي؟! فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جذبه اليهودي بردائه حتى أثر في عنقه، وقال: (أعطني يا محمد فإني ما عهدتكم آل هاشم إلا مطلا) أراد عمر أن يبطش به، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعه، فإن لصاحب الحق مقالة) فكانت سببا في إسلام اليهودي، فهذه أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها: وفاء الناس، وأداء حقوقهم وسدادها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يخلصنا من حقوق عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. نصائح في الإخلاص للدعاة السؤال ترد على الداعية والمتقلد للإمامة والخطابة وغيرها من أمور الدعوة بعض الموارد من الرياء والعجب، فكيف يدفع هذه الأمور ويحصل الإخلاص في عمله؟ الجواب إن الله يبارك للداعية وللخطيب وللإمام ولكل متكلم بشرائع الإسلام متى ما أراد وجه الله جل جلاله، وابتغى ما عند الله، وتوجه بكليته إلى الله، ومن كان لله كان الله له، ومن عامل الله فتجارته رابحة، وأموره مستقيمة، وأحواله صالحة، ومن هذا الذي كان مع الله، فخذله ربه؟ ومن هذا الذي استقام لله، فضيعه ربه؟ وقد قال الله: {إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة} [المائدة:12] . فالعبد إذا أقام لله أمره، وأخلص لله قلبا وقالبا، وأراد ما عند الله، وابتغى الدار الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، كان سعيه مشكورا، وإذا شكر الله السعي باركه، ووضع الخير فيه، فقليله كثير، ويسيره عظيم، وكم من عمل عظمته النية، فمن وطن نفسه على إرادة وجه الله جل جلاله، وابتغاء ما عند الله، فإنه سعيد بحق، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، ففي الدنيا جنة للمخلصين الذين يريدون وجه الله رب العالمين، لا يمكن لأحد أن يحقق شرطها وأصلها إلا نال سعادتها وخيرها وبرها. وإذا دخل هذه الجنة في الدنيا أدخله الله جنة الآخرة، يعيش فقيرا مرقع الثوب بالي الحال، ولكنه بالإخلاص عزيز كريم غني بالله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يبني عليه العبد أموره كلها فضلا عن طالب العلم، فضلا عن الداعية، فضلا عن غيره. وماذا يريد الإنسان بالناس، هل أحيوا ميتا؟ هل شفوا مريضا؟ هل أطعموا بدون إذن الله جائعا أو كسوا عاريا؟ {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف:196] فالذي يكون لله، فالله هو الولي وحده، والذي يكون لغير الله فلن يجد من دون الله وليا ولن يجد له من دون الله نصيرا، طاب عيش المخلصين بإرادة وجه رب العالمين. فماذا يريد الإنسان من الرياء؟ وهب أن أهل الأرض كلهم رضوا عنك ولم يرض عنك الله جل جلاله -لا قدر الله- فماذا يقدمون مما أخر الله منك؟ وماذا يؤخرون مما قدم الله لك؟ العبد الصالح يتوجه إلى الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أنه لا صلاح إلا بإرادة وجه الله، ولا يمكن لشيء في هذا العلم وهذا الدين أن ينظر لصاحبه في جزائه وحسن عاقبته، إلا بعد أن ينظر في قلبه، وإرادة ربه. وينتبه الإنسان إلى من يعامل، فإنه يعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويعامل من بيده خزائن السماوات والأرض، الذي بيده الخزائن التي لا تنفد، الرب الكريم الحليم العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن أراد أن يعرف المعاملة مع الله، فليعرف من هو الله، فيتعرف على الله بأسمائه وصفاته؛ لكي يرى عظيم الكرم والجود والإحسان والمنن والفضل والرعاية والعناية والكفاية، وكل ما تريد من خير الدين والدنيا والآخرة: {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون:88] من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ سبحانه لا إله إلا هو، فما الذي يريد الإنسان من الناس؟ هب أن الناس كلهم مجدوك، وهب أن الناس كلهم مدحوك، وهب أن الناس كلهم رفعوك، وهب أن الناس كلهم رفعوا وأخذوا وأعطوا، فماذا يغنون عنك من الله سبحانه وتعالى؟ تأمل كم من كلمات قلتها وأنت تريد رؤية الناظرين، وسماع المستمعين، فماذا أغنوا عنك من رب العالمين؟ لما مرضت التفت يمينا وشمالا فما وجدت إلا الله جل جلاله، الذي أحاطك برحمته وبلطفه وبمنه وكرمه في ظلمة الليل، ولو كان الإنسان أعز من في الأرض غنى وقوة ويسارا، فربما يأتيه المرض في ظلمة الليل، فلا يسمع صوته إلا الله وحده لا شريك له. فليعامل الإنسان الله سبحانه وتعالى ويذهب عنه الرياء، ويبعد عنه السمعة، فإذا قام خطيبا فليعلم أن مفاتيح قلوب الناس لا يمكن أن يعطيها الله إلا للمخلصين، وأن التأثير في قلوب العباد لا يمكن أن يكون بحلاوة الكلام، ولا بتنميق العبارات، ولا بتحسين الجمل، ولا بتكلف في الشكل ولا في الملبس، ولا بالهيئة، ولكنها أسرار بين العبد وبين الله المطلع على الضمائر، المطلع على السرائر، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا. تستحي من الله حينما يرفعك على رءوس الناس لكي تخطب أو تعظ أو تحاضر، تستحي من الله أن ينظر في قلبك أن فيه غير الله جل جلاله، فمن الذي بوأك هذا المبوأ؟ ومن الذي أعطاك هذه النعمة؟ ومن الذي أحسن عليك بهذا الإحسان فصرت تتقدم تصلي بالناس؟ فتتذكر أن الله قدمك عليهم، وأن الله فضلك عليهم، وأن الله جعلهم يسمعون لقولك، وأن الله جعلهم يركعون بركعوك، ويسجدون بسجودك، فتستحي من الله جل جلاله. أخطر شيء في هذا الوجود الإخلاص، والمسألة العظيمة التي من أجلها قامت السماوات والأرض هي الإخلاص، حتى إن أهل الخير لا يمكن أن يتنافسوا أو ينالوا خيرا إلا بقضية الإخلاص، هي المحك الخطير في الدين والدنيا والآخرة، فلا تتكلم ولا تعمل ولا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت لله كان الله لك، ولا يخذل الله عبدا أخلص لوجهه وابتغى ما عنده، واعلم أن مدح الناس وثناء الناس وتعظيم الناس لا يغني عنك من الله شيئا، ولا يغني عن الحقائق. وقف رجل على الحسن البصري رحمه الله، وقال له: (عجز الزمان أن يأتي بمثلك، فقال: ويحك، ويحك ماذا تقول؟ أوعلمت ماذا أفعل حينما أغلق باب داري؟) يعني: تزكيني أني صالح وأنت لا تعرف سري وغيبي، هذا لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فلا يعامل العبد إلا ربه، ولا يبتغي إلا ما عند الله سبحانه وتعالى، فإن مدح الناس وثناء الناس لا يغير في الحقائق. والعبد المخلص أكره ما عنده مدح الناس، فليكن أكره ما عندك أن يأتي واحد ويقول لك: والله خطبتك نافعة، خطبتك مؤثرة، خف من هذا، فإن هذا لا يغني عنك من الله شيئا، وأشفق على نفسك وقل له: يا أخي اتق الله، إذا كنت وعظتك وذكرتك بالله، فلا تقع بيني وبين آخرتي، ولا تأت تمدحني وتقطع لي عنقي: {فلا تزكوا أنفسكم هو} [النجم:32] وحده لا إله غيره، ولا رب سواه {هو أعلم بمن اتقى} [النجم:32] بل يعرف العبد مقدار نفسه، ويشفق طلاب العلم على بعضهم. تزكية العلماء والخطباء والأئمة ومدحهم وتمجيدهم وتضخيم أمورهم لا تغني عن العبد من الله شيئا، ولنشفق على أهل الخير وأهل الصلاح فلا نقطع رقابهم، وليستح العبد من ربه، أن يأتي ينمق الخطب وينمق المحاضرات والدروس والمواعظ وهو يريد مدح الناس وثناءهم، فعليه أن يستحي من الله جل جلاله، إذا كان يريد الدنيا فسوق الدنيا واضحة، وإذا كان يريد الآخرة فليجعل نصب عينيه الموت ولقاء الله سبحانه وتعالى، وليجعل بين عينيه قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات} [المائدة:119] هذا اليوم يوم لقاء الله سبحانه وتعالى. والله ما استشعر عبد موقفه بين يدي الله إلا هانت عليه الدنيا وما فيها وأراد ما عند الله، وبالأخص الدعاة والهداة للناس، فتحضر الخطبة ولربما تقوم فتأتي تسأل الرجل بعد أن يخرج من المسجد: عن أي شيء كانت الخطبة؟ وإذا به لا يدري عن ماذا كانت، نسأل الله السلامة العافية. وقد يكون هذا بسبب من الخطيب، وقد يكون بسبب من الناس، وقد يكون بسبب منهما، فإن الشهوات والمنكرات والمعاصي إذا كثرت عم بلاؤها: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال:25] وقد يأتي الرجل كأخشع ما يكون ويحال بينه وبين التأثير بسبب ذنوب الناس. لكن ليس هناك شيء يؤثر مثل نية الخطيب ونية طالب العلم، ونية الإمام ونية الواعظ؛ فلا تغتر بالناس، وليكن أكره ما عندك أن يمدحك أحد، وربما مدحك عن حسن نية فتأتي بالتي هي أحسن وتقول له: يا أخي! والله إني مشفق على نفسي، إني كثير الذنوب وعندي خطايا، فخف الله جل جلاله في، ولا تمدحني ولا تمجدني. ثم إن هذا المدح شهادة، فأي شخص تقول عنه: فلان أعلم الموجودين، فلان أفقه الموجودين، فلان أحسن الدعاة، فلان أحسن الخطباء، فلان أحسن القراء، تقف بين يدي الله عز وجل وتسأل: {ستكتب شهادتهم} [الزخرف:19] يخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يزيدون ولا ينقصون لتراها أمام عينيك، ويقول لك ربك: هذا الذي قلته لم قلته؟ من الذي نصبنا حكاما على الناس نزكي من نزكي، فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه ويخاف من الله سبحانه وتعالى. وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح والبر أن يعاملوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن تجارة الله لا تبور، وأن العبد إذا كان لله حفظه الله في نفسه، وحفظه الله في أهله وولده، وحفظه الله في طلابه، وحفظه الله في من يصلي معه، حتى إن بعض الأئمة إذا كان على صلاح وخير ترتاح للصلاة وراءه، وتجد من البركة التي يضعها الله في قراءته، ومن البركة التي يضعها الله في خطبه، ومن البركة التي يضعها الله عز وجل في مواعظه، وكل هذا بفضل الله، ثم بالسر الذي بين العبد وبين ربه. وينبغي إذا كان يوم الجمعة وجئت تخطب أن تشفق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تحرم الأمة خير كلماتك ومواعظك بسبب الرياء، أو بسبب محبة المدح والثناء، ولنكف عن تمجيد الناس، ولنكف عن الغلو، ولنتق الله في أنفسنا، وليدع بعضنا لبعض، ونطرح بين يدي الله عز وجل، ونسأل الله لنا التوفيق والسداد، والرعاية والعناية. فإذا وجدت داعية أو خطيبا أو عالما أو فقيها أو غيره ممن يشتغل بالدعوة، قلت: اللهم وفقه، اللهم سدده، اللهم خذ بيده لما يرضيك عنه، اللهم اجزه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فتدعو له بالخير، وهكذا كان السلف وهكذا كان الأئمة. وتشفق عليه أيضا، وتسأل له المعونة وتقول: اللهم وطنه للإخلاص، اللهم ثبته على الحق، فهذا هو الذي تواصى به الصالحون وتواصى به الأئمة واهتدى به المهتدون: إرادة وجه الله جل جلاله، ولذلك قال تعالى: ألا |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (480) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [4] تستحق المرأة نفقة زوجها من حين أن تسلم نفسها له، والتسليم إما حقيقي وإما حكمي، والزوج إما أن يسلم النفقة كاملة، أو يعجز عنها كاملة، أو عن بعضها، ولكل حالة حكمها وتفصيلاتها. وهي أحكام مهمة قد يترتب على بعضها فسخ النكاح. وقت استحقاق المرأة للنفقة تسليمها نفسها للزوج الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ، وجبت نفقتها ولو مع صغر زوج ومرضه وجبه وعنته] . بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب النفقة على الزوجة وبين ما تقدر به النفقة، والأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الأصل، شرع في بيان متى تستحق المرأة النفقة. فهناك أصل ينبغي اعتباره: وهو أن الزوج إذا سلمت إليه الزوجة ومكن منها فقد وجبت عليه نفقتها، وهذا الأصل نبه عليه رحمه الله في بداية هذا الفصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى رتب النفقة على الاستمتاع وعلى قيام الزوجة بحقوق زوجها، وبينا ذلك في مسائل النشوز، وإذا ثبت هذا فإنه إذا تسلم الزوجة ومكن من الاستمتاع منها فإنه حينئذ تجب عليه نفقتها، لكنه لو عقد على الزوجة ولم يتسلمها ولم يمكن منها فإنه لا تجب عليه نفقتها، وتبقى نفقتها على أبيها أو على إخوانها وقرابتها أو على نفسها إن كانت مستطيعة أن تنفق على نفسها، حتى يمكن الزوج منها وتسلم إليه. التسليم الحقيقي للمرأة وهناك ضربان من التسليم: التسليم الحقيقي والتسليم الحكمي. التسليم الحقيقي: مثل أن يكون له منزل ويؤتى بالزوجة وتسلم له بالمعروف وبالعرف، فحينئذ قد تسلمها وتمكن منها حقيقة، وتجب نفقتها عليه بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو أنها بقيت في بيت أبيها، وقال أبوها: لا أمكنك من الدخول عليها إلا بعد شهر، أو بعد أن تجد عملا، أو بعد أن تتخرج، أو بعد كذا وكذا من الزمان أو من الشروط، فإنه في هذه الفترة لا يجب عليه أن ينفق عليها، وتبقى على نفقتها في الأصل، فإن كانت تحت رعاية أبيها وجبت نفقتها على أبيها، وإن كانت تحت رعاية قريب وجبت نفقتها على ذلك القريب حتى تسلم إلى الزوج. التسليم الحكمي للمرأة قوله رحمه الله: [أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ] وهذا التسليم الحكمي: بألا يكون عندها مانع، ولا عند أهلها مانع، وقالوا له: في أي وقت تريد أن تأخذها فخذها، فحينئذ يكونون قد مكنوه منها، وقالوا له: أي وقت تشاء أن تدخل بها فنحن على استعداد، والأمر يسير بالنسبة لنا، فلم يمنعوه من شيء، فأصبح التأخير منه لا منها، ففي هذه الحالة قد مكنوه، وهو لم يتسلمها حقيقة لكنه تسلمها حكما؛ لأنهم لم يمنعوه منها، ولم يحولوا بينه وبين الدخول بها، وفي هذه الحالة تجب عليه نفقتها. إذا: هناك التسليم الحقيقي وهناك التسليم الحكمي، فإذا بذلت نفسها له أن يستمتع بها، فحتى ولو كانت في بيت أبيها، فحينئذ تجب نفقتها عليه، ولا يشترط أن تنتقل إلى البيت، بل لو استمتع بها في بيتها، أو مكنته من نفسها في بيت والديها ولا يوجد مانع ولا حائل شرعي يحول دون ذلك؛ فإنه يكون في حكم من تسلم زوجته حقيقة. وقد تقدم أن الشريعة الإسلامية تجعل التسليم الحكمي منزلا منزلة التسليم الحقيقي، ومن أظهر ذلك ما ذكرنا في الأجير، أن الأجير أو العامل -مثلا- لو استأجره شخص يوما كاملا على أن يعمل عنده فجاء العامل ومكن صاحب العمل من نفسه، ولكن صاحب العمل لم يعمل أو لم يطالبه بشيء، فإنه قد مكنه من نفسه، ويكون حينئذ رب العمل ملزما بدفع أجرة العامل، فكذلك المرأة إذا مكنت نفسها ولم يمنعه أولياؤها منها، صار ذلك موجبا لثبوت حقها في النفقة عليها. لزوم نفقة المرأة بتسليمها لزوجها ولو كان صغيرا قال رحمه الله: [وجبت نفقتها ولو مع صغر زوج] . [وجبت نفقتها] أي: على الزوج، هنا (وجبت) بمعنى: لزمت أو ثبتت نفقتها؛ لأن الواجب يطلق بمعنى: الثابت والمستقر، كقوله تعالى: (( فإذا وجبت جنوبها )) [الحج:36] أي: ثبتت على الأرض واستقرت، ومنه قوله: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب، ويطلق الواجب بمعنى اللازم الذي هو الحكم الشرعي. فمعنى (وجبت) أي: أصبحت النفقة واجبة على الزوج ولازمة، وفي الأول لم تكن واجبة عليه، لكن إذا تسلم الزوجة أو مكنته من نفسها فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها. [ولو مع صغر زوج] من أهل العلم من قال: إن الزوج إذا سلمته الزوجة نفسها أو مكن الزوج منها، وجبت نفقتها بغض النظر عن كون الزوج صغيرا أو كبيرا، ومن أهل العلم من قال: إذا كان صغيرا لم تجب نفقتها عليه، وإذا كان كبيرا وجبت النفقة. فالمصنف رحمه الله قال: (ولو مع صغر) إشارة إلى القول المخالف؛ لأننا قلنا: (لو) يؤتى بها إشارة إلى خلاف في المذهب، فيستعملها المصنف رحمه الله في المتن إشارة إلى القول المخالف في المذهب، فإذا قلنا: إن الصغير إذا مكنته الزوجة من نفسها أو تسلمها وجبت النفقة فإن الذي يدفع النفقة هو وليه؛ لأن الصغير لا يتولى القيام على ماله كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] وبالإجماع فإن الصبي لا يتصرف بماله، وإنما يتصرف وليه، فيجب على وليه أن ينفق على تلك المرأة. لزوم نفقة المرأة على زوجها ولو كان مريضا أو معيبا قوله: [ومرضه] أي: ولو مع مرض الزوج، فإذا كان الزوج مريضا، لا يمكن أن يطأ، أو كان صغيرا فالوطء منه ليس كما إذا كان كبيرا، فبين رحمه الله أننا لا نلتفت إلى العذر، بل نلتفت إلى أن المرأة لها حق النفقة متى مكنته من نفسها وسلمتها إلى هذا الزوج، مالمانع منه لا يعنيها، كما أن الأجير إذا مكن نفسه ممن يستأجره فإنه يجب عليه أن يدفع له أجره. قوله: [وجبه] قد تقدم أنه من العيوب، فلو كان مقطوع الذكر لا يتأتى منه أن يجامع ففي هذه الحالة تلزمه النفقة؛ لأن النفقة ليست قضيتها قضية الجماع فقط، بل ولأن المرأة أسيرة عند الزوج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عندكم عوان) وهو يقتضي ثبوت حق النفقة، ولذلك قد تكون المرأة عند زوج لا يأتيها ككبير السن ونحو ذلك، فلا يشترط أن يكون قادرا على الجماع، فالعبرة بكون المرأة مكنت من نفسها، وسلمت نفسها إلى الزوج. قوله: [وعنته] هذا أيضا من العيوب، ومراده أن يقول: إذا كان العيب موجودا في الزوج وقالت الزوجة: مكنتك من نفسي، أو سلمها أولياؤها إليه، ففي هذه الحالة لا يعنينا وجود العيب فيه أو العذر، والذي يهمنا هو أن للمرأة حقا، وهو أنه متى مكنت الزوج من نفسها بغض النظر عن كونه يقدر كالكبير الصحيح القادر على الوطئ، أو لا يقدر كالصغير أو المجبوب أو من به عنة -وهو من لا ينتشر عضوه- وقد بينا هذا في عيوب النكاح، فهؤلاء كلهم فيهم عيوب تمنع الوطء. ونحن بينا أن العلة ليست أن يجامع أو لا يجامع، فإذا مكنت من نفسها وسلمت إلى زوجها وجب حقها في النفقة، ووجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وبينا أن هذا مبني على الأصل، وليس الجماع هو المعول عليه من كل وجه؛ إنما العبرة بكون المرأة سلمت ومكنت الزوج من نفسها. حكم امتناع المرأة عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها الحال قال رحمه الله: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] إذا تزوج الرجل من امرأة، وعقد عليها وسمى لها صداقها حالا أي: نقدا، فقال: مهرك -مثلا- ثلاثون ألفا أدفعها نقدا، أو قال: ثلاثون وسكت، فإذا سكت وجب دفعها نقدا؛ لأن المؤجل خلاف الأصل؛ فإذا اتفقوا على الثلاثين ألفا ولكنه لم يحضرها، فمن حقها أن تمتنع من تمكينه من نفسها، ومن حق أوليائها أن يمنعوه حتى يدفع المهر؛ لأن مقاطع الحقوق عند الشروط. فإذا سكتوا على كون المهر مسمى بدون تأجيل وجب تعجيله، وهذا أشبه بالشرط؛ لأن العقد أصلا يتضمن التزامات من الزوج والزوجة، فواجب على الزوج أن يؤدي ما التزم به وواجب على الزوجة أن تؤدي ما التزمت به، فمما فرض الله عز وجل أن يعطيها مهرها، ولذلك قال تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء:24] فمن حقها أن تمنع زوجها أو يمتنع أولياؤها من تسليمها حتى يدفع الزوج المهر كاملا، وهذا قد يكون له سبب؛ فإن المرأة في زواجها قد تتحمل أمورا في لباسها، ويتحمل أولياؤها أمورا في تهيئتها لزوجها، وتهيئة بيتها لها، وهذا يحتاج أن يكون عندها المال أو يكون عندها المهر، فإذا قالت: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي صداقي، فهذا من حقها، وكذلك من حق والدها ومن حق وليها أن يمنعها منه حتى يؤدي صداقها الحال. ولما قال رحمه الله: (الحال) مفهومه أن المؤجل ليس من حقها أن تمتنع بسببه، فلو قال: أدفع لك عشرة آلاف الآن وعشرين بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فإنه ليس من حقها أن تمتنع حتى يدفع لها المؤجل؛ لأن المؤجل إلى أجل، وبناء على ذلك لا تمتنع إلا إذا اشترطت وقالت له: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي الصداق كاملا، فقال: إذا: أدفع لك عشرة هذه السنة، والعشرة الثانية في السنة القادمة، والعشرة الثالثة في السنة الثالثة، فمعناه أنه سيكون الدخول بعد السنة الثالثة. وهذا على حسب ما يتفق عليه الزوجان؛ لأنهم إذا تراضوا على شيء وتم العقد على اشتراط شرط لا يعارض الشرع ولا يناقضه، وجب الوفاء به. حكم امتناع المرأة بعد تسليمها نفسها قال رحمه الله: [فإن سلمت نفسها طوعا ثم أرادت المنع لم تملك] أي: (فإن سلمت نفسها) في هذه الحالة، وهي أن يكون لها استحقاق في المهر المعجل، فقال لها: مهرك ثلاثون، فاتفقا على ذلك، فقيل له: ادفع المهر، قال: ليس عندي إلا عشرون، فسلمت نفسها له على أساس أنه دفع ثلثي المهر، فلما سلمت نفسها أو مكنته من نفسها أرادت أن ترجع، فهنا سقط حقها في الرجوع، ووجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وفائدة إسقاط حقها: أنها لو امتنعت تكون ناشزا ويسقط حقها في النفقة. فإذا مكنت زوجها من نفسها مع أن من حقها أن تؤخر، فقد دل هذا الفعل على الرضا بالتأخير والرضا بإسقاط حقها، فإذا أسقطت الحق فليس من حقها أن ترجع عن هذا الإسقاط؛ لأن حقوق المقابلة لا يملك الإنسان الرجوع فيها. إعسار الزوج بالنفقة قال رحمه الله: [وإذا أعسر بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أو المسكن، فلها فسخ النكاح] العسر ضد اليسر، وعسر النفقة أن لا تتيسر للإنسان، ويكون عسر النفقة على صورتين: الصورة الأولى: أن لا يجد شيئا، وهو حال الفقير، فلا يجد شيئا له ولا لزوجته. والحالة الثانية: أن يجد بعض النفقات، ويجد بعض القوت الذي لا يسد الكفاية. خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة فإذا أعسر ولم يقم بواجب النفقة على الزوجة فإنه اختلف العلماء رحمهم الله فيه، من أهل العلم من يقول: الإعسار في النفقات يوجب الخيار للزوجات، فالزوجة إذا حبسها زوجها ولم ينفق عليها ولو كان فقيرا -أي: لم ينفق عليها لعذر - فإن من حقها أن تطلب فسخ النكاح، ومعنى الخيار: أنها تخير بين أن تستمر وتصبر حتى يأتي الله بالفرج، وبين أن تفارق الزوج، وحينئذ يفسخ النكاح بينهما. ومن أهل العلم من قال: لا خيار في الإعسار بالنفقة. والذين قالوا: إن الخيار ثابت في الإعسار في النفقة قالوا: إن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، ولا يمكن للحياة الزوجية أن تكون حياة زوجية والمرأة معذبة في عصمة الرجل، ولا يمكن أن تقوم المرأة بحقوق الرجل والرجل لا يقوم بحقوقها في النفقات، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لما فيه من الحرج والمشقة، ومعلوم أن المرأة إذا أعسرت ولم تجد طعاما -خاصة إذا كان عندها أولاد- ربما تعرضت للحرام لأجلهم، وتعرضت للضرر في دينها وفي عرضها، ومن هنا قالوا: إن الإعسار يوجب ثبوت الخيار. وقالوا: إذا كانت الشريعة أعطت المرأة حق الخيار في عيوب تكون في الزوج، مثل عيوب الجماع إذا طرأت، فمن باب أولى في عيوب النفقة؛ لأن النفقة أعظم ضررا وأشد خطرا من عيوب النكاح، فمن هنا قالوا: يثبت الخيار للمرأة، ونقول لها إذا أعسر زوجها ولم ينفق عليها: إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، فإن اختارت فسخ النكاح ورفعت الأمر للقاضي فإنه يوقف الزوج ويقول له: يا هذا، هل تستطيع أن تنفق على زوجك؟ فإن قال: لا أستطيع، ثبت عند القاضي إعساره وعدم قيامه بحق نفقة زوجته، فحينئذ يحكم بفسخ النكاح بينهما. والذين يقولون: إن الخيار لا يثبت بالإعسار يحتجون بالأحاديث الصحيحة التي منها: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من شدة الحاجة والفاقة، حتى أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تشتكي إلى رسول الله من شدة ما تجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما يوقد في بيته نار. قالوا: فهذا يدل على أن الإعسار في النفقة لا يوجب الخيار. والحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن فقه المسألة: إذا لم تصبر المرأة، وأمهات المؤمنين كن صابرات راضيات؛ لذلك خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة، فاخترن ما عند الله سبحانه وتعالى والرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحقيقة أن الاستدلال بهذه النصوص محل نظر؛ لأن الزوجات راضيات، ومحل الكلام إذا لم ترض الزوجة وقالت: أنا لا أستطيع، وهذا شيء أحمل فيه ما لا أطيق؛ فأصول الشريعة في الدلالة تقتضي ثبوت هذا النوع من الخيار، وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى: أن الزوج إذا افتقر واشتد أمره حتى حبس عن المرأة نفقتها؛ فإننا نقول له: إما أن تنفق عليها بالمعروف؛ لأن الله أمرك بالعشرة بالمعروف، وإما أن تسرحها بإحسان، ولا نستطيع أن نقول للمرأة إنها ملزمة بشرع الله عز وجل أن تبقى على هذه الحال التي لا تجد فيها قوتها ولا قوت أولادها؛ فهذا لا شك أنه مخالف لأصول الشريعة، وبناء على ذلك: ترجح القول القائل بأن الخيار يثبت للزوجة إذا أعسر الزوج بالنفقات. وأما إذا صبرت المرأة فلا شك أن هذا أفضل وأكمل، ما لم تخش على دينها، أو على عرضها، فإذا خافت الفتنة ووجدت أن هذا ليس بيدها فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكن من حيث الأصل صبرها وتحملها واحتسابها للأجر عند ربها لا شك أنه أعظم، والله تعالى يجعل مع العسر يسرا، فمن هنا (لن يغلب عسر يسرين) لأن الله يقول: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} [الشرح:5 - 6] . وشهد الله جل وعلا أنه لا يكون عسر إلا معه يسر، وكرر إثبات هذا اليسر مرتين، فصار العسر في الآية الأولى والثانية واحدا، واليسر الذي شهد الله به مرتين، فمن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) لأن الله شهد باليسر، فإذا صبرت المرأة واحتسبت فالحمد لله، وأما إذا طالبت بحقها فلها حق الفسخ. تخيير المرأة عند إعسار الزوج بالكسوة [أو الكسوة] بأن يطعمها ولكن لا يكسيها، مثلا: رجل عنده القوت وليس عنده المال الذي يشتري به الكسوة، فقلنا له: اكس زوجتك، فقال: ليس عندي ما أكسوها به، ففي هذه الحالة نقول للمرأة: أنت بالخيار، فإن تضررها بالعري وتضررها بعدم الكسوة قد يوجب لها الحرج، وقد يكون بالغا، مع أنه قد يعرضها للحرام كما لا يخفى، وقد يضرها؛ لأن كسوة الشتاء تحتاجها لصلاح نفسها، فإذا كان لا يكسوها وبقيت على كسوة واحدة أو على كسوة بالية، تضررت في صيفها وتضررت في شتائها، وهذا لا شك أن فيه حرجا وفيه ضيقا على المرأة، والله عز وجل يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] أي: ليس في حكم الله ولا في شرع الله الحرج والضيق الذي لا يتحمله الإنسان، أو يوجب له العنت. ومن هنا نقول: إن المرأة إذا لم تكس تعرضت للحرج، فلو قلنا لها: اصبري، صار أمرا بالحرج، وهذا ليس من حكم الله عز وجل، ولذلك الذين قالوا بثبوت الخيار في الإعسار منهم من فصل فقال: الإعسار يثبت في القوت وفي الكسوة، أي: سواء أعسر في القوت، أو أعسر في الكسوة؛ لأن الزوجة تتضرر بهما. تخيير المرأة عند إعسار الزوج ببعض النفقة [أو ببعضها] قلنا: الإعسار على صورتين: إما إعسار كلي بأن لا يجد النفقة، أو إعسار جزئي وهو الذي يجد بعض النفقة، فالمرأة تتضرر بعدم وجود النفقة التي تحصل بها الكفاية، فإذا كان -مثلا- قوتها من الطعام لا يجد إلا نصفه، وقال: ليس عندي إلا نصف طعامك، أو نصف ما يكفيك وأولادك، فإنه إعسار. ولو أنه كساها بعض الكسوة لا كل الكسوة، أي: أنه يكسوها في الصيف ولا يكسوها في الشتاء، على القول بأن لها كسوتين: كسوة في الصيف والشتاء؛ فإن كسوة الصيف تضرها في الشتاء، وإن قال لها: أكسوك في الشتاء ولكن لا أستطيع كسوة الصيف، فإن لباس الشتاء لا يمكن لباسه في الصيف، فهذا فيه ضرر على المرأة، وحينئذ يثبت لها الخيار في الإعسار، سواء كان بكل ما يجب أو ببعض ما يجب. قوله: [أو المسكن] أي: بأن قال: إني لا أجد لك مسكنا، وهي ساكنة في بيت أبيها، أو مثلا أخذها وأسكنها في موضع عراء لا يعتبر مسكنا في العرف، فهو ملزم بأن يسكنها بالمعروف. مثال الإعسار بكل السكن: أن يضعها في بستان أو في أرض عراء ويقول لها: ما عندي شيء حتى أسكنك في مسكن، فنقول لها في هذه الحالة: لك الخيار، إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، ويقال له: إما أن تسكنها بالمعروف ويكون لها السكن الذي أمر الله عز وجل بما لا حرج عليك فيه ولا مشقة، وإما أن تسرحها بإحسان. قوله: [فلها فسخ النكاح] أي: أنه من حقها، لكن لا نوجب عليها، فهو ما قال: فيجب عليها فسخ النكاح، أي: أنها بالخيار؛ ولذلك سموه خيارا، يعني: لها أن تختار أحد الأمرين إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تطالب بحقها فتفسخ النكاح. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
ما يلتحق بالإعسار بالنفقة من الصور قال رحمه الله: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن حاكم] بين رحمه الله صورة من صور الإعسار الحكمي، فإنه قد يعسر حقيقة، وقد يكون الحال والصورة صورة الإعسار، مثل أن يسافر عنها، أو يذهب إلى عمل في ضاحية في المدينة، أو يخرج من البيت ويتركها، فيغيب عنها ولا يترك لها أي نفقة، ولا تستطيع أن تستدين من أحد على حسابه إن جاء. في هذه الحالة صار إعسارا في حكم امتناعه هو؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يغيب حتى يترك لأهله وولده قدر كفايتهم، والله أمره أن يتقيه سبحانه فيمن يعول، فإذا خرج وسافر وهو لا يبالي بزوجته، ولا يعطيها حقوق نفقتها في الطعام، والكسوة، والسكن، ولم يترك لها ولأولادها ما يكفيهم، فحينئذ فصل بعض العلماء واختاره المصنف، أنه يقال لها: هل بإمكانك أن تستديني من أحد حتى إذا حضر الزوج يطالب برد هذا الدين وقضائه عنك؟ إن قالت: نعم، لزمها أن تستدين، وليس من حقها أن تطالب بالفسخ؛ لأن الأصل بقاء العقد، والأصل بقاء العصمة، والزوج قد تأتيه ظروف لا يتمكن معها من إرسال النفقة. فإذا أمكن أن تستدين فإنه لا يبقى إلا هذا الخيار، وأما إذا تعذر عليها بأن يكون زوجها غريبا، أو أهلها فقراء وليس عندهم مال، أو لا تعرف أحدا يدينها، أو الناس الذين تعرفهم فيهم شح وبخل فلا تتمكن من الاستدانة، فلا الزوج ترك لها النفقة، ولم تتمكن من الاستدانة، وليس عندها مال تنفق، ففي هذه الحالة يثبت الخيار لها في قول طائفة كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن هذا في الضرر كالإعسار في النفقة؛ لأنها تعرضت لنفس الحالة التي تعرضت لها في حال وجوده. قالوا: فلا فرق، فكما أن الزوج لو كان حاضرا وحصل لها ما حصل من الضرر، فإن من حقها أن تطلب الفسخ، فكذلك لو غاب، وهو الذي فرط، وهو الذي ضيع حقه؛ لأنه كان المنبغي أن يحتاط بترك حقها وحق أولادها ونفقتها ونفقة من يعول، فلما ترك ذلك لزمه حكم الشرع بالفسخ، هذا بالنسبة لحالة غيابه دون أن يترك نفقة ودون أن تتمكن المرأة من الأخذ على سبيل الدين، سواء من مالها أو من قرابتها أو ممن تعرف. الأسئلة حكم التضييق على المرأة في النفقة إذا كانت تجعلها في الحرام السؤال إذا كانت المرأة تنفق ما يعطيها زوجها من النفقة فيما حرم الله، فهل يجب أو يجوز التضييق عليها؟ الجواب هذا السؤال في الحقيقة يتأتى فيما إذا أعطاها المال نقدا، بحيث تتمكن من شراء المحرمات، وإذا أعطاها المال نقدا من أجل أن تشتري طعامها وتشتري كسوتها، وهذا يستطيع أن يشتريه بنفسه، وإذا رأى أنها تسرف إسرافا زائدا عن الحد فإنه يتابعها، لأن بعض الإسراف قد يسكت عنه الإنسان من باب الكماليات التي ليس فيها الحرام، فهذا يمكن أن يغض النظر عنه ويتسامح فيه. لكن إذا أنفقت المال الذي يعطيه لها ولأولادها في شراء المحرمات فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يقوم بشراء طعامها، ويوكل من يشتري لها كسوتها، أو يذهب بنفسه ليختار لها، أو يذهب معها لكي تشتري ما تريد من الكسوة التي لها ولأمثالها بالمعروف، ولا يمكنها من المال إذا كانت تعصي الله عز وجل به أو تشتري به المحرمات، وهذا واجب عليه، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم:6] فالواجب عليه أن يقي زوجه من نار الله عز وجل ومن سخطه وغضبه، والله تعالى أعلم. حكم القول بأن نسك الإفراد منسوخ السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) يستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه لا يجوز إلا نسك القران والتمتع، ومنع نسك الإفراد فما الحكم؟ الجواب هذا القول شاذ عند العلماء، قال به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وخالفه جمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه الأئمة المأمور باتباعهم من الخلفاء الراشدين، فإن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أكثر من خمس وعشرين سنة مدة خلافتهم الراشدة كلها ما حجوا إلا مفردين بالحج، وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الإفراد منسوخ قول ضعيف لا عمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإنما اختاره أفراد من العلماء، لكن النصوص واضحة: أولا: ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما أتى ذا الحليفة قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل) ثم أمر عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه بعمرة، فهذا الفسخ المراد به بيان مشروعية العمرة في أشهر الحج، وليس بيان لزوم أن يكون النسك في الحج تمتعا، وفرق بين المسألتين، ولذلك قال أبو ذر في صحيح مسلم -وهم الصحابة الذين هم أعلم بالتنزيل-: (متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج) يعني: الإلزام بفسخ الحج بالعمرة. فهذا الإلزام فهمه ابن عباس مطلقا، وكان ابن عباس رضي الله عنه من صغار الصحابة وانفرد بالقول بحل المتعة، وانفرد بمسائل معروفة من ربا الفضل ونحوه، وله جلالة قدره وعلمه ولكن لا يؤخذ بقوله إذا خالف من هو أعلم منه، وقد قرر هذه القاعدة بنفسه، ففي الصحيحين عنه لما أفتى بربا الفضل قال أبو سعيد: (يا ابن عم رسول الله! ألا تتقي الله؟! أيأكل الناس الربا بقولك؟ أهذا الذي تقول به وتفتي به شيء وجدته في كتاب الله، أو شيء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما كتاب الله فلا -أي: ليس فيه نص يدل على ربا الفضل- وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) . هكذا لا يعرف الفضل إلا أهله، وهذه مسألة واضحة جلية، جماهير سلفنا الصالح والأئمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعتمد عليهم في العمل والفتوى لا يحجون إلا مفردين، وهم الخلفاء الراشدون، وعلي رضي الله عنه لما رأى الناس قد يظنون أن المتعة لا تحل أهل بها وصاح بالعمرة لكي يرد على العكس. فلا الذين يقولون بالإفراد دائما مصيبون، ولا الذين يقولون بالتمتع مطلقا مصيبون بحيث يلزمون به الناس؛ إنما العدل الذي ينبغي القول به أنها أنساك ثلاثة خير الناس بينها، وأن الشريعة أرادت أن ترد على أهل الجاهلية في بدعتهم حينما كانوا يمنعون من العمرة في أشهر الحج؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وهو الذي أفتى بهذه الفتوى كما في صحيح البخاري: (كانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر) فمنعوا من العمرة في أشهر الحج، وكانوا يرون أن من أفجر الفجور أن يأتي الشخص بعمرة في أشهر الحج؛ ولذلك خالفهم الشرع وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة. وأما مسألة أن الإفراد منسوخ فهذا قول شاذ، يقولون: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفى والمروة وليس معه هدي فقد حل شاء أو أبى، هذا قول شاذ؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه، وكان هذا الحديث ليلة عيد النحر، وهذا الصحابي رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المشعر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، ما تركت جبلا ولا شعبا إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه) . فهذا نص واضح على أن الإفراد لا زال باقيا، وهذا الحديث متأخر عن الأمر بفسخ الحج بالعمرة، ولذلك فالصحيح أن إيجاب الفسخ الذي يقول به ابن عباس رضي الله عنه خاص بتلك السنة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت العمرة في الحج) أي أنه يجوز فعل العمرة في أشهر الحج، حتى لا يظن أن ذلك خاص بتلك السنة فيعود الناس إلى عادة الجاهلية. ومن هنا فالأحاديث واضحة في دلالتها، فينبغي أن يحمل كل نص على دلالته، فالأحاديث التي دلت على أن العمرة دخلت في الحج، معناها أنها دخلت في أشهر الحج فحل وقوعها في أشهر الحج؛ لأنها لها سبب، وليس المراد أنه لا يمكن أن يأتي الإنسان بحج منفرد وأنه لابد أن يكون معه عمرة إما قران أو تمتع، لأنه لابد من ربط السنة القولية بالسنة الفعلية، وسبر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والأحوال التي قيلت فيها النصوص حتى تفسر النصوص كما وردت، وتربط بفهم السلف الصالح. فإذا كان أئمة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون من بعدهم قد فهموا ذلك وفسروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فالواجب العمل بذلك، ولا شك أن القول ببقاء نسك الإفراد نسكا شرعيا يخير المنسك فيه هو الأرجح، ولذلك اختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الأفضل للشخص إذا أمكنه أن يأتي بالعمرة بسفر مستقل والحج بسفر مستقل، فالأفضل له أن يفرد، وأما إذا أمكنه أن يسوق الهدي معه من بلده فالأفضل له القران تأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وإن كان كما هو حال كثير من الحجاج الذين يأتون من الخارج ويصعب عليهم الإتيان للعمرة بسفر مستقل، فالأفضل لهم التمتع، هذا من أفضل الأقوال في الجمع بين الأنساك الثلاثة؛ لأنه جمع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع أيضا بين الآثار الواردة عن الصحابة. فإن عمر بن الخطاب وعليا رضي الله عنهما وهما أعلم بكتاب الله كانا يقولان في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: تنشئ للحج سفرا مستقلا وللعمرة سفرا مستقلا، فهذا أعظم للأجر وأتم للحج والعمرة. ثم قول ابن عباس كما يقولون: إن الأمر بالفسخ معارض للقرآن، لأن القرآن يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] أي: إذا أحرمتم بحج أو أحرمتم بعمرة فأتموها، سواء وقعتا مجتمعتين أو منفردتين؛ وهذه الآية تدل على لزوم إتمامه بالإجماع، حتى أن الحج لو فسد يجب عليه أن يتمه مع الفساد. ولذلك قضى أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب إتمام الحج الفاسد، وعمر رضي الله عنه قضى بذلك: فإن الرجل لما جامع زوجته قبل عرفة أمره رضي الله عنه أن يمضي في نسكه الفاسد وأن يتمه. فنسك الحج لا يقال بوجوب فسخه لكن ممكن أن نقول للإنسان: افسخ حجك بعمرة وارجع بحجة وعمرة فهذا خير لك وأفضل، وليس هناك مانع من ذلك، مثلا: جاء الحج، فنقول له قبل أن يطوف بالبيت: افسخ حجك بعمرة حتى تصيب العمرة مع الحج وتصبح متمتعا وتنال فضيلة التمتع، وليس هناك بأس في هذا، لكن هذا على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، وفرق بين الإلزام وبين التخيير، والله تعالى أعلم. الفرق بين بيع التورق والتقسيط السؤال فضيلة الشيخ ما هو التورق، وهل هو نفس بيع التقسيط، وما حكمه؟ الجواب التورق: من الورق، أي: أن الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها من أجل أن يسدد دينا أو يتزوج، أو يبني بيتا، فهو يريد مالا وليس هناك أحد يسلفه هذا المال، فاشترى سيارة بعشرين ألفا مقسطة، ثم باعها نقدا، قالوا: إنه يريد الورق. فجمهور العلماء على أن من اشترى سيارة أو اشترى عينا مؤجلة، ثم باعها معجلة بالنقد لغير الذي اشترى منه، كأن تأخذها من معرض ثم تبيعها على معرض أو على مشتر ثان؛ فلا بأس في ذلك ولا حرج. والدليل على ذلك هو قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275] فإنك لو اشتريت السيارة بالتقسيط بمائة ألف، فإنه يجوز بيع التقسيط ولا حرج فيه إلى أجل، فهذا بيع صحيح، ثم إذا بعتها على يد ثانية بيعا شرعيا تملكه به وقيمة السيارة حاضرة بتسعين ألفا، قالوا: يجوز لك أن تملك هذه التسعين ولا بأس. أما كونك تدفع الزيادة في الأجل لزيادة الأجل فهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) لأن هذا ما يحصل به ربا؛ لأنه من المعدودات، والربا هو في المكيلات والموزونات، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كانت تأتي عليه الغزوة فجأة وليس عنده ظهر يركبه، فيأمر عبد الله بن عمرو أن يستدين للجيش، فيأخذ مائة بعير بمائتين ليرد لصاحب البعير بعيرين (أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي: إلى أجل، وهو أن يأتي الناس بصدقاتهم فتقضى هذه الديون، فدل هذا الحديث على أن قيمة النقد ليست كقيمة المؤجل {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] فإذا كانت السيارة قيمتها إلى أجل بـ [90] ألفا أو بـ [100] ألف فلا بأس ولا حرج، هذا بيع شرعي، فقد أحل الله بيع المؤجل كما أحل المعجل ما لم يدخله الغرر. لكن المحظور أن تبيع لنفس المعرض؛ لأنه لو باع لنفس المعرض الذي اشترى منه بمائة إلى آخر السنة القادمة، فباعها نقدا بتسعين أصبحت الحقيقة أنه بيع [90] نقدا مقابل [100] إلى أجل، وهو بيع العينة الذي حرمه العلماء وهو قول الجمهور، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فالمقصود أن التورق غير مسألة العينة، العينة يبيع لنفس المعرض الذي أخذ منه، لكن التورق يبيع لشخص آخر، فإذا باع لشخص آخر فالجمهور على أن هذا ليس به بأس، وأنه لا حرج عليه. وشدد فيها بعض العلماء فقالوا: إن هذا الشخص يريد المال، فأصبح كأنه أخذ مائة حاضرة بمائة إلى أجل، وهذا عين الربا، فردوا عليهم بأنه يصير عين الربا لو كانت اليد واحدة، ولكن أخذ من شخص وأعطى لشخص آخر هذا ليس بربا. ثم قالوا لهم: إذا كانت العلة في التحريم عندكم أنه اشترى بمائة إلى أجل وباع بمائة حاضرة لحرمت بيوع التجار؛ لأنهم هنا يقولون في التورق: هذا مقصوده المال، وليس مقصوده السلعة، فنقول: والتجار مقصودهم الأموال وليس مقصودهم السلع؛ لأن التاجر حينما يشتري عشر سيارات ما يريد إلا أن المليون التي دفعها في العشر ترجع له مليونا ونصفا، وهذا لا يشك فيه أحد، فهي حلال على الغني حرام على الفقير الذي جاءه ظرف!! ما يمكن هذا؛ لأن الصورة عكسية، الغني يشتري بمليون ويربح مليونين ويتأخر في بيعها حتى تنفد، والفقير اشترى إلى أجل فليس برابح بل هو خاسر عكس الغني؛ لأنه سيدفع مائة ويأخذ تسعين. وبما أنه ليس هناك نص يدل على تحريم هذا، والعلة العقلية التي ذكروها منتقضة، فإنهم إذا كانوا يقولون: هذا مقصوده المال وليس مقصوده التجارة، قلنا: ليس هناك تاجر يشتري سلعة وهو يريد السلعة، فحينما تدخل بمال في التجارة، أو تدخل في معرض سيارات، أو تدخل في شراء القماش أو أي شيء تريد أن تتاجر فيه تدفع أموالا وأنت تريد المال. وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذا وصحة قول جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله لما اختار هذا القول روجع كثيرا في هذه المسألة؛ لأن الحقيقة أن القول بجوازها يؤيده عموم النص: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275] فإنه أصل في حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه. وكذلك أيضا العلة التي جعلوها موجبة للفساد منتقضة، بدليل أنهم يبيحون للتاجر أن يشتري وقصده المال، غير أن التاجر ربح وصاحب الدين غرم، فالأول غنم والثاني غرم، وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذه الصورة وأنه لا بأس بها. وأما بيع التقسيط: فالتقسيط بيع مشروع، ولكن هناك صور محرمة، ووجود الصور المحرمة لا تقتضي تحريم البيع نفسه. وبيع التقسيط يقوم على أن تشتري شيئا وتدفع قيمته أقساطا بزيادة، ففيه أمران: الأمر الأول: تقسيط الدفعات، والثاني: الزيادة على قيمة السلعة لقاء الأجل. فأما الزيادة على السلعة لقاء الأجل ففيها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو دال على جواز مثل هذا لقاء الأجل؛ إنما المحرم أن يقول له: إن أخذتها ودفعت الأقساط في سنة فهي بمائة ألف، وإن دفعتها في سنتين فمائة وخمسون، فيخرج من عنده ولم يحدد هل هي إلى سنة أو سنتين أو ثلاث، فهذا عين الربا؛ لأنه يمكن أن يعجز في السنة الأولى فيختار التأخير للثانية وهذا عين الربا، وهو (زد وتأجل) الذي كان من ربا الجاهلية، لكن التقسيط الموجود والشائع في أكثر صوره خاصة عندنا هنا أن الشخص يأخذ بمائة ألف كل شهر يدفع قسطا، فإذا الزيادة لقاء الأجل مشروعة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (بعير ببعيرين) إذا كان باتا، لأنه ما قال: فإن تأخرت فثلاثة أبعرة، إنما قال: ببعيرين، وهذا الذي يسمونه الجزم والبت، فإن كان التقسيط على البت فلا إشكال. بقيت قضية كون المال أقساطا فهذا فيه حديث صحيح، وهو حديث عائشة في الصحيحين، فإن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة في قصة أهلها لما كاتبوها وعجزت عن أقساط الكتابة، فنفس عقد الكتابة أقساط مؤجلة، وقد أحل الله عز وجل الكتابة في كتابه وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي -أي: الكتابة- مكاتبة بين العبد والسيد قائمة على بيع الأجل بالأقساط، فإذا: وجود الأجل في التقسيط لا يمنع شرعا لأن له نظيرا من نظيره. ووجود الزيادة لقاء الأجل لا يمنع، إنما الممنوع أن يقول له: هي لك مؤجلا على أن تدفع لقاء تأخير كل سنة من القيمة الحقيقية 6% من القيمة الإجمالية أو 10%، أو 5%، فهذا عين الربا ولا يجوز، حتى ولو علم أنه سينتهي في السنة الأولى، ولذلك تجد بعض الناس واثق من نفسه أنه سيسدد في السنة الأولى ويقول: إذا لا أقع في الربا، نقول: لا، رضاك بالعقد كفعلك له؛ لأن كتابة هذا الربا فيه اللعنة، وحينما رضي به فإنه ملزم به، والراضي به يعتبر شريكا لصاحبه في الإثم؛ لأنه يؤكل الربا. وعلى كل حال فبيع التقسيط ليس من البيوع المحرمة للوجوه التي ذكرناها من دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم. حكم أداء تحية المسجد وقت الأذان يوم الجمعة السؤال يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني، فهل أصلي ركعتين تحية المسجد أو أستمع إلى المؤذن وأصلي بعده أثناء خطبة الإمام؟ الجواب في الحقيقة إذا استمعت للمؤذن الأذان الثاني سيفوتك شيء من الخطبة، وعند العلماء هذه المسألة تعتبر من مسائل الازدحام، فعندهم مسائل يسمونها مسائل الازدحام، حيث ازدحم عندنا الاستماع للخطبة من أولها ومتابعة الأذان، وذكر الخطبة واجب؛ لأنه أمر بالإنصات له، فهو في مقام الواجبات، ولذلك أمر بالإنصات له وعدم الانشغال عنه، بخلاف الإنصات للمؤذن فإنه في الرغائب، فالأول بمنزلة الواجبات المؤكدة وهو المقصود من السعي إلى الجمعة {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9] . إضافة إلى أن الترديد وراء المؤذن من جنس العبادات واستماع الخطبة من جنس العلم، والعلم أشرف من العبادة، فمن هذه الأوجه اختار جمع من العلماء وكان اختيار الوالد رحمة الله عليه أنه يصلي ولا يردد وراء المؤذن، هذا كله على القول بأنه لا يردد أثناء النافلة، وهناك قول عند بعض العلماء أنه لو أذن المؤذن وأنت في نافلة فإنك تردد معه؛ لأنه من الذكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإنما هو التسبيح وقراءة القرآن وذكر الله) فقالوا: هذا من ذكر الله. لكن هذا ضعيف، والصحيح أنه لا ينشغل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أذكارا محددة، فينبغي أن لا يردد معه، لكن يمكن أن يردد في نفسه، وكما لو كان في بيت الخلاء ونحو ذلك فإنه يردد في نفسه. وعلى كل حال أن تصلي تحية المسجد ثم تنصت للجمعة أفضل وأكمل، والله تعالى أعلم. حكم من اعتمر وسعى ثلاثة أشواط فقط السؤال لو أن شخصا اعتمر، وبعد الطواف سعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواط فقط فما الحكم، هل عليه ذنب، أو الإعادة مرة ثانية؟ الجواب أولا: ينبغي للمسلم أن يتقي الله في فرائض الله، الحج والعمرة أمر بإتمامهما ولا يجوز التلاعب بشعائر الله عز وجل فإن تعظيمها من تقوى القلوب، وتضييعها والاستخفاف بها لا يؤمن على صاحبه والعياذ بالله. وغالبا أن الاستخفاف بشعائر الله التي أمر الله أن تعظم وتركها وعدم المبالاة بها، هذا شيء يخشى على صاحبه، وعواقبه وخيمة؛ لأن الله تعالى أمر من أهل بالعمرة أن يتمها ومن أهل بالحج أن يتمه، إلا ما استثناه الله من الإحصار وغير ذلك مما يوجب الفسخ. على كل حال فيجب عليك أن ترجع وتتم سعيك، ونظرا لأنك سعيت ثلاثة أشواط ثم حصل الفاصل بين الشوط الثالث والرابع فقد انقطع التتابع، وعليك أن تبدأ بالسعي من أوله؛ لأنه يشترط في صحة السعي التتابع والموالاة، فإذا وقع الفاصل المؤثر كالأكل والشرب والخروج من المسعى فإنه يجب عليك أن تستأنف وتبتدئ سعيا جديدا، وعلى القول بأنه لا سعي إلا بطواف تطوف طواف نافلة ثم بعد ذلك تسعى بعده. لكن لو كان قد وقع جماع من هذا الشخص فإنها قد فسدت عمرته؛ لأنه لم يتم ركن العمرة، وإذا وقع الجماع قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة أو أثناء السعي قبل أن يتمه فإنه يحكم بفساد العمرة ولزوم إتمام الفاسد، ثم يقضي مكانها عمرة وعليه دم. حكم من صلى بالناس وهو محدث جاهلا حدثه ثم علم بعد الصلاة السؤال إذا صلى الإمام وهو على غير طهارة ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فذكر للمأمومين أنه صلى على غير طهارة، فما حكم صلاة الإمام والمأمومين؟ الجواب هذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء، جمهور العلماء على أن الإمام إذا صلى بالناس ناسيا للطهارة أن صلاة المأمومين صحيحة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) فإذا: صلاتكم تامة صحيحة وعليهم خطؤهم. فقالوا: إن من صلى وهو محدث فقد أخطأ، فخطؤه عليه، ومن صلى وراءه فأتم الأركان واستوفى الشروط وأتى بالصلاة كما أمر فله صلاته، وهذا هو الصحيح، وفعل الصحابة دال على ذلك فإن مالكا رحمه الله روى في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف، وبين الجرف والمدينة ما لا يقل عن أربعة أميال إلى خمسة أميال، فلما جلس على الساقية بعد طلوع الشمس رأى أثر المني على فخذه رضي الله عنه، فقال رضي الله عنه: (ما أراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت) ثم اغتسل رضي الله عنه وأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة. وهذا يدل على أن الأصل أن صلاة المأمومين صحيحة ما دام أنه لم يتذكر أنه محدث إلا بعد سلامه ولم يعلم المأمومون بحدثه. أما الإمام فقول واحد أنه يلزمه أن يعيد صلاته، فلو صلى وهو يظن أنه طاهر ثم تبين أنه محدث حدثا أصغر أو أكبر وجب عليه أن يتطهر كما أمره الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) وهذه الصلاة بغير طهور، وبناء على ذلك يلزمه أن يتطهر كما أمره الله، وأن يصلي على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم. حكم بيع التماثيل للكفار السؤال النجارون في بعض البلاد ينحتون التماثيل ويبيعونها للكفار بأثمان غالية، هل هذا جائز؟ علما بأن هذه التماثيل منها ما هو من ذوات الأرواح. الجواب التماثيل محرمة، ولذلك قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا كسرته، ولا صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته) فدل على حرمة التماثيل. وبيعها محرم بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) وحرم بيع التماثيل لأنها تفضي إلى أعظم الشرور، وهو الشرك بالله عز وجل؛ وتحريم بيعها من تحريم الوسائل المفضية للمفاسد. والوسائل منها ما هو وسائل تفضي إلى المصالح، ومنها وسائل تفضي إلى المفاسد، فهناك وسائل تفضي إلى المصالح مثل: ركوبك السيارة من أجل أن تصلي في المسجد، وركوبك السيارة من أجل أن تدرك الحج، هذا وسيلة إلى طاعة وعبادة وقربة، وكذلك قد تكون الوسيلة إلى شر وفساد، فالوسيلة إلى الحرام من الزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك تأخذ حكم مقصدها، فمن هنا قالوا: أعظم الوسائل شرا وأعظمها ضررا وأعظمها إثما بعظم مقصدها، فإذا كانت وسيلة إلى الشرك فهي أعظم الوسائل ذنبا، وأعظمها شرا، وتشدد فيها الشريعة، ولذلك نهي عن الغلو في صالح أو طالح، في دين أو دنيا؛ لأن العبد الصالح إذا غلوا فيه ربما عبد من دون الله واعتقد فيه، ووقع الشرك المحظور. وأيضا عظيم الدنيا إذا عظم وصار يعطى أشياء لا تليق إلا بالله عز وجل، فإنه يصرف القلوب من الخالق إلى المخلوق، فلذلك نهي عن الغلو؛ لأنه وسيلة للشرك. كذلك نهي عن بيع الأصنام؛ لأنه وسيلة إلى تعظيمها، وعبادتها، فلا يجوز بيع الأصنام مطلقا، وما ورد في السؤال أنه يبيعها إلى الكفار فإنه في قول جماهير العلماء رحمهم الله محرم، سواء باع لكافر أو مسلم، وكونهم كفارا لا يعني أن نعينهم على معصية الله عز وجل، وهذا نوع من الإقرار على ما هم فيه؛ ولذلك كان القول بأن الربا يجوز مع الكفار وبيع الخمر يجوز للكافر، والأصنام يجوز بيعها للكافر، كلها اجتهادات في مقابل النصوص، وأرى أنها مصادمة لنصوص واضحة، ولو نظر وتؤمل إلى المعاني والاجتهادات الشرعية التي هي خلافها لكان أولى وأحرى. فلذلك لا يجوز بيع الأصنام والتماثيل لا إلى مسلمين ولا إلى كفار، ودليلنا: عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فتح مكة نهى عن بيع الأصنام والتماثيل دون أن يفرق بين الذي يباع له هل هو مسلم أو كافر، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص لهذا العموم، ولذلك لا يجوز هذا البيع وماله حرام، لكن لو كسرت التماثيل وأريد الاستفادة من مادتها كالخشب فيصنع به شيء آخر ينتفع به، أو كانت من نحاس وبيعت نحاسا من أجل أن تصهر ويستفاد منها بشيء آخر، فلا بأس ولا حرج، شريطة أن لا تباع لمن يعيدها إلى حالتها التي كانت عليها، ويستوي أن تكون التماثيل لذوات الأرواح أو تكون لمعبودات من غير ذوات الأرواح ما دام أنها لعبادة، فيستوي في ذلك أن تكون من ذوات الأرواح أو غيرها، والله تعالى أعلم. حكم المبادلة بالنقد مع التفاضل السؤال كانت مع أخي [500] ومعي [490] فاحتاج الصرف الذي معي، هل يجوز أن أبادله ما معي بما معه، أم يشترط التماثل رغم أنه قال: الزائد هدية مني إليك. الجواب الصرف لا يجوز في المتماثلين إلا مثلا بمثل يدا بيد، ففي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد - وفي لفظ - سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض - يعني: لا تزيدوا بعضها على بعض- ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز) . فبين عليه الصلاة والسلام أنه يجب عند صرف الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون مثلا بمثل، وهذه الأوراق النقدية ينظر إلى رصيدها، فإذا كان رصيدها من الذهب كالجنيهات والدولارات والدنانير وجب صرفها مثلا بمثل يدا بيد، وإن كان رصيدها من الفضة كالريالات والدراهم فإنه يجب أن يكون صرفها مثل بعضها مع اتحاد الصنف، ريالات بريالات مثلا بمثل يدا بيد. وأما كوننا ننظر إلى أن هذه ورقة وهذا حديد -كما يوصف الريال بالحديد- وأن هذا من اختلاف الصنفين فهذا بعيد، لأن هذه العملة في الأصل أعطيت مستندا لدين، وهذا الدين كان ريالا فضة حقيقيا، وكوننا لا نستطيع الوصول إلى الرصيد لا يلغي الأصل من وجود الدين، لأن الدين لا يلغى رصيده حتى ولو ألغي حقيقة بالتعامل مع الجماعات في الدول بعضها مع بعض، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك يجب صرفها مثلا بمثل ويدا بيد، فيجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض. ثانيا: أن هذا ليس من العدل وليس من الإنصاف، ولهذا حرمت الشريعة صرف الذهب بالذهب متفاضلا؛ لأن المسلم يظلم أخاه حين يصرف دينارا بدينارين، ظلم صاحب الدينارين، والظلم الموجود في صرف الدينار بالدينارين في القديم موجود في هذه الورق نفسها في صرف الـ [500] بالـ [490] -مثلا- لا يشك أحد، وهل أحد يشك أنه لو صرفت 10 ريالات من الورق بـ 9 ريالات من الحديد أنه لا يظلم صاحب الورق؟ لا يشك في هذا، ولولا أنه محتاج ومضطر ما صرف العشرة بالتسعة، وهذا كل واحد يعرفه والله عز وجل يقول: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29] والرضا غير موجود في هذا، ولذلك تجده يعطيها وهو كاره وهو مضطر، وهو محتاج إلى هذا الشيء. وذكر العلماء في علل الربا والمعاني التي من أجلها حرمت الشريعة الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين: أن هذا ظلم للفقراء، ويجعل الأغنياء يحتكرون الأموال، فإذا جاء الغني وعنده أموال يريد أن يصرفها، صار الذي عنده سيولة أكثر يأخذ أموالا بدون تعب وعناء، وهذا هو الموجود الآن في الصرف، فإنه إذا كان عند الشخص القطع المعدنية استغل حاجة أصحاب المرض، فاليوم يصرف له عشرة ريالات بتسعة، وغدا لو صرفها بخمسة ريالات لم ينكر عليه أحد؛ لأنه يقول: عندي فتوى بجواز هذا، ولذلك تجده يمر على الشخص يكون له راتب دون [500] ريال فيصرف الخمسمائة بالنقص ثم المئات بالنقص، ثم الخمسينات بالنقص، ثم العشرات بالنقص، ماذا يبقى له من راتبه؟ يؤول له الأمر بعد أن كدح وتعب على [500] إلى أنها [490] والمستفيد الأول والأخير هو الغني على حساب الفقير. ونفس المعنى موجود في الذهب والفضة لا يختلف عنه، فيتضرر الأفراد وتتضرر الجماعة بالصرف المتفاضل، والموجود في القديم موجود الآن إذا صرف الريال بغيره متفاضلا. ثانيا: لو قيل: إن هذا الورق ليس له رصيد، فلماذا أمر بزكاته؟ فالله ما أمرنا بزكاة الورق، إنما أمر بزكاتها لأن رصيدها مأمور بزكاته، والورق ليس فيه زكاة، إذ ليس في شرع الله أمر بتزكية الورق إنما أمر بتزكيتها لأن رصيدها من الذهب، أو رصيدها من الفضة، فالعلة كلها تدور على أن الرصيد ألغي، فنقول: لو أن شخصا استدان من شخص وأعطاه مستندا وقال له: لا رصيد لك، لم يصح شرعا، كذلك إلغاء الرصيد واقع في غير موقعه، أي: لا يؤثر في حقيقة الريال؛ ولذلك تجد نفس الخمسمائة تسمى خمسمائة ريال التي هي برأس واحد وورقة واحدة، والخمسمائة من المئات تسمى باسم واحد فالورق هو نفس الورق، والاسم هو نفس الاسم، ولذلك سمي الحديد باسم الورق، ولهذا كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، العلامة الإمام المجدد، هذا الإمام العظيم الذي في الحقيقة ما رأيت عالما حفظ الفقه على أصول المتقدمين مع عمق في العلم والورع مثل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ومن أراد أن ينظر إلى الفقه المؤصل الذي أبدع فيه وأجاد رحمه الله خاصة في الفتاوى يحار من دقة هذا الإمام -والله لا أقولها مبالغة إنها حقيقة- من يدرس هذه الفتاوى يجد فيها العجب، وحدثني من أثق به من المشايخ، يقول: أنا كنت من رجال الحسبة، وكان يرسلني لتعزير من يصرف الريال بتسعة عشر أو ثمانية عشر قرشا، قال: أنا ممن عزر في هذا بأمره، كان يرى أنه يجب صرفها متماثلة، وعلى كل حال: الصحيح أنه يجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض وأن تكون مثلا بمثل يدا بيد، إعمالا للأصل، والله تعالى أعلم. أما قوله: الباقي لك هدية، فهذا حيلة، وإذا أراد أن يهدي فليقبض أولا ثم يهدي، فهناك عقد صرف وهناك عقد هدية، فبعد ما ينتهي الصرف على السنن الشرعي يعطيه ما شاء، وحينئذ سترى هل تجد هدية أو لا تجد؟ وعلى كل حال هذه حيلة على الشرع، فمكنه من مالك ثم انظر هل يهدي أو لا يهدي، على كل حال الأصل يقتضي أن تقبض ويقبض، وانظروا إلى عدل الشرع، فإنه من أروع وأجمل ما يكون! الناس يظنون أنه إذا حرمنا هذه المعاملات أننا نضيق، والله ما من حكم يستنبط من الشريعة فيه تحريم إلا وجدت فيه من الرحمة ما لا يحصى، ثم انظر إلى عدل الشريعة: تعطيه خمسمائة كاملة، وتقول الشريعة: لا تأخذ بذلها إلا كاملة، يقول لك: أنا راض، تقول له: ترضى بإتلاف مالك!! هذا سفه، والشريعة تحجر على السفيه، ولو كان راضيا أن يدفع تسعة مقابل عشرة، لكن لا يرضى بذلك عاقل. ولذلك حرمت الشريعة بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، حتى لا يستغل الغني الفقير والقوي الضعيف، وهذا من عدل الله عز وجل، وتجد أن الشريعة أمرت بالتماثل في الموزونات والمكيلات، لكن المعدودات ليس فيها تماثل؛ لأنك لو أردت أن تبيع ثوبا بثوبين فقد تجد الثوب من الجودة بحيث يكافئ الثوبين، لكن الموزون محرر والمكيل محرر، وهذه الريالات في أصلها من الورق لها وزنها، ولذلك وجب النصاب فيها بالوزن، (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) ، فهذا يعني الموزونات والمكيلات، فكله من عدل الله عز وجل، لأن المكيل ينضبط، فلا تستطيع أن تكون عادلا مع أخيك إذا أخذت الصاع بالصاعين، وأخذت المد بالمدين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمر بالتماثل فيها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (480) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [1] ألزم الشرع الحكيم كل موسر بالنفقة على المعسر ممن كان من قرابته الأصول أو الفروع، وكذلك على الداخلين في الفروض أو العصبات من الحواشي، واستحب له أن ينفق على ذوي الأرحام أيضا، وهذا كله من التكافل الاجتماعي الذي ينفرد به الإسلام عن غيره من المذاهب الأرضية المنحطة. النفقة على الأقارب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب نفقة الأقارب والمماليك] . أسباب وجوب النفقة تقدم أن النفقة من الحقوق التي أوجبها الله عز وجل على المسلم، وأن هذا الحق له أسباب تقتضيه وتوجبه، وهذه الأسباب تتنوع في الشريعة الإسلامية، وهناك ثلاثة أمور مهمة ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة: الأول: ملك النكاح. والثاني: ملك اليمين. والثالث: البعضية والقرابة. فهذه ثلاثة أسباب توجب النفقة: إما من جهة ملك النكاح؛ لأن الرجل يملك الاستمتاع بالمرأة. وإما ملك اليمين؛ كما قال تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3] ، والرقيق والعبد والمملوك محبوس لخدمة سيده، كما أن المرأة محبوسة لزوجها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنهن عندكم عوان) ، والعوان: هو الأسير المحبوس، فالمرأة مملوكة بالنكاح محبوسة لحق الزوج، وملك اليمين -الرقيق- مملوك لسيده ومحبوس لمصالحه. وكذلك القرابة والبعضية توجب النفقة. فهذه ثلاث جهات ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة. والمصنف رحمه الله قد بين لنا ما يتعلق بوجوب النفقة من جهة الزوجية، وهي ملك النكاح، وشرع الآن في بيان جانبين؛ الأول منهما يتعلق بالقرابة والبعضية، والثاني يتعلق بملك اليمين. وكلا الجانبين وردت فيه نصوص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينت بعض الأمور والمسائل والأحكام المتعلقة به. يقول رحمه الله: (باب نفقة الأقارب والمماليك) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق ببيان النفقة الواجبة من جهة القرابة، والنفقة الواجبة من جهة ملك اليمين. النفقة للآباء على الأبناء قال رحمه الله: [تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا] . أي: أنه يجب على المسلم أن ينفق على والديه، وهذه النفقة على الوالدين إما أن ينفقها نفقة تامة كاملة؛ بأن كان الوالد لا يستطيع العمل، وليس عنده أي دخل؛ فحينئذ يقوم ولده بنفقته نفقة تامة كاملة، أو يكون عند الوالد بعض الدخل، ويحتاج إلى سد العجز والنقص الموجود، فهذه تتمة النفقة. الأصل في وجوب ذلك: أن الله تعالى أمر الولد-سواء كان ذكرا أو أنثى- بالإحسان إلى الوالدين، قال الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، ولأن الوالد أنفق على الولد، فجعل الشرع من العدل؛ أنه إذا احتاج الوالد أن ينفق عليه ولده. ولأن الولد كان بسبب الوالدين، فحقهما آكد الحقوق، وفرضهما آكد الفرائض، ولذلك لا يتقيد بقدر -كما سيأتينا- لعظم حقهما. ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله فرض على الولد أن يحسن إلى والديه، وليس من الإحسان أن يكون الولد قادرا وبالوالدين عجز ولا ينفق عليهما بل هذا من الإساءة. وأما نص السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) . فدل هذا الحديث على أنه إذا أكل الوالد من مال ولده فكأنه يأكل من كسبه هو. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني يري ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) . والبضعة من الشيء كالشيء، فكما أنه يجب على الولد أن ينفق على نفسه، كذلك ينفق على والده. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أنت ومالك لأبيك) . فهذا كله يدل على أن الوالد له حق في مال ولده، وأنه إذا أعوز الوالد أو أعسر وجب على الولد أن يتقي الله فيه، وأن يؤدي الحق الذي أوجب الله، فيسد خلته ويقضي حاجته. وإذا قلنا (الوالد) فهذا يشمل الأب والأم؛ أما الدليل على أنه يشملهما: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البر، وأحق الناس بالبر: (يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب؛ حقا واجبا، ورحما موصولا) ، كما في رواية أبي داود في السنن. فهذا يدل على أنه يجب على الولد أن يقوم بحق والده إن عجز الوالد أبا كان أو أما، ويسد هذا العجز بالنفقة عليه. وإن كان عجزا جزئيا؛ فيجب بعض النفقة، أي: يجب عليه أن يتم مادام قادرا مستطيعا على ذلك الإتمام. الأمر المهم بالنسبة للنفقة أنها قد تكون على الزمان المتباعد، وقد تكون على الزمان المتقارب، فإذا كان الوالدان بهما حاجة في يوم -الذي هو جزء الزمان- فيجب عليه أن ينفق عليهما في ذلك اليوم، لأن الوالد قد يحتاج في يوم من الأيام، وقد يحتاج طيلة الشهر، وقد يحتاج طيلة الأسبوع، المهم أنه يجب عليه أن ينفق. فلو أن والدا لم يجد طعاما، أو والدة لم تجد طعامها؛ فإنه يجب على الابن أن يعطيها نفقتها من أول اليوم، كما ذكرنا في نفقة الزوجة، وبينا وجه أن النفقة تستحق من أول اليوم. قوله: (لأبويه) هذا من باب التغليب: كالعمرين، والقمرين. وقوله: (لأبويه) يشمل الوالد والوالدة، الذكر والأنثى. وقوله: (وإن علوا) : يشمل جده من جهة أبيه، وجده من جهة أمه، وكذلك جدته من جهة أبيه، وجدته من جهة أمه، الجدة سواء كانت صحيحة أو كانت -كما يسمونها- ساقطة أو كاسدة، أي: أنها ساقطة وفاسدة في الإرث، وليس عندها سبب يقتضي ميراثها، كما سيأتي إن شاء الله بيانه في باب الفرائض. لو أن رجلا عنده أب الأب - الجد الصحيح- ليس عنده نفقة، ولا طعام، ولا كسوة؛ وجب عليه أن ينفق عليه، ولو كان عنده جدة تمحضت بالإناث كأم أمه، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، أو جمعت بينهما؛ كأم أب الأم؛ ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها إذا كانت معسرة. فقوله: (وإن علوا) يشمل أب الأب؛ الجد المباشر، والجد بواسطة، أب أب الأب، وأم أم الأم، وإن علوا. أي ولا ينظر إلى القرب والبعد. النفقة للأبناء على الآباء قال رحمه الله: [ولولده وإن سفل] ويجب على المسلم أن ينفق على ولده وإن سفل-أي: وإن نزل- لأن الله عز وجل وصى الوالد على ولده، وأمره بالإحسان إليه، وجاءت النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تقتضي بالقيام على الولد بالرعاية والعناية، قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] . والمولود شاملا للذكر والأنثى على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله؛ فهذه الآية تدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده. والإجماع قائم على ذلك، وجاءت السنة تؤكد ما في كتاب الله عز وجل، كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة هند، لما قال لها عليه الصلاة والسلام - أي: لـ هند: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فقوله يدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده، لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، أفآخذ من ماله؟ فدل على تقصيره في النفقة، على دعواها أو سؤالها، على الخلاف هل هي دعوى أو فتوى؟ والصحيح أنها فتوى. فأفتاها عليه الصلاة والسلام أن تأخذ من ماله ولكن بالمعروف، فدل على أن الولد تجب نفقته على والده، لأنه جعل له حقا في المال، وأمر الزوجة أن تأخذ من ذلك المال بالمعروف للولد. فلو كان الولد لا نفقة له على والده لما أحل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ذلك المال. وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده. قوله: (وإن سفل) يعني: وإن نزل، وهذه العبارة يستعملها العلماء والفقهاء رحمهم الله في كتاب الفرائض وغيره، والمراد بها سواء كان مباشرا كالابن، أو بواسطة كابن الابن، سواء تمحضت الواسطة من جهة الذكور كابن ابن، أو تمحضت بالإناث كبنت بنت، أو جمع بين الذكور والإناث: كابن البنت، وبنت الابن. النفقة على ذوي الأرحام قال رحمه الله: [حتى ذوي الإرحام منهم] . أي: حتى ذوي الأرحام من الأصول والفروع، فهاتان الجهتان أقوى جهات الحقوق في النفقة، أعني جهة الأصول والفروع؛ لأن نصوص الكتاب والسنة تدل على عظم حق الولد عند والده، وعظم حق الوالد عند ولده، وكما في حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني) ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن عائشة في السنن: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن ولدكم من كسبكم) ، فجعل كسب الولد والوالد كالشيء الواحد؛ فهذا يدل على قوة هذه الجهة من جهة الأصول، أو من جهة الفروع. والواقع يصدق ذلك، فالابن فرع لوالده، والوالد أصل للولد، فتعظيم هذا الجانب حق حتى ولو كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام هم في الحقيقة دون جهة الفرض والتعصيب. وذوو الأرحام لا يرثون؛ فالخال، والخالة، والعمة، وابن العمة، وابن الخالة، وبنت العم؛ هؤلاء ليس لهم ميراث في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأصل، لكن اختلف العلماء رحمهم الله إذالم يوجد وارث لا بفرض ولا بتعصيب، هل ينزلون منزلة من أدلوا به؟ فاختار جمع من العلماء رحمهم الله أنهم ينزلون، ودليلهم حديث: (الخال وارث من لا وارث له) . والأصل عندهم قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال:75] ، فدل على أنها جهة تستحق، وسيأتي تفصيل هذه المسألة إن شاء الله في الفرائض. مثال لذوي الأرحام: الجدة الصحيحة، والجدة الفاسدة، فالجدة الصحيحة من تمحضت في الإناث، من أمثلتها: أم الأم، فهذه حقها ثابت من جهة النفقة، لكن بالنسبة للجدة الأنثى إذا أدلت بذكر بين أنثيين، فهذه تعتبر ساقطة في الإرث، يسمونها الجدة الفاسدة أو الساقطة، إشارة إلى أنه لا حق لها في الإرث، فتعتبر من ذوي الأرحام، ولا إرث لها في الأصل، كأم أبي الأم، هذه جدة لا إرث لها في الأصل، لا فرضا ولا تعصيبا، وهي من ذوي الأرحام في الأصول. فذوو الأرحام يكونون في الأصول، والفروع والحواشي، فالنسبة لذوي الأرحام في الأصول والفروع لا يسقطون، فبنت بنت الابن لا تسقط، لأننا قلنا: الأصول والفروع لا يسقط ذوو الأرحام منهم، وهذا لعظم جهة الأصول والفروع، وبناء على ذلك؛ لو كان له جدة أم أبي أم فاسدة، أو جدة ساقطة، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها مع أنها من ذوي الأرحام في جهة الأصول، ولو كان عنده بنت ابن البنت، فهذه من جهة الفروع تعتبر من ذوي الأرحام، بخلاف بنت الابن فلها فرضها في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بالنسبة لبنت ابن البنت، وبنت البنت، هذه تعتبر من ذوي الأرحام، ويجب عليه أن ينفق عليها، فلو أن بنت بنته احتاجت وجب عليه أن ينفق عليها وكذلك بنت بنته. فالأصول والفروع لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام. النفقة على المعسر المحجوب في الوراثة قال رحمه الله: [حجبه معسر، أو لا] . أي: سواء كان الأصل أو الفرع يحجب هذا الذي يجب أن ينفق عليه أو لا. والحجب أصله المنع، والحجب مصطلح يستعمله العلماء رحمهم الله في الفرائض، لأن الشريعة جعلت الحقوق في الإرث مرتبة مفصلة، فالله جل وعلا تولى قسمة الحقوق والفرائض من فوق سبع سماوات، ولم يكلها لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] . والكلالة مسألة من مسائل الميراث، وهو من انقطع من النسب فلا والد له ولا مولود، أي: انقطع من الآباء والجدود والأبناء. فهذه الفرائض فرضها الله عز وجل وقدرها، وهناك من يحجب ويمنع بوارث جعله الله أحق منه بالإرث، وإذا حجب هذا الشخص ذكرا كان أو أنثى، فإما أن يحجب في شرع الله حجبا كليا باسم الحجب الكامل (حجب الحرمان) وإما أن يحجبه حجب نقصان، فالشريعة الإسلامية جعلت الحقوق مرتبة في الفرائض، واصطلح العلماء في هذا الحرمان وهذا المنع الكلي أو الجزئي على تسميته بالحجب. فإن قيل: فلماذا أدخل العلماء مسألة الحجب في النفقة؟ ف الجواب لأن النفقة التي للقرابة مبنية على الإرث، وهذا في الحقيقة من عدل الله سبحانه وتعالى، حيث جعل الغرم بالغنم، فإذا كان قريب الإنسان إذا مات يرثه، فكذلك هو يستفيد من إرثه، ويأخذ الربح من جهة إرثه، فكذلك إذا افتقر هذا القريب في حال حياته، فإنه ينفق عليه، فعدل الله سبحانه وتعالى وجعل الإرث مؤثرا: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ، فجعله موجبا لثبوت حق النفقة. فهنا في مسألتنا إذا كنا نقول: إن الإرث سبب من أسباب وجوب النفقة، فالوارث تارة يحجب وتارة لا يحجب؛ فإن لم يكن محجوبا فلا إشكال لأنه مستحق من جهة الإرث. لكن إذا كان في الإرث يحجب حجب نقصان أو حجب حرمان؛ فهذا يؤثر، لكنه في الأصول والفروع لا يؤثر، وهذا جعله استحقاقا ثابتا لأن الأصل والفرع جهته متمحضة من حيث البعضية بخلاف الوارث؛ فإنه من جهة التشريك في القرابة، سواء كان من الفروع أو الحواشي أو نحوها. ففرق بين الأصول والفروع في مسألة ذوي الأرحام- التي تقدمت معنا- وهنا في مسألة وجود من هو حاجب؛ سواء كان حجب حرمان أو حجب نقصان. فقوله: [حتى ذوي الأرحام منهم حجبه معسر أو لا] . لو أن له جدا، هو أبو أبيه، والأب فقير، فتستحق النفقة عليه للوالد وللجد. إذا جئنا من ناحية الإرث، فإن الجد لا يرث مع وجود الابن. فهذا الذي يريد أن ينفق عليه محجوب، ولا يرث من جده مع وجود أبيه، فالأصل يقتضي أنه لا تجب عليه نفقة هذا الجد، وإنما تجب على الأب، سواء حجبه معسر أو لا. ففي هذه الحالة نقول للابن: أنفق على أبيك وجدك، فإذا حكمنا بإنفاقه على جده، فإنه في الأصل لا يرث من هذا الجد لوجود الأب، ولكن هذه مسألة مستثناة في الأصول-كما ذكرنا- بخلاف غير الأصول والفروع كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأيضا قوله: (حجبه معسر أو لا) : يفهم منه أنه إذا لم يحجبه؛ مثل أن يفتقر جده ويحتاج إلى النفقة، ووالده ميت - الذي هو أبوه- ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق على الجد، فاستوت العبارة في الدلالة على أنه ملزم بالنفقة، سواء كان محجوبا بمعسر-الذي هو الأب الموجود- أو كان غير محجوب؛ كأن يكون جده قد مات ابنه-الذي هو الأب- فيجب على هذا الولد أن ينفق على جده سواء حجب من معسر أو لم يحجب. تأثير التوارث في وجوب النفقة قال رحمه الله: [وكل من يرثه بفرض أو تعصيب] . هذا الجانب الثاني في القرابة، فالجانب الأول: أصل الإنسان وفرعه، وهنا الجانب الثاني، ويشمل البقية؛ كالحواشي والقرابات، كما سيأتي بقية القرابات. فبقية القرابات بين المصنف رحمه الله أنه يجب عليه أن ينفق على من يكون وارثا له منهم، سواء كان بفرض أو بتعصيب، فإذا كان وارثا بفرض أو تعصيب استحق النفقة، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] . فهذه الآية الكريمة من سورة البقرة أوجب الله سبحانه وتعالى فيها النفقة، وبينت حكم النفقة على الولد في الرضاعة، فأمر الله عز وجل الوالدة أن ترضع ولدها، وأمر الله الوالد أن ينفق على هذه المرضعة، ولما أمره بالإنفاق، وبين أن المولود له -وهو الوالد- يجب عليه أن ينفق، قال بعد ذلك: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] . فبعد أن قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} [البقرة:233] ، قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ، فاستفدنا من الآية أن الوالد ينفق على ولده في الرضاعة، وذلك حق عليه واجب: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] . ثم قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] أي: فلو كان والد الطفل ميتا لنظرنا إلى قرابته الذين يرثونه، وقلنا لهم: أنفقوا على هذا المولود الذي لا والد له بالمعروف، فكما أنهم يرثون هذا المولود لو مات، كذلك يجب عليهم أن ينفقوا عليه إذا أعسر. ومن هنا ندرك ما ينقمه الأعداء على الإسلام؛ أنه يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين أمور جاءت مرتبة مفصلة من لدن حكيم خبير، الذي أعطى كل شيء حقه وقدره، لا تستيطع أن تزيد فتظلم وتجور، ولا تستيطع أن تنقص فيكون فيه إجحاف بحقه، لا تستيطع أن تزيد على ما شرع الله قليلا ولا تنقص. وهذا هو العدل؛ تجد أن الأنثى لا تحمل ما يحمله الذكر، وتجد في طبيعة الناس وفطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها أن النساء لا يستطعن في حال العوز والفقر أن يقمن ببعض مايقوم به الرجال، ففضل الله بعضهم على بعض، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى؛ يحكم ولا معقب لحكمه. فهذه أمور كلها ارتبطت ببعضها، كما أنه في الإرث يستحق أن يرث منه؛ لوجود الإرثية والقرابة الموجبة للإرث، كذلك إذا أعوز هذا الموروث يجب عليه أن ينفق عليه. ونصت الآية على أن للقريب حق النفقة عليه، وجاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه غير واحد من العلماء؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يبر؟ فقال له: (أمك-أي: بر أمك- وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك) . يعني الأقرب فالأقرب إليك، وهذا يدل على أنه ينبغي أن توصل الرحم، فينفق عليها إذا احتاجت، فمثلا لو كان له أخ محتاج ليس عنده نفقة يومه، نقول له: أنفق على أخيك، كذلك لو كان عنده أخت محتاجة ما وجدت نفقتها، ولا ما تكتسي به، وبحاجة إلى السكنى، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف. فهذا الحكم أجمع عليه العلماء رحمهم الله، والأصل فيه دليل الكتاب في قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ، ودليل السنة والعقل يقتضي هذا، وبناء على ذلك أجمعوا على أنه يجب على الوارث أن ينفق على قريبه، والتفصيل في هذا يرجع إلى مسألة الإرث، فينفق عليه بقدر ما يكون له من النصيب. قوله: (بفرض، وتعصيب) الفروض في كتاب الله عز وجل ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وبعضهم يختصر فيقول: النصف، ونصفه، ونصف نصفه، والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما. نصف وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذه الفروض المحددة المقدرة في شرع الله عز وجل؛ إذا قيل بالفرض؛ فإما أن يكون له النصف، فيكون له النصف، أو نصفه، أو يكون له الثلثان، أو نصفهما، أو نصف نصفهما. أما التعصيب: فهو من العصبة، وعصبة الإنسان: قرابته الذين يحيطون به، وتتمحض العصبة من جهة الذكور، وسموا بذلك: لأنهم في الشدائد يتعصبون معه، ويحيطون به كالعصابة التي تحيط برأس الإنسان. فالإرث في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إما فرضا وإما تعصيبا، فيجب على القريب أن ينفق على قريبه الوارث؛ سواء كان الإرث من جهة الفرض أو التعصيب. ويشمل هذا عشرة من الذكور، وسبعا من الإناث في الفرائض: والوارثون من الرجال عشرة أسماؤهم معروفة مشتهرة الابن وابن الابن مهما نزلا والأب والجد له وإن علا والأخ من أي الجهات كانا قد أنزل الله به القرآنا وابن الأخ المدلى إليه بالأب فاسمع مقالا ليس بالمكذب والعم وابن العم من أبيه فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه والزوج والمعتق ذو الولاء فجملة الذكور هؤلاء هؤلاء عشرة يرثون بفرض الله عز وجل الذي فرضه في كتابه، إما أن يرثوا بالفرض المقدر الذي ذكرناه، وإما أن يرثوا بالتعصيب. وأما بالنسبة للإناث فهن سبع من النسوة: والوارثات من النساء سبع لم يعط أنثى غيرهن الشرع بنت وبنت ابن وأم مشفقه وزوجة وجدة ومعتقه والأخت من أي الجهات كانت فهذه عدتهن بانت فهؤلاء سبع يرثن في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويستحق هؤلاء سواء كانوا ذكورا أو إناثا النفقة عليهم، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في كتاب الفرائض. فالوارث: سواء كان إرثه من جهة الفرض أو من جهة التعصيب له حق على القريب، والأصل في هذا-كما ذكرنا- دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله. وجوب النفقة على عمودي النسب من ذوي الأرحام قوله: [لا برحم سوى عمودي النسب] أي لا يجب عليه أن ينفق على القريب من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام كبنت البنت، وبنت ابن البنت من جهة الفروع، وكذلك أيضا من جهة الحواشي؛ كبنت الخال، أو الخال نفسه، وبنت الخالة، أو الخالة نفسها، لا يجب عليه أن ينفق عليها في الأصل؛ لأنها من جهة ذوي الأرحام، وهؤلاء ليسوا من الوارثين، والله عز وجل خص النفقة الواجبة اللازمة بالوارث. وذوو الأرحام لهم إرث كما ذكرنا، لكن من قال بتوريثهم فهذا عندما ينزل منزلة من أدلى به، لكنه ليس في الأصل من الوارثين، وإنما قيل بتوريثه لقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال:75] ، ولحديث: (الخال وارث من لا وارث له) . وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله. قوله: (سوى عمودي نسبه) : فعمودي النسب من جهة الأب، والأم، والأجداد، والجدات لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام. أما الجدة الساقطة، والجد الساقط، أو كما يقولون: الجدة الفاسدة، والجد الفاسد، فهؤلاء يجب عليه أن ينفق عليهم، وكونهم ساقطون في الإرث لا يسقط حقهم في النفقة؛ لأن في عمودي النسب موجبا للإنفاق أكثر من القرابة والورثة، فليس الأنفاق عليهم بسبب الإرث -أي: عمودي النسب- إنما هو بسبب نعمة الوجود؛ لأن الله عز وجل جعل وجود الابن بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك قال: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان:14] . النفقة على الوارث من جهة قال رحمه الله: [سواء ورثه آخر كأخ أو لا؛ كعمة وعتيق] . أي: سواء ورثه آخر كأخ، أو لم يرثه كعمة وعتيق. فلو أن الأخ توفي فأنت أخوه ترثه ويرثك، فالتوارث من الجهتين، وهذا من دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم ذكروا أن بعض الأسباب تتمحض فتكون من الجانبين، مثل مسألتنا هنا: ترث الذي تريد أن تنفق عليه ويرثك؛ فالتوارث من الطرفين. في بعض الأحيان يكون التوارث من طرف واحد، فالعمة أنت ابن أخيها فترثها، لكنها لا ترثك، فالتوارث من جهة لا من جهتين، وبناء على ذلك يقول: سواء كان من جهة أو كان من الجهتين. العتيق أو المعتقة: جعل الله عز وجل الولاء لحمة كلحمة النسب، فإذا لم يوجد وارث ولا عاصب للميت، فإنه يرثه من أعتقه، فالمولى يرثه سيده الذي أعتقه، أو قرابة السيد -على التفصيل الذي سيأتينا- لأن الولاء سبب من أسباب الإرث الثلاثة المشهورة: وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب هذا الولاء قال عنه صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ، يرث به السيد من أعتقه في حال عدم وجود من يرث العتيق. مثلا: أخذ عبده ثم أعتقه، وهذا العبد جميع قرابته كفار، وليس هناك له وارث؛ لأن الكفر مانع من موانع الإرث؛ ففي هذه الحالة يرثه سيده الذي أعتقه، فيبقى الولاء بين السيد وعبده. لكن من الذي يرث؟ السيد يرث العبد، والعبد لا يرث سيده؛ فإذا التوارث من جهة وليس من الجهتين. فبين رحمه الله أنه يستحق به الإنفاق، فلو أن هذا المولى الذي أعتقه سيده أصبح فقيرا، ولا عائل له، نقول لسيده: أنفق عليه، ويجب عليك أن تنفق عليه لوجود السبب الموجب؛ وهو التوارث. مقدار ما ينفق على الأقارب والمماليك قال رحمه الله: [بمعروف] . الأصل في النفقة أنه يرجع فيها إلى العرف والعادة، وأعراف المسلمين يحتكم إليها، والمراد بأعراف المسلمين: الأعراف الغالبة التي لا تطرأ عليها معارضة للشرع، يعني يشترط في العادة أن تكون موافقة للشرع لا مخالفة له؛ لذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو جرى في العادة محرم ومنكر فإنه لا يحتكم إليها. وهذه المسألة راجعة إلى الأصل الشرعي الذي قرره العلماء رحمهم الله، واستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن العادة محكمة، وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي: الأمور بمقصادها -اليقين لايزال بالشك- المشقة تجلب التسير -الضرر يزال- العادة محكمة. فهذه العادة محكمة؛ أي: يحتكم إلى عادات المسلمين وأعرافهم، والمراد فيما لا نص فيه، أما الذي فيه نص فلا يلتفت فيه إلى العرف. فالعرف إنما يرجع إليه ويلتفت إليه في حالة عدم وجود النص، وبشرط عدم معارضته للنص، فلو جرت العادة-والعياذ بالله- بأمور مستقبحة أو مشينة لم يحتكم إليها. والسبب في هذا أن الله عز وجل نص في كتابه على الرجوع إلى العرف: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228] ، وقال صلى الله عليه وسلم لـ هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) . والعلماء رحمهم الله اختلفوا في مسائل النفقات؛ كيف تقدر منها مسألة العسر واليسر ومقدار النفقة؟ أي: متى نحكم بكون القريب معسرا؟ ومتى نحكم بكونه موسرا؟ ومتى نحكم بكونه في حال وسط بين الإعسار واليسار؟ من العلماء من قال: الرجوع إلى العرف، ومنهم من حد ضابطا، وقال: ينظر إن كان دخله أكثر مما ينفق فهو موسر. وإن كان إنفاقه أكثر مما يدخل عليه فهو معسر. وإذا استوى الأمران فهو متوسط بين اليسار والإعسار. وهنا في مسألة إعطائه النفقة، أنه ينفق عليه بالمعروف، وسبق أن بينا هذا في نفقة الزوجة، وتقدير ذلك: أنه يصار إلى نفقة مثلها بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها. الأسئلة حكم تكليف الأب ابنه فوق طاقته من النفقة السؤال أنا أنفق على والدي وزوجتي، ومصدر دخلي قد لا يكفي، وأحيانا بل غالبا يأمرني والدي بأن أستدين من الناس. فهل أطيعه في هذا الأمر؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالنفقة على الوالد سداد لحاجته، وقيام بما يكفيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك) . فجعل الأمر موقوفا على الكفاية، وما زاد عن الكفاية فهو فضل وليس بفرض. فلو كان الوالد يحتاج مائة، فأعطاه ما زاد عن المائة فهو فضل من الولد على والده ليس بواجب عليه وليس بلازم، فإذا فعله فهو مأجور، والله يخلف عليه، وإذا لم يفعل واقتصر على قدر الكفاية؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه. لكن إذاكان عند الابن قدرة ويسارا، فهنا اختلف العلماء: هل يأثم أو لا يأثم؟ مثلا: الوالد طلب منه ألف ريال فوق النفقة، والابن عنده قدرة، فهل هذا المستحب يصير واجبا بأمر الوالد؟ بعض العلماء يقول: إذا امتنع مع قدرته على ذلك كان من العقوق، وهذا من جانب آخر لا من جانب الاستحقاق بالنفقة، ولا شك أن الابن لا يكلف فوق طاقته، حتى غير الابن فأي إنسان ينفق لا يكلف فوق طاقته، ولذلك قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] وذلك حينما بين أحكام النفقات في سورة الطلاق، فبين سبحانه وتعالى أنه لايكلف إلا على قدر ما في وسع الإنسان من النفقة، وبناء على هذا لا يكلف الابن فوق طاقته وفوق كفاية الوالد إذا كان ذلك يجحف به ويضر. أما إذا أمكن الابن أن يتفضل ويتجاسر -شريطة ألا يكون هناك من الوالد الإنفاق على المحرمات أو إسراف- فلا شك أنه لا يزال له من الله عون ومدد، وسيخلف الله عليه إن عاجلا أو آجلا. لو أن الوالد صادفته ضائقة في دين، وطلب من الابن أن يستدين من الناس، فنظر إلى مصاريف والده فوجدها مصاريف معقولة، وأنها في حاجة الوالد، ونفقة إخوانه وأخواته، فاحتسب عند الله عز وجل أن يفرج كرب والده، فوالله لن يخيب، وسيجعل الله له فرجا ومخرجا. فأعظم طاعة بعد الإيمان بالله وتوحيده بر الوالدين، فلذلك قرنه الله ببره فقال: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان:14] ألا ترى والدا ينفق على الإخوان والأخوات، وقد يستدين من أجل الإنفاق عليهم، فإذا نظرته ينفق نفقة معقولة، أو ممكن أن يسدد ديونه التي ترتبت على النفقة بالمعروف؛ فتقف معه، وتستعين بالله عز وجل فتؤدي عنه، والله لن تخيب إن فعلت، فهذا فضل عليك وليس بفرض، والله عز وجل يجزي المحسن على الإحسان، فما بالك إذا كان الإحسان على أحق الناس، وأولاهم بالإحسان؟! وأنت حينما تعطي الوالد؛ إيمانا بالله واحتسابا للأجر عند الله، فما الذي تنتظره عند ربك الذي لا يخلف الميعاد، وقال لك: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] ! والإحسان أعلى مراتب العبادة. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
فاختار للعبد في بره لوالديه أجمل وأكمل المراتب، حتى إنه قال: {يبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود:7] ، ما قال: أكثر عملا، والإحسان- كما هو معلوم-: أن تعبد الله كأنك تراه، وهو أعلى مقامات العبودية، فاختار الله هذا المصطلح الكريم الجليل العظيم في التعبير عن حق الوالدين؛ أي: أحسنوا في حق الوالدين إحسانا. فلا شك أنه إذا احتسب الولد وأنفق على والده أن الله سبحانه وتعالى لا يخيبه، لكن إذا كان الأمر يجحف بالابن ويضر به، ولربما يعرض حياته للضرر؛ فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فليس للوالد على ولده إلا قدر الكفاية. والله تعالى أعلم. حكم النفقة على ذات الزوج المعسر من البنات السؤال البنت المتزوجة إذا كان زوجها معسرا هل تجب نفقتها على أهليها؟ الجواب من حيث الأصل فإن نفقة الزوجة على زوجها، ولا يجب على الأب أن ينفق على البنت وهي في عصمة زوجها، وقد بينا أنه إذا كان الزوج معسرا فلها أن تصبر، أو تستمر، ولها حق الفسخ -على التفصيل الذي ذكرناه- فإذا اختارت الصبر؛ فحينئذ حقها عند زوجها، ولا يجب على أهلها نفقتها في حال كونها في عصمة الرجل؛ لأن هذا يؤدي إلى تعدد جهات الإنفاق. والأصل الشرعي: أنها في حق الزوجة جهة واحدة؛ وهي إنفاق الزوج على زوجته. والله أعلم. الإهلال بالإحرام لأهل مكة إن أتوا من خارجها السؤال إذا كنت من سكان مكة، وذهبت لزيارة الوالدين خارج مكة، ثم رجعت في اليوم الثاني، فهل يجب علي الإحرام من الميقات؟ أم أهل بالحج من مكة؟ الجواب هذا فيه تفصيل: إذا دخلت أشهر الحج، وهو الميقات الزماني، وخرج من كان من أهل مكة إلى قريب أو بعيد؛ كأن سافر إلى المدينة وعنده نية الحج في ذلك العام؛ فإنه في هذه الحالة قد مر بميقات المدينة بعد دخول الميقات الزماني المعتبر، فيأتي بعمرة ويتمتع بها-إذا كان الزمان بعيدا عن الحج- إلى الحج. وأما إذا كان سافر إلى المدينة وليس عنده نية أن يحج، ومر بالميقات راجعا إلى مكة، وليس عنده نية الحج في ذلك العام، ثم طرأت عليه النية بعد أن رجع إلى مكة، فيحرم من مكة، لأنه أنشأ النية من مكة، ثم يفصل في ذلك: إن طرأت عليه النية في أثناء الطريق، وجب عليه أن يحرم من مكانه، فيتمتع بعمرة، ثم يهل بالحج من عامه. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، من حديث ابن عباس في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة) . فهذا قد أتى إلى الميقات الأبعد -وهو ميقات المدينة- بعد دخول الميقات الزماني، وعنده نية للحج. لكن لو أنه سافر إلى المدينة في رمضان، وعنده نية أن يحج، ثم رجع إلى مكة قبل أن يدخل شهر شوال- الذي هو الميقات الزماني- لم يؤثر، لأنه ما دخل عليه الميقات الزماني، فلم يؤمر بالميقات الأبعد، ولم ينطبق عليه الإلزام بالإحرام من الميقات الأبعد. والله تعالى أعلم. حكم طواف القدوم لمن دخل مكة يوم التروية السؤال من أراد الحج مفردا من غير أهل مكة، هل عليه طواف القدوم إذا دخل مكة يوم التروية؟ الجواب هذا فيه تفصيل: بعض العلماء لا يرى وجوب طواف القدوم، والأصل عندهم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه: أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم النحر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، وما تركت جبلا إلا وقفت عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه) . وكان عروة لم يأت إلى مكة ولم يطف بالبيت، كما هو ظاهر الحال في سؤاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أهل العلم من قال: إن هذا يختص بمن ضاق عليه الوقت، وأما من اتسع له الوقت فيجب عليه أن يأتي ويطوف طواف القدوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف قدومه عند قدومه على مكة. وظاهر الحديث، يقتضي عدم وجوبه، لكن السنة أن يطوف بالبيت إن أمكنه. والله تعالى أعلم. حكم الأخذ من الشعر قبل السعي للرجل والمرأة السؤال عن امرأتين طافتا ولم يسعيا، فما حكم عمرتهما؟ الجواب الواجب على المرأة والرجل أن يتما عمرتهما نويا العمرة أو الحج، فمن نوى العمرة من الرجال والنساء فالواجب عليه أن لا يتحلل، وأن لا يأخذ من الشعر إلا بعد أن يطوف بالبيت ويسعى، وبناء على ذلك وقوع القص بالشعر أو التقصير يكون قبل السعي واقعا في غير موقعه؛ فعليهم الفدية؛ لأنهم أخذوا من الشعر قبل تمام النسك. فيرجعون ويؤدون السعي، ثم بعد ذلك يفتدون. أما بالنسبة لركعتي الطواف؛ فهما سنة، وفعلهما بعد الطواف في داخل البيت سنة، على كل حال عليهم أن يصلوا ركعتي الطواف، وإذا أعادوا الطواف ثم سعوا بعده، جعلوا الطواف نافلة بناء على قول من قال: لا يصح السعي إلا بعد طواف. هذا أفضل. وكونهم يأتون إلى التنعيم، هذا لا أصل له، وما له داع ولا موجب. فيجب عليهم الآن الذهاب إلى مكة ليعيدوا الطواف؛ لفوات الموالاة بين السعي والطواف، فقد كان المفروض أن يقع السعي بعد الطواف. فالأفضل له أن يطوف، ثم يسعى، ثم بعد ذلك يتحلل، وتجب عليهما الفدية إن كانوا قد تطيبوا. أما إن كانوا لم يتطيبوا ولم يكن هناك محظورات فعلوها؛ فهم إلى الآن محرمون، ويجب عليهم أن يذهبوا. وإن كانوا قد قصروا الشعر فهذا يوجب عليهم الفدية؛ لأنه لا يجوز أن يقصروا إلا بعد انتهاء السعي. والله أعلم. حكم تطييب البدن بعد الإحرام السؤال هل يجوز التطيب في البدن فقط بعد ارتداء ملابس الإحرام؟ الجواب إذا دخل في النسك فلا يجوز له أن يتطيب؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم أن يتطيب. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الطيب من محظورات الإحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (إنزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب) . فأمر المحرم أن لا يتطيب. في هذه الحالة: الواجب على المسلم أن لا يتطيب بعد إحرامه، فإن تطيب قبل الإحرام واغتسل أو اغتسل ثم تطيب قبل أن يدخل في النسك؛ فهذا لا بأس به، وهو في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) . سواء وقع الطيب بعد الغسل أو قبل الغسل؛ فإن الصحيح أنه من السنة، ولا بأس به، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) . فهذا يدل على أنه لا بأس أن يكون على بدن المحرم الطيب، بشرط أن يكون قد وضعه قبل الدخول في النسك. وبعض الناس يرى أنه بمجرد اللبس قد دخل في النسك! وهذا ليس بصحيح، فإن التجرد عن المخيط ليس دخولا في النسك، إنما يكون الدخول بالنية, وبناء على ذلك فلا عبرة بلبسه، وإنما العبرة بدخوله في النسك. حكم العمرة بعد الحج هذه المسألة من حيث الأصل: السنة أن من أتى بعمرة قبل حجه، ثم حج وتمتع بها: أن يكتفي بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح، لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تأخذ عمرة بعد حجها، قال عليه الصلاة والسلام: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) . فالنبي صلى الله عليه وسلم عتب عليها، وضيق عليها بعض الشيء، كأنها تأتي بعمرة بعد عمرتها، لكن إذا وجد لبعض الناس سبب؛ مثلا: والده أو قريبه لم يعتمر، وأراد أن يأخذ العمرة عنه؛ فلا بأس أن يأتي بالعمرة بشرط أن تكون النية طرأت عليه في مكة، لا من الميقات الأبعد. والله تعالى أعلم. حكم ثوب الإحرام الذي فيه أزرار وبالنسبة لثوب الإحرام الذي فيه (طقطق) هذا ينصح الناس فيه، ولا يجوز لهم لبسه؛ لأنه في حكم المخيط. الإحرام الذي فيه أزارير يجب أن تزيلها، وتفكها، وتبقى مفتوحة، ولا يضر إن شاء الله. والله أعلم. حكم حج من اعتمر في أشهر الحج ثم نوى الحج السؤال من أتى بعمرة في أشهر الحج، ثم نوى بعد ذلك الحج في العام نفسه، هل يلزمه التمتع، أم يخير؟ الجواب ليس هناك إلزام بنسك، فعن أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل) . فالأصل في هذه الأنساك أنها تخييرية -أي: الأنساك الثلاثة- ومن أتى بأي واحد منها فلا حرج عليه ولا عذر، والخلاف بين العلماء رحمهم الله في الأفضل، وليس هناك إلزام بأحد هذه الأنساك. بل يبقى هذا النص على الأصل وأن المسلم مخير. وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بفسخ الحج بعمرة، وهو إيجاب فسخ الحج بعمرة على من لم يسق الهدي؛ فهذا كان في ذلك العام، ولذلك لم يلزم بها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان مدة الخلافة الراشدة كلها، وفهم الصحابة ذلك وطبقوه، وهم أعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: متعة النساء، ومتعة الحج) . يعني إيجاب الفسخ، وليس مراده مطلق التمتع بالحج، يعني أن إيجاب الفسخ كان في ذلك العام هدما لعقيدة الجاهلية الذين كانوا لا يجيزون العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون كما في الصحيح عن ابن عباس: (إذا برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر) ، فكانوا يرونها من الفجور. ولذلك قالوا: (يارسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لا؛ للأبد، للأبد) . صلوات الله وسلامه عليه. وقال: (دخلت العمرة في الحج) . أي: أنه يجوز لك إيقاع العمرة في أشهر الحج إلى الأبد، لا ما كان يعتقده أهل الجاهلية من تحريم إيقاع العمرة حتى ينسلخ صفر، فذاك من أدران الجاهلية، ومما اختلقه أصحاب الجاهلية من المسائل المحدثة وألصقوها بالحنيفية وهي منها براء فردها عليه الصلاة والسلام, ورد الأمر إلى أصله؛ من أنه يجوز الاعتمار في أشهر الحج، ولذلك وقعت عمرته عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج؛ كعمرة الجعرانة حينما وقعت في ذي القعدة لما انتهى عليه الصلاة والسلام من قسم الغنائم بعد فتحه للطائف؛ صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم. حكم صيام أيام عشر ذي الحجة السؤال هل يعتبر صيام عشر ذي الحجة من السنة؟ الجواب صيام عشر من ذي الحجة ما عدا يوم النحر لا بأس به ولا حرج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، قالوا: يارسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع بشيء من ذلك) . فهذا يدل على أنه يشرع فعل الطاعات، وأنه لا بأس بصيامها؛ سواء صام التسع كاملة أو صام بعضها، فلا حرج في ذلك ولا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يفعل الشيء ويتركه، وقد شرع ذلك للأمة بقوله: (ما من أيام العمل الصالح فيهن ... ) وبناء على ذلك يبقى هذا النص القولي على عمومه، ولم يأت ما ينقضه، فيبقى صيامها مستحبا على الأصل. والله أعلم. أما يوم النحر: ففيه حديث عمر في الصحيحين: (أنه عليه الصلاة والسلام خطب ونهى عن صوم يومي النحر والفطر) ، فلا يجوز الصيام في هذين اليومين؛ لأنهما يوما عيد الإسلام، والصيام فيهما إعراض عن ضيافة الله عز وجل، فلا يجوز صيامهما بإجماع العلماء. والله تعالى أعلم. حكم الدم إن أصاب الثوب السؤال هل دم الإنسان إذا أصاب الثوب يجب غسله؟ أو أن الشرع حدد المقدار الذي يجب غسله؟ الجواب جمهور العلماء على أن الدم المسفوح نجس؛ لقوله تعالى: {أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام:145] ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (اغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي وصلي) ، فهذا أصل عندهم في أن الدماء نجسة. وقال بعض العلماء: إنها طاهرة؛ لحديث الشعب، ولصلاة عمر رضي الله عنه وجرحه ينزف، وقد أجيب عن حديث الشعب؛ بأنه من النزيف الذي لا يرقأ، لأنه أصيب بالسهم، والسهم غالبا ينزف، والنزيف لا يرقأ، ولذلك محل الخلاف لا يستقيم به الاستدلال، وكذلك عمر رضي الله عنه، لأن جرحه استنزفه إلى الموت، ولذلك قالوا: لو رعف الإنسان -مع قولهم بالنجاسة- أو المرأة المستحاضة يستثقل معها الدم، فهذا من العفو؛ لأنه لا يمكنها إيقافه، فالاستدلال بهذا الحديث فيه نظر من هذا الوجه، كما ذكر جمهور العلماء رحمهم الله والصحيح: أنه نجس، وحكمه حكم النجس؛ يجب غسل الدم، لكن الدم على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون يسيرا. والحالة الثانية: أن يكون كثيرا، وهو الذي يسميه بعض العلماء: متفاحشا. واختلف العلماء رحمهم الله في التفريق بين اليسير والكثير، أو الكثير والمتفاحش، فمنهم من يقول: إذا بلغ قدر الدرهم فهو يسير، وإن كان أكثر من الدرهم فهو كثير يجب غسله. ومنهم من قال: إن الكثير والقليل يفرق بينهما بما لا يتفاحش في النفس؛ يعني إذا رآه كثيرا حكم بكونه كثيرا، وإذا رآه قليلا حكم بكونه قليلا. والأول أقوى، لكن يوجد حديث ضعيف، وهو حديث الدرهم البغلي، لكن حكي الإجماع على أن قدر الدرهم من العفو، ولذلك يستدل بعض العلماء على أنه يصح من جهة العفو، ويؤخذ بهذا الأمر المتفق عليه؛ وهو أشبه. وقدر الدرهم تقريبا: قدر الهللة القديمة الصفراء؛ فإنها تقارب الدرهم كما حرره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فإذا كان مجموع الدم مقدار ذلك فهو من العفو فما دون، ولذلك عصر عبد الله بن عمر بثرا في صلاته ولم يقطعها؛ لأنها من اليسير، وهذا من حيث الأصل-أعني اشتراط أن يكون كثيرا- ودليله ظاهر آية الأنعام؛ فإن الله تعالى يقول: {أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام:145] ، فجعل الحكم بالنجاسة مبنيا على كونه مسفوحا، والمسفوح في لغة العرب: الكثير. ففرق الله بين القليل والكثير، ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى هذا التفريق، على ظاهر النص في قوله: {أو دما مسفوحا} [الأنعام:145] . والله تعالى أعلم. حكم معارضة الوالد إن أراد غير المعروف السؤال أبي يريد أن يزوج أختي بشاب لا يصلي، وأنا معارض لهذا الأمر، فهل أكون عاقا، وكيف أنصح والدي؟ الجواب هذا من طاعة الله عز وجل، والسمع والطاعة الأصل أن تكون بالمعروف لا بالمنكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما السمع والطاعة بالمعروف) . فسماعك لأمر والدك وامتثالك له إنما هو مقيد بالمعروف الذي أقره الله عز وجل، أما إذا كان بالمنكر فلك أن تنكره وترده عليه، فالحق معك، ولا يزال معك من الله معين وظهير. كيف تزوجها من رجل لا يصلي قد قطع صلته بالله عز وجل، خسر الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين، ففي هذه الحالة من حقك أن تعترض، ومن حقك أن تبين للوالد، وتحاول بالتي هي أحسن أن تؤثر عليه، وأن تستعين بالأشخاص الذين يؤثرون عليه إذا لم تستطع بنفسك، وتوصي الأخت أن لا تقبل مثل هذا زوجا لها؛ بل تمتنع وتصر على عدم القبول، وهي مثابة على إصرارها على هذا الحق. فلا بارك الله بزوج لا يصلي؛ إنه منزوع البركة، مشئوم على من يتزوجه؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل والكفر ترك الصلاة) . فحرمان الخير-والعياذ بالله- موقوف على ترك الأمور التي فرض الله عز وجل، والتي أعظمها عماد الدين بعد الشهادتين. فمثل هذا لا يزوج، وحري به أن لا يكرم بالتزويج، ونسأل الله أن يهدي والدك إلى سماع الحق وقبوله، وأن يختار لأختك ولبنات المسلمين من فيه الخير والصلاح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (481) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [2] جعل الله تعالى لصلة القرابة حرمة وقداسة، ومن آثار ذلك أنه يجب على القريب أن ينفق على قريبه الذي يرثه لو مات. وهذا الإنفاق إنما يجب بشروط لابد أن تتحقق، وهي لا تسمح للكسول بأن يركن على غيره، ولا تكلف الغني فوق طاقته، بل تحقق التكافل الأسري والتكامل الاقتصادي على أحسن الوجوه وأتمها. ما يشترط لوجوب نفقة القريب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله العظيم العليم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصا لوجهه الكريم؛ موجبا لرضوانه العظيم. ولا شك في أن حلق العلم ومجالسه خير ما تستفتح بها الوصية بحق الله جل وعلا، ولو كرر ذلك في كل مجلس لم تسأم منه الآذان، ولم تمل من سماع ذلك؛ لأن حق الله هو أعظم الحقوق، فالوصية بتقوى الله والإخلاص في طلب العلم زاد طالب العلم الذي لا يمكن أن يستغني عنه لحظة من اللحظات؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا بعد تحقيقه والعمل بحقوقه. وخير ما نتواصى به: أن يخلص الإنسان لوجه الله، وأن لا يجلس في مجالس العلم إلا وهو يريد ما عند الله، وأن يعلم علم اليقين أن التجارة مع الله رابحة، وأنها عند الله رائجة، وأن أسعد الناس في القول والعمل من نظر الله إلى قلبه فوجده خالصا مستقيما لربه أسعد الناس من أرى الله من نفسه خيرا حينما يجلس في مجالس العلم، ويستمع العلم، ويقرؤه، ويكتبه، ويتحدث به، وليس في قلبه إلا الله، وهي أمارة من الأمارات بل هي أشرف الأمارات وأعزها وأكرمها؛ إذ لا يعطيها الله إلا لخاصة أوليائه. فمن نظر في قلبه أنه مليء بالله معمور به، مصروف عن زخارف الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ لا تصغي أذنه إلى مدح المادحين، ولا يميل قلبه إلى عجب الناس به؛ فقد كملت ولايته لله جل جلاله، وهي العطية التي يختص الله بها من أحب. اللهم ربنا ورب كل شيء نسألك أن تجعلنا ممن اصطفيته فجعلته من المخلصين وأراد وجهك يا رب العالمين. وقد تحدثنا فيما سبق عن مسألة النفقة، وبينا أن المصنف رحمه الله جعل الأصل في النفقة على الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، مبنيا على شروطا لابد من تحققها، فنحن لا نلزم شخصا أن ينفق على قريب إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط. والنفقة تبعة من التبعات، فأنت حينما تتحمل طعام شخص وكسوته وسكناه، هذا أمر فيه كلفة ومشقة، لكنه لا يأتي إلا من خلال أسباب وشروط، وهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لإيجاد النفقة. أول هذه الشروط: وجود العلاقة والسببية الموجبة للنفقة، وهي القرابة المبنية على صفة الإرث، فالقريب الوارث يستحق النفقة، وهذا المذهب اختاره طائفة من العلماء، وذكرنا دليله من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الإسلام عدل حينما جعل الإنسان يرث من الميت، وكما أنه يأخذ غنيمة الإرث بعد موته يتحمل غرم الإنفاق عليه في حياته، فهذا من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ومن العدل الذي هو كمال في هذه الشريعة. أما الشرط الثاني: فقد بينا من هم الأقرباء الذين يجب عليك أن تنفق عليهم من الأصول؛ كالآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علت، والفروع: كالأبناء والبنات وإن سفلوا، والحواشي من جهة العصبة ونحوها. وبهذه العبارة التي ذكرها المصنف شرع في الشرط الثاني من شروط وجوب النفقة. شرط فقر القريب مع عجزه عن الكسب قال رحمه الله: [مع فقر من تجب له] أي: يشترط في وجوب النفقة على القريب لقريبه أن يكون القريب محتاجا؛ فتوجد فيه الحاجة والفاقة والفقر، وقريبك الذي تنفق عليه كالأخ والأخت مثلا، إذا وجب عليك أن تنفق عليهما لابد وأن يكونا فقيرين، ومع الفقر يكون العجز عن التكسب؛ فقد يكون فقيرا ولكنه قادر على أن يتكسب، فحينئذ يفصل العلماء رحمهم الله. أما الفقر فلابد وأن يكون فقيرا؛ لأنه لو كان غنيا فقد أوجب الله عليه أن ينفق على نفسه، وأما إذا كان فقيرا وليس عنده مال فحينئذ يجب عليك أن تنفق عليه بالمعروف. وهذا الشرط مجمع عليه بين العلماء رحمهم الله، فلا نوجب عليك النفقة لقريبك إلا إذا كان فقيرا، لكن يستثنى من ذلك الوالدان والأولاد. فالوالد ينفق على ولده ولو كان غنيا ما دام أنه تحت كفالته، كزوجته يجب عليه أن ينفق عليها ولو كانت غنية؛ لأن الاستحقاق هنا في الأصول والفروع آكد وأوجب، ولذلك ينفق الأصل على والديه وعلى فرعه، كالوالد ينفق على أولاده ولو كانوا أغنياء. مثال لغنى الفرع: أن تموت الأم وتخلف مالا لولدها، والولد قاصر عمره سنة أو سنتان، عنده مال لكن في الأصل المخاطب بالنفقة عليه هو والده حتى يستقل بنفسه، فحينئذ لا يشترط في الولد الفقر، فينفق على الأصل والفرع سواء كان غنيا أو فقيرا. والزوجة تكون غنية ولكن يجب على زوجها أن ينفق عليها؛ لأن هذا الاستحقاق لا يتوقف على وجود الفاقة، وإنما هو مبني على وجود العلقة والقرابة. ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفرع بمنزلة الإنسان، كما في الصحيحين من حديث فاطمة رضي الله عنها، في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فالمقصود أننا لا نوجب النفقة عليك لقريبك كالأخ والأخت إلا إذا كان فقيرا ومحتاجا عاجزا عن الكسب، أما لو كان غنيا عنده قوت يومه فلا؛ لأننا نتكلم عن نفقة كل يوم بحسبها، فلو أن الأخ أو الأخت لم يجد طعامه وقوته في يوم، فحينئذ ننظر إن كان عنده مال؛ فإنه ليس بفقير، فلا يجب عليك أن تنفق عليه، لكن لو لم يكن عنده مال، ولا يستطيع أن ينفق على نفسه، فإنه يجب عليك أن تنفق عليه، إلا أن بعض العلماء قال: ينظر في قدرته على التكسب، فإن كان قادرا على التكسب سقط عنك إيجاب النفقة، ويجب عليه أن يقول له: اطلب العيش بالتكسب، لأن نفقتك عليه إعانة له على البطالة وترك السعي. ومن هنا لا يجب عليك أن تنفق عليه متى كان قادرا على التكسب، وبالتكسب يتحصل على رزقه. لكن لو ضاق الكسب والعيش، فقال بعض العلماء: في هذه الحالة يجب على القريب أن ينفق عليه، ولو كان قادرا على التكسب، ما دام أنه لا يجد مجالا للتكسب، فالقدرة على التكسب هنا وجودها وعدمها على حد سواء. إذا لابد وأن يكون فقيرا عاجزا عن التكسب؛ يكون فقيرا بالنسبة لصفة الحال، والعجز عن التكسب يكون بصغر السن كما هو الحال في الأولاد ونحوهم، أو يموت ويترك أيتاما أخوه يتيم قاصر فينفق عليه لأنه عاجز عن التكسب، وكذلك أيضا يكون العجز عن التكسب لسبب الكبر والشيخوخة، كأن يكون له أخ مسن أو أخت مسنة عاجزة وليس لها من يعول، وكذلك يكون العجز عن التكسب للمرض والزمانة، كالشلل -أعاذنا الله وإياكم من الأمراض- والعمى فلا يقوى على العمل لوجود هذه الآفات، فعلى كل حال إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب ثبت استحقاقه للنفقة. قال رحمه الله: [وعجزه عن تكسب] . هذا الشرط الثاني: أن يكون فقيرا عاجزا عن التكسب، وهو في الحقيقة شرط يتضمن شرطين، لكنهم جعلوه بمثابة الشرط الواحد بسبب تعلقهما بجهة واحدة، يعني: يشترط في القريب أن يكون فقيرا عاجزا عن التكسب، ومفهوم الشرط: أنه لو كان غنيا لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا من استثنينا، ولو كان قادرا على التكسب لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا إذا كان الزمان لا يتيسر له فيه سبل العيش؛ فوجود القدرة على التكسب وعدمها على حد سواء. أن تفضل النفقة عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه قال رحمه الله: [إذا فضل عن قوت نفسه] . هذا الشرط الثالث، وهو يتعلق بالقريب المنفق. تقدم معنا شرطان، الشرط الأول: وجود الوراثة السببية الموجبة للنفقة. الشرط الثاني: عجز المنفق عليه وهو القريب. الشرط الثالث: وجود القدرة على النفقة بالنسبة للقريب المنفق، وهو أن يكون عنده قدرة على أن ينفق على قريبه، والعبرة بذلك اليوم، فلو عجز قريبه عن النفقة ذلك اليوم بسبب المرض والفقر، فهو عاجز عن الكسب فقير. فننظر في قريبه، إن وجدنا القريب عنده مال، نظرنا في هذا المال، فإن كان هذا المال على قدره وقدر عياله، ومن تلزمه مئونته، فلا يجب أن ينفق على القريب الأبعد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول) فهذا في الأصل بدأ بنفسه ثم بمن يعول من الأولاد، ولم يجد فضلا: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] . وهذا لم يؤته الله شيئا زائدا عما هو لازم له في الأصل، فلا يجب عليه أن ينفق على الأبعد إذا كان المال الذي عنده لا يكفي لصرفه إليه. قال رحمه الله: [عن قوت نفسه وزوجته ورقيقة] . أي: فاضلا عن قوت نفسه وزوجته، إذا كان له زوجه، وإذا لم يكن عنده زوجه نظرنا إلى قوته هو. مثلا تكسب في يوم خمسين ريالا. إذا جئنا ننظر إلى طعامه وطعام أولاده في ذلك اليوم وجدناه بخمسين ريالا، فحينئذ لا فضل، فلا نفقة؛ لأنه ليس بغني، فننتقل بالنفقة إلى قريب آخر أبعد منه، ولا يجب في هذه الحالة على من كانت هذه صفته أن ينفق؛ لأنه لم يفضل عن قوته شيء فاستوى مع غيره فلا نكلفه؛ لأن الله يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق:7] ، وهذا لم يؤته الله فضلا حتى نوجب عليه أن ينفق. إذا: يكون فاضلا عن قوت نفسه وزوجه ورقيقه: لأن هؤلاء من تلزمه نفقتهم، والرقيق يجب عليك أن تنفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تفصيله أكثر في النفقة على الأرقاء وهم الموالي، فإن الإسلام أوجبه على المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليكسه مما يكتسي) ، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن ينفق عليه بالمعروف، فيقدم المولى والعبد في خاصة الإنسان على القريب من حيث الأصل، ولذلك يجب عليه أن ينفق على زوجه وولده وعبده، ولا ننظر في الفضل إلا بعد الانتهاء من الأقربين الذين هم أحق. قال رحمه الله: [يومه وليلته] . النفقة ننظر إليها في اليوم والليلة، فإذا كان عنده مائة ريالا ننظر نفقة طعامه في النهار ونفقة طعامه في الليل، فإذا كان طعامه في الليل والنهار وكسوة من تلزمه مئونته في حدود الستين ريالا ومعه مائة ريال، كان إيجاب النفقة في الأربعين، لأنها فضلت عن قوته وقوت زوجه ومن تلزمه نفقته، فيجب عليه أن ينفق على القريب من الأربعين -لأنها زائدة- في اليوم والليلة. أن يكون الإنفاق زائدا على الكسوة والسكن قال رحمه الله: [وكسوة وسكنى] . (وكسوة) يعني: كسوة من تلزمه نفقته، من نفقة نفسه ومن تلزمه نفقته، ومثال ذلك: عنده زوجة أو أولاد يحتاجون إلى كسوة وطعام، فقدرنا نفقة الكسوة والطعام، فوجدناها بثلاثمائة ريال، وتكسب في ذلك اليوم الزائد عن ماله الموجود ثلاثمائة ريال، فنقول: لا له ولا عليه، يجب عليه أن ينفق على نفسه وزوجه ومواليه بإطعامهم وكسوتهم ولا يجب عليه أن يصرف على القريب؛ لأن الطعام والكسوة استغرقا ما عنده، لكن لو كان لا يحتاج إلى كسوة في ذلك اليوم، ولا يحتاج أحد ممن تلزمه نفقته إلى كسوة، والطعام له ولمن تلزمه نفقته في حدود المائة، وكان عنده في ذلك اليوم مائة وخمسون، فحينئذ نقول: ما دامت النفقة التي تلزمه بخاصته هي مائة، فإن الخمسين تصرف إلى قريبه المحتاج. إذا لا يختص الأمر بالطعام بل الكسوة داخلة في هذا، فلو كان في كل يوم عنده قريب محتاج، وكل يوم يتكسب مائة ريال، ينفق منها على أهله وولده ثمانين، ويأخذ العشرين ويعطيها إلى قريبة. الثمانون التي ينفقها تصرف كلها في الطعام، لكن في يوم من الأيام احتاج إلى كسوة له أو لزوجته أو أولاده أو لمولاه، وهذه الكسوة تحتاج إلى العشرين، فاستحقاق الكسوة في ذلك اليوم يسقط حق القريب. فإذا لا يظن أن النفقة مخصوصة بالطعام والشراب، بل شاملة الكسوة أيضا. أن تكون النفقة لديه من حاصل أو متحصل قال رحمه الله: [من حاصل أو متحصل] . (من حاصل) أي: الموجود. يقولون: إذا كان رزقه الذي حصل عليه مائة ريال، هذا الحاصل، والمتحصل هو الموجود عنده مثل رأس المال الذي يأخذه دخلا إما في تجارة وإما في عمل وكدح. لماذا يقول المصنف: من حاصل أو متحصل؟ لأن الرجل في بعض الأحيان لا يعمل، ولكنه عنده مال، مثل رجل غني عنده ألف ريال، الألف في القديم مثل المليون في زماننا، فهذه الألف التي عنده لا يحتاج معها إلى عمل ولا كسب، فعنده حاصل من المال يكفي أن ينفق منه وأن ينفق على قرابته، فنقول له: أنفق من الحاصل، يعني: من الموجود عندك. أو شخص يأخذ المال عن طريق التحصيل بعد أن يعمل ويكدح، كأن يكون عنده بقالة أو مخبز أو سيارة يتكسب فيتحصل، فنسأله: على كم تحصلت اليوم؟ قال: على مائة، فنقول حينئذ: كم قدر نفقتك ونفقت قرابتك الخاصة، قال: خمسون، نقول: أنفق من المتحصل الزائد على نفقتك ونفقتهم، فلا يشترط في نفقتك على القريب أن تكون فقط من الحاصل، بل إنما تشمل الحاصل والمتحصل. أن لا ينفق من رأس المال قال رحمه الله: [لا من رأس مال] أي: إذا كانت عنده تجارة، أو عمل يومي له رأس مال، لا نقول له: اسحب من رأس مالك. بعض الأحيان يكون رأس ماله هو الذي يثمر دخله ودخل أولاده، فلذلك لا نكلفه ما كان من رأس المال، إنما يكلف بالشيء الفاضل عن رأس المال مما يكون حاصل، مثلما قلنا في حال الغني الحاصل والمتحصل في حال العمل، أو ربح التجارة، فإنه يعد تحصيلا. أن لا ينفق من ثمن بيع أملاكه قال رحمه الله: [وثمن ملك] . أي: لا يطالب بذلك؛ فلو أن شخصا عنده بيت يملكه، أو مزرعة، والمال الذي يتحصل عليه يوميا هو مائة ريال، والمائة ريال تكفيه وتكفي من تلزمه النفقة، وعنده أقرباء محتاجون، فقلنا له: أنفق على أقربائك، قال: المال الذي يأتيني أنفقه على نفسي وعلى من تلزمني نفقتهم، وليس عندي شيء زائد، فحينئذ يرد السؤال هل نطالبه ببيع مزرعته، ونقول: أنفقها على القرابة؟ لا، لا يطالب ببيع ما يملك. أن لا ينفق من ثمن آلة صنعته قال رحمه الله: [وآلة صنعة] . مثل أن يكون حدادا أو نجارا وقال: أنا دخلي المائة، وليس عندي إلا هذه الآلة أفأبيعها وأنفق على قريبي؟ نقول: لا يلزمك هذا. لكن لو فعل ذلك وآثر واجتهد ما لم يعرض نفسه وأهله للضرر؛ فهذا شيء آخر، لكن من حيث الأصل لا يلزمه أن يبيع آلته التي يتكسب بها ويطلب بها عيشه ورزقه. وهكذا لو كان عنده سيارة أجرة يتحصل بها على قوته وقوت أولاده، لا نقول: له بع آلة صنعتك وهي السيارة، وهكذا لو كانت عنده حراثة يحرث بها الأرض ويؤجرها للناس، لا نقول: بعها وأنفق على قرابتك. لكن كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إذا كانت هذه الآلة ويمكن الاستغناء عنها، أو كانت في حال الكمال ويمكن أن يجد آلة دونها، بحيث لو باعها واشترى ما هو أقل قيمة استطاع أن يسد به عجز أقربائه؛ فالأشبه أن يقال له ذلك، ولو كان عنده سيارة أجرة فارهة غالية ويمكنه أن يبيعها ويتحصل على سيارة أجرة عادية، وينفق بها على قرابة، فإنه يؤمر بذلك، من النظر إلى الفضل والكمال. وجوب النفقة على الورثة قال رحمه الله: [ومن له وارث غير أب؛ فنفقته عليهم على قدر إرثهم] . شرع رحمه الله في مسألة ثانية، فبعد أن عرفنا شروط الوجوب، وأنه لابد من: أولا: وجود السببية الموجبة للنفقة، وهي: أن يكون وارثا. ثانيا: أن يكون المنفق غنيا وعنده قدرة على الإنفاق، فيجد ما ينفقه فاضلا عن قوته وقوت من تلزمه مئونته. ثالثا: أن يكون الشخص الذي ينفق عليه عاجزا عن التكسب وفقيرا ليس عنده ما يسد به رمقه أو يكفي لعيشه. النفقة على القريب المحتاج على قدر الميراث منه لو مات إلا في الأب بعد هذا يرد السؤال كيف تنفق على هذا القريب؟ وما الذي تنفقه؟ وما الذي نلزمك به في النفقة؟ وهل أنت ملزم بكل النفقة أو ملزم ببعض النفقة، أو ملزم بقدر إرثك من هذا الشخص؟ هذه مسألة فيها تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وهذا إنما يتأتى إذا كان القريب عصبة وليس له عاصب مثله، فحينئذ يتمحض وينظر إلى وجوب النفقة عليه كاملة؛ لأنه لو انفرد في الإرث لحاز المال كاملا، فيقال له: عليك النفقة كاملة، وأما إذا كان القريب يشاركه غيره في منزلته أو يشاركه غيره ممن ينقص إرثه فرضا أو تعصيبا، انقسمت النفقة على قدر إرثهم. فبين رحمه الله أن النفقة في القريب على قريبه على قدر الإرث، لكن يستثنى من هذا الولد مع والده، فإنه ينفق عليه على قدر كفايته، أعني أن الوالد حينما ينفق على أولاده لا ينظر إلى قدر إرثهم منه، وإنما يسد حاجتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل سد العوز والحاجة لازما على الوالد تجاه ولده، فنوجب على الوالد في نفقته على ولده أن ينفق نفقة تامة كاملة بحيث لا يبقى عند الولد حاجة. لكن لو أن الفقير له قريبان غنيان أخوان، فحينئذ لو مات قسمنا المال بين أخويه، فكل أخ يأخذ نصف الإرث، كذلك أيضا في النفقة نطالب الأخوين النفقة على قدر حصصهما ونقول: كل منكما يدفع نصف النفقة، فبين المصنف رحمه الله أن القريب الوارث ينفق على قريبه المحتاج على قدر إرثه منه. وهذا عدل؛ كما أنه يغنم هذا القدر كذلك يغرمه؛ لأن الله يقول: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] . إذا اجتمع الذكر والأنثى من قرابة المعسر ولو أن هذا القريب المحتاج له أخ وأخت، ففي الإرث يكون للأخ الثلثان وللأخت الثلث؛ لأن الذكر له مثل حظ الأنثيين، والعجيب في مسألة الإرث أن الشريعة لما فضلت بين الذكر والأنثى صار فيها العدل؛ لأن الأنثى أضعف في الكسب من الرجل، وأيضا في الحمالة، فلما حمل الأنثى حملها دون الذي حمله الذكر، فأعداء الإسلام يخلطون الأمور، وينظرون من زاوية واحدة فقط، ولذلك إذا نقد أحد الإسلام في هذه الجزئية نقول له: نظرك قاصر؛ لأنه نظر إلى حالة الغنم ولم ينظر إلى حالة الغرم، وصدق الله في قوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] ، من هذا الذي يريد أن يستدرك على رب العالمين، وأحكم الحاكمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى! فهذا من العجز والقصور. ولذلك كانت الشريعة الإسلامية شريعة كاملة تامة شاملة، ربطت الأمور ببعضها. هناك من العلماء من يقول: لو اجتمع الوارث الذكر والأنثى أسقط الأنثى وألزم الذكر، وهذا أحد الأوجه عند الشافعية وغيرهم، ويقولون: إن علقة الذكر أقوى من علقة الأنثى، ولأن الذكر يتكسب والأنثى لا تتكسب -هذا في الأصل- ولذلك جعل الله النفقة على الزوج ولم يجعلها على الزوجة. ومن هنا تنظر كيف عظمة هذا الإسلام ودقته، وهنا نلمح حقوق المرأة الحقيقية المبنية على النظر إلى الحالة ودراسة أحوال الناس، وإعطاء كل شيء حقه وقدره، دون غلو أو مبالغة أو تزييف للحقائق، فهذه الحقوق الدقيقة المفصلة في الفقه الإسلامي لن تجدها في غيره؛ لأنها مبنية على شرع كامل تام؛ فبعض العلماء يرى أن على قدر الإرث ينفق الإناث، ويرى أنه إذا اجتمعن مع الذكور سقطن، فلو أن القريب له أخ وأخت يقول: أوجبها على الأخ ولا أوجبها على الأخت؛ لأن خطاب الشرع في التكسب موجه للذكور غالبا وهو الأصل، هذا وجه. وهناك وجه ثان يقول: يجب عليهما، ثم يختلف هذا الوجه الثاني على وجهين، فأصحاب هذا القول منهم من يقول: ويفرق بينهما على قدر الإرث، فيتحمل الذكر ضعف ما تتحمله الأنثى، ومنهم من يقول: يسوى بين الذكر والأنثى، لأن السببية جاءت من جهة القرابة. فالحنابلة يرون أن سبب وجوب النفقة على الأخ والأخت هو وجود الإرث، وذلك كقاعدة الغنم بالغرم، والربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنهم يأخذون في الإرث بهذا النصيب، ينبغي أن يتحملوا في النفقة بهذا النصيب، ويستدلون بقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ، وهذا المذهب أصح وأقوى؛ لأن الله لما أوجب نفقة الرضيع على من يرثه في حال موت أبيه وموت من ينفق عليه قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ، أي: عليه أن يدفع نفقة الرضيع؛ لأنه لو مات الرضيع ورثه، فجعل وجوب النفقة عليه، وإذا كانت السببية هي الإرث، فينبغي أن تقيد بنص القاعدة التي وضعها الشرع في الإرث، ومن هنا يترجح هذا القول الذي سلكه المصنف رحمه الله، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله، أن النفقة على قدر الإرث. قال رحمه الله: [فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد] . أي: لو كان له أم وجد؛ فإن الأم تأخذ الثلث فرضها، والجد يأخذ الثلثين فرضا وتعصيبا، ففي هذه الحالة يقولون: إذا افتقر وله جد وأم فإننا نوجب على الأم ثلث النفقة فقط والباقي على الجد، فإذا افتقر وهو يحتاج إلى ثلاثين ريالا فنقول للأم: ادفعي عشرة، ونقول للجد: ادفع عشرين، عليه الثلثان وعلى أمه الثلث، لأن أصل الإرث على هذا الوجه. قال رحمه الله: [وعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ] . وهكذا لو كان له جدة وأخ؛ يكون السدس للجدة فرضها في شرع الله عز وجل، ويأخذ الأخ الباقي وهي الخمسة الأسداس. فلو كانت النفقة ثلاثين ريالا نقول: ادفعي خمسة ريالات التي هي سدس الثلاثين، والباقي وهي الخمسة الأسداس على الأخ، فنقول للأخ: ادفع خمسة وعشرين، لأنه لو مات وترك الجدة مع الأخ وترك ثلاثين ريالا كان سدسها للجدة، وخمسة أسداسها للأخ، فما ظلم أحد، مثلما يأخذ الغنم يدفع الغرم. وهذا أتم وأكمل وأجمل وأبهى ما يكون من العدل، لا يستطيع أحد أن يستدرك على الشرع. ولذلك كان من أعدل المذاهب أن ينظر إلى قدر حصته من الإرث، لأن استحقاقه جاء عن جهة الإرث، ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، دل على أن الشريعة ترتب الربح على الخسارة، فالخسارة وهي وجوب النفقة؛ لأنه دفع من ماله، والإرث لا يأتيك بدون مقابل في الأصل، وقد يكون الشخص من أفقر خلق الله، ثم يموت له قريب فما يدري إلا والملايين قد دخلت عليه رضي أو لم يرض، مال ساقه الله إليه، لكن يتحمل أيضا عن وارثه مثلما يأخذ منه. قال رحمه الله: [والأب ينفرد بنفقة ولده] . ذكرنا أن الأب ينفرد بنفقة ولده ولا يقسم بين الإخوة، وإنما ينفرد الأب بنفقة ولده؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده قدر كفايته. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم نفقة الزوج على زوجته المريضة السؤال هل يجب أن ينفق الأخ على أخته المتزوجة المريضة، حيث إن نفقة المرض لا يلزم بها الزوج، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالعلاج من حيث الأصل فيه خلاف بين العلماء، هل الزوج يعالج زوجته أو لا؟ والصحيح من حيث الأدلة: أنه لا يجب على الزوج أن يعالج زوجته، لكن إذا كان هناك سبب يوجب العلاج؛ بحيث جاء المرض من جهة حملها لجنينه وجاء بالتبعية فإنه يجب عليه أن ينفق عليها. لا يجب على الزوج وليس بفرض عليه، ولكن من ناحية الأفضل والأكمل، وهو من المعروف والخير الذي لا يشك أحد في حسن الخلف والجزاء فيه من الله عز وجل، أن يضحي الزوج وينفق على زوجته، هذا من حيث الأصل. وينبغي على الإنسان أن يفرق بين الشرع والعواطف، فبعض الناس حينما يقال له: إن الزوج لا يجب عليه علاج زوجته، يستغرب وينكر، ولا يجوز لأحد إذا سمع حكما شرعيا أن يبادر بالاستغراب والتعجب؛ لأن الله إذا حكم لا يعقب على حكمه، فالزوجية رباط له حرمته وضوابطه، والشريعة لا تكلف أحدا إلا بأصول وقواعد صحيحة؛ الذي بين الزوجين أن الزوج يملك الاستمتاع من زوجته ويقوم على نفقتها، وما تحتاج من الأمور اللازمة. بعد ذلك ما يتعلق بجسدها من إصلاح حاله إذا مرضت وسقمت، فهذا أمر خارج عن أساس الزوجية في الأصل، ولذلك لم توجبه الشريعة. لكن لو كان المرض متعلقا بسبب من الزوج، وأن الزوج أمرها بشيء وترتب عليه هذا الضرر، أو فعل بها ما ترتب عليها بسببه هذا الضرر، فهذا شيء آخر. حتى الرجل الأجنبي لو أن شخصا عمل عنده، وألزمه بشيء وترتب عليه ضرر، فهذا شيء آخر، لكن نحن نتكلم على الأصل، فالأصل يقتضي أن الزوج ليس ملزما بعلاج زوجته. وبعض الباحثين من المتأخرين يقول: إن هذا حكم غريب في الفقه الإسلامي. وهذا ليس بصحيح، وإنما يجب على الشخص إذا ألزم الزوج بعلاج زوجته أن يحضر دليلا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينسب إلى الشريعة الشيء بالهوى وبالعادة وبالتقاليد، ولكن بنص الكتاب والسنة، والذي في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القيام على نفقة الزوجة بإطعامها وسكناها وتعهدها في كسوتها ونحو ذلك بالمعروف، وأما مسألة العلاج فهذا ليس بلازم كما ذكرنا، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وأشرنا إلى هذه الأدلة وبيناها. إذا ثبت هذا نقول ونكرر: إن الزوج الأفضل له والأكمل أن يضحي من أجل زوجته، وأن يحتسب عند الله سبحانه وتعالى ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيعه. وأما بالنسبة لنفقة الوارث والقريب فهي وجود الحاجة من الطعام والكسوة، مثلما ذكرنا في الزوج، لكن لو أن أخته احتاجت للعلاج، فمما لا يمكن للإنسان القريب أن تسمح له نفسه في حق الأخوة أن يترك أخته مريضة ولا يقوم بعلاجها ولا بمداواتها، لا يمكن أبدا إذا كانت نفسه أبية صالحة ولا يهنأ له عيش. والحمد لله فالفطر السليمة والنفوس تختار مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأفضل ما يكون التقرب وأبلغ ما يكون من الرضا من الله عن عبده إذا بدأ بأقرب الناس إليه. وقد يستغرب الإنسان إذا تأمل هذا؛ أنك تجد الشيطان لا يقعد لك في الرصد مثلما يكون فيما بينك وبين قرابتك، فتجد الإنسان أنشط وأقوى ما يكون مع الغرباء، وتجده يضحي من أجلهم حتى إنه يذهب لأحدهم يقضي له حاجته ويحس بنشوة إيمانية وراحة نفسية لا يعلمها إلا الله، لكن ما إن تأتي الحاجة لعم أو عمة أو خال أو خالة أو ابن عم أو ابن خالة أو قريب، إلا وجد دون ذلك من الحواجز والضيق والتعب والعناء والكراهية من نفسه ما الله به عليم؛ لأنها غاية وأمنية عظيمة، قد حفت الجنة بالمكاره؛ فلما عظم ثوابها وجل عند الله جزاؤها، وحسنت عاقبتها، صده الشيطان. حتى إن العبد لو غبر قدما واحدة من أجل أن يصل رحمه للسلام؛ فإن الله يبارك له في العمر والرزق، فما بالك إذا مد المال لكي يقضي دين القريب أو يعالجه من مرضه؟ لا شك أنه أكمل وأعظم، ولذلك قعد عدو الله بالرصد، فالشيطان يجعل الإنسان في هذا أضيق ما يكون إذا ذهب يعالج أخته. تقول له: أنا محتاجة إلى علاج، فتجده يختلق من الأعذار وتضيق به الدنيا، ويحس أنه في أكرب يوم، ويتثاقل يتثاقل حتى يقف على باب بيته، ثم تجده يتضايق ويصيح عليها ويحملها في سيارته وهي مليئة بالكلام الذي تكره معه معروفه، ثم يحملها إلى مكانها حتى يقضي لها علاجها، أو يقضي لها حاجتها، ثم يرجع وهو مكره، مشمئز النفس، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الحرمان. لكن لو أنه شعر أنه في أوج الرحمة، وأبلغ ما يكون في الرضا؛ لأن أولى الناس بخيرك أقرب الناس إليك، وإذا لم ترحم الأخت فإلى من تتجه بعد الله عز وجل، الأخت والأخ هم أحوج الناس إليك، خاصة بعد موت الوالدين، خاصة إذا كانوا أيتاما، وخاصة إذا كانوا قاصرين، وخاصة إذا بليت الأخت بزوج لا يرحمها أو لا يحسن إليها. فتكون في ظلها وكنفها دليلا لها، تشتهي مرضاة الله بإدخال السرور عليها، تشتري مرضاة الله عز وجل بقضاء حوائجها، تشتري مرضاة الله عز وجل بعلاجها ومداواتها، وتحتسب عند الله كل حركاتك وسكناتك وستجد أثر ذلك؛ ربما تجد العوائق أولا قبله، لكن والله ما إن تمضي قليلا منه إلا وجدت من الانشراح والبركة والخير ما الله به عليم، فإن ضاقت عليك الدنيا وسع الله ضيقها، وإن عظم عليك الكرب وجدت من الله تنفيسا، وإن زاد عليك الهم وجدت من الله تثبيتا، ومن أراد أن يجرب هذا فليجربه. من أبلغ ما تشترى به مرضاة الله عز وجل بعد بر الوالدين؛ الإحسان إلى الإخوان والأخوات، وكل يوم إذا استطاع الإنسان بل في كل ساعة، فضلا عن كل يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة، أن يسأل نفسه ما الذي قدمه لإخوانه وأخواته؟ متى زار الأخ والأخت؟ ومن أفضل وأكمل ما يكون الأخ الكامل الفاضل الذي يريد أن يشتري مرضاة الله عز وجل، والقريب الفاضل الكامل الذي يشتري مرضاة الله؛ ألا ينتظر من الأخ والأخت أن يعرض حاجته، ربما في المرة الأولى تجدهم يسألونك حوائجهم، ثم يرفعك الله إلى درجة أبلغ وأكمل، وهي أن تصبح أنت الذي تتفقد حوائجهم، وتجد الأخت في بعض الأحيان تريق دمعتها خجلا أمام أخيها من كثرة ما تجد من إحسانه وبره وملاطفته لها، حتى إنها توري أمورها وتغيبها، لأنه سما إلى مرتبة عالية. هناك من الإخوان من لا يبدو لإخوانه إلا إذا سألوه، فهو يعطيهم لكنه بمنزلة أقل، لكن الأكمل والأفضل هو الأخ الذي يذهب بنفسه يتفقد حوائجهم، والأفضل والأكمل الأخ الذي قضى حوائجهم حتى وصل إلى درجة الكمالات. وتصور الساعة التي تدخل فيها على الأخت خاصة؛ لأن النساء فيهن ضعف وحاجة وحنان ورحمة. والكلمة اليسيرة البسيطة عند المرأة تقع بمكان أبلغ من ملايين الأموال من شدة الحنان الذي تجده الأخت، فإذا دخل الإنسان، ومسح رأس ابنها وأدخل السرور عليها بكلمة طيبة، ووقف في ظلها وأخذها لحاجتها أو واساها في كربها، كم سيجد من الرحمات، وليجرب نفسه حينما يخلفها وراء ظهره، وقد رفعت كفها إلى ربها، وتوجهت بقلبها وقالبها إلى خالقها أن يجزيك بالحسنى في الدنيا والآخرة؛ لأنها تدعو من قلبها، وليس هناك أبلغ من دعاء القريب لقريبه، ولا أبلغ من وفاء وحب القريب لقريبه؛ الحب الذي لا تشوبه شائبة، ولا يدور حول المصالح، ولا تكدره الأكدار. الأخ يؤذي أخاه فيزداد بذلك محبة له، والأخ يهين أخاه فيذهب ليكرمه، لأن هذا شيء في القلب. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع ما وجد من قريش فإنه قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) . فالحاصل أن النفوس لا ترضى إذا وجدت من القرابة الحاجة إلا بمساعدتها، فليصبر الإنسان خاصة طالب العلم الذي يريد أن يفتح الله عليه في علمه، والقدوة كالإمام والداعية والمعلم والشيخ، ينبغي دائما أن يربأ بنفسه أن يكون في مرتبة قاصرة عن الكمالات، وليعلم أن الرحم تعلقت بالله سبحانه وتعالى، وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك) ، فرضيت من الله أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها. فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرزقنا صلة الرحم، وأن يجعلنا ممن وصله بصلتها، وأن يتقبل ذلك خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم. أنواع الإجارة في الحج السؤال من حج عن الغير بأموالهم، ماذا يفعل بالمال الزائد، أثابكم الله؟ الجواب الحج إذا كان بمال، فهذا يسمى عند العلماء الإجارة على الحج، والإجارة على الحج تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إجازة البلاغ: أن يقول لك: سأحج عن قريبك، أو أحج عنك وآخذ نفقة الحج، وحينئذ يستحق نفقة الركوب والطعام والشراب والسكن والهدي إن كان هناك هدي واجب بتمتع أو قران، فيستحق أربعة وجوه للنفقة، فإذا قال لك: أنا أحج على قدر نفقتي، فالإجارة صحيحة، ويسميها العلماء إجارة البلاغ. القسم الثاني: إجارة المقاطعة؛ يقول لصاحب الحج: أنا أحج عنك أو عن قريبك بعشرة آلاف ريال، إن زاد شيء أخذته وإن نقص شيء كملته، يعني آخذ منك عشرة آلاف وأتحمل الخسارة أو آخذ الغنيمة، فهذا فيه قولان عند العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه لا تجوز إجارة المقاطعة؛ لأن الحج ليس محلا للمعاوضات، لأنه عبادة وليس محلا للمزايدة والبيع والشراء، فبناء عليه نقول: خذ ما يكفيك بالمعروف ذهابا وإيابا، وتقدر نفقته من خروجه إلى مكان عودته إلى أهله. وأما بالنسبة للمسألة المذكورة، فإذا كان إجارة مقاطعة على القول بجوازها فإنه يأخذ الزائد. وهذا قول ضعيف، وعلى القول بعدم جوازها -وهو الصحيح- فيجب عليه أن يذهب إلى صاحب الحج، ويقول له: زادت ثلاثة آلاف ريال أو زاد ألف ريال، فإن قال: سامحتك أو هي لك، فلا بأس بأخذها؛ لأنها ليست على سبيل إجارة المقاطعة، وإنما صارت هبة زائدة عن أصل التعاقد بين الطرفين، والله تعالى أعلم. حكم استئجار بئر الماء السؤال ما حكم استئجار البئر، أثابكم الله؟ الجواب أولا: مسألة بيع فضل الماء معروفة، وفيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ) . فإذا كان هناك آلة ترفع الماء أو استأجر من ينزح الماء؛ يجوز له بيع الماء. فإذا جاز له بيع الماء، صار الماء هو عين المبيع، فلابد من معرفة قدره، وهنا ما يبيعه مجهول القدر. بل لابد وأن يقول: أبيعك مثلا الوايت الموجود سعة كذا كذا لترا، أو أبيعك مثلا هذا الخزان وأملأ لك ماء من هذه البئر تذوقها وتعرف طعمها بمائة ريال، فهذا جائز. فالوايت الآن يأتي بالماء من بعيد ويتكلف ويقول لك: الوايت بسبعمائة. فلا بأس بذلك، لأنه أخذ أجرة تعبه وتحصيله، لكن لو قال: أبيعك الماء في البئر على أن تسحب منه يوما لم يصح؛ لأن بعضهم يعتبره من إجارة الزمان؛ لكن الواقع أنه بيع عين، ونحن لا ندري كم الناتج في اليوم، فلابد من تحديده، يقول مثلا: خمسة وايتات من سعة كذا وكذا، لأن البيع يشترط فيه معرفة قدر المبيع، وهذا مما يحتاج إلى معرفة قدره دفعا للغرر؛ لأن جهالة القدر توجب فساد البيع. ولذلك ثبت في صحيح مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة) ، وبيع الحصاة عند العلماء أصل من الأصول في تحريم البيع للأشياء المجهولة القدر، وقد كان ذلك في القديم، ومن صوره أن يقول: أبيعك من أرضي هذه ما انتهت إليه حصاته بمائة، فلا ندري هل هو بعيد أو قريب؟ فهنا جهالة قدر، فلما جهل القدر حرم البيع. ومن هنا فكل شيء له قدر ويمكن ضبطه بالقدر، ووقع البيع عليه دون تحديد لذلك القدر، فلا يجوز لأنه من بيع الغرر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر وغيره رضي الله عنهما: (أنه نهى عن بيع الغرر) . وبناء على ذلك نقول: حدد المبيع من الماء من البئر، فيقول له: القدر عندي مائة لتر بألف ريال، كل لتر بعشرة ريالات، وهكذا يحدد قدر المبيع، هناك من يقول: هذه إجارة تدخل في إجارة الزمان، لكن هذا بعيد. والأشبه من قال: إنه لابد من تحديد القدر، والله تعالى أعلم. حكم التصرف في أوقاف المسجد إن كانت معطلة السؤال ما حكم الاستفادة من حاجيات المسجد، كالمكيفات والسجاد في مصالح خيرية أخرى، كوضعها في مدارس التحفيظ أو سكن الإمام أو بعض أمور الدعوة، علما بأن هذه الحاجيات لا تستعمل في المسجد؛ نظرا لاستبدالها بأخرى، وهي ملقاة في مستودع المسجد، أثابكم الله؟ الجواب هذا السؤال يحتاج إلى أمور ينبغي التنبيه عليها: أولا: المساجد إذا كانت مرتبطة بجهات تتحمل المسئولية عنها، فهي المسئولة عنها أمام الله عز وجل، وهي التي تنظر في مصالحها، وتقوم بصرف حوائجها على حسب ما يقتضيه الأمر كما هو معلوم، ولذلك لا يتدخل الأفراد إلا عن طريق هذه الجهات المسئولة عن هذه الأشياء إذا كانت في المسجد خاصة، فينبغي أن يعلم أن كل شيء في المسجد أوقف عليه ينبغي أن يبقى في المسجد، ولا يجوز إدخال الأشياء الجديدة، وإخراج القديمة طلبا للأكمل والأجمل والأفضل؛ لأن أي شيء يوقف فمعناه: أنني أخرجته من ملكي صدقة لله عز وجل، ولذلك لا يملك أحد ذلك الشيء. ومن هنا لا يجوز بيع الوقف ولا هبته، ولا شراؤه؛ لأنها خلت اليد عن الملكية، حتى ولو قال: هذا المسجد ملك لي، نقول: ليس ملكا لك؛ لأنك أوقفته لله، وبناء على ذلك فصاحب المسجد لا يملك المسجد؛ لأنه خرج بالوقفية لله عز وجل والتسبيل، ومن هنا قال ابن عمر رضي الله عنهما في حديث عمر الذي هو أصل الأوقاف كما في الصحيحين: (فتصدق بها عمر رضي الله عنه إلى أن قال: على أن لا يباع أصلها) أي: لا يباع أصل الرقبة المسبلة من حد السهم. فهذا أصل عند العلماء، فإذا كان في المسجد مكيف أو مصاحف أو كراسي المصاحف، أو فراش أو ساعات أو إضاءة وأنوار، فإنها تترك كما هي حتى تتلف وتتعطل تماما، لأنها موقوفة ومحبسة على هذا المسجد، ومن أوقفها وحبسها يريد ثوابها عند الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يأتي ويقطع أجره وخيره، ويقول: أنا أريد أن أحدث فراشا جديدا، فالمساجد ليس محلا للمباهاة، هذه المساجد المقصود فيها صلاح القلوب والقوالب والتوجه إلى الله عز وجل، ولو كانت مفروشة بالحصى. فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشا، ولم يكن مزينا ولا منمقا، صلوات الله وسلامه عليه، هذه أماكن عبادة، وأدخل الله عز وجل إليها الأغنياء والأثرياء وهم في أوج غناهم وثراهم لكي يذلوا بين يدي ربهم عز وجل بالسجود على الأرض ولو كانت ترابا، ويذلوا بين يدي الله عز وجل حينما ينكسر كبرياؤهم فيصلي عن يمينهم الفقراء وعن يسارهم الضعفاء، ليست أماكن مباهاة. وهذا مقصود الشرع فيها. ولذلك كان من علامات الساعة المباهاة بالمساجد فيما ورد في أكثر من أثر، ومن هنا مسألة الغلو؛ فكلما وجدنا شيئا قديما في المسجد سحبناه وأتينا بشيء جديد، ليس المسجد محلا للتنافس في هذه الأمور التي يقصد بها الكمالات، لكن لو تعطلت مصلحة هذا الشيء فأصبح المكيف لا يشتغل، فإن أمكن تصليحه يصلح، ونقول للشخص: إذا أردت أن تتصدق فأصلحه حتى يكون صدقة عليك وعلى صاحبه الذي أدخله، وحينئذ تنصح لعموم المسلمين وتنصح لإخوانك المسلمين الذين تقدموا، تريد أن تشتري شيئا جديدا اذهب وابحث عن مسجد لا يوجد فيه مكيف واشتر له. أما أن تأتي إلى هذا المسجد المسبلة فيه هذه الأوقاف وتتصرف فيها بهذا فلا. ثانيا: الصرف إلى الجهات الخيرية الأخرى، هذا أمر استثناه بعض العلماء في مسائل ضيقه تحتاج إلى حكم القاضي، إذا تعطلت مصلحة الوقف في جهة من أوجه الخير، ولها جهة تشبهها صرفت إليه، وهذه المسألة اختارها بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: لا يصرف إليه، بل يبقى حتى ولو تعطلت مصالحه لأننا لا نملكه، ولا يملك أحد التصرف فيه، واختاره جمع من المحققين كـ شيخ الإسلام في أكثر من مسألة، أنه إذا تعطلت مصلحة الوقف أو كان الوقف على محرم صرف إلى الأشبه، مثلا لو أوقف على بدعة أو ضلالة صرف إلى طلاب العلم؛ لأنه لما أوقف على البدعة كان يظنها قربة، فننظر إلى الشيء المثيل لها في الذكر ونصرفه إلى طلاب العلم، حتى تصرف في وجهها المعتبر، هذا يختاره بعض العلماء؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال؛ فبدلا من تعطيل الوقف وإهماله يعمل أفضل من أن يكون باطلا من أصله ولا يعمل. على كل حال من حيث الأصل أوصي الإخوان ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأوصي الأئمة وجيران المسجد أن يتقوا الله في مصالح المسجد الموقوفة عليه، وأن يجتنبوا الأمور المبالغ فيها، فالبعض يظن أنه يتقرب بهذا إلى الله عز وجل حينما يقول: نكيف بيت الله عز وجل، وإذا ما أصلحنا بيت الله فما نصلح وكذا. لا يعمر المسجد شيء مثل ذكر الله: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، أول ما ذكره الله عز وجل الذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والتواد والتعاطف والتراحم، لا تعمر المسجد بشيء أعظم من الإيمان بالله عز وجل. وإذا أردت أن تكون من عمار المسجد حقيقة فانظر إلى أمرين اثنين هما أساس بناء المساجد، أولا: أنك إذا دخلت المسجد تدخل بتوحيد الله حتى تخرج منه وفي نفسك من الإيمان حينما خرجت أعظم وأسمى منها يوم دخلت، فإذا فعلت ذلك فوالله قد عمرت بيت الله عز وجل وجزيت خيرا على ما صنعت، ولن يضع الله أجر من أحسن، فمن أخلص بالتوحيد، هذا أول شيء تعمر به المسجد. ثانيا: تعمر المسجد بحقوق إخوانك المسلمين، إذا أصبحت مساجدنا مزينة منمقة جميلة، وأصبح الرجل يدخل المسجد ويخرج من المسجد ولم يصافح أخا له مسلما، وإذا أصبحت مساجدنا جميلة منمقة ويجلس الإنسان في المسجد ساعات، وهو لم يتعرف على أخ مسلم، ولم يدخل سرورا على أخ له مسلم، فأين عمارة المساجد؟ إن الله عز وجل يجمعنا في اليوم خمس مرات على مستوى الحي، ويجمعنا في الجمعة من خارج المدينة مع من يأتي من أهل البادية لكي يتعرفوا على الحاضرة، ثم يجمع الأمة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها في العام مرة واحدة في الحج، فإذا كانت المساجد تسري على هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة؛ عمرت وازدانت وجملت، وازدانت بعظيم الحسنات. كيف تعمر المسجد لما يكون الفقير إذا دخل إلى المسجد وجد من يواسيه ويكفكف دمعته، ويقضي حاجته، ويبدد بإذن الله همه وغمه وكربه أحب المسجد وأحب بيت الله، وعرف بركة الطاعة والخير، وإذا أصبح كبير السن يدخل للمسجد فيجد صغار المسلمين يقبلون رأسه ويجلونه ويحبونه ويكرمونه ويدخلون السرور عليه حتى نسي همه وغمه، وعاش بكرب من فراق إخوانه وأقرانه، فوجد من إخوانه المصلين الراكعين الساجدين من يتبسم في وجهه، فيمسح عنه دمعته، ويجلي عنه همه وغمه بإذن الله عز وجل حتى أصبح يعود إلى المسجد، حتى إن الرجل تجده من أشد الناس مرضا وسقما، لكن إذا قيل له: تذهب إلى المسجد، يفرح وينتشي؛ مما يرى فيه من وجوه الخير وأخلاق الإسلام السامية والكاملة، لكن إذا أصبح يدخل المسجد ويخرج ولا يرى أخا ولا صديقا، وإخوانه ذهبوا، وأصبح الناس ينظرون إليه وكأنه كل على غيره، يحمل ويوضع، ولا يجد عطفا ولا رحمة ولا شفقة، فعندها يمل من المسجد -أستغفر الله العظيم- أو يأخذ برخصة الله عز وجل ويقبع في بيته، ويقول: حتى لا تشمت بي الأعداء، وكأنه ينظر إلى الناس كأنهم أعداء. فهذه هي الأمور التي تعمر بها المساجد، لا تعمر بالقيل والقال، ولا بأمور الدنيا ولا بزينتها، فوالله ما كانت مساجد رسولنا صلى الله عليه وسلم مضاءة إلا بأنوار التنزيل، وهذا لا يعني أننا نترك متاع الدنيا وزينتها، بل نقول: لا مانع أن يوجد الخير وأن تزين المساجد، لكن شريطة ألا تكون فيها الزينة التي تلهي عن ذكر الله. لكن لو بنى مسجدا وأحسن بناءه فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) . كما في الحديث الصحيح، والقطاة: طائر معروف، وهو طائر صغير لا يذكر. فانظر كيف أحب الله عمارة بيوته، فمن عمر هذه المساجد بنى الله له قصرا في الجنة، فنحن لا نقلل من بناء المساجد، ولكن نقول: بشرط ألا يكون على حساب حقوق الناس أو على حساب الأصول الشرعية المراعاة في الأوقاف، خاصة إذا كان إمام المسجد يسحب المكيف من المسجد لأجل أن يجعله له، هذا لا يمكن، لأن النفع للجماعة ليس كالنفع للفرد، وهذه الأمور كلها ينبغي أن يجتنبها الإنسان تحصيلا للأصول العامة المعتبرة في الأوقاف، والله تعالى أعلم. الوقت الذي تستباح به رخص السفر للمسافر السؤال من كان مقيما وأراد السفر وقت الظهر، فهل يجوز له أن يصلي العصر قصرا؟ الجواب رخص السفر لا تستباح إلا بعد خروجك من آخر عمران المدينة، فإذا أذن الظهر وأنت في بيتك وعندك نية للسفر، فلا عبرة بالنية؛ لأن الله يقول: {أو على سفر} [البقرة:184] ، فلابد وأن تكون على سفر، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر) أي: في حال الحضر، فأنت في حال الحضر ولست في حال السفر. ومن هنا يجب أن يكون العمل بهذه الرخص بعد ثبوت حججها، والموجب أن تكون على السفر، ولا توصف بأنك على سفر إلا إذا اجتمع فيك الظاهر والباطن. وبعض الفقهاء ينظر إلى الباطن ويغفل الظاهر، فيقول: أنت عندك نية، وهذا يكفي، وبعض العلماء يقول: لابد من النية مع الظاهر، لتعلق العبادة بهما، وهذا هو الصحيح، ولذلك لا تترخص بالجمع ولا بالقصر إلا بعد الخروج من العمران، لكن لو أذن المؤذن وأنت لم تخرج من آخر بيت من المدينة؛ فإنه يجب عليك أن تصلي الظهر أربعا والعصر أربعا والعشاء أربعا، لكن لو خرجت وبعد مجاوزتك لآخر بيت في المدينة أذن المؤذن صليت الظهر ركعتين والعصر والعشاء ركعتين ركعتين لأنك على سفر. فالسبب أنه لو أذن الظهر وعندك نية للسفر ولم تخرج من المدينة، فقد توجه عليك الخطاب بأربع ركعات ولم يتوجه بركعتين، لأنك في الحضر ولست في السفر، ولذلك قالت: (فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) ولما قالت: أقرت في السفر، ليس من الصواب أن ننظر إلى الباطن ونلغي الظاهر، وحديث: (إنما الأعمال بالنيات) مقيد بالظاهر؛ لأنه قال: (على سفر) لذلك لا ينظر إلى حال الإنسان إلا إذا اجتمع فيه الظاهر والباطن. وهذا مذهب الجمهور عملا بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لحجة الوداع وغيرها من أسفاره صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر في ذي الحليفة ركعتين، مع أنه كانت عنده نية للسفر في نفس اليوم، وما ورد عن بعض الصحابة من أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة فقد كانوا يجتهدون مثل عدي بن حاتم لما وضع العقالة، فكان هذا فهمه، لكن ظاهر السنة والفقه بالتحري كما هو مذهب الجمهور والأئمة أنه لابد من وجود الظاهر والباطن في رخص السفر، {فمن كان منكم مريضا أو على سفر} [البقرة:184] . ولما قال: (على سفر) كان له معنى في اللغة، وهذا أبلغ من قول من يقول من العلماء: ومن كان منكم مريضا أو مسافرا، وإنما قال: (على سفر) ، وهذا يدل على أن حالته حالة سفر، ومن هنا ظاهر القرآن أسعد بالقول بوجود الظاهر والباطن من أجل الحكم برخص السفر، فيخرج من آخر العمران في المدينة وحينئذ يحكم بكونه مصليا صلاة المسافر أو صلاة المقيم على حسب الخروج وعدمه. والله تعالى أعلم. الجمع بين لغو اليمين وإنشائه السؤال كيف يجمع بين قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة:225] ، وقوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة:224] ، أثابكم الله؟ الجواب لغو اليمين مختلف في تفسيره، قال بعض العلماء: أن يحلف على الشيء يظنه صوابا فيتبين أنه غيره، فهو لغو أي: لا كفارة فيه. وهذا مأثور عن ابن عباس رضي الله عنه، كأن ترى رجلا من بعيد، فتقول: هذا محمد، فقال لك قائل: لا، هو علي. تقول: والله إنه محمد، فأنت حلفت على شيء تظنه بغلبة الظن، والحالف على غلبة الظن إن تبين خطؤه كان قوله لغوا لا كفارة فيه. فقوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة:225] أي: مؤاخذة التكفير، هذا على التفسير بأنه يحلف على شيء يظنه. فآية المائدة في قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة:225] من جهة إيجاب الكفارة بضمان حق الله عز وجل. أما قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة:224] ، فمن جهة الحلف نفسه، وإنشاء اليمين، يعني: أن الإنسان لا يحلف كثيرا بالله عز وجل، وهذا من باب تعظيم الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يتقي الحلف بالله عز وجل بارا أو غير بار. وابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبد من عبيده باعه، فادعى الرجل أن فيه عيبا واختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقال للرجل: هل عندك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فقال لـ ابن عمر أن يحلف، قال له ابن عمر: لا أحلف، ولكن أرد العبد وأعطيه المال. كل هذا من باب تعظيم الله عز وجل، لا يريد أن يحلف بالله عز وجل، فلما رد العبد باعه بأضعاف قيمته بعد ذلك، فعوضه الله خيرا مما ترك، وهذا من تعظيم الله؛ لأنه لا يعامل أحد ربه إلا كان له الخير في دينه ودنياه وآخرته. فقوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة:224] هذا المراد به الإكثار من حلف اليمين، والنهي عن الإكثار منها، هذا في الإنشاء والثاني في الأثر، وحينئذ فلا تعارض. يعني تقول: نجمع بين الآيتين إذا وجد تعارض، لكن إذا كانت إحدى الآيتين في شيء والآية الأخرى في شيء آخر فلا تعارض بينهما أصلا، ولا يجمع بين شيئين مفترقين، وبناء على ذلك لا تعارض بينهما من هذين الوجهين. والله تعالى أعلم. حكم إهداء العامل من أملاك سيده السؤال عامل يعمل في دكان سيده، فهل يجوز له أن يهدي من هذا المحل، وهل يجوز لي أن آخذ من هذه الهدية، أثابكم الله؟ الجواب العامل ليس ملكا لصاحب الدكان، وإنما بينهما عقد إجارة، فينبغي دائما أن يعلم الإنسان أن المسلم ليس بالرخيص، ولا بالهين، لا للونه ولا لحسبه ولا لنسبه، ويعلم أن الإسلام شيء كبير، وأن للناس حقوقا في أعراضهم وكرامتهم، ولا تحسبن أعراض الناس سهله؛ أو أن الناس إذا كانوا غرباء أو ضعفاء فليس لهم حقوق، بل اعلم أن الإسلام قد سوى بينك وبينه، عاملا أو غير عامل، ولو كان فقيرا فقرا مدقعا. ولذلك جبلة بن الأيهم لما كان يطوف، فوطأ الأعرابي طرف إزاره فسقط الإزار، فلطم جبلة الأعرابي في داخل المطاف، فاختصما إلى عمر رضي الله عنه، فقال لـ جبلة: كتاب الله القصاص، يلطمك مثلما لطمته، فقال: يلطمني هذا الأعرابي؟ قال: نعم، يلطمك كما لطمته، فإن الإسلام قد سوى بينك وبينه، وكان من ملوك العجم، من أصحاب العزة والمكانة في الروم، فقال له: أنظرني ليلتي. وهذه من قصص العبر التي ذكرت في التاريخ الإسلامي. وأنبه على أنه كان من منهج العلماء أنهم لا يطبقون عليها موازين الجرح والتعديل، والآن كل يوم يأتي من يقول: هذه قصة لا تثبت. هذه القصص التي تقال للاعتبار، كما قال الإمام أحمد: كنا إذا ذكرنا التاريخ تساهلنا، وتجد اليوم من يقولون: لا تثبت، فيطعنون فيها، حتى أنك تجد مبتدئين من الطلاب حينما يمسك (البداية والنهاية) لـ ابن كثير يهينها وينقص من مكانتها، لأنه سمع أن فيها قصصا لا تثبت، ولما يحضر للشيخ محاضرة ويسمع عنده قصة لا تثبت، يسقط الشيخ من نظره، فهم يفسدون أكثر مما يصلحون، موازين الجرح والتعديل معروفة أين تطبق، لذلك ما وجدنا الحافظ ابن كثير والأئمة والعلماء يشتغلون بنقد مثل هذه القصص، ويخرجون قصصا لا تثبت في أشياء يقصد منها الاتعاظ والعبرة. الشاهد أنه لطمه لطمة، فقال له: أيلطمني هذا الأعرابي، قال: إن الإسلام قد سوى بينك وبينه. ولو كنت في أعز الناس فأنت معه في الإسلام في قدم واحدة ومكانة واحدة. قال: دعني أنظر ليلتي. ثم إنه ارتد، كما جاء في الخبر أنه انسحب بمن معه وارتد، وكل هذا من أجل عزة الإسلام. ولما وقعت قصة القبطي مع ابن لـ عمرو بن العاص، لما قال: خذها وأنا ابن الأكرمين، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص أن يوافيه الموسم ومعه ابنه، فلما جاءه وقدم عليه، قال: هذا الذي ضربك؟ قال: نعم، قال: دونك فاضربه، فقام وضرب ابن عمرو كما ضربه، فقال عمرو بن العاص: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: وجهها على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين! أما أنا فقد ضربت من ضربني، فقال عمر رضي الله عنه مقالته المشهورة: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا! فالإسلام سوى بين الناس، فلا يظن أحد أنه إن كان عنده عامل أو أجير أنه قد ذهب حقه وقدره؛ لأنه يعمل، ووالله إنه في قمة الشرف ما دام أنه تغرب للقمة العيش التي يريد بها أن يعف بطنه وأهله وولده وزوجه، وأيضا يريح نفسه من ذل السؤال، فهذا كريم شريف عزيز جدا، ولذلك لا يحق لك أن تصف صاحب العمل بأنه سيد له، لا والله فالسيد هو الله، وهو رب كل شيء ومالكه، وهو العزيز الذي ذل له كل عزيز، سبحانه وتعالى، فهذا أمر مهم جدا، وينبغي على طلاب العلم والأخيار ألا تأخذهم سفاسف الناس ومحقراتهم فيخاطبوا الناس بمثل هذه العبارات. فينبغي أن تحفظ للناس حقوقهم وكرامتهم، وأن لا ينظر إلى الناس بألوانهم وأحسابهم، ولا بحوائجهم وضعفهم. كما قال صلى الله عليه وسلم ينبه الأمة: (رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع على الأبواب، لو أقسم على الله لأبره) فلو قصد السائل بقوله: (سيده) يعني: صاحب الدكان، فهذا ممكن، لقوله تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} [يوسف:25] وهي زوجة، والسيد في لغة العرب يطلق بمعنى صاحب الشأن، ومن هنا تجد بعض الناس يقول لك: يا سيدي، وليس قصده أنك سيد له، ولذلك تجد في كل بيئة كلمة لا يراد بها حقيقتها، وعندنا ينتشر كلمة: (يا شيخ) مع أن كلمة (شيخ) إجلال، وكذلك كلمة: (سيد) إجلال، لكن لا يقصد منها المعنى، فإذا قصد السيد بهذا بمعنى صاحب الشأن فلا بأس. على كل حال: إذا كان العامل يهدي من ماله، وكانت الهدية قليلة لا تضر بالمال كتب الله له أجرين، أجرا للمهدي وكتب لصاحب المال أجره، والأفضل أن يستأذن صاحب المال، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، إذا كان عبدا كما في الموالي، وكان أجيرا وأعطى دون أن يضر؛ فهذا استثناه العلماء، وخاصة إذا جرى بهذا العرف. مثال: جرى العرف أنه إذا اشترى شيئا أعطى هدية منها لغيره، وجرى هذا العرف بين الناس من باب الإحسان والكرم، فلا بأس إذا أعطاه هذا الشيء، فإذا أعطى العامل في الدكان هذا الشيء كتب الله له الأجر، وكتب لصاحب الدكان أجره، فله مثل أجر صاحب الدكان؛ لأنه أعطى وبذل ويده يد إعطاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده) يعني لأنهم كانوا عبيدا وموالي (له مثل أجر صاحبه) ، فهذا كرم من الله وفضل. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بفضله وإحسانه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (482) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [3] من موجبات النفقة على شخص أن يكون المنفق من الوارثين، وتكون هذه النفقة بقدر ما يستحق من الميراث، ومن وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه نفقة من يعول؛ ولا نفقة عند اختلاف الدين إلا بالولاء أو الوالدين. وتلزم الوالد نفقة ولده، ومن ذلك أجر المرضعة، ولو طلبت أمه إرضاعه بأجرة المثل فلها ذلك، ولا يصح منعها لأنها أولى به. إذا كان القريب الحاجب معسرا والمحجوب موسرا لم تجب النفقة على أحدهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن له ابن فقير وأخ موسر؛ فلا نفقة له عليهما] . تقدم أن الوارث يقوم بالنفقة على قريبه، وأن الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أقوى القولين عند أهل العلم رحمهم الله: أن النفقة تكون مقدرة على حسب الإرث، وأن هذا متفق مع أصول الشريعة؛ لأن الغنم بالغرم، فكما أنه ينال من مورثه قدر تلك الحصة فينبغي أن يتحمل من نفقته قدرها، والوارث له حالتان: الحالة الأولى: أن يرث فرضا أو تعصيبا. والحالة الثانية: أن يكون محجوبا. وبناء على ذلك شرع المصنف رحمه الله في تفصيل الحكم بكون الوارث ينفق على قريبه على حسب الميراث؛ إذ يتفرع على هذا الحكم أنه لو اجتمع شخصان أحدهما يحجب الآخر، فهل تجب النفقة عليهما بناء على أنهما من الورثة من حيث الوصف العام، أم أننا نطبق قواعد الإرث ونقول: يحجب الأقرب الأبعد، فتجب النفقة على الأقرب ولا تجب على الأبعد؟ والثاني هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، واستثنينا من هذا عمودي النسب، وبينا وجه الاستثناء وذلك في مسألة الجدة. وبين رحمه الله مثالا على القريب الذي يحجب قريبه، فقال: [فإن كان له ابن فقير وأخ موسر] فاجتمع اثنان من الورثة أحدهما الابن والثاني الأخ، وكل من الابن والأخ ميراثه بالتعصيب. لأن الإرث ينقسم إلى فرض وتعصيب، فأصحاب الفروض فروضهم مقدرة في كتاب الله عز وجل، وهي الستة الفروض المنصوص عليها: النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف نصفه وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصف نصفهما وهو السدس، فمن كان يرث فرضا وله النصف يتحمل نصف النفقة، فلو كان هناك فقير وله وارث وجبت النفقة على هذا الوارث، وإذا كان يرث النصف فإنه يجب عليه أن ينفق عليه نصف نفقته، ولو كان له وارث يرث الربع فكذلك، ولو كان له وارث يرث الثلثين أو الثلث أو السدس فكذلك، وقد تقدم ذلك في مسألة الجدة. واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواهما البته نصف، وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذا بالنسبة للفروض المقدرة، نجعل وجوب النفقة فيها على حسب قدر الإرث. وإذا كان تعصيبا يأخذ الباقي، إن كان معه ذو فرض حكمنا بوجوب النفقة عليه على قدر حصة ذي الفرض، ثم الباقي وهو الواجب بعد الفرض يكون للعصبة. فالأخ والابن من العصبة، والابن لو انفرد أخذ المال كله، والأخ لو انفرد أخذ المال كاملا كما هو معلوم، فلو اجتمع ابن وأخ، وكان الابن فقيرا والأخ موسرا، ف السؤال أن الأخ لا يرث مع وجود الابن، والأصل في النفقة أنها واجبة على الابن؛ لأن الابن يحجب الأخ. فالذين يرثون بالتعصيب العصبة من جهة الأصول وفروع الأصول، وأيضا تكون من جهة الفروع، والعاصب يكون الأب وأباه وإن علا، والأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب، والعم الشقيق والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، فهؤلاء هم عصبة الإنسان القرابة الذين لو انفرد أحدهم أخذ المال كله، فلو مات ولم يترك إلا ابن عم شقيق فإنه يأخذ المال كله، فلو افتقر وليس له إلا ابن عم شقيق أوجبنا عليه جميع النفقة؛ لأنه عاصب لو انفرد أخذ المال كله. حتى لو اجتمع العصبة مع الغير مثل الابن مع البنت، فلو أن والدا افتقر وعنده ابن وبنت، فمذهب الحنابلة رحمهم الله أنه لو افتقر الأب وعنده بنت وابن ويحتاج إلى ثلاثين ريالا، أوجبنا على الابن العشرين وعلى البنت العشرة، على قدر حصصهم من الإرث. وهناك مذهب يقول: إنه لا تجب على البنت النفقة، وإذا اجتمع الذكر والأنثى غلب جانب الذكر، وهذا لحكمة من الله عز وجل، أن جعل الكسب والنفقة في الأصل واجبا على الذكور، وهذا هو أحد الأوجه عند الشافعي رحمه الله، لكن الصحيح أن الله تعالى قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] فأوجب نفقة الرضيع على الوارث، وجعل صفة الميراث مؤثرة في الإيجاب فقال: (وعلى الوارث) ، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نجعل نصيب الوارث في النفقة على قدر نصيبه من الإرث. في مسألتنا هنا مثل المصنف رحمه الله بمثال، وهو: أن يجتمع اثنان من الورثة كل منهما لو انفرد لوجبت عليه النفقة كاملة وهما الابن والأخ، وكل منهما لو انفرد لأخذ المال كله، فلو مات وليس له إلا ابن ذكر فإن الابن يأخذ المال كله تعصيبا، ولو مات وليس له إلا أخ فإنه يأخذ المال كله تعصيبا، هنا يرد السؤال: إذا كان الابن -وهو الأقرب- معسرا وليس عنده قدرة على النفقة، والأخ -وهو الأبعد- موسرا وعنده قدرة على النفقة، فعلى من تكون نفقة الرجل؟ إذا طبقت أصول الميراث فإن الابن يمنع الأخ من الميراث الذي يسمى في مصطلح الفرائض بالحجب، والحجب حجب نقصان وحجب حرمان، فحجب النقصان مثل الابن يحجب الزوجة حجب نقصان فيجعلها بدل أن تأخذ الربع تأخذ الثمن، لكن لا يحجبها بالكلية، وحجب الحرمان يمنع الوارث غيره بالكلية فلا يرث، والحجب بين الابن والأخ من حجب الحرمان؛ لأن العصبة تقدم بالجهة ثم القرب ثم القوة. فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فالعصبة يقدمون على هذا الترتيب، فالابن لو اجتمع مع الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب حجبهم حجب حرمان، وهنا النفقة واجبة في الأصل على الابن، ووجوده يمنع إرث الأخ فيسقط النفقة عن الأخ، فبعض العلماء يقول: ما دام أنه فقير ينتقل الحكم إلى الأخ؛ لأنه موسر، ويكون وجود الابن وعدمه على حد سواء. وفي الأصول الشرعية أنك إذا اعتبرت أصول الميراث فإنه يسقط وجوب النفقة عن الأخ لوجود الابن، ويسقط وجوب النفقة على الابن لكونه معسرا، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] وقد ذكرنا أننا لا نحكم بوجوب النفقة على القريب إلا إذا كان قادرا، والابن غير قادر فتسقط النفقة عنه وعن الأخ. وفي هذا الحال إذا سقطت عن الوارث فإنها تنتقل إلى بيت مال المسلمين على تفصيل آخر، لكن من حيث الأصل فإن المصنف قصد من هذا المثال أن يبين أنه إذا اجتمع الوارثان وأحدهما يحجب الآخر، وكان الحاجب لم يتوفر فيه شرط وجوب النفقة سقطت النفقة عنهما: سقطت عن القريب الأقرب لكونه معسرا ولعدم تحقق الشرط فيه، وسقطت عن الأبعد لوجود الأقرب. وجوب النفقة على الجدة إن أعسرت الأم قال رحمه الله: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة؛ فنفقته على الجدة] . هذا من باب أنه يستثنى عمودا النسب؛ لأن النفقة متأصلة فيهما، فنفقة الفرع لازمة على الأصول، وقد بينا هذا وبينا دليله وإجماع العلماء على أن الولد يجب على والده أن ينفق عليه. في المثال السابق حجب الابن الأخ، وهنا الأم تحجب الجدة؛ لأن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إن وجدت، والجدة تدلي بواسطة الأم، والأم تحجب الجدة بالإجماع، وبناء على ذلك لو كانت الأم فقيرة والجدة موسرة فنقول: ينتقل وجوب النفقة إلى الجدة، وهذا مستثنى من الأصل الذي ذكرناه؛ لأن عمودي النسب تجب عليهم النفقة على الأصل الذي ذكرناه، وهذا خاص بعمودي النسب، فيجب على الجدة أن تنفق على ذلك الولد. النفقة على القريب المعسر وعلى من تلزمه نفقته قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد؛ فعليه نفقة زوجته] . قرر رحمه الله النفقة، وبين على من تجب، وشرط وجوبها، وبين إذا كانت تجب على الوارث ما الحكم عند ازدحامهم وحصول حجب من بعضهم لبعض. ثم شرع رحمه الله في مسألة تنبني على مسألة النفقة، وهذا كما ذكرنا من التسلسل في الأفكار والترتيب المنطقي، فإن الفقه الإسلامي يمتاز بالشمولية؛ وهو أنه لا يقتصر على بيان الأصول، بل يبين الفروع المبنية على الأصول، فالسؤال الآن: إذا وجبت النفقة على الوارث لوجود السبب الموجب في المورث الذي ينفق عليه وهو عجزه، فهل يختص إنفاقه على ذلك القريب نفسه فقط، أم أنه يلتحق بهذا القريب من لزمته نفقته وحاجته اللازمة الضرورية؟ هذه المسألة مفرعة على الأصل الذي ذكرناه: هل أنت مطالب بالنفقة على القريب؟ لو فرضنا وجود شخص مات وترك ابنا رضيعا، وهذا الابن الرضيع ليس له وارث غير فلان فأوجبنا النفقة عليه، لكنه يحتاج إلى مرضعة، فهل نقول: يجب عليك أن تنفق على المرضعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] ؟ فهذا والد الطفل أوجب الله عليه النفقة، ثم بين حال موت الوالد فقال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] فأخذ العلماء من هذا دليلا على أنه إذا مات شخص وله قرابة وترك أولادا واحتاجوا إلى النفقة عليهم والاسترضاع لهم؛ وجبت نفقة الرضاعة على القريب الوارث، فإذا كانت نفقة المرضعة واجبة على القريب؛ فهذا تنبيه من الشرع أن الأشياء اللازمة لهذا القريب الذي تنفق عليه لازمة عليك أيضا بالتبع، ولا يقتصر الأمر على أن تنفق عليه فقط، بل إن من يعول ومن تلزمه نفقته يجب عليك أن تنفق عليهم بالمعروف، وهذا لأن الآية نصت على وجوب الاسترضاع على الوارث، مع أن الأصل يقتضي أن ننفق عليه. قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته كظئر لحولين] . إذا كان هناك شخصان بينهما قرابة موجبة للنفقة، فالأصل يقتضي أن ينفق أحدهما على الآخر إذا كان معسرا، فلو كانت عنده زوجة وأولاد واحتاجوا للنفقة، فإنه ينفق عليهم أيضا إذا كان ماله يسع ذلك، وقد ذكر المصنف رحمه الله في الأصل هذا فقال: [كالظئر] . أي: وذلك كما أن الله أوجب علينا أن ننفق على الرضيع نفقة إرضاعه فقال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] فأوجب على الوارث أن يعطي نفقة المرضعة، وهذا يقول به بعض العلماء، ويرى أنه يجب عليه أن ينفق على زوجه؛ ولأنه لو أنفق عليه ولم ينفق على زوجه لم يقم بحاجته ولم يسد له الحاجة، ولذلك فهو يحتاج النفقة عليه وعلى من تلزمه نفقته. قوله: (كالظئر لحولين) فائدة المتون اختصار المسائل وإدخال بعضها على بعض، والتنبيه على الفروع المبنية على الأصول، والتنبيه على الأصول التي ينبني عليها غيرها، ومن هنا تظهر قوة العالم والفقيه في صياغة المتن، والبعض لا يحسن فهم مقصود العلماء من هذه المتون، ولذلك يقول: إنها تخلو من الأدلة. والمراد من هذه المتون صياغة الأحكام المستنبطة من الأدلة؛ أما الأدلة فلها كتب متخصصة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك لما قال: (كالظئر) أشار إلى الأصل الذي بني الدليل عليه، وهو النفقة على المرضع؛ فإن الله عز وجل أوجب على الوارث أن ينفق على المرضعة، فإذا نظر الفقيه في ذلك فهم أن الواجب أن تنفق على الرضيع، لكن لما كان ذلك لازما له وضروريا صار كالنفقة عليه. وأجاب بعض العلماء عن هذا الدليل وقال: إن الأصل أن تنفق بالطعام والكسوة، والاسترضاع نوع من الطعام، فهو لم يخرج عن الأصل، فأوجب النفقة عليك بالنسبة للقريب فقط، وأما من تلزمه نفقته فلا يوجب عليك نفقته، هذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله، وهو من حيث الأصل أقوى، يعني: لا شك أن الأصل أن الواجب أن تنفق على الشخص نفسه. لا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء قال رحمه الله: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء] . هذا الحكم وهذه المسألة نحتاجها بين المسلمين وغير المسلمين، كما كان يقع في البلدان الإسلامية، حيث يكون أهل الذمة فيسلم الذمي وقرابته تحت حكم الإسلام ويكون فقيرا، فلا نوجب نفقة مع اختلاف الدين، وتجب نفقة هذا المسلم الذي ليس له قريب مسلم من بيت مال المسلمين، ويصبح المسلمون هم أولياءه الذين ينفقون عليه، كما أنه لو مات ورثه بيت مال المسلمين. وهكذا تصان الحقوق في الإسلام، فليست بالدعاوى ولا بالتشهي ولا بالتمني، ولكنها حقائق مبنية على أصول، هذا مع أنه كان كافرا ثم أسلم ودخل بين المسلمين، فصار منهم وأخذ حكمهم وكأنه لبنة من هذا البناء له ما لهم وعليه ما عليهم، فيكون معهم كالجسد الواحد، فلو أنه افتقر أنفقوا عليه، ولو أنه مات وعنده مال رد إلى بيت مال المسلمين. لا يجب الإنفاق بين المسلم والكافر، ولو أن هذا الذي أسلم له قرابة كفار تحت حكم الإسلام كالذميين، فلما أسلم افتقروا وقالوا: هذا قريبنا فلينفق علينا، فلا يحكم المسلمون لهم بالنفقة، ويقولون: اختلاف الدين يمنع من وجوب النفقة؛ لأن اختلاف الدين يمنع من الإرث؛ لأن من موانع الإرث اختلاف الدين؛ فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: (أين تنزل غدا؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟) ، وهذا الحديث أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قرابته للإسلام، وأبى من أبى منهم، بقي عقيل وتأخر إسلامه، فورث الكفار من قرابته، وأخذ هذه الأموال وباعها، ثم أسلم عقيل فحاز خير الدين والدنيا، ولم يرث النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القرابة الكفار. وفي الحديث الصحيح أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر) فلا توارث بين المسلمين والكفار، لذلك يعتبر من موانع الإرث اختلاف الدين، قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع الإرث والنفقة، لكن يستثنى من ذلك نوعان: النوع الأول: الولاء، فإن الرقيق ينفق عليه مولاه ولو اختلف الدين، والأصل فيه حديث الدارقطني؛ استثنى الرقيق بوجوب النفقة ولو كان كافرا؛ لأنه معلوم أن السبب هنا بين السيد وعبده ليس كالسبب بين القريب وقريبه، ولذلك استثني. النوع الثاني: الوالدان، لو كان له والدان كافران هل ينفق عليهما أولا ينفق؟ الصحيح أنه يجب عليه أن ينفق على والديه الكافرين، وهو اختيار مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن النصوص التي وردت بالأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما نزلت في الكفار: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان:15] وليس من المعروف أن يكون غنيا ووالداه محتاجين فقيرين ولا ينفق عليهما، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تحسن إلى أمها وأن تبرها. فالوالدان يستثنيان من هذا، فيجب على الولد أن ينفق على والديه ولو كانا كافرين؛ لأن النصوص وردت في الكفار، وهما مستثنيان من الأصل الذي ذكرناه. وبناء على ذلك نقول: الوارث والقريب من غير الوالدين أوجبنا النفقة عليه لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233] لكن الوالدين استثنيا من هذا، ولذلك يجب على الوالد لو انفرد تحمل النفقة كاملة، وكذلك أيضا بالنسبة لوجود الكفر يجب عليه أن ينفق على والديه وأن يقوم بالإحسان إليهما: لأن النصوص التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين في الأصل إنما نزلت في الكافرين. ولأن الوالد ذكرا كان أو أنثى له حق عظيم وفضل كبير، والله عز وجل لم يمنع الولد من رد هذا الجميل والمعروف؛ لأنه أنفق عليه حتى كبر وشب. فاستثني الوالدان لأمور: أولا: لورود النصوص، وثانيا: لأن المعنى الموجود في الوالدين يخالف غير الوالدين من بقية الورثة. وجوب الاسترضاع وأجرته على الوالد قال رحمه الله: [وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة] بمعنى: أن على الوالد أن يطلب من يرضع ولده، وإذا طلب المرضعة فعليه أن ينفق عليها بالمعروف، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل المولود له وهو الوالد أن يقوم على نفقة ولده، وأن يتعهد حاجته إلى الرضاعة بالاسترضاع. فبين رحمه الله وجوب الاسترضاع على الوالد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، لورود نص آية البقرة على وجوب الاسترضاع للولد، ولا يجوز للوالد أن يضيع ولده بحرمانه من الرضاعة؛ لأنه إذا حرم من الرضاعة فإنه يموت، وهنا ننبه على الوقت الذي يطلب فيه الوالد امرأة ترضع ولده. إذا كانت الأم موجودة وقالت: أنا أرضع ولدي فلا إشكال، فهي أحق بإرضاع ولدها، لكن الإشكال إذا ماتت الأم أو طلقت وتزوجت من الغير، أو تحولت عن البلد التي هي فيه، أو كانت مريضة لا تستطيع الإرضاع؛ فحينئذ لو ترك الولد سيموت؛ لأنه لابد له من الرضاعة، لينشز بها عظمه وينبت بها لحمه. فإذا كان لابد له من الرضاعة فإن المسئول عن هذه الرضاعة في تكاليفها وطلب المرضعة هو الأب، فيجب عليه أن يطلب من يرضع هذا الصبي. وفي هذه الحالة يجب عليه أن ينصح، فقد يجد من المرضعات من هي أقل ثمنا وأقل كلفة، ولكنها أضعف، وقد يضر لبنها الصبي؛ فلا يجوز له في هذه الحالة أن يغلب مصلحة المادة على مصلحة الصبي، كما هو موجود الآن في زماننا في شراء الحليب الذي يحتاجه الطفل، إذا كان نوعا رديئا ونوعا جيدا فيجب عليه أن ينصح ويتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن هذه النفس المحرمة أمانة في عنقه، وهو مسئول أمام الله عز وجل عنها، فيسترضع المرأة التي يحسن رضاعها. ولذلك كانوا يشددون في الرضاعة، وقد بينا في كتاب الرضاعة أن المرأة التي ترضع قد يفسد الولد بسبب لبنها من سوء أخلاقها، ولذلك نهى السلف كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة من الرضاعة من الفاجرات؛ لأن الأخلاق تعدي. وينبغي عليه أن ينصح في هذه الرضاعة لعل الله أن يوفقه للقيام بحقه على أتم الوجوه {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6] فأوجب على الوالد أن يدفع أجرة الرضاعة للمرضعة، وبين المصنف رحمه الله أن المسئول عن هذه النفقة هو الوالد. حق الأم في الرضاع قال رحمه الله: [ولا يمنع أمه إرضاعه] . أي: ولا يمنع الوالد أم الولد من إرضاع الولد، فلو قالت الأم: أريد أن أرضع ولدي؛ فهي أحق به وأولى. فلا يمنعها أن ترضع ولدها، ولو وجد الغير الذي سترضعه من قرابته أو من تتبرع ولو مجانا، أو تزوج امرأة فقالت: أنا أرضع ولدك ولا أريد منك شيئا، وقالت أم الولد: أنا أرضعه؛ فهي أحق وأولى ولا يمنعها إرضاع ولدها. حالات إلزام الأم إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه] . أي: لا يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا لضرورة، ومن أمثلة الضرورة: أن لا يقبل الولد ثديا غير ثديها، بعض الأولاد تكون عندهم حساسية ولا يمكن أن يقبل غير ثدي أمه، وهذا من الله سبحانه وتعالى كما وقع لموسى عليه السلام: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} [القصص:12] فكلما جاءت امرأة لم يقبل ثديها. فإذا امتنع ولم يقبل النساء الموجودات وقالت أمه: لا أرضعه، فطلبها زوجها الذي هو والد الطفل فقال: أرضعي ولدك واتقي الله في ولدك، فقالت: لن أرضعه، فهنا يجبرها القاضي على إرضاعه؛ لأن إنقاذ هذه النفس المحرمة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك قال: (ولا يلزمها إلا لضرورة) ، وهي أن يمتنع الولد أو لا يوجد من يرضع هذا الصبي غير هذه الأم، فيجب عليها أن ترضع هذا الصبي. حكم طلب الأم أجرة إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولها طلب أجرة المثل] . أي: من حقها أن تطلب أجرة مثلها، فإذا أرضعته حولين، نظرنا لو أن مرضعة أجنبية أرضعت هذا الولد كم ستأخذ في الحولين؟ فنعطيها أجرة المثل، فلو طلبت أكثر من أجرة المثل لم يجب على الوالد أن يعطيها تلك الأجرة، وإنما تتقدر الأجرة بالمعروف. قال رحمه الله: [ولو أرضعه غيرها مجانا] . أي: أنها أحق بإرضاع ولدها، ولو أرضع الولد غيرها مجانا، ولها أن تطلب الأجرة، ولو وجد من يقول: أنا متبرع بإرضاعه؛ لأنه لا شك أن مصلحة الولد في الرضاعة من أمه أعظم، والأم أنصح لولدها وأكثر محافظة عليه، ولذلك هي أحق، وإذا كانت هي أحق فلو وجدت امرأة وقالت: أنا أرضع لك ولدك مجانا والولد يقبل ثديها، فقالت الأم: أنا أريد أن أرضعه فهي أحق، ونقول للوالد: أنفق عليها بأجرة مثلها. فلو قال: أنا عندي من يتبرع، نقول: وجود هذه المتبرعة لا يسقط حق الأم ولو طلبت الأجرة، ولذلك قال تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6] فأمر الله عز وجل بإعطاء الأجرة للمرضعة، وقد صدر الآية بقوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] ، {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233] فبين الله سبحانه وتعالى أن الوالدة ترضع ولدها وهي أحق للصفات التي فيها من كون لبنها أكثر نفعا للولد واغتذاء له، وكذلك هي أكثر نصحا للولد وشفقة وعطفا وإحسانا وبرا لولدها؛ فهذه كلها مصالح، فلذلك تقدم على غيرها. وفي قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي في داخل مذهب الحنابلة، فهناك من العلماء من قال: نعطيها الأجرة بشرط أن لا يوجد من يتبرع مجانا، فإذا وجد من يتبرع مجانا فإننا نقول لها: إن شئت أن ترضعيه بدون مقابل فلك الحق في ولدك، فإن قالت: أنا أريد الأجرة صرف إلى غيرها وليست بأحق، والصحيح ما ذكرناه. قال رحمه الله: [بائنا كانت أو تحته] . أي: سواء طلقها وبانت منه أو كانت تحته، فحتى لو كانت تحته ثم قالت له: أريد أن أرضعه وآخذ الأجرة، فإن الحكم لا يختلف باختلاف حال الأم، فسواء كانت تحت الزوج أو لم تكن فهي أحق وأولى بولدها ولها الأجرة إن طلبت، لا يختلف الحكم بين كونها تحت الزوج أو بائنة منه. حكم منع الزوج الثاني إرضاع ولد الأول قال رحمه الله: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول ما لم يضطر إليها] . أي: وإن تزوجت آخر فقال لها: ما أريدك أن ترضعي ولدك من فلان؛ لأن الرضاعة تضر بالمرأة، وتؤثر على صحتها، وتؤثر حتى على الاستمتاع بها، ومن هنا لا يتدخل الزوج الثاني في حق الأول إلا إذا حصل الضرر عليه. وبعض العلماء قالوا: إنه ينتشي في ماء الثاني فيكون له الحق من هذا الوجه. ولكن الأشبه: أن هذا يؤثر عليه ويؤثر على صحة المرأة، ولذلك خفف على المرأة المرضع في الصيام، وأخذت أحكام الرخص في مسائل، وهذا يدل على أن الرضاعة تؤثر، وإذا كانت تؤثر وأسقط الله بها الحقوق فكذلك أيضا بالنسبة لحقوق المخلوقين، فإذا قال الزوج الثاني: لا ترضعيه، فحينئذ له حق المنع. وإذا منعها نظرنا: فإن كان للصبي بديل صرف إلى البديل ولم تلزم الأم ولم يلزم الزوج، وإن كان لا بديل له فإنه يكون مضطرا ويسقط حق الزوج؛ لأن ضرر الابن أكبر، وهذا من باب المقارنة بين المفاسد؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان قدمت المفسدة العظمى، فالطفل إذا لم يرتضع تضررت صحته وربما هلك، والزوج إذا أرضعت زوجته ضعفت مصلحته وصار النقص عليه نقص كمال في الاستمتاع، ونقص الضرورة المفضية إلى هلاك الأنفس فيه مفسدة فيه أعظم من نقص الكمال في الاستمتاع والشهوة، ولذلك يقدم حق الولد من هذا الوجه، فنقول: يجب عليك أن ترضعيه. فلو قال الزوج: لا أسمح لها بذلك. أجبرت عليه وسقط حق الزوج، فلا تسمع له ولا تطيع؛ لأن هذا فيه إضرار بالنفس وتعريض لها للهلاك. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين السؤال من ضيق على أهله في النفقة لأجل ما يتعاهده من الصدقات وبذل الخير للمحتاجين، فهل يأثم في هذا التصرف، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن ضيق على من تجب عليه نفقته ينقسم إلى قسمين: إما أن يضيق في الحق الواجب، وإما أن يضيق في الكمالات، فإن ضيق في الحق الواجب فهو آثم شرعا، ولا يجوز للمسلم أن يمنع أولاده وزوجته من حقوقهم في النفقة بناء على الصدقات والتبرعات للغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابي فقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك) فهذا يدل على أن نفقة القريب أحق وأولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أدناك أدناك) فيبدأ بالأقربين، وهم أولى وأحق، والنفقة عليهم واجبة، والنفقة على الغير إحسان وغير واجبة، فيقدم الواجب على غير الواجب. أما إذا كان التقصير في الكمالات، بمعنى: أنه رأى الغير محتاجا فصرف الكمالات لأولئك المحتاجين، فهل الأفضل أن يصرف الكمال للقريب ويدخل السرور على قريبه وأولاده، أم الأفضل أن ينفق على البعيد؟ هذه مسألة الذي يظهر فيها: أن الغريب إذا كانت النفقة عليه نفقة إنقاذ؛ بحيث إنه محتاج حاجة شديدة، فإن النفقة عليه أفضل من نفقة الكمال على القريب، والسبب في هذا: أنه ربما يكون الغريب محتاجا حاجة قد يتعرض معها للحرام، فالمرأة قد تزني -والعياذ بالله- إذا افتقرت، والأولاد قد يضيعون، وربما هلكوا وماتوا من الجوع، فإذا كانت النفقة من هذا الجنس فهي الأفضل إن شاء الله؛ لأن جنسها في إنقاذ النفس واستبقاء الأرواح والمحافظة على العرض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص. وعلى كل إنسان ينفق على الغريب أن تكون له نية، فإذا حسنت نية العبد أجره الله وجعل أجره على نيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتصدق على الغني وهو لا يعلم بغناه، فجعل الله صدقته بحسن نيته عبرة للغني، فأثابه الله عز وجل عليها. فإذا كان قد أنفق على الغرباء والأجانب ممن ليسوا بأقارب له، وهو ينوي إنقاذ أنفسهم وحفظهم من الحرام أو تحبيبهم في الخير، كان بالوسيلة والنية أفضل وأعظم أجرا، لكن لو كانت النفقة على هذا الغريب من جنس الكمالات، وأولاده يريدون الكمالات فالنفقة على الأولاد وإدخال السرور على الأقرباء في الكمالات أفضل من إدخال السرور على غير الأقارب، بل حتى إدخال السرور على ابن العم القريب في الكمالات أفضل من إدخال السرور على الغريب، فمثلا: لو احتاج إلى سيارة وعنده سيارة أو متاع أو ثياب زائدة يمكن أن يعطيها لقريبه ويمكن أن يعطيها لغير القريب. فالقريب سواء كان من الأقربين كأولاده، أو كان من الأبعدين كابن العم، فإن إعطاء الثوب له ولو كان من الكمالات أفضل من إعطائه للغريب ولو كان صديقا، ولو كان خليلا للإنسان ومحبا، فإن الإحسان إلى القرابة فيه أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة. والإحسان إلى الغريب مهما كان ففيه أجر واحد وهو أجر الصدقة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها وأرضاها في الحديث الصحيح. وبناء على ذلك ينبغي على المسلم أن يزن الأمور بميزانها، ولا شك أن تفقد الأقرباء والإحسان إليهم وتصديق معنى القرابة أمر مهم، فالإنسان دائما يتفقد القرابة، وأول ما تفكر في بذل المعروف والإحسان يجب أن تنظر إلى من حولك من الأقرباء، حتى في أمور الدين والدعوة، مع أنها لا محاباة فيها ولا مجاملة، قال الله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء:214] أي: مر القريبين الأقربين. وهذا يدل على أنهم أولى الناس بخيرك وبمعروفك وبإحسانك؛ حتى الابتسامة التي تبتسمها والسرور الذي تدخله على المسلمين تقدم فيه الأقربين الأقرب فالأقرب، فإذا وجدت القريب حرصت على أن تكون على مراتب الكمالات التي تفعلها مع الغرباء، وأن تكون في أحسن وأجمل وأفضل. وانظر رحمك الله إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو صديق الأمة يحسن إلى مسطح وهو ابن خالته وقريبه، ثم إذا به يفاجأ بـ مسطح وهو أحد الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمع أنه أحسن إليه، ومع وجود القرابة تأتي هذه الإساءة العظيمة في طعنه في زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل القرآن يعاتب أبا بكر رضي الله عنه: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور:22] حتى إن أبا بكر رضي الله عنه بكى وقال: (بلى! والله نحب أن تغفر لنا) . قريب يطعن في ابنته مع أنها أم المؤمنين رضي الله عنها، فاجتمعت جميع الحقوق من الناحية الدينية ومن الناحية الطبيعية الفطرية، ومع هذا كله ينزل القرآن بالإحسان إليه ورد المعروف كما كان، فأحسن أبو بكر رضي الله عنه ورد المعروف إلى مسطح، فهذا يدل دلالة واضحة على عظيم أمر الرحم والقرابة. نحن ننبه على هذه الأمور لأنها عظمت، وسببها التفكك الأسري الذي يعيشه الناس، كثير من المشاكل والأضرار والمصائب سببها هذا التفكك الأسري، كان الناس في القديم في فقر وضعف وحاجة ماسة، ولكن رزقهم الله عز وجل من التواصل والتحاب والتعاطف وحفظ حق القرابة ما هون عليهم مصائب الدنيا كلها، والله إن الناس كانوا يعيشون بحالة لا يعلم شدة ما هم فيه إلا الله جل جلاله، ولكن ما لطف الله عز وجل بهم بشيء بعد الإيمان به وتوحيده مثل بر الوالدين وصلة الرحم. وانظر إلى كبار السن والرعيل الأول، تجد الواحد منهم عطوفا شفوقا على قرابته، ما إن يسمع أن قريبا له نزلت به نازلة إلا وجدته لا يهنأ له عيش ولا يرتاح له بال؛ ويسافر إلى المسافات البعيدة، فهذا التواصل والتعاطف والتراحم والتكاتف الذي كان بين الناس هو الذي رحم الله به أمرهم، فجعل ضيق عيشهم سعة، والهموم والغموم عليهم يسيرة، وكم من مصائب تنزل بالإنسان يدفعها الله بفضله ثم بصلة الرحم. لا يحسب الإنسان أن تفقد القرابة أمر هين، كثير من مشاكل اليوم سببها عدم الصلة، وتجد الرجل يقول لك: أنا في ضيق واكتئاب. وقد يكون قاطعا لرحمه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون هذا البلاء الذي نزل به إما بسبب أذية أو قطيعة لرحم، أو عدم زيارته لأعمامه وأخواله، هذا التفكك الذي يعيشه الناس أكثره بسبب عدم القيام بحقوق القرابة. ونحن نركز على هذه المسائل ونطيل في الجواب عليها لأهميتها؛ لأن كثيرا من مشاكل اليوم سببها ذلك، الآن لما تجد القريب تنزل به ضائقة دين، لا يستطيع أن يجد في قرابته من يساعده، فيذهب إليه ويريق ماء وجهه عنده، ويقول له: يا فلان أريدك أن تساعدني، فيجد أول من يقفل الباب في وجهه قريبه -والعياذ بالله- ويجده أول من يتهكم به ويستهزئ به ولا يصدقه فيما يقول له، مع أنهم في القديم ربما كان فيهم جهل لو قتل القريب جاءه ونصره مع أنه يعلم أنه ظالم؛ من شدة الحمية والعاطفة، صحيح أن هذا خطأ، لكن كانوا معهم في الخير والشر، وينصره ظالما ومظلوما، ويقف معه ويقدم له ما يستطيع من المال، هذا الذي رحم الله به الأمة. لا تحسب أن القليل للقرابة هين عند الله عز وجل، وقد يرفع القريب كفه إلى الله عز وجل فيدعو لك دعوة تنال بها سعادة لا تشقى بعدها أبدا؛ لأنه يدعو من قلبه، ويتمنى لك الخير من صميم فؤاده، ويرى أنك قد أحسنت إليه ووصلته. والله إن كثيرا من النفوس تتبدد أحزانها وأشجانها بالكلمة من القريب القريب تجده مريضا مهموما محزونا، ما إن يلتفت ويجد قرابته حوله إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه، ولا عليه بعد ذلك يذهب عنه الهم أو لا يذهب، تجده مديونا معسرا ما إن يأتيه القريب ويجلس معه ويقول: أتمنى لو كان عندي مال أعطيكه، فما إن يقول له هذه الكلمة إلا وكأنه قضى له دينه. ما كان أحد يترك قريبه، بل يقف معه ويبذل له كل ما يستطيع، بل إن دعوة الإسلام كلها قائمة على التوحيد وعلى أداء الحقوق، فإذا أدي حق الله عز وجل بتوحيده وإخلاصه أديت حقوق العباد، وأول حق ركزت عليه نصوص الكتاب والسنة وتضافرت عليه واعتنت به أيما عناية بر الوالدين وصلة الرحم، حتى إن أبا سفيان لما سأله هرقل قال: بماذا يأمركم، قال له: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ويأمرنا بالبر وصلة الرحم. وأذكر حادثة غريبة وقعت قبل أشهر: كنت في السفر فوجدت رجلا كبير السن، فاقتربت منه وسألني عن مكاني، وسألته من أين أنت، قال: أنا من بدر، رجل في آخر سنه فوق السبعين تقريبا، ويبيع تمرا، ولا يملك إلا القليل، وجالس في شدة الشمس يتعرض للمشقة، قلت: ما دمت أنت من بدر كيف جئت إلى هنا -كان قريبا من جدة- قال: هذا التمر الذي تراه أريد أن أبيعه وأذهب لأختي بمكة لديها أيتام وأريد أن أعطيها هذا المال، والله حينما نظرت إليه تأثرت من حاله وهيئته، ليست بحال الإنسان الذي يستطيع أن يقوم على نفسه، فضلا عن أن يبحث عن أخته التي يريد أن يصلها، هكذا كان الناس، وهكذا يكون العيش تواصل تراحم تعاطف. وحدثني أحد كبار السن في المدينة، وهو من أصدق الناس وخيارهم رحمة الله عليه، يقول: عشت يتيما فكان خالي يأتينا من أكثر من أربعمائة كيلو متر من المدينة، وكان يأتي بالهدايا، فقير معدم ما عنده شيء، لكن يأتي الأربعمائة كيلو هذه، لا يمر شهر حتى يزور أخته، ويدخل على أيتامها ويلاطفهم ويحسن إليهم ويقول لأخته: أسألك بالله لا تسقيني شيئا من مال اليتامى، يعني: إذا جاء في ضيافتها لا يستطيع أن يشرب عندها فنجان القهوة، وهذا شيء كبير معروف بالعادات، وإنه لصعب جدا أن حكم رفع الصوت بالقراءة في قضاء الصلاة الجهرية السؤال هل يلزم المصلي رفع الصوت بالقراءة في قضاء ما فاته من الصلاة الجهرية، أثابكم الله؟ الجواب الجهر في الصلاة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يجب الجهر في الجهرية، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، ولأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقع بيانا لواجب، وبيان الواجب واجب. ومن أهل العلم من قال: الجهر والإسرار ليس بواجب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في صلاة الظهر أنه رفع صوته بالآية والآيتين، فجهر فيما يسر؛ فدل على أن الأمر فيه السعة، وبناء على ذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قضاؤه يحكي أداءه، فيجهر في الصلاة المكتوبة، فإذا قضى الفجر بعد طلوع الشمس يجهر في قراءته، وهكذا لو نام عن صلاة العشاء حتى ذهب وقتها، وسواء ذهب وقتها أو لم يذهب، إذا قضاها أو أداها في آخر وقتها منفردا فإنه يجهر بقراءتها، والله تعالى أعلم. الفرق بين قاعدتي التعبد بالظن وعدم التعبد به السؤال ما الفرق بين أن الله تعبدنا بغلبة الظن، وبين قاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، أثابكم الله؟ الجواب الحقيقة ليس هناك اجتماع بين القاعدتين، فقاعدة غلبة الظن هي التي تعبد الله بها العباد، والإنسان إذا اعتقد شيئا له أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يعتقد الشيء على وجه لا شك فيه ولا مرية البتة، وهذا يسمى باليقين كما يقول بعض العلماء: (100%) ، فهو يعتقد مثلا: أن الله واحد، فهذا الاعتقاد لا يدخله أي شك ولا مرية فيه، وهذا اعتقاد اليقين. الحالة الثانية: أن يكون اعتقاده للشيء غالبا وراجحا، وهناك احتمال ضد هذا الاعتقاد لكنه ضعيف، وهذا يبدأ من (51%) إلى (99%) فمثلا: أنت تعلم أن الوالد إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فجاءك شخص وقال لك بعد صلاة العصر: الوالد موجود في البيت؟ أنت لم تر الوالد ولكن صليت العصر ثم جلست في المسجد، يحتمل أن الوالد رجع إلى البيت ويحتمل أنه لم يرجع، لكن الغالب أنه إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فأنت إذا قلت: الوالد في البيت، فإنه ظن غالب وخبر صادق؛ لأن غالب الظن أن يكون في البيت، هذا الغالب يجوز لك شرعا أن تخبر به ولست بكاذب، بل لو حلفت وقلت: والله إنه في البيت لم تحنث؛ لأن الحلف على غلبة الظن مشروع. الحالة الثالثة: أن يكون الشيء مستوي الطرفين، مثلا: الوالد بعد المغرب ربما يجلس في البيت وربما لا يجلس، وليس هناك حالة راجحة، فسئلت: هل الوالد موجود؟ تقول: أشك، يعني: ما أدري أهو موجود أو غير موجود؛ لأنه تارة يكون موجودا وتارة لا يكون موجودا، وهذا الشك يسمى استواء الطرفين. الحالة الرابعة: أن يكون الظن مرجوحا، وهو عكس الظن الراجح، فأنت حينما قلت في صلاة العصر: الوالد موجود في البيت، عندك احتمال أنه خارج البيت، فلو سألك شخص: الوالد خارج البيت؟ تقول: أظن، فظنك في هذه الحالة ضعيف وليس براجح، ولو سألك: أهو في البيت؟ تقول: نعم؛ لأنه ظن راجح. فهذه أربعة أحوال للظنون، ولا يتعبدنا الله بالأوهام، وهو الظن الضعيف، لأنها ظنون فاسدة ولا تبنى الشريعة على الظنون الفاسدة، وهذا قرره الأئمة، ومن أنفس من تكلم على ذلك الإمام العز بن عبد السلام حينما تكلم على مسائل الظنون في قواعد الأحكام، وبين أن الظنون الفاسدة لا يلتفت إليها، مثلا: شخص قلت له: اذبح هذه الشاة، فذبحها وجاءك بها، يحتمل أنه ما ذكر اسم الله عليها، ويحتمل أنه أخطأ في الذبح، ويحتمل احتمالات كثيرة، لكن هذا الاحتمال ضعيف ومرجوح، فتلغي هذه الظنون، وتعمل بالظن الراجح، وتتقرب إلى الله عز وجل بالظن الراجح. فقس على هذه من المسائل الكثيرة، فقد تعبدنا الله بها حتى في استباحة الدماء والفروج، الآن لو أن شاهدين شهدا أن فلانا قتل فلانا، فإننا نحكم بالقصاص، مع أنه يحتمل أن أحد الشاهدين أخطأ، ويحتمل أنهما زورا الشهادة، لكن الظن الغالب أنهما إذا زكيا وعدلا وعرفا بالضبط أنهما مصيبان، لكن يحتمل الخطأ، والظن مرجوح ولا عبرة فيه. حينما تسأل العالم ويفتيك في مسألة اجتهادية فإنه يفتيك على غالب ظنه، فيحتمل أن القول الذي اختاره مرجوح، لكن الله عز وجل أمرك بالرجوع إليه وأمرك أن تقبل حكم القاضي؛ لأن الغالب في ظنه هو هذا، وأنت تعمل بهذا الظاهر وأنت مكلف بهذا. وبهذا انضبطت أمور الدنيا، ولو كانت أمور الدنيا لا تسير إلا باليقين لدخل من الوسوسة والبلاء على الناس ما الله به عليم، فاستقامت أمور الدين والدنيا على ذلك، وبنيت مصالح العباد دينية كانت أو دنيوية على هذا، الآن مثلا: لما تركب السيارة وترى غالبها السلامة تمشي بها، لكن إذا كان غالبها الهلاك ورأيت فيها أعطال فلا تطيعك نفسك أن تخاطر، والطائرة مثلها: لولا أن الغالب السلامة ما جاز لأحد أن يركب بين السماء والأرض معرضا نفسه للخطر، والباخرة لولا أن الغالب فيها السلامة لما جاز لأحد أن يركبها فيعرض نفسه للغرق، كل هذا مبني شرعا على غلبة الظن، وبها استقامت مصالح العقلاء والحكماء واندرأت بها المفاسد، فالشريعة تتعبد بغالب الظن. مسألة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، عدل وإنصاف، وقد تعبدك الله أن تعمل بهذا الظن الغالب، لكن لو ظهر لك أنه خطأ رجعت عنه؛ لأن الرجوع إلى الحق فريضة وليس بفضيلة فقط، مثلا: لما يقول العلماء: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فهذا في الحقوق، من أمثلته: شخص أعطاك ألف ريال دينا، فقلت له: رددتها لك، قال: ما رددتها، مثل التجار يتعاملون كثيرا بهذا، كل يوم يأخذ ويعطي. فجاءه شخص ظن أنه أعطاه، فقال له: أعطيتك، قال التاجر: ما أعطيتني. اختصموا عند القاضي، من حقك أن تقول: والله أعطيته؛ لأن غالب ظنك أنك أعطيته، وبعد شهر أو شهرين أو سنة أو مائة سنة، تبين لك أنك أخطأت في هذا الظن، فحينئذ يجب عليك أن تقضي الرجل حقه، ونقول: لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه في حقوق العباد. من أمثلتها في حقوق الله عز وجل: مسألة الصوم، إن أكلت وأنت تظن أن الفجر ما طلع، ثم بعد ما أكلت أقيمت الصلاة، فأنت في المسألة الأولى في حق المخلوق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) ، فمذهب طائفة من العلماء أنه إذا بان لك الخطأ وجب عليك القضاء؛ لأنه إذا كان في حقوق المخلوقين يجب القضاء إجماعا؛ فحق الله أولى أن يضمن، فنقول: ظنك أن الفجر لم يطلع يسقط عنك الإثم، وتبينك للخطأ يوجب عليك رد الحق، سواء كان لله أو للمخلوق. فللمخلوق تقضي الدين الذي عليك وللخالق تقضي ذلك اليوم؛ لأن الله تعبدك أن تصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنت لم تصم صياما تاما كاملا، فحق الله ينبغي أن يؤدى، ودين الله ينبغي أن يقضى، ولذلك قاس النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة، قال: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) ، فأنت إذا تبين لك الخطأ في حق المخلوق فإنه تؤديه، كذلك في حق الخالق ما لم يرد النص بالاستثناء، فلا عبرة بالظن البين خطؤه. فنقول: قاعدة العمل بغلبة الظن؛ معمول بها في حال غلبة ظنك، وقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه معمول بها بعد الاستبيان، فأنت تعمل بالأصل حتى يتبين لك خلافه، وبهذا تكون القاعدتان صحيحتين ولا إشكال فيهما، والله تعالى أعلم. عدد الرضعات الموجبة للتحريم السؤال امرأة أرضعتني عدة مرات وهي لا تعلم العدد، وحاولت التذكر لكن دون جدوى، فهل أنا محرم لها ولبناتها، أثابكم الله؟ الجواب لا تثبت أحكام الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات، فلا يجوز لك أن تعتبرها أما من الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات معلومات مشبعات، فإذا ثبت ذلك ثبت حكم المحرمية لها ولبناتها، وأما إذا لم يثبت ذلك، فإنه لا يجوز لك أن تحكم بثبوت الرضاعة، والله تعالى أعلم. حكم تغسيل الرجل لمحارمه السؤال هل يجوز للابن أن يغسل أمه وأخته، أثابكم الله؟ الجواب الرجل لا يغسل المرأة إلا في حالة واحدة، وهي: أن الزوج يغسل زوجته والزوجة تغسل زوجها، وذلك على أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها كما في حديث السنن: (لو أنك مت لغسلتك وكفنتك) وهذا يدل على أن الزوج يغسل زوجته، ولأن عليا رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها ولم ينكر عليه الصحابة، والمرأة تغسل زوجها؛ لأن أسماء بنت عميس رضي الله عنها غسلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولم ينكر الصحابة ذلك، فلا يجوز للرجل أن يغسل المرأة إلا في هذه الحالة، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل إلا في هذه الحالة. وأما الابن مع أمه فلا يغسلها، وهذا يفعله بعض العوام جهلا منهم؛ لأن عورة الأم ينبغي للغاسل أن ينقي الفرجين، وهذا مع اتحاد الجنس أخف منه عند اختلاف الجنس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى النسوة أن يغسلن بناته، فغسلت زينب رضي الله عنها وأرضاها أم عطية وغيرها من الصحابيات رضي الله عنهن، ولم يغسلها أحد من قرابتها الذكور، وكذلك بالنسبة للرجل لا يغسله النساء. وبناء على هذا: لا يجوز للأخ أن يغسل أخته، وإنما يتولى النساء أمر النساء والرجال أمر الرجال، فإن توفيت امرأة بين رجال يممها ذو المحرم ثم كفنت، ويصلى عليها ولا تغسل، وهكذا الرجل إذا مات بين النساء ولا زوجة له وليس هناك رجل، فإن النساء تيممه ثم بعد ذلك يدرج في ثيابه ثم يصلى عليه، فلا يتولى النساء أمر الرجال ولا الرجال أمر النساء على التفصيل الذي ذكرناه في قول جماهير السلف والخلف، والله تعالى أعلم. سبل تحقيق العشرة الزوجية بالمعروف السؤال العشرة بالمعروف تتعدى اقتصار الزوج على بذل الواجب في النفقة والرعاية فقط لزوجته، فكيف يمكن لي أن أحقق العشرة بالمعروف، أثابكم الله؟ الجواب العشرة بالمعروف من أعظم الدعائم التي تقوم عليها السعادة الزوجية، ومن أراد أن يحقق هذه العشرة فليقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت سنته عليه الصلاة والسلام إلا امتثالا للقرآن، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يقدم أمرا ولا يؤخر غيره إلا بكتاب الله عز وجل، فمن أراد أن يكون معاشرا لأهله بالمعروف فلينظر إلى أوامر الله جل جلاله، وإلى ما ندب الله إليه من الإحسان والبر والصلة والعفو والصفح والتجاوز وحسن النية، وغير ذلك من الأمور التي تعين على سلامة العمل، وكذلك ينظر بعد كتاب الله إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يستلهم منها المواقف الجليلة والحوادث الجميلة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع حبه وزوجه، وكيف كان أبر الأزواج بأزواجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والأصل أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الكمال ما لم يكن نقي الصدر الدعامة الأولى سلامة الصدر، ولذلك لن تجد إنسانا يستقيم على طاعة الله أو يهتدي فينال كمالات هذا الدين إلا بسلامة الصدر، وما إن يتغير قلبه ويكون فيه أي دخل أو درن من أدران الجاهلية إلا أثر على عمله وقوله، أهم شيء يبدأ فيه الإنسان سلامة صدره، ولذلك من دخل إلى بيت الزوجية سليم الصدر، نقي السريرة؛ فإن الله يبارك له في ظاهره، فمن أسر سريرة أظهرها الله في قوله وعمله، وظهرت في علانيته في معاملته. وانظر هذا مع الناس، فالشخص الذي يعاشر إخوانه من طلاب العلم أو غيرهم من الملتزمين أو المهتدين، وهو لا يفرق بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والغني والفقير، سليم الصدر نقي الصدر تجده في أكمل ما يكون الأخ مع أخيه (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) وما تفسد القلوب إلا بمعصية الله، فإن دخلها الحقد والحسد واحتقار الناس وانتقاصهم، ودخلها سوء الظن والتهم ونحو ذلك، ساء كل شيء. فالرجل إذا دخل بيت الزوجية وهو يفكر أول ما يفكر أن زوجته نعمة من الله أنعم بها عليه، وأنه يحتقر نفسه، ويقول: من أنا حتى تأتيني هذه المرأة الصالحة، إذا كانت امرأة دينة أو على الأقل تحافظ على واجباته، يقول: الحمد لله الذي رزقني هذه المرأة على هذا الخير والاستقامة، وإذا كانت قريبة قال: الحمد لله الذي سخر لي من أصل به رحمي وأبلها ببلاها، ودخل وهو نقي الصدر ويحس أنها نعمة أنعم الله بها عليه، وأن المنبغي عليه أن يحافظ على هذه النعمة، وينظر إلى هذه النعمة نظرة الصفاء والنقاء والمودة، كما أخبر الله عز وجل: (مودة ورحمة) . فإذا دخل بسلامة الصدر والأسس التي تنبني عليها العشرة بالمعروف موجودة في قلبه وقالبه، بارك الله له في قوله وعمله، فهو إذا دخل إلى بيت الزوجية في أي ساعة يحس أن أي معروف أو أي عمل تقوم به المرأة لا يستوجبه عليها. فإذا دخل فوجدها طبخت طعامه، أكبر منها ذلك ورمى لها بالكلمة الطيبة، وقال: جزاك الله كل خير وبارك الله فيك، فدعا لها، وهي ردت له دعوته بالخير، وأكبرت منه إكبارها للمعروف فأحبته، وعرفت أن عنده الإنصاف وأنه سليم الصدر لها، ولكن العكس إذا دخل وهو يظن أنه يستوجب عليها الحق، وأنها كالأجيرة عنده، وأنها دونه، وأنها أحقر؛ جعل ينظر إلى نفسه نظرة الكمال وأنه يستوجب عليها، فعندها تسوء أخلاقه ويسوء قوله وعمله، ولذلك ثبت عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: أنه ما عاب طعاما وضع بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا حينما ينظر نظرة التواضع والإكبار من أهله وزوجه. المرأة الصالحة إذا نظر الإنسان إليها زوجة له والفتن تحيط بها من كل جانب، تذكر أن الله رحمه بهذه المرأة الصالحة، فكان أول من يعينها على صلاحها وتقواها لله عز وجل، يعينها بالكلمة الطيبة، بالابتسامة، بإدخال السرور، والله إن العبد يشتري رحمة الله عز وجل كما أنه راكع وساجد، بالابتسامة يبتسم بها في وجه أهله وزوجه، ولذلك حرص عدو الله إبليس على الدخول بينك وبين كل قريب، فيجعل الابتسامة حلال ومحبوبة وطيبة إلا إذا كانت للقريب منك، ويقول لك: لا تبتسم للزوجة، إنك إن ابتسمت إليها أفسدتها، ولا تفعل كذا وافعل كذا وكذا، فيصبح المعروف منكرا ويصبح الشر خيرا والخير شرا. كل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- لسوء القلب، إذا دخلت بهذه الأسس وهي سلامة الصدر ونقاء الصدر، وأن تحس أن الله أنعم عليك بنعمة شكرتها، ودائما إذا أحس الإنسان أن زوجته نعمة؛ شكر هذه النعمة، ولذلك يقول الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل:53] . فإذا عرفت قدر الزوجة، وأن بنت الناس ما جاءت إلى بيتك لتهان، وأن حرمات المسلمين ما دخلت إلى بيتك لكي تذل، وإنما لتكرم ولتعز ولتحسن إليها وتقابل بالإحسان؛ عندها يجتمع شمل الزوج والزوجة. العشرة بالمعروف أقوال وأفعال، وإذا سلمت السرائر صلحت الظواهر، وزكاها الله جل وعلا المطلع على الضمائر، ولا يمكن أن تزكو علانية الإنسان أو يكون محبوبا بين الناس وهو خبيث السريرة أبدا، ولذلك قالوا: لا يسود حقود ولا حسود، لا يمكن أن تجد إنسانا يحسد الناس ويعطيه الله السؤدد، فلا يسود الناس حتى ولو كان مع أهله وزوجه، لا يمكن أن ينال السؤدد ولا ينال الكمال ولا العشرة بالمعروف إلا إذا كان سليم الصدر نقي النفس مهذب الأخلاق طيب المعدن، فإذا وفق الله له بسلامة الصدر رزقه العشرة بالمعروف. كيف تكون هذه العشرة؟ اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، اقرأ هذه السيرة وحدك متأملا متفكرا متدبرا، وانظر في كل حدث يقع بينه وبين زوجه، والله إن القصة الواحدة من قصص النبي صلى الله عليه وسلم -حينما كنا نتذاكر العلم- لأمضي فيها الثلاثة الأيام! اقرأها المرة بعد المرة بعد المرة، كلما تقرأها تجد فيها غير الذي كنت تراه من قبل، مما فيها من الخير والبركة والمواقف الجميلة، والمعاني الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشهد من فوق سبع سماوات بكرم خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم عبثا، {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4] فما نال هذه العشرة بالمعروف إلا بالخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه. ولن تستطيع أن تكون العشرة بالمعروف بينك وبين زوجك إلا إذا عظمت حرمات الله، وأخذت تنظر إلى الأسس التي أوجب الله عليك أولا فتؤديها كاملة، وبعد ما تؤدي الواجبات تنتقل إلى الكمالات، ودائما يوصى الإنسان أن لا ينظر إلى نفسه نظرة كمال، بل عليك أن تتهم نفسك بالنقص والتقصير حتى يكمل الله نقصك ويجبر كسرك. والموفق من وفقه الله، فسل الله عز وجل أن يعطيك، وأكثر من الدعاء وقل: اللهم إني أسألك حسن الخلق لأهلي وزوجي وللناس أجمعين، وسل الله عز وجل أن يحسن أخلاقك، وقل: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي، وقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت) . الوصية الأخيرة: مما يعين على العشرة بالمعروف: الإنصاف والعدل، فأي موقف تحس أنك أخطأت فيه فعليك أن تتراجع في نفسك وتستدرك في خطئك، وتخاف من الله عز وجل فيما يكون منك من التقصير، فإذا وفقك الله عز وجل لهذه الأسس: سلامة الصدر وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت الموفق؛ لأننا لو جئنا نتحدث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاشر بالمعروف ما انتهى الحديث، ولكن نقول: قراءة السيرة. ثم إذا وفقت بعد ذلك إلى أنك دائما لا تنظر إلى نفسك نظرة كمال، وإذا وقع منك الخطأ أصلحته؛ فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن الأخلاق، وأن يعيننا على ذلك؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (483) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [4] ضمن الشرع للأرقاء حقوقهم، فضمن للرقيق أوقات الراحة وعدم تكليفه بما لا يطيق، كما أوجب على المالك الإنفاق على مملوكه وأن يكفيه حاجاته اليومية وضرورياته المعيشية، حتى إنه إن قدر على تزويجه زوجه. أحكام النفقة على الرقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه نفقة رقيقه طعاما وكسوة وسكنى] . شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يجب على السيد تجاه عبيده ومواليه، وهذا الفصل في الحقيقة تابع للذي قبله من جهة كونه من فصول النفقات، وقد تقدم أن النفقات في الإسلام لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح والزوجية. السبب الثاني: النسب والقرابة. السبب الثالث: الملك، ويشمل ملك اليمين وملك الدواب والبهائم. وبعد أن بين المصنف رحمه الله النفقات المتعلقة بالزوجية، وأحكامها ومسائلها، بين رحمه الله أحكام النفقات من جهة النسب، ثم بعد ذلك شرع في بيان أحكام النفقات المتعلقة بملك اليمين والنفقة على البهائم. وفي الحقيقة أن النفقة على المملوك والرقيق أمر فرضه الله عز وجل على عباده، وهو يدل دلالة واضحة على سماحة الشريعة، ولقد كان في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، وسموه وكماله، وأنه أبعد مما وصفه به أعداء الإسلام من المنقصة والمعايب التي ألصقوها به زورا وبهتانا، خاصة في مسألة الأرقاء. فمن هنا ومن هذا الدين ومن أنوار التنزيل، كانت الحقوق الواضحة البينة التي بينها رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، هنا حقوق المخلوقين تامة كاملة، هنا يوصف الشخص فيبين ما الذي له وما الذي عليه، هنا النظرة الكاملة التامة؛ لأنه تشريع الحكيم العليم الذي تمت كلمته صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وهنا المناداة بالحقوق دون أن يتقمصها المنادي لأغراضه الشخصية، وهنا النظر للحقوق دون أن تكون نظرة عمياء أو نظرة عوراء تنظر للحقوق التي لها دون الحقوق التي عليها. فهذه عظمة الإسلام تتجلى وتظهر في أبهى صورها وأجمل حللها، دون كذب وافتراء ومبالغة وخداع للناس وتمويه عليهم، فهذه الأبواب التي انعقدت في الفقه الإسلامي في بيان الحقوق التي منها حقوق النفقة؛ انظر فيها كيف يكون الترابط، يقال للشخص: أنفق على زوجتك ولا تظلمها، وأعط المرأة حقها. ويقال للمرأة: أعطي حق الرجل، ويقال للسيد: أعط حق المملوك ومن جعله الله أمانة في عنقك ورقبتك، وأنت مسئول عنه أمام الله عز وجل، ويقال لللملوك: أد حق سيدك. هنا العدل والإنصاف التي قامت عليه السماوات والأرض، وهنا الحقوق واضحة جلية قائمة على العدل الإنصاف الذي لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا به، ولا يمكن أن تستقيم أحوال البلاد إلا بهذا الذي شرعه الله جل وعلا، وبينه سبحانه وتعالى. الأرقاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمر مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوما من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلون من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] . ضرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13] ، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محاربا له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام. فإذا تمكن الإسلام منه خير الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمن عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: {فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} [محمد:4] ، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم) . فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) ، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضرب عليه الرق لما كان كافرا وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورغب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذبا، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم. على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باق ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل استأجر أجيرا ولم يوفه أجره، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه) ، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبدا، إنما يضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة. لا. فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى. لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملا وسدى بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} [الأحزاب:50] ، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم) . فالإسلام ليس يتهم أحدا زورا وبهتانا، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت) ، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب. أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلما وزورا وبهتانا. حق المملوك في السكنى والطعام واللباس قال المصنف رحمه الله: [وعليه] : الضمير هنا عائد على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم) . في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف) ، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته) ، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم) ، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس) ، وكذلك يجب عليه أن يسكنه. وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها. أما الطعام: فإن كان السيد غنيا فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسرا فإنه يطعم طعام المعسرين. وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف) ، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى. وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكرا كان أو أنثى. ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزا صغيرا أو كبيرا، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمة الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راض، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها. فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق. أحكام معاملة الرقيق قال رحمه الله: [وأن لا يكلفه مشاق كثيرا] . الكلفة دائما تكون في الشيء الذي يحتاج إلى عناء وتعب ونصب، فلا يجوز للسيد أن يحمل الرقيق ذكرا كان أو أنثى ما لا يتحمل، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تكلفوهم ما لا يطيقون) ، فنهى عن تكليفهم بما لا يطيقون، لما فيه من الظلم والأذية لهم والإضرار بهم. وبين بعض العلماء رحمهم الله: أنه يدخل في هذا أن يطالبه بعمل يرهق بدنه حتى يصاب بالمرض بعد فترة، أو يطالبه بعمل فيه إرهاق على مر الأيام، مثلا: في اليوم الأول يطيقه المولى، ثم في اليوم الثاني يطيقه، ثم في اليوم الثالث يعجز عنه، فالعبرة بمشقة العمل وعنائه، كأن يقول له: احمل هذا الشيء الثقيل. ومن تحميله ما لا يطيق: أن يطالبه بالعمل ويعطيه ساعات يسيرة للراحة، فهذا يشق على المولى ويضر به، والواجب عليه أن يتقي الله في مولاه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحميلهم ما لا يطيقون. المخارجة بين السيد وعبيده قال رحمه الله: [وإن اتفقا على المخارجة جاز] . إن اتفق السيد مع مولاه على المخارجة، وهي: مفاعلة من الخرج والخراج، وهو النسبة التي يحددها السيد لمولاه أن يأتي بها في اليوم أو الشهر، يقول له: اذهب وتكسب، وكل يوم أحضر عشرة دراهم، أو في كل يوم دينارا، أو يقول له: كل شهر تدفع ثلاثة دراهم. فهذا يسمى الخراج، إن اتفق السيد مع عبده على المخارجة، ويكون عند المولى مهنة كالنجارة والحدادة، فيقول له: اذهب وتكسب واشتغل ثم أعطني كل شهر ثلاثة دنانير، أو يقول: أعطني كل يوم درهما. فهذا خراج. والأصل في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه حجمه أبو طيبة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو طيبة مولى من الموالي، فلما حجمه رضي الله عنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته وأمر مواليه أن يخففوا عنه في خراجه، فدل على أن الخراج بشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يخففوا؛ فلم يحرم عليهم التكسب من طريق المولى والرقيق. وكذلك إذا كانت أمة تخدم في البيوت وتعطي خراجها، يقدر لها خراجا، ويجب على السيد أن يتقي الله عز وجل في الرقيق، وأن لا يحمله خراجا فوق طاقته، أو يحمله الخراج وهو صغير، انظروا كيف يصيحون في حقوق الأطفال من العمل، هذا هو ما نادى به الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، وكان أئمة الإسلام يقولون: لا يحمل أطفال الموالي لا يطالب بالكسب حتى يبلغ أشده ويقوى على التكسب. ومن هنا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كما هو مأثور عن عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين والخليفة الراشد، قال: (لا تأمروا الصبي بالكسب فيسرق) لأنه إذا لم يجد الكسب يضطر إلى السرقة فعقله ناقص قاصر؛ إذ ليس عنده عقل يمنعه، فإذا حمله سيده وهو صغير ولم يجد الكسب اضطر إلى السرقة أعاذنا الله وإياكم. ثم قال: (ولا تحملوا الأمة ما لا تطيق فتزني) ، وفي رواية: (فتكسب بفرجها) والعياذ بالله، انظروا عظمة أئمة هذا الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة، كل هذا الخير مستقى من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هنا النزاهة في بيان الحقوق وتصوير الواجبات؛ فلا يطالب الصبي بالخراج، ولا تطالب به المرأة إذا لم يكن لها مكان تعمل فيه وخشي عليها أن تعمل في الحرام. والأصل في الخراج -كما ذكرنا- السنة، وكذلك إجماع الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه في قصة أبي لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- لما اشتكى إلى عمر اشتكى من مولاه المغيرة -كما في الأثر الصحيح- أنه يطالبه بخراج كثير، فلما عرض ذلك على عمر، دل على أنه كان معروفا بين الصحابة رضوان الله عليهم المخارجة، فبين المصنف رحمه الله: أن يجوز أن يضرب السيد على مولاه خراجا ذكرا كان أو أنثى على أن يعطي أجرة يومية أو شهرية. إذا قال له: تكسب وأعطني ثلاثة دراهم؛ فما زاد ملك للعبد ينتفع به ويرتفق، وهذا بين السيد وعبده، لا يدخل في هذا مثلا العامل مع كفيله؛ لأنه ليس ملكا له، فلينتبه لهذا؛ لأن السببية في الاستحقاق من الشرع، وأما ما عداه فإنه باق على أصل الحرية لا يملك عرض المسلم وتعبه وكده إلا باستحقاق شرعي. إذا ثبت هذا؛ فإنه يضرب له الخراج إن اتفقا، ونفهم من هذا أنه ليس من حق السيد أن يجبر مولاه على التكسب، فلو قال له: يجب عليك أن تحضر كل يوم درهما لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وهذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله. حق العبد في الراحة والنوم والصلاة قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة] . للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة. وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملا بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم. وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقا في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) ، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمر هين؛ ولذلك قال الله تعالى: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور:15] . ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (أن رجلا اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إنني لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نظر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرار لله) ؛ لأنه يخاف من الله عز وجل. وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبد من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتا من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه) ، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حر لوجه الله) ، فأمر الرقيق ليس هملا في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبدا، إنما بقيود. فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريبا عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه) ، فجعل هذا شرفا لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيرا من أجل طعمة البطن وعفة الفرج. فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريبا عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة. الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريبا لأمر يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس. فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقا ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما. قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة] . القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالبا ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالبا بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذا: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهارا كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهارا. وكذلك أيضا يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقا في أن يمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حق لله عز وجل، وحق الله مقدم على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناء على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتا للوضوء ووقتا للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة. وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى. وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلا عن الدقيقة فضلا عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقرب لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعديا، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان. والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعا. فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملا تاما. فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضا، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضا ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه. حمل الرقيق على الدابة في السفر قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة] . بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟ حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفا وكمالا رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين. فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له) ، أين يكون هذا؟! من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟ فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئا من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكرا للمعروف وذكرا للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟ حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلا، وأن له حسنة ومعروفا؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكما جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه. وهذا أيضا يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضل فضله، ولا تجد أحدا ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوة صالحة، ويقول له: بارك الله فيك. وإذا كان معلما وأحسن إليه تلميذه أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلا مسنا وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل. والعكس أيضا: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان. وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] . فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة) ، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلا قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول. ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حيا بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق. والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) ، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضا العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيرا، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيرا، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه. فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة. وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (70 - 80) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلا هاشميا وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة. والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر. بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل. وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأولى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان. وهذا هو الأشبه في هذه المسألة. قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة. حق العبد في الزواج قال رحمه الله: [وإن طلب نكاحا؛ زوجه أو باعه] . إن سأل الرقيق سيده أن يزوجه، وقال: أريد أن أتزوج، فهذا حق من حقوقه؛ لأنه إذا لم يزوجه وقع في الحرام، والشريعة قفلت الأبواب المفضية إلى الفساد، والزنا من أعظم الفساد، ولذلك قفلت جميع الأبواب الموصلة إليه؛ فنهت عن النظر إلى المحرمات، ونهت عن لمس الأجنبية والخلوة بها، وسفر المرأة بدون محرم، وضرب المرأة بقدمها ليعلم ما تخفيه من زينتها كل هذا قفل للأبواب المفضية للفساد وهو الزنا، فإذا كان الرقيق محتاجا إلى الزواج وشكى إلى سيده أنه يريد أن يتزوج زوجه سيده. واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر على أنه يجب على السيد أن يزوجه؛ لقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور:32] ، فأمر الله بتزويجهم، وقال المالكية والحنفية: لا يجب عليه الزواج إنما هذا من باب المعروف والإحسان. وظاهر الآية يدل على الوجوب: (وأنكحوا) ، ولذلك مذهب الحنابلة والشافعية أشبه من حيث النص؛ لأنه أخذ بظاهره، فنقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه؛ لأنه لو بقي عنده بدون زواج وهو لا يأمن الفتنة، أفسد نفسه وغيره، نقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه، ويؤمر ببيعه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حق الأمة في الوطء أو الزواج قال رحمه الله: [وإن طلبته؛ وطئها أو زوجها أو باعها] . وإن طلبت الأمة الزواج وطئها، فإذا وطئها عفها عن الحرام، أو باعها. وطئها لأنها ملك يمين، وحق من حقوقها أن تعف عن الحرام، فإما أن يعفها هو أو ييسر لها سبيل الإعفاف بأن يزوجها من آخر، والدليل على ذلك الآية المتقدمة من سورة النور: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور:32] ، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يزوجها. فالأمة تختلف عن الرجل؛ لأنها توطأ، ومن هنا جاء فيها الخيار الثالث، وأما العبد الرجل ففيه خياران: إما أن يزوجه وإما أن يبعه. الأسئلة جواز أخذ العبد ما زاد عن الخراج بإذن السيد السؤال أشكل علي جواز الاتفاق على المخارجة مع أن مال المملوك كله للسيده أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا إشكال في هذا؛ لأن السيد له الحق أن يملك مولاه؛ ولذلك يأذن له بالتجارة ويمكن من المال، وإذا مكنه من المال فلا حرج في ذلك ولا بأس، فإذا قال له: أعطني ثلاثة دراهم يوميا والباقي لك فله ذلك، أي: إذا أذن له بالملكية ثبتت له يد الملكية على ما المال، والله تعالى أعلم. حكم خصم صاحب العمل على العامل من أجرته لسبب يراه السؤال يعمل عندي عامل ولم يقم بالعمل على الوجه المطلوب، فخصمت عليه من الأجرة ثم أعطيته المتبقي، فلم يقبل فما العمل، أثابكم الله؟ الجواب هذه قضية فيها طرفان وخصمان فلا يحكم لشخص على آخر، ولا يحكم بين خصمين بقول أحدهم؛ لكن ننبه على الأصل، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له في فقه الفتوى، قد يأتيك من يسألك فتحكم له على الطرف الثاني وأنت لم تسمع منه؛ ولذلك عتب الله على داود من فوق سبع سماوات حينما قال: {خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب} [ص:22 - 23] ، لما قال الخصم دعواه، قال داود: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} [ص:24] ، كان المفروض أن ينتظر حتى يتكلم الخصم الثاني، وهذا تعليم من الله عز وجل لنبيه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن هنا أخذ العلماء الأصل الشرعي؛ أنه لا يجوز في القضاء أن يحكم على خصم دون أن يسمع من خصمه، لابد أن يسمع من الطرفين، ومن هنا كانت الحكمة المأثورة عن علي رضي الله عنه وتحكى عن غيره: (إذا جاءك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له، فلعل خصمه فقئت عيناه) ، يعني: إذا جاءك يشتكي من مظلمة فقد يكون صاحبه عنده عشرات المظالم يقول: ضربني فلان، وتجد أنه قد ضربه أضعاف الذي ضربه، أو تجده فعل فعلا يستحق به الضرب؛ فإذا لا يحكم بين طرفين ما لم يسمع منهما. هذا عامل وهو خصمك أمام الله جل وعلا، هو أجير استأجرته؛ والأصل أنك لست من يقدر عمله، الخطأ الذي أخطأته أنك قدرت عمله وخصمت عليه، وهذا ليس من حق أحد كائنا من كان أنه يخصم من العامل شيئا بل ينبغي أن يقدر عمله الذي قام به، ويعاقب على خطئه، فالعمل الذي قام به لست أنت الذي تقدره، وليس من حقك أن تقدره، وإنما تنظر إلى اثنين من أهل الخبرة يأتون وينظرون إلى عمله الذي قام به ويقدرونه، فإن قدروه بالأجرة التي دفعتها، فما ظلمته، وإن قالوا: إن أجرته ستة آلاف ريال وأنت أعطيته أقل منها فقد ظلمته، ومن حقه أن يمتنع؛ لأنك لم تعطه حقه، فنحن لا نستطيع أن نقول: هو المخطئ أو أنت، إنما نقول: الأصل الشرعي يقتضي أنك لا تقدر العمل، وإذا امتنع لا تترك الأمر هملا، وهذا أمر ننبه عليه، أنت الآن تتحمل مسئولية أمام الله عز وجل عن هذه المظلمة وعن منع الأجير أجرته. الواجب على الشخص إذا حدثت بينه وبين العامل خصومة ألا يتركه حتى يفصلها بالوجه الشرعي، ويقول له: ما أدعك، إما أنك محق فأعطيك حقك، وإما أن أكون محقا فاعرف ما الذي أريده، أما أن تترك الأمر هكذا، وتترك الرجل يذهب، فليس من حقك هذا، وقد قصرت في الجانبين: الجانب الأول: أنك قدرت عمله وليس من حقك أن تقدره، هذا مرده إلى أهل الخبرة. وثانيا: أنك تركته يذهب، المفروض أن تذهب به إلى أهل الخبرة، أو كانت المسألة مشكلة عندك تذهب إلى من تثق بعلمه أو إلى القاضي تقاضيه، أو تنظر من عنده معرفة يفصل بينك وبينه؛ أما أن تعطيه باجتهادك ورأيك، ثم إذا امتنعت يذهب هكذا، فلا فإنه هو خصمك في هذه الأجرة. والذي أوصيك به: أن ترى أناسا من أهل الخبرة يقدرون عمله، ثم إذا كان المبلغ الذي أعطيته دون الذي يستحقه تبحث عنه وتعطيه حقه كاملا، هذا الذي أوصيك به، فإن عجزت عن معرفته والوصول إليه وتعذر عليك ذلك، تصدقت بهذا الثمن على نيته؛ حتى إذا وافيت الله عز وجل وسألك عن حقه؛ أخذ من حسناتك مما تصدقت به فكفيت مظلمته، والله تعالى أعلم. الفرق بين مصطلح الجمهور والجماهير الجواب هذا مصطلح، فإذا قيل: الجمهور. السؤال ما الفرق بين قولنا: جمهور العلماء، وجماهير العلماء، أثابكم الله؟ فهم الثلاثة في مقابل الواحد من الأربعة، مثلا الحنفية والمالكية والشافعية، يقولون: يجوز، والحنابلة قالوا: لا يجوز، تقول: قال الجمهور: يجوز، وتقصد الثلاثة في مقابل الواحد. وممكن أن تقول الجمهور. إذا كان خلاف بين الحنفية والمالكية من وجه والشافعية والحنابلة من وجه، إلا أن أصحاب الشافعي مع الحنفية والمالكية، فحينئذ تقول: الجمهور، إذا انسحبوا واختاروا قول غير إمامهم. وممكن أن تقول: الجمهور النسبي، وصورته: أن يختلف العلماء الثلاثة على الجواز، ويخالف غيرهم بالتحريم، ثم الذين قالوا بالجواز يختلفون في الجواز مع الكراهة والجواز مطلقا، فهؤلاء فيما بينهم يختلفون في مسألة أو في قيد، فتقول: جمهور الجمهور، ويكونون -مثلا- ثلاثة فيكون اثنان في مقابل الواحد، هذا يقال له: جمهور القائلين بالمسألة. وأما بالنسبة للجماهير فهذا مصطلح يقارب الإجماع، إذا قيل: جماهير العلماء. فيقصد به عامة العلماء وهو يكاد يقارب الإجماع، وغالبا لا يقال: جماهير إلا إذا ضعف المخالف، أعني: إذا كان المخالف له أفراد فيقال: جماهير العلماء على الجواز. وتجد هذا عند أصحاب المذاهب، فمثلا: عند الحنفية عالم، ومن علماء المالكية عالم، والشافعية كذلك، فهم أفراد يقولون بضد هذا القول، حينها تقول: الجماهير؛ لأن الخلاف ليس بين الأربعة أنفسهم؛ فالأربعة مع بعضهم على الجواز أو عدمه؛ فتقول: الجماهير. والجماهير غالبا مصطلح لا أستعمله إلا فيما يقارب الإجماع، إذا قلت: الجماهير فهذا مصطلح ألتزم به في الغالب فيما يقارب الإجماع، أو يكون الخلاف في المقابل ضعيفا في أغلب الأحوال، والله تعالى أعلم. حكم قراءة المسبوق التشهد السؤال المسبوق بركعة هل يقرأ التشهد الأول والأخير أم يبقى صامتا، أثابكم الله؟ الجواب المسبوق فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: بعض العلماء يرى أنك إذا صليت وقد سبق الإمام فعلت كل شيء مع الإمام كأنك تابعته من أول الصلاة، وبناء على هذا القول: يقرأ التشهد الأول والتشهد الثاني كاملا ويدعو؛ لأنه بحال المتابعة فيتابع الإمام. القول الثاني: بعض العلماء يرى أن المتابعة في الظاهر دون الباطن، ومن هنا قالوا بالاختلاف والافتراق، فيقرأ التشهد الأول مرتين، ففي التشهد الأخير لا يتم ويحتسبه كالتشهد الأول، وحينئذ يبقى صامتا بعد فراغه كما لو قرأ التشهد الأول وراء الإمام وطول الإمام فإنه يبقى صامتا. إذا كان التشهد عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبينا أن هذا هو الراجح، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في التشهد الثاني دون الأول؛ لأن التشهد أصل من الشهادتين، فإذا بلغ قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فقد وصل وأتم التشهد. أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعاء واستفتاح للدعاء، ولذلك كان التشهد الثاني دون الأول. وأكد هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف) ، وهي الحجارة المحماة، أي: أنه كان يبادر بالقيام، وهذا يدل على أنه ما كان يطيل في التشهد الأول، ثم إن إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والإطالة فيه ليس لها دليل قوي يدل عليها. على كل حال: يقرأ التشهد الأول في التشهدين، ويكون جلوسه لعذر المتابعة في الظاهر ولا يتابع في الباطن. بناء على هذا الخلاف: هل المسبوق يتابع الإمام أو يخالفه؟ وهنا ترد مسألة الصلاة على الجنازة؛ فمن دخل والإمام في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسبوقا، أو دخل والإمام في تكبيرة الدعاء، فعلى القول بالمتابعة يدخل بالدعاء، وعلى القول بأنه ينظر حال نفسه: يدخل بقراءة الفاتحة، ثم بعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو؛ لأنه لخاصة نفسه، ثم إذا سلم الإمام والى بين التكبيرات على التفصيل الذي تقدم معنا في الجنائز. على كل حال: المسألة فيها القولان المشهوران، وإذا قرأ التشهد كاملا فله وجه، وإن كان الأشبه في الحقيقة أن المتابعة للظاهر دون الباطن، والله تعالى أعلم. حكم خروج الطائف بالبيت إلى المسعى بسبب الزحام السؤال بعض الناس عند طوافهم بالكعبة على سطح المسجد الحرام يخرجون إلى المسعى لإكمال الشوط اجتنابا للزحام الذي يوجد بمحاذاة الحجر الأسود، فهل في هذا العمل شيء، أثابكم الله؟ الجواب اختلف العلماء رحمهم الله في المسعى، هل يعتبر داخل المسجد أو خارجه، والصحيح: أن المسعى خارج المسجد وليس بداخله، وعليه قرار المجمع الفقهي، وهو الأشبه في زماننا أنه خارج المسجد وليس بداخله. فائدة الخلاف: أن المرأة لو جاءت في العمرة وطافت وصلت ركعتي الطواف، ثم خرجت إلى المسعى وحاضت، شرع لها أن تتم عمرتها؛ لأنه لا تشترط الطهارة لصحة السعي، وليست بداخل المسجد، فتتم سعيها. كذلك أيضا يتفرع على هذا: أنه لو طاف فوق المسعى -إذا قلنا: إنه ليس من المسجد- فإنه قد خرج عن المسجد، ويشترط لصحة الطواف أن يكون داخل المسجد، ومن خرج من باب من أبواب المسجد أثناء الطواف ودخل من باب آخر فقد بطل شوطه، وذلك لأن الله تعالى يقول: {وطهر بيتي للطائفين} [الحج:26] ، فدل على أن الطواف لا يصح إلا داخل مسجد البيت، وبناء على ذلك: لو خرج إلى جهة المسعى فهذا يؤثر، ولا يصح ذلك الشوط إلا إذا رجع من المكان الذي خرج منه، وأتم طوافه، فحينئذ يجزيه، والله تعالى أعلم. إجزاء السعي والطواف عن المطوف به والمطوف السؤال من يدفع الكرسي المتحرك في الطواف والسعي هل يجزئ الطواف عمن يجلس على الكرسي، أو عمن يدفع الكرسي، أو عن الاثنين سويا، أثابكم الله؟ الجواب يجزئ عن الاثنين؛ لأن الطواف من القاعد على الكرسي وقع تاما كاملا، وقد طائف المطوف على قدميه؛ لأن العربة هي التي استغرقت مكان الطواف فكانت كرجلي البعير ويديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة على بعيره لما ركبه الناس كما في الصحيح، وهذه المسألة غير مسألة حمل الصبي؛ لأنه إذا حمل الصبي أو حمل غيره، فكلاهما على قدميه، ولا يجزئ طواف القدمين إلا عن شخص واحد لا عن شخصين، ومن هنا إذا كان على عربته أو دابة فإنه يجزيه حتى ولو لم يقده أحد، وكما لو كانت تتحرك بالكهرباء ونحو ذلك، فإنها تجزيه ويصح طوافه، والله تعالى أعلم. نفقة الخدم والسائقين وحقوقهم السؤال هل الخدم والسائقون والخادمات لهم من النفقة والحقوق مثل ما للأرقاء، وبماذا يوصى في التعامل معهم، أثابكم الله؟ الجواب ليس للخدم حقوق الأرقاء؛ لأنهم ليسوا بملك اليمين، فهم أحرار ولا يثبت لهم ما يثبت لملك اليمين، ملك اليمين له حقه، والخادم حقه يندرج تحت أصل يسمى بحق الأجير، هذه إجارة وهذه ملك يمين، هذا باب له أحكامه، وهذا باب له أحكامه. الخدم يوصى بتقوى الله عز وجل فيه، وأول ما يفكر فيه المسئول عنهم أن يكفهم عما حرم الله، وأن يحملهم على طاعة الله عز وجل، وأن لا يفكر في مصلحته ومصلحة أهله وولده قبل أن يفكر في هذا الأمر، وليعلم أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنها عورة من عورات المسلمين وضعت أمانة في رقبته، فإذا اتقى الله عز وجل فيها فقد نجح وأفلح وصلح له أمره، وبارك الله له فيما يكون منها. وإن ضيق فالله محاسبه وسائله، خاصة إذا كانت خادمة، فأمرها عظيم، فيرى أنها كواحدة من بناته أو أخواته، وأنها عرض من أعراض المسلمين، وأن كونها أجيرة لا يسقط حقها خاصة إذا كانت مسلمة؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يحفظها ويصونها، ولا يفتح لها أبواب الشر، وإذا فتحت عليها أبواب الشر قفلها عنها كما يقفلها عن عرضه؛ لأن المسلم مؤتمن على عرض أخيه المسلم، فما بالك إذا كانت أجيرة عنده؛ فإن نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي بالجار، فما بالك بالأجير الذي هو تحت كفالة الإنسان! فالواجب أولا: حق الله عز وجل، بأن تتفقد الخدم في الصلوات الخمس، وأمرهم بها ومتابعتهم في ذلك ومراقبتهم؛ لأنهم إذا صلوا استقامت لهم أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإذا لم يكونوا مصلين محقت البركة، فما من إنسان لا يصلي إلا كان شؤما على من كان معه، نسأل الله السلامة والعافية. فيتفقدهم في الصلاة، وفي أخلاقياتهم ومحافظتهم على أمور دينهم، فيأمرهم بما أمر الله، وينهاهم عما نهى الله عز وجل عنه، بعد هذا يفكر في مصالحه الدنيوية، ويحدد ماذا لهم وماذا عليهم، فإذا وجد أنهم يحملون ما لا يطيقون، فإنه يوصي زوجته وبناته وأهله أن يتقوا الله عز وجل في الخادمة ويحفظوا ألسنتهم عن أذيتها وسبها وشتمها، ويذكرهم بأنها غائبة عن أهلها، وأنها غريبة عندهم كالضيف، فيحرص الناس على الإحسان إليها، فإنك إن رحمتها رحمك الله كما رحمتها، فالراحمون يرحمهم الله ارحموا عزيز قوم قد ذل، فقد تكون عزيزة في أهلها فاضطرتها الأمور والظروف أن تتغرب، فيحرص كل الحرص على أن يهيئ لها بين أهله وولده من يحفظ حقها، وأهم شيء الرحمة؛ فإن الرحمة إذا سكنت في القلوب أصلح الله بها القوالب، ومن كان قاسي القلب فهو بعيد عن الله عز وجل، لا يرحم ولا يرحم، ولما قال الأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحدا منهم قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) ، فالإنسان ينبغي أن يحرص على سكون الرحمة في قلبه. وعليه أيضا أن يتقي الله عز وجل في الحقوق في الأجرة، يعطيها أجرتها عند نهاية العمل، ولا يؤخر الراتب، ومن أعظم الظلم تأخير الرواتب عن العمال والمستخدمين؛ لأنهم في أمس الحاجة إلى هذه الرواتب، وقد يحتاجها لعلاج مريض، أو لسداد ديون، وقد يأتي بعضهم تحت وطأة الديون، وهو أحوج ما يكون إلى أن يفك أسره منها، وقد يكون بيته ومتاعه مرهونا في بلده؛ هذا كله ينبغي أن يحس بها الإنسان ويستشعرها ويتقي الله عز وجل. وهذا حقه وهذه أجرته، وإذا جاءه يعطيه الأجرة فلا يعنته ولا يؤذيه، لا تعطيه الأجرة بطريقة يذل بها، ولا تحيله على مكان يذهب يأخذ منه راتبه أو أجرته، لأنه ليس من حقك هذا، فيذهب في الشمس والحر ليقف مع الناس، وهذا ليس من حق أحد في أجور الناس وحقوقهم؛ لأن الأجير يعطى أجره، فكما أنه وفى لك في عملك وأعطاك عملك فعليك أن تعطيه أجرة عمله، وتتقي الله عز وجل، وهذه من حقوق العامل مطلقا. كذلك أيضا من حقه عدم تعريضه للخطر والضرر كما تقدم معنا في ملك اليمين، فالأعمال التي فيها خطورة عليه في نفسه وبدنه يحفظهم منها سواء كان خادما أو خادمة. كذلك أيضا يحفظ السائقين من مواضع الفتن والريب، ويحجبهم عنها إذا نزلوا في أماكن تكثر فيها الفتن، ويختار أوقاتا ليس فيها فتن، يتقي الله عز وجل فيهم ويرحم غربتهم، ويحرص كل الحرص على الإحسان إليهم. كذلك مما يوصى به في حقهم: القبول للمحسنين والتجاوز عن المسيء، فإذا أخطأ في كلمة فقد تكون هذه كلمة خرجت من لسانه دون أن يشعر، فالعامل حينما يكون سائقا قد يسوق ويرهق إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذه زائدة على الاتفاق بينه وبين الأجير، ومقاطع الحقوق عند الشروط، فانظر العقد الذي بينك وبينه ووفه له كاملا، وإلا كان خصما لك أمام الله عز وجل، فخير لك أن تلقى الله خفيف الحمل خفيف الظهر. وكم من إنسان يمسي ويصبح وهو في كرب وهم وبلاء وغم في نفسه، لأنه قد ظلم غيره وهو لا يدري، فإن المظلوم إذا رفع كفه على من ظلمه فإنه يؤذنه بدمار والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) ، وأجمع العلماء على أن دعوة المظلوم تستجاب على من ظلمه ولو كان المظلوم كافرا؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) ، فليتق الله الإنسان وليعلم أن هناك عقدا واتفاقا؛ إذا كان الاتفاق أن يعمل إلى المغرب فإنه ينتهي عمله عند أذان المغرب، فما زاد فإنه يخير هل يريد أن يعمل أو لا، وإذا كان يعمل فتسأله: كم يريد؟ ثم تعطيه أجرته. كذلك إذا كان يراد لأعمال معينة ينجزها، فإذا أنجز هذه الأعمال، فمن حقه أن يستوفي حقه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكما أن رب المال ورب العمل له حق، فكذلك عليه حق للأجير. وكذلك على الأجير أن يتقي الله في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يتقي الله عز وجل في أداء العمل بالنصيحة والشعور بأن ماله كماله، وحينما يكون خادما في البيت؛ فليعلم أن أسرار البيت أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، والإنسان يعلم خادمه هذا، ويقول: هذه الأسرار أمانة في عنقك، ويعلمه أن فضيحة سر المسلم تؤذي العبد بفضيحة الله عز وجل، فقد تأتي الخادمة وتجلس مع خادمة ثانية تحكي لها جميع ما تراه في البيت، وهذه أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، فلا يجوز للمسلم أن يهتك ستر أخيه المسلم، ولو قال: عندنا بعض الناس يفعل كذا، فيفهم من كلامه أنه يقصد هؤلاء حتى ولو لم يذكرهم، ما دام أنه معلوم أنه لا يعمل إلا عند هؤلاء؛ فطبيعة الحال تظهر أنه يقصد من يعمل عندهم. ومثل هذا أسرار التجارة، فهناك أسرار للعمل في التجارة لا يفشيها، وهناك أسرار لزوجته وولده من خصومات ونزاعات، فلا يقول: والله فلان يكره ولده، فلان يضرب ولده، فلان يفعل مع أولاده وهم يفعلون، هذه أسرار ينبغي حفظها. ومن حقوق أصحاب الأعمال على العمال أن يتقوا الله عز وجل ويحفظوا ألسنتهم، وأن لا يفشوا هذه الأسرار؛ لأن المسلم مأمور بالستر على أخيه المسلم؛ لأنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد؛ يحب له ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك ينبغي على العمال أن يتقوا الله عز وجل في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يؤدوها كاملة. كذلك من الخيانة أن يتقن العمل حال وجود صاحب العمل، فإذا غاب عنه تساهل في أداء العمل ولم يبال بعمله؛ فإن الله رقيب وحسيب وشهيد، ومراقبة الله لك أعظم من مراقبة المخلوق لك، وإذا نصحت في غيبته سخر الله لك من ينصح لك في غيبتك كما نصحت للناس، والله جل وعلا يجزي المحسن بإحسانه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا، وأن يتوب علينا، وأن يتجاوز عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (484) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [5] إن رحمة الإسلام قد شملت حتى البهائم، ونفقة الحيوانات ليست من المسائل الاختيارية، أو التي يكون فيها فضل للمنفق، بل هي من اللوازم، فيلزم صاحب البهائم القيام بكل ما يتبع ملكيته لها من نفقة وأكل وشرب ورعاية لها بما يصلحها وإلا باعها ولا يحملها ما لا تطيقه أو تعجز عنه. أحكام نفقة البهائم ورعايتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها] : شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان الأحكام المتعلقة بالنفقة على الدواب، وقد تقدم معنا في أول الباب أن النفقة لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح. والثاني: النسب والقرابة. والثالث: الملك. وبينا النفقة على الزوجة فيما يتعلق بسببية النكاح، ثم النفقة على الأقارب فيما يتعلق بسببية النسب، ثم بينا أن سبب الملك يشمل جانبين: الجانب الأول: يتعلق بملك اليمين بالنسبة للآدميين. والجانب الثاني: يتعلق بملك الحيوانات والبهائم. فالإنسان إذا ملك ذوات الأرواح: إما أن يكون المملوك من الأرقاء والآدميين، وإما أن يكون من الحيوانات والبهائم. وفي الفصل السابق تحدث المصنف رحمه الله عن أحكام النفقات بالنسبة للآدميين، وهذا الفصل سيتحدث المصنف رحمه الله فيه عن النفقة على البهائم. فقدم النفقة على الآدميين؛ لشرف الآدمي، ولأن الله كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، فابتدأ بالنفقة على الإنسان قبل بيان نفقة الحيوان. والنفقة على الحيوان حق من حقوق الحيوان، وقد بينا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي كفلت حقوق المخلوقين، وأعطت كل ذي حق حقه بعدل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة الإسلامية، ويدل دلالة واضحة على أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن ينعق أعداؤهم بالحقوق فيعلموهم شيئا يجهلونه، بل إن الحقوق مقررة عندهم منذ فجر الإسلام. فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت يأمر بالحقوق، ويذكر بها، فكان آخر ما أوصى به: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، أي: اتقوا الله في الصلاة فهي حق الله، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، وهذا حق المخلوق، فنبه بقوله: (الصلاة) على كل حق من حقوق الله، ونبه بقوله: (وما ملكت أيمانكم) على كل حق من حقوق المخلوق، سواء كان من الآدميين، أو من غير الآدميين. علف البهائم وقوله رحمه الله: (فصل) يدل على أنه قسيم لما قبله، وهذا مبني على أنه متعلق بالنفقات. قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه] . أي: على المسلم أن يقوم بعلف البهائم، والبهائم: جمع بهيمة، قيل: لأن كلامها مبهم غير واضح، فهي من العجماوات مما لا يعرف كلامه. والمراد بـ (عليه) : يجب على المسلم أن ينفق على كل بهيمة يملكها بإطعامها، وهذا ما عبر عنه بقوله: (علف) . والبهيمة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون راعية وسائمة، فيمكنه أن يطعمها عن طريق الرعي والسوم، كما يحدث هذا في البادية. الحالة الثانية: أن تكون محتاجة إلى العلف، بأن يشتري لها العلف، أو يحش لها الحشيش ويأتي به إليها. وقد يكون هناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين، لكن إذا كانت البهيمة يمكن أن ترعى ويوجد الرعي فيخرجها إلى المرعى، فيجب على المسلم أن يمكن البهيمة من حقها في العلف، إما أن يطعمها إذا كانت محبوسة، وإما أن يرسلها لكي ترعى إذا وجد الحشيش والمرعى الذي يمكن عن طريقه أن تتحصل على طعامها وعلفها. والأصل في وجوب النفقة على البهيمة: حديث أبي هريرة في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، فدل هذا الحديث على أن من حبس البهيمة فإنه يجب عليه أن يطعمها، أو نقول له: أرسلها حتى تصيب الطعام، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله لظاهر هذا الحديث. فقد أجمع الأئمة على أن من ملك البهيمة يجب عليه أن يقوم على علفها، سواء قام بذلك مباشرة، أو أقام من يقوم بعلفها كالعامل والأجير، فإذا وكل أحدا بالقيام على علفها، فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن هذا الحق لا تبرأ ذمته فيه إلا إذا أقام عليه الأمين الذي يوثق به، لأنه ربما أقام شخصا لا يوثق بأمانته، وحينئذ يضيع البهيمة، ويقصر في حقوقها في الإطعام، فإن العامل إذا لم يكن أمينا، ولم يتق الله عز وجل في البهيمة؛ ربما لم يجد الطعام والعلف، أو وجد مشقة إذا حش الحشيش أو جزه لها، فربما عدل إلى طعام لا يقوم به حالها، وقد يطعمها بعض الطعام لا كله، وقد يبخل عنها بالكلية فيعذبها، فحينئذ يكون من أقامه شريكا له في الإثم والعياذ بالله. فالواجب على المسلم أن يقوم على علف بهائمه، وإذا أعلفها ينبغي عليه أن يتقي الله في هذا العلف، فإذا أراد أن يطعمها ينبغي أن يكون هذا العلف مما يتحقق به سد حاجة البهيمة، ويكون مما ترغب فيه البهيمة، فإذا كان علفا مضرا بصحتها، أو قليلا لا يقوم بها، فإن هذا من تضييع الحيوان، ولا يجوز له ذلك. فقوله: (عليه علف بهائمه) : أي عليه أن يطعم البهائم. والذي قرره العلماء: أنه إذا أرسل البهيمة لترعى، فليس بواجب عليه أن يتركها حتى ترعى غاية الرعي، إنما المراد الحد الذي تحصل به الكفاية. وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى. سقي البهائم قال رحمه الله: [وسقيها] . أي: يجب عليه أن يسقي بهيمته كما أنه يجب عليه أن يطعمها، وسقي الماء تختلف فيه البهائم؛ فمن البهائم من يصبر عن الماء كالإبل، ولكن لها مورد وأمد معين، فيراعي هذا الأمد، فيختار أولا الزمان لسقيها، ويمكنها من أن تشرب، ويكون هذا الشراب الذي تشربه أو المورد الذي ترده موردا صالحا؛ بحيث لا يهمل البهيمة فيضع ماءها في أوان قذرة، أو يسقيها من الماء القذر، أو الماء الذي يكون فيه ضرر على صحتها، كل هذا واجب عليه أن يراعيه في طعامها وشرابها. وهذا كله مبني على الأصل؛ لأنه إذا قصر فإنه يحاسب، فإما أن يطعمها ويسقيها بالمعروف، وإما أن يرسلها. قال رحمه الله: [وما يصلحها] . لما ذكر المصنف أن عليه سقي بهائمه، دل على أنه لا يجب عليه سقي بهائم الغير، ولا يجب عليه أن يطعم بهيمة الغير، لكن هذا فيه تفصيل: فلو أنه مر على بهيمة ووجدها محتاجة للطعام أو للشراب؛ فإنه يحسن إليها؛ فيسقيها ويطعمها، وهذا من أعظم المعروف. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب يطوف ببئر، فنزلت فملأت موقها-يعني: خفها- فسقته؛ فشكر الله له) : يعني أن الكلب سأل الله أن يشكرها لأنه لا يستطيع أن يشكرها، وسأل الله جل وعلا المالك لكل شيء، ورب كل شيء، والمطلع على كل شيء، فهو بهيمة لا يستطيع أن يعبر عن شكره لذلك المعروف فسأل الله أن يشكرها، فما كان من ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض الرحيم الذي يرحم من يرحم؛ إلا إن غفر لها ذنوبها، فجعل شربة ماء سببا في رحمته لها، فغفرت بها ذنوب عمرها. وفي الرواية الثانية: (شكر الله لها) أي: أن الله أعظم منها هذا المعروف، وهو سقي هذه البهيمة في هذا المكان، ونزولها إلى البئر، وتكبدها مشقة سقيه رحمة منها بهذه البهيمة، فما كان من الله إلا أن رحمها، لأن الله يرحم خلقه، ويرحم من يرحم خلقه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) . وقال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم) ، ومفهومه أن من يرحم يرحم، ففي هذا الحديث الجليل: أنه يسقي بهائم الغير ويحسن إليها كما يحسن إلى بهائمه، لكن الفرق: أن بهائمه على سبيل الوجوب واللزوم، وبهائم غيره على سبيل الندب والاستحباب. حق البهائم في تحميلها قدر طاقتها قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه] . أي: وعليه أن لا يحمل بهائمه ما تعجز عنه، فلا يكلف البهيمة ما لا تطيق، والمراد بهذا: النهي عن تعذيب الحيوان، وتعذيب الحيوان يكون على قسمين: القسم الأول: تعذيبه حيا. القسم الثاني: تعذيبه عند موته. وكلاهما محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، ونهى أن يتخذ الحيوان غرضا؛ مثل أن يتخذ العصفور أو الطائر هدفا يرميه بالسلاح ويتدرب عليه، أو يصيده من غير حاجة، فلا يجوز أن يعذب الحيوان بحياته ولا بعد موته. ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) . فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا من الإحسان، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يعذب الحيوان بتحميله ما لا يطيق. فلو كانت عنده بهيمة وأراد أن يحمل عليها المتاع؛ نظر إلى طاقتها في حمل المتاع، ولا يجعل عليها من المتاع فوق طاقتها، وإنما يحملها قدر طاقتها، كذلك أيضا لو أراد أن يسقي على البهيمة، فإنه إذا أراد أن لا يتلفها في السقي وإدارة السواني؛ احتسب لها المدة التي تطيق فيها الإدارة، ولم يحملها فوق طاقتها وما تعجز عنه. حق البهيمة في إرضاع ولدها قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها] . أي: ولا يجوز له أن يحلب من لبن البهيمة ما يضر بولدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر؛ فقال: (لا ضرر ولا ضرار) ، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه، وهناك خلاف في سنده، لكن من أهل العلم من حسنه، وهو قاعدة عند أهل العلم مجمع عليها، وهي: الضرر يزال. فلا يجوز أن يحلب لبنها إذا كان ولدها يحتاج هذا اللبن، والسبب في هذا أنه إذا حلب لبن البهيمة ربما امتنع الولد عن شرب لبن غير أمه، وهذا يحدث في بعض الحيوانات؛ وحينئذ لو شرب الإنسان هذا اللبن أضر بالحيوان، ولربما أزهق روحه ومات الولد أو ساءت صحته، فحينئذ تقدم مصلحة ولد البهيمة على مصلحة الشارب وهو المالك، ونص العلماء على اختلاف مذاهبهم: على أنه لا يجوز لمالك البيهمة أن يحلبها متى احتاج ولدها إلى ذلك اللبن. ما يلزم به المالك العاجز عن نفقة بهائمه قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها] . يقول رحمه الله: (إن عجز) المالك عن نفقة بهيمته، (أجبر على بيعها) ، وهذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: لو أن إنسانا ملك بهائم ثم افتقر ولم يستطع أن يشتري طعامها، هل يجبر على بيعها، أو لا يجبر؟ جمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم على أن القاضي يجبره على بيعها. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: إلى أنه ليس من حق القاضي أن يجبر صاحب البهيمة على بيع البهيمة؛ والسبب في هذا: أن الإمام أبا حنيفة نظر إلى مسلك قضائي، ووجهه: أن الدعاوى لا تكون في القضاء إلا وجد الطرفان المتنازعان، وسأل صاحب الحق حقه، وصاحب الحق هنا بهيمة، وليس هناك مسلك قضائي يقيم البهيمة خصما قضائيا لمالكها، صحيح لو كانت البهيمة إنسانا، والإنسان هذا طالب بحقه، صح قضاء أن تجرى الخصومة، وتكون خصومة شرعية، لكن البهيمة لم ترفع الدعوى ولم تدع ولم تشتك بسيدها ومالكها، فالإمام أبو حنيفة يقول: لا يصح أن يقال: إن القاضي يحكم على المسلم ببيع ماله، فالمال ملك له، وحينئذ لا يلزم ببيعه، لكن يقول: يأمره بالعدل وبالإحسان، ويحثه على إطعامها أو بيعها، لكن لا يلزمه. وذهب الجمهور إلى غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له) ، وهذه بهيمة ولا ولي لها، وهي لا تستطيع أن تسأل حقها، فولي الأمر ولي لمثل هذه الأمور، فهو منصب كالناظر في مصلحتها. فمسلك الجمهور أعدل، وأقيس، وأقعد للأصول، وهم إن شاء الله أولى بالصواب. وبناء على ذلك: نجبر صاحب البهائم على بيعها، لكن هذا فيه تفصيل: إذا كانت عنده بهائم كثيرة فلا نجبره على بيعها جميعها، بل نجبره على بيع العدد الذي يمكن من خلاله شراء الطعام للعدد الباقي. فلو كانت عنده بهيمتان؛ فلا نقول له: يجب عليك بيع البهيمتين إذا لم يطعمها، بل نقول: بع واحدة، وأنفق على الثانية من نفقة هذه الواحدة. فلا يجبر على بيع الجميع، إنما يجبر على بيع البعض إذا كان البهائم فيها عدد كثير يمكن بيع بعضها وإبقاء البعض. وهذا مبني على أصل شرعي: أن الأصل بقاء اليد، وأن القضاء لا يتدخل بنزع اليد والملك إلا عند الضرورة. وهذه القضية هي التي أثنى الله فيها على حكم سليمان عليه السلام وجعله أفضل من حكم داود عليه السلام: رجل غفل عن غنمه، فأكلت الغنم زرع غيره، فاختصم صاحب الزرع وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، فنظر داود ووجد أن قيمة الطعام الذي أكلته البهيمة تعادل قيمة الغنم، فحكم وقضى عليه السلام: أن صاحب المزرعة يملك الغنم، وحينئذ أخلى صاحب الملك عن ملكه، فلما خرج قال سليمان: لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا؛ لحكمت على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض يزرعها، فيعيدها كما كانت، وأن يأخذ صاحب الأرض غنم الرجل فيشرب من حليبها، وينتفع بها حتى يعود إليه زرعه. فقال الله تعالى: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء:79] . فأثنى الله على حكم سليمان وفضله على حكم داود، والسبب في هذا أنه أبقى يد الملك، ولم يحكم بانتقال الملكية؛ فراعى الأصل، ومن هنا لا نقول: بأنه يجب عليه بيع جميع الغنم أو البقر أو الإبل، بل تبقى يد الملكية، ويبيع بقدر الحاجة فقط. لأن القاعدة تقول: ما أبيح لأجل الحاجة يقدر بقدرها، فنحن مضطرون للإنفاق على البهائم، فنقدر قدر الإنفاق، ونوجب عليه البيع بقدر ذلك، ولا يلزم ببيع، وإذا قلنا: يبيع بعض الغنم، فإن كان الغنم كله بحالة واحدة جيدة أو رديئة فلا إشكال، لكن إذا كان بعضه أجود من بعض، فإن القاضي لا يجبره على بيع الجيد، وإنما يجبره على بيع الرديء؛ لأنه يتضرر بيع الجيد كما لا يخفى. قال رحمه الله: [أجبر على بيعها، أو إجارتها] . نقول له: بعها أو أجرها؛ لأنه إذا أجرها أمكنه أن يأخذ الأجرة، وينفق عليها ويطعمها. قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت] . إذا قال: ليس هناك من يستأجرها، قلنا له: بعها، ففصلنا بنفس التفصيل الذي تقدم. في هذه الحالة إذا لم يمكن إجارتها ولا بيعها، قال: يؤمر بذبحها؛ لأن الحيوان في هذه الحالة سيموت ويهلك؛ لأنه إذا لم يجد طعاما فإنه سيهلك لا محالة، وحينما يهلك بالذكاء أفضل من أن يهلك حتف نفسه. وهذه المسألة بنيت عليها مسألة وهي: إذا مرضت البهيمة، وتعذبت بمرضها، أو وجدت بهيمة فيها عاهة وتعذبت بهذه العاهة، وذكاها من أجل أن لا يأكلها ولكن من أجل أن يريحها بالموت، وهذا ما يسمى بقتل الرحمة. فقتل الرحمة: منع منه طائفة من أئمة العلم رحمة الله عليهم، وقالوا: الله أرحم بخلقه، ونحن لسنا مسئولين عن هذه البهائم، إنما نحن مسئولون عما نملك، وأما قتلها وإزهاق روحها لغير الأكل فمنهي عنه شرعا، فكونها فيها عاهة، فالله خلقها على هذه العاهة، فلا يتدخل مخلوق في أمر الله عز وجل، وهو أعلم سبحانه وتعالى بخلقه. وقال بعض العلماء: يجوز أن يذكيها وأن يقتلها إذا رآها تتعذب، ولكن في الحقيقة إذا كانت حالة الذكاء تمكن من الانتفاع بها، وكان تركها لا يمكن من الانتفاع، قدمت الذكاة، والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح: أن امرأة كانت ترعى غنمها بسلع، وسلع كان خارج بناء المدينة قديما، وإلا فهو داخل حدودها، وكان سلع أشبه بالمرعى لأهل المدينة لأنه خارج العمران، وكان سلع إلى إلى الثمانين هجرية خارج سور المدينة، مع أنه لا يفصله عن المسجد بعض الأحيان إلا ميلا واحدا، فمع هذا كانت ترعى في هذا الموضع، فهجم الذئب على غنمها، وأخذ شاة وبقر بطنها، فاستغاثت المرأة، ففر الذئب، وأخذت الشاة تخرج أمعاؤها، فقامت المرأة وكسرت حجرا، وذكت الشاة، فلما ذكت الشاة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه البهيمة؛ فأجاز أكلها وأحلها. وهذا الحديث العجيب مع أنه واقعة عجيبة، إلا أن فيه من دقائق ونفائس الأحكام الكثير، بل هو من غرر الأحكام. منها: أن هذا الحديث فرعوا عليه قاعدة فرعت عليها مسألة موت الدماغ الموجودة الآن. هذا الحديث أخذوا منه مسألتنا هذه وهي: أن المرأة قتلت البهيمة وذكتها، لأنها لو تركتها ستموت حتف نفسها فتصبح ميتة، فلا ينتفع بها. وإذا ذكتها صلحت للأكل فانتفع بها. وفرق بعض العلماء بين قتل الرحمة، وبين هذه المسألة؛ فقتل الرحمة: أن تقتل البهيمة ولا تؤكل، وهنا تقتل البهيمة وتؤكل. والأصل أن البهيمة مخلوقة للآدميين للانتفاع بها، وقتل الرحمة يخوف الانتفاع، لأنه البهيمة يكون فيها مرض، ولا يمكن الانتفاع بها، وغالبا ما يكون المرض مضرا، أو نحو ذلك. الشاهد: أن حديثنا هذا أخذ منه جواز قتل البهيمة، لكن لو كان قتلها للمنفعة، مثلا: دهستها سيارة، فإذا تركت ماتت حتف نفسها، فلم يحل أكلها، فيأتي الشخص فيذكيها حتى تصلح للأكل، لكن إذا ذكاها في هذه الحالة، فهل القاتل الذي دهسها؟ أو الذي ذكاها؟ هذه مسألة مهمة-هي التي تفرع عنها مسألة موت الدماغ- الحياة المستقرة هل هي كالعدم أو هي حياة؟ الحياة المستقرة: هي أن تضرب البهيمة ضربة قاتلة، وترفس وهي في آخر رمق من حياتها، فلو أنها ذكيت، وقلنا: إن حياتها في هذه الحالة حياة مستقرة، فالذكاة صحيحة ويحل أكلها؛ لأنها ماتت بالذكاة، وإن قلنا: إن الروح شبه مزهقة؛ فحينئذ لا تنفعها الذكاة لأنه قد استنفذت روحها. فوجه دخول هذه المسألة: أنه إذا كانت البهيمة تتعذب، وتتضرر بالمرض، وأراد ربها أن يقتلها، فإنه: يجوز قتلها، ومن هنا قالوا: يؤمر بذبحها، لكن الأمر بذبحها لا يمنع من أكلها بعد الذبح، فهي شبيهة بالحديث الذي معنا، لأنه إذا ذبحها دفع الضرر عنها، وحل أكلها، ولكن إذا تركها ماتت حتف نفسها، فلم تصلح للأكل. وحينئذ يستقيم قول المصنف رحمه الله: إنه يؤمر إما ببيعها، أو إجارتها، أو ذبحها. الأسئلة حكم خصي البهائم لتطييب اللحم السؤال هل خصي البهائم من أجل تطييب اللحم أمر جائز؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد اخلتف العلماء رحمهم الله في مسألة خصي البهائم: فمن أهل العلم من قال: يجوز خصي البهائم لتطييب اللحم؛ لأنه يقصد به مصلحة، والبهيمة في الأصل مخلوقة للآدمي، كما قال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية:13] . قالوا: فإذا خصيت طاب لحمها، واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين. والذي يظهر أن هناك فرقا بين الإيجاء والخصاء، فإذا كان خصاء وليس تعذيبا مضرا، فإنه لا بأس به، وأما الخصي لقطع نسلها، والإضرار بها وتعذيبها؛ فإنه غير جائز، إعمالا للأصل. والله تعالى أعلم. حكم قتل الحشرات كالنمل وغيره السؤال أشكل علي مسألة بعض الحشرات غير الضارة؛ مثل النمل، هل يجوز قتلها أم لا؟ الجواب لا يجوز قتل النمل من غير حاجة، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبيا من أنبياء الله نزل في ظل شجرة، فنام فقرصته نملة، فقام فأمر برحله فرحل؛ فإذا هو بقرية من النمل، فأمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه: أبنملة واحدة أهلكت أمة تسبح الله؟) . وهذا يدل على أنه لا يجوز قتل الحشرات، إلا إذا أضرت وآذت. نعم يجوز قتلها بقدر الحاجة، أو تنفيرها من البيت، أو إخراجها منه، فإذا لم يمكن إلا بقتلها فإنها تقتل إذا ضرت بالإنسان، أو ضرت بالطعام، أو نحو ذلك. وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] . قال: قطع الشجر، وقتل الحيوانات من غير حاجة، فهذا منهي عنه، ولا يجوز شرعا. والله تعالى أعلم. حكم حبس الطيور للزينة السؤال ما حكم حبس العصافير ووضعها في الأقفاص من أجل الزينة؟ الجواب يجوز حبس العصافير والطيور إذا كان يطعمها ولا يعذبها، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال-وهو من حديث أنس في السنن-: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟!) . والنغير تصغير النغري؛ وهو نوع من الطير معروف، قيل: يحبس لجماله، وقيل: لجمال صوته، وهذا يدل على أنه لا بأس بحبس البهائم والطيور، بشرط أن يقوم على طعامها ولا يعذبها. حكم البيع في المسجد وتوابعه السؤال هل يجوز البيع في المنطقة الواقعة مؤخرة المسجد، كالمظلات؟ الجواب إذا كان في المسجد فلا يجوز، سواء كان في آخره أو أوله أو أوسطه، فالمسجد لا يجوز البيع فيه، ومن باع فيه فلا أربح الله صفقته؛ لأن المساجد ما بنيت للبيع، ولكن إذا كان خارج المسجد؛ فخارج المسجد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون رحبة؛ له سور محيط به، فإذا كان له سور ويحفظ، وأرض موقوفة مسبلة تابعة للمسجد؛ فمذهب بعض العلماء: أنها تابعة للمسجد، يجوز للمتعكف أن يخرج إليها، ولا تجوز للحائض أن تدخل فيها، فتسري عليها أحكام المسجد. وأما إذا كانت غير مسورة وغير محاطة، فإنها لا تأخذ حكم المسجد، فيجوز فيها البيع والشراء. والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (485) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [6] ما زالت رحمات الله تتوالى على عباده حتى شملت البهائم، ومن رحمته جل وعلا بهذه البهائم أن ألزم مالكها بتبعات الملكية من أكلها وشربها ورعايتها، وقد ذكر الفقهاء تفصيلات وضوابط لما يجب على المالك من حقوق الحيوان المملوك، حتى ذكروا ضوابط ومقادير الحمل عليه والسفر به، وما يحكم على المالك عند العجز عن أداء حقوق البهائم التي تحت يده. نفقة البهائم وأحكام رعايتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها] . وجوب علف البهائم على المالك يقول رحمه الله: (وعليه) أي: يجب على المسلم أن ينفق على بهائمه، والدليل على ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي عذبت في الهرة، وهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحبس الحيوان، إلا إذا قام على رعايته وطعامه وما يحتاج إليه؛ لأنه إذا حبسه ومنعه من الرعي ومما فيه رفق به فقد عذبه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، والعكس بالعكس، فكما أن الإسلام نهى عن تعذيب الحيوان فقد رغب في الإحسان إليه، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة الزانية أن الله غفر ذنوبها بشربة ماء سقتها لذلك الكلب، فدل هذا على أمرين: أولا: مشروعية القيام على الدواب ورعايتها والإحسان إليها فيما تحتاج إليه من طعام وغيره. وثانيا: وهو عكسه، تحريم الشريعة للإساءة والأذية والتعذيب للحيوان والقتل له بدون وجه حق، ومن هنا قال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] ، قال: من ذلك قتل الحيوان من غير ما حاجة. قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه] لعلف البهائم صورتان: إما أن يكون هناك مرعى يمكن للحيوان أن يخرج إليه ليرعى ويسوم فيه، فحينئذ الواجب عليه تمكين الحيوان من الرعي، وفي هذه الحالة لو أخرج الحيوان بنفسه أو أخرجه وكيله أو العامل عنده فقد برئت ذمته بهذا، لأن الحيوان من طبيعته وفطرته أن يأكل قدر حاجته، لكن الإشكال عند العلماء إذا أخرجه للرعي والسوم هل يجب عليه أن يترك البهيمة إلى أن تشبع غاية الشبع، أم أن الواجب قدر الكفاية، ثم ما فضل بعد ذلك فهو فضل؟ قال بعض العلماء: الواجب أن يخرج بالبهيمة للرعي في حدود حاجتها، وفائدة الخلاف: أنه لو خرج يوما وعنده ظرف ووقته ضيق وما استطاع أن ينتظر الحيوان حتى يصل إلى حد الشبع، فمكن الحيوان من الرعي إلى حدود الكفاية، أجزأه على القول الذي لا يشترط الكمال، ولم يخل من مسئولية على القول الثاني. والصحيح: أن العبرة بقدر الإجزاء، أعني: القدر الذي تحصل به كفاية الحيوان. إذا كانت ترعى البهيمة فلا يخلو الرعي من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون قائما بالكفاية على أتم الوجوه، بمعنى أنه يرتفق به الحيوان ويجتزئ به، فحينئذ لا إشكال. وإما أن يكون الرعي قليلا كما يحصل في بعض أحوال الجدب، فإذا كان الرعي قليلا وجب عليه أن يسد كفاية البهيمة من العلف، ولذلك لو كانت البهيمة تحتاج إلى رعي فرعت ثم بقي عندها عجز في طعامها فعلية تأمين هذا العجز، وهذا يختلف باختلاف الإبل والبقر والغنم، فالمقصود أنه لابد من تحصيل قدر الكفاية. وقوله: (عليه) يفهم منه الوجوب وهو محل إجماع، أعني أنه يجب على من ملك البهيمة أن يطعمها. وقد سبق أن بينا أن النفقة تجب: إما بسبب النكاح، أو بسبب القرابة، أو بسبب الملك، وهي هنا بسببية الملك، فنظرا لكونه مالكا للبهيمة أمر بالنفقة عليها، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فالعبد كما أنه ينال منافع البهيمة ويملك رقبتها، فالواجب عليه أن يؤدي حق هذه البهيمة، وعليه علف بهائمه. الحالة الثانية: أن لا يكون هناك مرعى، فإذا لم يكن هناك مرعى وجب عليه أن يشتري للبهائم طعامها، وحينئذ ينظر: فهناك طعام من العلف، وهناك طعام من الحبوب، والعلف والحبوب فيها الغالي والرخيص، فحينئذ ينظر إلى حال الإنسان، فإذا كان غنيا قادرا فإنه ينفق على قدر ما يحصل، فلا ينتقل ببهائمه إلى الطعام الرديء القليل الذي يضر بها، أو يجحف بها، بناء على أنه يريد سد الكفاية، خاصة إذا كان غنيا، فقد أمر الله عز وجل الزوج أن ينفق على زوجته بقدر وسعه، فلما وسع الله على الغني لزمه أن ينفق نفقة الغني ويحسن إلى بهائمه، ولا يضيق عليها. أما لو ضاق عليه الحال، وصعب عليه أن يشتري العلف الغالي، فإنه يطعمها من العلف الذي يحصل به قوام بدنها، فلو فرضنا أن علفها في اليوم الواحد يختلف، فالجيد منه بعشرين والمتوسط بخمسة عشر والرديء بعشرة، فإن كان العلف الرديء لا يضر بصحتها ولا يجحف بها، علفها من العلف الرديء، وهذا قدر وسعه وطاقته، فإن كان يضر بصحتها ولا يملك هذه القيمة؛ ففيه التفصيل الذي سنذكره، من أنه يؤمر ببيع بعضها والنفقة عليها بالمعروف. وقد بين رحمه الله أنه يجب عليه ذلك، والضمير في قوله: (عليه) يعود على المالك، وقوله: (عليه) يدل على اللزوم، أي: أنه أمر على اللزوم وليس على التخيير. وجوب سقي البهائم على المالك قال رحمه الله: [وسقيها] . في القديم كان الماء عزيزا، وكان الناس يستقون من الآبار لأنفسهم ولدوابهم، وهناك آبار تردها البهائم. وهذا السقي سواء قام به الشخص نفسه، أو قام به عامله، أو من يوكله؛ فعليه أن يورد البهيمة في الأيام التي تحتاج فيها إلى السقي، وذلك يختلف: فالإبل أكثر صبرا من البقر والغنم، فيقدر الوقت الذي تحتاج فيه إلى السقي، ولا يجوز تأخيرها عن اليوم الذي ترد فيه. وهكذا لو كانت محبوسة عنده في البيت، فيجب عليه أن يتفقد طعامها وشرابها وأن لا يتكل على العامل، لأن البعض قد يتكل على عماله، وهذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، بل الراجح: أن عليه بين فترة وفترة أن ينظر في بهائمه، وأن يتفقد هذا القيام على حوائج البهائم، وهذا أصل واجب على الموكل في كل من وكله، فإذا وكلت وكيلا فلا تتكل عليه، بل عليك أن تباغته، وأن تأتي فجأة لتنظر كيفية رعايته لهذا الشيء الذي ائتمنته عليه، ولا تحسب أن توكيلك له يخليك من المسئولية والأمانة، فإن الوكيل عنك أمين -كما ذكرنا في باب الوكالة- وقد نزلته منزلتك، فلابد من أن يكون اختيارك له في محله، فقد يكون أمينا في حال، وقد يغتر بحسن ظنك فيه فيهمل ويقصر، والإنسان ضعيف. فالواجب على رب البهيمة أن يتفقد بهائمه بسقيها، ويسأل العامل: متى تسقي البهائم؟ ومتى تطعمها؟ ومتى تقوم؟ عليها، فإذا وجد أنه قائم على الوجه المعروف برئت ذمته وخلصت. إذا: طعام البهائم وسقيها واجب على المالك، سواء قام به بنفسه أو وكل عنه من يقوم بذلك، وليس كل ماء تسقاه البهيمة، وليس كل مورد تورد عليه البهائم؛ فإذا كان الماء كدرا وفيه القاذورات والأوساخ، أو يسقي البهيمة في أواني قذرة لا يهتم بتنظيفها ولا يبالي بحسن القيام عليها، فإنه مسئول أمام الله عز وجل عن هذا التقصير. فالبعض لا يبالي، يقول: هذه بهيمة. ثم يطعمها ويسقيها في أي إناء ولو كان قذرا، فالواجب عليه أن يتفقد الأواني التي تسقى فيها وأن يتعهد ذلك بالرعاية لأنها أمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) فمن قام على البهائم في علفها وسقيها وتفقد ذلك فذاك، أو وكل غيره فلابد أن يذكره أنها أمانة ومسئولية، وأنه يجب عليه أن يحسن الرعاية على أتم الوجوه وأكملها حتى تبرأ ذمته. حق البهائم في كل ما يصلحها قال رحمه الله: [وما يصلحها] ومما يصلح شأن البهيمة: أنها في بعض الأحيان قد تحتاج إلى تنظيف بدنها بالغسل، أو إلى جز صوفها وشعرها، وأحيانا تقليم لأظفارها؛ لأنها تؤذيها أثناء مشيها، وأحيانا تحتاج إلى إصلاح في البدن نفسه إذا كانت مريضة أو عليلة، فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يقوم على رعايتها؛ فإن احتاجت إلى دواء أو علاج قام على ذلك، وطلب من يعالج، لا يقول: هذه بهيمة والله يشفيها، بل إن هذه البهيمة نفس معذبة بالمرض والسقم، فيجب عليه أن يحسن إليها وأن يتعاهدها. وقوله: (وما يصلحها) يشمل إصلاح كل شيء في الشارة والهيئة، وما يصلحها في مسكنها، فمثلا: إذا كانت البهيمة في مسكن قذر وخيم يضرها ويؤذيها ويضر بصحتها، فإنه يسأل أمام الله عن ذلك. وانظر حقوق الحيوان في الإسلام، وفقهاء الإسلام من فجر التاريخ الإسلامي يبينونها ويقررونها، حتى ذكروا كيف تسكن البهيمة، ولو نظرت في تفصيلات وكلام الفقهاء والعلماء رحمهم الله لتعجبت، وصدق الله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة:3] فهذا دين كامل من أصله. فقد تكلم العلماء حتى على مسكن البهيمة، وفي فتاوى العلماء عندما يسألون عن هذا يقررون أنه لا يجوز تعذيب الحيوان لا في مسكنه ولا مطعمه ولا حاجته من دواء وإصلاح شارة وهيئة؛ حتى في المسير إذا سار بها فلا يعذبها ولا يرهقها، بل يريحها وقت الراحة ولا يحملها في الأسفار فوق طاقتها، بل حتى في الحضر، فكل هذا يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، ويدل دلالة واضحة على كماله ووفائه بحوائج الناس، حتى الحيوانات. وحينئذ لا تحتاج الأمة الإسلامية أن يأتي من يتبجح أمامها أو يذكرها من غفلة أو يعلمها من جهل؛ فعندها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء التي جمعت محاسن الأخلاق ومكارم الآداب ما يغني عن ذلك، قال الله: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف:43] . ما ينهى عنه في حق البهائم قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه] أي: لا يحمل البهيمة فوق طاقتها، مثلا: الركوب على البهيمة مشروع؛ ولذلك امتن الله على عباده بذلك فقال: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} [النحل:7] {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل:8] فجعلها ركوبا للإنسان، ولكنه لما أحل لنا ركوبها لم يحل لنا تعذيبها، ولا أن نحملها ما لا تطيق. فإذا أراد أن يركب البهيمة فينبغي أولا أن تكون البهيمة مما يعد للركوب، كما في الخبر حينما ركب أحدهم بقرة فقالت: (إن الله لم يخلقني لذلك) ، يعني: ما خلقني ظهرا للركوب، وكذلك الشاة ليست محلا للركوب، لكن الخيل والبغال والحمير والنوق، وهذا الأصل -وهو جواز الركوب- تختص به بهائم. ثم نفس البهائم تختص بزمان وسن تطيق فيه الركوب: فإذا كان من الإبل فأن تكون حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يركب عليها وأن يطرقها الفحل، كما تقدم في كتاب الزكاة، فإذا بلغت السن الذي يركب عليها ويحمل عليها ركبها وحمل عليها. ثم أيضا في الحمل عليها يفصل، فيقال: لا يحملها ما لا تطيق بل بالمعروف، وهذا الأصل الذي هو جواز الحمل على الدواب محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، لكن بشرط أن لا يكون فيه تعذيب للحيوان، ويختلف ذلك من حيوان إلى حيوان، فهناك حيوانات تطيق الحمل أكثر فيحملها ما تطيق، وهناك حيوانات لا تطيق إلا القليل فيحملها على قدر طاقتها. قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها] . قوله: (ولا يحلب من لبنها) يعني: من لبن البهيمة (ما يضر ولدها) ، وهذه المسألة تسمى بمسألة ازدحام الحقوق؛ فالبهيمة فيها حق للمالك وحق للولد. هذا إذا كانت ولودا وولدت واحتاج ولدها إلى اللبن فصار له فيه حق، وأيضا ربها ومالكها يحلبها ليبيع الحليب أو ليشرب، ففي هذه الحالة هل نقدم حق المالك لأن يده يد أصل، أم نقدم حق الولد؟ الجواب إذا كان حلبك يضر بالولد لم يجز، والسبب في هذا: أن الولد لا يجد بديلا والمالك يجد بديلا، والولد لا يستغني عن حليب أمه والمالك يستغني عن هذا الحليب، وإذا ازدحمت الحقوق نظر إلى الأحق والأحوج، ولذلك نجد في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء الشريعة أنه ينص على الحق، فإذا كان ولد البهيمة يحتاج إلى هذا اللبن ولابد له منه ولا تستطيع أن تصرفه إلى ناقة ثانية، أو إلى بهيمة ثانية، خاصة الحرائر إذ فيهن شغف وتعلق بالوالدة عجيب، حتى إنه لو ماتت أمه ربما مات بعدها، لأنه لا يقبل على ضرع غيرها، وهذا موجود، فكما أن نفوس الآدميين تختلف أصالة وحنانا كذلك نفوس البهائم. فهذا الولد لو صرف إلى غير أمه ربما يتضرر بذلك، والمالك يمكنه أن يجد بديلا؛ فقدم الأضيق والأحق، ولأن المالك مستفيد على طيلة زمانه والولد محتاج لزمان مخصوص، فيقدم الخاص الذي حاجته خاصة على ما هو عام يمكنه أن يرتفق في أي زمان غير هذا الزمان المحتاج فيه الولد إلى اللبن. واستدل العلماء رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الحديث حسن بعض العلماء إسناده، لكن متنه صحيح بإجماع العلماء رحمهم الله، وأصول الشريعة كلها دالة على صحة هذا المتن، ومن هنا انبنت القاعدة الشرعية المجمع عليها، والتي تقول: الضرر يزال. فعندنا ضرر متعلق بهذا الولد لا يمكن إزالته إلا أن يرتضع من أمه، فحينئذ يقال بتقديمه من هذا الوجه. ما يجبر عليه المالك في حق البهائم عند عجزه عن القيام بحقها قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها] . بعد أن بين رحمه الله الأصل وهو: وجوب النفقة على البهيمة، شرع في المسائل الطارئة، وقدمنا أن هذا من دقة العلماء رحمهم الله، ومن تسلسل الأفكار عندهم، فإنهم يذكرون الأصل ويذكرون ما خرج عن الأصل، وهو المستثنيات والأمور الطارئة فمما امتازت به الشريعة في أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف فقط عند الحكم، بل إنها تبين الحكم والأثر المترتب على الحكم، وما يطرأ مما يمنع من وقوع الأثر أو كمال الأثر أو يضر بالأثر، ولا شك أن العلماء رحمهم الله اعتنوا به، ولذلك بين المصنف ذلك بقوله: [فإن عجز] . وعجز المالك أمر طارئ والأصل أنه ينفق، لكنه إذا عجز أو كان فقيرا لا يستطيع أن ينفق، فالحكم ما سيذكره المصنف رحمه الله. إجباره على البيع أو التأجير قال: (أجبر على بيعها) . أي: أجبر على بيع بهائمه التي عجز عن الإنفاق عليها، وهذا هو الأصل. وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين مشهورين: فجمهور العلماء على أن المالك إذا عجز عن شراء العلف وقال: لا أستطيع، وليس عندي مال أنفق منه على بهائمي؛ فإنه يجبر على بيع بهائمه على التفصيل الذي سنذكره. وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجبر، واستدل بأن الحق للبهيمة، والحقوق في القضاء تقام حينما يطالب بها صاحبها، أما إذا لم يطالب بها صاحبها فلا يطالب بها غيره، والبهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها؛ لأن القضاء في الإسلام حيادي لا يميل لأحد الخصمين، ولذلك لا يحكم على الخصم إلا إذا طلب خصمه. وهذا أصل، حتى إن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة لما ولي القضاء أراد اثنان من أصحابه أن يبينوا له فقه القضاء، فاختصما إليه وقال أحدهما: لي عند فلان كذا وكذا، فقال له: ما تقول؟ قال: صدق، فسكت المدعي، فقال القاضي: أعطه حقه، فقال صاحب الحق: ومن أمر القاضي أن يسأل خصمي أن يعطيني حقي. ثم قالوا: إنما أردنا أن نبين لك أن للقضاء فقها غير الفقه الذي تعلمته. وهذا أصل عند الجمهور، يقولون: من حيث الأصل فإن القاضي حيادي لا يميل لأحد الخصمين دون الآخر، فإذا حكمنا على رب البهيمة أن يبيعها فما هو مستند هذا الحكم؟ أين الدعوى؟ وأين ما يثبتها؟ الدعوى متعذرة لأن صاحب الحق وهو البهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها، وإثباتها ممكن عن طريق الحسبة، بأن يشهد عليه جيرانه أو رفقاؤه، لكن الإشكال في أصل الدعوى، فالإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعذر عندهم في هذه المسألة أن يحكم قضاء، ولكنه يجب عليه ديانة أن يبيعها إذا عجز ولا يجب عليه قضاء، وفرق بين الديانة وبين القضاء، فمعنى الديانة أنه مطالب فيما بينه وبين الله أن يبيعها، لكن لا يحكم عليه بذلك حكما شرعيا قضائيا. والجمهور رحمهم الله قالوا: للسلطان ولاية عامة، وهذا أصل في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) وهذه البهيمة لا ولي لها فهي كالمجنون إذا لم يكن له ولي، فحينئذ يتصرف السلطان بالولاية العامة، وهذا أصل صحيح، وقول الجمهور في هذه المسألة أرجح وأظهر إن شاء الله وأولى بالصواب، وبناء على هذا يجبر قضاء على البيع. ثم إذا ترجح القول بالإجبار ففيه تفصيل: إن كان عنده بهيمة واحدة فحينئذ لا إشكال في أنه يجبر على بيعها، لكن الإشكال إذا كان عنده أكثر من بهيمة وعجز عن إطعام الكل، نقول له: بع بعضها بالقدر الذي تستطيع به أن تنفق على الباقية، فلو كان عنده مثلا عشر من الغنم، ويمكنه أن يبيع رأسين يتمكن من خلالهما من النفقة على البقية، نقول له: بع الرأسين وأنفق على البقية. ثم إذا أجبر على البيع فلا يجبر على بيع كرائم ماله، وإنما ينظر إلى الأخف؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها؛ لأن المقصود أن ينفق على بهائمه، فلو بيعت الكريمة تضرر ببقاء غيرها مما هو دونها، وبناء على ذلك لا يجبر على بيع كل بهائمه. هذه المسألة الأولى. ثانيا: أنه لا يجبر على بيع كرائم ماله إلا في مسائل، وهو أن يكون كل ماله كريما كما ذكرنا في الزكاة، وهذا أصل عام؛ فحينئذ يجبر على بيع الكريم، ويكون البيع بقدر الحاجة، أي: أن يباع من الرءوس على قدر الحاجة مما تحصل به الكفاية والقيام على نفقة البهائم الباقية. قال رحمه الله: [أو إجارتها] بعض العلماء يقول: لا يجبر على البيع إذا أمكنت الإجارة؛ لأن إبقاء اليد أولى من إلغائها، كما في قضاء داوود وسليمان عليهما السلام، فإن الله عز وجل أثنى على حكم سليمان وقدمه على حكم داوود؛ لأن سليمان عليه السلام أبقى يد الملكية في قصة الغنم الذي نفشت في غنم القوم. وبناء على ذلك نقول: لو قلنا له: بعها. مع إمكان الإجارة فقد أزلنا يد الملكية جبرا، وإزالة يد الملكية جبرا خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه، فنحن لا نجبره على البيع متى لم يمكن الإيجار، لكن في بعض الأحيان قد تكون الإجارة أضر عليه من البيع، وهذا في أحوال خاصة، فقد تكون إجارتها تحتاج إلى قيام على علفها ومؤنتها، وقد تتعب من خلال إجارتها، فعلى كل حال ينظر القاضي، فإن كان الأخف ضررا عليه أن يبيع بدأ بالبيع وقدمه على الإيجار مع أنه نقل للأصل، وذلك لوجود ما ذكرناه، وأما إذا كانت الإجارة ممكنة فإنها مقدمة على البيع في الأصل. إجبار مالك البهيمة على الذبح قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت] . إن لم يمكن بيعها وإجارتها، أو عرضت للبيع فلم ترغب، وعرضت للإجارة فلم ترغب، أو كانت لا تؤجر مثلا، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: يؤمر بذبحها إن كانت تؤكل؛ لأنه إذا ذبحها باع لحمها. وأولا: إذا ذبحها قطع عنها العذاب؛ لأنها إذا بقيت تعذبت. وثانيا: ممكن عن طريق ذبح بعضها أن يحصل اكتفاء للباقي، وهذا أصل، أعني أن إتلاف البعض لاستبقاء الأغلب مشروع شرعا، ودليل ذلك قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإن الخضر عليه السلام كسر لوحا من السفينة ليبقي السفينة، وحينئذ فذبح بعض البهائم من أجل أن يشتري العلف للبقية، أو ذبحها من أجل بيع لحمها لإطعام الباقية سائغ على هذا الأصل. وهذا يظهر في مسألة الأوقاف والتصرف في مال اليتيم بإتلاف بعضه، كذلك أيضا في ذوات الأرواح جاء ما يقرر هذا الأصل، وذلك أن يونس عليه السلام لما كان في السفينة وتعرضت للغرق، واحتاجوا إلى أن يلقوا بشخص منهم، فساهم فخرجت القرعة على نبي الله يونس فرمي في البحر، وهذا أصل عند بعض العلماء، فيقولون: إنه إذا كان لا يمكن نجاة الكل إلا بهلاك البعض قدم بقاء الأكثر، وهذه لها مسائل تفصيلية وكلام طويل لعلماء الأصول، ومنها مسألة تترس الكفار بالمسلم، وفيها تفصيلات في ذوات الأرواح بالنسبة للآدميين. بالنسبة للحيوان هنا فإنه إذا أمكن ذبح البعض حتى يكفي الطعام للبعض الآخر جاز ذلك، وهذه لها أصول عامة حتى في الأرزاق؛ فذبح بعض البهائم التي يملكها من أجل أن يصبح الطعام كافيا للبقية، سائغ للأصل الذي ذكرناه، أو تذبح لأجل أن لا تبقى فتموت حتف نفسها؛ لأن موتها حتف أنفها يضيع حق المالك، وموتها بالذكاة يبقي استفادة المالك، فحينئذ يقال له: اذبحها؛ لأنه لو تركها تموت حتف نفسها تعذبت، فلا هو يستفيد ولا هي تستفيد، ولكن إذا ذكيت استفادت هي فاستراحت، ثم أيضا هو استفاد بالانتفاع بلحمها، فهذا من حيث الأصول الشرعية سائغ. ذبح الرحمة وموت الدماغ وتفرعت على هذه المسألة مسألة قتل الحيوان للرحمة، وهي: إذا كان الحيوان قد أنفذت مقاتله، وتفرعت عليها المسألة المعاصرة في موت الدماغ، وهل يجوز سحب الأجهزة على المريض إكلينيكيا وسريريا أو لا؟ فهل هذه الحياة في حكم الحياة المستقرة، أو هل الحياة المنعدمة في حكم المستقرة؟ اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة من أنفذت مقاتله، هل حياته حياة مستقرة أو في حكم العدم؟ فبعض العلماء يقول: حياته مستقرة، وبعضهم يقول: حياته في حكم العدم، إذا قلنا: إن من أنفذت مقاتله كمن ضرب في مكان لا يشك أنه لو ترك سيموت، مثل البهيمة تصدم بالسيارة، وتقطع على أنها لو تركت دقائق ستموت، أو تسقط من مكان عالي وتدركها وهي ترفس فلو تركت ستموت، أو يأتي السبع فيفترسها فيبقى فيها شيء من الحركة، فهل هذه الحركة في حكم الحياة المستقرة وحينئذ إذا ذكيت جاز أكلها؟ أو هي في حكم العدم وحينئذ إذا ذكيت لا يحل أكلها؛ لأنها أنفذت مقاتلها فهي متردية أو مقتولة حتف نفسها ميتة؟ فبعض العلماء يقول: إنها في حكم العدم، وإذا قيل: إنها في حكم العدم فإن الذكاة لا تؤثر، وظاهر الحديث أن الشاة التي بقر بطنها الذئب فكسرت المرأة الحجر وذكتها، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكلها؛ يدل على أن الحركة حياة، وحينئذ فما دام قلب المريض يتحرك فهو حي، وما دامت الحياة فيه فلا يجوز سحب الجهاز، ويكون حينئذ محظورا. حتى ولو كانت حركة لا إرادية التي هي الحركة الأخيرة، وذلك استصحابا للأصل؛ ولأن تشخيص الدماغ فيه اضطراب بين الأطباء، وحتى على تحديد هذا التشخيص لا يتيسر إلا في مستشفيات متقدمة، وهذا يخاطر بأرواح الناس. وهناك مبررات كثيرة ذكرناها في أحكام الجراحة، لكن الذي يهمنا هنا: أن الحيوان يقتل رحمة به على هذا الوجه؛ لأنه لو بقي دون إطعام على الوجه المعروف تعذب، ولا يجوز تعذيب الحيوان، أما الآدمي فلا يجوز قتله، فلو أن إنسانا أصيب بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم- وقطع الأطباء على أنه لا يعيش؛ فإنه لا يجوز لأحد أن يقتله، لأن الله حرم هذه النفس، وللمعاني المعتبرة شرعا في ورود هذا البلاء عليه؛ لأن البلاء مقصود شرعا، فالله أرحم به من خلقه، ولذلك يقول الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] . سبحان الله! كيف جمال هذا القرآن وعظمته؛ لأنه تنزيل من حكيم خبير {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود:1] ، والله عز وجل يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29] . أحد الأوجه في تفسير الآية: أن أنفسكم إخوانكم؛ وذلك مثل قوله: {فسلموا على أنفسكم} [النور:61] يعني على إخوانكم، فقيل معنى: (لا تقتلوا أنفسكم) أي: إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو ... ) والجسد الواحد نفس واحدة، فلما قال: (( ولا تقتلوا أنفسكم )) عقب ذلك بقوله: (( إن الله كان بكم رحيما )) فإذا تبجح أحد وقال: نريد أن نرحمه، فقد كذبه الله عز وجل، وقال: أنا أرحم بعبدي الذي ابتليته، وأنا أرحم بعبدي الذي أسقمت بدنه، وأنزلت به البلاء. ولذلك ليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه، هذا شيء بيد الله، يقف الأطباء عند إمكانياتهم وحدودهم التي يقفون عندها والباقي لله عز وجل مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. والطب له هدفان: الوقاية والعلاج، وإذا خرج عن هذين الهدفين فليس بطب شرعي، ولذلك إذا قال: نقتله، فلا هو علاج ولا وقاية، فالقتل ليس بوقاية، فهذا ليس بطبيب! وليس هذا تخصصه، ولا من شأنه، وليس له أن يتدخل بين العبد وربه، فهو الذي ابتلاه وهو الذي يدبر أمره. وكذلك إذا وجدتهم يدخلون في هندسة وراثية أو غيرها فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقصود الطب إلى العبث، فهذا عبث وتصرف في خلقة الله عز وجل التي خلق عليها العباد. والله شرع الطب دواء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن شريك في السنن: (أنه جاءه الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء) فجعل الطب علاجا للأسقام، وفي حكم العلاج الوقاية، وما عدا ذلك فليس بطب، فحينئذ قتل الرحمة ليس بعلاج ولا دواء. وإن قلنا في البهيمة: إنها تقتل؛ فإنما ذلك لأنه يستطاب لحمها، ويجوز أكله، من المشاكل الآن أنه من ذهب يبحث في مسائل فقهية فيما يسمى بالاجتهاد المقيد، وهو أن يأتي إلى مسألة ويجمع ما فيها ثم ينظر فيها ويخرج بخلاصة الواقع أن هؤلاء الباحثين الذين لا يعرفون مصطلحات العلماء ولا ضوابطهم يجنون كثيرا ببحوثهم، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا يتقبل البحوث الفقهية إلا ممن كان عنده دراية وخبرة بمتون العلماء وأساليبهم، ومصطلحات وضوابط أهل العلم في الحكم؛ لأنه في هذه الحالة سيتعرض للزلل بلا شك. فبعض الذين يبيحون قتل الرحمة يقولون: إن العلماء أجازوا قتل البهيمة، وذلك لأنها إذا بقيت تعذبت، فالبهيمة إذا جاز قتلها لأنها تتعذب فالآدمي أعظم حرمة! فانظر كيف يقيسون؟! فإذا قرر الأطباء أنه ميت ومتعذب ومتضرر بهذا المرض؛ فليسقوه داء وليحقنوه حقنات ويقضوا عليه، وهذا القضاء أرحم به، ويقولون: عند الطبيب رسالة وهي رحمة المريض، فحينئذ ينبغي أن يرحمه بهذا العقار الذي يقضي عليه ويريحه، ثم يريح أهله من عناء التكاليف المادية والعناء النفسي لمتابعته، هذه مبرراتهم. فنقول لهم: إن العلماء رحمهم الله لما أجازوا قتل البهيمة قيدوها بما إذا أكلت، ومعناه: أنها إذا لم تؤكل صار ضربا من الفساد، والآدمي لا يؤكل، فإذا الذبح كان متعلقا لإفادة الغير، وأما الآدمي فلا يذبح ولا يؤكل، فإذا ثبت هذا سنقول: إن هذا الفهم جاء عوره من عدم النظر لضوابط العلماء، ولذلك قال المصنف: (إن أكلت) يعني: إن كانت تؤكل، وهذا قول يدل على أنه لا يجوز ذبحها إذا كانت مما لا يؤكل. فلو كانت عنده بهيمة لا تؤكل كالحمار -أكرمكم الله- ففي هذه الحالة يقال له: أنفق عليه أو بعه أو أجره، لكن لا يؤمر بذبح الحمار لأنه لا يؤكل. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم ضرب البهائم في السباق أو الحرث السؤال هل ضرب البهائم للإسراع في السباق أو المضي في الحرث والعمل أمر جائز، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: ضرب البهيمة لتسرع أجازه جمهور العلماء رحمهم الله، والمنصوص في كتبهم الجواز إذا وجدت حاجة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ضرب البهيمة. وفي حديث جابر في الصحيحين قال: (كنت أسير على جمل فأعيى، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فنخسه - وفي رواية - فضربه، فسار سيرا حثيثا) حتى إن جابرا عجز عن أن يكبح جماح البعير، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فرواية: (فضربه) أشكلت عند العلماء على حيث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بهيمة ولا ضرب إلا في سبيل الله) . وأجيب برواية: (فنخسه بقضيب) ؛ لأنها مفسرة، وراية: (فضربه) مجملة، والقاعدة: أن المجمل محمول على المبين المفسر. فضرب البهيمة للإسراع يجوز عند الحاجة وبقدر الحاجة؛ بشرط ألا يكون تعذيبا للبهيمة، فأجاز العلماء الضرب لكن شريطة ألا يكون تعذيبا. لكن إذا أسرعت وجاء يزيد في سرعتها حتى ربما يتسبب بحادث، وفي هذه الحالة لو ضربها عذبها؛ لأن هذه غاية ما في البهيمة، فإذا ضربها ازداد في تعذيبها، وأصبح عندها عذاب السير والضرب، ففي هذه الحالة يمنع، لكن لو كان عنده ظرف يحتاج معه إلى أن يسرع لحاجة، والبهيمة نزلت عليها السكينة فعطلت مصالحه فاحتاج إلى ضربها، فله أن يضرب ولا بأس، لكن يضرب الضرب المشروع دون أن يكون على سبيل التعذيب. إذا يفصل: إذا كان قد ضره سير البهيمة، وكانت البهيمة متلكئة وإذا ضربت سارت فهي التي جنت على نفسها، أما إذا كانت تسير سيرها وتقوم بواجبها، وليس عندها تقصير؛ فهذا يكون ضربا للأذية والإضرار، ولا يجوز تعذيب الحيوان والإضرار به من هذا الوجه. والعلماء نصوا على جواز ضرب البهائم في الحدود التي يحتاج إليها؛ لأنه قد يتعطل الإنسان عن مصالحه، وقد يحتاج إلى ضرب البهيمة لأنها قد تؤذي وتضر ولا يكبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، وهكذا الآدمي شرع الله الضرب له عقوبة، وشرع الله عز وجل الضرب عقوبة لضياع حقوق الله عز وجل وضياع حقوق الآدمي (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فإذا أتلفت البهيمة ضربت حتى تكبح جماحها. وهكذا في بعض الأحيان يهيج بعض الدواب ولا ينتهي كبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، فعلى كل حال يجوز الضرب عند الحاجة، لكن بشرط أن يقدر بقدر هذه الحاجة، وبشريطة ألا يوجد أسلوب بديل يكبح هذا الجماح، أو يحقق المصلحة التي يرجوها الإنسان من ضربه للبهيمة، والله تعالى أعلم. الجمع بين جواز إشعار البهيمة وحرمة أذيتها السؤال أشكل علي عدم جواز الإضرار بالأذية، مع أن الإشعار فيه إيلام لها؛ فأرجو التوضيح أثابكم الله؟ الجواب الإشعار فيه خلاف بين العلماء، والمانع منه سببه هذا؛ لأنه يقال: فيه تعذيب للحيوان، وتعذيب الحيوان ممنوع، نقول: إن الأصل أن يكون السؤال: هل البهيمة مخلوقة لنفسها، أو مخلوقة لغيرها؟ قال الله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية:13] فهي مسخرة للآدمي، ولمصالح الآدمي، وتنقسم إلى مصالح في عقد نفسه ومصالح بينه وبين ربه، فالذي خلق البهيمة أذن له أن يشعرها، وهذا شيء بسيط جدا، والإشعار تطيقه البهيمة، لكن لو جئت تنظر إلى أن الإشعار عذاب لها فركوبك فوق البعير أعظم إيلاما من الإشعار. ولو جئت تقارن بين إشعار البعير مع ركوبك عليه الشهر والشهرين والثلاثة لوجدت أن الإشعار ليس بشيء، فلا يدخل الإنسان الأغلوطات على السنة، فهي واضحة، وهذا التعذيب لا يأتي شيئا أمام المصلحة الشرعية المترتبة على هذا الإشعار، من توحيد الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جل جلاله، فالعبد وما ملك ملك لله، ولكن الله سبحانه يجعله يتقرب إليه بهذا، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج:37] يعني: الإخلاص والتوحيد. سبحان الله! يأمر بهذا وهو أغنى ما يكون عن خلقه: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) . فالشاهد: أن هذا إيلام بسيط جدا لا يأتي شيئا أما المصالح التي تفعلها هذه البهيمة، وهذه هي السنة، وما علينا إلا أن نرضى بما شرع الله عز وجل، وليس للعقل مجال أمام النقل، فالنقل ثبت بهذا، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قلد هديه وأشعره صلوات ربي وسلامه عليه؛ فتبقى السنة كما وردت، والله تعالى أعلم. صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة السؤال ما صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، أثابكم الله؟ الجواب الإقعاء فيه صفات اختلف العلماء رحمهم الله فيها، لكن من صفاته: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض بين القدمين المنصوبتين. هذه صورة. الصورة الثانية: أن يجلس جلوس الكلب -أكرمكم الله- فينصب ساقيه مع الفخذ ثم يرد يديه إلى الخلف، مثل الكلب إذا أقعى وجلس، وهذه صورة شبه متفق على تحريمها، وغالبا ما يفعلها البعض من الجهلة إذا أراد يقوم من الركعة الثانية أو الرابعة، فإنه يرجع ثم ينصب قدميه ويديه وراء ظهره، مثل الكلب يرحمكم الله حينما يجلس ينصب قدميه ثم يقعي، فهذا الإقعاء محرم. وورد عن بعض العلماء أن من الإقعاء نصب القدمين وجعل الإليتين على العقبين، وهذا من الإقعاء؛ لكن هذا ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فلعه، فرخص فيه، واختلفت أقوال العلماء: منهم من رخص فيه في التشهد، ومنهم من خصها فيما بين السجدتين، هذا بالنسبة للإقعاء الذي اختلف العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم. جواز التعزية بالعناق والمصافحة الجواب التعزية تكون بالمصافحة، وتكون بالمعانقة، لورود السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصافحة هي الأصل، وذلك بأن تصافح أخاك وتسلم عليه ثم تعزيه. والمعانقة تكون من الرحمة، ولذلك قرر الأئمة رحمهم الله أن العناق ينظر في سببه، فإذا وجد له سبب فهو مشروع، وإذا لم يوجد له سبب فهو ممنوع، ومن هنا قرر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن العناق يجوز عند حصول فرح، كأن تهنئ أخاك المسلم فتضمه إليك وتعانقه، فرحا بنعمة الله عز وجل وخاصة نعمة الدين والطاعة، ويكون أيضا عند الحزن تضمه إليك من أجل أن تشعره بأخوتك بقوته، وتطفئ ما في قلبه، ويكون أيضا عند السفر إذا أراد أن يسافر تلتزمه وتعانقه، وإذا قدم من سفر، وقال: على ذلك جرت السنة. أما حديث: (لا عناق إلا من سفر) أولا: فيه ضعف، وثانيا: حسن بالطرق لكن المحققون من أهل الحديث ذكروا أن هناك اختلافا في الألفاظ يؤثر في التحسين، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يستشكل هذا. وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث لا يعارض ما هو أصح منه، لأن قوله: (لا عناق إلا من سفر) جاء من باب أن الشريعة قد تطالب بالكمال، فالمعنى أن أكمل ما يكون العناق من سفر، وهذا موجود في الشريعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ربا إلا في النسيئة) وليس المقصود بأن ربا الفضل جائز، وهنا ليس المعنى أن غير العناق من السفر محرم، وكقوله: (الحج عرفة) والمراد المبالغة في الشيء، وهذا واضح. ويدل لهذا ما في الصحيحين من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه لما نزلت توبته وجاء بعد صلاة الفجرة ودخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقام لي أبو طلحة فالتزمني فحفظت له هذا، وهذا يدل على مشروعية العناق عند وجود الموجب والسبب. ومثل القيام للداخل والزائر، كلها إذا وجد السبب فلا بأس فيه ولا حرج. وهذه الأمور بعض الأحيان تأتي عفوية بدون أن يكون الإنسان قاصدا أن العناق لمعنى أو اعتقاد، ولذلك تجد في بعض الأحيان أنك لا ترى أخا أو قريبا لا قدر الله أصابه كربة أو نكبة إلا وتضمه إليك، فأنت لا تستطيع أن تملك نفسك، فهذا شيء ينبعث من النفوس من أسباب الرحمة، والفرح والحزن، لكن يحذر مما كان فيه غلو أو تكلف الشخص يعانق وبعد عشر دقائق يأتي يعانق مرة ثانية، يعانق أول النهار ثم يأتي آخر النهار ويعانق، حتى تكون كالشغل، فهذا التكلف والمبالغة لا أصل له؛ لأنها تحظر ويمنع منها، أما عند وجود السبب الموجب فلا بأس أن تضم أخاك إلى صدرك. أما وضع اليد على الكتف: فاختلف فيه العلماء رحمهم الله، ومن مشايخنا المتأخرين وغيرهم من يراه بدعة؛ لأن الأصل المصافحة والعناق، وبعض مشايخنا رحمة الله عليه يفصل فيه ويقول: إن لمس الكتف إذا كان أثناء الحزن إذا رأيت أخاك اشتد بكاؤه وعظم، فأمسكت بكتفه تصبره أو تثبته فلا بأس به، أما الذي يحدث من الوقوف وكل واحد يمر ويمسك كتف الثاني فهذا لا أصل له عند الكل. لكن إذا كان واقفا على القبر ووجدته حزينا، فتمسك بعضده أو بساعده تذكره؛ لأنك بالقرص والمسك كأنك تذكره بالصبر، وتذكره أن يتعزى ويتجلد، وفي بعض الأحيان قد تكون يده في يدك فتضغط عليها، هذه الأشياء يراد بها التنبيه فقط. أما الذي يفعل من الوقوف فيأتي يمسك كتف هذا ثم كتف هذا، فلا له أصل، ماذا يفعل بالكتف، المصافحة فيها فضيلة المصافحة، ومعناها الشرعي، ولها أصل في السنة، وتتحات بها الخطايا، فهذا هو المنضبط، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه خير، وكذلك ترك هذه الأمور التي لا يسمح بكونها أمورا في شرع الله عز وجل، وإنما يجارون بها عاداتهم وتقاليدهم. وانظر إلى الأمر العجيب الغريب؛ فلو جئت إلى قوم يمسكون ويعزون بالأكتاف وقلت لهم: لا تفعلوا هذا. أنكروا عليك، فهذا يزيدها بدعة، لأن التشبث والتمسك بها والإصرار عليها يجعلها كالسنة، وكالأمر المعتقد فيه، وهذا ما يسميه العلماء بدلالة الحال؛ لأن الشخص في بعض الأحيان يأتي بدلالة الحال، وإن لم يقل: أنا أعتقد أنها سنة، لكن الإصرار والحرص عليها، وأنه لا يمكن أن يتركها؛ لا شك أنه يشكك في أمره. أما إذا كان واقفا مع أخيه على القبر وتوفي والده أو قريبه، ثم أراد أن يسليه فأمسك بيده، أو رأى أن الحزن قد اشتد به، فشده كأنه يذكره بالله عز وجل، ويذكره بالصبر عند المصيبة، فهذا الإمساك لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم. ما ورد من الدعاء بين العلمين في الصفا السؤال هل ورد بين العلمين دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابكم الله؟ الجواب لا أحفظ في هذا شيئا صحيحا مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول بين العلمين: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم) وهذا استحبه بعض العلماء رحمهم الله لوروده عن السلف، وأشار إليه بعض الأئمة. ثم لا شك أن أدعية الصحابة رضوان الله عليهم من جوامع الدعاء، وبعضها قد تكون فيه سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصفا حفظ هذا عن عبد الله بن مسعود، ولذلك استحب بعض العلماء هذا الدعاء. وكذلك استحب بعضهم الدعاء على الصفا بما كان من دعاء عبد الله بن عمر: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما رزقتني الإسلام فأسألك أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه) . وهذا من أعظم الدعاء. وكان من دعائه كما في الصحيح: (اللهم حببني إليك، وحببني إلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وإلى خلقك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين) ، وأشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله في شرح المناسك لوروده عن السلف، والصحابة وهم خيار سلف الأمة بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم. حكم الجمع بين الصلاتين إن كان سيصل قبل دخول وقت الثانية السؤال هل يجوز للمسافر القادم إلى مكة جمع صلاة العشاء مع صلاة المغرب وهو يعلم أنه سوف يصل إلى مكة قبل العشاء، أثابكم الله؟ الجواب إذا كنت في السفر وأردت أن تجمع بين الصلاتين وأنت راجع إلى موطنك، فيشترط أن يدخل عليك وقت الثانية قبل وصولك إلى البلد، فإذا كنت راجعا إلى مكة فيشترط أن يؤذن عليك أذان العصر وأنت في السفر، ولو قبل دخول مكة بدقائق، لأنه إذا أذن عليك الأذان وأنت في السفر وجبت عليك الصلاة ركعتين، وأما إذا أذن عليك بعد دخولك مكة، فقد وجبت عليك أربعا وأنت قد صليت ركعتين. ومن هنا قرر العلماء والأئمة رحمهم الله أن شرط صحة جمع التقديم أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية، فإذا لم يستمر إلى دخول وقت الثانية فإنه أذن لك أن تصلي الرباعية الأولى ركعتين ولم يؤذن لك بقصر الرباعية الثانية وهي العصر، ومن هنا كان لابد من دخول وقت الثانية والعذر باق، فإذا لم يدخل فإنه لا يصح الجمع، ويجب عليك إعادة صلاة العصر على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وهو مذهب الجمهور، والله تعالى أعلم. اشتراط التتابع في الصيام في كفارة اليمين السؤال هل يشترط التتابع في الصيام عن كفارة اليمين، أثابكم الله؟ الجواب في هذه المسألة قولان للعلماء، وجمهور العلماء على أنه لا يشترط التتابع؛ لأن الله تعالى أمر بصيام ثلاثة أيام {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89] فآية المائدة مطلقة، ولم تبين وجوب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى وجوب التتابع واستدلوا بقراءة عبد الله بن مسعود: (فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فقالوا: إن هذا يدل على أنه يجب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في الكفارة. وهذه المسألة أصولية؛ أعني: هل يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة في إثبات الأحكام أو لا؟ وإذا قلنا قراءة شاذة فليس فيها انتقاص للقراءة، لأن الوصف للأقوال والقراءات بالشذوذ المراد به عدم جريان العمل عليه، فالقراءة الشاذة لا يقرأ بها؛ لأنها نسخت في العرضة الأخيرة. وضوابط الشذوذ في القراءات معرفة: ومنها مخالفة اللغة، والرواية، وهذا أمر يقرره أئمة القراءات. أما من حيث الاحتجاج بالمتن فالأشبه أنه يصومها ثلاثا متتابعات، ويحرص على التتابع فيها، وهذا أسلم، ويكون ورود العرضة الأخيرة بغير تقييد: (فصيام ثلاثة أيام) لا ينقض الأصل الذي جاء في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المسألة القول بالتتابع فيها قوي جدا، فيأخذ بها المسلم ويحرص على صيام أيام الكفارات متتابعات. لكن الإشكال الذي ينبغي التنبيه له، وتنبيه الناس عليه: أن بعض العوام يعتقد أنه إذا حلف في يمين أن عليه أن يصوم ثلاثة أيام مباشرة، والواقع أن صيام الثلاثة الأيام لم يوجبه الله سبحانه وتعالى إلا عند العجز، وكفارة اليمين جمعت بين التخيير والترتيب، فهي في خصالها الأولى وهي: عتق الرقبة، وأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم تخييرية، إذا فعل واحدة من هذه الثلاث الخصال أجزأه، سواء قدر على غيره أو لم يقدر. وأما الخصلة الأخيرة: {فمن لم يجد} [المائدة:89] فتدل على وجوب الترتيب، واشتراط العجز، لأنه لما علقها بفقدان الاستطاعة دل على أنه لا يصح له أن يصوم الثلاثة الأيام إلا عند عجزه عما تقدم، فبناء على ذلك يجب عليه أن يراعي الترتيب، فإذا صام الثلاثة الأيام وهو قادر على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؛ فإنه لا يصح صيامه ولا يجزيه، ويعتبر صيام نافلة، ويجب عليه أن يعتق إن وجد الرقبة، أو يطعم العشرة مساكين أو يكسوهم، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أعني أنه لا يجوز صيام الثلاثة الأيام متى قدر على واحدة من الثلاث الخصال: العتق أو إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم، والله تعالى أعلم. حكم الدعاء بأمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء السؤال ما حكم الدعاء في أمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء أثناء الصلاة، أثابكم الله؟ الجواب الدعاء بأمور الدنيا جائز على أصح قولي العلماء، ولا بأس للمسلم أن يدعو بدفع مكروه دنيوي، أو تحصيل أمر دنيوي في صلاته، خلافا للحنابلة رحمهم الله، واستدل الحنابلة على المنع بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس) قالوا: وأمور الدنيا من كلام الناس. واستدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) والمغرم الدين، وهو من أمور الدنيا. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) وهذا يشمل جميع ما فيه الخير من أمور الدنيا، ولذلك اعتبر من جوامع دعائه، فالصحيح أنه لا بأس أن يدعو. وأقوى الأدلة للجمهور على هذه المسألة، قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) يعني بعد التشهد، وهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، وليس هناك ما يدل على التخصيص، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) إنما جاء في مواضع الذكر المخصوصة؛ لأن صورة السبب قطعية الدخول في الحكم، فهذا ليس له علاقة بالدعاء لأن له أصلا دل عليه، وإذا تعارض الأصل العام مع الأصل الخاص قدم الأول، وقوله: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) جاء بيانا لأصل خاص وهو الدعاء، وأما قوله: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) فجاء على سبيل العموم، فيقدم هذا الخاص الوارد في أصل المسألة وهي الدعاء في أمور الدنيا، وهو الأشبه والأرجح إن شاء الله. ولكن من الحرمان أن يدعو الإنسان في الأماكن الفاضلة التي ترجى فيها الإجابة بالدنيا، ومنها الدعاء أدبار الصلوات، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، وأدبار الصلوات المكتوبة) فأدبار الصلوات أماكن ترجى فيها الإجابة، فيخصها الإنسان بالدعوات العظيمة، وأن تكون همته للآخرة، ولذلك عجب الله من قوم دعوا بالدنيا فقال: {وما له في الآخرة من خلاق} [البقرة:200] . فالمنبغي أن الإنسان يتشوف إلى ما هو أعظم، ولا مانع أن يسأل الله في الدنيا الحسنة، وبذلك أقول: إنه ينبغي للمسلم أن يتخير لهذه الأماكن الفاضلة ما يناسبها من جوامع الدعاء وخير الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم. صلاة المسبوق في الجنائز السؤال فاتتني بعض التكبيرات في الصلاة على الميت، فوجدت الإمام في الدعاء، فكيف أتم الصلاة، وهل صلاة الجنازة تقضى، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة فيها وجهان للعلماء مشهوران، فبعض العلماء يقول: إذا دخلت مع الإمام فإنك تعتبر بحاله، فإذا دخلت في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتسقط عنك الفاتحة، وإذا دخلت مع الإمام وهو يدعو، فإنك تدعو وتسقط عنك الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث الأصل أقوى. وبعضهم يقول: إن صلاتك مع الإمام تعتبر فيها حالك، فتبدأ بقراءة الفاتحة ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو إن وسعت تكبيرة الدعاء، وهذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) فلما عبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (أتموا) دل على أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وإذا كانت صلاتك مع الإمام هي الأولى فمعنى ذلك أنك لا تتقيد به، لأنك إذا أدركته في الركعة الأخيرة -من الظهر مثلا- وهي الأولى بالنسبة لك؛ قرأت الفاتحة وسورة على هذا القول، وكذلك إذا أدركته في العشاء، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة، ولكن لا تجهر لمكان المتابعة، لأنه لا تجوز المخالفة الظاهرة في القول والعمل. وبناء على ذلك فالأمر مثلما ذكرنا: أن المذهب الذي يقول تدخل بحال الإمام، أشبه من حيث الأصل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه) وبناء على ذلك لو دخل مع الإمام على حاله كان أشبه، فإن ترجح عنده القول الثاني ودخل بأنه مبتدئ، فدخل بقراءة الفاتحة ثم كبر التكبيرة الثانية وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (486) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [1] لقد اعتنى الإسلام بالقاصرين من الصغار والمعتوهين والمجانين ونحوهم، فجعل لهم حق الحضانة على الأقربين، وقد بينت الشريعة أحكام الحضانة، وحقوق المحضون، وشروط الحاضن، وترتيب الأقرباء في ولايتها؛ بيانا قائما على تحقيق مصلحة المحضون. مشروعية الحضانة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحضانة] الحضانة مصدر مأخوذ من قولهم: حضن الشيء يحضنه حضانة إذا ضمه إليه، والحضن الصدر مما دون الإبط إلى الكشح. وسميت الحضانة بهذا الاسم لاشتمالها على ضم المحضون، وهو الشخص الذي يعجز عن القيام بأمور نفسه؛ لصغر أو جنون أو عته أو غير ذلك. وباب الحضانة يتعلق بالقيام على حقوق الضعفاء من الصبيان والصغار والمجنون والمعتوه. ومناسبة باب الحضانة لما قبله: أن المصنف رحمه الله بين حقوق النفقات، فناسب بعد ذلك أن يبين حقا خاصا للصغير والمجنون، وهو حق الحضانة. وتقديم باب النفقات على باب الحضانة مبني على أن النفقات لا تختص بنوع معين من كل وجه، ولكنها أشمل وأعم من الحضانة، ولكن الحضانة يراها بعض العلماء خاصة بالصغير فلا تشمل الكبير كما عند المالكية، وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله على أن الحضانة تشمل الصغير، وتشمل الشيخ الكبير والزمن ومن في حكمهم. ونظرا لأن الحضانة تختص بنوع خاص، فالأنسب أن يبدأ بالحق العام قبل الحق الخاص، من باب التدرج من الأعلى إلى ما هو دونه. والحضانة: هي القيام بأمور من لا يستقل بنفسه، وتربيته ودفع الضرر عنه أو ما يهلكه. ولذلك تشتمل الحضانة على القيام بمصالح الصغار، ورعاية هذه المصالح بما يكون فيه الخير إذا كان المحضون صغيرا أو مجنونا، أو للشيخ الكبير الزمن إذا تحمل وليه مصالحه وقام على رعايته. والحضانة القيام بتحصيل المصالح من رعاية المحضون في نومه ويقظته، وبمتابعة أحواله، والإنفاق على تعليمه، وتأديبه وتقويمه، ودلالته على ما يصلح دينه ودنياه وآخرته، فالصبي والصغير سواء كان ذكرا أو أنثى يحتاج إلى من يرعى شئونه ويقوم بأموره، فيرعى شئونه ماديا ومعنويا. والحضانة تتكفل بذلك كله، والإسلام جعل هذه الحضانة إلى شخص مخصوص بشروط مخصوصة لابد من توفرها فيه، وجعل لهذه الحضانة أمورا ينبغي على الحاضن أن يقوم بها على وجهها، وجعل لها أمدا وغاية تنتهي عند بلوغها إليه، وكل هذا يبينه العلماء رحمهم الله في باب الحضانة. يقول المصنف رحمه الله: (باب الحضانة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحضانة الصغير ومن في حكمه، ويشمل هذا ثلاثة جوانب: الجانب الأول: بيان من هو الشخص الحاضن؟ ومن هو الأولى والأحق بالحضانة؟ الجانب الثاني: بيان من الذي يحضن؟ وهو الشخص المحضون. الجانب الثالث: بيان صفة الحضانة والمسائل والأحكام المتعلقة بها. أدلة مشروعية حضانة الصغير قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون] . (تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناء على ذلك لا حضانة لكبير بالغ إذا كان عاقلا، إلا إذا كان شيخا كبيرا لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه. فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيرا، سواء كان ذكرا أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناء على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: {وكفلها زكريا} [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته. قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وكفلها زكريا} [آل عمران:37] ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه. وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن. وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها. وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكرا كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته. ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] ، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته. حضانة المعتوه والمجنون قوله: [ومعتوه ومجنون] . العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الجنون المستديم. القسم الثاني: الجنون المتقطع. فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغا مجنونا. وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنونا ولا عاقلا من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية. فالمقصود أنه إذا كان قاصرا في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه. أحق الناس بالحضانة وقوله: [والأحق بها أم] . هذا ترتيب للأشخاص الذين لهم حق الحضانة، فالحضانة تثبت للأم، ثم أمها وإن علت بمحض الإناث، ثم الأب وأمه وإن علت كأمه وأم أمه، وهي جدة المحضون، وبعد ذلك للجد ثم أمه وإن علت بمحض الإناث، ثم للأخت الشقيقة، ثم للأخت لأم، ثم للأخت لأب، ثم بعد ذلك الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم بعد ذلك تثبت الحضانة لخالة الأم الشقيقة، ثم لخالة الأم لأم، ثم لخالة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب، ثم بعد ذلك بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم بنت الخالة الشقيقة، ثم بعد ذلك لبنات أعمام الأب الأشقاء، ثم بنات العمات الشقيقات على الترتيب الذي تقدم. فعمات الأب الشقيقات، ثم بعد ذلك بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، ثم بعد ذلك لأقرب عاصب من أولياء المحضون. هذا بالنسبة للأصل في الترتيب، وروعي فيه تقديم جهة تقديم الأم؛ لأن الحضانة بالإناث ألصق منها بالذكور، ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم حضانة الأم على حضانة الأب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، فالذي اختصم هنا عندنا الأب وهو الزوج، والأم وهي الزوجة، فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: (أنت) خطابا للزوجة وهي أم المحضون (أحق به ما لم تكنحي) أي: ما لم تتزوجي. فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في أن جهة الأمومة مقدمة، ويراعى في الحضانة جهة الأمومة، وهذا لا شك أنه عين الحكمة والصواب، فإن الطفل والصغير يحتاج إلى الرعاية والحنان من الأم، والحنان من الإناث أكثر من الحنان من الذكور والرجال. والرعاية لمصالح الصغار من الإناث أبلغ من رعاية الذكور، فإن في الرجال من الخشونة والعنف والقوة ما لا يخفى، وفي الإناث من اللين والصبر وتحمل أذية الأطفال والصغار ما لا يخفى، فأعطى الله عز وجل كل ذي حق حقه. ومن هنا قدمت جهات الأمهات، فمثلا: إذا وجدت أخت لأب وأخت لأم قدمت الأخت لأم على الأخت لأب، وإذا وجدت عمة لأم وعمة لأب قدمت العمة لأم على العمة لأب. وهكذا. فهذا كله راعى العلماء رحمهم الله فيه الأصل الشرعي من تقديم الإناث على الذكور. إذا: الأولى والأحق الأم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنت أحق به ما لم تنكحي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق) فيه دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل على أن الأم أولى وأحق بالحضانة، ولذلك هي التي تقوم على تربية ولدها ورعاية شئونه، فأولى من حضن الصبي وقام به الأم. وقوله: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] لأن أم الأم كالأم، وهي أم؛ ولذلك تنزل منزلة الأم عند فقد الأم، وهي بعد الأم في الترتيب، ثم أم أم الأم، وهي جدة أم المحضون. وقوله: [ثم أب] من أهل العلم من قدم الأب على أم الأم، ومنهم من جعل جهة الأم مقدمة على الأصل في رعاية الشرع لها، فقالوا: إن الأب يكون بعد فقد أم الأم، أو وجود مانع في أم الأم، والأب له حق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: (أنت أحق به) و (أحق) صيغة أفعل في لغة العرب تدل على اشتراك شيئين فأكثر، وأن أحدهما أعظم مزية من الآخر، فإذا قيل: محمد أعلم من علي، فهم أن محمدا وعليا كل منهما عالم، ولكن منزلة محمد أعلى من منزلة علي في العلم. فصيغة أفعل، تقتضي التشريك والمزية بالتفضيل، لكن لما قال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي) أثبت عليه الصلاة والسلام للأب حقا، ولكنه بين أن الأم أولى، وإلا لأبطل دعوى الأب من أصلها، وقال: لا حق له في ذلك، ولكنه لما قال: (أنت أحق) دل على أن للأب حقا في حضانة ولده. ولأن في الأب من الشفقة والحنان والرعاية والقيام بالمصالح ما لا يخفى، وفيه من القدرة على رعاية مصالح الصغير ما ليس في الأم، خاصة عند وجود الحاجة لحقوق الصغير عند الناس أو نحو ذلك، أو يحتاج الصغير إلى تعليم أو تأديب أو دلالة على صنعة أو حرفة، فالأب هو الذي يتولى إخراجه لذلك والقيام عليه ومتابعته وأمره بذلك وحثه عليه. وقوله: [ثم أمهاته] . أي: أمهات الأب، أمه وأم أمه وإن علت بمحض الإناث. وقوله: [ثم جد] لأن الجد منزل منزلة الأب، والجد أب من وجه، ولذلك قال الله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78] فالجد بمنزلة الأب، وعلى ذلك أصول الشريعة، فإذا لم يوجد الأب، أو كان في الأب مانع، انتقلت الحضانة إلى الجد. وقوله: [ثم أمهاته كذلك] . أي: ثم أمهات الجد لهن الحق في الحضانة؛ لأنهن منزلات بمنزلة الأب. فإذا: أصبح عندنا في الأصول الجهات التالية: الأم، ثم تليها أمها وإن علت، ثم الأب، وتليه أمه وإن علت، ثم الجد، وتليه أمه وإن علت، فهذه ستة أنواع كلها مرتبة من جهة الأصول: إما من جهة الأب أو من جهة الأم. وقوله: [ثم أخت لأبوين] . أي: أخت شقيقة. فإذا لم يوجد أحد من الأصول الستة انتقلت الحضانة إلى فرع الأصل، والأصل عندنا من جهة الأب والأم، وأصل الأصلين من جهة الإناث، ومن جهة الذكر بالنسبة للأب، وبعد ذلك انتقل إلى فرع الأصل وهي الأخت، وقد بينا أن الأخت هي التي شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معا. فهنا الأخت الشقيقة لها حق الحضانة، وفيها من الشفقة والحنان والعطف لأنها صنو المحضون، ولا شك أنها ترعى مصالح أخيها؛ لأنها أدلت من جهتين. ثم تليها الأخت لأم؛ إعمالا لأصل الشريعة بتقديم جهات الأمهات على جهات الآباء، ثم الأخت لأب. وقوله: [ثم لأم، ثم لأب] كل هؤلاء النسوة الثلاث من جهة الأخوة، فتقدم الشقيقة، ثم بعدها الأخت لأم ثم بعدها الأخت لأب، فإذا لم يوجد شيء من الأصول أو وجد وفيه مانع كأب كافر أو أم كافرة والعياذ بالله، وليس هناك من قرب بعد الأصول إلا الأخت الشقيقة، فانتقلت الحضانة إليها، فإن لم توجد الأخت الشقيقة أو بها مانع انتقلت إلى الأخت لأم، فإن لم توجد أو فيها مانع انتقلت الحضانة إلى الأخت لأب. وقوله: [ثم خالة لأبوين] . أي: تستحق الحضانة الخالة الشقيقة، وهي كل أنثى شاركت الأم في أصليها، وأما الخالة لأب أو لأم فإنها شاركت في أحد الأصلين، فالخالة تنزل منزلة الأم في الحضانة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما فتح مكة جاءت بنت حمزة تقول: يا عم يا عم يا عم! فقال علي رضي الله عنه لـ فاطمة: دونك بنت عمك خذيها واحتمليها، فحملتها فاطمة، فاختصم فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب) . فهذه بنت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أخيه من الرضاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمها، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يأخذون ملحظا بسيطا وهو أن هذه بنت صغيرة يتيمة عقلت عمها من الرضاع ونادته: يا عم يا عم! وهو عم من الرضاع، فكيف ببنات اليوم تجهل عمها من النسب! انظر كيف يراعى تربية البنات وكيف كانت الأم تربي، لأن أباها حمزة رضي الله عنه استشهد في أحد، وهذا في فتح مكة، والمسافة بعيدة، ومع هذا عقلت عمها من الرضاع، فما بالك بعمها من النسب، وكذا قرابتها من النسب؟! لأن البنت كانت تربى في حجر أمها، وكانت الأم لا تفرط في فلذة كبدها، أما اليوم إذا دخل عليها عمها أو خالها أو قريبها من النسب، فربما جهلته والعياذ بالله، كل هذا بسبب قطيعة الرحم أو بسبب إسناد التربية إلى المربيات والعاملات، وترك الأمهات لواجبهن من الرعاية. الشاهد أن هذه الصغيرة عقلت وصاحت، فاختصم فيها هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب يقول: إنها بنت عمي، وكذلك يقول جعفر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه قال: وخالتها تحتي، وقال زيد بن حارثة: إنها ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة رضي الله عنهما. فقال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وهذا من أقضيته عليه الصلاة والسلام، قضى في هذه الخصومة وفصل بالحق الذي فصل به ربه سبحانه وتعالى وهو خير الفاصلين. وهذا في الحقيقة ينبغي أن يلحظ في أن عليا رضي الله عنه وجعفرا كل منهما أدلى بالسبب الذي هو من جهة العصبة، فكل منهما يعتبر ابن عم من جهة العصبة، فالقرابة موجودة، لكن جعفرا رضي الله عنه وأرضاه فضل من جهة وجود الزوجة التي هي خالة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وفضلت من هذا الوجه. ومحل الشاهد في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) حيث دل هذا الوصف على أن الخالة تنزل منزلة الأم. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله أن الخالة لها حق في الحضانة. وقوله: [ثم عمات كذلك] تقدم الشقيقة منهن لأنها أدلت من جهتين، ثم تقدم العمة لأم، ثم العمة لأب. وقوله: [ثم خالات أمه] انتقل إلى خالات الأم، والخئولة جاءت من جهة الأم، ويقدم فيها خالة الأم الشقيقة، وهي التي شاركت أم الأم في أصليها، ثم تقدم الخالة لأم على الخالة لأب. وقوله: [ثم خالات أبيه] أي: أن الخئولة من جهة الأم مقدمة على الخئولة من جهة الأب، يقدم فيها الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، على التفصيل الذي تقدم. وقوله: [ثم عمات أبيه] عمات الأب يراعى فيهن نفس الترتيب: فالعمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، هذا من جهة عمات الأب، ولا حق لعمات الأم، وذلك لأنهن يدلين بأب الأم، وهو من ذوي الأرحام وليس من العصبة. ومن هنا فلا حق لعمات الأم من جهة الترتيب الذي ذكرناه في الحضانة. وقوله: [ثم بنات إخوته وأخواته] بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت وقوله: [وإن امتنع من له الحضانة] . هل الحضانة حق واجب لا اختيار فيها للحاضن؟ أم أنها حق تخييري بأن يقال له: هذا حقك، إن شئت أن تلي حضانة الصغير فلك ذلك، وإن شئت أن تترك فلك ذلك، فينتقل الحق إلى من بعده؟ فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: الحضانة حق واجب، وأصحاب هذا القول منهم من يفصل ومنهم من يطلق. فمن يفصل يقول: إذا كان الشخص المحضون لا يقبل غير الأم، أو لا يقبل غير الأب، وثبتت ولايته دون وجود من هو أحق قبله، فإنه يجب على الأب أو الأم الحضانة، وليس لأحدهما حق الترك والتولي، فإذا تركه أحدهما أجبره القاضي أو الإمام الوالي على القيام بحق الحضانة، هذا على القول بوجوبها. والذين قالوا بعدم الوجوب يقولون: إذا تخلى وقال: لا أستطيع أو لا أريد أن أحضنه، فإنها تنتقل الحضانة إلى من بعده. فمثلا: إذا كانت هناك أخت شقيقة وأخت لأم وأخت لأب، وبينا أن الأخت لأم لا تكون حاضنة للصغير مع وجود الشقيقة، فلو أن الشقيقة قالت: لا أريد الحضانة، وقلنا: من حقها ذلك، انتقل حق الحضانة إلى الأخت لأم، وقس على هذا. فتبين أنه إذا امتنع الأقرب وكان من حقه أن يمتنع، انتقلت الحضانة إلى من بعده. وقوله: [أو كان غير أهل] الحضانة لها شروط لابد من توفرها للحكم بأهلية الحاضن للحضانة: من إسلام وبلوغ وعقل وحرية وحسن ولاية، وعدم وجود مرض معد. ونحو ذلك من الشروط، فإذا توفرت هذه الشروط حكم بالحق لصاحبه لاستحقاقه للحضانة. فإذا وجد فيه مانع كأن يكون كافرا، أو ارتد -والعياذ بالله- فكفر، سقط حقه في الحضانة، فتنتقل الحضانة إلى من بعد هذا الشخص الذي فيه المانع. وقوله: [انتقلت إلى من بعده] أي: بالترتيب الذي ذكره رحمه الله، فمثلا: لو كان عنده عمة شقيقة وعمة لأم وعمة لأب، وكانت العمة الشقيقة كافرة أو مرتدة، فحينئذ تنتقل الحضانة إلى العمة لأم، وهكذا لو وجد مانع في العمة لأم كأن تكون مجنونة فإنها تنتقل الحضانة إلى العمة لأب، وهكذا تنتقل الحضانة لمن هو أقرب. موانع الحضانة مانع الرق وقوله: [ولا حضانة لمن فيه رق] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي توفرها في الحاضن، فيشترط فيه: أن يكون حرا، والرقيق ليس أهلا للحضانة من حيث الجملة، والسبب في ذلك: أن الشرع نزع الولاية عن العبد فهو لا يلي أمر نفسه، حتى إن ماله لا يملكه، إنما هو ملك لسيده إلا ما ملكه، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يده عن أن يتصرف في ماله، فكيف يتصرف في غيره؟ فهو لا يملك النظر في نفسه فأولى ألا يتولى أمر غيره، والإسلام في مسألة الرق لا يخصها بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بزمان ولا بمكان، وإنما جعل ذلك راجعا إلى وجود الكفر بنعمة الله عز وجل والمحاربة لدين الله، فإذا كان الشخص بهذه المثابة سقطت عنه الأهلية حتى صار كالبهيمة، كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، وحينئذ يباع ويشترى ويملك. وعلى كل حال فالرقيق ليس له حق في الحضانة؛ لأنه لا يملك أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره، ولأنه مشغول بخدمة سيده، فكيف يتفرغ للقيام برعاية هذا الصبي أو هذه الصبية؟! ولذلك لو قيل: إن لهم الولاية لضاعت حقوق الشخص المحضون؛ لأنه إما أن يضيع حق سيده، وإما أن يضيع حق الشخص المحضون، فقالوا: نبقيه على الأصل من أنه مطالب بحق سيده. والبعض يستغرب من الفقهاء أن يقولوا هذا، وهذه أصول شرعية، فالشرع أثبت الملكية، قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون:5 - 6] ، فجعلهم ملك يمين، فجعل الأمة ملك يمين لسيدها، وجعل المملوك مشغولا بخدمة سيده. وبناء على ذلك: لا يستطيع العبد القيام برعاية الشخص المحضون، ومن هنا أسقط جمهور العلماء رحمهم الله الحق في الولاية للرقيق على المحضون. مانع الفسق وقوله: [ولا لفاسق] . الفسق: أصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، فأصله الخروج، وسمي الفاسق فاسقا؛ لأنه خرج عن طاعة الله، والفسق فسقان: فسق مخرج من الملة وهو فسق الكفر، وفسق لا يخرج من الملة وهو فعل كبيرة من الكبائر، أو الإصرار على صغيرة من الصغائر. والفاسق له أحوال: فتارة يكون فسقه مؤثرا في الحضانة، وتارة لا يؤثر في الحضانة. والمسألة هي: هل الفاسق يتولى الحضانة، أو لا يتولاها؟ الجواب من أعدل الأقوال أننا ننظر في فسقه: فإن كان فسقه متعديا مؤثرا في الحضانة لم يكن له حق في الحضانة؛ لأن المقصود من الحضانة يفوت بولايته، ومقصود الشرع من ولايته أن يقوم بحقوق الحضانة، ومثل هذا لا يؤمن منه. وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الحضانة، فإنك قد تجد الشخص مثلا مقصرا ويقع في بعض المحرمات، ولكنه من أغير الناس على عرضه، ومن أحفظ الناس لحقوق القرابة، وقد تجد عنده أخطاء وزلات ولكنه من أصدق الناس قولا، ومن أحسنهم معاملة، فليس كل فسق يؤثر في الحضانة. ولذلك فإن من أعدل الأقوال في المسألة قول من قال أن ننظر في فسقه: فإن كان فسقه يضيع الحضانة ويؤثر فيها فلا يتولاها، مثلا: شخص معروف والعياذ بالله ببعض المعاصي من شرب خمر أو فعل محرم من الكبائر، أو مستهتر بالحقوق والواجبات، فمثل هذا لا يعطى حق الحضانة، لكن لو كان يشرب الخمر، ولكن يؤمن شره وضرره على المحضون، أو كانت امرأة قذفت فحكم بفسقها، لكنها من أحرص الناس على أولادها، ومن أحفظهم لحق الولد أو لحق بنات أخيها أو بنات أختها، فإن الحضانة تنتقل إليها ولا يؤثر فسقها بالقذف في الحضانة؛ لأن القذف مما يوجب الفسق. فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا أثر في الحضانة نزع الصبي والصغير ولم يكن للشخص حق في الحضانة، وأما إذا لم يؤثر فإن الحق ثابت في ذلك مع وجود الفسق. مانع الكفر وقوله: [ولا لكافر] . الكافر ليس له حق في الحضانة، على مذهب جمهور من علماء رحمهم الله، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] وإذا جعلنا لهم حق الحضانة كان نوع ولاية، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الكافر يؤثر على الصغير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه) فبين أن الصغير يتأثر بمن يليه، قال: (فأبواه) ولأن الغالب في الحضانة أن تكون للأبوين. ومن هنا قطع جمهور العلماء رحمهم الله ولاية الكافر في الحضانة، وهذا هو الصحيح؛ لأن أصول الشريعة تقوي هذا القول وتشهد بصحته. مانع زواج المرأة بأجنبي وقوله: [ولا لمزوجة بأجنبي] الأم لها حق الحضانة ما لم تتزوج، فلو طلقها زوجها فإنها أحق بولدها وبحضانته، فإذا تزوجت نظرنا في هذا الزوج: إن كان أجنبيا عن الصبية التي هي بنتها فإن الحضانة تنتقل من الأم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، فلما قال: (ما لم تنكحي) أخلى يدها عن الولاية بوجود النكاح. وأما إذا كان الشخص الذي تزوجها بينه وبين المحضون محرمية، ففي هذه الحالة لا تنتقل ولا تسقط الحضانة عن الأم، واستدلوا على ذلك بقصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه قال: إنها بنت عمي وخالتها تحتي، فهو ليس أجنبيا عنها، قالوا: هناك قرابة بين جعفر وبين حمزة رضي الله عنهما، وهنا يقولون: بسبب الرضاع الذي بين جعفر وحمزة استحق أن يليها؛ لأنه ليس بأجنبي عن هذه البنت. ومن أهل العلم من قال: إذا كان قريبا ولو بالنسب التي هي قرابة العصبة غير المحرمية فإن له حقا، وحينئذ تعتضد الزوجة بهذا القريب ولو لم يكن محرما في ولايتها على بنتها. وعلى هذا فالخلاصة: إن كان قريبا له محرمية فلا إشكال في إبقاء الحضانة عند الزوجة، وإن كانت قرابته لا توجب المحرمية، فاختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله وخاصة في مذهب الحنابلة أنه يكون للمرأة حق الحضانة وذلك لوجود القرابة بين زوجها وبين هذه البنت المحضونة. وقوله: [من محضون] أي: الشخص المحضون أجنبي. وقوله: (من حين عقد) إذا قلنا: إن المرأة إذا تزوجت تسقط حضانتها يرد السؤال هل تسقط بمجرد العقد أم لابد أن يدخل هذا الزوج الأجنبي بها؟ وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: لا تسقط حضانة الزوجة إلا بدخول الزوج، وهو مذهب المالكية ومن وافقهم رحمهم الله. ومنهم من قال: مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله. وقد استدل الذين قالوا: إن مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، والمرأة توصف بكونها منكوحة بمجرد العقد، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] فدل على أن المرأة تكون منكوحة بمجرد العقد. إذا ثبت هذا فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي) وقد نكحت وتزوجت، سواء دخل بها أو لم يدخل. ومذهب الحنابلة والشافعية على أن العبرة بالعقد أقوى أثرا، ومذهب المالكية ومن وافقهم أقوى نظرا، مع أن الأثر يحتمل؛ لأن العلماء اختلفوا: هل النكاح حقيقة في العقد أو حقيقة في الوطء؟ خلاف مشهور. بعض العلماء يقول: حقيقة في العقد، وبعضهم يقول: حقيقة في الوطء، ومنهم من يقول: حقيقة فيهما. والسبب في ذلك: أن القرآن ورد فيه النكاح بمعنى الدخول، وورد فيه النكاح بمعنى العقد، وأكثر ما ورد بمعنى العقد. وقالوا: إن النكاح بمعنى الدخول دليله قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة:230] فجاءت السنة وبينت أن النكاح هنا المراد به الدخول، وليس مجرد العقد، فصار قوله: (( حتى تنكح زوجا غيره )) المراد به الدخول. ومن هنا يقولون: إن النكاح حقيقة في العقد وحقيقة في الوطء، فإذا كان حقيقة فيهما يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي) يحتمل الوجهين: ما لم تنكحي، أي: تعقدي، ويحتمل: ما لم تنكحي، أي: يدخل زوجك بك. فالمالكية يقولون: لما احتمل الأمرين اعتضد بالأصل، وهو أن الخطر على الشخص المحضون لا يتأتى إلا بعد الدخول، ويكون تقصير الزوجة لانشغالها بالزوج بعد الدخول لا قبل الدخول، فهو أقوى من جهة النظر؛ لأن الأثر من ناحية إطلاق النكاح حقيقة على الدخول أيضا فيه إشكال. لأن بعض العلماء يرى أن آية البقرة في الطلاق ثلاثا هي في النكاح، لكن جاءت السنة بزيادة شرط الدخول. وعلى كل حال فالمسألة محتملة، أما من حيث النظر والقوة في المعنى فلا شك أن الدخول هو المعتبر. وقوله: [فإن زال المانع رجع إلى حقه] . أي: فإن زال المانع عن الشخص المحضون رجع إلى حقه، فإذا أسلم الكافر وأفاق المجنون رجع إلى ولايته للحضانة. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة الحضانة رعاية معنوية لا نفقة فيها السؤال فضيلة الشيخ! إن كان الذي له الحق في الحضانة فقيرا، وكان الذي يليه موسرا، هل يقدم الموسر على الفقير نظرا لمصلحة المحضون، أثابكم الله؟ بعض العلماء يرى أن الحاضن له أجرة، فإذا كان فقيرا صار من باب أولى وأحرى، والسائل يظن أن الحاضن هو الذي ينفق ويقوم على المحضون بالنفقة. فليعلم أن باب الحضانة يشمل أخذ الصغير لتعليمه وتأديبه وتربيته ورعايته، وليس في المسألة إنفاق؛ بل الحضانة رعاية معنوية للشخص وتصريف أموره المادية، لكن لا يدفع الحاضن من ماله، فلينتبه لهذا! فإذا كان الأقرب فقيرا والأبعد غنيا، فنقول: الحاضن له أجرة في الحضانة، فإذا كان له أجرة صار الفقير أولى من جهتها، أي: صارت المسألة بالعكس، أولى لفقره وأولى لقربه، وبناء على ذلك صار السؤال معكوسا من هذا الوجه. وعلى كل حال فالحاضن لا يدفع من جيبه شيئا، فالأصل أن ينفق من مال الشخص المحضون، وإذا كان صغيرا فمن مال والده، على التفصيل الذي ذكرناه في النفقات، فالنفقات لها باب مستقل، ويتولى الإنفاق عليه من ذكرنا من قرابته بالضوابط التي بيناها في باب النفقات، لكن هنا مسألة الرعاية والقيام على المصالح، والله تعالى أعلم. إجراء الأحكام التكليفية على المعتوه السؤال هل المعتوه تجري عليه الأحكام؟ وهل هو مكلف؟ الجواب الأصل أن العته نوع من الضعف في العقل، فإذا فقد الإنسان الإدراك للأمور وتمييزها سقط عنه التكليف، فهو إنسان غير مكلف؛ لأنه في حكم المجنون. أما العته الذي فيه خرف ونوع من التمييز وله عقل، فطائفة من العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشخص يكون في بعض الأحيان من أذكى خلق الله، ولكن فيه قصور، لأن الذكاء شيء والعقل شيء آخر. ومن هنا فالعته لا يؤثر في العقل من كل وجه، ويؤثر في شخصية الإنسان من ناحية تمييز الأمور وإدراكه لها، لكن لا يصل به إلى حد الجنون، فإذا وصل به إلى حد الجنون لم يكن معتوها بل يكون مجنونا. انتقال الحضانة من الأم إلى أم الأم السؤال الأم إذا نكحت هل تنتقل الحضانة إلى أم الأم، أم إلى الأب مباشرة؟ الجواب ذكرنا أن الحضانة للأم، ثم لأم الأم وإن علت بمحض الإناث، وهي أولى من الأب، لأن شفقة الأم أقوى من شفقة الأب، وأم الأم بمنزلة الأم، وأصول الشريعة دالة على هذا، وأقوى الأقوال عند أهل العلم رحمهم الله: أن أم الأم مقدمة على الأب، والله تعالى أعلم. معنى المأثم المغرم السؤال في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فما هو المأثم والمغرم أثابكم الله؟ الجواب فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأن الإنسان إذا غرم وأصابه الدين وتحمل وقع في الإثم، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعد فلا يفي) أي: يقول سأعطيك غدا، ثم لا يتيسر له السداد، فيصبح مخلفا لوعده كاذبا في قوله، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، كما ثبت في حديث دعاء التشهد وهو حديث صحيح: قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذا وقال: (إذا غرم الشخص حدث فكذب، ووعد فأخلف) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين، لأن الدين إذا غلب الإنسان كذب في قوله، وأخلف في وعده، وهذه من الفتن العظيمة. ولذلك لا تظهر قوة الإنسان في دينه وصدقه في إيمانه بمثل ما إذا ابتلي بالدنيا فصدق مع الله عز وجل، فالدنيا بلاؤها عظيم، ومن هنا قال عمر رضي الله عنه: (لا تغرنكم دندنة الرجل في صلاته، انظروا إليه في ديناره ودرهمه) . فالشخص إذا ابتلي في الدنيا وأصبح غارما مديونا اضطر إلى أن يكذب ويخلف الوعد، ويقع في المزالق التي لا تحمد عقباها: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بواد حول واديها فعلى الإنسان أن يبتعد عن أمور الدنيا خاصة تحمل الديون في التجارات أو في أمور غير واضحة، فهذه لا تحمد عقباها، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم وهو يبين حال الاستدانة وعدم سداد الناس حتى يقع الإنسان في غلبة الدين، ويقع في خلف الوعد والكذب إذا حدث، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهذا يدل على أن الإنسان إذا أخذ الديون ينبغي عند أخذه أن ينظر إلى أمرين: أولا: حسن النية في السداد. ثانيا: وجود غلبة الظن على أنه سيسدد. ولا يجوز أن يخاطر بأموال الناس، خوفا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) ، فالتساهل في هذه الأمور لا ينبغي. وكم من إنسان تراه مستقيما على دين الله عز وجل وطاعته ومحبته ومرضاته، فإذا علم الشيطان ضعفه في الدنيا استدرجه حتى يقع فيها، ويمنيه ويعده بالوعود الكاذبة حتى يقع في غلبة الدين، وعندها لا يهنأ له عيش، ولربما تصيبه دعوات السوء والعياذ بالله؛ لأنه قد يضر الناس -والعياذ بالله- في حقوقهم. المقصود أن غلبة الدين لا خير فيها، فقد تهلك الإنسان وتفتنه في دينه ودنياه، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقضي عنا وعنكم الدين، ونعوذ بوجهه الكريم وسلطانه القديم من فتنة الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم. الصلاة على فراش في طرفه نجاسة السؤال إذا صليت على فراش كبير وفي طرفه نجاسة هل تصح الصلاة، أثابكم الله؟ الجواب إذا كانت النجاسة في مكان المصلي أثرت في صلاته، وحينئذ لا يصح أن يكون الموضع الذي يليه نجسا أو عليه نجاسة، فإذا صلى على موضع نجس بطلت صلاته. والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلى بنعلين، ثم خلع النعلين أثناء الصلاة، فخلع الصحابة النعال، فلما سلم عليه الصلاة والسلام قال: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يجوز أن يصلي على الموضع النجس والمكان النجس، والله تعالى أعلم. كيفية قضاء السنة الراتبة السؤال إذا فاتت السنة الراتبة قبل الصلاة فهل تقضى بعد الصلاة أثابكم الله؟ الجواب يشرع قضاء الرواتب بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر، وذلك بعد صلاة العصر وقالت له أم سلمة رضي الله عنها: (رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلوني عنهما آنفا) . وفي هذا الحديث من الفقه والفوائد شيء كثير، منها: سؤال العالم عما خالف من حاله وهيئته، خاصة فيما يختص بأمور الشرع، فإن الغالب فيها أن يكون لها سبب وموجب. ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك فعل الراتبة في وقتها لانشغاله بالدعوة، ومن هنا استدل به على جواز تأخير الرواتب إذا اشتغل طالب العلم بالدرس، أو بمحاضرة، وأراد أن يؤخر الراتبة، فهذا الحديث أصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الراتبة لدعوة وفد عبد قيس، فلما ترك الراتبة لوفد عبد قيس دل على تقديم العلم والنفع المتعدي على النفع القاصر؛ لأن فضل العلم والدعوة أعظم من فضل العبادة. الراتبة فضيلتها قاصرة، والعلم فضيلته متعدية، ولذلك تجد بعض الجهال يستعجلون في انتقاد الغير ويعتبون على طلاب العلم حينما لا يرونهم يصلون راتبة المغرب ويزدحمون للعلم، وهذا من جهلهم بالسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه تأخير الراتبة، فلا ينكر على طلاب العلم حيث إن لهم وجها من السنة. وسبب هذا أن فضل العلم والدعوة متعد، خلافا للرواتب والعبادة القاصرة، فأخذ من هذا أن الفضل المتعدي مقدم على الفضل القاصر، ومنه أخذت القاعدة أيضا: أن ما يمكن تداركه، إذا ازدحم مع الذي لا يمكن تداركه، قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه. ومن هنا قال بعض العلماء: إذا أراد أن يصلي راتبة الظهر وحضرت صلاة جنازة قدمت الجنازة على راتبة الظهر؛ لأن راتبة الظهر يمكن تداركها والجنازة لا يمكن تداركها، حتى قال بعض العلماء: له أن يقطع راتبه الظهر، ولكن هذا محل نظر؛ لأن الأصل يقتضي عدم إبطال النوافل؛ لأن الله يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] فهو ينوي في قرارة قلبه أنه لولا اشتغاله بالنافلة لصلى على الجنازة حتى يكتب له الأجر، لكن إذا لم يجد أحدا يصلي عليها فحينئذ يكون من باب ترك الأقل المستحب لما هو أوجب وآكد، وهذا إذا ضاق الوقت. أما بالنسبة للأصل الذي ذكرناه في مسألة الرواتب، فإنه يشرع قضاء الرواتب القبلية، وكان بعض العلماء رحمهم الله يشدد ويقول: حديث أم سلمة رضي الله عنها في قضاء البعدية وليس في قضاء القبلية، ويقول: إذا فاتت القبلية فلا يقضيها، وهذا محل نظر. وقال: إن السبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته راتبة الظهر وصلى بعد العصر ركعتين، وهاتان الركعتان قد صليتا بعد الظهر فصدق عليهما أنهما بعدية، لكن إذا كانتا قبلية وفاتت، فإنها تفوت بفوات القبل، وهذا من جهة النظر والعقل، لكن هذا القول مردود بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء راتبة الفجر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قضاها بعد وقتها. وأجيب عن هذا الجواب بأنه قضاها مرتبة، أنه عليه الصلاة والسلام فعلها بعد للفرض، لكن رد هذا بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث من قوله: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) وفي أحد الأوجه في تفسير هذا الحديث أن المراد به قضاء راتبة الفجر عند من يقول بجواز قضائها بعد تسليم الإمام، ويستثنيها من النهي عن الصلاة بعد الصبح. وأيا ما كان فإن حديث أم سلمة رضي الله عنها لو نوزع فيه وقيل: إنه فعلها بعدية، فإنه يقال: العبرة بفوات المكان، لأن البعدية بين الظهر والعصر، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام بعد العصر. ومن هنا يوجد عند العلماء شيء يسمونه الأصل، أي: تتقيد فيه بالوارد، فإذا تيسر الوارد كان لك أجر المتابعة كاملة، وإن تركت الوارد وفعلت غير الوارد وكان الأصل دالا على غير الوارد كان لك أصل الأجر. مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه دعا في السجود، وقال: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي لطاعتك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك) فأنت إذا دعوت بهذا الدعاء أجرت في الأصل بالدعاء في السجود، وأجرت بالمتابعة في نوعية الدعاء. لكن لو أنك دعوت في سجودك بغير هذا الدعاء الوارد كان لك الأصل، فنحن نقول: الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الراتبة في غير وقتها، فكون هذه الراتبة جاءت في صفتها بعدية ليس هو المراد، إنما المراد هو مشروعية القضاء. وحينئذ يصلح أن يكون الحديث دليلا على قضاء القبلية وقضاء البعدية على حد سواء، والله تعالى أعلم. تزاحم العبادات السؤال أحيانا تزدحم على طالب العالم بعض الأمور المختلفة، كزيارة الرحم وطاعة الوالدين وما لديه من دروس، فكيف يتعامل مع هذه المهام بالطريقة المثلى أثابكم الله؟ الجواب هذا سؤال يحتاج إلى نظر، أولا: من حيث الأصل يقدم الواجب على غير الواجب، فبر الوالدين فرض، وهذا الفرض مقدم على غيره من حقوق الآخرين، فإذا سألك والداك، أو احتاج الوالد منك أن تأتي عنده في القرية، أو في المزرعة أو التجارة، فعليك أن تقدم هذا الواجب، وتتقرب إلى الله عز وجل بذلك. إذا: الواجبات تقدم على غير الواجبات، مثل شخص أو جماعة دعوك في سفر لعمرة أو للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، تقول: الدعوة مستحبة وبر الوالدين واجب، والواجب مقدم على المستحب. إذا ازدحمت الواجبات قدم الآكد على غير الآكد، فمثلا: إذا نظرنا إلى حق القريب نجده من حيث الأصل حق واجب على المسلم أن يصله، هذا القريب قد يكون مريضا يحتاج أن تكون معه، أو جاءته ضائقه أو ظرف يريدك أن تكون معه، وهناك مثلا صديق عنده ظرف ويحتاج أن تكون معه، فإذا نظرت وتأكد عليك أن هذا الصديق ليس له غيرك والقريب ليس له غيرك بعد الله عز وجل، فحينئذ يقدم الحق الآكد وهو حق القريب، فتقدم حق القريب ثم الأقرب فالأقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك أدناك) فجعل الحقوق مرتبة، والله عز وجل جعل لكل شيء قدرا. فالمسلم ينظر دائما للحقوق المؤكدة، فالفضائل والمستحبات والمندوبات يقدم فيها المتعدي على القاصر، وهذه قاعدة في التفضيل، وكما ذكرنا في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد قيس، فإنه يقدم الشيء الذي لا يمكن تداركه، مثلا: لو كان عندك أثناء الإجازة أشياء لو أخرتها لم يمكن تداركها، وأشياء من المستحبات لو أخرتها عن الإجازة أمكن تحقيقها في غير الإجازة ولو بعض الشيء، فتقدم الذي لا يمكن تحقيقه بعد الإجازة مطلقا على الشيء الذي يمكن تحقيقه بعد الإجازة بعض الشيء. هذه كلها أمور لها قواعد وضوابط إذا ازدحمت؛ كأن تكون كلها علوما، وهذه العلوم لا تدري هل تذهب لهذه الحلقة أو إلى هذه الحلقة أو هذه الحلقة، فإذا كانت الحلقة في علم يحتاج إليه كأن تكثر أخطاء الناس فيه، أو كان عالمه يضبطه أكثر أو يتقنه أكثر، أو كان لا يتيسر لك في غير الإجازة، فتقدم بهذه الوجوه، وتراعي التفضيل من هذه الوجوه، وهذا ليس خاصا بالإجازة، فهذه أصول عامة، وعند العلماء مبحث في التفضيل تكلموا عليه في كتب القواعد الفقهية في قواعد التفضيل. فعلى كل حال، تقدم الأشياء الواجبة على الأشياء المندوبة والمستحبة، وتقدم الواجبات المؤكدة على الواجبات غير المؤكدة، ويراعي في هذا كله النية الصالحة، أعني: أن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا انشغالك بهذا الشيء لفعلت ذلك الشيء، حتى تؤجر بعملك ونيتك، وجمع الخير كله تقوى الله عز وجل وسؤال العلماء. فينبغي لكل إنسان أن يرجع إلى أهل العلم: (وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) فالذي يسأل أهل العلم ويرجع إليهم في الأمور الشرعية لا شك أنه سيكون على بصيرة من أمره، ويوفق ويسدد. ومن العجيب -وليس هذا من الله ببعيد- أنك عندما تستشير أحدا من أهل العلم، فيشير عليك بمشورة، أن الله يجعل البركة فيما أشار به، إن عاجلا أو آجلا أو هما معا، ومن أراد فليجرب. فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى خاصة إذا رزق من يستشيره العقل، فإذا ازدحمت عندك الأمور فإن كانت شرعية فارجع إلى أهل العلم، وإذا كانت أمورا دنيوية فارجع إلى أهل العقل والأمانة، فإنهما شرطان لابد من توفرها فيمن تستشير. فالذي عنده عقل أبعد منك نظرا، وأعرف منك في الحظوظ والمفاسد والمصالح، وكذلك وأما الأمانة فلأنه قد يكون عاقلا فاهما لكن لا أمانة عنده، وليس عنده نصيحة. فإذا رزقك الله عز وجل استنارة العلم والعقل، فإنك موفق، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: من الناس من رزق العلم أكثر من العقل، فعنده علم كثير لكن عقله صغير، ومنهم من رزق عقلا أكثر من العلم، فعقله أكبر من علمه، وهذا موجود في الناس، وبعض الناس طالب علم علمه قليل، إلا أن عنده من رجاحة العقل وبعد النظر الشيء الكثير، وهذه هبة من الله عز وجل، ومن الناس من جمع الله له بين الحسنيين: العلم والعقل، فهذا خير المنازل وأفضل ما يكون. فإذا أراد الإنسان أن يستشير فإن كان لأمر ديني فلا إشكال أنه يرجع إلى أهل العلم، وإن كان في أمر دنيوي فإنه يرجع إلى من هو أعقل: شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوما وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة فتستشير العاقل الحكيم الذي تأمنه على دينك وعرضك وأهلك. وهنا ننبه على مسألة مهمة جدا، وهي أن بعض طلاب العلم تنزل مسائل شرعية، فيأتي شخص ويقول: والله ما أدري أفعل كذا أو كذا والدي يأمرني! والدتي تأمرني! أو كذا، أمر يتعلق بالدين، فتجد هذا يعطيه رأيا، والآخر يعطيه رأيا. والمنبغي على طالب العلم ألا يفتي في المسائل الشرعية إلا إذا كان أهلا، فالعجب أنك تسمع بعض طلاب العلم يجيبه ويعطيه قاعدة وأصلا، يفتي وينظر ويقعد ويستدل وهو ليس بأهل لذلك، فلا يتقحم المسلم النار على بصيرة، هذه نار الله الموقدة، القول على الله بدون علم، حتى في الرأي يجب ألا تستهين بهذه الأمور، فلا تأت لأخيك بأمر شرعي ولو في طلب العلم، فتقول: افعل كذا واترك كذا يا إخوان! تحسبوه هينا وهو عند الله عظيم. الأمور الشرعية تناط بأهل العلم، ويرجع فيها إلى أهل العلم الذين هم أعلم وأحكم، فنحن نقول هذا لأنه يأتينا بعض الأخيار ويقولون: قال لي بعض طلاب العلم: لا تفعل كذا! وافعل كذا! وبعضهم يقول: إن فعلت كذا أثمت! فهذا لا يجوز، فإن تحليل الحرام كتحريم الحلال. والمنبغي الرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليه من أهل العلم وتقوى الله عز وجل. وعلى كل شخص يستشيره أخوه أو يشاوره أن ينصح له، وخاصة إذا أراد الإنسان أن ينصح فيستنصح الأخيار والأتقياء. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشدا، وأن يسلك بنا أفضل السبل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النفقات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (487) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [2] ترتكز الحضانة على حفظ الصغير عما يضره في دينه أو دنياه، فإذا أراد الحاضن أن يسافر ويأخذ المحضون معه ففي هذه الحالة لابد من مراعاة الأحكام والشروط التي تتعلق بهذه المسألة، كما أن المحضون تنتهي حضانته عند أجل معلوم بينه الفقهاء رحمهم الله، وذكروا تفصيلات ما للحاضن وما عليه. أحكام سفر الحاضن بالمحضون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن أراد أحد أبويه سفرا طويلا] . شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل والأحكام التي تترتب على الحضانة، وهذه المسائل تكثر فيها الخصومات والنزاعات بين قرابة الولد المحضون من والد ووالدة أو حاضر من القرابة، فيختلفون فيمن يتولى حضانة الطفل. وقد بين المصنف الشروط التي ينبغي توافرها، وبعد ذلك رتب أولياء وقرابة الطفل المحضون، ثم شرع بعد ذلك في جواب سؤال مفترض: وهو أننا إذا علمنا من هو الأحق بالحضانة، وفوجئنا أنه يريد أن يسافر بهذا المحضون أو يخرج به، فما الحكم؟ وهذه المسألة على صور: منها ما يتعلق بسبب الخروج والسفر، ومنها ما يتعلق بالمسافة التي يريد أن يخرج إليها هذا المسافر، ومنها ما يتعلق بحال الشخص أثناء السفر، هل هو مأمون أو غير مأمون؛ وكذلك أيضا حال الطريق التي يريد أن يسلكها أثناء السفر، وحال البلد الذي يريد أن ينزل فيه. ومن هنا يتبين فضل الله عز وجل على علماء الفقه الإسلامي حيث لم يطلقوا الأحكام دون نظر إلى صفات مهمة تؤثر في أصل المسألة. فالحضانة في أصلها قائمة على الحضن والرعاية والصيانة، فالذي يتولى الحضانة يقوم على حفظ الصغير عما يضره في دينه ودنياه، وهذا الأمر الذي هو الأساس لا بد أن يرتبط بالصفات والأحوال التي يتم بها السفر، وبالجهة التي يسافر إليها، والشخص الذي يتولى السفر به. ومن هنا ضبط المصنف رحمه الله مسألة السفر بضوابط: أولا: إذا أراد الزوج أو الزوجة السفر فلا إشكال إذا كان سفرهما إلى نفس البلد، أو ينتقلون من مدينة إلى مدينة آمنة، ويكون الاثنان مع بعضهما، وحينئذ لا تقع خصومة غالبا؛ لأنه إذا انتقل به الوالد أو الوالدة سيكونان مع بعضهما، أو على الأغلب في حال قريب من حال البعض، إلا أن من أهل العلم من يقول: الأب أحق به على كل حال؛ لأن السفر خطر، ويعظم ضرره ويكثر شره، فلا أمانة إلا بالله ثم بالوالد؛ لأن الوالد أقدر على الحفظ والصيانة من الوالدة، والله عز وجل وصف النساء بالضعف، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) ، فالمرأة ضعيفة في أصل خلقتها وتكوينها الفطري، ومن هنا يقولون: إذا أرادا أن يخرجا فالأصل أن تكون الحضانة للوالد وحينئذ يكون أحق بهذا الولد. وبناء على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصغير لأمه: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، فينتزع الولد عند السفر من الأم، ويعطى إلى الأب في حال السفر، حتى يصلا إلى المدينة أو القرية أو المكان المراد، ثم يرد الولد إلى أمه. إذا: هذا الحكم في حال السفر إذا كانا مسافرين إلى بلد واحد، لكن إذا كانا مسافرين إلى بلدين مختلفين؛ هل الأحق به الوالد أم الأم؟ نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأم أحق بولدها ما لم تنكح وتتزوج؛ لأن الأم تحفظ الصغير وتقوم على شئون تربيته وإصلاح حاله حتى يميز، لكن إذا سافرت به، فإن الوالد يرفض ذلك، فنقول: هل نرده إلى أبيه أو نبقيه مع أمه؟ بعض العلماء يقول: إنه يبقى مع أمه؛ لأن الأم هي الأصل، والقاعدة تدل على استصحاب الأصل والأصل أنه عند أمه، فيستصحب الأصل، واستصحاب الأصل دلت عليه الأصول الشرعية، وهو مسلك في الفقه الإسلامي لا إشكال فيه. والذين قالوا: يكون عند الأب؛ قالوا: إن استصحاب الأصل شرطه أن لا يرد عارض يوجب الانتقال عن هذا الأصل، والعارض هنا: أن الأم ضعيفة ولا تقوى على حفظ الولد، وعليه فينتقل إلى الوالد. والمصنف رحمه الله ضبط المسألة حين اشترط أن يكون السفر آمنا، وبناء على ذلك: إذا كان مخوفا، فمن أهل العلم من قال: السفر المخوف يكون المرد والمعول فيه على الله ثم على الأب، وهذا القول تدل عليه الأصول، فإن الأب أقدر على حفظ الولد وعلى صيانته، وأيضا فكلهم متفقون على أن الأنثى إذا عقلت واستغنت عن والدتها وجب ردها إلى أبيها حتى يزوجها، وكأن الأب أقدر على حفظ العرض من الأم، فإذا كنا قد اتفقنا أنه في حال اكتمال عقل المرأة بعد السابعة تدفع لأبيها، فكذلك هنا. فإذا: قولنا إن الأب أحق من حيث الأصل أقوى للعارض؛ لكن حق الأم جاء في النص: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ولم يفرق، من كونها في حضر أو سفر. ومن هنا يقول بعض العلماء: أنا أستمسك بالأصل، وهو أن السنة دلت على أن الأم أحق به ما لم تطرأ طوارئ، سواء كانت في السفر أو أثناء السفر أو المدينة المسافر إليها. وإذا قلنا إن الحضانة ترد إلى الأب إذا كانت الأم تريد أن تسافر، فإن كان الذي يريد أن يسافر هو الأب فلا إشكال، وهو البقاء على الأصل، وهو أن الطفل عند الأم، والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال: أعني أن نبقى على الأصل في الحضانة، ولكن إذا كان السفر مخوفا واحتيج إلى رعاية وصيانة فإننا نرد الولد إلى والده؛ لأنه أقدر على حفظه وصيانته، حتى ينتقل إلى المكان الذي ينتقل إليه ويعود الأمر إلى ما كان. بالنسبة للسفر هناك سفر لضرورة أو واجب ديني مثل السفر للحج أو للعمرة، فمثلا: لو أن القاضي قضى بانتقال الولد إلى والده وثبتت الحضانة للوالد، وقد تزوجت الأم ونكحت، ثم أراد الأب أن يسافر إلى الحج أو العمرة، فعلى الأصل الذي قررناه فإنه يسافر، ونقول: إن الولد يرجع إلى أمه؛ لأن السفر فيه خطر وضرر على الولد، وليس بمتعين خروج الولد، وهذا إذا كان السفر لحاجة دينية واجبة. أما الواجب الدنيوي مثل أن يحتاج الوالد أن يسافر لعلاج مريض والولد في كفالته وحضانته، فهل يسافر به أو يتركه؟ نقول: يبقيه عند أمه؛ لأن العلة التي كنا نقول: إن الأم لو كانت هي التي تحضن الطفل وأرادت أن تسافر والسفر مخوف، فإننا نرده إلى أبيه، والسفر من حيث هو مخوف وفيه ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السفر عذاب، وهو على الصغار أشد عذابا وأعظم بلاء، وبناء على ذلك نقول: يوضع الولد في هذه الحالة عند أمه وتقوم على رعايته. إذا: بين المصنف رحمه الله حال السفر إذا كان الطريق آمنا، أما إذا كان مخوفا وأحدهما مسافر والآخر غير مسافر فإنه يكون الحق للذي لا يسافر؛ لأنه ألزم للأصل الذي ذكرناه، ولأن الحضانة شرعت للصيانة والحفظ، والخروج يفوت ذلك، فوجب بقاء المحضون عند الحاضن غير المسافر. وقوله: [وإن أراد أحد أبويه سفرا طويلا] لماذا قال المصنف: وإن أراد أحد أبويه ولم يقل: وإن أراد الحاضن؟ نقول: الحضانة هي صيانة الصغير وحفظه والقيام على شئونه ورعايته، لكن هذا الحق يرتبط به حق آخر للوالد أو الوالدة إذا حكم به لضده. فمثلا: الأم إذا ثبتت لها الحضانة وقضى القاضي أنها أحق بحضانة الولد، وكانا في نفس المدينة أو نفس القرية وليس هناك خروج، فالوالد يتولى تعليم الولد ورعايته وإطعامه وشرابه، وتتولى الأم مرضه وسقمه، فلو أنه مرض أو أصابته علة أو آفة فإنه ينقل إلى الأم، وإذا اصطلحوا على أن الأم تأتيه وتمرضه في بيت والده فلا إشكال. فالأم أحق به في حال المرض حتى ولو كان الحاضن الوالد؛ لأنها أقدر على هذا الشيء، وانظر كيف أن علماء الإسلام ينظرون إلى الأشياء التي تؤثر وتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فالحضانة المقصود بها تحقيق مصلحة الصبي ودرأ المفسدة والشر عنه، فحيثما وجد السبب الموجب لتحقيق هذا الأصل فإننا معه، سواء مع الوالد أو مع الوالدة. فإذا ثبت أن الطرف الآخر له حق، فحينئذ إذا أراد أن يسافر أحدهما ضاع حق الآخر؛ لأننا إذا قلنا: إنه يريد أن يسافر إلى بلد لا يوجد فيه الآخر، فلو أن الأب حكم له القاضي بأنه حاضن، وأراد أن يسافر بابنه إلى الخارج لسياحة أو نزهة، فإن الأم ستقول: أنا أتضرر بخروج ولدي وأخشى على الولد، والعكس لو قضى القاضي للأم أنها أحق وأخذت صغيرها، فأرادت أن تسافر به ولو لصلة رحم أو زيارة قرابتها، يقول الوالد: أنا أريد أن أرى ابني، وأخشى على ابني من هذا السفر، فلها الحق في الحضانة ما دامت مقيمة، أما إذا أرادت أن تخاطر بالطفل فلا. إذا: هذه هي المسألة، ولذلك تدور أقوال العلماء وتفصيلاتهم حول تحقيق مصلحة الصبي ودفع الضرر عنه. إذا: علينا أن نلزم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأم أحق، والتفصيل الذي ذكرناه بالأصول الشرعية في ترتيب المستحق للحضانة، ثم إذا طرأ أي طارئ يتحقق به الضرر أو تزول به المصلحة ويحصل في ذلك شر على الصبي، ونظرنا في سببه، فإنه يجب منع ذلك السبب سواء كان سفرا إلى بلد آمن أو بلد غير آمن، أو كان الطريق مخوفا أو الشخص نفسه الذي يسافر مخوفا، فكل هذا ينظر فيه القاضي؛ ولذلك ترد هذه المسائل إلى القضاة للنظر في الأصلح والأفضل للصغير، وهو الأسلم. ومن هنا كان الأصل الشرعي أن ينظر إلى مصلحة الصبي، فنحن لا نضبطه بهذه الأوصاف كقاعدة كلية، ولكن نقول: إنه متى كان السفر يترتب عليه الضرر للصغير والمسافر أحد الوالدين وجب بقاء الصبي مع الذي لا يسافر، وأما إذا كان السفر غالبه السلامة أو يؤمن على الصبي من ضرره أو ضرر البلد الذي سيسافر إليه والشخص الذي يسافر معه، فحينئذ لا إشكال أن الحاضن يبقى حقه في الحضانة. حكم استصحاب المحضون في السفر الطويل وقوله: [سفرا طويلا] . هنا السؤال إذا كانت الأم حاضنة لولدها فأرادت أن تخرج إلى غير سفر، فمثلا: حصلت مناسبة في ضاحية المدينة، فهل من حقها الخروج؟ نفس الشيء لو كان الحاضن هو أبوه ثم وقعت مناسبة في ضاحية المدينة أو أطراف المدينة، فهل من حقه أن يخرج به؟ قال المصنف: (سفرا) ، ويشترط في السفر أن يكون طويلا، فيخرج ما كان في الحضر؛ لأنهم في الحضر أشبه بالمكان الواحد أو بالمدينة الواحدة، وحينئذ فلا إشكال، لكن مع هذا لا يجوز للوالد ولا للوالدة أن يخرجا بهذا الصغير إلى مكان فيه ضرر، كأن يخرجا إلى أطراف المدينة وفيها السباع والهوام، وفيها مثلا المزارع والآبار، فقد يسقط الصبي في بئر، وقد يتعثر في شيء. فإذا: مسألة السفر ليست هي التي ينحصر فيها الضرر فقط، فالواجب شرعا على الوالد أو الوالدة: أنه متى ما أدرك أن خروجه بهذه الصغيرة أو هذا المحضون فيه ضرر، فعليه أن يرده إلى الطرف الثاني كي يتولى حفظه ورعايته، هذا هو الواجب شرعا؛ صيانة لحق الصبي المحضون ونصيحة له، وهذا هو الواجب على الوالدين، أما من لم ينصح لولده فلا خير فيه؛ لأن أولى الناس بأن ينصح لهم هم أقرب الناس من الإنسان. وقوله: [إلى بلد بعيد ليسكنه] . أي: كأن يريد أن ينتقل، فيتضرر الطرف الثاني، فالأم تريد أن ترى ولدها، والوالد يريد أن يرى ولده، وبعض العلماء يقول: ننظر في البلد الذي تزوج فيه، فمن كان فيه فهو أحق، وبعضهم يقول: ننظر إلى أخف البلدين وأكثرهما أمنا. والحقيقة أن هذه المسألة إذا نظر فيها القاضي ووجد أن هناك ضررا على الصبي في سفره منعه، وإن كان الضرر في إقامته أمر بسفره لانتقاله مع من يسافر بشرط أن يكون محافظا عليه، فقد يكون بقاء الصبي فيه ضرر، مثل ما يقع في بعض الأمكنة، حيث يدخلها فساد في أخلاقها، فهذا ضرر ديني، أو يدخلها فساد في صحتها من انتشار الأضرار والأمراض ونحو ذلك، فهذا فساد دنيوي، أو يكون فيها فقر وشدة مئونة، فأراد أن يتحول إلى ما هو أرفق، فهذا كله ينظر فيه القاضي إلى ما فيه مصلحة المحضون. وقوله: [وهو وطريقه آمنان] . أي: أما إذا كان الطريق مخوفا فلا؛ ولذلك يقول بعض العلماء: إذا كان الطريق مخوفا فالحق للمقيم، فلو أن زوجا وزوجة اختلفا في الولد، وقضى القاضي أنه للزوجة، فإذا أرادت الزوجة أن تسافر في طريق مخوف رد الولد إلى والده، وقيل لها: سافري وحدك، أو اجلسي مع ولدك، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ لأن المراد حفظ الطفل، والصبي بريء ولا يحمل تبعة غيره؛ ولذلك إذا كان الطريق مخوفا كأرض مسبعة، أو أرض فيها هوام، أو يريد أن يركب به البحر والبحر هائج، أو يركب بوسيلة خطرة فيخاطر بها، فلا يجوز. وهذه مسائل تساهل فيها كثير من الناس إلا من رحم الله، فاليوم الناس بين إفراط وتفريط، فتجد حتى الآباء قد يتقصد الواحد منهم أذية الأم وجرح مشاعرها وإخافتها وإقلاقها وإزعاجها، ويبحث عن أي شيء يسيء إلى أهل زوجته، ويزعج هذه الزوجة المسكينة الضعيفة بأخذ ولدها إلى الأسفار أو الأمكنة المخيفة، وقد يستخدم ذلك لأغراض يريدها لنفسه، وحتى مثلا لو أنه طلقها فقد يحتال ليكون الولد عند أمه أو عنده، وبعد ذلك يضغط عن طريق الولد حتى يرد الزوجة إليه. وهذا كله من الظلم: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ، وإن لله ليملي للظالم ولكن لا يهمله، وويل للظالم إذا نزلت به نقمة ربه، فالله سبحانه وتعالى عزيز ذو انتقام وهو بالمرصاد، لا تخفى عليه خافية، وبالأخص مسائل الوالدة وولدها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين أم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، وهذا في بيع أمهات الأولاد، ومع أن للرجل حق البيع والملكية، ومع هذا ضرب الله هذا الوعيد. ومن هنا ينبغي أن ينتبه الوالد إلى أن أذية الأم وإضرارها بولدها ظلم عظيم، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في عظيم رحمته سبحانه وتعالى بين للناس بالتمثيل الذي لا يقصد به التشبيه، جاءت المرأة بالسبي تصيح ولهى على ولدها حتى رأته، فلما أخذته ضمته ضمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: والله أرحم بعباده من هذه بولدها) ، فجاء بأعظم شيء في هذه الدنيا حنانا ورحمة وشفقة وهو حنان الأم وعاطفتها تجاه الولد، وهذا الأمر تظافرت به نصوص الكتاب والسنة، فاستغلال هذه العاطفة بالسفر بمحضون، أو استغلال هذه العاطفة لإقلاق الأم وإزعاجها بأخذ المحضون في الأماكن المخيفة وتعريضه للخطر؛ لا شك أنه من أعظم الضرر والأذية، والله يقول بعد الطلاق: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] فإذا حصل الطلاق والفراق بين الزوجين فليذكر الزوج فضل زوجته وفضل أهلها، والزوجة تذكر فضل زوجها وفضل أهله. كذلك أيضا استغلال أهل الزوجة لحكم القاضي بأنهم أحق بالولد من منعهم الوالد من رؤية ولده وأذيته إذا جاء يرى ولده، والتضييق والتشويش عليه، والأعظم من هذا والأدهى والأمر أن يسيء الوالد أو الوالدة إلى الولد بتكريهه للطرف الثاني، ويغرس في قلبه كراهيته وعقوقه لوالده وتمرده عليه والعكس، فالوالد يغرس في ولده الكراهية لأمه، فيحاول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان بالأساليب القولية أو الفعلية تنفير هذا الضعيف المسكين وإبعاده عن والدته، وكل هذا من الظلم، ولا شك أنه من خيانة الأمانة. فإذا كانت الأم عندها ولدها فعليها أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحصي عليها ما تقوله وتشهد به، فلذلك لا يجوز أن تملأ قلوب الذرية الضعيفة من الأبناء والبنات غيظا على الوالد، فاستغلال الحضانة لأذية الطرف الثاني ظلم عظيم، وقد انتشر هذا الأمر بين الناس إلا من رحم الله، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على هذا الموضوع المهم الذي غفل عنه الكثير، واستغلال الحضانة للأذية والضرر وقطع الرحم والظلم للأطفال والتضييق عليهم، والجبروت بالتسلط من الآباء على أبنائهم، فمنهم من يحبس الولد ويضربه ضربا شديدا، أو يفزعه ويقلقه حتى لا يصل إلى أمه. أقول: إن الأمر تعدى إلى ما هو أسوأ وأعظم مما رأيناه وعرض علينا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، إلى درجة أن الولد ليكره والدته، وسحر الولد حتى يكره أباه وقرابته، وإلى الله المشتكى، فإذا نزع الدين من القلوب فلا تسأل عن حال صاحبه، ولكن: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران:5] ، وإن الله يستدرج الظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعبد عليه أن يحذر من عقوبات الله، ومن أخذات الله وسطواته عز وجل، فيحذر مثل هذه الأمور التي يجاوز فيها قدره، ويتعدى فيها حده، فيظلم الظلم المبين، فإن من أعظم الظلم بعد الشرك بالله عز وجل: عقوق الوالدين، فإذا كان الحاضن يستغل الحضانة لعقوق الوالدين، والحاضنة تستغل الحضانة كذلك، فلماذا الحضانة؟ الحضانة أصلها التربية والرعاية والتنشئة على الخير والصلاح والبر، وإذا بها على العكس تماما. ومن هنا: على الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم وبناتهم، وعلى الأمهات أن يتقين الله عز وجل، وليعلموا أنها أمانة، وأن العبد يوم القيامة تصور له الأمانة فيرمى في نار جهنم، ويقال له: أد أمانتك، فينزل إلى قعر نار جهنم، حتى إذا صعد إلى أعلاها ردت عليه ثانية فيرجع والعياذ بالله، فهو يتقلب في دركات الجحيم من عذابه حتى يؤدي أمانته. وهذا على قدر الأمانة التي يضيعها، فما بالك بأعظم الأمانات بعد توحيد الله وهو بر الوالدين، إذا كان ربى ولده وربت الأم ولدها على بغض أبيه والنفرة منه وأذيته وإضراره، وإعطائه المغريات حتى يكرهه منذ نعومة أظفاره، نسأل الله السلامة والعافية، فيربى بطريقة حقد وهو جاهل مسكين، على كراهية والده أو العكس، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من منكرات الأخلاق وشأن أهل النفاق، وأن يرزقنا الأمانة، وأن يعيذنا من الخيانة فإنها بئست البطانة! الواجب النظر إلى مصلحة الصبي ومصلحة الصبية وما يتحقق به درأ الشر عنهما، فيقضي القاضي بما هو أرفق وأصلح، فحضانته لأبيه، كما ذكرنا؛ لأنهم غلبوا الجانب الأقوى، فإذا كان يريد أن يسافر إلى بلد يسكنه والطريق آمن فإننا نحكم بأن الحضانة للوالد كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الرعاية والصيانة من الوالد أقوى، فإن كان هو المسافر فإنه سيحفظه، ولا ضرر على الصبي، وإن كان هو المقيم فلا إشكال، ولكن الأمر يرجع إلى حال الشخص المحضون. بعض الأحيان يكون الوالد في شغل وهم وغم، ويكون معتنيا بالدنيا وقد أخذت الدنيا مجامع قلبه لا يلوي فيها على ولد، ولا يفكر فيها في تنشئته ومصلحته، وكل هذه أمور ينبغي أن تربط بالقاضي فينظر فيها الأصلح، والفقهاء رحمهم الله حينما ينصون على مثل هذه المسائل فيقصدون ذلك عند انتفاء الموانع وعدم وجود الدوافع، لترجيح إحدى الكفتين للوالدة أو الوالد. حكم سفر أحد الأبوين لحاجة أو سكنى بمرافقة المحضون وقوله: [وإن بعد السفر لحاجة] . مثل السفر من المدينة إلى مكة للحج أو العمرة، فهي حاجة دينية، أو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض للتجارة. وقوله: [أو قرب لها] . أي: للحاجة، ولما قال: للحاجة خرج السفر بدون حاجة مثل النزهة والسياحة، فهذا يمنع، ويبقى الولد عند الشخص المقيم منهما على الأصل الذي قرره المصنف رحمه الله. فإذا كان يريد أن يسافر لغير حاجة كالنزهة مثلا ويريد أن يأخذ الولد معه، فلا يأخذه؛ لأن السفر خطر عليه وسواء بعد السفر أو قصر. وقوله: [أو للسكنى] . كأن يريد أن ينتقل فيسكن في موضع بعيد عن الموضع الذي كان فيه، فيحكم به في هذه الصور للأم، لأن الأم هي الأحق في الأصل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ، ولأن هذا الخروج يضر بالولد عند اختلاف الأحوال، وانتقاله يضر بمصلحة الولد. ومن هنا يبقى في البلد والمكان الذي هو فيه، ولا يخرج الولد. فحينما يريد أبوه أن يسافر لعمرة نقول له: اذهب إلى العمرة واترك الولد عند أمه، أو أراد أبوه أن يسافر للتجارة نقول له: اذهب إلى تجارتك واترك الولد عند أمه، وهذا فيما إذا قضى القاضي بأن الحضانة للوالد. أما إذا كانت الحضانة للأم، فنقول: يبقى الحكم كما هو، لكن إذا كان عند الأب وأراد أن يسافر للحج والعمرة وقال: أنا أريد أن أحج وأريد الولد أن يذهب معي. نقول: لا. بل يبقى عند أمه، فهي أحق وأولى؛ لأن مصلحة الصبي أن لا يسافر، وهذا إذا كان دون التمييز؛ لأن الصبي إذا ميز خير بين والده ووالدته، والمرأة ترجع إلى أبيها. سن تخيير المحضون بين أبويه وقوله: [فصل: وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلا خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما] . هذه مسألة التخيير إذا بلغ الغلام سبع سنين، ولما قال المصنف: الغلام، خرجت الجارية، والحضانة تستمر إلى سبع سنين، وإذا بلغ الغلام والجارية سبعا، فالجارية التي هي البنت ترد إلى أبيها إذا كانت الأم هي الحاضنة. فمثلا: طلق رجل امرأته وعندهم بنت، فقضى القاضي بأن البنت لأمها، فبقيت عند أمها تربيها وتقوم على شئونها والأب يصرف عليها حتى بلغت سبع سنين، فبعدها تدفع إلى أبيها؛ لأن الأب أقدر على حفظ البنت، وصيانتها مما يضرها في عرضها، وهي أحوج في هذه الحالة إليه، وأيضا هو أولى بتزويجها، لأنه وليها، فترد البنت إليه، ومن هنا ذكر المصنف الغلام؛ لأن البنت إذا بلغت السبع ردت إلى أبيها، وتحديد السبع السنين مبني على سن التمييز. وهناك سن للتمييز وسن للرشد والعقل الذي هو البلوغ، وهو أن يكون بالغا سن الحلم، فأما سن التمييز فهو السن الذي يميز فيه الصبي الأمور، وبعض العلماء يضبطها بالعدد، فيقول: سبع سنين، وبعضهم يضبطها بالحال، فيقول: أن يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمثلا لو قيل له: ماذا تفعل؟ يقول: أفعل كذا وكذا، نقول للذي يفعل: لماذا تفعل؟ يقول: أفعل من أجل كذا. فإذا فهم الخطاب وأحسن الجواب، فإنا نحكم بتمييزه ولو لم يبلغ سبع سنين؛ لأن الأطفال يختلفون، وهذا القول لا شك أنه صحيح، فإن الأطفال يختلفون فهما وإدراكا، ولذلك كان الضبط بالحال له وجه، لكن لما جاءت السنة بالأمر بالصلاة لسبع، صار أصلا غالبا أنه لا يصل إلى سبع إلا وقد ميز، والاستئناس بالمشروع والوارد أفضل وأولى، والأصل أن نقدم الوارد على غير الوارد، ومن هنا صارت السبع ميزانا، وقد مرت بنا مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات ربط العلماء بها الحكم بالسبع سنين. فبين المصنف رحمه الله أن سن التمييز هو السبع، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف الرجل مع زوجه والحديث صحيح على شرط مسلم (خير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، وأمر أباه أن يجلس في ناحية وأمه في ناحية، فقال له: هذا أبوك وهذه أمك اختر أيهما شئت، فاختار أمه) وهذا بالنسبة للغلام الذكر، فيبقى مع من يختار منهما، وحينئذ قضى العلماء رحمهم الله بهذا الحكم، وأجمعوا على مسألة التخيير. وانظر سمو منهج هذه الشريعة الإسلامية في المحضون، فإنه إذا كان دون الإدراك ودون التمييز ينظر إلى مصلحته والأرفق والأعدل به، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه أولى به؛ ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الصحابة رضوان الله عليهم أن الأم أحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق بها ما لم تنكحي) . وعمر بن الخطاب في قصته المشهورة لما فصل القضية في الرجل الذي اختطف ولده من عند جدته وأمه، فاشتكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: ريحها وحضنها أطيب له منك، يعني: من الوالد؛ لأنه في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى اليد الحانية والأم المشفقة، فجعل الأصل في حضانة الصغير أن تتولاها الأم، ثم بعد ذلك إذا ميز الصبي فلا يكره على والد ولا على والدة. فهذه هي الحرية المعقولة، المنضبطة المبنية على أسس سليمة صحيحة، فيخير؛ لأن هذا من الوحي، وهي الحرية المبنية على الحق الذي قصه رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ففصل الله عز وجل بهذا، فيقال له: اختر أيهما شئت: إن اختار الوالد فيكون مع والده، وإن اختار الوالدة فيكون مع والدته. ولو أنه غير هذا الاختيار، فاختار الأسبوع الأول أن يكون مع الوالد، فقال: أريد أبي فيرجع إلى أبيه، وإذا قال: أريد أمي فيرد إلى أمه ولا يكره، ولا يضيق عليه، ويجعل الأمر على الشيء الذي يرتاح إليه الطفل، فإذا كان يرتاح للوالد والوالدة حرص كل منهما على الإحسان إليه والملاطفة به، خاصة من بعد السبع السنين، فهو يحتاج إلى شيء من الإحسان والبر حتى يعقل الأمور ويميز، فإذا وصل إلى سن الرشد، فلا إشكال حينئذ، ومن هنا قضى العلماء رحمهم الله بالتخيير، لكن هذا التخيير له أصول؛ كأن يكون منضبطا، فإذا اختار الوالد من أجل العبث واللعب منع من ذلك. ومن هنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن صبي أنه خيره القاضي، فقال له: هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت، فاختار أباه، فقضى القاضي أنه لأبيه، فقالت المرأة الموفقة العاقلة الحكيمة: يرحمك الله أيها القاضي، سله لماذا اختار أباه؟ فسأله القاضي: فقال هذا الصبي: إن أمي تبعث بي إلى المعلم فيضربني، وأما أبي فيبعثني إلى الأولاد فألعب معهم، فقال القاضي: هو لأمه؛ لأنه إلى الآن لم يميز وأصبح تخييره قائما على الهوى، وتبين أن الوالد لا يريد مصلحته، فإذا: ليست القضية قضية حرية منفردة؛ لأن الصبي لا عقل عنده، ولم يصل إلى سن الإدراك، فإذا كانت المصلحة في بقائه عند أمه أبقاه؛ لأن أمه ستعلمه، قالوا: وإنما لم يخير لأن الوالد عليه أمانة التعليم والرعاية للولد، فضيع هذه الأمانة، حتى أن الأم صارت هي التي تقوم على تعليم الولد. ونسأل الله السلامة والعافية من أمور تتقرح لها القلوب، لو أن الإنسان يسمع أقضية الناس وفتاويهم لتقرح قلبه مما يسمع ويرى من إهمال الآباء لحقوق الأولاد، يتزوج الرجل وينجب، ثم يبحث عن الثانية والثالثة، ويطلق السابقة ولا يبالي بأولاده ولا ينظر إليهم. إنما المهم أن يشبع شهوته وغريزته دون التفات إلى هذه الحقوق وإلى ما فيه مصلحة الولد، فهذه أمانة ومسئولية عظيمة، فالتخيير شرطه أن لا يكون فيه ضرر على الولد، فإذا كان فيه ضرر على الولد رجع إلى الأصل، فإذا كانت الأم عرفت بصلاحها واستقامتها وعنايتها وضبطها للولد وكانت بيئة الوالد فيها إفساد وإضاعة ومجون وهوى، فحينئذ للقاضي أن يتدخل. فيختار جمع من العلماء والأئمة والمحققين: أن الشرع ينظر إلى التخيير فيما فيه مصلحة الولد كما ذكرنا، لكن شريطة أن تكون منضبطة بالأصول الشرعية، إذ لا يعقل أن نقول: يقضي القاضي بأنه لأبيه، وأبوه يفسده، ولا يمكن أن نقول: إن القاضي يقضي بحكم الله عز وجل بما فيه ضرر للولد وفساد، فالتخيير ضبطه بعض العلماء بشرط ألا يكون موجبا لضرر على الولد في دينه أو دنياه. حكم بقاء المحضون عند من لا يصونه ولا يصلحه وقوله: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه] أي: حتى ولو قضى القاضي واختار أباه؛ ثم إذا بالولد تردت أخلاقه وساءت أموره، فأصبح والده في شغله وتجارته، وكان الولد أولا عند أمه ترعاه وتحفظه وتصونه وتعلمه الأخلاق الفاضلة وتقوم على شأنه، فشهد الشهود أنه حينما كان عند والدته كانت أحواله مرضية مستقيمة طيبة، وعندما ذهب عند والده فسدت أخلاقه وأحواله، فحينئذ إذا أثبتت الأم هذا بالبينة أو أثبت قرابتها ذلك قضي برجوعه إلى أمه، ولا يقر ولا يترك عند من يفسده ولا يصونه بل يهمله ولا يحافظ عليه. من أحق بالمحضونة بعد السبع وقوله: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع] أي: من جهة صيانة العرض، ولأنه أقدر من الأم التي قد لا تستطيع أن تدفع عن ابنتها الضرر، وهو أحق من جهة الولاية في تزويجها، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله على أن البنت تنتقل إلى أبيها بعد السبع. وقوله: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء] . هذه المرتبة الثالثة، وهذا غير التمييز بالقضاء الذي قضيناه في الحضانة، فإنه إذا ميز يخير، فإذا وصل إلى سن الرشد فإن أراد أن يكون عند والده أو والدته أو يكون مستقلا، فالأمر إليه، لكن يجب عليه أن يبر والديه، ويكون قريبا منهما وأن لا يبتعد عنهما؛ خاصة إذا كانا بحاجة إليه، ولا يجوز سفر الولد إلا بإذن والديه إذا كان معهما في المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) . ومن هنا أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أنه لا جهاد إلا ببر الوالدين، وأنه يجب استئذان الوالدين ما لم يكن جهاده فرض عين، وهي الثلاثة الأحوال التي تقدمت معنا في باب الجهاد، فحينئذ لا يستأذن الوالدين ويسقط إذن الوالدين؛ لأن الدفاع في هذه الحالة دفاع عن الوالدين، لكن لا يجوز للإنسان أن يضيع حق والديه خاصة عند المشيب والكبر، والوالد يحتاج إلى قرب ولده منه، والوالدة كذلك تحتاج، فلا بد أن يكون قريبا منهما، وأن يحسن إليهما ويبرهما. وقوله: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] ولذلك فإن الوالد أقدر على حفظ العرض، وهو أحق من جهة الولاية على عقد النكاح، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله والفتوى على أن البنت تكون عند والدها ولا تكون عند والدتها في هذه السن. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة السؤال إذا خير الغلام بين أبويه فاختار البقاء عند أمه، فهل من حق والده أن يجبره على العمل معه نهارا؟ حكم بقاء المحضون عند الأب نهارا إذا كانت الحاضنة الأم الجواب إذا قضي بالحضانة للأم فالنهار يكون عند الوالد يعلم الولد ويربيه، وسواء علمه العلوم التي يستفيد منها لنفسه، كما كان في القديم حيث لا مدارس تأخذ الأطفال والأولاد، وإنما كانوا في المساجد وحلق الذكر، فيأخذه أبوه من عند أمه ويذهب به إلى شيخ يحفظه أو يعلمه، وكانت مسئولية الأب في النهار، وهذا نص عليه أهل العلم رحمهم الله: أنه يتولى تعليمه والذهاب به إلى من يعلمه ويقوم على تأديبه ودلالته على الخير. كذلك يعلمه الصنعة، أي: إذا نضج أو اختار أمه وهو في السابعة، فحينئذ يحتاج إلى تعليم صنعة، خاصة في القديم فقد كان الولد يحتاج لتعلم صنعة حتى يستطيع أن يقوم على أمره بعد استقلاله عن والديه، فيأخذون ويعلمونه صنعة من الصنعات بعد التاسعة أو العاشرة على حسب قدرته وطاقته للعمل. فإذا: المنصوص عليه عند العلماء: أن الوالد يتولى أمور ولده في النهار تعليما وتهيئة لظروف الحياة والمعيشة، وأما في الليل أو بعد انتهاء العمل أو بعد انتهاء التعليم، فإنه يرده إلى أمه وتقوم على شأنه، وهذا بالنسبة لمسألة الحضانة. أما الأم فهي أحق به في الليل والنهار، لكن في النهار لا بأس أن يأخذه الوالد من أجل تربيته وتعليمه ما ينفعه، والله تعالى أعلم. حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق السؤال إذا كانت الأم سيئة الأخلاق فهل لها الحق في زيارة بناتها، علما أن الأب يخاف على بناته؟ أثابكم الله. الجواب على كل حال، لا يستطيع أحد أن يفرق بين الأم وولدها، الأم لا بد أن ترى أولادها، ولابد أن تمكن من زيارة أولادها، أما سيئة السمعة أو سيئة اللسان، فشرها على نفسها، ولا يوجد أعظم من الشرك، وقد جاءت أم أسماء رضي الله عنها وأرضاها إلى بيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تبرها وتحسن إليها وتكرمها. وليس هناك أعظم من قول الله عز وجل: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم} [لقمان:15] (جاهداك) أي: أنهم بذلوا غاية الجهد، {على أن تشرك بي ما ليس لك به علم} ، وليس هناك أعظم من حق الله عز وجل، وليس هناك ذنب ولا فساد ولا ظلم أعظم من الشرك، ومع ذلك: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان:15] ، فإذا: لا يستطيع الإنسان أن يتدخل في هذا الحق الذي أمر الله عز وجل به. نحن لا نقول: تجلس البنات بطريقة تفسدهن الأم، ولكن الناس يبالغون في أوصاف الأشياء طلبا لأحكام توافق آراءهم وأهواءهم، لا يريد الأم أن تدخل البيت، وهو يريد أن يأخذ بذلك حكما شرعيا ينسب إلى شرع الله عز وجل ودين الله، هيهات! نقول له: تعال، ما الذي تخشى؟ يقول: أخشى أن تفسدهن، نقول: إذا جاءت الأم فاجلس في ناحية البيت واسمع ما تقول، هل تفسدهن أو تأمرهن بشيء، أو تجلس معها امرأة تثق بها، هناك مائة حل موجود، لكن أن تبطل الأصول وتهدم القواعد الشرعية لقضايا عينية، ولأسباب موجبة للاستثناء من هذه الأصول، نحن نقول: هذه عوارض تعالج بما يندرئ به الشر ويتحقق به الخير. والأم إذا أرادت أن تزور أولادها فتمكن من زيارة أولادها، ثم إذا كان هناك ضرر فتمكن بطريقة لا ضرر فيها، وحينئذ أخذ الوالد حقه، فصان ولده، وأخذت الأم حقها فرأت أولادها وبروها وأحسنوا إليها، والعجيب: أنك تجد الأم من شر خلق الله، في إساءتها وإضرارها، ولكنها إذا رأت أولادها وحاول أولادها يحسنون إليها أو يحتوونها، فإنه يخف شرها ويندرئ بلاؤها، فإن كثيرا من الأمور والشرور تندرئ إذا تعقل الإنسان وعالج السيئة بالحسنى، ولكن كثيرا من الشرور تعظم وتتفاقم إذا أطفئت النار بالنار، فالأم تمنع من أولادها فتزداد حقدا وسوءا وشرا. والغريب أن الإنسان إذا أنصف وأعذر، هان عليه كثير من الأشياء. أذكر ذات مرة أن أناسا اشتكوا من امرأة جاءت مع ولدها وهو مصاب بحادث، وإذا بها سيئة مع من معها ومن بجوارها، والكل يشتكي منها، وشاء الله عز وجل حينما جئت من العمل فسمعت وسلمت على الإخوان هناك من باب الزيارة، ففاتحوني في الأمر واشتكوا، فقلت لهم: يا إخوان! اتقوا الله في هذه المرأة، المرأة تخرج عن طورها وتسوء أخلاقها تحت ضغوط وظروف، هذه امرأة ولدها له تقريبا تسعة أشهر بين الحياة والموت، وقع عليه حادث فأغمي عليه، فشلت أطرافه كلها، وما استطاع أن يحرك شيئا. وأيضا قطعت المرأة هذه البحار كلها من أجل أن تعالجه مع زوجها، ثم رماها زوجها وأهمل ولدها؛ وهذه بعض الظروف التي لاقتها هذه المرأة، ولو مرت هذه الظروف على رجل لانهدت عزيمته وخارت قواه، فكيف بامرأة؟ فقلت: يا إخوان لا يصلح هذا، ليست هذه هي الطريقة التي تعالج بها الأمور، الإنسان عندما ينظر إلى شر غيره أن يبحث عن أسباب ذلك. الولد تجده يفعل الأمور التي لا تفعل، لكن حينما تفتش عن أسباب قد تكون تافهة تعالجها فتستقيم الأمور، وكم من أناس يخرجون من عقولهم وأطوارهم بظروف وضغوط معينة، فهل هناك أم سيئة الأخلاق مع ولدها؟ الغالب لا، فلابد أن يوجد شيء لا معقول؛ لأنها خرجت عن العقل والفطرة، فلا بد من وجود شيء قاهر يقهرها حتى أنها خرجت عن هذه الفطرة، وهذا في الغالب. ولذلك ينبغي أن تعالج الأمور، وهذا هو شأن الرحماء والعقلاء والحكماء، وبالأخص أهل العلم وطلاب العلم والمفتون ونحوهم، فلا يستعجلون في إصدار الأحكام، فقد يأتي الشخص للقاضي ويتظلم، ويذكر كثيرا من الصفات الشنيعة، وقد يأتي للمفتي وقد هيأ كثيرا من الأسباب، الزوج يشتكي من زوجته أنها تفعل وتسب وتشتم، وقد يكون هو السبب في السب والشتم والأذية والإهانة والإضرار، ارجع إلى الوراء واسأله كيف كان يعاملها، وكيف كان يأخذ ويعطي معها، وسوف تجد لماذا خرجت هذه المرأة عن طورها! وكثيرا ما نجد السائل يعطيك صورة بشعة للطرف الثاني من أجل أن يصل إلى غرض معين تحت حكم الله عز وجل ورسوله وهيهات! فعلينا أن نتقي الله عز وجل وأن نعدل. ثانيا: المبالغة في الأوصاف في المسائل، فقد يقول لك مثلا: هذه أم شريرة أو أم سيئة أو أم كذا أو أم كذا، كثيرا ما يمر بي بعض الأشخاص ويقول: فلان شرير، أقول له: ماذا عرفت من شره، فيظل يتذكر، مما يدلك على أنه يريد غرضا معينا، ويجلس يبحث، ثم إذا جاء يقدم لك بدأ يقدم لك شيئا ليس بذاك. قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت قاضيا جاءه رجل فطعن في الشاهد، فقال له القاضي: لا أقبل حتى تبين بماذا تجرحه؟ فقال له: أنا أعلم الذي يجرح من الذي لا يجرح، قال له: لا أقبل جرحك حتى تبين لي، قال: رأيته يوما يبول قائما، قال له: وما شأنه أن بال قائما، قال: إنه إذا بال قائما لطخ ثوبه وقدميه وصلى بغير طهارة، ثم قال له القاضي: هل رأيته فعل ذلك؟ قال: لا، قال: اسكت رحمك الله، ليس هذا جرحا، بل هذا اختلاق الأشياء وتركيب بعضها على بعض، وهذا هو مصداق قوله تعالى: {وزين لهم الشيطان} [الأنعام:43] . إذا: ليس هناك شيء يهذب الإنسان مثل العدل، ولا يمكن أن يكون العدل من الإنسان في الحكم على الغير إلا بالخوف من الآخرة، فالشخص الذي عنده خوف من الآخرة هو الذي يعرف كيف ينصف إذا حكم أو قوم، بل إنك تجده أبعد الناس عن الكلام في الناس، ومن أسلمهم وأعفهم لسانا وأطهرهم جنانا وذلك من توفيق الله عز وجل. فالمقصود: أن الحضانة لا يمكن أن يحال فيها بين الأم وأولادها، والواجب على الأزواج أن يتقوا الله عز وجل في زوجاتهم. وأذكر ذات مرة قضية قريبة من هذا: وهي أن أما منعت من زيارة بناتها، وفعلا كانت شريرة وذات بأس شديد، وشاء الله في يوم من الأيام أن جاءني أحد أقاربها واشتكى لي، وكان عاقلا حكيما منصفا، فقلت: ما بها؟ قال: القضية كذا وكذا، فأراد أن يتدخل في الموضوع، فجيء بقرابة الزوج وكان الزوج معهم، فقال الزوج: هذه لا يمكن أن تدخل بيتنا ولا تزور أولادها، هذه تفسد وتفعل كذا وكذا، فقلت لهم: كم مرة زارت أولادها؟ فذكروا أن لها سنوات وكنت أظن أنها قريبة، فتبين أن لها سنوات وأنها جاءت مرات وكرات فمنعت، فسألتهم حينما تأتي تزور ماذا تفعلون؟ وإذا بها أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، إهانة وإذلال وإضرار وتضييق بطريقة عجيبة جدا، وكل هذا لا يرونه، لكن ينظرون أنها سيئة الأخلاق، لا ينظرون أنه ضيف نزل بيتهم وأنه ذو رحم: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، ويوجد فضل وقرابة بين الأسرتين. فالشاهد: قلت: أريد والد الزوج على انفراد، وهذا أمر أوصي به دائما في حلول المشاكل الزوجية أنها لا تحل بالعلن، بل تجلس مع كل شخص على انفراد، فقلت له: أتخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك ستقف بين يدي الله، وخوفته بالله وبالدار الآخرة، وقلت له: أنت مسئول أمام الله؛ لأني أعلم أن له قوة على ولده وسلطة على البيت والأسرة، فقلت له: نعم، هناك أخطاء من أم الأولاد نظرتم إليها، ولكن أنتم عندكم أخطاء، والإنسان العاقل دائما يبحث عن أخطائه عند الغير، فأخذت أبين له، والمقصود: أني قلت له: الآن تسمحون لها بزيارة أولادها ولكن بطريقة كذا وكذا، وطبعا مرت بهم ثلاثة أسابيع تقريبا وما جاء بعد شهر ومن فضل الله سبحانه وتعالى صلحت الأسرتين وحسنت الأحوال، وأصبحت الأم كأحسن ما أن تراها في خلقها وهي تدخل البيت، وكلهم مجمعون على أنها كانت شريرة تؤذي وتضر فالشاهد أنها حينما أكرمت وأعطيت حقوقها، ووضعت في مكانتها، استحت وكسرت عينها، وأصبحت تقلل من شرها رويدا رويدا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، والله تعالى أعلم. السنة في الإطالة في سنتي الفجر والمغرب السؤال هل من السنة الإطالة في سنتي الفجر والمغرب أم التخفيف؟الجواب السنة في صلاة رغيبة الفجر، أنها تخفف، قالت أم المؤمنين عائشة: (لا أدري أقرأ فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ) من خفة الركعتين؛ فالسنة أن لا يطيل في رغيبة الفجر. أما بالنسبة للمغرب: فوقتها بين الأذان والإقامة، فالسنة يكون وقتها ضيقا، ولا يتوسع فيه لأمرين: أولهما: أنه يخشى فوات الفضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة المغرب، فإذا أخر عن الناس الإقامة فوت عليهم هذه الفضيلة، والواجب على الإمام أن ينصف المأمومين، وأن يحرص على أن تكون صلاته على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمل والأتم والأفضل. وثانيهما: أنه ربما أخر الإقامة، وأضر بالناس معه، لأنهم في الغالب يأتون من شغل من أعمالهم، فيريدون أن يستريحوا ويستجموا أو يكون صائما يريد أن يفطر، فالأرفق بالناس في المغرب هو التخفيف، وهو يشمل قضية المبادرة بالإقامة، ومن هنا جاء الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أن يجعل بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه. إذا ثبت هذا فمعناه أنه ليس هناك وقت لإطالة سنة المغرب، فالسنة التي قبل المغرب وقبل الفجر لا يطول فيهما، أما السنة البعدية فإذا أراد أن يطيل فيها فلا بأس بذلك. أما السنة القبلية فقد ثبت فيها حديث صحيح: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين) ، فالأفضل فيها ما ذكرنا، فالإمام يبادر بالإقامة ولا يطيل في هاتين الركعتين، لكنهما ليستا من السنن الرواتب، أما بعد المغرب فلو أراد أن يصلي الراتبة فله أن يطيل ما شاء ما لم يدخل وقت العشاء كما عند بعض العلماء؛ لأنه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) ، فإذا أراد أن يطيل فليطل، لكن السنة الفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يحفظ عنه التطويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل ويتركه توسعة على الأمة، واجتزاء بالأقل، لكن إذا أحب أن يطيل فلا بأس ولا حرج وليس هناك مانع، ولا يقال: هذا لا يجوز، أو هذا: بدعة أو محرم؛ لأن الأصل جوازه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا غربت فصل، فإن الصلاة حاضرة مشهودة) ، وهذا يدل على التوسعة ولا بأس في ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الإطالة. أما رغيبة الفجر فإن النص فيها وضح جلي، أن يخففها الإنسان والله تعالى أعلم. النصح لطلاب العلم السؤال أنا شاب أحببت طلب العلم وأرجو من الله أن يوفقني فيه، ولكن مشكلتي هي أنني أحيانا لا أحب أن أنصح إخواني في طلب العلم، بل ربما أعلم أن هناك شابا يحب طلب العلم فلا أنصحه ببعض ما يحتاجه المبتدئون، وكل هذا خوفا أن يكون أفضل مني، أو يتقرب إلى الله أكثر مني، وأنا أعلم أن هذا ليس من أخلاق طالب العلم؟ فأرشدوني أثابكم الله. الجواب هذا بلاء عظيم، والشخص إذا حرم إفادة الغير بالعلم فليعلم أن بركة علمه قد محقت، فالعلم ما قام إلا على نفع المسكين؛ لأن العلم تبليغ رسالة وأداء أمانة، فإذا أراد الله بعبده السعادة والخير بعد الهداية شرح صدره للعلم، هذه أول نفحات الله عز وجل بعد الهداية، أن يشرح صدره للعلم. ثانيا: إذا وفقه الله لمحبة العلم والرغبة فيه يسر له من يوثق بدينه وأمانته من أجل أن يتعلم، فيكون علمه صوابا وحقا فلا يذهب يجثو على ركبتيه عند أئمة الضلال، الذين لا علم عندهم أو عند المتعالمين أو نحو ذلك. ثالثا: إذا وفقه الله عز وجل لشهود مجالس العلم، وضبط أقوالهم انشرح صدره لهذا العلم، وأحب ما يقولون وما يعملون، فإذا وفق لهذه المرتبة حمل هم العمل بما علم، فيفتح الله عز وجل عليه باب العمل، فلا يتعلم كلمة في مجلس إلا طبقها، ولا سمع نصيحة إلا التزمها وانتقل إلى أهله وولده وهو كامل بتكميل الله عز وجل له في نفسه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده ويوفقه ويجعل علمه نعمة عليه في الدنيا والآخرة، رزقه نشر هذا العلم. إذا: علم ثم عمل ثم تعليم، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1 - 3] ، فذكر أنهم هدوا الغير لما اهتدوا، فهم مهتدون في أنفسهم هداة لغيرهم رحمة من الله عز وجل، رحمهم الله في أنفسهم ثم رحم بهم خلقه وعبيده، فإذا كان الإنسان أنانيا والعياذ بالله، ولا يحب أن ينشر الخير لإخوانه، فهذا بلاء. وأوصيك بأمور: إما أن يكون هذا البلاء جاء بسبب ذنب، فالإنسان قد يلتزم ويهتدي وعنده من أدران الجاهلية ما لم يتطهر منه، فعلى العبد أن يسأل الله أن يطهر قلبه، قال الله: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} [المائدة:41] ، فقد تكون الهداية كاملة وقد تكون ناقصة. والهداية الناقصة: أن يلتزم ولكن عنده أدران وظلمات في قلبه من الجاهلية من الغل والحسد والبغضاء وسوء الظن بالمسلمين ومحبة تتبع عثرات الناس، تجده شابا ملتزما، لكنه مولع بأذية الناس، نسأل الله السلامة والعافية، فهو التزم بذكر القبر والنار، لكنها لم تهذب سلوكه ولم تقوم طريقه ومنهجه، فينطلق والعياذ بالله بأدران الجاهلية، ولذلك تعجب حين ترى إنسانا صالحا دينا، ثم ترى منه أذية الناس والإضرار بهم؛ لأنه أسلم قالبا ولم يسلم قلبا. ومن أهم ما ينبغي على الإنسان أن يبدأ بقلبه وسماع العقيدة بحق وصدق، لا بكذب وتنميق وتضخيم وتحت غرور أنه عبد صالح، وأنه قد اتبع الصحابة رضوان الله عليهم، كان الرجل منهم يخاف النفاق حتى حين تقبض روحه، من شدة الخوف والوجل والإحسان في العمل، فالإنسان عليه أن يهذب سلوكه، فقد يكون والعياذ بالله ملتزما ولكن بقيت عنده هذه الآفة، وهذه يعرفها من يعرفها، فمن كان مبتلى بهذا البلاء فعليه أن يسأل نفسه: ماذا كان عنده قبل التزامه وهدايته؟ فإن كان يعرف لنفسه هذا، فليعلم أنه أسلم ولم يسلم قلبه للإسلام تاما كاملا. ثانيا: قد يكون بعيدا عن هذا وليس عنده آفات، قد يكون عبدا صالحا مستقيما ولكن ابتلي بهذا البلاء من الله، قد يبتلى بسبب عقوق والديه أو قطيعة رحمه أو همزه للناس، أو تتبع عثرة الدعاة، أو الكلام في أهل الخير أو الصلاح، فابتلاه الله بفتنة، وخذها قاعدة: أن فتن الدين لا تأتي إلا بسبب ما يكون بين العبد وربه في القلب: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] . يكون الإنسان كأحسن ما تراه ملتزما، ثم فجأة يتتبع عثرات العلماء والدعاة الأموات أو الأحياء أو ينتقصهم أو ينظر إليهم نظرات، فينكسه الله عز وجل بسبب ذلك: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، كان مهتديا صالحا كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، ثم أصبح والعياذ بالله خارجا عن قوله، فاغتر بنفسه، وتعالى على عباد الله أو احتقر خلق الله عز وجل. فهذا موسى عليه السلام، لما قال: أنا أعلم، عتب الله عليه من فوق سبع سماوات وهو كليم الله، ولكن قال الله له: إن بمجمع البحرين من هو أعلم منك، وهو نبي يقول الله له: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} [الأعراف:144] ، ويقول الله في تشريفه: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164] ، لما جاءت حاجة معينة حصل فيها ما حصل؛ عتب الله عليه من فوق سبع سماوات، فكيف بمن يركب على ظهور الناس أو تحصل منه زلة، فلا تأمن من الله عز وجل أن يبتليك، فهذه ابتلاءات تأتي في القلوب بسبب الذنوب، ومن أعظم ما يفتح على العبد الملتزم الهادي الصالح من البلاء بعد حق الله عز وجل حقوق العباد، ولذلك فاحذر وأنت في طلب العلم أن تنتقص أحدا أو تتكلم في أحد أو تذم أحدا، أو تحمل في قلبك غلا على أحد من أولياء الله عز وجل. عليك أن تنتبه وتحذر من ذلك أتم الحذر؛ لأن هذه الفتن التي يحرم بها الإنسان بركة العلم وقبول العلم والانتفاع بالعلم كثير منها بسبب الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ظلمات، فالقلب لا يمكن أن يستنير، والنور محله القلب، فاتقوا الله يجعل لكم فرقانا فالنور الذي في القلوب يطمس، وإذا كان الإنسان لم يهذب نفسه سلبه الله عز وجل البركة في عمره وقوله وعمله، فالحذر من الذنوب. فلذلك أدعوك: إذا كان هذا الأمر قد جد عليك وطرأ، أن تتفقد نفسك ماذا قلت، وماذا عملت، فلعل مسلما ظلمته أو آذيته فحرمت الخير بسبب أذيته، فتسأله أن يسامحك وتتحلل من مظلمته وتبتعد عن إساءته. وأوصيك أخي بأمر لا أظن أن هناك فرجا ومخرجا أعظم منه، وهو دعاء الله سبحانه وتعالى، بأن تشتكي إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن تتوكل على الحي الذي لا يموت حتى ينزع ما في قلبك، فإن هذا بلاء عظيم، إن لم يتداركك الله برحمته؛ فإنه شيء يخشى منه عليك ألا تبقى لك بركة في علمك. إذا أحد يريد أن يتعلم هذا العلم دون أن يوطن نفسه على بذله للناس وللخير بالوجه الذي يستطيع، لا يكون إنسانا أنانيا طالب علم ولا معلما، فلا أنت حينما تعلم شيئا تعطيه لأخيك وتدله، ولا طالب علم أيضا من حيث إنك أناني تريد الشيء لك وحدك أو نحو هذا، فهذا أمر عليك أن تحذره قدر المستطاع، وتطلب العلم أنى وجدته، وتحرص على نفع المسلمين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (488) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [1] من كمال شريعة الإسلام أنها جعلت للإنسان حرمة عظيمة، فحرمت دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء على شيء من ذلك أبدا، وقد رتبت الشريعة على من اعتدى على شيء من ذلك عقوبات وأحكاما معلومة، ومن ذلك ما يتعلق بالجناية على النفس والبدن، فمن جنى على غيره جناية متعلقة بنفسه أو ببدنه فإن الواجب عليه هو القصاص أو الدية، بحسب نوع الجناية من عمد أو خطأ أو شبه عمد وما يترتب على كل ذلك من أحكام، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولن تصلح الأحوال إلا به، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شبه الحاقدين والناقمين على الإسلام وأهله، فإنها شبه متهافتة معلومة البطلان والفساد. تعريف الجنايات لغة واصطلاحا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات] . الجنايات: جمع جناية، وأصلها: الاعتداء على النفس أو العرض أو المال أو البدن. وبعض العلماء يقول: الاعتداء على النفس والبدن والمال. وهذا في الأصل، فكل اعتداء على نفس، مثل القتل، أو الاعتداء على البدن؛ مثل قطع الأعضاء وبترها، والتشويه للخلقة بالوسم والكي ونحو ذلك، والاعتداء على المال بسرقته أو غصبه، والاعتداء على العرض بالقذف أو الزنا -والعياذ بالله- كل هذا يعتبر جناية في أصل اللغة، والعرب تسميه جناية؛ لما فيه من الإضرار والأذية وتعدي الحد، ومن فعل ذلك فقد جنى عاقبته؛ لأنه يجر على نفسه الشر، فمن جنى جناية، واعتدى على غيره، فإنه يجني من وراء ذلك العاقبة التي لا تحمد في دينه ودنياه. ولكن العلماء في اصطلاح الفقه خصوا الجنايات: بالاعتداء على النفس والبدن، وأفردوا الاعتداء على المال والاعتداء على العرض بكتاب الحدود، فإذا قالوا: كتاب الجنايات؛ فمرادهم: الاعتداء على النفس والبدن الاعتداء على النفس: بقتلها، وإزهاقها، والاعتداء على البدن-الذي هو أجزاء البدن- إما بقطع يد أو رجل، وإما أن يعمي بصر أو يضر بسمعه، أو نحو ذلك. فالأول للكل-الذي هو النفس-، والثاني: للأجزاء والأطراف والأعضاء. مقدمة مهمة تتعلق بالجنايات والقصاص وبناء على ذلك إذا قال العلماء: (كتاب الجنايات) فإنهم يبحثون في مسائل القتل، ومسائل الأذية والضرر المتعلقة بالبدن، بإتلاف أجزاء البدن أو تشويهها أو نحو ذلك. أنواع الجنايات ثم هذه الجناية وهذا الاعتداء تارة يكون عمدا وقصدا، فيعتدي على النفس فيزهقها عمدا وعدوانا، وتارة يكون خطأ؛ مثل ما إذا دهس بسيارته شخصا فقتله، وهو لا يقصد قتله. وأيضا الاعتداء على الأطراف تارة يكون عمدا وقصدا؛ مثل ما يقع في المشاجرة والنزاع، فيقدم على قطع يده، أو ضربه في مكان يشل حركته، أو يعمي بصره، أو نحو ذلك من الأضرار. هذا بالنسبة للجناية على النفس وعلى البدن، وهذا ما يسميه العلماء بـ (الجنايات) ، ويخصونه بكتاب الجنايات. وأما الاعتداء على الأموال، والاعتداء على الأعراض؛ فقد اصطلحوا على تسميته بأسماء تخصه، ووضعوه في كتب مستقلة؛ فمثلا: الاعتداء على الأموال سموه: غصبا، وسموه: سرقة. فسموه غصبا إذا كان الاعتداء على المال علانية وجهرا، وسرقة: إذا كان خفية، واختلاسا: إذا كان على طريقة لم يشعر بها الإنسان، ولم تتحقق فيها صفات السرقة. وهذا قد تقدم معنا في باب الغصب، وذكرنا أن الفرق بين الغصب والسرقة: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية. الجناية على النفس فلما قال المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) معناه: أنه سيبحث في هذا الموضع الاعتداء على النفس، والاعتداء على البدن. وأما الاعتداء على الأموال فقد تقدمت مسائل الغصب في باب الغصب، وستأتي مسائل السرقة في كتاب الحدود. إذا: سيكون حديثنا عن مباحث الاعتداء على الأنفس في القتل بنوعيه: قتل العمد، وقتل الخطأ، ثم قتل الخطأ بأقسامه: شبه العمد، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: عمد الخطأ، يعني خطأ العمد، وأيضا الخطأ المحض، وهو ما يسميه بعض الفقهاء: ما جرى مجرى الخطأ. وعلى هذا فبعض العلماء -كما سيأتينا- يقسم القتل إلى: عمد، وخطأ. والجمهور على تقسيمه إلى: عمد، وشبه عمد، وخطأ. وهناك قول ثالث: أنه عمد، وخطأ، وشبه عمد، وجار مجرى الخطأ. وسيأتي-بإذن الله- بيان هذه الأقسام في موضعها. هذا بالنسبة للاعتداء على النفس؛ فإما أن يقتل النفس عمدا وعدوانا-نسأل الله السلامة والعافية- وهي نفس محرمة، وإما أن يقتلها خطأ، وفي كلتا الحالتين هي جناية على النفس. الجناية على البدن وأما بالنسبة للجناية على البدن: فهي الجناية على الأطراف، فيعتدى عليه إما عمدا وعدوانا، كما يقع في المشاجرات، فيقطع يده، أو يفقأ عينه، أو يقطع أذنه، فيؤذيه في سمعه، أو بصره، أو يشل حركته، أو يضربه ضربة تشل حركته، أو تتسبب في إعاقته، فهذه جنايات العمد على البدن والأطراف. وهناك جنايات خطأ على الأطراف؛ كشخص دهس شخصا بسيارته فقطع رجله، أو كسر يده، أو ازدحم الناس وأثناء الازدحام لم يشعر أحدهم فدفع الآخر دفعة سقط بها فانكسرت يده، أو دفعه دفعة فسقط من على درج فانكسرت رجله، أو تسبب في إتلاف سمعه، كما لو رمى بشيء فدخل في أذنه فأذهب سمعه، أو فقأ عينه ونحو ذلك، فهذه كلها جنايات على سبيل الخطأ، لكنها على الأعضاء والبدن. وكل هذه الجنايات يتكلم عنها الفقهاء والعلماء في كتاب الجنايات. القصاص في الجناية ثم هذا الكتاب -كتاب الجنايات- لما كان أخطر وأشد ما فيه ما هو مثار الخصومة، والجدل بين الناس، ويحتاج القضاة والمفتون إلى معرفة أحكامه، والفصل بين الناس فيما شجر من مسائله؛ يركز العلماء كثيرا على القصاص؛ لأن الله عز وجل شرعه للعدل بين الناس، وبين الخلق، فأمر بالقصاص من الجاني، كما أمر بالقصاص في النفس وما دون النفس، ففي النفس من قتل يقتل، وما دون النفس؛ من قطع يدا قطعت يده، ومن كسر سنا كسرت سنه، ومن فقأ عينا فقأت عينه، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه. فهذا القصاص يحتاج أولا أن تبحث عن الأسباب التي توجبه متى يحكم بوجوب القصاص، ومتى لا يحكم به؟ فتارة تقول: هذا القتل يوجب القصاص، أو هذا القطع لليد يوجب القصاص، فالأول جناية على النفس، والثاني جناية على الأطراف. وتارة تقول: هذا القتل لا يوجب قصاصا، وإنما يوجب دفع الدية، وهو قتل الخطأ، وتارة تقول: هذا الاعتداء على هذه اليد لا يوجب قصاصا بقطع يد المعتدي، ولكن يوجب دفع نصف الدية، أو هذه الجناية فيها مثلا خمس من الإبل، أو فيها مثلا عشر الدية، أو نحو ذلك. إذا هناك ما يوجب القصاص، وهناك ما لا يوجب القصاص، وهذا ما يبحثه العلماء في بيان ضوابط قتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ. وقد امتاز الفقه الإسلامي بوضوح قواعده، واشتمالها على العدل والإنصاف، فالشريعة ليس فيها خلط للأمور، وليس فيها ما يوجد اللبس على الإنسان؛ لأن الله تعالى وصفها بالتمام، والكمال، وما بني على أصل صحيح فإن ثماره وعواقبه تكون صحيحة، فالشريعة مبنية على العدل: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] ، سبحانه وتعالى، فقد وضعت الشريعة القواعد والأصول التي يبنى عليها الحكم بثبوت القصاص، والحكم بعدم ثبوته، ومن هنا يبحث العلماء أول شيء: ضوابط الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل شبه العمد. متى يحكم بالقصاص في الجناية على النفس ثم بعد أن تعرف أن هذا عمد يوجب القصاص، وأن هذا شبه عمد أو خطأ لا يوجب القصاص، وأن شبه العمد يوجب الدية المغلظة، والخطأ يوجب الدية من حيث هي، فحينئذ تنتقل إلى مسألة ثانية- بعد أن تميز أنواع الجنايات ما بين عمد وخطأ اللذان هما الرأس في الجنايات- تنتقل إلى الشروط التي ينبغي توفرها للحكم في القصاص في العمد، متى يحكم باستيفاء القصاص؟ وهذا يستلزم -مثلا- أن نقول: إذا كان ضربه في مقتل، والحال دال على أنه قاصد للقتل، أو اعترف بأنه قصد قتله؛ فإن هذا عمد، كأن يكون ضربه بالسكين في بطنه؛ فالسكين تقتل غالبا، وهو قصد قتله، فنقول: هذا عمد. لكن يرد السؤال هل الذي ضرب مكلف أم لا؟ لكي يؤاخذ، فهل هو مجنون أو عاقل، أو صبي أو بالغ؟ وحينئذ نبحث في صفات هذا القاتل، فقد أثبتنا أن القتل عمد، فإذا كان عمدا فلابد من وجود شروط وعلامات وأمارات لكي يحكم بوجوب القصاص من هذا الجاني، وقد يكون في الجاني شيء يمنع من استيفاء القصاص منه، بحيث تكون العقوبة متعدية، فلو عاقبناه لم يتحقق العدل؛ كما لو قتلت امرأة وكانت حاملا، فإننا ننتظر حتى تضع حملها؛ لأن الجنين لا ذنب له. فهناك أمارات وعلامات لا بد من وجودها حتى نحكم بوجوب القصاص من الجاني. فإذا: أول شيء نثبته أن الجناية عمد توجب القصاص، فلابد من إثبات ما يوجب القصاص، وإثبات أهلية الجاني، والمجني عليه، فلو كان المجني عليه شخصا يستحق القتل، وقتله وهو قاصد لقتله بما يقتل غالبا، ولكنه قصد إقامة حد من حدود الله عليه؛ كأن يكون ثيبا محصنا، ودخل عليه ووجده على الزنا، والشهود موجودون؛ فقتله، فحينئذ لا يحكم بالقصاص، لكن يعزر هذا الشخص؛ لأنه ليس هو الذي يقيم حد القتل على من زنى محصنا، وإنما نرد ذلك إلى الوالي، وحينئذ نقول: لا يقتص منه؛ لأن الدم الذي أريق ليس بمعصوم، وليس له حرمة؛ لأن الشرع أزهق هذه الروح. ومن هنا فلابد أن يكون الجاني توفرت فيه شروط، ولا بد أن يكون المجني أيضا توفرت فيه شروط. فإذا تمت الشروط لاستيفاء القصاص، فيأتي السؤال: صاحب الحق إما أن يقول: أريد أن أقتص، وأولياء المقتول الذين جعل الله لهم سلطانا على القاتل، إما أن يقولوا: نريد القصاص، وإما أن يقولوا: لا نريد القصاص، فإن أرادوا القصاص فلا إشكال، وإن لم يريدوا القصاص فما هي ضوابط العفو؟ ومن الذي له حق العفو؟ ومتى يكون عفوه معتبرا؟ ومتى لا يكون معتبرا؟ إذا: نحتاج إلى مبحث ثالث، أو باب ثالث في العفو عن القصاص ومن هنا رتب المصنف-رحمه الله- الأبواب؛ فجعل القصاص هو الأصل، والفصل الذي يتبعه في مسألة الصفات المعتبرة لقتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ، وأتبع ذلك بشروط استيفاء القصاص، ثم بعد ذلك بين مسألة العفو عن القصاص. القصاص في الجناية على البدن ويبقى عندنا الجناية على الأطراف، وهي الجناية التي تكون فيما دون النفس، وذلك كما ذكرنا مثل: فقأ العين، وكسر السن، وبتر الساق، وكسر الساق، ونحو ذلك. فهذه الجنايات التي دون النفس أيضا منها ما يوجب القصاص، فمثلا: لو قطع يدا تقطع يده، ولو قطع رجلا تقطع رجله، فيمكننا إذا أن نستوفي، ويمكننا أن نحكم بالقصاص، وليس هناك ظلم إذا ثبت ما يوجب القصاص على الجاني، وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص منه، فيقطع منه مثل ما قطع، لكن في بعض الأحيان لا يمكن تحقق العدل في الجناية، مثل الكسر الذي يهشم العظام، فلا يؤمن فيه الحيف، بحيث لو أن شخصا اعتدى على شخص، فهشم له عظما على وجه لا نستطيع أن نفعل به مثل ما فعل، فإننا لا نأمن الحيف، فربما نأتي نقتص من الجاني فنزيد ونحيف، فإذا لم يؤمن الحيف فإنه حينئذ يمنع من القصاص. ومثل ذلك: أن يكون الجاني شيخا كبيرا حطمة، أو كان فيه مرض أو عاهة؛ بحيث لو أننا أجرينا هذا القصاص لأزهقت نفسه، فإنه حينئذ لو أردنا أن نقتص منه فإن معنى ذلك: أننا نعاقبه بأضعاف عقوبته. فكما أن الجناية على النفس لا بد من توفر الشروط المعتبرة للقصاص فيها، فكذلك أيضا الجناية على الأعضاء والبدن لا بد من تحقق الشروط المعتبرة للحكم باستيفائه. وبناء على ذلك قسم المصنف رحمه الله هذا الباب إلى هذه الأقسام، وقد بحث المصنف في الجنايات أن الأصل أنها تحتاج إلى إثبات، ولا تقبل دعوى كل إنسان بجناية إلا بإثبات، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس أموال أناس ودماءهم -كما قال صلى الله عليه وسلم- فهذا يحتاج منا أن نعرف: متى؟ وكيف؟ وما هي الوسائل المعتبرة لإثبات الجناية والجريمة؟ فالتسلسل المنطقي يستلزم أن تعرف أول شيء نوعية الجناية، والحكم عليها؛ هل هي عمد أو خطأ أو شبه عمد؟ سواء كانت في النفس أو في البدن، فإن كانت الجناية على النفس فنبحث كيف يحكم بها؟ وكيف تثبت؟ ثم بعد ذلك ينظر في الجاني والمجني عليه، وشروط الاستيفاء منهما، ثم بعد ذلك ينظر في عفو الولي، أو طلبه للقصاص. وبعد ذلك يشرع طالب العلم في دراسة الجناية على البدن والأعضاء على حدة. فالمصنف-رحمه الله- جعل الثلاثة الأبواب الأولي في الجناية على النفس، وجعل الباب الأخير وما يتبعه منفصلا في الجناية فيما دون النفس. وقد تحدثنا عن هذه المنهجية حتى يكون طالب العلم على دراية قبل الدخول في التفصيل؛ فإن أكثر ما يعين طالب العلم على الفهم والضبط للمسائل: أن يكون عنده تصور مبدئي لمنهج العلماء رحمهم الله في التقسيم، ومن هنا نجد الأئمة رحمهم الله حينما يؤلفون الكتب في المسائل الفقهية أو نحوها، يذكرون الطريقة التي يتناولون بها المسائل التي يريدون بحثها وبيان أحكامها، وهذا يعطي طالب العلم ملكة وتهيؤا وتصورا مبدئيا يساعده على الفهم أكثر، والربط بين الأفكار. حرمة الاعتداء على المسلم يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) جمعها المصنف-رحمه الله- بتعدد أنواعها واختلافها-كما ذكرنا- فالجناية على النفس أنواع، والجناية على البدن، والأعضاء أنواع، فقال: كتاب الجنايات؛ مراعاة للأنواع واختلافها. أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالجناية على النفس والبدن. والأصل في شرع الله عز وجل: أن الله عز وجل حرم على المسلم أن يعتدي على أخيه المسلم، في نفسه، وفي بدنه، وماله، وعرضه؛ فلا يعتدي على حق أخيه المسلم، وقد بينت نصوص الكتاب والسنة حصول المسئولية على كل من يعتدي. فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى نهانا عن الاعتداء، ولكن الإنسان لا يعتدي على حق أخيه المسلم في نفس أو بدن أو مال أو عرض إلا وهناك ما يدفعه من نفس أمارة بالسوء، أو قرين سوء يحرضه، أو مجتمع يهيئ له ذلك، ويستخف بهذه الأمور العظيمة، أو يحبذ الجرم والجريمة، كما يقع في قرناء السوء-نسأل الله السلامة والعافية- والبيئات الفاسدة، فهذه الأمور هي التي تبعث على الجريمة. ومن هنا افترقت الشريعة الإسلامية عن النظرات البشرية الضيقة في النظريات؛ فتجد النظريات تتخبط في الظلمات، فقسم يرى أن الجريمة والجناية تكون من الإنسان نفسه، فجعل الإنسان مجرما في الأصل، وهناك من يقول: إن الإنسان ليس فيه أبدا ما يدعو للجريمة، وإنما يرغم عليها ويدفع إليها لا شعوريا، أو يدفع إليها من خلال الاعتياد، والإغراء، ويبرأ الإنسان كلا. وجاءت الشريعة بالعدل، والوسط، وبينت أن الله عز وجل هدى الإنسان السبيل؛ إما أن يكون شاكرا، وإما أن يكون كفورا، وأنه إذا اعتدى أحد على أحد فإنه يتحمل المسئولية، وجعلت المسئولية على صورتين: مسئولية الدنيا، ومسئولية الآخرة؛ فحملته تبعة هذا الاعتداء، فإن كان الاعتداء على البدن أو على النفس اعتداء عمد وعدوان؛ تحمل المسئولية في الدنيا؛ لأنه آثم شرعا، ويحكم بفسقه إذا اعتدى على أخيه المسلم، وأيضا يتحمل التبعة والمسئولية بالحكم بإثمه وفسقه شرعا، ويتحمل المسئولية بالمؤاخذة؛ فيعاقب بعقوبته، أو إذا كانت الجناية توجب الضمان دفع الدية والأرش -أرش الجناية- على حسب التفصيل الذي سنذكره -إن شاء الله- في كتاب الديات. السبب في مؤاخذة المخطئ في الجنايات بالدية والكفارة لكن السؤال إذا كانت الشريعة وسطا، وقد بينت أن الإنسان مسئول، فلماذا تحمله في حال الخطأ؟ ولماذا توجب عليه تحمل المسئولية في حال الخطأ؟ فمثلا: لو قتل خطأ؛ كأن رأى طائرا فأطلق النار عليه، فمر شخص فأصابه الرصاص، أو صاد في موضع؛ فمر طفل أو مر أحد فأصابه الرصاص فمات، فلماذا نقول: هو لم يقصد القتل، ولم يرد القتل، وما جاء من أجل أن يقتل، ولا يعرف المقتول، أو مثلا ركب سيارته فدهس بها شخصا. قالوا: لأنه ما من قاتل، وما من جان -ولو كان مخطئا- إلا وهو مقصر، ولو أنه تعاطى أسباب الاحتياط، وحافظ وصان نفسه لما وقع في هذا الخطأ، ولذلك غالبا لا يقع إضرار بغيره؛ سواء في أنفس الناس أو في أبدانهم؛ إلا وهناك شيء من التقصير. وهذا هو الذي ركب العلماء منه مسألة الكفارة؛ فإنه يعتق رقبة، فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينا، مع أنه قتل خطأ، قالوا: لأنه لا يفعل ذلك غالبا، إلا بسبب تقصير جاء ليصيد؛ فلا بد أن يضع في حسبانه أن يمر شخص، ولو احتاط لذلك فإن احتياطه ناقص؛ بدليل وجود الخطأ. والمرأة التي تترك طفلها، وتتساهل في هذا الطفل، فلا تشعر إلا وقد سقط في البئر، أو سقط في خزان ماء، أو وقع على النار فأحرقته، وأزهقت نفسه، فإنها قد قصرت في حفظه، وقصرت في رعايته، أو وضعت طفلا على سطح لا حاجز له، أو وضعته في مكان لا يؤمن سقوطه منه؛ فإن هذا كله من الأسباب الموجبة للمسئولية. فحملت الشريعة الجاني -متعمدا ومخطئا- حملته تبعة القصد بالأذية والإضرار، ومن هنا جعلت الشريعة الاعتداء على النفس الواحدة كالاعتداء على الأنفس كلها قال تعالى: {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة:32] ، فهو بهذه الجناية كأنه جنى على الناس كلهم، فحملته الشريعة المسئولية؛ لأن هذا الاستخفاف بقصد الجريمة يهيئ له أن يقتل كل نفس. وأيضا الاستهتار في حفظ الأنفس تضيع به الأنفس، فالأم التي تركت طفلها في مكان لا يؤمن أن يتعرض فيه لما يوجب هلاكه وحتفه، وكان الطفل قاصرا، غير مالك لنفسه وزمام نفسه؛ فإنها لا يؤمن منها أن تفعل ذلك بغيره، وأن يفعل غيرها مثل ما فعلت، ولكن إذا أوخذت أحجمت، وإذا علمت أنها تؤاخذ حافظت. ومن هنا حققت الشريعة سبيل الوقاية من الجناية والجريمة، وأغلقت باب الاستخفاف بالجرائم والجنايات، وهذا من أروع ما وجد في الشريعة الإسلامية، ولذلك من نظر إلى نصوص الكتاب والسنة وجد أنها لم تعالج باب الجنايات وأضرار الجنايات من خلال التشريعات والأحكام فحسب، وإنما وضعت جميع ما يمكن وضعه من الأسباب والموانع التي تحول بين الناس وبين الاعتداء. ولذلك إذا نظرت في نصوص الكتاب والسنة وجدتها جلية واضحة في زجر الناس عن الإقدام على الأذية والإضرار، وزجر الناس عن تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والإضرار بالأعضاء؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسلم السوق حاملا لرمحه إلا أن يمسك بنصله، والنصل: هو رأس الرمح؛ فإذا جاء يمشي بين الناس وهو غير ممسك برأس الرمح، فيفقأ عينا، أو يجرح بدنا، أو يبقر بطنا، فيقول: والله ما قصدت، وما أدري، أو الزحام دفعني إلى هذا الشيء، فنقول: لا؛ إن الدخول إلى هذا الموضع على هذه الصفة إهمال، وتساهل في أرواح الناس، فإذا علم أنه مسئول، وأن الشريعة أوجبت عليه حفظ هذا السلاح عن الأذية والإضرار؛ فحينئذ قل أن يقع في هذا الخطأ، ولهذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدهم المسجد أن يمسك بنصله، فيجعل رأس الرمح في يده، فلا يلمس أحدا، ولا يضر بأحد. ولو أن شخصا أراد أن يمزح مع آخر؛ فحمل السلاح عليه، وهدده بالسلاح، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، فالشريعة وضعت الحواجز والموانع أمام كل شر، وهذا ما يسمى بالعلاج الوقائي، فإن الجريمة تعالج بالوقاية من الوقوع فيها؛ لأنها مثل المرض والداء والبلاء، فتحتاج إلى علاج وقائي، وأيضا علاج الزجر والعقوبة. ومن هنا الذي يبحثه الفقهاء إنما هو المسئولية في الدنيا، وهي مسئولية الإنسان أن يحفظ، ولذلك لو أن ولدا -والعياذ بالله- قتل، أو آذى، أو أضر عمدا وعدوانا وعرف بالجريمة حتى قتل، وعلم القاضي أن والده تساهل معه؛ عاقب والده. فالشريعة جاءت بالعلاج الناجع، ووضع الأسباب والموانع دون الوقوع في هذه الجنايات. إذا ثبت هذا بحصول مسئولية الدنيا، فهناك أيضا مسئولية الآخرة؛ وهي مسئولية العبد أمام الله سبحانه وتعالى عما أزهق من نفس وأتلف من بدن وأضر، ولذلك يسأل أمام الله عز وجل ويحاسب، فإن تاب في الدنيا عفى الله عنه، واختار بعض العلماء أن الله عز وجل يرضي المقتول إذا تاب القاتل، كما اختاره ابن القيم رحمه الله وغيره، إذا هو تاب توبة نصوحا وأناب إلى الله. فإذا: فقد جعلت الشريعة مسئولية الدنيا ومسئولية الآخرة، والذي يبحثه الفقهاء رحمهم الله هنا إنما هو في مسئولية الدنيا، من حيث القصاص؛ لأنه حكم قضائي. ثم دراسة طالب العلم لفقه الجنايات تحتاج منه أول شيء: أن يعرف مسائل الجنايات، وتصورها، والإلمام بمقصود العلماء منها، ثم بعد أن يفهم المسائل ويتصورها، يبحث عن الأدلة التي دلت على الأحكام، فإذا يسر الله عز وجل لطالب العلم، واستطاع أن يدرس كتاب الجنايات، ويفهم ما ذكره العلماء وبينوه، ثم اطلع على أدلتهم في ذلك، حينئذ يكون قد فهم مسلك الشريعة الإسلامية في باب الجنايات. الكلام في الشبهات التي تثار حول الشريعة الإسلامية وقد نشأت في زماننا مسألة يحتاج طلاب العلم، وبخاصة المتخصصين في الفقه، أن يكونوا على إلمام بها؛ وهي مسألة الشبهات التي تثار ضد الشريعة الإسلامية؛ وهي أحقر من أن تؤثر في شرع الله عز وجل، الذي يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، والذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأحكم الحاكمين، العدل الملك الحق المبين، سبحانه وتعالى. وهذه الشبهات قطعا لا يخفى أنها كثرت في الأزمنة المتأخرة، وكثر التلبيس والخلط، فيتصدى لهذه الشبهات أولو العلم، الراسخون في العلم، الذين بينوا زيغها، وكشفوا عوارها، وأنها ليست واردة على الشريعة أصلا؛ لأن الشبهة إذا جاءت فإنها تأتي من أحد شخصين: إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين، وإما رجل جاهل قذف الشيطان-شيطان الإنس أو الجن أو هما معا- في قلبه شيئا فران على القلب وأصبح الحق ملتبسا عليه، وهذا لا يؤثر إلا على ضعاف النفوس، والرعاع-نسأل الله السلامة والعافية- الجهلة الذين لا يحسنون فهم الشريعة الإسلامية. أما النوع الأول: فهو أخبث النوعين وأخطرهما، وينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى بين وقال: (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر [آل عمران:118] . فالله يقول: (ودوا ما عنتم) : و (ما) مصدرية، أي: ودوا عنتكم، والعنت: هو الإحراج، والتضييق، فالمسلم يتألم ويتأثر حينما يجد أحدا يتطاول وهو أحقر من أن يتطاول على شرع الله عز وجل، وأحقر من أن يتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كانت هذه الشهبات أثرت، وتؤثر في ضعاف النفوس، وتحدث بلبلة في أفكار المسلمين، وجب صدها؛ لأنه لا يجوز السكوت على الباطل، ولا يجوز السكوت عن الحق، فيجب على طالب العلم أن تكون عنده ملكة، وأن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأمور. وهناك أشياء نحب أن ننبه عليها في فقه الشبهات: أولا: أنه لا يجوز أن يتصدى للشبهة إلا عالم متمكن من فهم الشبهات ومداخلها؛ حتى يحسن أو يحكم إغلاق هذه الثغرات وسدها وصدها، وكذلك يستطيع بأسلوبه وبيانه أن يبين للناس أنها ليست واردة أصلا، وأنها ليست بحقيقة، وإنما هي تلبيس وباطل يراد به أذية أهل الحق، ونحو ذلك، وهذا لا يستطاع إلا من العلماء الراسخين بتوفيق من الله عز وجل. الأمر الثاني: ينبغي ألا يشغل طالب العلم وقته بهذه الشبهات؛ لأن الأعداء -وهذا أمر مهم جدا- يريدون في بعض الأحيان أن يشغلوا أهل الإسلام عن الإسلام، فإذا ما وصلت الشبهة -على الأقل- شغلت طلاب العلم والمتمكنين بدراستها وفهمها، فيجلس فترة يدرس الشبهات، والرد عليها، وفهمها، وعندما ينتهي من هذه الشبهة يأتونه بشبهة جديدة، ثم ينتهي من هذه الشبهة التي بعدها وإذا به بعد فترة لا يستطيع أن يعلم الناس الفقه، ولا أن يتفرغ للتعليم ولا للتوجيه، وهذا ما يريده أعداء الإسلام. ومن هنا تجد أحيانا من قد يشتغل بالشبهات لا علم عنده، فيأتي الدخل إما أناس يتصدرون لا علم عندهم، أو أناس يتصدون للشبهات ويضيعون أوقاتهم، وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون، فإن تصدى من لا علم ولا فقه عنده كما يقولون: إن الأحمق يضر الإنسان وهو يظن أنه ينفعه- أتى بأشياء يتكلف فيها برد هذه الشبهات، فيجعل الحق باطلا. لقد جاءوا بشبهة الجهاد حتى أصبح يقول: ليس في الإسلام جهاد، وإنما شرع فقط في حدود ضيقة جدا، فلا يشرع إلا لدفع العدو، والنصوص واضحة فيه لماذا في هذا؟ لأن الأعداء يريدون أن يتصدى من لا علم عنده، وهذا هو الذي تعاني منه الأمة؛ أنه قد تقع شبهات فيتحمس لردها من عنده إسلام وليس عنده فقه إسلامي، حتى تكثر الردود من أناس بضاعتهم مزجاة، أو ليس عندهم ذاك العلم، فتكثر الردود بوسيلة معينة، أو بطريقة معينة؛ فيسهل على الأعداء إيراد الشبهات على ما أجابوه، وحتى الشخص الذي يقرأ هذه الأجوبة لا تحصل عنده القناعة، فيزداد-والعياذ بالله- انطماسا في بصيرته، ومن هنا وجب رد الأمر إلى أهل العلم. إذا: الاشتغال بالشبهات أكثر من اللازم ليس بلازم؛ بل إنه مضيعة للوقت، ومن هنا ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة وهي: أن من أخطر ما يخافه أعداء الإسلام على المسلمين اشتغال المسلمين بالإسلام؛ فلو أن المسلمين وطلبة العلم خاصة اشتغلوا بضبط العلم، وأحسنوه وأتقنوه؛ لما وجد أعداء الإسلام إليه سبيلا. وهذه القضية لها أصل في الكتاب وفي السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعثه الله عز وجل جاء اليهود والنصارى أهل الكتاب بالشبهات، وأوردوا شبهات على شرع الله عز وجل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في الوقوف مع الشبهات عند حدود معينة، لم تعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العناية بالأساس، وهو تعليم الأمة وتوجيهها؛ لأنك إذا علمت الأمة فإنها لا تقف أمام هذه الشبهة المعاصرة الوقتية فقط وإنما تقف أمام كل شبهة، لأنك أعطيتها حصانة دائمة تامة كاملة؛ من شرع تام دائم كامل. ومن هنا وجب العناية بالأصل والأساس. وليس معنى هذا أن الرد على الشبهات ليس له قيمة، بل إن له قيمة؛ وقد بينا أنه من شرع الله، وأنه من الحق، وأنه يجب رد الباطل، لكن المقصود هو الاشتغال به أكثر من اللازم، وسواء كان هذا في الفقه أو في الأمور الأخرى. ولذلك بين الله عز وجل أن الكفار وما يعبدون من دون الله حصب جهنم هم لها واردون، قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء:98] ، قال ابن الزبرى -عليه لعنة الله-: يامحمد! تقول: إنا وما عبدنا في نار جهنم؛ فنحن عبدنا اللات والعزى، واليهود عبدوا عزيرا؛ فهم وعزير في النار، والنصارى عبدوا المسيح؛ فهم والمسيح في النار. فهذه شبهة، وشبهة ليست بالسهلة، فهي في ظاهرها قوية، قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف:57 - 58] ، فما اشتغل بالشبهة؛ لأن الآية: (( إنكم وما )) : قيل: إن (ما) في الأصل لمن لا يعقل، فهي لآلهتهم المعبودة، وكل من رضي أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده؛ لأن عيسى عليه السلام لا يرضى أن يعبد من دون الله، وقد بين الله عز وجل هذا في خصومة الآخرة حينما بين أنه يسأل ابن مريم عليه السلام عن هذا. إذا: لم يشتغل القرآن بالشبهات أكثر من اللازم، إنما اشتغل بتكوين المسلم على منهج الله، وشرع الله. فطالب العلم والمسلم إذا علم فقه الجنايات، وضبط فقه الجنايات، وألم بالأصل والأساس؛ لم تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، ولذلك يقولون: ما يؤذي الحسود والحقود شيء مثل الإعراض عنه. اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ولذلك يقول الله تعالى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران:119] . الشبهات المثارة حول أحكام الجنايات والقصاص فهؤلاء الذين يوردون الشبهات على الجنايات، وعلى من يطبق شرع الله عز وجل في القصاص، إنهم أناس يريدون شغل وقت المسلمين، وأيضا الشبهات الأخر المراد بها: إزعاج المسلم حتى لا يتفرغ لقراءته، ولذلك كان بعض أئمة السلف رحمهم الله لما حدثت البدع والأهواء، يعرضون عن أهل البدع، وكان أيوب بن تميمة السختياني رحمه الله لما يأتي القدري ويقول له: اسمع مني كلمة واحدة-عنده شبه- فيقول: اسمع مني كلمه، فيضع إصبعه في أذنه ويقول: ولا نصف كلمة. رحمه الله برحمته الواسعة. أما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني فانظر إلى المسلمين حينما كانوا على فطرتهم، وحينما كان الشخص في باديته بعيدا عن الخوض، تجده أقوى تمسكا بدين الله؛ لأنه لم يلتفت إلى شيء غير الحق، ولا يمكن أن يقبل شيئا بمجرد أن يتكلم به شخص، ومعلوم أن كثرة الاحتكاك بالشبهات وكثرة سماعها قد تميت القلب، وقد تحدث عند الإنسان إلفا للمنكر، ولذلك ما يضر الأعداء شيء مثل الاشتغال بالعلم والأساس، والفقه بالكتاب والسنة، وضبط المسائل الشرعية. ومع هذا نعود ونكرر: أن عدم الاشتغال بالشبهات وردها ليس المراد به قفل بابها، وإنما عدم المبالغة فيه، فيؤتى لطالب العلم ويقال له: لا بد أن تدافع، وأول شيء أن تعتني بتربية الأمة، وتأصيل المنهج العلمي الصحيح، وتحصن بالأساسيات. ومن هنا إذا تعلم الناس شرع الله؛ الذي هو الأساس، وبينت لهم الحكم والأحكام والأسرار والمقاصد والفوائد والعوائد التي يجنيها من طبق شرع الله عز وجل؛ فإنهم يتمسكون بهذا الدين، ولا يقبلون كلمة تضاده أو تخالفه، ولكنهم إذا درسوا شبهة أو شبهات، وأفنوا فيها أوقاتهم وأعمارهم؛ فلا يستطيعون أن يقفوا أمام غيرها، ولربما أورثت الشبهة في القلب ظلمة، نسأل الله السلامة والعافية. ومن هنا نعود ونكرر: أننا نحتاج إلى من يتخصص في رد الشبهات، ولكن لا نريد أمرا زائدا يشغل المسلم عن هذا الأساس. وقد أحببنا أن ننبه على هذا لأنه أمر مهم جدا، وسنعرج خلال دراستنا لكتاب الجنايات على بعض الشبهات؛ ومن هنا أحب أن أنبه على أن من منهجنا -إن شاء الله- الإلمام ببعض الأمور والثغرات التي تقع في بعض الأحكام، ونبين بعض الشبهات التي أثيرت أو تثار، وكيف يجاب عليها، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يلهمنا في ذلك الصواب والسداد، كما نسأله بعزته وقدرته وجلاله وعظمته أن يقطع دابر كل من أفسد وألحد، ونسأله بعزته وجلاله أن يخرص كل من تكلم على الإسلام وأهله، وأن يقطع دابره، وأن يشتت شمله، وأن يسلبه عافيته، وأن ينزل به رجسه وعذابه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله ومن أعظم ما تكون هذه المصائب إذا كانت على سبيل التهكم والاستهزاء، فليس هناك أعظم من الاستهزاء بالدين، ولذلك كان الأئمة والعلماء يقولون: لا يؤمن على المستهزئ أن تسوء خاتمته والعياذ بالله. وقل أن تجد إنسانا كثير الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بشرع الله عز وجل وأحكامه، والاستخفاف بها؛ إلا وجدته مستدرجا من الله عز وجل، فإن أهل الشرك وعبدة المسيح وغيرهم، يقول الله عز وجل لهم: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38] ، وأما الذين استهزءوا بقراء الصحابة، وتهكموا بأهل الخير والدين، فقال الله لهم: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة [التوبة:66] ، فجعل الله الأمر فيهم أشد، والعقوبة أسوأ، وسنة الله عز وجل معلومة ماضية، فلله عز وجل سطوات على الظالمين إذا نزلت بالظالم لم يفلت منه، وإذا حلت به نقمة الله عز وجل فعندها: (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227] . ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف عواقب الشر الوخيمة، وعواقب التعرض لدين الله وأولياء الله إلا إذا نظر في خواتم هؤلاء، ولا يمكن للإنسان أن يجد ذلك جليا ظاهرا إلا إذا قرأ التاريخ، ونظر إلى عظمة هذا الرب الذي: {أهلك عادا الأولى * وثمود فما أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى} [النجم:50 - 53] ، فمن قرأ عبر الزمان، واستفاد من التاريخ، يعلم أن أهل الشبهات وأهل التوهين دابرهم مقطوع، وكما أخبر الله عز وجل أن الباطل: {كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم:26] ، فهذه شهادة الله عز وجل الذي وصف نفسه بصفتين عظيمتين: العليم، والحكيم، فأخبر أن هذا الباطل وأن هذا الغثاء كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وكلما سمعت من الشبهات التي تدار على الإسلام، وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين التي تضاد شرع الله عز وجل، فاعلم أنه: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور:39] ، ولذلك جعل الله عز وجل أمرهم كالسراب، فهم في الأمر ينظرون كأنهم يجدون شيئا، فيستدرجون، كمن يرى السراب فيلهث وراءه، (يحسبه الظمآن) فوصفهم الله بأنهم ظمآنين، فالشخص الذي يرى السراب يلهث يريد الماء، (حتى إذا جاءه) أي: عندما تأتي نهايته، تأتيه قاصمة الظهر من جبار السماوات والأرض، (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) فيؤخذ بجريمته وجنايته شر أخذ من عزيز منتقم سبحانه وتعالى، ولا يحسب أحد أن الدين عبث، ولا يحسب أحد أن كلمة الله سبحانه وتعالى عبث، والحق يستمد قوته من ذاته، والله عز وجل ليس محتاجا إلى أحد أن يدافع عنه أو يقول عنه، فالله سبحانه وتعالى له عظمته وجبروته، وهو أعلم وأقدر، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فلا يحزن المؤمن. وأهم شيء ينبغي أن يعتمد عليه المسلم: ألا يحزن، ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه: {ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل:127] ، فلا تحزن أبدا؛ مهما سمعت فإن هذه أمور منتهية، والباطل له جذور قديمة، قطعت وبترت وأخذت أخذ عزيز مقتدر. لكن لا يكون هذا له أثر على القلب؛ لأنهم يريدون هذا، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء:76] ، فقال: (إن) وهو أسلوب التوكيد، وجاء بكلمة الكيد التي هي غاية المكر والعبث، وجاء بالاسم الظاهر (الشيطان) ؛ لأنه لا أخبث من الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يجد مسلكا إلا دخل منه، ولأنه هو الذي أمر وسول هذا وزينه، وأتى بـ (كان) التي تفيد الدوام والاستمرار. فالباطل والشبهات ضد الإسلام وبلاد المسلمين وأهل الإسلام مهما ترى لها من عجعجة وصخب ولغط، فإنها منتهية، مقطوع دابرها ودابر أرض أهلها، ودابر من أعانها وسول بها وقال بها، شاء أو أبى؛ إن عاجلا أو آجلا؛ لأنه أبدا لا يمكن أن يبقى. فلابد على المسلم أن يدرك أن الحق باق ما بقي الزمان، وتعاقب المنوان، وليعلم المسلم حقيقة أنه ليس هناك أصدق من التاريخ شاهدا على صدق الصادق، وكذب الكاذب، فإن هذه الشريعة حكمت العالم من المحيط إلى المحيط، ومع ذلك كانت العدالة الاجتماعية والسمو والرقي الاجتماعي في أبهى صوره، وأجمل حلله، وقادت العالم من المحيط إلى المحيط، وما كانت تقوده بالموازين المختلة، ولا كانت تقوده بالشعارات الطنانة، والكلمات المعسولة، والحقوق المكذوبة الملفقة، ما كانت تقوده إلا بالحق: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء:105] ، وحيثما حل قضاء الشرع، وحكم الشرع، لقد حكم العالم والأمم والشعوب على اختلاف ألوانها وأحسابها وأعرافها وتقاليدها، وإذا قرأت التاريخ تكاد تصاب بالوله من عظمة هذا الدين وجماله ماذا تريد بعد هذا كله؟! متى وقفت الشريعة أمام قضية من القضايا لم تفصل فيها؟! ومتى وقفت أمام مسألة من المسائل ففصلت فيها فخرج الخصمان غير راضين عن حكم الله عز وجل؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بشيء يكمل به نقصا يزعمه في دين الله وشرع الله عز وجل؟ إذا: عندنا حقائق واضحة تجعل المسلم كما قال الله عز وجل: {قل إني على بينة من ربي} [الأنعام:57] ، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما هو لكل مسلم علم الشريعة؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء. فالشريعة ليس فيها خلط، وليس فيها أهواء؛ بل إنها واضحة المعالم: {قل إني على بينة من ربي} [الأنعام:57] ، فهذا هو الحق الذي كان عليه الرسل والأنبياء، وسيبقى ما بقي المنوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز، أو بذل ذليل، فكلمة الله ماضية، وشرع الله عز وجل ماض، فلا يحزن الإنسان من هذا الكيد، ومن هذه الأراجيف، ومن هذا التوهين؛ بل عليه أن يزداد استمساكا بالحق؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} [الزخرف:43] ، وانظر إلى الأسلوب العربي؛ ففي أسلوب العرب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فما قال الله: فأمسك الذي أوحي إليك، وإنما قال: (فاستمسك) ، ومعناه: أن هناك أمورا تزلزل وتقلق وتزعج، فكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكا بالحق، وكلما جاء ران من الباطل وزيف من الباطل انكشف به بهاء الحق ونصوعه، كما قيل: إن الذهب كلما احتك ازداد لمعانا، وشرع الله أعز وأنفس وأطهر وأقدس من الذهب وغيره، لأنه نور من الله سبحانه وتعالى. أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه ثانيا: إذا رفع أهل الباطل عقيرتهم، كشف زيغهم وعوارهم، ولكن بقدر، فلا يضيع الوقت؛ بل يشتغل بأبناء المسلمين؛ توجيها، وتعليما، وتأصيلا على مدرسة الحق والهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة من بعده، ثم من بعد ذلك يزداد رسوخا بقراءة التاريخ، ومن هنا قالوا: من قرأ التاريخ ازداد عقلا إلى عقله، وحكمة إلى حكمته، ومن قرأ التاريخ كانت له عقول بدل عقل واحد؛ لأنه تظهر له سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، ولهذا لما قال الله عز وجل: {سنة الله التي قد خلت في عباده} [غافر:85] ، لما بين الله عز وجل أنها سننه، وبين أنها لا تتبدل: {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر:43] ، فأخبر أنها لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن كل من عرفها وكل من علم بها فسيكون على الحق الذي لا يتغير ولا يتحول. فليعلم طالب العلم، وليعلم كل إنسان متخصص في الفقه، أنه لا يمكن أن يكون طالب علم بحق إلا إذا كان عن قناعة تامة، واستفاد من العلم بالشريعة، ومن معرفة سنن الله عز وجل في خلقه من بقاء الحق، وبطلان الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضره كيد الكائدين: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) ، وهو سبحانه أعلى وأجل من هذا كله، وكما قلنا أن الإنسان لا يمنع أن يكون عنده إلمام بقدر. ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها وأنبه على أننا لا نمنع من رد الشبهات بقدر؛ فقد يقف طالب العلم موقفا واحدا يرد فيه شبهة؛ يرضى الله عنه رضى لا يسخط بعده أبدا، وقد يأتي إنسان يريد أن يلبس الحق بالباطل، فتقف في وجهه فتخرس لسانه، وتكتم بيانه، وتظهر عواره، وتكشف عيبه، فيكتب الله عز وجل بذلك لك من الأجر ما لم يخطر لك على بال. فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله شكر لك قولك: جاءت سكينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب) . فانظر: إن الله شكر لك؛ جبار السماوات والأرض يشكر لـ حسان بيتا من الشعر قاله، فجاءه الشكر من رب العالمين. فمن قال كلمات، فكشف للأمة بها عوار أهل العوار، وزيفهم، فهو على خير. ومن هنا أنبه أيضا على قضية: أن هناك أناسا فضلاء، وأناسا لهم جهود طيبة في كشف الباطل، والوقوف أمام أهل الزيغ والباطل، تذكر فتشكر، فينبغي أن نشد على أزرهم، ودائما نشعر أننا يكمل بعضنا بعضا، ولا ننظر إلى غيرنا بالنقص، فلن تستطيع أن تجد جمال هذا الإسلام وعظمته إلا إذا أحسست أن الذي يقف في خندقه -يذود وينافح عن الإسلام- أنه أخوك، وأنه ينفح عن الدين، وعن إسلامك؛ فتحبه، وتدعو له بالخير، وترجو له الخير، وما وجدت منه من نقص كملته، وما وجدت من عيب سترته، وحرصت على أن تكون معه، كما يكون الأخ مع أخيه، فإن هذا أمر مهم جدا، ونحن والله نحب أناسا تفرغوا للفكر والدعوة، وسطعوا بكلمات نتمنى أن نلقى الله بهذه الكلمات، وأناسا لهم ردود على الشبهات، وعلى أهل البدع والأهواء والشكوك والزيف، نتمنى أن نلقى الله بأقوالهم وأعمالهم. فلا يحتقر أحد مهمة أحد، إنما أردنا أن ننبه إلى أنه لا يشتغل بهذه الأشياء أكثر من اللازم، وأما من تصدى عن علم ودراية، وغار على الحق، وتفطر قلبه، وتمعر وجهه من أجل الحق، فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يكثر من أمثاله، وأن يثبت أهل الحق على الحق، وأن يسدد ألسنتهم، وأن يصوب آراءهم، وأن يجمع شملهم، وأن يجمع بين قلوبهم، وأن يصلح بينهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الأسئلة حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن النصوص واضحة في عدم جواز إلقاء الإنسان بنفسه في التهلكة، وتعاطي الأسباب التي تضر به، وتضر بغيره، ولذلك قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المخاطرة بالأنفس والأرواح. ومن أمثلة ذلك: أن يركب البحر-كما ذكروا في القديم- عند هيجانه، أو تكون السفينة التي يركبها، أو المركب الذي يركبه به عوار، ولا يؤمن غرقه، ونحو ذلك في زماننا، وقد كانوا في القديم ينهون عن السفر في الأراضي المسبعة -أي: ذات السباع- والأراضي التي فيها هوام، مثل الحيات والعقارب، فإذا نام فيها، أو -مثلا- نام في بطون الأودية بالليل، وتعاطى أسباب الإهمال؛ فهذه موجبة لمسئولية الآخرة، لكن القاضي لو اطلع على شخص فعل هذا الفعل فإنه يعزره. ومن هنا فإن الألعاب الخطيرة التي لا يؤمن معها إزهاق الأنفس محرمة شرعا، فإذا جاء مثلا يعبث بسيارته، أو يعبث بدراجته، أو يعبث بنفسه بألاعيب قد يدق بها عنقه، أو تنكسر بها رجله، واطلع القاضي على هذا؛ فإنه يعزره شرعا، وهذا معروف في الفقه الإسلامي: أن التلاعب بالأنفس بتعريض نفسه أو نفس غيره لهلاك، هذا فيه التعزير، فإن مات فإنه مسئول أمام الله عز وجل، وحينئذ تنتقل الحكومة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأن هذه الأخطاء من الجنايات، والأخطاء المتعلقة بالشخص نفسه لا ينتقل فيها إلى ورثته، ولا يتحمل ورثته شيئا، ولذلك يتحمل الإنسان فيها مسئولية نفسه، ويلقى الله عز وجل بتبعة ذلك. والله تعالى أعلم. متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك ... ) السؤال قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هل تكون بعد الانتهاء من الصلاة، أو عقب التشهد الأخير؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه اللفظة وهذا الذكر ثابت في حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! والله إني أحبك؛ فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . فقوله: (تقولهن دبر كل صلاة) . فيه وجهان للعلماء: فبعض أهل العلم يقول: دبر الشيء منه، وبناء على ذلك يقولها بعد انتهائه من التشهد في الأدعية التي تقال. وقال طائفة من أهل العلم: المراد دبر كل صلاة؛ أي: بعد أن تنتهي من الصلاة، فجعلها من مقول القول الذي يحكى، والصلاة في أصلها عمل، فجعلها تبعا للعمل، فجعلها من الجنسين: جنس المقابلة، أي: إذا صليت وفعلت الصلاة فقل، فجمع له بين عبادة القول والعمل، فقالوا: يقولها، ويكون مقصوده بدبر كل صلاة؛ أي: أنه يجعلها عقيب السلام، بعد الاستغفار وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) . وعلى كل حال: فالأشبه أنها تقال بعد السلام، وإن قالها داخل الصلاة يتأول قول من قال أنها من الصلاة؛ فلا بأس، لكن الأقوى والأشبه -كما ذكرنا- أنها تقال دبر الصلاة؛ أي: بعد الانتهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين دبر كل صلاة، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فقال: دبر كل صلاة، وهذه بالإجماع لا تقال داخل الصلاة، فدل على أنه من تنويع الطاعة، أي: بعد فراغك من عمل الصلاة. والله تعالى أعلم. حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف السؤال إذا غاب العامل عن العمل دون عذر، وقد أخبره صاحب العمل أنه إذا غاب فالجزاء خصم راتب يومين مقابل كل يوم، فهل يجوز لصاحب العمل هذا الفعل؟ الجواب لا يجوز إلا إذا أراد أن يأكل أموال الناس، ويظلم الناس حقوقهم -نسأل الله السلامة والعافية- يقول الله في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره) ، والوفاء: أن تعطيه أجرته تامة كاملة. وبناء على ذلك فإن نصوص الكتاب والسنة واضحة في تحريم هذا الأمر؛ لأننا إذا قلنا: إن العامل قد عمل شهرا إلا يوما واحدا، فجاء -بناء على غيابه في اليوم- وأنقص منه أجرة ذلك اليوم مضاعفا بيومين مثلا، فأخذ قط يومين عقوبة، ففي هذه الحالة لم يوفه أجره؛ لأن أجره أجرة تسعة وعشرين يوما، وهذا أعطاه أجرة ثمانية وعشرين يوما، وإذا قال: اليوم بثلاثة أيام؛ فقد أعطاه أجرة سبعة وعشرين يوما، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلم يوفه أجره) >فإن قال قائل: هذا من باب العقوبة بالمال. فنقول: في هذه الحال تصبح إجارة فيها شبهة الربا؛ لأنه قال: إذا عملت العمل فلك عشرة، وإذا ما عملته فسآخذ منك عشرين، وهذا أمر واضح جلي، فليس له مدخل، ثم هذا لا يملك أموال الناس حتى يعاقبه في ماله، فأموال الناس محترمة، وحقوق العامل تسعة وعشرين يوما، أن يعطى أجرة تسعة وعشرين يوما، وإذا ضيع من أجرته ساعة واحدة، بل دقيقة واحدة؛ فسيقف بين يدي الله ويسأله عنها، شاء أم أبى، فيسأل عن هذه الأجرة، فلابد وأن يوفيها تامة كاملة (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته) ، فدل على أنه باطل وظلم. وبعضهم يقول: إن هذا جائز ولا بأس به؛ وهو من باب التعزير بالمال، فنقول: التعزير يكون في مسائل خاصة، أما التعزير بالمال ففيه شبهة، وجمهور العلماء على تحريم التعزير بالأموال؛ لأن النصوص واضحة: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم) ، {ولا تأكلوا أموالكم بينكم} [البقرة:188] ، فكلهم يحرمون العقوبة بالمال، لكن على القول بجوازها: إنما ذلك لولي الأمر، والتعزير مسلك قضائي تشريعي خاص، ولا يتوسع فيه على مستوى الأفراد. فعلى مستوى الأفراد هناك معاملات وحقوق بين الشركة وبين العامل بين المؤسسة وبين العامل بين الأجير والمستأجر، وهذا الأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، لا يظلم ولا يظلم، فإن غاب يوما يخصم منه غياب يوم، وكان غاب يومين يخصم منه غياب يومين. وقد يقول: إنه متكاسل فلابد من تأديبه سبحان الله! انظر إلى نفسك متى صليت صلاة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام؟ كم تتخلف عن الصلاة؟ وكم يذهب عنك من حقوق الله عز وجل؟ ومع هذا تذهب وتدقق مع عباد الله والله ما شدد عبد على عباد الله إلا شدد الله عليه، ومن عامل الناس بهذه الأذية والإضرار؛ عامله الله بها في الدنيا والآخرة. ولذلك فإن من يدخل هذه المداخل يظلم الناس، ويجر على نفسه ويلات لا تحمد عقباها، فأوصي السائل، وأوصي من يعمل هذا العمل، وأوصي من يطلع على من يعمل هذا العمل؛ أن يحذره العقوبة من الله عز وجل، والعمال لهم حقوقهم، فإذا عملوا أيامهم فيجب إعطاؤهم أجورهم كاملة تامة بدون منة، وأما بالنسبة للعقوبة؛ فإذا أعجبك عمله وانضباطه أبقيته، وإذا لم يعجبك ولم يناسبك فابحث عن غيره، أما أن تتسلط على ماله، أو تتسلط على عرضه بالسب والشتم والتوبيخ، أو يكتب له خطابا يؤنبه ويؤذيه ويضره، فهذا مما ليس في شرع الله عز وجل، فلا يجوز هذا العمل، لا في الأمور الخاصة، ولا في الأمور العامة. والله تعالى أعلم. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب) السؤال نرجو منكم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب) ؟ الجواب هذا الحديث أسلوبه أسلوب تحذير، ومحقرات الذنوب: هي الذنوب الصغيرة التي يحتقرها الإنسان، فإذا فعلها واحتقرها ألفها، فلا تزال به حتى تتعاظم فتهلكه-نسأل الله السلامة والعافية- ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت) . فالإنسان ينظر إلى عظمة الله جل جلاله، ويستعظم كل ذنب في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدعوه إلى الإحسان، وإلى الندم، وإلى التوبة النصوح، وقد قالوا في الحكمة: إن الجبال من دقائق الحصى، فالجبل كما تراه هو من دقائق الحصى، وقد ترى الكوم من الرمال متناهي العظمة، ولكنه من ذرات يسيرة، فإذا أحاطت الخطيئة بالإنسان أوبقته-والعياذ بالله- وأهلكته. والله تعالى أعلم. حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة السؤال هل الزيادة في عمر الزوجة عما أخبر به الزوج تعد عيبا من عيوب النكاح؟ الجواب هذا غش، فإذا كان عمرها أربعين أو خمسين أو ستين، فتأتي تقول: إن عمرها ثلاثون سنة، أو خمس وعشرون سنة، فإن هذا غش بلا شك، فإذا كانت كبيرة السن ولم تخبر بالحقيقة فقد غشك. والمرأة قد تخاف من كبر السن، ولذلك يقولون في الحكمة: إذا اختصم النساء فاعلم أنهن في السن يختصمن. وعلى كل حال: لا يجوز الإخبار بسن -لا من الرجل ولا من المرأة- خلاف الحقيقة؛ بل المنبغي أن يكون هناك صدق؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة:119] . أما بالنسبة للحكم الشرعي: فهذا يرجع فيه إلى القضاء، والعيب المؤثر عند العلماء: هو الذي يؤثر في الجماع، ويؤثر في الحياة الزوجية، سواء من الرجل أو المرأة؛ لأن السؤال: هل هذا عيب يعطي الخيار للمرأة، أو الرجل هذا فيه نظر: فإذا كان سنه يؤثر على حياة المرأة، ويضر بها، ويؤثر على حقها في العشرة الزوجية؛ فنعم، ولذلك نرد هذا إلى القاضي، لكن الأصل في السن أنه لا يؤثر، فقد تجد الرجل مثلا وعمره أربعون سنة، ويخبر أن عمره مثلا خمسا أو ثمانيا وثلاثين، فالفارق يسير، فلا يكون نقصا يوجب الخيار، بل قد يكون عمره خمسين سنة، فيقال: إن عمره مثلا ثلاثون سنة، ولكن تكون فيه قوة الشباب، ويعطي المرأة حقها، ولا يضر بشيء من حقوقها، فالعقد قائم ولا يؤثر ذلك عليه، مادام أنه يقوم ويؤدي حقوق الزوجية. فهذا ليس عيبا يؤثر في النكاح؛ بحيث أنه يوجب الخيار، والأصل -كما تقدم معنا في النكاح- أن العيوب المؤثرة مثل: عيوب الفرج التي تمنع من الاستمتاع، أو تمنع من الجماع أصلا كالعنين والمجبوب، فهذه كلها عيوب مؤثرة، أما بالنسبة للسن فإنه ليس بمؤثر على كل حال. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (489) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [2] ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: قتل عمد، وقتل خطأ، وقتل شبه عمد، ولكل قسم شروطه وضوابطه، فيشترط في قتل العمد أن يكون القاتل قاصدا قتل آدمي معصوم الدم، وأن يقتل بما يغلب على الظن موته به، فإذا توفرت هذه الشروط وجب القصاص إلا أن يعفو ولي الدم. أقسام القتل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد] . تقدم معنا تعريف الجناية، وأن مراد العلماء رحمهم الله بها: الاعتداء على النفس والبدن، سواء كان ذلك بالإزهاق، أو بإتلاف الأعضاء وجرح البدن. القتل العمد يقول رحمه الله: (وهي عمد يختص القود بشرط القصد) . الضمير عائد إلى الجنايات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون الجناية عمدا، وإما أن تكون الجناية خطأ، وإما أن تكون شبه عمد. وقد بينا أن هذا التقسيم الذي ذكره العلماء رحمهم الله هو أصح مذاهب العلماء في المسألة، وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو قضاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وأئمة التابعين، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة. قال رحمه الله: (وهي عمد) . يقال: عمد إلى الشيء إذا قصده، ولا يكون العمد عمدا إلا إذا وجد فيه القصد، وهذا النوع من الجناية هو أعظم أنواع الجناية وأشدها. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم قتل النفس المحرمة؛ لدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، فبين أن المؤمن لا يقتل أخاه المؤمن عمدا {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93] ، فهذه أربع عقوبات، كل واحدة منها من الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) ، فالأصل أن المؤمن لا يتعمد قتل أخيه المؤمن، ولكن إذا تعمد وقتله عمدا وعدوانا فإنه قد غضب الله عليه ولعنه، وجعل جهنم جزاءه وساءت مصيرا، وأعد له العذاب العظيم فيها، وهذا من أشد ما يكون؛ فإن الله عز وجل إذا رتب العقوبة مكررة على الشيء دل على عظمه. وقال سبحانه وتعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، قال بعض العلماء: (أنفسكم) أي: إخوانكم؛ لأن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، ولذلك قال: {فسلموا على أنفسكم} [النور:61] ، قيل: على إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد؛ ولأنه إذا قتل أخاه المسلم فقد قتل النفس المؤمنة، فلا يتورع عن قتل أي نفس مؤمنة أخرى. وقال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فحرم الله قتل النفس المحرمة ونهى عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم كما هو معلوم. وكذلك جاءت نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين حرمة قتل المسلم بدون حق، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات) والموبقات هي التي تهلك أصحابها -والعياذ بالله- وهي جمع موبقة، ترهنه حتى تأتي عليه وتهلكه والعياذ بالله، وذكر منها: (الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، فقتل النفس التي حرم الله بغير حق من الموبقات المهلكات، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) . أي: لا يزال في فسحة ورحمة ما لم يقع في الدم المحرم -والعياذ بالله- لأنه موبق ومهلك لصاحبه. وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اقتص من القاتل، كما في حديث اليهودي الذي قتل الأنصارية. والإجماع منعقد على تحريم القتل، وأنه من عظيم الذنب وشديد الذنب بعد الشرك بالله عز وجل، ولذلك جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه بعض أصحاب السنن: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن) ، أي: بدون حق، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وقف على الكعبة فقال: (إنك عند الله بمكان -أي: محرمة معظمة- وإن دم المسلم أعظم عند الله منك) ، أي: أن دم المسلم المحرم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا ومن الكعبة ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم القتل بدون حق، وأنه من الإفساد في الأرض، وما من أمة ينتشر بينها القتل إلا أصابها البلاء العظيم. ولذلك إذا أراد الله بقوم شر وبلاء وفتنة جعل بأسهم بينهم -والعياذ بالله- فقتل بعضهم بعضا وتسلط بعضهم على دماء بعض. فالقتل العمد مجمع على تحريمه، إلا إذا وجد السبب الموجب للقتل، وأذن الله في القتل وأحل دم المقتول بالدلائل الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وجوب القصاص في القتل العمد وقوله: (يختص القود به) أي: القصاص، يقال: قاد فلان من فلان إذا اقتص منه، والأصل أن قتل العمد هو النوع الوحيد الذي يوجب لأولياء المقتول المطالبة بدم القاتل. فإذا توفرت شروط القتل بكونه قتل عمد وعدوان، فإنه يمكن أولياء المقتول من القود من القاتل. كما قال تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء:33] ، وهذا السلطان هو سلطان الحق الذي بينه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لولي المقتول: أما أن تأخذ بحقك فنقتل من قتل وليك، أو تعفو وتكون لك الدية، أو تعفو عن القصاص والدية. وهذا الأمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، وهو أن قتل العمد هو وحده الذي يوجب القصاص، وأن ما عداه -وهو قتل الخطأ وقتل شبه العمد- لا يوجب قصاصا ويوجب الدية، ويخير الولي بين الدية وبين العفو، إن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا. ولذلك قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178] . وقد كان في شرع من قبلنا أن القاتل يقتل، كما في شريعة اليهود، ولا عفو ولا دية، فخفف هذا الحكم ووضع هذا الإصر الذي كان على اليهود في شريعة عيسى عليه السلام، فقيل لأولياء المقتول: إما أن تقتلوا قصاصا، وإما أن تأخذوا الدية، وجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالتخفيف والرحمة، فخير بين هذه الثلاثة الأشياء: القتل الذي هو القصاص، أو أخذ الدية، أو العفو بدون قتل ولا قصاص. فالشاهد: أن العمد يختص به القود، وقد دل على هذا القود دليل الكتاب كما ذكرنا من الآيات: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] ، وكذلك دل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، وقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، والقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه. وقد دل على ذلك دليل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما يودى) . فقول: (إما أن يقاد) أي: يمكن من القود والقصاص، (وإما أن يودى) أي: يعطى الدية؛ فهو بخير النظرين، إن شاء هذا، وإن شاء هذا. أما لو أسقط حقه وعفا فله ذلك. إذا: قوله: (يختص القود به) محل إجماع، أنه لا قود ولا قصاص في قتل الخطأ، فلو أن شخصا خرج إلى البر للصيد فرمى حيوانا، فسقط رجل بينه وبين الحيوان فقتله، فبالإجماع أنه لا يقتل به؛ لأن الخطأ لا يوجب القود، وكذلك أيضا شبه العمد لا يوجب القود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص في شبه العمد، فقد جاء في الصحيحين: (أنه اقتتلت امرأتان من هذيل) أي: اختصمتا وحصل بينهما شجار وقتال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على العاقلة) ، أي: على عاقلة المرأة، مع أنها وقعت في حالة الخصومة والشجار؛ لكنه ليس هو بقتل عمد، وإنما هو قتل شبه العمد. وهذا يدل على أنه لا يوجب القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به. فلا قتل الخطأ ولا قتل شبه العمد يوجب قصاصا، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وهي عمد ويختص القود به) أي فلا قصاص إلا في قتل العمد والعدوان. وقوله: (بشرط القصد) أي: بشرط وجود قصد القتل، فلابد أن يقصد القاتل وأن تكون عنده نية للقتل، وأن يقصد قتل المقتول ولا يقصد قتل غيره، فإذا قصد القتل، والمقتول الذي قصده معصوم الدم، وتوفرت فيه الشروط المعتبرة؛ فإنه يجب القصاص. إذا: لا يمكن أن يحكم بكون الإنسان قاتل عمد ويوجب القصاص عليه إلا إذا وجدت عنده نية للقتل -الذي يسمونه القصد- والأمر الثاني: أن يقتل بشيء يزهق، كما سيأتي -إن شاء الله- في شروطه وأن يكون قاصدا قتل المقتول نفسه، فيقول: أردت قتل فلان، والعياذ بالله! القتل شبه العمد قال رحمه الله: [وشبه عمد] . شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء: شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد. فهذه كلها من أسماء شبه العمد. وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد. ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها) ، وهذا الحديث فيه فوائد: أولا: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد) ، فأثبت قسما ثالثا وسيطا بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد. ثانيا: أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد) ، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) ، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع. وستأتينا ضوابط شبه العمد. ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالا لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر) ، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها. إذا: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسما ثالثا، وهو شبه العمد. ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جدا بحيث أنها تقتل غالبا فلا إشكال. وكذلك أيضا أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد. فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالبا، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب. فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالبا، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالبا، لكن الموضع يقتل غالبا، فهو من العمد. وكذلك أيضا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالبا، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضا. فإذا كان الحجر يقتل غالبا، فإنه حينئذ قتل عمد. لكنه إذا كان حجرا لا يقتل مثله غالبا والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصا، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه. قتل الخطأ قال رحمه الله: [وخطأ] . هذا هو القسم الثالث من أقسام القتل، والخطأ: ضد الصواب، وأخطأ في الشيء إذا لم يصبه، والمراد هنا: أنه لا يقصد القتل ولا يريده، وهو يقع على صور منها: أن يرمي شيئا يظنه صيدا فيصيب آدميا ويقتله، وهو معصوم الدم، أو -مثلا- يأتي بقصد الإحسان، كالطبيب يريد أن يعالج، فيهمل في بعض الأشياء بدون قصد للقتل، فيحصل به إزهاق النفس وموت المريض ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه. فهذه الثلاثة الأقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ. أجمع العلماء رحمهم الله على أن القتل يكون عمدا ويكون خطأ، والخلاف فقط في شبه العمد هل هو قسم أو لا؟ وهناك نوع رابع يسميه بعض العلماء: (جاري مجرى الخطأ) ، وقد نتعرض له إن شاء الله في أقسام الخطأ. ضوابط وشروط قتل العمد قال رحمه الله: [فالعمد أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به] . بعد أن بين المصنف أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، سيضع ضابطا لكل قسم منها، ثم بعد ذلك سيتحدث عن الصور التي يحكم فيها بقتل العمد، والصور التي يحكم فيها بقتل شبه العمد، والأمثلة أيضا والصور على قتل الخطأ، حتى يستطيع الفقيه وطالب العلم أن يميز بين هذه الثلاثة الأقسام. فشرع رحمه الله في ضابط قتل العمد. القصد قال رحمه الله: (أن يقصد) هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون قاصدا للقتل -والعياذ بالله- بمعنى: أن يقتل ويزهق النفس المحرمة بنية، وإذا تخلفت النية فليس بعمد، ولذلك قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] ، فجعل قصد القلب للشيء عمدا، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن يحكم بقتل العمد إلا إذا وجد قصد ونية للقتل. إذا: الشرط الأول أن تكون عنده نية، فلو أنه رمى ولم يقصد القتل، كأن يرمي صيدا وهو لا يقصد القتل، ومثل المعلم يعذب طالبا ثم يموت الطالب، فهذا علم يقصد القتل وإنما قصد التأديب، فإذا أردنا أن نحكم بالعمد فلا بد من وجود نية للقتل. أن يعلم كونه آدميا معصوم الدم ثانيا: أن يعلم كونه آدميا، فلو أنه رأى شيئا فظن أنه حيوان أو ظبي أو وعل -كأن يكون في البر- فرماه فوجد أنه آدمي، أو رأى شخصا نائما فظنه حيوانا -صيدا- فقتله، أو ظنه سبعا مفترسا فقتله، فإنه لم يقصد آدميا معصوم الدم، ولم يرد قتل الآدمي، وإنما أراد قتل السبع ليدافع عن نفسه، أو أراد قتل حيوان صيدا. إذا يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدميا، فخرج قتل الحيوان، فإذا قتل حيوانا فلا يوجب القصاص. وخرج بقوله: (معصوما) غير معصوم الدم، كأن يكون حربيا، ففي الجهاد إذا قتل المسلم الكافر فإنه قتل غير معصوم، فلا يوجب هذا القتل قصاصا عليه. إذا: الشرط الأول: القصد للقتل. والشرط الثاني: أن يكون المقصود والمقتول معصوم الدم، فخرج غير معصوم الدم. ومن هنا فلو صال على الإنسان شخص يريد أن ينتهك عرضه، أو يريد أن يقتله، فجاء ودفعه وعلم أو غلب على ظنه أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله أو يؤذي عرضه، ولا مناص من الخروج من هذا البلاء إلا بقتله فقتله -كما سيأتينا في دفع الصائل- فإنه لا يعتبر قتل عمد وعدوان؛ لأن هذا الصائل أسقط حرمته بالاعتداء على أعراض الناس؛ لأنه أصبح غير معصوم بهذا الاعتداء، فإذا أراد شخص أن يقتل شخصا فجاءه وشهر السلاح عليه, فهذا الذي شهر عليه السلاح مظلوم، فأراد أن يدفع عن نفسه فرفع السلاح وعلم أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله، فإنه قد قتل غير المعصوم، فخرج الحربي وخرج الصائل لعدم عصمة دمهما. إزهاق الروح الشرط الثالث: أن يقع القتل وأن يحصل، فلو أنه نوى وقصد المعصوم ولم يحصل القتل؛ فلا يجب القصاص. مثلا: لو جاء رجل وهجم على شخص يريد أن يقتله عمدا وعدوانا، وكان يعلم أن هذا الشخص معصوم الدم وأنه محرم النفس، فرماه بسلاحه فكسر رجله، فهو يقصد القتل والمعصوم، ولكن لم يقع القتل، فلا قصاص بالقتل، وإنما يقتص منه بمثل ما آذاه، والجروح قصاص، وينظر في الجرح هل مثله يمكن القصاص به أو لا؟ وسيأتينا في قصاص الجرح. إذا: يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدميا معصوم الدم، وأن يقع القتل. أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به الشرط الرابع: أن يكون هذا القتل بواسطة، وهي الآلة أو الوسيلة أو السببية المفضية للهلاك، كما سيأتي -إن شاء الله- في ضوابط قتل العمد، فقتل العمد ينقسم إلى قسمين -سنبينهما إن شاء الله-: المباشرة والسببية. فإذا قصد، وكان المقصود آدميا معصوم الدم، وحصل القتل، فإنه ينبغي أن يكون القتل، فإنه بآلة يغلب على ظننا أنه يقتل مثلها، فتكون الآلة جارحة، مثل السكاكين والسيوف كما سيأتينا إن شاء الله، وسنذكر ضوابط الآلات المؤثرة. إذا: هذه الأمور لا بد من توفرها للحكم بكون القتل قتل عمد، فلو كانت الآلة التي استخدمها لا تقتل غالبا، مثل العصا الصغيرة ضربه بها في غير مقتل ومات الشخص، فهو هنا قد قصد القتل، والشخص المقصود معصوم الدم، وحصل القتل والآلة لا تقتل غالبا، فيقولون: الأشبه أنه وافق القدر فمات؛ لأن الغالب أنه لم يمت بسبب الآلة. وبناء على ذلك لا بد أن تكون الآلة قاتلة، أي: يغلب على الظن أن تكون الآلة قاتلة كما سنذكر إن شاء الله. هذا بالنسبة لقتل العمد، فلا يحكم بقتل العمد إلا عند وجود هذه الشروط وهذه الصفات المعتبرة للحكم بوصف القتل أنه قتل عمد. القتل بالمباشرة والسببية قال رحمه الله: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن] . الآن سندخل في تفصيلات تحتاج إلى شيء من التركيز، وقبل أن ندخل فيها سنقدم بمقدمة نرجو من الله أن ييسر على طالب العلم فهم هذه الأمور، فنقول: إن قتل العمد إذا حصل فإما أن يكون بالمباشرة وإما أن يكون بالسببية. والقتل المباشر: هو أن يباشر القاتل إزهاق النفس والروح، فيأتي تلف النفس من مباشرته لا بواسطته؛ كما لو أخذ السكين وطعن بها في مقتل، فقد باشر القتل، والقتل مسند إليه؛ لأن الفعل والآلة تحت تحكمه وفعله، فحينئذ هو القاتل، ويقال: قتل مباشرة. وفي زماننا كما لو أخذ المسدس وأطلق العيار الناري على الشخص فأصابه وأرداه قتيلا، فحينئذ باشر القتل؛ لأن الفعل بإطلاق المسدس جاء من فعله هو، والإزهاق للروح والتلف حصل بفعله لا بواسطة أخرى؛ لأن الآلة لا يمكن أن تقتل إلا إذا حركت، والسلاح لا يمكن أن يزهق إلا إذا حرك، ومن هنا يقال: إنه مباشر. فائدة لطيفة: حينما يقال في التصوير الفوتغرافي: إن الآلة هي التي باشرت، هذا غير صحيح، وهو من القوادح التي تقدح فيها؛ لأن ضوابط العلماء كما قالوا: إن الآلة نفسها إذا كانت لا تتحرك إلا بفعل فاعل لم يسند إليها الحكم، ومن هنا حكم العلماء بأنه لا يمكن للسلاح نفسه -المسدس- أن يعمل إلا إذا حركه الشخص، فإذا حرك الآلة وكان القتل ناشئا عما نتج عن التحريك الذي حصل بسبب القاتل، فهذا قتل مباشرة. النوع الثاني: قتل السببية: وهو ألا يكون هو القاتل المباشر، ولكن يتسبب في القتل فيكون القتل بشيء آخر، كأن يباشر القاتل إلى شيء يكون سببا في القتل، مثال ذلك: أن يأخذ حية فيمسكها ثم يلقيها على إنسان فتكون سببا لوفاته، فالقتل لم يحصل بفعل القاتل نفسه، وإنما الحركة والنهش والسم وقع من الحية -أعاذنا الله وإياكم منها- إذا القتل مباشرة من الحية، والسببية بحمل الحية وإنهاشها وتقريبها من الشخص القاتل. وكذلك أيضا أن يأخذه ويدفعه إلى قفص فيه أسد، أو إلى موضع لا مفر فيه، كغرفة محكمة مغلقة، فيفتح بابها ويدخله داخلها مع أسد أو نمر أو سبع مفترس، أو في فرامة لحم، لكنه ألجأه للدخول حتى فرمته وقضت عليه، فافتراس السبع هو الذي قتل، والموت نشأ من افتراس السبع وهجوم السبع على المقتول، فالحيوان والسبع هو الذي باشر القتل، والشخص الذي أدخل المقتول لم يقتل، إنما تسبب في قتله، وهذا يسمى: قتل السببية. وكذلك أيضا لو أنه ربطه ثم رماه في بركة عميقة، أو علم أنه لا يحسن السباحة فرماه في بركة عميقة، فسقط فمات فيها، فإن الموت حصل بالغرق، وزهوق النفس -خروج الروح والهلاك- حصل بقدرة الله عز وجل، فالذي قتله هو الماء، ولكن من الذي ألقاه في الماء؟ ومن الذي أوقعه فيه؟ ذلك القاتل. فهذا يسمى: قتل السببية، فإن المباشرة ليست من القاتل ولكنها من طرف ثان. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
اجتماع السببية والمباشرة في القتل إذا: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد. وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلانا وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة المباشرة بالنسبة للمكره الذي هدد، والسببية بالنسبة للمكره الذي دفع وأمر. فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر. فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلا مدركا، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلانا فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرها؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره. والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكره والمكره، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى. الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنونا، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر. إذا: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة. والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلا إلا إذا باشر. ومعناه: أنه سيفعل بآلة أو بوسيلة. القتل بالمحدد قال العلماء: والآلة التي باشر القتل بها إما أن تكون محددة وإما أن تكون غير محددة، والمحددة مثل السكاكين والسيوف والزجاج، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على الحديد المسنن والخشب المسنن، وهو الذي ضبطه المصنف رحمة الله بقوله: (أن يجرحه بما له مور) أي: نفاذ، والنفاذ يكون بقطع الجلد والجرح، ولابد من هاتين الصفتين: قطع الجلد والجرج، فإن قطع الجلد ولم يجرح فلا تكون هذه الآلة مما له مور. وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) ، هذا الذي يجرح يستوي أن يكون من الحديد وغير الحديد. والحديد -كما ذكرنا- مثل السيوف والسكاكين والخناجر والحديد المزجج والمسنن، ومثل رءوس الرماح والأسنة، وكذلك أيضا في زماننا المفكات التي يطعن بها أحيانا، فهي نافذة تدخل إلى جوف البدن وتجرح وتنفذ. فهذا الجارح إما أن يكون من الحديد أو أن يكون من غير الحديد؛ كالخشب المحدد المسنن الذي يفعل كفعل الحديد الذي ينفذ في البدن، ومثل الزجاج الذي يجرح وينفذ في البدن، ومثل النحاس والرصاص والنيكل وغيرها، إذا سنن فإنه يجرح وينفذ إلى داخل البدن. وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) هذا الذي يجرح له صورتان: الصورة الأولى: أن يجرح وينفذ في البدن ولا يخترق البدن حتى يخرج من الجهة الأخرى. الصورةالثانية: أن ينفذ في البدن ويخرج، أي: يجرح من جهة ثم ينطلق ويخرج من الجهة الثانية. مثال الصورة الأولى: أن يطعنه بسكين في بطنه ولا تخرج من ظهره، فهذا جارح لم ينفذ، أي: لم يخرج إلى خارج البدن. ومثال الصورة الثانية: أن يطعنه بسيف ويخرج من ظهره، فهذا جرح دخل في البدن ونفذ. فيستوي في الجارح هذا أن يكون نافذا -أي: يخرج- أو أن يكون غير نافذ، وغير النافذ سواء استقر كالرصاصة التي تدخل وتستقر في البدن، أو لم يستقر مثل أن يطعنه بسكينة ونحوها ثم يخرجها. فهذا الذي له مور ونفاذ في البدن القتل به عمدا موجب للقصاص. فلو طعنه بسكين أو بسيف، وفي زماننا كالطلق الناري، فإن الطلق الناري بالرصاص يدخل في البدن وينفذ، وقد يدخل في البدن ولا ينفذ، ولكنه يجرح وله مور في البدن، فسواء استقر في البدن أو خرج فهذا جارح وقاتل. قال رحمه الله: (أن يجرحه بما له مور) . هذا الجارح الذي له مور في البدن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب القصاص والقود وهو قتل عمد. القسم الثاني: لا يوجب القصاص والقود وهو الذي ليس بقتل عمد، وفيه تفصيل. والقسم الذي يوجب القصاص والقود شرطه أن تكون الآلة قوية تجرح مثلها وتنفذ، وذلك -كما ذكرنا- مثل: السكاكين والسيوف والرماح والرصاص، والقسم الثاني: أن يكون صغيرا مثل الإبرة، فلو أنها غرزت في الإنسان فإنها تجرح، ولها مور في البدن، لكن هل كل طعن بإبرة يوجب القصاص؟ الجواب هذا الجارح الصغير -كالإبرة والمسلة ونحوها- يفصل فيه، فإن كان على صورة تقتل غالبا فعمد، وإن كان على صورة لا تقتل غالبا فليس بعمد. مثال الصورة التي تقتل غالبا: أن يطعنه بالإبرة في مقتل، فيغرز الإبرة في مقتل، كجهة قلبه أو جهة جوفه، فنفذت ومات من ساعته، فإن هذا عمد يوجب القود والقصاص. ومثال الصورة الثانية: أن يغرزها في غير مقتل ومن أمثلة الصورة الأولى -وهي أن يغرزها في مقتل-: كأن يضرب بها شيخا كبيرا لا يتحمل، فهي وإن كان مثلها صغيرا، ولكن المضروب بها مثله لا يتحمل هذا، وكذلك المريض الساقط بمرضه -الذي بمجرد أن يضرب يموت- قالوا: إن الغالب موته بهذا الضرب، وحينئذ الآلة صغيرة، لكن وجد في الشخص وصف يقتضي صيرورة القتل عمدا؛ لأنه يعلم أن مثل هذا لا يتحمل، والشيخ الكبير لا يحتاج أن يوضع له علامة، فهو واضح الأمر أن مثله بأقل شيء يموت، فغرز مثل ذلك في شاب قوي جلد، ليس كغرزها في شيخ كبير أو مريض، أو غرزها في إنسان قوي لكن في مقتل. إذا: فصل العلماء رحمهم الله والأئمة في المحدد بين أن يكون جارحا يزهق غالبا مثل السكاكين ونحوها، وبين أن يكون جارحا لا يزهق غالبا. ففرقوا فيه بين الشخص الذي يتحمل، والشخص الذي لا يتحمل، والمطعن غير القاتل والمطعن القاتل. القتل بالمثقل قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه] . هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل. والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجرا كبيرا ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلا غالبا، وتارة لا يكون مثله يقتل غالبا. ففرقنا بتفريق النقل والعقل. والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهوديا كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين) ، كما فعل بالجارية. ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافا للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد. فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها) ، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدرا. ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر) ، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصا وعمدا. ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل. والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيرا، وأما إذا كان صغيرا فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيرا وضربه في مقتل قتل به وصار قودا، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلا: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالبا أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيرا فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيرا في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفا لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير. ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثا فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد. والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيرا يقتل غالبا مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصا، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص. وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكما فيه مثل الحجر. والصورة الثانية: أن يكون مثقلا يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالسا تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالبا، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص. صور القتل بالسببية قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطا] . وذلك كما ذكرنا، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله! فقد بدأ المصنف بالمحدد ثم غير المحدد، وغير المحدد قسمه إلى قسمين، فلم يأت بالحائط قبل الحجر، مع أن الحائط أكبر من الحجر، ولكن الحجر في المباشرة والتحكم أسبق من الحائط، ولذلك القتل به أقوى من القتل بالحائط، وأغلب وقوعا بين الناس من الحائط، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله وترتيبهم للأفكار، ومراعاتهم للتسلسل المنطقي فيها. قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق] . هنا بدأ المصنف بالقتل بالسببية، وصورته: كأن يلقيه من شاهق، فإن هذا يسمى: الإلقاء في المهلكة، وهو أن يلقيه من شاهق؛ كجبل أو عمارة كبيرة -كما في زماننا- أو طيارة في الجو وغيرها، أو يلقيه على سبع، أو يلقيه على زريبة، أو يلقيه في بحر لجي، أو يلقيه في بركة، أو يلقيه في مكان به أسد قاتل. فهذه كلها من القتل بالسببية، ويحتاج إلى ضوابط إن شاء الله سنتعرض لها ونبينها في المجلس القادم. الأسئلة إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة السؤال العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح. عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟ الجواب من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص. فمثلا: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيما ثالثا، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} [النساء:93] ، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسما ثالثا. الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض. وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأت بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين. ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالبا، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضا الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضا عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة. والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولا: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانيا: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها) ، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصا قتل شخصا عمدا -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد. والله تعالى أعلم. حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل السؤال إذا كان القتل قتل عمد ولكن القاتل ادعى خلاف ذلك، وقال: لم أقصد قتله، وذكر أمرا خلاف القصد، فما الحكم؟ الجواب قتل العمد فيه إقرار من القاتل وفيه دلالة ظاهر. فمثلا: شخص أخذ المسدس وجاء ووضعه في رأس المقتول وضربه وقال: أنا لم أقصد أن أقتله، فهل يصدق في هذا؟ وهذا يسمى دلالة الظاهر، ويحتاج طالب العلم دائما أن يفقه في المسائل الشرعية دلالة الظاهر، ومنها: مسألة التبديع عند بعض العلماء، فعندما يداوم الشخص على شيء ويقول: أنا ما قصدت أغير شرع الله، فيقال له: مداومتك، الذي هو دلالة الظاهر، هذه المداومة كما تدل على أنك تقصد وتعتقد في هذا الشيء، لكن هذه الدلالة لا يحكم بها كل أحد، وإنما يحكم بها العلماء الراسخون الذين يستطيعون أن يعرفوا متى يحكم بالظاهر ويلغى القصد؟ ومتى يلغى الظاهر ويلتفت إلى القصد؟ ومتى يلزم الأمران اجتماع الظاهر والباطن؟ وهذه من أدق المسائل ومن أعوصها عند أهل العلم رحمة الله عليهم. وهنا في هذه المسألة: إذا كان الظاهر ودلائل أخرى دلت على أنه يريد قتل العمد والعدوان، كأن يكون سبق منه التهديد بالكلام، كشخص جاء وقال له: أنا سوف أقتلك، وجاء وضربه بشيء غالبا يقتل، أو جاء ووضع الحبل على رقبته وخنقه، ثم قال: أنا ما قصدت قتله، فنقول: هذا الشيء مثله يقتل غالبا، وكونك تقول: ما قصدت قتله، هذا لا نقبله منك؛ لأن دلالة الظاهر واضحة على أنك تريد قتله وإزهاق روحه. وكأن يصب أحدهم الوقود على آخر ويشعل فيه النار، ثم يقول: أنا ما قصدت قتله، بل قصدت فقط تعذيبه، فلا يقبل هذا، ولو فتح هذا الباب لذهبت دماء الناس بحجة عدم قصد القتل، فالشريعة لا تلتفت إلى مثل هذه المواقف، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: أن يجرحه بما له مور. فدلالة الظاهر ودلالة الأحوال معتبرة، وقتل العمد لا بد فيه من النظر في هذه الأمور، وليس هناك شرع أدق من شريعة الله عز وجل وحكم الشريعة الإسلامية في ضبط الأمور، ولن تجد أحكم ولا أسلم من هذه الضوابط المستنبطة من أصول الشريعة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت القوانين الوضعية وما يسمونها بالتشريعات والنظم المعاصرة والسابقة عاجزة أمام هذه العظمة التي جعلها الله عز وجل كمالا وجمالا وجلالا لشرعه، الذي أخبر في محكم تنزيله أنه تمت كلماته فيه صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، والله تعالى أعلم. الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي السؤال أشكل علي التفريق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي؟ الجواب أهل الذمة: هم أهل الكتاب، وتختص الذمة بهم، وهم الذين لهم أصل من دين سماوي، فلا تكون الذمة للمشركين، ولا تكون للوثنيين، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من الكفار نظرا لأن لهم أصلا من دين سماوي، إذا فتح المسلمون بلادهم خيروهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويقرون على ما هم عليه، ويبقون في ديارهم تحت حكم المسلمين وأمانهم، فإذا اختاروا الإسلام فلا إشكال، وصارت الدار دار إسلام، وإذا اختاروا دفع الجزية وأن يكونوا تحت حكم المسلمين وأمانهم فهم أهل ذمة، لهم ذمة الله ورسوله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) ، كما في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه، فهذه الذمة لا تنقض عهدا لأحد، وقد تقدمت معنا في مسائل أحكام أهل الذمة، وبينا أحكام الشرع ونصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في معاملة أهل الذمة. وأما النوع الثاني: وهم المستأمنون، فالمستأمن هو الحربي الكافر الذي جاء وعنده رسالة ويريد أن يدخل بلاد المسلمين لغرض معين بإذن من ولي أمر المسلمين، أو أراد أثناء الحرب أن يدخل موضعا بإذن من المسلمين، وأذنوا له بالدخول، فإن هذا مستأمن، وذلك مثل الرسل التي كانت تأتي أيام قتال الصحابة رضوان الله عليهم للروم والفرس، فقد كانت تأتي رسل الفرس فيؤمنون حتى يصلوا إلى المسلمين ويروا ماذا عندهم، فهؤلاء مستأمنون، والأمان يكون في حدود ضيقة ولأشخاص محدودين، وقد يكون الشخص مستأمنا وتقام عليه الحجة فيسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فنبلغه مأمنه، فيرد إلى الموضع الذي يكون فيه آمنا ثم ينتهي أمان المسلمين. والذمي لا تخفر -تنقض- ذمته إلا إذا نقض العهد، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع بني النظير وبني قينقاع، وكذلك أيضا بنو قريظة لما أخلفوا وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبنو قريظة في يوم الخندق، وبنو النظير في حادثة الحضرمي. الشاهد: أن المستأمن والذمي لها أمان الله ورسوله، فلا يجوز الاعتداء عليهما؛ لأن لهما حقا وحرمة، والأصل يقتضي أنهم يعاملون معاملة شرعية مخصوصة ومحددة، فمثلا: المستأمن تقام عليه الحجة فيسمع كلام الله عز وجل، قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6] ، فجعل له أمان الله وأمان رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها ضوابط وأحوال مختلفة تختلف بحسب الظروف، فتارة تكون لطائفة وجماعة وأمة، كأن تدخل مدينة كاملة في أمان امرأة من المسلمين فيجب تأمينها، فقد جاءت أم هانئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه عليا رضي الله عنه أنه يريد أن يقتل ابن عم لها -في يوم الفتح- والنبي صلى الله عليه وسلم يغتسل، (فقال: من؟ قالت: أم هانئ، فقال: مرحبا بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! إن ابن عمي قد أمنته وزعم ابن عمك -تعني عليا رضي الله عنه- أنه قاتله، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ، والمقصود أنه قد تؤمن المدينة بكاملها برجل واحد من المسلمين يدخلون في أمانه، وهذا كان معروفا في أزمنة المسلمين الماضية، فهذا يسمى المستأمن، سواء كان شخصا واحدا أو طائفة أو مجموعة حتى تقام عليها الحجة. وأما المعاهد: فالعهود تقع بين المسلمين والكفار خاصة في أحوال الحرب، فتارة تكون بالهدنة لمدة معينة، كما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في أشهر محدودة، فهذه لا يجوز فيها القتال ما دام أن هناك بين المسلمين وبين الكفار عهدا، فيجب الإمساك عنهم وعدم التعرض لهم حتى تنتهي المدة، إلا إذا خشي منهم النقض وخشي منهم الخيانة فينبذ إليهم، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58] ، فلا ينقض العهد الذي بين المسلم وبين الكافر إلا بشروط وضوابط، ولذلك جاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -كما تقدم معنا- يوم بدر فأخذه المشركون قبل أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهدا ألا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فلما جاء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال أصحابه: قاتل معنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم) . فحافظ على عهده حتى مع الكافر، ولذلك فإن العهد أمره عظيم حتى مع الكافر، فكيف إذا عاهدت مسلما، أو كان بينك وبين مسلم عهدا فالعهد أشد وأعظم، فالعهد لا ينقض، وهذه العهود التي تقع بين المسلمين والكفار تحترم، إذا كانت عن طريق ولي الأمر الذي له النظر في مصلحة المسلمين وهو مؤتمن عليها، ولا يجوز لأحد أن يتخطى هذا الحد أو يحاول أن يخفر -ينقض- ذمة المسلمين وذمة ولاتهم، فإن هذا يتحمل فيه المسئولية العظيمة، ولذلك فقتل المعاهد أمره عظيم؛ لأن هذا يسيء إلى الإسلام إساءة عظيمة -نسأل الله السلامة والعافية- ويتحمل الإنسان بذلك وزره، ولذلك حرم الله على نبيه أن ينقض العهد مع الكفار، وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بذلك، ما لم يكن الكافر المعاهد على بينة من أمره، قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58] ، فليس في الإسلام خفاء، بل هو واضح أوضح من النهار وأموره مكشوفة؛ لأن الله عز وجل ينصر الحق وأهله. وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء السؤال ما هو الدليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وعدم وجوبهما في الوضوء؟ الجواب المضمضة تتعلق بالفم، والاستنشاق يتعلق بالأنف، وهناك طهارتان: طهارة صغرى، وهي الوضوء، وطهارة كبرى، وهي الغسل، وقد فرض الله عز وجل في الوضوء -الطهارة الصغرى- أربعة فرائض، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة:6] ، ولما جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ؟ قال له: (توضأ كما أمرك الله) ، فعلمنا أن المضمضة والاستنشاق ليست من فرائض الوضوء؛ لأنه قال له: (توضأ كما أمرك الله) ، وعلمنا أنها من النوافل والفضل، وليست من الواجبات والفرض. وأما في الغسل فوجدنا أن الشرع أمر بغسل ظاهر البدن، فكل شيء من ظاهر البدن يجب تعميمه بالماء، قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة:6] ، أي: طهروا أبدانكم، وفصل ذلك عليه الصلاة والسلام في حديثه في الصحيحين عندما قال: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك) ، وهذا يدل على أن ظاهر الجسد لا بد من غسله، فهل الأنف والفم من ظاهر الجسد أم لا؟ إن كانا من ظاهر الجسد فهما كاليد التي يجب غسلها وتعميمها بالماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تفيضين الماء على جسدك) ، فوجدنا الشريعة جعلت الفم والأنف من ظاهر الجسد لا من باطنه، والدليل على ذلك: أن الصائم لو وضع الطعام في فمه لم يفطر، فدل على أنه من ظاهر البدن وليس من باطنه. وبناء على ذلك لما وجدنا الشرع حكم بأن الفم والأنف من ظاهر البدن وليس من باطنه، قلنا: تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، ولا يجب واحد منهما في الوضوء، وهذا بتفريق الشرع. وبناء على ذلك يلتفت في الغسل إلى الظاهر، والفم والأنف من الظاهر، ويلتفت في الوضوء إلى ما سمى الله عز وجل من الأعضاء، ولذلك لو أن شخصا وجد ماء لا يكفي إلا للأربعة الأعضاء في الوضوء لم يصل إلى التيمم؛ لأنه يستطيع أن يغسل ويمسح الفرائض التي أمره الله بغسلها ومسحها. والله تعالى أعلم. حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه السؤال بعد دفن الميت وعند القبر يقف بعض أقاربه وينادي في الناس: أنه إذا كان لأحد في ذمة الميت شيء من الديون فإني أتحملها عنه، فهل لهذا الفعل أصل شرعي بهذه الصفة أثابكم الله؟ الجواب ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتي بالصحابي عليه دين سأل: هل ترك وفاء أم لا؟ فإن ترك وفاء -كأن كان عنده بيت أو عنده دواب يمكن بيعها وسداد دينه- صلى عليه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يترك وفاء، قال: (صلوا على صاحبكم) ، فقد جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتي برجل، فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: نعم. فقال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم) ، وهذا من باب الترهيب والزجر للناس عن التساهل في الحقوق، فلما قال: (صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله!) ، فانظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتراحمون! وكيف كانت محبتهم لبعضهم! وكيف كانت أخوة الإسلام تبقى حتى بعد الموت؛ فلم تكن أخوة مجاملة ولا أخوة مصالح ولا أخوة محدودة مؤقتة، ولذلك كان قول المؤمنين: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر:10] ، وتجد المؤمن يترحم على أخيه المؤمن ويصل ذريته. فالشاهد: أنه قال: (هما علي يا رسول الله) ، فلما قال ذلك صلى عليه عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على مشروعية تحمل الدين عن الميت، وإذا كان هذا من أبي قتادة وهو غريب، فلأن يكون من القريب من باب أولى وأحرى. أما بالنسبة للنداء بعد الدفن فإذا كان الشخص لا يتيسر له الاتصال بغرماء الميت وأصحاب الحقوق، وسهل اجتماعهم عند الدفن، فقال هذه الكلمة لأجل أن يعلم الناس، فهذا لا بأس به، وهذا مثل ما يقع في بعض القرى حيث يصعب فيها الاتصال، فيعلم الناس، حتى يعلم بعضهم بعضا؛ لأنه يصعب جمعهم وإخبارهم، والمفروض أن يبادر بذلك من بعد وفاته، فإذا توفي بادر بالاتصال بأصحاب الحقوق ومعرفة ما الذي له؛ لأنه لا يجوز التصرف بالمال إلا بعد قضاء الدين عليه، ولا تعطى حقوقهم إلا بعد سداد الدين. فالمقصود: أنه لا داعي لذلك عند القبر، وهناك أمر مهم جدا ينبغي أن نعلمه، وهو أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفن الميت عدم شغل الناس عما هو أهم، فبعد دفن الميت هناك أمران هامان: الأمر الأول: اتعاظك بهذا الميت الذي سبقك، وأنك ستصير إلى ما صار إليه، وتنقلب إلى ما انقلب إليه، فتتعظ وتعتبر وأنت ترى هذا بأم عينك؛ فإنه ليس هناك وقت أبلغ في الاتعاظ والاعتبار من ساعة إنزال الميت في لحده وقبره ودفنه والفراغ من ذلك، فإن هذه من أعظم الساعات اتعاظا وعبرة؛ حيث ترى أقرب الناس من الميت وهو ولده ينزله إلى القبر ويسلمه إلى اللحد، ويغلق عليه القبر، ويهيل عليه التراب، فإذا رأى الإنسان ذلك انكسر قلبه وخشع فؤاده؛ لأنه سيعلم أن أقرب الناس منه سيتولى أمور فراقه لهذه الدار، وهذا من أقرب ما يكون عظة. ولذلك لم يعظ النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، ففي حديث البراء أنه جلس ينتظر الأنصاري يحفر له قبره، ولم يعظ، والصحابة كانوا واقفين على القبر -بمعنى أنهم ينظرون إليه- والذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم كلمتان: (أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا) ، فربط الموعظة بنفس الحال؛ لأن الحال يكفي موعظة. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه هذا. الأمر الثاني: وهو خاص بالميت، قال عليه الصلاة والسلام: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) . هذا هو ما يأتي بعد الدفن مباشرة؛ فينصح الخطباء بتنبيه الناس على هذه السنة، حتى تحيا السنة وتموت الأمور المخالفة لها، وهو أن الميت بعد الدفن مباشرة أحوج ما يكون إلى الاستغفار وإلى الترحم، ثم إن هذا الاستغفار يرتبط كل شخص بنفسه، فلا يأتي أحد فيقول: اللهم اغفر لأخينا، فيقول الناس: آمين وهكذا لا؛ فإنه إذا ارتبط الاستغفار بالجماعة لم يكن كاستغفار الشخص لوحده؛ لأن هذا أبلغ ما يكون وأصدق ما يكون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم) ، وكان بالإمكان أن يقول: اللهم اغفر لفلان، ويقول الصحابة: آمين، لكنه قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) ، وهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالشخص بنفسه. فإذا ترك الإنسان لوحده هو الذي ينظر وهو الذي يدعو، خرج من المقبرة بموعظة تامة كاملة، لكن إذا شغل بغيره هو الذي يدعو له وهو الذي يختار كلمات، ولربما لا يفهمها السامع بنفسه، إذا: فيقال له: السنة أن تستغفر لأخيك وتسأل له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فإذا وقف ولو كان جاهلا ولو كان لأول مرة يدخل القبر فسمع من يذكره بالسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت يقول: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) اتعظ واعتبر، وكان ذلك أبلغ ما يكون، فما أطيبها من سنة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا بفضل الله إليه. فنسأل الله العظيم أن يجزيه عنا خير ما جزى نبيا عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (490) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [3] ينقسم القتل العمد إلى: قتل بالمباشرة، وقتل بالسببية، فالمباشرة بأن يباشر القتل بنفسه، فيحكم بكونه قتل عمد، ويجب فيه القصاص، أما القتل بالسببية بأن لا يباشره بنفسه، وذلك مثل إلقاء الحائط على شخص، أو إلقاؤه من شاهق، أو إلقاؤه في النار، أو إغراقه في الماء، أو خنقه بما يقتل، وكل هذه الصور لابد لها من شروط حتى يحكم بكون القتل بها قتل عمد يوجب القصاص. القتل بالسببية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطا، أو يلقيه من شاهق] . تقدم معنا في المجلس الماضي أن القتل يكون على صورتين، إذا كان قتل عمد يوجب القصاص والقود: الصورة الأولى: أن يكون القتل مباشرة. والحالة الثانية: أن يكون بالسبب، بمعنى: أن يتعاطى فعل شيء يؤثر في حصول القتل، وهذا ما يسميه العلماء رحمهم الله: بقتل السببية. وقد ذكر المصنف رحمه الله النوعين: القتل المباشر، والقتل بالسببية، والقتل المباشر ينقسم إلى قسمين أيضا: فإما أن يكون بآلة جارحة لها مور ونفوذ في البدن، مثل: السكاكين، والسيوف، والخناجر، ونحوها كما ذكرنا في المجلس الماضي. وإما أن يكون بغير المحدد، مثل: الضرب بالآلات التي لا تجرح ولكن تقتل، كتكرار الضرب بالخشب الذي يقتل مثله غالبا إن كرر الضرب به، ومثل ما ذكر المصنف رحمه الله: الضرب والرمي بالحجر القاتل يعتبر من قتل العمد، وقد فصلنا في هذه المسألة. ثم بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله عبارة: (أو يلقي عليه حائطا) ، وقد ذكرنا أن إلقاء الحائط على الشخص مثل الضرب بالحجر، من جهة المقاربة في القتل بهما، والمقاربة بينهما من جهة كون العلماء رحمهم الله ذكروا الصخرة الكبيرة، فقالوا: إن قتل الحجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فإما أن يكون بحجر صغير، وقد ذكرنا أنه لا يعتبر قتل عمد إلا إذا ضربه بحجر صغير في مقتل، يقتل مثله غالبا، أو كان الشخص الذي ضرب بهذا الحجر الذي لا يقتل مثله غالبا مريضا، أو طفلا صغيرا، أو شيخا كبيرا يتأثر بمثل هذا الحجر. والحجر الكبير فيه تفصيل، فتارة يرمى، مثل حجر المنجنيق في القديم، وتارة يدحرج على الشخص، مثلما يقع في الصخرة الكبيرة التي يكون تحتها شخص، أو يكون في موضع وفوقه صخرة فيأتي شخص ويدحرجها عليه، فيكون هذا مثل إلقاء الحجر، فمن دقة المصنف رحمه الله أنه لم يقل: ودحرج عليه صخرة، ولكن قال: (أو يلقي عليه حائطا) ، وإلقاء الحائط بناء على هذا يتبع القتل المباشر، لكن العلماء في الأصل ذكروه من باب السببية؛ لأن من بنى حائطا ثم جاء الغير ودفعه على الغير، ففيه سببية ومباشرة، السببية من جهة أنه من بناء الحائط، والمباشرة بالنسبة لمن دفعه على الغير. شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطا] . يشترط أولا: أن يكون الحائط كبيرا يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله. الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط. فلو كان الحائط صغيرا لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيرا، والحائط لا يقتل مثله غالبا، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيرا كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسنه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قتل شيخا كبيرا أو مريضا يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص. إذا: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط. أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد. ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولا قتلا عمدا، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذ وجود العلم وعدمه على حد سواء. إذا: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالبا في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك. الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعا لحكم قتل الحائط. وبناء على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجها واحدا أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت. لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلا في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذ يكون قتل عمد. قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطا) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلا: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط. وفي حكم إلقاء الحائط أيضا سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصا أو أشخاصا، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق. وفي حكم إلقاء الحائط أيضا أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل. حكم من بنى حائطا فجاء شخص فدفعه على آخر فمات لقد بينا أنه لو جاء شخص ودفع الحائط على غيره فقتله فإنه قاتل، ويبقى السؤال في الشخص الذي بنى حائطا: هل عليه مسئولية؟ وهل عليه شيء؟ الجواب من العلماء من أطلق الحكم فقال: لا شيء عليه، ومن بنى حائطا فمن حقه أن يبني؛ ولا شيء عليه، صحيح أن الحائط سبب في القتل والزهوق، ولكن المباشرة لفعل الجريمة أسقط حكم السببية، فإن القاعدة المعروفة تقول: (المباشرة تسقط حكم السببية) ، وسنبين أن هذه المسألة فيها ثلاث صور، وهي اجتماع السببية والمباشرة: فتارة تقدم السببية، وتارة تقدم المباشرة، وتارة يجمع بين المتسبب والمباشر، وسيأتي -إن شاء الله- تفسيرها في صور السببية. فالشاهد: أن من بنى الحائط إذا بناه وجاء شخص ودفعه، فإن الجريمة وقعت بالدفع ولم تقع ببناء الحائط، والقتل والزهوق حصل بالفعل المؤثر فيه وهو الدفع وليس بناء الحائط؛ لأن بناء الحوائط لا يقتل الأنفس، ولا يوجب زهوق الأرواح، ولذلك لا يؤثر. لكن لو أنه بناه من أجل أن يقتل به الغير، فهذا فيه تفصيل في مسألة قتل الجماعة والاشتراك بتعاطي الأسباب؛ لأنه إذا اجتمع أشخاص على قتل شخص، فتارة تكون المباشرة من واحد والسببية من غيره، وتارة تكون المباشرة من اثنين وتكون السببية من أقل عددا أو من عدد مساوي، وسيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في قتل الجماعة. وقوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطا) حائطا: نكرة، والحائط: هو الجدار يكون من اللبن، ويكون من الحجر، ويكون من الأسمنت في زماننا، فهو قال: (يلقي عليه حائطا) وعمم؛ لأن النكرة تفيد العموم، لكن التفصيل هو ما ذكرناه. ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق] . قوله: (أو يلقيه) أي: يلقي المقتول، (من شاهق) الشاهق: هو المكان المرتفع، والمكان المرتفع في القديم مثل: قمم الجبال العالية وأطرافها أيضا، فلا يشترط أن يصل إلى القمة، بل العبرة أن يكون المكان الذي حصل منه الدفع والرمي عاليا لو سقط منه الإنسان لهلك، وفي حكم قمم الجبال أسطح المنازل، وفي زماننا أسطح العمائر، والأدوار العالية، وأبراج الحديد، كما لو صعد به إلى برج عال فدفعه، فكل هذا يعتبر من الشواهق، لكن الشرط: أن يكون ارتفاعه يوجب الزهوق، أي: أن من سقط من هذا الارتفاع فالغالب فيه أنه يهلك، فإن كان مثله لا يقتل بأن كان قريبا لا يوجب الزهوق، وقد ينجو منه الإنسان غالبا، فيفصل فيه بالنسبة للشخص: فمن رمى طفلا رضيعا من فوق سطح غرفة، فقد يموت الرضيع؛ لأن مثله لا يتحمل هذه المسافة، بخلاف الرجل السوي لو ألقي من فوق غرفة ثلاثة أمتار قد لا يقتل ولا يموت، ومن رمى شيخا كبيرا ضعيف البنية حطمة، أو رمى مريضا به مرض وبه آفة، ولكن هذا المرض أقل شيء يحصل معه الزهوق والموت، فهذا يفصل فيه إذا كان الارتفاع غير شاهق، لكن المصنف قال: (من شاهق) وهذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأنه راعى أغلب ما يحصل به الزهوق، ولكن هذا لا يمنع في المسائل الخاصة والأحوال الخاصة أن يفصل فيها كما ذكرنا، ومحل ذلك هو كتب المطولات. وقوله: (أو يلقيه من شاهق) سواء ألقاه بالرمي، كأن يكتفه ويربطه ثم يأتي ويرميه من شاهق، أو يلقيه بالدفع، كأن يتركه على غفلة ثم يدفعه من شاهق؛ أو يلقيه بالمغالبة، كأن يشتبكا ويتدافعا فيدفع المغلوب ويموت. وأيضا في حكم الشواهق: ما يقع من الطائرات، فلو أنه ألقاه من طائرة وكانت على ارتفاع يقتل مثله، فحينئذ يعتبر قتل عمد، وهذه الصور كلها الشرط فيها تحقق أن يكون الارتفاع يقتل غالبا. إذا: الشرط الأول: أن يكون الارتفاع مؤثرا. الشرط الثاني: ألا يعلم الشخص الملقي أنه سيلقى، كأن يأخذه على غرة، أو غافله بشيء ينظر إليه ثم دفعه -والعياذ بالله- ورماه، أو كان يعلم ولكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كمن حمل مكتفا إلى سطح العمارة ثم رمي، فإنه يعلم أنه سيرمى، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه، فعلمه وجهله على حد سواء، ولا تأثير له في الحكم. إذا: يشترط ألا يعلم، أو أن يكون عالما عاجزا عن الدفع وصرف البلاء عنه. الشرط الثالث: أن يكون القتل والزهوق والموت حصل بالارتطام أو بالتردي من الشاهق لا بشيء آخر، وهذه ما يسمونها: مسألة الحائل، وتفصيل ذلك: أنه أخذه وصعد به إلى سطح العمارة، سواء رماه من طرف العمارة، أو رماه من داخل العمارة مثل ما يقع في المناور، فليس شرطا أن يرميه إلى الشارع من أي مكان، مادام أنه يهوي به إلى مكان يقتل مثله غالبا فلا إشكال. فإذا رماه من الموضع العالي وارتطم بالأرض ميتا، فقتل عمد؛ لأنه تمحض زهوق الروح وخروج الروح بالارتطام على الأرض، أو بفعل التردي مثل ما يقع على الجبال الشاهقة، فلو أنه صعد به على جبل ثم غرر به ودفعه، فإنه يتردى ويتدحرج على نتوء الجبال، وهذه تقتل؛ لأنها قد تصيب مقتلا فيقتل قبل أن يصل إلى الأرض، فالقتل في تلك الصورتين حصل بالتردي، إما مآلا حينما سقط على الأرض وارتطم، وإما بالتردي نفسه قبل أن يصل إلى مآل التردي، ففي تلك الصورتين قتل عمد؛ وذلك لأن الموت والزهوق وخروج الروح حصل بالارتطام، وهذا سببه المؤثر فيه، أو حصل بالتردي والاصطدام بنتوء الجبل أو تعاريج الجبل، مثل ما يقع في الزوائد في العمائر ونحوها، إذا هشمت أعضاءه وقتلته، فهذا لا إشكال فيه أن الموت حصل بهذا التردي. تعارض السببية والمباشرة في القتل لكن لو أن الموت والزهوق حصل بسبب آخر، مثل ما ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله: أن يلقيه من شاهق، وقبل أن يصل إلى الأرض يتعرضه شخص بسيفه فيقده نصفين، وهذا يقع في بعض الأحيان، كأن يجعل السيف في خاصرته أو في موضع الوسط من الجسم، فينزل الساقط على السيف فيقسم، فيقال: قده بالسيف، إذا قطعه فمات، فيكون الموت والزهوق بالقد لا بالتردي ولا بالارتطام، فحينئذ القاتل هو صاحب السيف وليس المردي. وهذه من الصور التي قدمت فيها المباشرة على السببية؛ لأن التردية سببية، والتعرض بالسلاح هو الذي حصل به الموت صحيح أنه لو وصل إلى الأرض لمات وهلك، ولكن هذا الاعتراض هو الذي أزهق الروح، وحينئذ يكون هذا من تقديم المباشرة على السببية، وقد ذكرنا أنه تارة تقدم السببية على المباشرة، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة يحكم بالاثنين، ومن تقديم المباشرة على السببية هذه المسألة، فإن الذي باشر القتل هو صاحب السيف. وفي زماننا لو أطلق عليه نارا قبل أن يصل إلى الأرض، كشخصين أخذا شخصا يريدان قتله، وحرص كل منهما على قتله، فأما الأول فدفعه من فوق العمارة مثلا، وأما الثاني فأطلق عليه النار، فينظر: فإن كان طلق النار قد أصابه في مقتل الغالب أنه يزهق الروح قبل الوصول إلى الأرض، فالقاتل هو صاحب الطلق، وإن كان الذي أصابه من الطلق في مكان لا يقتل، فالذي قتل هو الارتطام بالأرض، وهناك مسألة وهي مسألة الجرح؛ لأنه جرحه قبل موته. ومن هنا ينتبه إلى ترابط الفقه، فهذه المسألة في القتل مثلها في الصيد، كما لو أنه رأى شاة ساقطة من فوق الجبل، وقبل أن تصل إلى الأرض أطلق عليها النار، فإنه إذا أصابها في مقتل وقتلها فيحل أكلها، وإن أصابها في غير مقتل وارتطمت بالأرض فإنها متردية، والله قد حرم المتردية والنطيحة والميتة، فهذا راجع إلى استقرار النفس، فإذا كان استقرار النفس واقع مع حصول هذا الطلق والعيار الناري، فحينئذ يحكم بأن القتل وقع بالارتطام لا بالطلق، والعكس بالعكس، فإن كان في مقتل فإنه يكون حينئذ القاتل هو المباشر وليس الذي ألقاه من الشاهق. والسببية والمباشرة إذا اجتمعا تقدم المباشرة على السببية، كما في مسألة القد بالسيف فيمن رمي من شاهق، وكما في مسألة من حفر بئرا وجاء شخص ودحرج الغير فيه فمات، فإن الذي حفر متسبب، والذي دفع مباشر، فتقدم المباشرة على السببية، ومن هنا قالوا في القاعدة: إن المباشرة تسقط حكم السببية، في مسألة بناء الجدار، وحفر البئر، ومسألة القد بالسيف في التردية. ومن الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة وهي العكس: أن يشهد شهود بالزور على شخص أنه زان محصن، فيرجم فيقتل، ثم يرجعون عن شهادتهم، ويقولون: نحن تعمدنا قتله، فحينئذ الذي تسبب في القتل هم الشهود، والذي باشر القتل هو القاضي بالحكم والمنفذ لحكم القاضي، فحينئذ القاضي والمنفذ لا يتحملان مسئولية مع أنهما باشرا القتل، لكن الذي يقتل هم الشهود الذين قالوا: تعمدنا قتله؛ لأنها سببية، ولكنها أقوى من المباشرة. ومن الصور التي تجتمع فيها السببية مع المباشرة ويكون الاثنان مسئولان وقاتلان: مثل أن يهدد شخص شخصا ويقول له: إن لم تقتل فلانا أقتلك، وهذا هو الإكراه، فحمل السلاح عليه وقال له: إن لم تقتل فلانا أقتلك، فقام المكره -المهدد- وقتل من طلب منه قتله، فحينئذ يقتل الآمر والمأمور، يقتل الآمر لأنها سببية مؤثرة موجبة للزهوق ومحصلة للزهوق، والمنفذ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه فليس بمكره؛ لأنه شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أكبر، كما سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة قتل المكره، ففي هذه الحالة اجتمعت السببية والمباشرة، فوجب القصاص على المتسبب وعلى المباشر. إذا: الشرط الأول: أن يكون الشاهق يقتل مثله، الشرط الثاني: ألا يمكن للشخص الفرار والنجاة، الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالارتطام بالأرض لا بسبب عارض كما ذكرنا في السيف. الشرط الرابع: أن يموت بعد الارتطام مباشرة، فيكون موته بالتردي والارتطام، فلو عاش بعد التردي فننظر: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وصار في عداد الأموات فعاش قليلا ثم مات، فإنه قتل عمد يوجب القصاص، وبقاؤه بعد التردي وبعد الارتطام وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه في حكم الميت، وأما إن بقي وعاش ثم بعد ذلك مات فننظر فإن كان من جراح تنزف، وبسبب اعتلال الجسم حتى استنفذت مقاتله وهلك، فإنه في حكم ما تقدم، وينسب لأقرب حادث، فهناك قاعدة تقول: ينسب لأقرب حادث، ولها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات. ففي العبادات مثلا: لو أن شخصا رأى على ثيابه المني وهو لا يتذكر متى احتلم، فينسب إلى أقرب حادث، أي: إلى آخر نومة نامها، فيغتسل ويعيد الصلاة منها، فلو نام بعد العصر، ونام بعد الفجر، ونام في الليل، ووجد المني في المغرب؛ فإنه إذا نام بعد الظهر ينسب إلى نومة الظهر، فإذا نام بعد العصر ينسب إلى نومة العصر، المهم أنه ينسب إلى أقرب نومة نامها، ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها، وهذا في العبادات، وفي الجنايات فهنا ينسب لأقرب حادث، فإذا استنفذت مقاتله ومات فأقرب حادث هو الارتطام، وحينئذ يحكم بأنه مقتول قتل عمد، ويجب القصاص على قاتله. ولما قال: (أو يلقيه من شاهق) شرع في القتل بالسببية كما ذكرنا، والصور الأولى وهي: أن يجرحه بما له مور، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطا، هذه كلها مباشرة، فلما قال: (أو يلقيه من شاهق) ، شرع في القتل بالسببية، وهذه الصورة يعتبرها العلماء من صور الإلقاء في التهلكة. وقتل السببية يقوم على: قتل بالشرط، أو قتل بالعلة، أو قتل بالتغرير، وكلها صور لقتل عمد، وفيها تفصيل، لكن قتل السببية هنا من صوره الإلقاء في المهلكة، والإلقاء في المهلكة يشمل: الإلقاء من شاهق والإلقاء في نار تحرق ويهلك فيها، والإلقاء في ماء يغرقه، والإلقاء في زريبة أسد أو في جحر فيه أسد، أو فيه حية أو عقرب سامة قاتلة ولا يستطيع الفرار، فهذه كلها صور يصفها العلماء بالإلقاء في المهلكة، فشرع رحمة الله بأن يلقيه من شاهق. شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد قال رحمه الله: [أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما] . قوله: (أو في نار) النار معروفة، والإلقاء في النار يشترط فيه: أن تكون النار قاتلة أو يقتل مثلها، وهي النار التي تزهق الروح غالبا، إما مباشرة مثل النار الشديدة والمتأججة والقوية، أو أن تقتل ببطء، وهي أشد عذابا -والعياذ بالله-، وتكون المدة التي استغرقها بقاؤه في النار تحت ضغط القاتل ومحاصرته كافية لإزهاق الروح. إذا: يشترط في النار أن تكون قاتلة غالبا، وإذا لم يكن مثلها قاتلا غالبا بأن كانت ضعيفة نظرنا في المدة التي مكثها فيها، وهذه أمور يعرفها ما يسمى بالطب الشرعي، وعلم السموم في الطب هو علم خاص يتخصص فيه بعض الأطباء في هذه الأشياء القاتلة، فهم أهل الخبرة وهم الذين يرجع إليهم القاضي، ويرجع إليهم للقول بأنه هل هذه النار تزهق أو لا تزهق؟ درجة النار، طبيعتها، المواد المشتعلة هذا كله أمر ليس مرتجلا، إنما يكون بضوابط، ولابد من الرجوع فيه لأهل الخبرة. إذا: يشترط في النار أن يقتل مثلها، فإن كان مثلها لا يقتل نظرنا في المدة التي حبس فيها الشخص حتى قتلته النار، وأيضا نظرنا في الشخص نفسه، فقد يكون طفلا رضيعا ألقي في نار صغيرة الغالب في مثلها أن يقتل مثل هذا الطفل، فحينئذ لا نشترط أن تكون النار كبيرة على كل حال، إنما نشترط أن تكون النار مثلها يقتل في غالب الناس، لكن لا يمنع هذا -كما ذكرنا في الحائط- في صغار السن، وفي المرضى، وفي كبار السن ونحو ذلك ممن تكون لهم ظروف معينة، وكذلك أيضا النار في الصيف والشتاء تختلف، فنار الشتاء أضعف من نار الصيف، والقتل بنار الصيف ليس كالقتل بنار الشتاء. الشرط الثاني: ألا يستطيع الشخص الفرار أو الاستغاثة أو الخروج من النار أو المدافعة، فإذا أمكنه أن يدفع عن نفسه أو يستغيث ولم يفعل شيئا من ذلك، فهذا لا يحكم فيه بالقصاص والقود عند جمهور العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فصل تفصيلا دقيقا وقال: إن النار إذا كان الشخص يمكنه أن يستغيث أو يتعاطى سببا فننظر في الشخص نفسه: فإن كان مثله فيه دهشة وفيه ضعف، وما يحسن التصرف في الأمور، بحيث بوغت بالنار فأشكلت عليه الأمور ولم يستطع أن يتعاطى أسباب النجاة بسبب الدهش والمفاجأة، ففي هذه الحالة يكون قتل عمد؛ لأن وجود القدرة على تعاطي الأسباب زال تأثيره بنوعية الشخص؛ لأن الشخص فيه نوع من الضعف، مثلما يكون في بعض الناس من الغفلة، وبعض الناس فيهم ذعر شديد بحيث أنه إذا فوجئ بالشيء فلا يحسن التصرف، فتجعله الصدمة لا يحسن النظر في الخروج والهرب، فبعضهم يفصل بهذا التفصيل، لكن الذي جعل العلماء يجعلون القاعدة للغالب: أن من استطاع أن ينجو من النار ولم ينج فإنه يتحمل مسئولية نفسه، بغض النظر عن التفصيل الذي ذكروه. الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالاحتراق بالنار، أو ما هو مستتبع لها مثل دخان النار نفسها، وانكتام نفسه في النار التي وضعوه فيها، فإذا حصل الزهوق بحرق النار، بأن كانت النار تشويه، وقوة الشوي أجهز عليه وقتله، أو كان الزهوق بفعل الدخان الذي كتم نفسه، وإن كانت الأعضاء التي احترقت ليست بتلك التي يزهق مثلها، فالمهم أن الزهوق حصل بالحبس في النار والإلقاء فيها، فإذا كان القتل على هذا الوجه فهو قتل عمد موجب للقصاص. الشرط الرابع: أن يموت في النار، أو يموت بعد خروجه منها مباشرة، بحيث ينسب لها، فإن عاش وأمكن بقاؤه بحيث ينسب لسبب آخر في علاجه ونحوه، فليس بعمد في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. والإلقاء في النار يستوي فيه أن يكون بالطريقة القديمة، أو بما يوجد في زماننا -والعياذ بالله- مثل: الإلقاء في الأفران، والحبس في الشقق والغرف إذا اشتعلت فيها النار، كما يقع في بعض الجرائم بأن يسكب البنزين أو الحارق على الشقة وفيها إنسان نائم، أو إنسان محبوس في غرفة، ثم تشعل النار، فكل هذه الصور داخلة، فلا يشترط أن يلقيه إلقاء كما ذكر المصنف؛ فإن هذا فقط تأصيل تبني عليه غيره، وافرض أنه ما ألقاه، كأن يكون إنسان موجودا في داخل شقة، وجاء شخص وأشعل عليه شقته وهو نائم، وقفل عليه أبواب الشقة ولم يمكنه الهرب، فكل هذه الصور تعتبر من القتل بالنار والتحريق بالنار، وهذا من أشد ما يكون تعذيبا. وهنا مسألة: إذا أحرق بالنار فهل يكون القصاص بحرقه بالنار أم لا؟ وإذا حرق بالنار فهل ينظر لنفس درجة النار أو تكون أضعف أو تكون أعلى؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء سيأتي في مسألة استيفاء القصاص بالمماثلة، وظاهر النصوص أنه يعاقب بمثل ما عاقب به، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة. شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد وقوله: [أو ماء يغرقه] . كأن يلقي المقتول في ماء يغرق مثله غالبا، سواء كان بحرا أو نهرا أو سيلا أو بركة أو مسبحا أو نحو ذلك، كأن أدخله فوطأ رأسه وغالبه حتى لا يرفع رأسه حتى مات، فلا يشترط الإلقاء كما ذكرنا، إنما المهم أن يحصل زهوق الروح وخروجها بالتغريق. فالشرط الأول: ألا يمكنه الفرار والنجاة. الشرط الثاني: أن تكون المدة التي حبسه فيها في الماء كافية لزهوق النفس وخروج الروح. الشرط الثالث: أن يحصل الموت بالتغريق، بحيث لو أنه خرج فإنه ينظر، ففي بعض الأحيان يخرج وقد امتلأت أحشاؤه بالماء ثم يستنفذ ويهلك، وهذا عند بعض العلماء -كما ذكرنا- ينسب لأقرب حادث. لكن من أهل العلم من قال: إنه إذا خرج وعلمنا أنه لم يقتل بالغرق فليس بعمد ولا قود فيه؛ لأنه من المعلوم في مسألة الغرق أنها راجعة إلى النفس مثل الخنق، والصحيح في مسألة الخنق -كما سيأتينا إن شاء الله- أنه لو بقي بعد الخنق مدة ومرض فيها بفعل ما فعل به، واستتبعت الأمراض أو الأثر، استتبع أثر الجناية حتى أجهز على الروح، فهو قتل عمد، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة، أنه حتى ولو خرج وأخرج من البحر، أو أخرج من النهر، أو أخرج من البركة التي غرق فيها، واستنزفه الإعياء والجهد حتى مات بفعل هذا التغريق؛ فإنه يحكم بأنه قتل عمد، ويوجب القصاص، ويشترط ألا يتمكن من الفرار كما ذكرنا والدفع. ثم فصل العلماء إذا كان يمكنه السباحة، فإذا ألقاه في ماء وأمكنه أن يسبح نظر: فإن كان الماء الذي ألقاه فيه يعيي السباح، كأن يلقيه في بحر فإلى متى يسبح؟ فلا شك أنه سيهلك، ومما يذكر أن أبا قلابة رحمه الله التابعي الجليل طلب للقضاء، فامتنع من ورعه، وهذا من مواقفه، فقيل له: أنت العالم والإمام وتمتنع من القضاء، وعندك العلم بالسنة الفقه؟ فقال: أرأيتم سباحا ألقي في بحر لجي إلى متى؟ أي: أنه سيسبح ويسبح وأخيرا سوف تعييه السباحة فيهلك. فلا شك أن الإلقاء في البحر والمكان الواسع الكبير، أو الإلقاء في السيل القوي في حال تضعف فيه المغالبة والسباحة، فإنه يضعف فيها تأثير السباحة، ولا يؤثر في الحكم كون الشخص قادرا على السباحة، ولو كان سباحا ومنعه من السباحة مثل أن يلقيه مكتفا، فإذا ألقاه مكتفا في بحر أو نهر، أو ألقاه -والعياذ بالله- في بركة، وهي فاضية ليس فيها ماء ثم سلط الماء عليها، فإنه ولو كان سباحا فكونه مكتوفا فإنه سيغرق لا محالة. ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فإذا غرقه سواء ألقاه كما ذكر المصنف، كأن ألقاه مربوطا، أو ألقاه مطلقا في مكان لا يستطيع فيه أن ينجو، أو ألقاه في بركة ثم فتح الماء عليه، أو وضعه في موضع وسلط الماء عليه، فإن هذا كله من التغريق، ويوجب القصاص والقود، والقتل به -والعياذ بالله- يعتبر من قتل العمد. وفي حكم التغريق ما يجري مثلا في الجرائم، فلو أنه اعتدى على سفينة فثقبها أو ضربها بآلة أو طلق ناري حتى غرقت في بحر أو في نهر، فهذا قتل عمد، فلا يشترط أن يلقيه، فقد يكون على مركب فيصيبه بشيء ويغرق المركب، أو يصدم مركبه حتى ينقلب، ففي هذه الحالة يكون كالإلقاء؛ لأن المهم أن يزهق الروح بفعل مؤثر في هذا الإزهاق بحيث تكون السببية موجبة للحكم بالعمدية كما ذكرنا، فلا يشترط أن يلقيه كما ذكرنا، إنما العبرة بحصول الزهوق عن طريق التغريق، سواء باشره كما لو جاء به فوضعه في حوض ثم طأطأ رأسه حتى خرجت روحه، أو ألقاه مكتوفا، أو ألقاه في مكان واسع لا يمكنه أن يسبح فيه، فهذه كلها تعتبر من صور العمدية الموجبة للقصاص والقود. ويشترط أن يكون الزهوق -كما ذكرنا- بالتغريق كالحال في القتل بالنار. قال رحمه الله: [ولا يمكنه التخلص منهما] . قوله: (ولا يمكنه) الضمير عائد إلى المقتول، أي: ليس في إمكانه وقدرته التخلص، ويستوي في ذلك أن يكون التخلص بنفسه أو بمعين بعد الله عز وجل يستغيث به، فإذا أمكنه أن يصرخ، أو أمكنه أن يتصل أو يستغيث بأحد بعد الله عز وجل ولم يفعل ذلك تحمل مسئولية نفسه. شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد قال رحمه الله: [أو يخنقه] . الخنق: حبس النفس، والخنق يأتي على صورتين: الصورة الأول: الخنق المباشر، والصورة الثانية: الخنق بآلة، والخنق بالآلة يشمل الخنق بالحبل، والخنق بالسلك، وبالنايلو، مثل الليات ونحوها، فهذا كله يعتبر من صور القتل العمد، إذا خنقه ومنع النفس عنه بآلة أو بدون آلة. ونبدأ بالآلة: فيشترط في الآلة التي يخنقه بها أن تكون مانعة للنسم، مثل الحبل القوي، فلو ربط على عنقه حبلا قويا وشده، سواء شده بنفسه أو شده إلى عال كما ذكر العلماء، مثلما يحصل في الشنق -والعياذ بالله-، فإذا ربطه في شيء ثم شده حتى حبس نفسه فمات؛ فقتل عمد موجب للقصاص، ويشترط أن يكون الحبل -كما قلنا- قويا. ومن ذلك أيضا لو وضع عليه وسادة، كأن يكون نائما، فدخل عليه ووضع الوسادة عليه فمنع نسمه حتى مات، فهذا قتل عمد، وقد حدث هذا في قصة أم ورقة الشهيدة رضي الله عنها وأرضاها وهي صحابية جليلة، وقد كانت من النساء اللاتي جاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فجاءت تسأله أن تكون معه في الغزو حتى تنال الشهادة، فقال لها: (ستأتيك الشهادة) ، وفي رواية: (أنت شهيدة) ، فمكثت رضي الله عنها وأرضاها إلى زمان عثمان، وكان عندها عبدان، فتركاها حتى إذا نامت أخذا القطيفة وجلسا عليها حتى فارقت الحياة، فكان يقال لها: شهيدة، وهي حية، فتحققت فيها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت رضي الله عنها شهيدة، ولكنه نوع من أنواع الشهادة. فهذا الخنق بالمخدات والوسائد، والآلات الكاتمة، وفي زماننا يستوي أن يكون الخنق بالمواد المؤثرة، مثل رش المواد السامة التي تمنع النسم وتقتل، أو وضع الآلات المخدرة بكمية قاتلة على المنديل ونحوه وخنق الشخص به، فكل هذا من صور الخنق. فالخنق بالآلة إذا كان باللي أو كان بالحبل، يشترط أن تكون قاتلة، وهكذا لو أخذ المنديل فهو قاتل إذا حبس النسم، فإذا خنقه ومنع النسم منه فيشترط ألا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كما ذكرنا فيما تقدم في السببية، فإذا أمكنه الدفع والمنع عن نفسه ولم يدفع فلا قصاص. وكذلك أيضا يشترط أن يكون الزهوق بالخنق، فلو أنه خنقه ومات بعد الخنق بوقت نظرنا: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وأصبح نبضه ضعيفا جدا حتى مات، علمنا أنه مات بفعل الخنق، وحينئذ يجب القصاص. إذا: لابد من تحقق هذه الشروط: تأثير الآلة الخانقة، وألا يستطيع الدفع، وأن يحصل الموت بالخنق لا بسبب آخر. والخنق بالسلك فيه بعض التفصيل من جهة أن السلك في بعض الأحيان يوحي بقطع الرقبة، فإن بعض الأسلاك إذا شدت جرحت، وقد يكون الموت بسبب النزيف لا بسبب الشد، فمثلا: لو أنه شد شدا لا يحبس كل النسم بل يبقي بعض النسم، فسيبقى الميت فترة طويلة؛ لأن النسم موجود، لكن النزيف يكون سبب وفاته، فالنزيف مستتبع لحكم الخنق، وحينئذ لا نقول: إن الموت لم يحصل بالخنق، لما قلنا: إنه وقع، لكنه أشبه فيه أن يكون بالجرح لا بالخنق، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الاقتصاص بالمثل. فالشاهد: أن الخنق من قتل السببية ويوجب القصاص. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه السؤال إذا كانت حياة المريض ميئوسة وطلب من الطبيب أن يقتله، فهل يجوز طلب ذلك؟ وهل يلحق الطبيب شيء من التبعية إن فعل ما طلب منه؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير، خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه مسألة خطيرة جدا، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} [العنكبوت:38] ، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] . وهذا القتل الذي يسمونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوسا من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلا، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفسا محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص، كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات، في مسألة: إذا طلب من الغير أن يقتله. وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلفين عقليا، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: {إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] ، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبدا: الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد. الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإن فعل الطبيب أي فعل في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب. فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: {قل أتعلمون الله بدينكم} [الحجرات:16] ، فلست أنت الذي تعلم الله من هو الذي يرحم والذي لا يرحم. ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: (اطعني فوعزتك وجلالك إني لأتلذذ بما يصيبني منك) ، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل. فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدودا قاصرا، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلا أمام عزة الله جل جلاله، مهانا أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء:85] ، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك) . هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبدا، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئا مألوفا، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسدا، وكم قومت من شخص كان معوجا، وكم سددت من شخص كان تائها بعيدا عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل. فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) . المقصود: أن هناك حدودا ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء) ، وقال في الحديث الآخر: (علمه من علمه وجهله من جهله) . فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوسا منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يحله الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم. حكم من أرسل غلاما لمنفعة فلدغته حية فمات السؤال إذا أرسل رجل ولدا صغيرا يشتري شيئا، وفي الطريق نهشته حية فمات، فماذا يترتب على هذا الرجل من الأحكام، أثابكم الله؟ الجواب هذا فيه تفصيل: فإذا كان الموضع الذي أرسله إليه فيه حيات وفيه هوام، فلا شك أنه غرر به، وتكون سببية قوية مفضية للهلاك، وأما إذا كان الموضع لا توجد فيه الحيات، فهذا صادف قدرا وسببية ضعيفة، والمباشرة هي القاتلة، ومن أهل العلم من قوى السببية. وبناء على ذلك فإن قال: تعمدت، ففي الصورة الأولى حينما كان الموضع فيه حيات، فعند العلماء تفصيل في مسألة الحية، إذا أرسل شخصا إلى موضع فيه حية أو عقرب سام أو سبع قاتل، والحية والعقرب يشترط أن تكون سامة، يقتل سمها، فإذا أرسله إلى هذا الموضع فينظر في الموضع: فإذا كان الموضع يمكنه فيه الفرار، فهذا لا قصاص فيه ولا قود في مذهب طائفة، كما يختاره أئمة الشافعية. لكن بعض العلماء -كما هو في مذهب الحنابلة- يفصلون، ففي بعض الأحيان إذا كان مثل الصبي هذا يندهش ولا يحسن النظر لنفسه، فمسألة التفصيل في قتل الحية بين أن يكون الموضع يمكن فيه الفرار، يقولون: إن الحية تفر من الآدمي، فبعض العلماء يقول: إن القتل بها ليس بقتل عمد، كما لو جمع بينه وبين حية في مكان، فقالوا: لو قتلته فليس بقتل عمد؛ لأن الحية تفر من الآدمي، وإذا رآها فر منها، وإذا فر منها تشجعت، حتى إنهم يقولون: إن السبع يتشجع حينما يرى الشخص يفر، ولذلك إذا ثبت ووقف فإنه لا يصاب بأذى، وأما إذا كان الفرار ممكنا فلا إشكال، لكن المشكلة أنه في بعض الأحيان يكون عاجزا، كأن تكون الأرض أرض طين ووحل، فالفرار لا يفيد، فالأفضل أنه يقف، وهو سيقع سيقع، فالأفضل أن يكون مقبلا غير مدبر. وعلى كل حال: في هذه المسألة إذا كان قد غرر بالطفل فهذا قتل تغرير، وقتل التغرير إذا قال: قصدت قتله، فهذا شيء، وإذا قال: ما علمت أنه يقتل، فإنه يكون نوعا من الإهمال، وبعض العلماء يوجب فيه الدية؛ لأنه عرضه إلى القتل بسببية قوية التأثير في زهوق الروح، والله تعالى أعلم. حكم من سقط من علو على سيارة واقفة فمات السؤال رجل كان واقفا بسيارته في أحد الشوارع، فسقط رجل على سيارته فمات، فهل يكون صاحب السيارة سببا في القتل، وتكون عليه الدية، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسائل أصلا مردها إلى القضاء، لكن طالب العلم ينبغي أن يعلم حكم هذه المسائل، فإذا سقط شخص من مكان عال على سيارة شخص، فإنه يجب الضمان على صاحب السيارة، والسبب في هذا: أن الارتطام وقع على السيارة، ومن دقة الشريعة أن أي شيء تملكه فلك غنمه وعليك غرمه، فإن هذا الشيء لو أصبحت قيمته مليونا فإن ربحه لك، ولو تسبب في ضرر أحد فأنت المسئول عنه. وفي هذه المسألة: لو أن السيارة حركت عن موضعها لكان القتل بسبب الارتطام على الأرض، ويحتمل أنه يرتطم على الأرض ولا يموت، ولكنه ارتطم بسيارته فمات، فجميع ما يحصل للسيارة ويكون من السيارة غنما وغرما فأنت المتحمل له، فكما أنك تأخذ غنمها فعليك غرمها، ولذلك المعمول به والذي عليه العمل عند مشايخنا، وينقل هذا عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، أنه يعتبر قتل خطأ، ويجب عليه ضمانه، فتجب الدية على صاحب السيارة. لكن هناك تفصيل في مسألة إذا دفعه شخص؟ فإن هذه فيها تفصيل قد نتعرض له -إن شاء الله- في مسألة الاشتراك، والله تعالى أعلم. حكم صلاة الوتر بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر السؤال هل يجوز للإنسان إذا أذن المؤذن ولم يصل الوتر، فهل يجوز له أن يصليها بعد فراغ المؤذن من الأذان في صلاة الفجر، أثابكم الله؟ الجواب الوتر ينتهي وقته بأذان الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) ، فهذه النصوص تدل على أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ، فإذا أذن المؤذن فجمهور العلماء على أنه قد انتهى وقت الوتر ولا قضاء بين الأذان والإقامة، ويكون القضاء بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته) . لكن لو أنك ركعت ورفعت رأسك من الركوع ثم أذن المؤذن، فقد تم لك الوتر، فتستمر في الدعاء، ولا بأس أن تدعو بين الأذان والإقامة، وهو وقت إجابة، ولا بأس لو طولت في الدعاء، أما إذا أذن المؤذن قبل أن تركع وقبل أن تكبر تكبيرة الركوع وتنتهي منها، فقد انتهى وقت الوتر، فتقلبها شفعا وتتمها شفعا، والله تعالى أعلم. نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة السؤال أنا شخص مبتلى بالوسوسة ولا أنام الليل أفكر في الموت، وأصبحت حياتي كلها هم، وأصبحت أنظر للحياة نظرة يائس منها، علما أن هذا الداء لم يكن في إلا أنه أصابني منذ شهرين، وقد بلغ بي البلاء ما لا أستطيع وصفه، وأرغب في توجيه منكم عل كلماتكم تكون لي بلسما، وأرجو منكم الدعاء لي، وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء؟ الجواب أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همك، وأن يكشف غمك، وأن يشفيك، وأن يعافيك، وأن يعافي كل مسلم. أخي في الله! الشكوى إلى الله الذي هو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، سبحانه لا إله إلا هو، وهذا البلاء قد يكون بسبب ذنب، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والرحم، وحقوق المسلمين خاصة العلماء والصالحين والدعاة، فقد تكون آذيت أحدا منهم؛ لأن الإنسان قد يبتلى بالبلايا العظيمة بسبب الذنوب فيحذر من هذا، ولذلك يحذر طالب العلم من التعرض لأولياء الله، وكذلك قد يجعل الله لك هذا البلاء لحكمة يريدها الله عز وجل، كي يرفع به درجتك ويعظم به أجرك، فأحسن الظن بالله عز وجل. أما العلاج: فأول شيء كثرة الدعاء، وإذا جئت تدعو الله عز وجل فاستشعر في قلبك عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة في رحمته، وأنه أرحم بك من والديك، ثم تأمل لو أن والدك ووالدتك اللذين هما أرحم الناس بك، لو نظرا إلى حالك وبيدهما بعد الله شفاؤك لتقدما بشفائك، وما بالك بالله عز وجل الذي هو أرحم بك من والديك، فإذا شعرت هذا الشعور اعتمدت على الله، وارتاح قلبك؛ لأنه ليس عند الله إلا كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب) ، وهو سبحانه غاية في الكرم والإحسان والبر. فتقوي صلتك بالله عز وجل؛ لتدفع عنك هذه الوساوس، فيضعف سلطان الشيطان على قلبك، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا اشتكى إليه الموسوس والمهموم يوصيه بكثرة التفكر في عظمة الله؛ لأن ذكر الله عز وجل يضعف سلطان الشيطان على القلب، فإذا تفكر في عظمة الله وملكوت الله عز وجل ذكر الله، والله يذكر من ذكره، وحينئذ يضعف سلطان الشيطان على القلب؛ لأنه لا يمكن أن يتسلط على قلب معمور بتوحيد الله والإيمان بالله، فأوصيك أن تأخذ بهذا الشعور: رحمة الله عز وجل بعباده، ولا تظن بربك إلا كل خير، واسأل الله المسألتين، فقل: اللهم إن كان لي الخير في هذا البلاء وأن يبقى في والخير أن أصبر، فأفرغ علي صبرا يرضيك عني، فإذا بلغت هذا المبلغ نعمت عينك وقرت وجعل الله العاقبة لك، والأمور بعواقبها. فلو عاش الإنسان في هذه الدنيا وقد فرشت له الأرض ذهبا عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته فلا خير فيها إن لم تحسن العاقبة، فهذا فرعون الطاغية كان في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان:25] {وكنوز ومقام كريم} [الشعراء:58] {ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان:27] ، و (كم) للتعظيم والتكثير، فقد كانوا بهذه الحالة، ولكن كانت غايتها أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} [النازعات:25] {فأخذناه أخذا وبيلا} [المزمل:16] فماذا نفعه ذلك كله؟ إذا: ضيق الدنيا وسعتها لا عبرة به ما لم تحسن العاقبة، وكم من شخص يعيش في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن سلم من العناء في نفسه جاءته بنته تشتكي، وجاءته زوجته تشتكي، وجاءته أخته تشتكي، وجاءه أخوه يشتكي، وجاءته الدنيا من كل حدب وصوب، فلا يسلم من هم حتى يقع فيما هو أكبر منه، أو أعظم بلاء منه، ولكن ما هي العاقبة؟ إذا كانت هذه الهموم تجر العبد إلى ربه جرا، وتستوجب الرحمات وسحائب المغفرات، وتكفر الذنوب والخطيئات، فيا له من مقام، ينعم به عيشه ويرغد به حاله! قال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة: (إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله) وهذه هي العاقبة، فلا تفكر فيما فيك، بل فكر في العاقبة، وفكر أن لك ربا، وأنه هو الذي ابتلاك، وأنه هو الذي أنزل الداء ومنه الشفاء والدواء سبحانه لا إله إلا هو، فاستسلم، وما من عبد ينزل به البلاء فيسلم لله ويستسلم لله إلا تأذن الله له بالفرج. ولذلك قال الله عز وجل: {فلما أسلما وتله للجبين} [الصافات:103] أي: استسلم لله، {وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا} [الصافات:104 - 105] ، فجاء الفرج من الله عز وجل، وهي لحظة قتل وموت وفراق لهذه الدنيا، ومع ذلك قتل من؟ من يحبه ويهواه وفلذة كبده، وحينما أسلم واستسلم لله قال العلماء: هنا جاء الفرج من الله؛ لأن إبراهيم استسلم لله استسلاما كاملا، ولذلك مدحه الله في الموحدين المخلصين الموقنين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، بالإخلاص واليقين والشعور بالرضا عن الله عز وجل. فالعبرة بالعواقب، والإنسان إذا تفكر في العاقبة هان عليه كل شيء، ولذلك لما قال لها: (إن شئت صبرت ولك الجنة) ، فلما كانت عاقلة حكيمة نظرت للعاقبة فقالت: (أصبر يا رسول الله) !، أفوض الأمر لله عز وجل، وكم من عبد يسلط الله عليه البلاء بالهم والغم والنكد؛ لأن الله يعلم أنه لو كان في عافية لطغى وبغى، فيلطف الله به من حيث لا يشعر، ويقاد إلى الجنة بالسلاسل، بالهموم، بالغموم، بالنكبات، بالفجائع: (إن من عبادي من لو أغنيته أطغيته) يطغى لكن الله يحبه في الصالحين ولا يحبه في الطغاة المجرمين. ولذلك مما يسلي العبد: استشعار ما له من الأجر والمثوبة عند الرحمن، فكل زمن مر عليك وأنت مبتلى صابر كتبت لك ثوانيه ولحظاته ودقائقه وساعاته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلمها رب لا تخفى عليه خافية، سمع فيها شكواك وبثك وحزنك، وأنت تبث حزنك إليه سبحانه، وتشتكي إليه سمعك متضرعا سائلا متوجعا متفجعا قلقا، ومع ذلك لم يستجب لك الدعوة عاجلا، فكتب لك بها درجات، أو صرف عنك مثلها من البلاء، فلا تدري كم لك في هذه الدعوات من خيرات وبركات وعواقب صالحات لا يعلمها إلا فاطر الأرض والسماوات. ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله يوم القيامة، لتمنوا أن حياتهم كلها كانت بلاء، ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله عز وجل من الأجر والمثوبة لتمنوا أنهم منذ نعومة أظفارهم وهم في البلاء، لعظيم ما يجدون عند الله عز وجل، ويكفي المبتلى قول الله جل وعلا: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] ، تمضي الليلة على أخيك مثلما مضت عليك، لكن يكتب لك في ميزان حسناتك ما الله به عليم، وعلى ذلك الشقي الذي أغوي بالمال والجمال والشباب والصحة والعافية الشقاء، فينغمس في معصية الله عز وجل، فنجوت وهلك غيرك، شهران لم يقر قرارك ولم تهنأ نفسك، ولكن ربك ليس بغافل عنك، فأبشر بكل خير، وأحسن الظن بالله، وارج من الله الفرج. ومما أدعوك إليه كثرة الاستغفار؛ لأنه سبب الرحمة، وكذلك أيضا عليك بكثرة قراءة القرآن؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ودفع للوساوس والقلق، ومما أدعوك إليه أن تتفكر في أن الموت ليس بهم ولا غم، وإنما الهم والغم أن يكون الله غاضبا عليك، فإذا كان الله غاضبا على عبده فويل له إذا لقي ربه، وويل له من ساعة موته وفراقه لدنياه، وأما إذا كان ربه راضيا عنه فما أسعدها من ساعة وما أسعدها من لحظة! قال صلى الله عليه وسلم حينما قالت فاطمة: (واكرب أبتاه! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم) . ولذلك قال الله عن أهل الجنة: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] أذهب عنا الحزن؛ لأنهم عاشوا حياتهم كلها حزن، وأهل الإيمان من حزن إلى حزن، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدم عبد الله الصالح الجنة، فينسى كل هم مر به أبدا، وفي الحديث الصحيح: (أنه يؤتى بأبأس أهل الدنيا ثم يغمس في نعيم الجنة غمسة ويقال: عبدي! هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا وعزتك ما مر بي بؤس ولا مر بي هم ولا مر بي غم) ، مما رأى من نعمة الله عز وجل ومن كرامة الله سبحانه وتعالى ومن حسن العاقبة. فليبشر كل مبتلى، وليحسن الظن بالله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همومنا وغمومنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يفرج عن كل مسلم مهموم مغموم همه وغمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (491) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [4] من أنواع القتل العمد: القتل بالسببية، وهو أن يتسبب الشخص في قتل الغير دون أن يباشر القتل بنفسه، وللقتل بالسببية صور كثيرة: كأن يحبسه ويمنعه من الطعام والشراب حتى يموت، أن يقتله بالسحر، أو يقتله بالسم، أو يشهد جماعة زورا على رجل بما يوجب القتل فيقتل وكل هذه الصور لابد فيها من شروط حتى يحكم بكون القتل عمدا يجب فيه القصاص. من صور القتل العمد بالسببية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا] . شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالبا، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس. والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعام وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالبا، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوما واحدا ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوما ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسبب آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب. ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص. إذا: هذه الصورة يشترط فيها أولا: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلا لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتل لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلا لنفسه والعياذ بالله! كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثرا، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطا اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمد من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها. ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب. إذا: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة. الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود. أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوما، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه. وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالبا) ، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا. ويبقى السؤال لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟ هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء:30] ، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمد على أصح قولي العلماء. ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوما يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعم وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم) ، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه. وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس. ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافيا في الحكم، وهكذا لو رماه في بئر فإن هذا يعتبر قتلا، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمد موجب للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، فدل على أن هذا يعتبر قتلا، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقا للروح، وقتل عمد موجب لثبوت القود والقصاص. القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد قال رحمه الله: [أو يقتله بسحر] . سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شرا في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. ليكون في ذلك سلوانا لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها. ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختبارا وامتحانا لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال. والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتل بأسباب خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسم يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذ يحكم به. وتأتي المسألة التي معنا أولا: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانيا: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب) . والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائما تريد الشر لبني آدم {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر:6] {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} [الكهف:50] ، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلانا سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلا سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلانا سحر فلانا لا نعرف من هو أصلا، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلانا يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلان سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جدا، وفيه أمور حساسة جدا تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم. فينبغي أن يكون القارئ محافظا على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أمورا تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة. فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـ أبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئا إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر) ، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب) ، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة. فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريص عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلانا قد سحر فلانا، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلانا سحر فلانا بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلانا، وأن سحره الذي سحر به قاتل. وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناء على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحرا يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحرا يمنعه من النوم بتاتا حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحرا يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص. القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد قال رحمه الله: [أو بسم] أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم. والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبيا أنها قاتلة. وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون موادا نباتية، أو موادا كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة. وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولا: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلا، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطا، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود. لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعا خاصا، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله: فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح. فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور: الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهرا أو خفيا، فإن كان ظاهرا وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة. الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل. الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئا يؤكل فأكله، فحينئذ هذا قتل عمد يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة. الصور التي تكون عليها المادة السامة وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور: الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها. الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة. الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت. فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطا بغيره فليس بقتل عمد، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالبا، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمد. وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله. ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلا: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر. وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن. وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلا- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جدا، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذ يكون قتل عمد. فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية: فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئا يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناء على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية. الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريبا من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضا: الكتف بعيد عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة) ، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصا بـ بشر، وبناء على ذلك صار أصلا، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله) ، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة:87] ، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: {وفريقا تقتلون} [البقرة:87] ، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالسم، وصار أصلا عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون الجواب أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمرا، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جدا، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمان به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود. فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه. ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعم أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزم بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلا، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه. القتل بشهادة الزور وما يجب فيه قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك] قوله: [أو شهدت عليه بينة] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلا لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى أضاعت فلم تغفر لها خلواتها فلاقت بيانا عند آخر معهد دما عند شلو تحجل الطير حوله وبضع لحام في إهاب مقدد يصف غزالا ريما فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بيانا) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بيانا عند آخر معهد) ، أي: وجدت علامة ودليلا عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دما عند شلو) : الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه. فقوله: (فلاقت بيانا) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق. وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالبا، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تعرف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب. وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام. فإذا شهد شهود على شخص وكانوا شهود زور -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سببا لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلا موجبا للقصاص والقود. أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلانا وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهود عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأ، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان. وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلما، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل. والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلا، أو الناس الذين رجموه إن مات رجما في حد الزنا، والشهود سبب في القتل؟ و الجواب أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم. ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زور واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان السؤال إذا اعترف الساحر أنه قتل فلانا بالسحر، وأنه قد جاءه رجل وطلب منه ذلك، فهل يقع الحكم على الساحر ومن استأجره أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإغراء الساحر بالمال حتى يقتل سبب، ولكنه ليس بسبب قوي في حصول الإزهاق والقتل، فلا أحد أكره الساحر على فعل السحر، إنما هو الإغراء بالمال فقط، لكن لو أنه جاء إلى الساحر ووضع سلاحه على الساحر وقال: إن لم تقتل فلانا أقتلك، فهذه المسألة سنذكرها في باب الإكراه، ويكون تهديد وإكراه الساحر وتخويفه مؤثرا، أما في مسألتنا فإن القاضي يعزر هذا الشخص الذي أغرى الساحر بالمال، ولذلك لو جاء شخص إلى شخص وقال له: خذ هذه المائة ألف واقتل فلانا، فذهب وقتله، لم يجب القصاص على من دفع المال؛ لأن الذي باشر القتل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة الإكراه. والأصل عند العلماء أنه إذا دفع الشخص للقتل فإما أن يدفع بقوة مؤثرة، فحينئذ تكون السببية فاعلة ومؤثرة، وإما أن يدفع دفعا ليس هو المؤثر حقيقة، فتكون سببية قاصرة، مثل الإغراء بالمال، بمعنى: أن نفس الساحر هي الخبيثة وهي القاصدة للشر، وهي المريدة له، فما فتأت منذ أن وجدت إغراء أن تتقدم لهذا الشيء، وهذا لو كان القاتل عنده شهوة للقتل وشهوة لإزهاق الأرواح بمجرد ما يأتيه إغراء قام وقتل. إذا: هذه المباشرة تعتبر هي المؤثرة، وهي التي يحكم بالقصاص فيها، وأما بالنسبة لهذا الشخص فإذا عزره القاضي فيعزر تعزيرا بليغا يليق بجنايته وما ترتب على إغرائه للساحر حتى قتل بسحره، والله تعالى أعلم. معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟ الجواب لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المكره وتسقط القصاص عن المكره، فلا قصاص عندنا لا على المكره ولا على المكره، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاض مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماما، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة. فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدرا، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوما لوليه سلطانا، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدرا. فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جدا توجب التأثير في الحيلولة دون القتل. ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحيانا شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم) ، مثلا: لو أن شخصا كان مسافرا مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا. وكذلك في مسائل الخمر، فمثلا: لو أن شخصا معروفا بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شرابا وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيرا فشربته فإذا به خمر، فحينئذ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضا الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جدا. ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم. كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟ السؤال أشكل علي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر مع أنه عليه الصلاة والسلام محافظ على الأذكار التي تقي من الشرور عموما، أثابكم الله؟ الجواب مما لا شك فيه أن المعوذات نزلت بعد قضية السحر، ولذلك اقتضت حكمة الله أن المعوذات لم تنزل قرآنا يتلى إلا بعد قضية سحره عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال لا يشكل ولا يلتبس عليك الأمر، ودع وساوس الشيطان عنك، فإذا جاء شيء في الشرع وحكم الله عز وجل به فسلم به واترك عنك كل شيء يشوش عليك في هذا الباب. والأهم من ذلك أنه لم يحصل لهذا السحر تأثير على الوحي، فإذا جاء عقلاني يريد أن يناقشك فقل له: أثبت لي أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له من هذا السحر تأثير على الوحي، أو أنه قال أو قرأ آية أو ادعى وحيا وهو مسحور هذا أمر. الأمر الثاني: إذا قال لك: كيف يسحر وهو يوحى إليه؟ فقل له: الأمر بسيط، فإن المسحور يسحر مع زوجته، لكنه مع الناس رجل طبيعي، فإن المسحور إذا سحر لبغض زوجته فتجده طبيعيا في جميع الأمور إلا إذا دخل بيته، فإذا كان السحر محدودا في شيء معين فما الذي جعلك أنت تتصوره عموما؟ وإنما أشكل عليهم هذا لأنهم لم يفهموا ما هي حقيقة السحر، وجلسوا يخوضون ويتكلمون في شيء لم يفقهوه، فظنوا أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر فيصبح -أجارنا الله وإياكم- كالمجنون، مع أن السحر جاء محدودا، وقد بينته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعل) ، هذا ما ورد في الرواية الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا التأثير المحدود ليس له سلطان على الوحي، لكن البعض يريد أن يدخل في المغيبات ويسأل: كيف يتأثر الجسد بالسحر؟ فنقول له: إذا جئت تخوض في هذه المسألة فأعطنا من عندك علما بالأسحار كيف تؤثر بالأبدان؟ وكيف هي طبيعتها؟ حتى نعلم أن هذا السحر يستحيل أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم أثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر على وجه يتعارض مع الوحي ويتعارض مع الرسالة، فلابد من إثبات القضيتين، والواقع أنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يخوض في ذلك. وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات أنه سحر، فنقول: سحر عليه الصلاة والسلام، فسيقول لك: كيف يسحر وهو نبي الأمة؟ فنقول: لا يمنع أن الله يسلط الشياطين عليه لحكمة، ألم تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام؟ ألم يشج بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فقد سلط عليه -عليه الصلاة والسلام- الألم النفسي، والألم البدني، والألم الروحي، وهذا كله لحكمة، ابتلي بالألم الروحي حتى إن زوجته تتهم بالزنا، ويمكث النبي عليه الصلاة والسلام مدة وهو لا يعلم هل هذا صحيح أو لا، وقد جاء في الصحيح أنه جاء إلى عائشة وجلس عندها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) ، فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟! هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقف بين الأمة وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يقول لها: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) ، فما استطاعت رضي الله عنها أن تجيبه حتى بكت. فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحد، فكان من أعظم الأيام التي مرت عليه، وهذا كله من الأذى، وما من مكروب ولا منكوب ولا مهموم ولا مغموم من أمته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- يأتيه هم إلا ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بأضعافه وأشد منه، فيسلو ويقول: إذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ابتلي فأين أنا من هذا كله! وأنبياء الله عز وجل من قبل أوذوا وابتلوا، فهذا موسى عليه السلام يؤذى في كل شيء، حتى جعل الله وجاهته في الدنيا والآخرة بهذه الأذية {لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} [الأحزاب:69] ، سبحان الله! الوجاهة والإنعام على الأنبياء لا يكون لهم ذلك إلا بعد البلاء، وهذا أيوب قال الله عنه: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} [ص:44] الله أكبر! إذا قيل للإنسان: نعم العبد، كيف بالعبد إذا أثنى عليه والده أو شيخه أو أي إنسان له مكانة ووجاهة، فما بالك إذا قالها أصدق القائلين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى يقول: {نعم العبد إنه أواب} [ص:44] لكن متى؟ لما قدم الثمن، لما قدم الدليل، لما جاء بالصبر {إنا وجدناه صابرا} [ص:44] ، فما جاءت هذه الكلمة ولا جاءت هذه الشهادة من رب العالمين من فراغ، وما جاءت بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة أن يقول الإنسان: إنه موحد، أو أنه صاحب عقيدة، أو إنه صاحب إيمان، أو إنه من الصابرين، أو إنه من المحسنين {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران:179] إذا لا بد أن تأتي فتن ومحن وبلايا. ثم أيضا: إذا جئت ونظرت إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم في حياته كلها طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة، لا يخرج من هم إلا ابتلي بما هو أكثر وأعظم منه صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءته سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، فخرج من الدنيا بسكرات الموت، فلو جاء شخص من الناس في يوم من الأيام قد ابتلي بالسحر فقال له شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوذي وفعل به، فيقول: لكن الذي جاءني من السحر ما أظن أحدا ابتلي بما ابتليت به، لكن إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بهذا الأمر سلت نفسه وسلت روحه، وعلم أن هذا لا ينقص قدره. ومن العجيب أن تسلط الشياطين على الإنسان في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشك في مكانته عند الله؛ لأنه من المعلوم أن الله يسلط الشياطين عادة على أوليائهم، لكن أهل الطاعة إذا سلط عليهم الشياطين فقد يظن الواحد منهم أن هذا لنقص عنده، أو غضب من الله عز وجل عليه، أو سخط، لكن حينما يعلم أن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد أوذي وسلط عليه وابتلي صلوات الله وسلامه عليه، عندها تسمو نفسه، ويطمئن قلبه، ويثق بالله عز وجل. أيضا: بسبب هذا السحر وهذا الابتلاء أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، وهي من أعظم ما يكون، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل بالتعاويذ الشرعية، فلما نزلت عليه المعوذتان لزمهما وترك ما سواهما) ، من عظيم ما فيها من الحرز للعبد. {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} [الفلق:1 - 2] فما تركت شيئا في هذا الوجود من الشر إلا وقد استعذت بالله منه، {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} [الفلق:1 - 2] أي: من أي مخلوق شر، كلمتان وجملتان ما تركتا شيئا، لكن متى جاءت؟ جاءت لما ابتليت الأمة وابتلي نبيها عليه الصلاة والسلام، إذا فقد صار السحر خيرا على هذه الأمة؟ والله يقول في القذف: {لا تحسبوه شرا لكم} [النور:11] في قذف عائشة رضي الله عنها، القذف الذي فيه انتهاك للعرض، وفيه بلاء، يقول الله: {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور:11] ، فهي أمة مبتلاة؛ ولكن هذا البلاء رحمة، ولا يمكن أن يظهر فضل أهل الفضل وصبر الصابرين ورباط المرابطين، إلا إذا احتكت قلوبهم بالبلاء من رب العالمين، وعندها: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} [إبراهيم:27] ، وعندها ينعم الله على عباده فيسلهم من ذلك البلاء كما تسل الشعرة من العجين، وسلم من ذلك كله لطفا من أرحم الراحمين وكان ربك خبيرا بصيرا، فالله أعلم بخلقه، وأعلم بعباده، ومن يقرأ قصة أيوب عليه السلام وابتلاءه وتسليط الله عز وجل للشيطان عليه؛ يدرك كيف أن الله عز وجل يمتحن عباده هذا الامتحان العظيم، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد. وعلى كل حال: أعود وأكرر أن المسلم دائما يلتزم بالتسليم، فلا تدخل في هذه المتاهات، وأوصي أن مثل هذه المسائل الدقيقة لا تقبل من كل أحد، وما يثيره بعض العقلانيين من رد السنن الصحيحة والطعن فيها والتشكيك فيها بناء على أن عقولهم لا تتحمل، فوالله ليست عقولهم التي تتحمل، وليست نفوسهم التي تتحمل، ولكنها قلوب ران عليها المرض فاستغلقت فما قبلت وما أسلمت وما استسلمت -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك عجز منهم -والعياذ بالله- التصديق لهؤلاء العدول الثقات الذين أجمعت الأمة على قبول رواياتهم فيما صح في الصحيحين وغيره من الأحاديث الصحيحة، فضربوا بها عرض الحائط؛ بل لم يقتصروا على ذلك حتى قالوا بالتشكيك والشبهات؛ لأجل أن يبطلوا حقا، ويحقوا باطلا، نسأل الله بعزته وجلاله أن يقطع دابرهم، وأن يخرس ألسنتهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفرا أو عاد منه لمن كان مقيما بمكة السؤال أنا من سكان مكة واعتدت عند خروجي منها للسفر أن أطوف بالبيت وحين وصولي إليها كذلك، فهل عملي هذا صحيح، وذلك اعتقادا مني بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم من السفر أن يبدأ بالمسجد أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالحديث صحيح وثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من السفر أنه يبدأ بالمسجد قبل بيته عليه الصلاة والسلام، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وفعلك لا بأس به ولا حرج، ما لم تعتقده تشريعا، بمعنى أنك تقول: إنه لا يسافر أحد حتى يطوف، أو لا يدخل مكة حتى يطوف، فهذا فيه الزيادة والحدث، وأما بالنسبة لما تفعله فليس فيه من بأس، وليس فيه من حرج؛ بل هو عمل خير وبر نسأل الله العظيم أن يثبتك فيه، وأن يكتب لك الأجر فيه، والله تعالى أعلم. حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر السؤال هل يبدع من داوم على صلاة الراتبة في السفر؟ الجواب لا شك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الراتبة في السفر، وإذا اعتقدها فلا شك أنها بدعة؛ لأنها أولا: العدد مخصوص، والزمان مخصوص، أن يصليها قبل الصلاة، وبعد الصلاة، فيصلي أربعا قبلية، ويصلي البعدية، ركعتين للمغرب بعدية، وركعتين للعشاء بعدية، وهذا كله توقيت، وضوابط البدعة منطبقة عليه، ولذلك إذا اعتقدها سنة راتبة في السفر فإنه لا شك أنه قد ابتدع، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم سافر ولم يصل راتبة في السفر إلا راتبة الفجر، وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل) ، تعظيما لشأن ركعتي الفجر، فإذا صلى الراتبة في السفر فإنه قد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعارضه وأحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن الذي في دين الله ألا تصلى هذه الصلاة في السفر، وهو أحدثها وصلاها في السفر، ولو صلاها نافلة عامة فلا بأس، لكن يصليها وهو يعتقدها راتبة، فلا شك أنه مبتدع، ولذلك عليه أن يقلع عن ذلك ويتوب، والله تعالى أعلم. حكم تأجير الوقف للاستفادة منه السؤال إذا كان الوقف لا يستفاد منه، فرأى الناظر على الوقف أن يؤجر عينه، ويستفيد من ثمن الإجارة في وقف آخر، فهل تجوز إجارة الوقف في مثل هذه الحالة أثابكم الله؟ الجواب مسائل الأوقاف مسائل دقيقة، والمسئولية عنها أمام الله عظيمة، ولذلك تلاعب الناس -خاصة في هذا الزمان- في الأوقاف، حتى إنك تجد بعض الأوقاف مسبلة على مصالح يستحدث فيها دكاكين للإيجار، ويستحدث فيها عمارات للاستغلال، وتخرج كثير من الأوقاف عن مقصودها الأساسي من رحمة الضعفاء والرفق بالأيتام والمساكين إلى هذه الأشياء الدنيوية التي لم يردها أهلها يوما من الأيام. شخص يأتي ويبني رباطا لأيتام لأرامل، نظر إلى الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، وماله بين يديه، فأحب أن يقدمه لآخرته، فجاء واشترى له أرضا وبنى فيها رباطا، وأدخل فيه العجزة والمساكين، وقال للناظر: قم على هؤلاء وانظر في مصالحهم، فيأتي الناظر في يوم من الأيام ويريد أن يهدم هذا الرباط ويجدده، ويحدث دكاكين في البناية الجديدة، ويأتي ويبحث له عمن يفتيه بهدم الرباط الأول، ويستدين مبلغا من المال من أجل أن يبني رباط جديدا. كذلك إحداث مرافق مالية تدر أموالا، حتى يسدد الذي على الوقف، ثم يبدأ يستدرجه الشيطان -والعياذ بالله- وشيئا فشيئا، فبدلا من أن تكون المسألة محدودة بسداد الدين، يبدأ يتوسع قليلا حتى يصل الأمر إلى أنك تنظر للأيتام والأرامل والمساكين فلا تجد لهم حظا في هذه البناية بعد بنائها إلا ما ندر. ويصبح الميت في قبره معدوما من كثير من الأجر، ولو تركت العمارة على ما هي عليه لدرت عليه من الحسنات والأجور ما الله به عليم، ولكن سيقف ويرهن ويحاسب بين يدي الله، وسيكون خصمه لجرأته على تغيير وتبديل ما لا يجوز له تغييره، فهذه أمور لا ينبغي التلاعب فيها والتساهل، ومن قرأ الفقه وقرأ فتاوى العلماء، يجد كيف كانوا يشددون في مسائل الوقف، حتى الخلاف في المسجد الذي يكون في جزء من أجزائه خلل هل يهدم ذلك الجزء أو لا يهدم؟ وتجدهم يختلفون تعظيما لحرمة الوقف؛ لأن الوقف ليس بالسهل، وليس بالأمر الهين، بل هو يحتاج إلى نظر، ويحتاج إلى تقوى لله عز وجل وورع وصيانة، فهذه أمور ترتبط بها حقوق الموتى، وترتبط بها حقوق أناس آثروا الآخرة على الدنيا. فيبحث المفتي والفقيه في المسألة حتى يعرف كيف يقف بين يدي الله ويفتي في هذا الأمر، ولقد عهدنا علماء أمثال الجبال علما وعملا ما تضيق عليهم الدنيا إلا إذا جاءت مسألة الوقف، والله إنك تجد وجه الواحد منهم يحمر ويرد السائل، ويحاول جهده ألا يبت في هذه المسألة؛ كل ذلك خوفا من الله عز وجل، فلا يحسب أحد أن هذا الأمر سهل، ولذلك تجد كثيرا من مشاريع الخير وأربطة الخير غير موجودة، أين ذهبت؟ بحكم الفتاوى، فتجدهم يقولون: نبني عمارة ونستغلها وبدلا من أن نسكنهم نعطيهم أموالا من الذي جعلك تغير إرادة الواقف، مع أن الذي أوقف قال: يدخلون فيها ويسكنون هذا المسكن؟ ما الذي جعلك تغير؟ يقولون: المصلحة، وهذا أفضل إلخ. فلذلك هذه المداخل التي يدخل بها والمصلحة التي تدعى، هذه أمور ينبغي أن تعرض على علماء ربانيين، ولا يفتى في مسائل الوقف إلا من عنده بصيرة، وعنده نور ورع، وعنده محافظة على هذه الأمور التي ينبغي المحافظة عليها. وقد نص العلماء على أن الوقف لا يملكه أحد، بل هو مال أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل؛ ولذلك لو أردنا بيع الوقف فلا نستطيع أن نصحح بيع الوقف إلا إذا قضى به القاضي؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مستندة مبنية على الولاية العامة لولي الأمر العام فيبيع ما لا مالك له، وحينئذ لا يمكن، فلو أفتى أي مفت فلا يصح البيع؛ لأنه لابد من حكم قاض، وهذا كله تعظيما لأمر الوقف، ولئلا يحسب أحد أن الأوقاف أمرها سهل، خاصة إذا تعلقت بها مصالح لأموات ونحوهم. وعلى كل حال: الأمر مثلما ذكرنا أنه ينبغي التورع ما أمكن في مسائل الوقف وعدم التساهل فيها. والخلاصة في الجواب: أنه لا يستفاد منه، فهذا أمر مبهم، فإن الخطأ أن يأتي المفتي ويفتي في هذه المسألة حتى يقرأ صك الوقفية، ويعرف ما هو هذا الوقف، والدعوة التي ادعاها الناظر أن مصلحته تعطلت، كأن يأتيك ناظر ويقول لك: تعطلت مصلحة الوقف، فيأتي إلى عمارة مبنية من عشر سنوات، ويرى فيها أيتاما وضعافا ساكنين فيها، وبمجرد ما يجد كهرباءها تعطلت أو ماءها يقول لك: لقد تعطل الوقف. فلا يعتبر عنده الوقف إلا إذا كان جميلا جيدا كاملا من كل النواحي، هذا هو الوقف عنده، لكن إذا حصل أي خلل يقول لك: تعطلت مسألة الوقف، ولذلك هذه الأمور لا تقبل فيها الدعاوى المبهمة غير الواضحة. وعند العلماء إذا كان -مثلا- بنى بناية للمسجد، وتعطل المسجد وأمكن أن تصبح مدرسة؛ صرفت إلى أقرب شيء، وقد تتعطل تعطلا تاما، فيمكن صرف عين الوقف لما هو من جنسه؛ لأنك لو بعت الوقف أو أجرته أخرجته عن أصل الوقفية؛ لأن أصل الوقفية ليس فيها استثمار، وإنما فيها حسنات وأجور، فينبغي أن تكون إلى الأقرب، ومن هنا قالوا: اختلف العلماء إذا أوقف على بدعة، أي على شيء خاطئ لا يجوز الوقف عليه، كبدعة مثلا يظن أنها سنة، فأوقف عليها، فمن العلماء من قال: يبطل الوقف. ومنهم من قال: يصرف لطلبة العلم. وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء والمحققين، يصرف لطلبة العلم؛ لأنه حينما أوقفه على الذكر، أو على أمور غير مشروعة، أراد أن يستغل المكان لطاعة الله وذكره، فبدلا من أن نحكم بالنقض والإبطال من الأصل وعندنا مجال للتصحيح فنصحح بالأقرب، فهو إذا قال لك: تعطلت مصلحة الوقف، فهل تعطلت تعطلا كليا أو تعطلت على وجه يمكن صرفه إلى الأقرب؟ وعلى كل حال: أحب أن أنبه إلى أن من عادتنا مع طلاب العلم أن نفصل في بعض الفتاوى، فنحن نريد المنهج، نريد أن يقعد لطلاب العلم؛ لأننا نجد اليوم من السهولة بمكان أن تسمع أحدهم يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، بيع الوقف يجوز أو لا يجوز، وهذا ليس هو المهم، إن الأهم هو رسم المنهج، ولذلك قد نفصل في بعض الأسئلة ونتوسع فيها، والمقصود من هذا: رسم المنهج، حتى يكون طالب العلم على بينة وبصيرة. وهذا السؤال لا يجاب عنه بالإجمال؛ لعدم وضوح السبب الموجب للحكم بتعطل الوقف، ولم يبين وجه هذا التعطيل، وهل بالإمكان المعاوضة والمناقلة في الوقف أو لا يمكن ذلك؟ وكل هذا أصل في الفتوى في هذه المسألة، لذلك ينبغي على السائل إذا أراد أن يسأل عن حكم هذا الوقف أن يحضر صك الوقفية وننظر فيه إن شاء الله، أو يعرضه على أهل العلم، أو يرفعه إلى القاضي، وهذا هو الذي أوصي به، وما يحكم به القاضي يقوم بتنفيذه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (492) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [5] من أنواع القتل: قتل شبه العمد، وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالبا فقتل بها، ومن صوره: أن يضرب بسوط أو عصا، أو يلكزه بيده، فيموت بذلك، وفيه خلاف، والصحيح وجوده. ومن أنواع القتل: قتل الخطأ، وهو أن يرمي شيئا فيصيب إنسانا لم يقصده فيقتله، ويندرج تحت القتل الخطأ: عمد الصبي والمجنون. قتل شبه العمد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالبا] . خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطا بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) . وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصا، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يقتص منه، فلا يوجب قودا، ويوجب الدية إجماعا، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعا عند من يقول بهذا النوع. وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ. والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا) ، وكذلك أيضا يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصا، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد. وقد سمي شرعا بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطا بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصا، وصار وسيطا بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات. فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالبا، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدرا فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة. ضابط قتل شبه العمد قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالبا] فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالبا، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالبا- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد. إذا: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملا لآلة تقتل غالبا. وقوله: [ولم يجرحه بها] . لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك. صور قتل شبه العمد قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل] . فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيدا عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالبا، فترجح أن موته قدرا، وليس بفعل الجناية. وقوله: [بسوط] . أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا) ، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله. فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتا، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالبا، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معينا على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالا تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضربا مكررا مفضيا إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط! وبناء على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعا للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالبا؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص. وقوله: [أو عصا صغيرة] . إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبيا أو صغيرا وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالبا؛ فإنه قتل عمد. وقوله: [أو لكزه] . أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيرا؛ كما لو أخذ طفلا في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد. إذا: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم بعضا، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالبا، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص:15] ، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطا بين ما لا يقتل غالبا وما يقتل غالبا، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام. وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفا، أو مريضا، أو شيخا هرما، أو طفلا صغيرا؛ تقتله اللكزة غالبا، أو كان شابا قويا جلدا، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالبا مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص. وقوله: [ونحوه] . أي: شبهه. قتل الخطأ قال المصنف رحمه الله: [والخطأ أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيدا، أو غرضا، أو شخصا، فيصيب آدميا لم يقصده] . قوله: (ما له فعله) أي: ماله أن يفعله عمدا، وهذا النوع من أنواع القتل، وهو قتل الخطأ، والغالب في المسلم، بل الأصل في المسلم ألا يقتل أخاه إلا خطأ، ومن هنا قال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] . مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأ أن يضمن النفس، فصار حقا للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل. والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأ لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأ إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناء على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيرا كثيرا للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها. وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيما لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] . ومن قتل خطأ لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلا ساقها، فصدم شخصا فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضا إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية. وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالا وظنه صيدا، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصا يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضا، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالبا من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزا، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جليا. وقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم} [الأحزاب:5] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وليس عليكم جناح) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأ لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي. وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأ الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناويا للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات) ، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصدا للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية) . ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصدا أو غير قاصد. فمثلا: قالت الشريعة: من أتلف شيئا رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية. ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلا: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلا فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصدا أو غير قاصد. وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناء على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها. صور القتل الخطأ قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يرمي ما يظنه صيدا] . الآلة التي رمى بها وهي: السلاح تفعل فعل العمد، فتوجب زهوق النفس، لكن في شبه العمد الآلة لا تقتل غالبا، ومن هنا فإن الخطأ يكون برمي شيء بشيء قاتل يظنه غير معصوم؛ فبان معصوما، كأن رمى بهيمة فأصاب إنسانا، ونحو ذلك، فالآلة قاتلة، والمرمي مقتول، ولكن الرامي لم يقصد المقتول، ولم يرده. وقوله: [أو غرضا] . مثلا: وضع هدف فرمى الناس على هذا الهدف، فلما رموا الهدف، مر شخص بينهم وبين الهدف، فهذا إذا قتلوه فهو قتل خطأ. وقوله: [أو شخصا] . كأن رمى كافرا مهدر الدم -حربيا- فجاء مسلم بينه وبين الكافر فقتله، ومن رمى مسلما يظنه حربيا، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، لكنه عند بعض أهل العلم يدخل في هذا؛ لأنه ظنه كافرا فبان مسلما، فليس بقتل عمد. وقوله: [فيصيب آدميا لم يقصده] . أي: لم يقصده بالقتل. حكم عمد الصبي والمجنون قال رحمه الله: [وعمد الصبي والمجنون] أي: وعمد الصبي والمجنون خطأ؛ لأن الصبي غير مكلف، فلو تقاتل صبيان، فأخذ صبي منهما السلاح فطعن الآخر وقتله، فإنه لا يقتص من الصبي القاتل؛ لأنه غير مكلف، وغير مؤاخذ؛ لعدم وجود العقل الذي هو مناط التكليف، ولكن تجب عليه الدية، فإن كان للصبي مال؛ وجبت في ماله، والأصل عند العلماء رحمهم الله أن عمد الصبي والمجنون خطأ؛ لعدم التكليف، فإن كان للصبي عاقلة ضمنت عنه الدية، وإلا كانت من بيت مال المسلمين، على الأصل المعروف في باب الديات. فالشاهد: أن الصبي إذا تعمد القتل فعمده خطأ، وإذا تعمد الإتلاف فعمده خطأ. ولو جاء صبي وكسر سيارة شخص، وجب ضمان هذا الشيء المكسور، ويجري عليه مجرى الخطأ، ولا يجري عليه مجرى العمد؛ فإذا تعمد شخص إتلاف شيء، ولا تضمن عاقلته إذا كان فوق ثلث الدية؛ لأن العاقلة تعقل -وسيأتينا إن شاء الله- وهذا نظام شرع في الإسلام، نظام العاقلة: وهم القرابة والعصبة، وهم يتحملون الدية في الخطأ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأتين من هذيل بالدية على عاقلة المرأة القاتلة، فهذا يدل على أن الصبي إذا قلنا: إن قتله خطأ؛ فعاقلته تعقل، وإن قلنا: عمده خطأ، فمما ينبني على ذلك ضمان الجناية، سواء أتلف مالا أو نفسا، فإنها تأخذ حكم القتل بالخطأ. ولو أن مجنونا -والعياذ بالله- أخذ سلاحا وقتل شخصا، فإنه لا يقتص من المجنون؛ لأنه غير مكلف، ويجب أن يضمن أولياء المجنون وعاقلته الدية، ولو أنه جنى جناية؛ فقطع يد شخص، أو أتلف مال شخص، فهذا كله يعتبر من الخطأ؛ لعدم التكليف في المجنون والصبي. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (493) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [6] من المعلوم أنه يجب أن نعرف نوعية القتل حتى نزل الحكم في منزله، فالعمد له حكمه والخطأ له حكمه والخطأ له حكمه وشبه العمد له حكمه، وقتل الخطأ لا يكون فيه قصاص بل تجب فيه الدية والكفارة. قتل الجماعة بالواحد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تقتل الجماعة بالواحد] . بعد أن بين المصنف رحمه الله أنواع القتل، ومتى يحكم بقتل العمد، ومتى يحكم بقتل الخطأ، ومتى يحكم بالوسيط بينهما؛ وهو قتل شبه العمد؛ شرع في مسائل القتل بالاشتراك؛ وهذه المسألة -وهي قتل الجماعة الواحد- تكون غدرا، وفتكا، ومجاهدة، ومغالبة. االقائلون بقتل الجماعة بالواحد فإذا اشتركت الجماعة في قتل الواحد؛ فالأصل أنهم إذا اجتمعوا وفعلوا به فعلا، لو انفرد كل واحد منهم بفعله لقتله؛ فكلهم قاتل، وبناء على ذلك فإن هذه الصورة لا خلاف فيها عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد. فنبدأ بالمجمع عليه عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد: الجماعة: اثنان فأكثر، والأصل أن الجمع ثلاثة، لكن هنا مرادهم: أن يشترك اثنان فأكثر، فلو اتفق اثنان على شخص أن يقتلاه؛ فجاء أحدهم وبقر بطنه، وجاء الآخر وطعنه في قلبه، فكلا الفعلين وقعا في زمان واحد، أو ضربتان قاتلتان وقعتا في زمان واحد، وكلا الفعلين مزهق، وكل منهما قاتل، فجمهور العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم على أنه يقتل هذان الشخصان بالواحد، وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة، وقد نفذ هذا الحكم أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوا جماعة بواحد، فأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فارتفعت إليه قضية من اليمن: أن جماعة تمالئوا على رجل، وقتلوه غيلة، استدرجوه وقتلوه، وهذا ما يسمى: بقتل الغيلة، كأن يخدع ويستدرج ويخرج من المدينة، أو يقولون له: نريدك في نزهة، أو نريدك في غرض ما، أو نريد أو نرى بستانك، أن نريد أن نريك شيئا، أو نريد أن تذهب معنا في السفر، فيستدرجونه حتى يخرج، ثم بعد ذلك يغتالونه ويقتلونه، فهذا من قتل الغيلة، فيؤخذ على غرة-على حسن نية- فيقتل، وهذا من أخبث ما يكون من أنواع القتل، والغالب أنه لا يقع إلا من الأنفس الشريرة، حيث تكون هناك عصابات تقوم بمثل هذا، الفعل فقال عمر رضي الله عنه: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. فقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنهم كانوا سبعة، وقيل: تسعة أشخاص، كانوا متمالئين عليه حتى قتلوه. أما علي رضي الله عنه فقتل أربعة بواحد، وأيضا له قصة ثانية في قصة عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، حين كان عاملا له على النهروان، فقتله أهل النهروان، فكتب إليهم أن ادفعوا إلي من قتله، فأخذتهم العزة، فقالوا: كلنا قتلناه، فقال: إذن سلموا أنفسكم لأقتلكم جميعا به، وإلا آذنتكم بحرب، فامتنعوا، فركب إليهم فقتل منهم قتلا ذريعا، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك أيضا عبد الله بن عباس قضى بهذا، أما الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة فقد قتل في إبان ولايته وإمارته؛ وقد كان أميرا لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه على الكوفة، فقتل ثلاثة بواحد، وقيل: أربعة بواحد. فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أثنان مأمور باتباع سنتهما، والعمل بها؛ وهما: الخليفتان الراشدان: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وأرضاهم. وقد وقعت هذه الحوادث ونفذ فيها الحكم من هذين الراشدين أمام الناس، وعمل به الناس، وتوافرت الدواعي لنقله، ولم ينقل إلينا إنكار أحد من الصحابة على هذين الصحابيين. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه حكم متفق عليه بين الصحابة، وهذا ما يميل إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ويقرره غير واحد من العلماء؛ أن هذا الحكم صدر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدينة مليئة بفقهاء وأئمة الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج للجهاد؛ لأنه كان يحتاجهم للفتاوى، ومن هنا قالوا: إن المدينة كانت عامرة بأهل الفتوى والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أحد هذا الحكم وهذا القضاء. وكذلك أيضا قال بهذا الحكم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن عون -التابعي المشهور- وكذلك الحسن البصري، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور؛ على أنه تقتل الجماعة بالواحد. واتفقوا على أنه إذا كان كل واحد منهم انفرد فعله بقتل، فإنهم يقتلون به، والذين قالوا بقتل الجماعة بالواحد اتفقوا على الصورة التي ذكرناها، لكنهم فصلوا، واختلفوا في بقية الصور. القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد وهناك قول ثان: أنه لا تقتل الجماعة بالواحد؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، وقول ابن المنذر، وطائفة من متأخري السلف رحمة الله على الجميع، حتى قال بعض العلماء: إن هذا القول أسبق، وقد حكي هذا القول عن عبد الله بن الزبير، وعن معاذ بن جبل، ولكن لم يوثق، ولم يحرر بالرواية الصحيحة، ولذلك فإن حكاية الخلاف عن الصحابة لا تقدح في الإجماع ما لم تكن موثقة؛ لأن هناك قولا للصحابي حكاية أو قولا للصحابي رواية، وهنا جاء من باب الحكاية، ولم أطلع على رواية صحيحة عن هذين الصحابيين أنهما قالا: لا تقتل الجماعة بالواحد. وكذلك أيضا قال به محمد بن سيرين من التابعين. وهناك قول ثالث: قالوا: إذا قتلت الجماعة واحدا، فيقتل واحد بالمقتول، ثم يؤمر البقية بدفع ما بقي على حسب حصصهم من الدية، فمثلا: لو اشترك ثلاثة في قتل واحد يقتل واحد منهم، ثم الاثنان الباقيان يدفع كل واحد منهما ثلث الدية، ولو اشترك عشرة في القتل فنقتل واحدا، ويدفع التسعة تسعة أعشار الدية، وقس على ذلك. وهذا القول ضعيف. أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد أما الدليل على أن الجماعة تقتل بالواحد: فقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمرنا أن نقتص من القاتل، وكل واحد من هؤلاء العشرة، أو الخمسة، أو الثلاثة، أو الاثنان، كل واحد منهم قاتل؛ لأنه لو انفرد فعله لقتل، وقد أتى كل واحد منهم بفعل قاتل فهو قاتل؛ لأن النفس أزهقت بهذه الأفعال القاتلة، فهو قاتل. وكذلك أيضا عموم الأدلة التي دلت على أن من قتل له مقتول فله الحق في الأخذ ممن قتله والقصاص، كقوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء:33] ، فجعل الله لوليه السلطان في أن يقتل من قتله، وكل واحد من هؤلاء قاتل. الدليل الثالث: الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقا، ووصله غيره، والسند صحيح عن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا الجماعة بالواحد، وسنة الخلفاء الراشدين مأمور باتباعها. الدليل الرابع: أننا لو قلنا: إن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لانفتح باب الشر والفساد والبلاء، فكل شخص يريد أن يقتل، يعلم أنه لو قتل سيقتل، فيطلب من شخص آخر أن يعينه على القتل؛ وحينئذ تسلم العصابات من القتل، ويسلم أهل البغي من القتل، ويذهب المقصود الشرعي من استتباب الأمن، وحفظ أنفس الناس، فما على أهل الفساد إلا أن يجتمعوا، ويتواطأ بعضهم مع بعض، فيقول أحدهم: أنا أريد أن أقتل فلانا، فشاركني حتى أشاركك لتقتل فلانا، وحينئذ تذهب الحكمة من شرعية القصاص، ويسترسل أهل الشر في دماء المسلمين، وقد قال الله عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، فقوله: (النفس) : جنس، فالنفس المقتولة بالنفس القاتلة جنس، سواء اتحدت أو تعددت. أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها أما الذين قالوا: إنه لا تقتل الجماعة بالواحد، فقالوا: إن الله تعالى أمر بالمساواة في القصاص، فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] ، وأجيب: بأن الآية المراد بها: جنس النفس، بغض النظر عن العدد، وأيضا نقول: إن كل نفس من هذه الأنفس متهمة بالقتل لا على شك، ولا على مرية؛ لأن الفعل الذي فعلته قتل، وموجب للزهوق، فحينئذ يجب القصاص منها. وقالوا: إن النفس التي قتلت واحدة، والذين يقتص منهم أكثر، والله عز وجل يقول: {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} [الإسراء:33] قالوا: فحينئذ أسرفنا؛ لأننا قتلنا عشرة بواحد، وقتلنا ثلاثة بواحد. ونجيب عن هذا: بأن هذا الكلام ضعيف؛ لأننا نسألهم: هل الذين قتلناهم قتلة أو برآء لم يقتلوا ولم يفعلوا القتل؟ فإن قالوا: برآء، فإن الواقع يخالفهم، وإن قالوا: قتلة، فإن الله أمرنا أن نقتل القاتل. فنقول: قوله تعالى: (فلا يسرف) ، أي: لا يقتل من لم يقتل، أما قتل من قتل فلا يعتبر من الإسراف، وتوضيح ذلك: أن الإنسان إذا أخذ حقه لم يسرف، فإذا زاد عن حقه فقد أسرف، وأساء وظلم، فهذا الذي قتل الاثنين بالواحد قتل من قتل وليه، وإذا قتل من قتل وليه لم يسرف؛ لأنه قتل بحدود حقه، وحده: أن الاثنين قد قتلا، وأن الثلاثة اشتركا في القتل. ثانيا: نقول لهم: هؤلاء العشرة، أو هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، كل منهم فعل فعلا قاتلا، فإذا لم نقتله، فماذا نفعل؟ وإذا لم نقتلهم جميعا حصل الفساد والشر، كما بينا، فيشترك أهل الفساد فيقتلون المسلمين. وإن قلتم: نقتل واحدا، فنسألكم: هل الواحد قاتل؟ فإن الظاهرية يقولون: نقتل واحدا ونترك البقية، فنسألهم: لماذا قتلتم هذا الواحد؟ فإما أن تثبتوا أنه قاتل، مع أن الصفة التي فيه موجودة في غيره؛ لأن الكل منهم فعل فعلا موجبا للقتل، وما الذي جعل هذا يقتل وهذا لا يقتل؟ ثالثا: نقول لهم: أنتم تقولون: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون ما بقي من الدية، فجمعتم بين القصاص والدية! والله جعل الدية عوضا عن القصاص، وبناء على ذلك فلا يصح أن تجمع بين الأصل وبديله؛ لأن الشريعة جعلت الأصل، فإن لم يستطع فبديله. فإذا جئت تقول: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون تسعة أعشار الدية، فإنك في هذه الحالة خالفت، فإما أن تقتلهم جميعا، أو توجب الدية عليهم جميعا، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. وعلى كل حال: هنا قاعدة: أن خلاف العلماء وأقوالهم ما تعددت من فراغ، ولا اختلفت من هوى، ولكن حصل لكل منهم شبهة أو دليل، والحق أقوى دلالة، فقد تجد القول المخالف له وجه، لكن الأوجه والأقوى هو الصحيح، وإن وجدت حسنا عند المرجوح، فالأحسن عند الراجح؛ لأنك إذا نظرت إلى هدي السلف الصالح، وأصول الشريعة العامة، وعموم الأدلة التي أمرت بقتل من قتل، لاطمأنت النفس برجحان مذهب جمهور السلف رحمهم الله. صور قتل الجماعة بالواحد بقي في مسألة قتل الجماعة بالواحد: هناك اشتراك بالفعل، وهناك اشتراك بالفعل مع غير الفعل، فإذا كانوا قد اشتركوا في الفعل ففيهم تفصيل، وإن اشتركوا بفعل ورأي، فبعضهم دبر المكيدة، وبين الطريقة التي يتم بها اغتياله وقتله، وبعضهم نفذ وقام بالعمل، فهذا يحتاج إلى تفصيل. فعند بعض العلماء: أن الاشتراك بالرأي لا يوجب القصاص؛ لأنه يصبح سببية ومباشرة، وبعض العلماء يقول: إذا كان الذي خطط وقال الرأي عن طريق رأيه توصل إلى القتل، أصبحت سببية قوية التأثير في الزهوق، فيقتل مع من نفذ. ومن هنا احترز بعض العلماء خروجا من هذا الخلاف؛ لأنه لا يرى مسألة الرأي، فقال: تقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهما موجبا للزهوق لو انفرد، كما ذكرنا في الصورة المتفق عليها. ومنهم من قال بوجوب القصاص على المدبر إذا كان الشخص المنفذ لا يستيطع أن يعرف الطريقة التي يدخل بها، ولا يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى قتل هذا الشخص وجاءه هذا الشخص، وبين له الطريقة والوسيلة، ومكنه على وجه لولا الله ثم هذا التمكين لما حصل الإزهاق؛ فقالوا: إنه يكون شريكا له في القتل بسببية مؤثرة؛ لأنها سببية مفضية للقتل بقوة، فليست سببية ضعيفة، وقد بينا أن السببية تارة يقتل المتسبب والمباشر، وتارة يقتل المتسبب دون المباشر، وتارة العكس، فهنا بعض العلماء يرى أنه إذا كان الرأي والتخطيط من الشخص قوي التأثير في الزهوق، فيقتل أيضا، فمثلا قال له: افعل كذا، فدخل القاتل على المقتول، ولم يعرف كيف يقتله، فقال له: افعل به كذا وكذا، ففعل؛ فقتله، وفي زماننا الآن توجد أجهزة، وقد تحتاج الجريمة إلى تنظيم وترتيب، فلا يمكن أن تقع بواحد، ولا يمكن أن تغفل الأسباب والمشتركين مع المنفذ بحال، وحينما تنظر تجد الذين تسببوا وأعانوا المنفذ ودلوه سببيتهم قوية التاثير، بحيث يصعب إغفالها أو إسقاطها من القصاص. ولو رد هذا الأمر أيضا إلى القاضي فقد يكون أضبط للمسائل، وله نظر فيما اشتركوا فيه. لكن إذا اتفق اثنان على قتل شخص، فجاءا وفعلا فعلا أزهق روحه، فإن كان الفعل الذي أزهق الروح صدر منهما معا؛ فهما قاتلان بلا إشكال، فمثلا: لو أن الاثنين أمسكا السلاح مع بعضهما وأطلقاه، فهما قاتلان، ولو أن الاثنين أمسكا بالسيف وبقرا به بطن المقتول، فهما قاتلان هذه صورة. الصورة الثانية: أن ينفرد كل منهما بفعل، فإذا انفرد كل منهما بفعل، فإما أن يكون فعل كل منهما مزهقا، وإما أن يكون فعل أحدهما مزهقا والآخر لا يزهق، فإن كان فعل كل منهما مزهقا؛ فصورتان: إما أن يكون وقوع الفعلان مع بعضهما، فواحد منهما طعنه في بطنه، والآخر طعنه في قلبه، وحصلت الطعنتان مع بعضهما، فالإزهاق حصل بالطعنتين، فكلاهما قاتل، وإما أن يتأخر أحدهما عن الآخر، فإن تأخر أحدهما عن الآخر؛ فننظر: فإن كان الأول قد فعل الفعل، فاندمل جرحه، أو ضعف عن القتل، أو برئ، ثم جاء الآخر وأزهق، أو فعل الفعل القاتل، فالقاتل هو الثاني دون الأول، وإن كان الأول قد ضرب مقتلا، وأصاب المقتل، ثم جاء الثاني بعده وضرب مقتلا بعد المقتل الأول، فالقاتل هو الأول دون الثاني؛ لأن الإزهاق وقع بالأول دون الثاني، لكن يشترط في هذه الصورة الأخيرة: أن يتأخر فعل الثاني تأخرا يقوى به الإزهاق بالفعل الأول، فإن لم يتأخر، ولم يتراخ، انتقل للمسألة الأولى التي ذكرناها، وهي أن يشترك الاثنان بفعل موجب للزهوق. إذا: إذا كان فعل كل منهما قاتلا: إما أن يقعا في وقت واحد؛ فكلاهما قاتل، وإما أن يختلفا؛ فإن اخلتفا فتأخر أحدهما عن الآخر، فإما أن يتأخر تأخرا مؤثرا، ومثاله: اثنان يريدان قتل شخص، فجاء أحدهما وطعنه بالسكين، فنقل المطعون إلى المستشفى وعولج، حتى نجا من الموت، وغلب على الظن أنه نجا من الحالة الخطرة، فدخل عليه الثاني وهو على سرير المرض وطعنه فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول؛ لأن ضربة الثاني تأخرت تأخرا متفاحشا مؤثرا، ولا يشترط طول الزمان؛ بل يشترط ألا تكون الضربة الأولى تأتي على الروح، وفي هذه الحالة تكون الطعنة الأولى جراحا، وموجبة لضمانها بالدية، أي: بقدرها وحصتها من دية الجراحات، والضربة الثانية موجبة للقصاص، فالثاني قاتل، والأول ضامن يضمن الجرح الذي جرحه به. مثال آخر: ضربه الأول على دماغه، ضربة مأمومة-وهي التي تكشف خريطة الدماغ وأم الدماغ- ثم عولجت هذه الضربة؛ ففيها ثلث الدية، والثاني ضربه بسكين فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول، فالأول عليه ضمان ضربة الدماغ بقدر حصتها من الديات، والثاني يضمن النفس، فيجب عليه القصاص. وهذا كله إذا كان الفعل الذي فعلاه موجبا للزهوق. فإذا كان أحدهما يزهق، والثاني لا يزهق، نظرنا: فإن كانت الضربة الأولى من الأول هي القاتلة المزهقة، والضربة الثانية لا تزهق، فالأولى هي القاتلة، فمثلا: شخصان دخل أحدهما فضرب شخصا بسكين في بطنه حتى أنفذت مقاتله، وغلب على الظن أنه ميت، فجاء الثاني وجرحه، أو كسر عظمه، فحينئذ إن كانت الضربة الثانية لا تزهق، فإن من العلماء رحمهم الله من حكم بكونها مضمونة، وإن كانت من الجراح ففيها أروش الجراحات، والقاتل هو الأول الذي عليه القصاص، والثاني ضامن، إلا أن بعض العلماء يقول: إذا أنفذت مقاتله، كما لو ضربه وأصبح في عداد الموتى، وجاء الآخر وخدشه، أو فعل به فعلا، فلا شيء عليه، وهذا هو ضعيف وباطل، وقد عجبت من بعض المتأخرين حين كان يفتي به! مع أنه لا أصل له؛ لأن نفس المؤمن محرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا) ، يعني: في الإثم، وهو من حديث عائشة في سنن ابن ماجة، وهو حديث حسن، وبعضهم يراه صحيحا لغيره، فهذ يدل على أنه لا تهدر هذه الضربة، وهناك قاعدة تقدمت معنا: الحياة المستقرة هل هي كالعدم أم لا؟ وهذه سيأتي تفصيلها-إن شاء الله- في باب الذبائح، كأن يهجم سبع على فريسة، وأدركتها وهي ترفس فذكيتها، فهل الذكاة تنفع أم لا؟ إن قلنا: الحياة المستقرة كالعدم، فلا تنفع الذكاة؛ لأن الفريسة ماتت بالبقر، وهو فعل السبع، فهي ميتة، وحينئذ التذكية جاءت في غير حياة مؤثرة، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم؛ فإنها تكون مؤثرة. وبناء على ذلك: إذا ضربه ضربة أنفذت مقاتله؛ فإن قلنا: إنها حياة مستقرة كالعدم؛ فإنه لا يؤثر، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم أثرت، وظاهر السنة فيها شيء يدل على أنها ليست كالعدم -أن الحياة المستقرة ليست كالعدم- فقد ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة كانت ترعى غنمها بحذاء سلم، فجاء الذئب وعدا على شاة منها، فاستصرخت الناس، ففر الذئب وقد بقر بطن الشاة، فكسرت حجرا وذكت الشاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا منها) . فبقر البطن يعتبر مقتلا، وبعض العلماء يشك، لكن ليس على كل حال، فقد تبقر بطن البهيمة وترد وتخاط أحشاؤها، والآن هذا ملاحظ ومعلوم، فقد يفك بطن الإنسان، وتخرج أمعاؤه وأحشاؤه، وتدبر الجراحات، ويرجع كما هو. إذا: معنى ذلك: أن الحديث لا دليل فيه على مسألتنا، والذي يقولون: إنه لا دلالة فيه، يعارضون بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهناك مسائل كثيرة الأشبه بها كتاب الذبائح، منها: لو أصبت عصفورا وهو على البحر، على وجه الغالب أنه يموت، ثم سقط في النهر ومات، فهل هو ميت بالطلق فحلال مذكى؟ أم هو ميت بالخنق كالمنخنقة لا يحل أكلها؟ هذا كله راجع إلى مسألتنا؛ لأن طلق النار إذا أنفذ فهو قاتل، وبعد ذلك الخنق الذي وقع في النهر جاء والروح قد أنفذت، فليس له من تأثير، وكذلك: لو أصاب صياد غزالة على جبل؛ فسقطت وارتطمت بالأرض فماتت، فهل هي مذكاة؟ أم هي متردية حينما ارتطمت بالأرض فماتت؟ والأصل عند العلماء أنه إذا تعارض حاظر ومبيح؛ رجع إلى الحاظر، وكل هذا سنفصله-إن شاء الله- في كتاب الذبح. والخلاصة: أنه إذا أنفذ مقاتله، فكانت الضربة في مقتل، وجاء الآخر وجرحه، ولا زالت النفس باقية، فالأصل يقتضي أنه يضمن، وهذا قد نص عليه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين. فبين المصنف -رحمه الله- أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقلنا: إن هذا يشمل الغيلة، ويشمل الغدر: وهو أن يخدع الإنسان بأمان، كأن يقال له: اخرج معنا ولن نفعل بك شيئا، ويتوجس منهم، فيعطونه الأمان-والعياذ بالله- ثم يغدرونه، والفتك: هو الهجوم، فيشمل قتل الجماعة: غيلة، وغدرا، وفتكا، وصبرا؛ الذي هو الدم البارد، مثل: قتل الإنسان المأسور والسجين، يجتمعون عليه ويسجنونه في مكان أو بئر، ويمنعون عنه الطعام والشراب، ويشترك الجميع في هذه الجريمة، فهم جماعة قتلة، كل منهم قاتل، فكل هذه الصور يجب فيها القصاص، وتقتل الجماعة بالواحد، سواء كانوا اثنين، أو أكثر من اثنين، والجمع -كما ذكرنا- عند العلماء في هذه المسألة: اثنان فصاعدا. إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة وقوله: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] معلوم أن قتل الجماعة بالواحد مرد القصاص فيه إلى أهل الميت-أولياء المقتول- فإن قالوا: نريد القصاص؛ قتلوا الجماعة، وإن قالوا: نريد الدية، فهل يدفعون_إذا كانوا ثلاثة- ثلاث ديات؟ أم دية واحدة؟ الجواب يدفعون دية واحدة، يشتركون فيها؛ لأن الدم المضمون دم واحد لا غير. الأسئلة حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد السؤال الذين لا يرون شبه العمد في القتل، ماذا يسمون القتل بالعصا والسوط؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن قال بهذا القول يضعفون الحديث الوارد في شبه العمد، وأما القتل إذا كان بآلة أزهقت؛ فعند المالكية: يوجب القصاص، وقد بينا أن مذهبهم رحمة الله عليهم من أقوى المذاهب في مسألة القتل والقصاص في القتل، أما بالنسبة للحنفية رحمة الله عليهم فهم مع الجمهور في مسألة التقسيم، وزادوا القتل الجاري مجرى الخطأ، ولكن عندهم لا يقتص في المثقل، فلا يقتصون بالسوط ولا بالعصا؛ لأنهم يرونه قتلا بالمثقل، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن القتل بالمثقل يوجب القصاص؛ لحديث أنس في الصحيحين عنه رضي الله عنه وأرضاه: (أن امرأة من الأنصار وجد رأسها مرضوضا بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهوديا؛ فأشارت برأسها: أن نعم. فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين) . وهذا أصل عند العلماء في القصاص بالمثقل، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، وهم -أي: الحنفية- لا يرون القتل بالسوط والعصا، ولذلك يحتجون بحديث: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا) ، على أنه لا يقتص بالمثقل، واستدلالا بقصة المرأتين من هذيل، وقد أجبنا عن هذا، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم. مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد السؤال ألا يمكننا أن نستدل على أنه يقتل الجماعة بالواحد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل من قتل الراعي، وسمل أعينهم؟ الجواب يا أخي! لا تستدل، اترك الأمر للعلماء الجهابذة، هذه مسائل قتلت بحثا من بداية القرن الرابع عشر، فتأتي وتستدرج على العلماء! قتل الراعي هو قتل حرابة، وقتل الحرابة شيء، وقتل القصاص شيء آخر، فقتل الحرابة لا يرجع فيه إلى أولياء المقتول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما رجع إلى أولياء الراعي، ولا استأذنهم في القتل؛ أما القصاص فلا يجوز للإمام أن ينفذه إلا بإذن أولياء المقتول، ولذلك فقتل الحرابة أدق، فلا يفتي فيه إلا العالم الفقيه المتمكن، ولا يقدم عليه إلا القاضي الورع، الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه، وليس كل شيء حرابة؛ بل يحتاج إلى نظر وتعمق؛ لأنه متى حكم بكونه حرابة فإنه يأخذ حكم الحرابة، ومتى لا يحكم فلا يلحق بالحرابة. وهنا مسألة الراعي مسألة حرابة، والنص فيها واضح: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] ، فهذا نص جاء في المحاربة، وهم جماعة خرجت وحاربت، فهذا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ذمة المسلمين وحرمة المسلمين، فجاءوا إليه في البرية فقتلوه وسملوا عينه-والعياذ بالله- واستاقوا الإبل، فجمعوا بين الجناية على المال، والجناية على الروح، والجناية على البدن، وهي جرائم عظيمة، والجناية على الروح بالقتل؛ فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجناية على البدن بأن سملوا عينه ومثلوا حتى بجثته، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الراعي، والجناية على المال؛ لأنهم سرقوا الإبل، ومن هنا انظر كيف جاءت الآية: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} [المائدة:33] . ومن هنا فإن مذهب بعض السلف: أنهم إن قتلوا قتلوا، وإن مثلوا مثل بهم، وصلبوا، وهذا كله نكاية بهم حتى يكون زجرا لغيرهم، والأمر الثالث: إن سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذه كلها اجتمعت فيهم. والأقوام كانوا من عكل أو عرينة-الشك من الراوي- والحديث في الصحيحين وليس فيه إشكال، فإن هذا قتل حرابة لمن خرجوا عن جماعة المسلمين، وفي حكمهم العصابات المنظمة، كأن يجتمع خمسة أو ستة على إخافة السبل، أو الهجوم على البقالات وتكسيرها وإتلاف ما فيها، أو يهجمون على البيوت وتجمعات النساء، فهذه جريمة منظمة، يخططون ويرتبون وينشرون الرعب، فيحدثون عند الناس نوعا من الرعب، وينحازون عن جماعة المسلمين، فقد حاربوا الله ورسوله، فهذه جريمة لها حكم خاص، وفي هذه الحالة لو أن هذه العصابات والجماعات جاءوا فقطعوا الطريق، أو أوقفوا حافلة في سفر، وأشهروا السلاح عليها، وأنزلوا من فيها، فبمجرد أن يفعلوا هذا فهذه محاربة، وإن أخذوا أموالهم فلهم حكم، وإن سفكوا الدماء فلهم حكم، قال بعض العلماء: الحكم للقاضي، حتى لو أنهم أنزلوهم بالسلاح والقوة والتهديد، أخذوا مالهم أو لم يأخذوها، مجرد الرعب أو إخافة السبل، فإنه يعتبر محاربة؛ لأن المسلم لا يفعل مع أخيه المسلم هذا. فصاروا محاربين بهذا، ولو فرضنا أنهم جاءوا وقتلوا شخصا من المجموعة التي هجموا عليها، لانطبقت عليهم المحاربة، ولو أن الشخص الذي قتلوه قريب لهم، فجاء قريبه وقال: قد عفوت، وما أريد القصاص، ففي هذه الحالة نقول: الحق ليس لك، فهذه محاربة لله ورسوله، وسواء عفوت أو لم تعف فإن هذا ليس لك، ولا يمنع من قتله، فإذا رأى القاضي قتلهم فإنه يقتلهم. وفي هذه الحالة يفرق بين مسألة الحرابة وبين مسألة القصاص، وما نتكلم نحن فيه هو القصاص، وما تسأل عنه هو محاربة، وأوصي طالب العلم إذا قرأ المسائل فعليه أن يتدرج ويعي ويفهم ويضبط، ولن يرتقي في سلم العلم إلا بهذه الأمور، والمشكلة: أن بعض المربين والموجهين منذ الصغر في تربيته في المراكز والمدارس يحدث في الطالب نوعا من التهور، كأن يقول له: أنت ما شاء الله عندك طاقات، وهذا من باب التشجيع، فيا أخي! لا تشجعه تهورا، بل شجعه تعقلا، وقل له: أخلص لله، اضبط العلم يفتح الله عليك، خذ العلم من سبيله تكن مثل أهله، فإن التشجيع يكون بالشيء المعقول، وهل من المعقول أنه وبعد أربعة عشر قرنا من الزمان، وهذا الكم الهائل من العلماء الجهابذة المشهود لهم لم يستطع أحدهم استنباط هذا الحكم؟ الله المستعان! وأنا لا أقول هذا تهكما، أقول هذا لأن بعض العلماء في بعض القضايا المنهجية يشدد، ويريد منهجا، فعلى طالب العلم أن ينتبه، كفانا جرأة على الاجتهاد، وجرأة في استخدام النصوص في غير ما هي له، فعليك أن تقف حيث وقف العلماء، وتفهم كما فهم العلماء، وتحكم الأمر كما أحكمه الحكماء، وإلا زلت القدم، وعندها يعظم الندم، ولات حين ساعة مندم. فمسائل الشريعة حساسة، ولو أن شخصا كان من بداية الطلب عنده هذا الذوق، أنه يستكشف و. إلخ؛ لربما لا يوفق لعالم يبين له خطأه، وإذا به كل يوم يأتي بجديد، ومن الآفات التي ضرت الأمة اليوم مسألة الجديد، ولا يمكن أن يعترف لأحد جاء ليكتب بحثا إلا إذا جاء بجديد، وما هو الجديد؟ أن يقال: ولقد عثرت على دليل في هذه الآية. لم يسبقني إليه أحد، وهذه الآية وإن قال العلماء: إنها تدل، فإنها لا تدل!! وهذا لا ينبغي، فينتبه الإنسان! فإن صلاح آخر هذه الأمة مقرون بما كان عليه أولها، وقديم الإسلام جديد، وجديده قديم ما تعاقب المنوان، وتتابع الزمان، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولن يمر قرن من الزمان خال من أهل الحق، فإذا جئت وقلت: الأولون ما عرفوا، فمعنى ذلك: أنه خلا قرن من معرفة الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) ، فمعنى ذلك: أن هذا الفهم الذي بقي في هذه الطائفة هو الذي تفهم به، وهو الذي تنضبط به، وهو الذي تسعد به في الدنيا والآخرة. فعلى طالب العلم أن يكون حريصا على أن يتأدب ويفهم ويضبط، فإذا ضبطت ما معك وتفهمت، فأنت في خير وبركة، ولا تتجاوز ذلك إلى الفهم والاجتهاد، فليس وقتك وقت اجتهاد، ولم تعط آلة الاجتهاد، ولم يسغ لك شرعا أن تنظر في آية فتستنبط منها حكما، ولذلك فإن هذا الحديث ظاهره يدل على قتل الجماعة بالواحد، لكنه لا يدل، ولو قال الإنسان بدلالته لضرب النصوص بعضها ببعض، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن يكون متقيدا بحاله، فأنت في الطلب تحرص على جمع العلم وضبطه، وقراءة الأصول -علوم الآلة- التي تفهم بها كيف تستنبط، وكيف تستنتج، ثم تعرض فهمك واستنتاجك على العلماء، وبعد أن تمضي فترة طويلة تحصل بها هذا العلم المقرون بعلم السلف رحمهم الله وتنضبط بضوابطهم، سيفتح الله عليك وهو خير الفاتحين، ومن أخذ حيث أخذوا، وانتهل من حيث انتهلوا، ووضع القدم حيث وضعوا؛ فتح عليه كما فتح عليهم، وبورك له كما بورك لهم. فالخير الذي بارك الله به هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع الله به في سلف هذه الأمة؛ سينفع الله به لخلفها، وفضل الله واسع، وليس محجرا في بعض العصور، وكما قال ابن المنير رحمه الله: فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعا. فضل الله واسع، والله يؤتي الحكمة من يشاء، فإذا بدأت بهذه الخطوات؛ فحفظت كتاب الله، وحفظت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمت الأحكام، وجئت تطلب الفقه والأحكام، وصرت طالب علم يفهم، واستفرغت جهدك كله في حفظ ووعي ما يقال لك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى درجة المقارنة لمن خالفك، وما دليله، وما حجته، وكيف تفهم دليل المخالف، وكيف ترد عليه، وكيف تقرر دليلك، وكيف تشيده، بعد هذا يفتح الله عز وجل عليك بدرجة الاجتهاد، لكن لا تستعجل، ولا يغرك الناس حينما يقولون: إن عندك الفهم، أو الاستنباط، أو ملكة، أو عندك كذا، فكل هذا لا يغني عنك من الله شيئا، فالحق لا يعرف بطيب الكلام، ولا بلين الكلام، ولا بمدح المادحين، ولا بزخرفة المزخرفين، ولكنه حق ونور، لو أن أهل السماوات والأرض أرادوا أن يأخذوا هذا النور من حيث لم يأذن الله لم يستطيعوا إليه سبيلا، ولو تكلم من تكلم، حتى ولو كتب، ولو فعل ما فعل، ولو كان البحر له مدادا، وكتب ما شاء، فلن يستطيع أن يجد قوة الحق إلا إذا أعطاه الله إياها. فهذا الذي ينبغي لطالب العلم؛ فلا تستطيع أن تفهم نصا، وتحكم فهمه، وتصيب الحق في فهمه، إلا إذا فهمت كفهم السلف. وأختم كلمتي بأن نعرف من هم السلف؟ فلتعلم أن فيهم أقواما منذ نعومة أظفارهم ما اكتحلت عيونهم إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلم أن فيهم أقواما حفظوا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة وتقريرا، حتى أصبح الفهم يجري في عروقهم ودمائهم، فتجد الرجل يضبط أمره كما يضبط الواحد منا فاتحة الكتاب، فهم أناس ما كان عندهم إلا هذا الحق، وما كان عندهم إلا هذا العلم، منذ نعومة أظفارهم، أعرف علماء وأئمة شهد لهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، فما عرف اللعب ولا اللهو، وما نشأ في بطالة، بل نشأ نشأة صالحة، ومثل هذا أكثر توفيقا من الله، ولذلك يقولون: أوعى القلوب للخير الذي لم يسبق الشر إليه، ومن نشأ نشأة صالحة يفتح عليه بإذن الله عز وجل، ويعطى نور العلم، وينفح من الله عز وجل بنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى، كما قالوا: أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر. واعلم أن هذا الفقه الذي تدرسه اليوم في مجلس واحد في الأسبوع، أنهم كانوا يجلسون-وهذا معروف في كتب التراجم وطبقات الفقهاء- من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في مجلس الفقه، وهم لا يتجاوزون الثلاثة الأسطر، والأربعة الأسطر، يقرءونها، ثم يبينون معانيها، ثم يضربون الأمثلة عليها، حتى إذا استقرت وفهمت، يأتي لعبارة من العبارات تحتاج لشواهد من اللغة، وتحتاج إلى معان لغ |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (494) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [7] ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أكره شخص شخصا آخر على قتل رجل فقتله، فإنه يقتص من الآمر والمأمور جميعا، وهناك حالات يقتص فيها من الآمر دون المأمور، منها: أن يكون المأمور غير مكلف، وأن يكون جاهلا بحكم قتل المسلم، وأن يكون الآمر سلطانا معروفا بالعدل، ويقتص من المأمور إذا كان عالما بتحريم القتل فقتل، وإن اشترك اثنان في قتل واحد وسقط القصاص عن أحدهما وجب على الآخر، وإن عدل إلى الدية وجبت عليهما. القتل بالإكراه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفا على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما] . تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناء على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقا أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضيا إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك. لكن هناك اشتراك من نوع ثان، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحا، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكما خاصا، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يقتص من المكره والمكره معا، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكره، وعلى الشخص الذي أكره فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكره على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو. أقوال العلماء في قتل المكره ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكره شخص على قتل معصوم فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعا أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرم كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلانا أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثرا -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك. فالطلاق أخف من القتل، فحينئذ يكون مكرها، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات. فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه. فإذا قيل له: إن لم تقتل زيدا نقتلك، وإن لم تقتل فلانا -وهو معصوم الدم- نقتلك. فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفس محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجبا للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء. وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكره ولا على المكره؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاص على الذي هدد -المكره- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتل حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه. أدلة القائلين بأنه يقتص من المكره والمكره والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك: أولا: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعا للإكراه. ثانيا: أن المكره الذي أمر بالقتل يقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعا للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أكره قاتلا من هذا الوجه. ثالثا: أننا لو قلنا: إنه لا يقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فسادا، فكل شخص يريد أن يقتل شخصا ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخص آخر ويقول له: اقتل فلانا وإلا قتلتك، وحينئذ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده. وأيضا: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قول صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلا أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيرا قويا، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصا له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه. شروط الاقتصاص من المكره والمكره وقوله (ومن أكره مكلفا) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنونا أو صبيا وقال له: اذهب واقتل فلانا وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يقتص من الذي أمر ولا يقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفا، فلو أنه هدد صبيا وقال له: اقتل فلانا، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولا ضعيفا- أن الصبي ولو كان مميزا غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين. والعكس: فلو أن مجنونا وضع السلاح على عاقل ومكلف وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة. وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئا، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبد؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلم يكره مسلما على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافر أو على قتل عبد، وهما حران؛ فإنه لا يقتص منهما. لكن لو أن مسلما أكره ذميا على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيقتص منهما، وفي هذه الحالة يقتل الذمي بالذمي، لكن لا يقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص في حديث علي الصحيح: (لا يقتل مسلم بكافر) ، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئا لهما، فإذا كان مكافئا لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف. وبناء على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يقتص من المسلم المكره، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذميا أكره مسلما على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المكره الذمي دون المكره المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافا للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصا، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكره؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات. وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكل منهما قاتل من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجه يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل. ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكم شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمكره على القتل. والذي قتل وهو المأمور -المكره- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذ يقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضررا مما طلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساو لما هدد به، وحينئذ لم يكن مكرها حقيقة. ثم أيضا: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جدا، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراها مؤثرا، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصا آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصا جريئا على أن يقتل، أو شخصا كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلانا وإلا قتلتك وهكذا. الشروط التي يتحقق بها الإكراه وقوله: (ومن أكره) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي: أولا: أن يكون الشخص الذي يهدد قادرا على تنفيذ ما هدد به. ثانيا: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك. ثالثا: أن يغلب على ظن المكره أن الشخص الذي هدده صادق في قوله، وعازم على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرها إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ. رابعا: أن يكون الشخص الذي هدد وأكره -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير. والحقيقة أنه في زماننا قد يكره الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلانا في حدود الساعة العاشرة -مثلا- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معا. حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما) . قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكره والمكره، سواء قتلا معا أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يقتص منه. فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكره نصف الدية، والمكره النصف الثاني. وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه. فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة. والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصا، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصا واحدا، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكره والمكره، وهذا من باب القتل بالسببية. فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة. الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور قال المصنف رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف، أو مكلفا يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه، فقتل، فالقود أو الدية على الآمر] . من ترتيب الأفكار ذكر المسائل المفرعة على مسائل الأصول، فقتل الجماعة بالواحد هي مسألة أصل في هذا الباب، وأمر الغير أن يقتل بالإكراه وبدون إكراه، بالإغراء، أو بالتغرير، والكل يجمعها أصل واحد وهو الاشتراك في القتل، فلما كان الاشتراك في القتل له تأثير عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد، فصدر رحمه الله بمسألة قتل الجماعة بالواحد، ثم أتبعها بمسألة السببية، وإذا جاءت مسألة السببية، فتارة تكون السببية بالأمر، وهذه يسمونها: السببية الحسية؛ لأن هناك سببية تؤثر حسا، وسببية تؤثر عرفا، وسببية تؤثر شرعا، فالسببية الحسية منها: مسألة الإكراه حسا، كشخص هدد أنه سيقتل، فهذا بالحس ندرك، أنه إذا ضغط عليه سيقتل، فهذه اشتراك للسببية في الحس. والسببية بالعرف: مثل أن يأتي ويقدم له طعاما وهو ضيفه، وفي الطعام سم -أعاذنا الله وإياكم- فأكل السم فمات، وهذه قد تقدمت معنا، فإنه قد درج في العرف على أنه إذا قدم الطعام للضيف فإنه يأكله، فصارت سببية مؤثرة بالعرف؛ لأنه قد يقول قائل: إن الشخص الذي أتى بالطعام وقدمه للضيف ما جاء ووضع السم في بطنه، وليس هو الذي باشر قتله، وإنما الشخص هو الذي باشر وأكل، فيتحمل مسئولية نفسه، فنقول: لا، لما كان العرف يحرج هذا الضيف ويلجئه إلى أن يأخذ من هذا الطعام؛ صار العرف يثبت أن صاحب الضيافة يحتاط لضيفه ويصون له طعامه، فصار هذا موجبا لقوة التأثير في السببية؛ لأنه في بعض الأحيان تكون السببية قوية، وأحيانا تكون ضعيفة، فيقولون: إن هذه سببية مؤثرة بالعرف. وهنا في مسألتنا بالحس مثلا: الشهود إذا شهدوا بالزور فإنهم ليسوا هم الذين قتلوا، وإنما القاضي قضى، والذي قتل هو الذي نفذ حكم القاضي، لكن سببية الشهادة شرعا تثبت القتل، والشرع يلزم بقتل هذه النفس، فهي مؤثرة استنادا إلى الشرع، وقس على هذا، ففي مسألة الشهادة، الحس يثبت أن الإكراه يدفع المكره دون اختياره، فهناك اشتراك من نوع آخر، وهو أن يأمر غير المكلف. الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف قال رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف] كأن دعا صبيا وقال له: اذهب واقتل فلانا، والصبي لا يعصي، كأن يكون والدا له، أو يكون شريرا يخاف منه الصبي ويفزع، فقال له: اذهب واقتل فلانا، فذهب وقتله؛ فإنه يسقط القصاص عن الصبي؛ لأنه غير مكلف، ويجب القصاص على الآمر؛ لأنها مثل مسألة الإكراه، فالصبي أو المجنون يندفع بدون شعور. والمجنون قد يفعل بتمييز، فإن بعض المجانين عنده نوع تمييز، وبعضهم يكون فعله بدون تمييز، فمثلا: بعض المجانين -أعاذنا الله وإياكم- يقال له كلام معين فيحدث عنده رهبة أو خوف، وعندها يتصرف بتصرفات معينة تفضي إلى القتل، سواء قتلت صبيا أو امرأة أو رجلا، ما دام أنه يعلم أن هذه الإثارة لهذا الشخص غير المكلف مفضية إلى إزهاق الروح التي أزهقت وماتت؛ فإنه قاتل كفعل الإكراه في المكره؛ لأن مراده التأثير، ولذلك فالصبي قد يدفع إلى القتل بالقوة أو بالتخويف والتهديد، وعقله قاصر، ويضيق شرط الإكراه في الصبي أكثر منه في غير الصبي؛ لأن غير الصبي يكون عنده من العقل والتمييز والإدراك للأمور ما يستنجد معه بالغير، أو يستغيث به بعد الله بالغير، أو يمكر، أو يحتال، ولكن الصبي لا حيلة له غالبا، فمن هنا إذا أمر غير مكلف؛ فالحكم أنه يسقط عن غير المكلف لوجود موجب الإسقاط، كما لو قتل الصبي منفردا فإنه لا قصاص عليه، فيسقط القصاص عن غير المكلف، ويثبت القصاص على الآمر المكلف. ويدخل في هذا أيضا المجنون، فالصبي والمجنون كل منهما إذا أمر بالقتل فقتل فإنه يقتل الآمر، إذا قال أولياء المقتول: نريد القصاص والقود. الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل قال المصنف رحمه الله: [أو مكلفا يجهل تحريمه] . انظر إلى فقه المسألة؛ حيث إن المصنف رحمه الله ذكر لك أن هذا النوع من السببية إما أن يوجب القصاص على الاثنين كما في الإكراه، وإما أن يوجبه على أحدهما دون الآخر، فإذا أوجبه على أحدهما دون الآخر نوع رحمه الله في المثال، فجعل الصورة الأولى التي يسقط القصاص فيها عن المأمور الذي هو الصبي غير المكلف، والصورة الثانية يثبت القصاص على الآمر، وهنا إذا أمره السلطان أن يقتل ظلما، وهو يعرف أن السلطان عادل، أو قال له القاضي: اقتل فلانا، فإنه من جنس الأول. فذكر رحمه الله أنه إذا وجد العذر في المأمور؛ كأن يكون صبيا أو مجنونا، فهنا العذر في ذات الشخص، وصورة أمر القاضي أو أمر الوالي يشترط فيها شروط: منها: أن يكون معروفا بالعدل، أو يكون الشخص الذي أمر بالقتل مغررا به، أو يجهل تحريم القتل، فهذه كلها صور سيذكرها المصنف رحمه الله من باب تطبيق القاعدة. فقوله: (أو مكلفا يجهل تحريمه) يصبح العذر موجودا في المأمور، فإذا أمر مكلفا يجهل تحريمه، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فجاءه شخص وقال له: يا فلان! إذا قتلت فلانا دخلت الجنة، وهو لا يدري؛ لجهله بأحكام الشريعة، ولم يلبث أن دخل في الإسلام يريد الجنة، فجاء وقتل فلانا، فقلنا له: لم قتلت أخاك، هذا لا يجوز في الإسلام؟ فقال: أنا كنت أظنه يجوز، بل كنت أظن أنه يدخل الجنة. وقد ذكروا في بعض العصور الإسلامية وقوع مثل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكان من عجيب ما فعله أحد قضاة المسلمين بالآمر أنه ابتدأ بتعزيره، فعذبه أشد التعذيب، ثم بعد ذلك أمر بقتله، فما اقتصر على الاقتصاص منه؛ لأنه نظر إلى الكذب على الله عز وجل - نسأل الله السلامة والعافية- والجرأة على أن يقول الإنسان: إن قتل معصوم يوجب دخول الجنة، ولا يستطيع الإنسان أن يشهد لنفسه بدخول الجنة. فالشاهد: أن حديث العهد بالإسلام قد يغرر به وينخدع، أو يفعل فعلا كان يفعله في جاهليته وكفره، وهو يظن أنه لا بأس بفعله بعد إسلامه، فكل من خاصمه أمسك سلاحه وقتله، فلما أسلم ودخل في الإسلام لم يطمئن قلبه بعد ببيان الأحكام، فجاء وقتل مباشرة، ظنا أن مثل هذا الفعل جائز، فهذا يعذره العلماء، وهو ما يسمى: العذر بالجهل، وهي مسألة دقيقة جدا عند المحققين من أهل العلم. أما أن يأتي شخص إلى الحج والعمرة، ويدخل في أحكام الحج على مزاجه وعلى كيفه، ثم يقول: أنا كنت أجهل الحكم، ويقال له: ليس عليك شيء؛ فإن هذا مما لا ينبغي، فالعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة مسموعة، وهذا ليس بمعذور، وعذره يعتبر إعانة على الإخلال والتقصير والعبث بالأحكام الشرعية، أما أن يكون هناك شخص يكون الجهل فيه واضح التأثير في إسقاط الحكم. كحديث العهد بالإسلام وليس عنده وقت يتعلم لكي يدرك مقاصد الشريعة ويبين له ما حل وحرم، فمثل هذا يكون جهله مؤثرا، وكذلك الشخص في البرية البعيدة التي لا يوجد فيها علماء. وعلى كل حال: سواء كان الجهل عذرا أو ليس بعذر أولا يحرر ما هو الجهل الذي يعذر بمثله، ومن هو الشخص الجاهل الذي يعذر مثله، ثم بعد ذلك ينظر في مسألة العذر بالجهل، كالمسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لأن العذر فيها فعلا مؤثر؛ فحديث العهد بالإسلام لم يسعه الوقت الذي يعلم فيه تحريم قتل أخيه، فيعذر لجهله، ويسقط القصاص في هذا. الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطانا معروفا بالعدل وقوله: (أو أمر به السلطان ظلما من لا يعرف ظلمه فيه) . كالقاضي يكون عنده سياف، فقال له: خذ فلانا واقتله. فإذا عرف الوالي أو السلطان أو القاضي بالعدل، وعرف المأمور منه العدل، وأنه لا يظلم، فهذا عذر به جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الغالب كالمحقق، فلما كان غالبه العدل والإنصاف، وعرف منه العدل؛ فإن مثله يعذر، أما لو كان معروفا بالعكس فلا يعذر، لكن الإشكال في الشخص الذي يعلم أنه أمر بقتله ظلما؛ ولذلك قال: (لا يعرف) ، فكون المأمور جاهلا بظلم الآمر، سواء كان قاضيا أو سلطانا أو غيره، فيعذر، وأما إذا كان عالما؛ فاختار طائفة من العلماء أن القصاص على المأمور دون الآمر، ما لم يكن الآمر قد أثر عليه وضغطه على وجه يرتقي به إلى الإكراه، فحينئذ القصاص على الآمر والمأمور. قال المصنف رحمه الله: (فالقود أو الدية على الآمر) ، أي: في هذه الحالة القود أو الدية على الآمر؛ لأن المأمور جاهل بظلم الآمر، أو غير مكلف، أو يجهل تحريم القتل، وكلها أعذار موجبة لسقوط القصاص عنه. الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر قال المصنف رحمه الله: [وإن قتل المأمور المكلف عالما بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر] . قوله: (وإن قتل المأمور المكلف عالما) أي: حال كونه عالما بحرمة قتل من يقتله؛ فإنه في هذه الحالة يكون القصاص على المأمور وحده. إذا: هناك القصاص على الآمر، وهنا القصاص على المأمور، ومن هنا ندرك فائدة ترتيب المصنف لهذه المسائل بعد مسألة الإكراه، فالإكراه يقتص منهما معا، وإن حصل الخلل في المأمور اقتص من الآمر وحده، فإن كان المأمور لا خلل فيه ويعلم أنه أمر بالظلم، وأنه أمر بقتل معصوم، فأقدم على القتل، فالقصاص على المأمور دون الآمر. فأصبحت الصور ثلاثا: يقتص من الآمر والمأمور في حالة الإكراه، إذا كان كل منهما قد استوفى شروط القصاص والقود. ويقتص من الآمر دون المأمور إذا كان المأمور به عذر، مثل أن يكون غير مكلف، أو يكون جاهلا بحرمة القتل في الإسلام مثل حديث العهد بالإسلام، أو جاهلا جهلا معينا؛ كأن يكون الشخص الذي أمر بقتله مظلوما، وظن أنه يقتل بالحق، فحينئذ في هذه الثلاث الصور يقتص من الآمر دون المأمور؛ لأن في المأمور عذرا يمنع القصاص منه. والصورة الأخيرة: إذا كان المأمور مكلفا عالما غير معذور، فإنه في هذه الحالة يقتص من المأمور دون الآمر، إلا في مسألة الصبي، فقد ذكرنا أن بعض العلماء قال: في مسألة الصبي يقتص من الآمر دون المأمور، لكن في الصورة الثالثة -وهي التي يقتص فيها من المأمور دون الآمر- قالوا: لأن المأمور أقدم على القتل بدون إكراه وبدون ضغط، ففي هذه الحالة يقتص منه؛ لعلمه بحرمة دم المقتول، وعلمه بحرمة القتل، فليس فيه عذر يمنع من القصاص منه. ولو قال قائل: إنه أمر، فنقول: إنه أمر على وجه لم يكن الأمر فيه سببا مؤثرا -أي قوي التأثير - في الإزهاق، فليس هو مثل الإكراه، حيث إن أمر الإكراه سبب قوي التأثير في الإزهاق، لكن هنا الأمر ليس بسبب مؤثر في الإزهاق، إلا فيما استثنيناه في مسألة الوالي إذا أكره أو ضغط، فحينئذ تنتقل المسألة إلى مسألة المكره والمكره، فيقتص منهما، ويجب القصاص والقود عليهما. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما قال رحمه الله: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك] . من باب ترتيب الأفكار: فقد ذكر رحمه الله مسألة إذا اشترك اثنان، فعرفنا متى يقتص من الاثنين معا، ومتى يقتص من الآمر دون المأمور، ومتى يكون القصاص بالصورة العكسية، والسؤال الآن: لو أنه اشترك اثنان، أحدهما يجب القصاص عليه، والثاني لا يجب القصاص عليه، وقال أولياء المقتول: لا نريد القصاص، بل نريد الدية، وكنا قد ذكرنا أنه إذا اشترك اثنان يجب القصاص على أحدهما دون الآخر، فيقتص من الذي يجب القصاص منه، فلو عفا أولياء المقتول عن الدم فهل تجب الدية عليهما، أو تجب على الذي يجب عليه القصاص؟ بين المصنف رحمه الله أنها تجب عليهما، وبناء على ذلك يكون عليه نصف الدية، فقال رحمه الله: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك) . فقوله: (فالقود على الشريك) إذا اشترك اثنان لا يجب القصاص على أحدهما، كما لو اشترك -والعياذ بالله- مع شخص أجنبي وقال له: أريد أن أقتل ولدي هذا، فساعدني على قتله، فاشترك الاثنان، وقتل هذا الولد، وحصل الزهوق بفعلهما بالشروط المعتبرة في اشتراك الجماعة، ففي هذه الحالة الأب لا يجب عليه القصاص، كما سيأتي إن شاء الله وسنذكر دليل ذلك، والأجنبي يجب عليه القصاص؛ لأن الأب سقط عنه القود لمعنى يخصه، وهذا المعنى لا يؤثر في السببية؛ لأن الإزهاق والقتل حصل بفعل الاثنين، وكان أحدهما عنده عذر يخصه لم يسر العذر إلى غيره، والقصاص في الأصل واجب على الاثنين، فإذا تعلق الإسقاط وتعلقت الرخصة بأحدهما لم تسر إلى الآخر وهو الأجنبي، فيجب القصاص على الأجنبي دون الوالد، هذا أصل المسألة. قال رحمه الله: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية] . أي: إذا عفا الأولياء فإن الأجنبي يدفع نصف الدية؛ لأن الدية مشطرة بينهما. إذا: المصنف رحمه الله بين حكم اشتراك الجماعة في قتل الواحد اشتراكا على وجه لو انفرد كل واحد منهم لقتله، فكل منهم قاتل، ويجب القصاص على الجميع، وإن عفي لزمتهم دية واحدة، وانتقل بعد ذلك للاشتراك بالسببية في مسألة الإكراه ومسألة الأمر بالقتل، وفصل رحمه الله في هذا، ثم شرع في مسألة اشتراك من يعذر ومن لا يعذر، فبين أن سقوط القصاص والقود عمن يعذر لا يوجب سقوطه عمن لا يعذر؛ لأنه لو انفرد فعل كل واحد منهما لأوجب الزهوق، وبناء على ذلك فكل منهما قاتل، فإذا عفي عن أحدهما أو أسقطت الشريعة القصاص عن أحدهما لمعنى لا يوجد في الآخر؛ فإن الرخص لا يتجاوز بها محالها. وهذا أصل في الشريعة: أن الشيء الذي يكون معذورا يختص العذر به ولا يتجاوزه لغيره ممن لا يوجد فيه هذا العذر، وإلا ضاعت أحكام الشريعة، فهذا الأجنبي مع هذا الوالد قاتل، وإذا سقط القصاص عن الوالد لمكان الأبوة لم يسقط عن الأجنبي، وكذلك لو مات أحد الشركاء في القتل قبل أن يقتص منهم، فإنه يقتص من الباقين، فلو أن ثلاثة قتلوا زيدا من الناس، فمات أحد الثلاثة قبل القصاص، وقال أولياء المقتول: نريد القصاص؛ فإنه يقتص من الاثنين الباقين، وموت أحدهم لا يسقط كون البقية قتلة. ومن هنا إذا كان الخلل مرتبطا بسببية القتل، ويوجب التأثير فيها، فحينئذ يكون مؤثرا، أما هنا فإنه ليس من هذا الباب، ولذلك لا يوجب إسقاط القصاص عن الأجنبي، فيقتص من الأجنبي ويترك الوالد ولا يقتص منه؛ لأن القصاص لا يجب في حقه. الأسئلة حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل السؤال امرأة كانت حاملا، فرفعت ثقيلا، ثم سقط الجنين، فهل عليها كفارة أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولا: لا بد للإنسان أن يذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، فقد كنا في صلاة المغرب وخلال دقائق يسيرة نظر الإنسان إلى عظمة الله جل جلاله، وحقارة الناس أمام رب الجنة والناس، لحظات يسيرة لو شاء الله أن يهلك من على الأرض لأهلكهم، يذكر الله سبحانه وتعالى الغافلين، ويوقظ النائمين، وهذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان ليكون قلبه حيا دائما، وإذا أرى الله عبده الآيات والنذر فاتعظ قلبه وانكسر فؤاده؛ أصلح الله حاله، وعرف الله عز وجل، ومن عرف الله نال سعادة في الدنيا والآخرة. وليس هناك شيء في الدنيا أعز ولا أكرم ولا أعظم من المعرفة بالله عز وجل من عرف جبار السماوات والأرض الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، من أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، الكهرباء تقف أمام عظمته ذليلة فتنطفئ، والسيارات تتعطل، والطرقات تتوقف، ولا يستطيع أحد أن يقدم شيئا أخره الله أو يؤخر شيئا قدمه الله؛ لأن الأمر أمره، والملك ملكه، والتدبير تدبيره جل جلاله. ثم لو خرج الإنسان إلى الدول التي فيها الجنات والنعيم، لرأى أشياء تهز القلوب، وهذا الذي نراه يسيرا، ففي بعض الأحيان يأتيهم الإعصار -أعاذنا الله وإياكم- دقائق معدودة فلا يبقي ولا يذر، وتجد الخلق عاجزين لا يستطيع أحد أن يتحرك، والعجب كل العجب أن الله لا يسلط مثل هذه الأمور إلا على أقوى دول الأرض، حتى يعلموا أن الله فوقهم، وأن الله قاهر لهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وأن الأمر أمره، والكون كونه، والتدبير تدبيره، ولكن ما أغفل الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى! كل شيء يتحدث عنه الناس، وكل شيء يذكره الناس إلا الله جل جلاله، فما أغفلهم عن ربهم! الواحد منا لو حصل له ظرف أو نكبة أو كربة فوجد أحدا يقف بجنبه وقوف العاجز مع العاجز، وضعف الطالب والمطلوب، وإذا أجرى الله على يد هذا العاجز فرجا، وفتح له بابا ومخرجا، جعل يتحدث بهذه الحسنات، ويفتخر لهذا الرجل بمآثره، ويزين قبيحه، ويرفع وضيعه، ويزكي فاسده، كل هذا من أجل هذا المعروف، فأين الله جل جلاله؟! أين الله سبحان وتعالى الذي ما من طرفة عين ولا أقل من ذلك إلا وهي نعمة مرسلة عليك، وألطافه، ورحمته، وحلمه، وإحسانه وبره، كيف لو أن هذا البلاء وهذا المطر الشديد لو أن الله سبحانه وتعالى أذن أن يستمر ليلة واحدة، كيف سيكون حال الناس؟! كيف لو أن الله أرسل هذه الصواعق التي يصيب بها من يشاء! وقف رجل ملحد ذات مرة من المرات يقول لشخص أثناء نزول المطر: من هو الله -أعوذ بالله- الذي تدعوني إلى عبادته؟ فما انتهى من كلامه حتى أصابته صاعقة قسمته قصمته نصفين، وصدق الله في وصفه: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} [الرعد:13] . فالسعادة التي يبحث عنها كل سعيد، وسيجدها كل موفق، هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلا تمر عليك لحظة إلا وقد ازددت معرفة بملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وعرفت من الذي بيده الأمر كله {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} [هود:123] . تعرف على ملك الملوك، تعرف على جبار السماوات والأرض، تعرف على من لا تخفى عليه خافية، تعرف على الذي {بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون:88] . لقد كان الناس في شدة وضيق وفقر، والشخص تراه يسافر في خوف وفقر وجوع، وأحوال شديدة، لكن كانت قلوبهم عامرة بالله جل جلاله، فكان خوفهم أمنا، وجوعهم سبعا، مما يجدون من لذة المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلن تضيق الدنيا على عبد عرف الله، ولن تضيق الدنيا على عبد أخذ من هذه الدلائل والشواهد زادا للقاء الله، وعرف من ربه ومن خالقه، فالناس تعتريهم الغفلات، وتحيط بهم من كل جانب الملهيات، وتجدهم بعيدا عن التفكر في ملكوت الأرض والسماوات، ولكن يرسل الله الآيات تخويفا، فتقرع قلوب المؤمنين فتزيدهم توحيدا وتحقيقا، وصدقا وإحسانا وبرا له سبحانه وتعالى، ويقينا بعظمته، والعبد من لحظة إلى لحظة ومن فكرة إلى فكرة تقربه إلى ربه، وتزيده إيمانا بخالقه؛ فعندها يطمئن القلب بالله عز وجل. فكيف لو كشف الله للعبد ملكوت السماوات والأرض! وكيف لو كشف الله له أخذه بأزمة الأمور ومقاليدها! فرسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جاءه عام الحزن، وأراد الله عز وجل أن يملأ قلبه بأعز الأشياء وأحبها إليه، أسري به صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى أطباق السماوات العلى، ومن بعدها ما عرف خوفا إلا من الله، عرف من هو الله سبحانه وتعالى: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم) ، فكان أخشى الخلق وأتقاهم صلى الله عليه وسلم لماذا؟ للنظر في هذه الآيات والدلائل، ولذلك كان إذا هبت الريح دخل وخرج، وعرف في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخشى أن تكون كريح عاد التي أخذهم الله بها أخذ عزيز مقتدر. ثم إذا أحس المؤمن أن الكون لهذا الرب الذي يرسل الرياح، ويجري الأنهار والبحار، وله الليل والنهار؛ علم أنه مهما طغى في هذه الأرض طاغية فإن الله سيقصم ظهره، وسيشتت أمره، وسيتأذن الله عز وجل بنهايته إن عاجلا أو آجلا، ولذلك عرف الموحدون ربهم فاطمأنوا، تجد الناس في قلق وهم في طمأنينة، في خوف وهم في أمن للمعرفة بالله عز وجل، والمعرفة بعظمته في لحظة واحدة، في شدة الحر والصيف ينزل المطر، وقد يكون نزوله في هذه الدقائق يمكن من خلال فصل ما مر مطر بهذا الشكل؛ لأن الله أذن له أن ينزل. ثم انظر كيف سبحانه، وهذه من أعظم الدلائل التي ينبغي للمؤمن أن يتفكر فيها، أن الله أخلف السنن والعادات، وأجرى أشياء تناقضها حتى يتفكر الناس، ويعلم أن الأمر له سبحانه لا لغيره، ولذلك فمن عادة الصيف ألا يوجد فيه المطر، ولذلك قال القائل: سحابة صيف عن قريب تقشع لكن الله قال لها: كوني فكانت، وقال لها: أفرغي ما فيك فأفرغت، وأسلمت واستسلمت، وذلت لله عز وجل، وحق لها أن تذل، فهذا كله بأمره، ويرينا هذه الآيات والدلائل ليس في فصل الشتاء بل في عز الحر، قبل ساعات ونحن نكتوي بلظى الحر، كل منا يريد شيئا يبرد عليه، مكيفا أو غيره، وإذا به سبحانه وتعالى يري عباده عظمته وجلاله. ثم انظر كيف إذا جاءت آيات الله عز وجل -في غير ما اعتاده الناس- فتهز قلوب العباد هزا، والله ما من إنسان ملأ عينه من عظيم في الدنيا -أيا كان هذا العظيم- إلا احتقره في جنب الله جل جلاله، من عظمة الله سبحانه وتعالى. فالناس صنعت الطائرات، وفعلت بأمر الله عز وجل وبقدرته، ولكن الطائرات إذا هبت الرياح لا تطير، وإذا طارت سقطت، وأصبحت في كرب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يمسكها بين السماء والأرض أن تسقط، ولو صنعوا ما صنعوا من القوى العاتية التي مهما بلغت فلابد أن تجدهم يذلون له سبحانه وتعالى، وحق لهم أن يذلوا له وحده لا شريك له. لكن من الذي يتعظ؟! ومن الذي يتفكر ويتدبر؟! البراكين تنفجر، فإذا انفجرت لو اجتمع أهل الأرض على أن يخمدوا بركانا لما استطاعوا، هل سمعتم بما يسمونه بالعلم الحديث؟ لا علم حديث ولا قديم، هذا كله تعليم من الله عز وجل: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم} [الأنعام:6] ، فلا ينفع علم حديث ولا غيره، فهل وجدتم علما حديثا أطفأ بركانا إذا انفجر؟ هل وجدتم علما حديثا أمسك إعصارا أمر الله له أن يجري؟ هل وجدتموه يتحرك ويفعل شيئا؟ يقفون مستسلمين؛ لأن الله جعل لهم حدودا معينة إنهم يقفون عندها يذلون له سبحانه وتعالى. فهذه كلها دلائل لا ينبغي للمؤمن أن يتغافل عنها، فإن المؤمن إذا أرسل الله له الآيات وأصبح في غفلة ولا يتعظ ولا يتفكر؛ قد يطبع -والعياذ بالله- على قلبه فيكون من الغافلين. فسعادة الدنيا وسرورها بالتفكر في عظمة الله جل جلاله، والتفكر والتدبر في عظمة الله جنة فهنيئا لمن دخلها، وهنيئا لمن عاش بينها، حيث يجعل الله بها لوليه المؤمن ما لا يخطر له على بال، فمتى ما عرفت ربك هان عليك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ومن جهل بالله سلط الله عز وجل عليه نقمة الدنيا والآخرة، ولذلك تجد أضعف الناس وأخوف الناس وأجبن الناس من كان جاهلا بالله {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم:7] ، فهؤلاء هم أخوف الناس، وأتعس الناس، ولذلك فإن الشخص منهم يحسب حسابات مادية، إذا قعد على كرسيه ربط حزامه وجلس يحسب الأشياء حسابا دقيقا من الخوف والذل {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة:96] ، ولكنه لن يستطيع أن يفلت من عظمة الله جل جلاله ومن أمره. فهذه كلها دلائل واضحة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ينبغي للإنسان ألا يغفل عنها، وهذه الآيات التي نراها أشياء جعلها الله عز وجل حتى نتفكر ونتدبر ونتعظ بها، ونقول ملء قلوبنا وملء ألسنتنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، ولا معبود غيره سبحانه وتعالى جل جلاله فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يزيدنا من الإيمان به، والتصديق والتسليم له، وأن يملأ قلوبنا بالمعرفة به، وأن يجعلنا من المحسنين والموقنين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء المفلحين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين. أما الجواب عن السؤال: فهذه المسألة فيها تفصيل: إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية السؤال إذا مات أحد الشريكين في القتل بعد العدول إلى الدية، فهل تجب كل الدية على الحي كاملة أثابكم الله؟ الجواب يجب نصف الدية على الشريك، ثم الآخر الذي مات قبل القصاص تجب نصف الدية في ماله، وحكمها حكم الدين، والله تعالى أعلم. ما يقال بين خطبتي الجمعة السؤال نرجو توضيح ما يجب فعله ما بين الخطبتين: هل ندعو أم نستغفر أثابكم الله؟ الجواب الأمر واسع في هذا، لكن جرت العادة بالاستغفار، وهذا له أصل من فعل بعض السلف رضي الله عنهم من الصحابة، لكن إذا أمر الخطيب بالاستغفار فالأفضل أن يستغفر ولو مرة واحدة؛ لأنه كولي الأمر، فيسمع له لأنه ولي أمر المسجد، فالعالم في حلقته ولي أمرها، والخطيب في خطبته ولي أمرها، فينصت له ولا يتكلم إلا معه، والإمام في مسجده ولي أمره، فإذا أمر بالاستغفار فيطاع أمره، وهذا الموضع -ما بين الخطبتين- مذهب بعض العلماء أنه مظنة الساعة التي يستجاب فيها الدعاء، وقالوا: إن قوله: (وهو قائم يصلي) يشكل على هذا القول، لكن أجاب بعض العلماء بأن قائما يصلي من الإقامة في المكان والموضع، ومن جلس ينتظر الصلاة فهو في حكم من يصلي، وقالوا: إن الخطبتين في حكم الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك منع الكلام فيهما، وهذا مما خرجوا به، فأحد الأقوال: أنه موضع الساعة التي يجاب فيها الدعاء، فيجتهد فيه بالدعاء، وأما الأصل فإنه فلا بأس ولا حرج على المسلم أن يدعو فيما بين الخطبتين، وهذا محفوظ من فعل السلف، كما في صحيح البخاري من فعل الصحابة مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الجميع وأرضاهم، والله تعالى أعلم. حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه السؤال إذا قتل الجد ولد ابنه فهل يقتل أثابكم الله؟ الجواب الأصل عدم قتل الوالد بولده، وهذه المسألة ستأتي -إن شاء الله- وأحب أن الأسئلة التي ستأتي تترك، وعلى كل حال هذه المسألة جمهور السلف على أنه لا يقتل الوالد بالولد، والجد والد لولده، ومن هنا يقولون: يشمل الوالد المباشر، والوالد بواسطة، وهناك بعض العلماء يرى أنه يقتل الجد إذا قتل إعمالا للأصل، ويرون أن القود مختص بالوالد، ولكن ظاهر أثر علي رضي الله في السنن أنه لا يقاد الوالد بولده، والله تعالى أعلم. حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات السؤال هل من السنة النفث عند قراءة المعوذات دبر الصلوات المفروضة أثابكم الله؟ الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نفث قبل القراءة عند النوم، كما في حديث عائشة في الصحيح: أنه كان يجمع كفيه فينفث فيهما ثم يقرأ المعوذات فيمسح، ثم يرجع مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، هذه هي السنة، ولا يكون النفث بعد القراءة إلا عند النوم خاصة، ولم يحفظ نفث إلا في هذا الموضع، فيقتصر على الوارد، لكن إذا كان يريد أن يرقي نفسه فنفث ومسح على جسمه فلا بأس، فقد جاء في الحديث الصحيح: (فكنت أقرأ الفاتحة ثم أجمع بريقي وأتفل عليه) ، فالرقية لا بأس فيها بالنفث وأيضا التفل اليسير؛ لأن لها أصلا، أما بالنسبة لقراءة المعوذات فإن الثابت في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات أنه لا نفث فيه، ويقتصر فيه على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجرد القراءة، والله تعالى أعلم. حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) السؤال يتوسع البعض في فهم قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فكلما احتاج إلى أمر قال هذه العبارة، فما هو حد الضرورة المقصودة هنا أثابكم الله؟ الجواب أولا: ما هو حد الذي يقول: الضرورات تبيح المحظورات؟ من هو العالم أو الشيخ أو الشخص المؤهل لكي يحكم بالضرورة واعتبارها؟ الضرورات بحر لا ساحل له، لكن نحن نبين الأصول أولا وقبل كل شيء ليعلم كل إنسان أن الله لا يخادع. وثانيا: أن أي حكم شرعي يأخذه الإنسان ويدين الله به ويعمل به، سيسأل أمام الله عز وجل عمن أخذه، فلا يجوز أن يأخذ حكما إلا ممن ترضى ديانته وأمانته ويرضاه حجة له بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإلا زلت قدمه وهلك وأهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) ، فوصفهم بالضلال، نسأل الله السلامة والعافية. والضرورات تبيح المحظورات قاعدة شرعية دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، وهي أن الإنسان عند الاضطرار يباح له فعل المحرم، وكما في الأصول قال تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] ، فاستثنى سبحانه وتعالى المضطر؛ ولأن الضرورة فيها حرج، قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] ، ولأن الضرورة عسر والله يقول: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185] ، فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت، فهو مضطر، مثل من جاع ولم يجد طعاما إلا ميتا، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذ يرخص له بأكل الميتة اضطرارا لا اختيارا؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه. إذا ثبت هذا فالضرورة هي خوف فوات النفس، وهذا القول فيه خلاف: هل يشترط في المضطر أن يرى أمارات الموت عليه حتى يحكم باضطراره؟ أو يحكم بغالب ظنه؟ اختار بعض الأئمة رحمهم الله أن الضرورة هي الخوف، فإذا غلب على ظنه أنه سيموت فهو مضطر، وإن لم ير أمارات الموت، وقال بعض العلماء: لا ضرورة حتى يقف الموقف الذي يشرف فيه على الهلاك؛ لأنه ربما جعل الله له فرجا ومخرجا قبل أن يشرف على الهلاك، والصحيح في الضرورة: أنها الخوف الذي هو غلبة الظن، والغالب كالمحقق. واختلف أيضا في الخوف على الأعضاء، فلو خاف على عضو من أعضائه أن يقطع أو يفسد، أو يشل، فهل يدخل هذا في باب الضرورة؟ أيضا اختار بعض المحققين أن الخوف على الأعضاء من الجسم ضرورة تبيح المحظور كالخوف على النفس، ولذلك ضبطها علماء القواعد كـ السبكي والسيوطي وابن نجيم في الأشباه أنها: الخوف على النفس والأطراف والأعضاء. أما بالنسبة لغير هذا فيسمونه: إذا كان يوجد الحرج، فمثلا: ألم الرأس إذا اشتد شدة عظيمة على الإنسان، فلا هو خوف موت ولا هو خوف على عضو أن يتلف، لكنه يوجب حرجا شديدا، فهذا يسمونه حاجة، فإذا وصل إلى درجة العنت والمشقة فيسمونه: حاجة، والقاعدة عندهم: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. وكذلك ألم الضرس، فإن الضرس إذا اشتد ألمه فيضطر الإنسان أن يستعمل المخدر، والمخدر محرم، فلا يجوز استعمال المخدرات، لكن إذا كان ألمه شديدا جدا بحيث يصل إلى مقام الحرج فنقول: يجوز له؛ لأنها حاجة تنزل منزلة الضرورة، إذا: الحاجيات تكون في مقام الضروريات إن كانت أخف من جهة السبب الموجب للتأثير في الحكم. أما بالنسبة لكل شخص يفتي نفسه بأنه مضطر فلا، فإن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره، والمكاره فيها آلام ومشاق، وفيها متاعب، والرجل قد يكون نائما في فراشه في شدة البرد، فيسمع أذان الفجر فيقوم من فراشه ويتوضأ في شدة البرد، وهذه مشقة، لكن الله كلفنا بها وأمرنا بها، فلا يقل: أنا مضطر، ويترك الصلاة، هذه ليست بضرورة، بل هذا عبث بالأحكام. ومن هنا ينبغي أن ينتبه لمسألة فتح أبواب الرخص والترخيص للناس، فلا يقبل ذلك إلا من عالم يوثق بدينه وعلمه، وكذلك أيضا مسألة الضرورة حينما يفتى بها فتاوى عامة، فيقال: اتركوا الناس يخرجون قبل غروب الشمس يوم عرفة، فنقول: لماذا؟ قالوا: هذه ضرورة؛ لأن الناس ازدحموا! هذه أحكام شرعية لا أنا ولا أنت نعبث بها، هذه أشياء مرتبة وأحكام مؤصلة ليست محلا للعبث، أن يأتي إنسان ويفتي فيها فتوى عامة ويرخص فيها للناس أنهم يتركون ما شرع الله ويقول: باسم الضرورة، فإن هذا شيء شرعه الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكذلك أيضا الرمي بعد الزوال، هناك من يقول: دعه يرمي قبل الزوال ضرورة!! العيب يا إخوة! ليس في الشريعة، هذا من الخلط والجهل الذي يصيب البعض، وقد ذكر بعض العلماء أنه أضر ما يكون على المسلمين أنصاف المتعلمين، يمسك قاعدة وعنده نص علمي يستطيع أن يفتح به أبواب المحرمات -والعياذ بالله- فيجعل الحرام حلالا والحلال حراما، إما أن يذهب مع المتساهلين فينسلخ من الدين رويدا رويدا، حتى لا يبقى له من الدين -والعياذ بالله- إلا اسمه، من تتبع الرخص والتساهل، وإما أن يذهب مع المتزمتين فيضيق ما وسع الله على عباده باسم نصف العلم الذي عنده، فيشدد حتى يضيق على العباد ما وسع الله عليهم، ولكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، لا إفراط ولا تفريط، تطبق القواعد حيث أذن الله لك أن تطبقها، وتترك العبث بشرائع الإسلام وأحكامه الثابتة الواضحة والسنن المحكمة التي لم تنسخ يوما من الأيام، وتبقيها كما حفظتها نصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فلا تغش المسلمين؛ لأنك إن قلت: الرمي قبل الزوال ضرورة! وما هو ضرورة، والعيب ليس في الشريعة، العيب في أخلاق الناس، ليس العيب أن الناس ترمي قبل الزوال أو بعد الزوال، هذا خلط في الأحكام، العيب جاء من سلوكيات وتصرفات الناس، ومعناه أن عندنا تقصيرا في توجيه الناس، وفي تعليم الناس، مما يؤدي إلى أن تحمل الشريعة أكثر مما تتحمل. ونأتي ونقول لهم: ادفعوا قبل غروب الشمس؛ لأن الناس يزحم بعضهم بعضا لا، علم الناس آداب الحج، علم الناس هذه الآداب التي في كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، وأقم الحجة على عباد الله عز وجل، وبعد هذا لست مكلفا أن تبحث عما وراء ذلك حتى لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، وهذا هو الفقه. وهناك سنة وحدود، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) قال لك: لا تخرج قبل غروب الشمس، معناه أنه حرم عليك الخروج قبل غروب الشمس، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم كان معه مائة ألف. النقطة الثانية: مسألة الضرورة في أشياء هي من طبيعتها وتكييفها ومقصود الشرع فيها؛ فيها نوع من المقصود الشرعي، فتعطله بمخالفة الشرع. الآن الحج إذا نظر الإنسان فيه، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهن - يعني النساء- جهاد لا قتال فيه) ، فهل معنى ذلك أن الحج لليسر أو للامتحان والاختبار؟ للشدة والامتحان والاختبار حتى يخرج الإنسان عن حياة الترف والبذخ ويأتي إلى حياة المحن، ولذلك تجد الغني والثري ما يصهر بين الناس ويقهر على أشياء مثل أيام الحج، خاصة إذا لم تجد بجوارك من يفتي بالرخص، إذا وجدته يمشي على السنة وجدته يختلف حاله تماما بالحج، ويصبح الحج له مدرسة حقيقية، فإذا جاء الشخص ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم يقول الراوي: (كاد أن يقتل بعضهم بعضا) ، وهذه ثابتة، ولما جاء في يوم الحديبية وحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ماذا فعل الصحابة؟ قال: (كادوا أن يقتتلوا على الحلاق) ! الصحابة رضوان الله عليهم كادوا أن يقتتلوا على الحلاق؛ لأن طبيعة الشيء يستلزم هذا. ولما ترى طلاب العلم يزدحمون عند عالم أو عند شيخ، فهذه طبيعة هذا الشيء، فلا تحمل الأشياء ضدها وما لم تتحمله، فالحج طبيعته هذا الشيء من الازدحام وغيره، وأنت تريد أن تغير الحج عن طبيعته، ليس ذلك لك ولا هو لي، هذا أمر من الله سبحانه وتعالى، فانظر إذا خفف الشرع فخفف، وإذا ضيق الشرع فيضيق، فإن ضيقه رحمة وسعة بالناس؛ لأن الله يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] . وكم من إنسان ثري غني لم يشاهد يوما من الأيام ضيقا يذكره بالله، فجاء إلى الحج فضيق عليه في الحج حتى رجع إلى ربه، ولربما رأى الموت في الزحام، وتشهد ورأى الشهادة فتاب توبة نصوحا، وما وجد هذا إلا في الحج، فهذه أشياء وحكم وأسرار لا يعلمها كل أحد. ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند الحدود، فلا يتوسع الإنسان في الرخص تحت مقام الضرورات تبيح المحظورات، وأحذر كل طالب علم تعلم علما لم يستوفه ولم يعطه حقه عن أن يرخص لنفسه ما لم يعلم طبيعة المرخص فيه، وحقيقته، وهل مثله يوجب الرخصة أو لا يوجبها، حتى يكون على بينة من أمره وسداد وصواب في حاله وشأنه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وقد اجتمعنا في هذا البيت من بيوتك يا واسع الرحمة أن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مغيرين ولا مبدلين، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو يضل بنا، أو نزل أو يزل بنا، يا حي يا قيوم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، لا إله إلا أنت توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الرحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (495) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب شروط القصاص لابد من وجود شروط معتبرة حتى يتحقق ويجب القصاص على القاتل، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول، وهي: أن يكون القاتل مكلفا، وأن يكون المقتول معصوم الدم، وأن يتكافأ القاتل مع المقتول، وألا يكون بينهما ولادة، كالوالد مع ولده، فإن تحققت هذه الشروط وجب تنفيذ القصاص، وإن تخلف واحد منها سقط القصاص عن القاتل. شروط القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب شروط القصاص] . بعد أن بين المصنف رحمه الله الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بقتل العمد الذي يوجب القصاص من القاتل، شرع رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم لولي المقتول بالقصاص من القاتل، وهذا ما ترجم له رحمه الله بهذه الترجمة: (باب شروط القصاص) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لكي يحكم الفقيه ويقضي القاضي ويفتي المفتي بثبوت استيفاء القصاص، وتمكين ولي المقتول من الأخذ بحقه. قوله: (شروط القصاص) ، تقدم معنا تعريف الشروط أكثر من مرة، وأن الشرط: هو العلامة، وأما في الاصطلاح: فما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. وجمعها رحمه الله فقال: (شروط) ؛ لتعددها واختلافها، فهناك شروط تتعلق بالمقتول، وهناك شروط تتعلق بالقاتل، فلا بد من توفر هذه الشروط حتى يحكم بالقصاص. والقصاص مأخوذ من قولهم: قص الأثر إذا تتبعه: {وقالت لأخته قصيه} [القصص:11] أي: تتبعي أثره، فلما كان حكم الشريعة بالقود -وهو القصاص- يتتبع فيه ولي المقتول القاتل لكي يفعل به مثل ما فعل بالمقتول وصف بهذا الوصف، وهو وصف شرعي وردت به نصوص الشرع، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، فهو مصطلح شرعي، والمصطلحات منها ما هو مستقى من نص الكتاب والسنة، ومنها ما هو مفهوم من الشرع، فهذا مصطلح مستقى لفظا من الشرع. قال رحمه الله: [وهي أربعة] . إجمال قبل البيان والتفصيل، وقد تقدم أن هذا منهج العلماء رحمهم الله. وقد ذكر المصنف رحمه الله أربعة شروط، شرطا منها يتعلق بالمقتول، وشرطين يتعلقان بالقاتل، وإن شئت قلت: شرطا يتعلق بالقاتل وهو كونه مكلفا، وشرطين مجتمعين يتصل بهما القاتل بالمقتول، وهي قضية المكافأة والمساواة، وقضية عدم البعضية أو عدم الولادة، أو ألا يكون القاتل والدا للمقتول، سواء كان ذكرا أو أنثى، فيشمل الأب ويشمل الأم، وسواء كان مباشرا كالأب المباشر أو بواسطة كجده وإن علا. الشرط الأول: عصمة المقتول قال رحمه الله: [عصمة المقتول] . المراد بهذا الشرط أننا لا نحكم بوجوب القصاص إلا إذا كان المقتول معصوم الدم، وهذه العصمة يحكم بها الشرع، بمعنى: أن الشريعة حرمت قتل هذا المقتول، فإذا ثبتت العصمة للمقتول؛ فإن من قتله بدون حق يجب عليه القصاص. والأصل في هذا: أن الله حرم قتل المعصوم، كما قال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، فبين أن الإيمان عصمة للإنسان، وأنه لا يجوز قتل المؤمن إلا على وجه الحق. وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] قيل: (( ولا تقتلوا أنفسكم )) أي: لا تقتلوا إخوانكم، فدل هذا على أن الإيمان عصمة. ودلت السنة أيضا على هذا، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) يدل على أن هناك عصمة للمسلم، ولذلك قال: (لا يحل) فعبر بهذه الصيغة المقتضية للتحريم. واتفق العلماء على هذا المصطلح، وهو ما يسمونه بمصطلح العصمة، وهو مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله) ، فهذا يدل على العصمة. والعصمة تكون للدم، وللمال، وللعرض، وهذا ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع حينما قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد) ، فجعل العصمة شاملة للنفس والعرض والمال. والعلماء يسوون بين عصمة الدم وعصمة النفس فالمعنى واحد، فهذه العصمة تكون مستحقة بالشرع وتكون بالأمان، فلا يجوز أن يقتل من له عصمة في الشرع مثل: المستأمن والذمي والمعاهد، وإن كان مثله لا يقتص له على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى. فهذه العصمة لا بد من توفرها في المقتول، فإن كان المقتول مهدور الدم أو مباح الدم، مثل الحربي، فإنه لا يقتص من المسلم في قتل الحربي؛ لأن الحربي لا عصمة له في الشرع، وليس بمعصوم الدم، فالقتل ليس واقعا في غير موقعه، بل واقع في موقعه؛ لأن الحربي يقتل، وكذلك إذا كان المقتول غير معصوم الدم كالكافر والمرتد والحربي والمسلم المستحق الدم، فمثلا: لو أن إنسانا قتل ظلما وعدوانا، وفر القاتل وهرب، وعلم شخص أنه قاتل، فجاء وأراد أن يأخذه ففر عنه، فقتله بنية القصاص لمن قتله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- بيانه، ففي هذه الحالة ليس بمعصوم الدم. وأما إذا كان محصنا وزنى -والعياذ بالله- فاستحق القتل، ففيه خلاف بين العلماء فيمن قتله، فبعض العلماء يرى أن المحصن مهدر الدم، وأنه إذا قتله القاتل فلا قصاص عليه، قالوا: لأن دمه مستحق بالشرع، فإذا قتل فإنه لا عصمة له حتى نقتل من قتله، فأسقطوا القصاص لعدم وجود العصمة. ومن أهل العلم من قال: إن قتل الزاني المحصن أمر إلى ولي الأمر والقاضي، فهو مستحق بحكم الشرع، وليس لأحد أن يأتي ويقتله؛ لأن هذا لا يستند إلى ولاية بالقتل، وقد جعل الله عز وجل ولاية للسلطان ومن يقوم مقامه. وفي بعض الأحيان يكون قتله حمية، كما لو جاء ووجده مع زوجته وهو محصن فقتله، أو شهد الشهود الأربعة على أنه زنى بزوجته فقتله، قالوا في هذه الحالة: يكون قتله أشبه بالغيرة، وليس قياما بحق الشرع، قالوا: فإنه يقتل به، وفي هذه الحالة لا يقال: إن هذا قتل شرعي؛ لأنه ليس على الصفة المعتبرة شرعا. ومن أهل العلم من قال كما اختاره الحنابلة وطائفة: إن الزاني المحصن إذا قتل أو مهدر الدم إذا قتله من قتله؛ فإنه يكون مهدر الدم، ولا قصاص على قاتله، وهذا أشبه من جهة الأصول. أما في مسألة المرتد فالأمر يختلف، فلو أن رجلا سب الله عز وجل -والعياذ بالله- أو سب الدين، أو تهكم واستهزأ استهزاء بينا موجبا للكفر، فهذا كافر مرتد، ومن قال الكفر أو عمل به وقيل له: هذا كفر، وقامت عليه الحجة، فأبى وأصر على ما هو؛ فهو كافر مرتد مباح ومهدر الدم، فإذا قتله فإنه في الأصل ليس هنا حمية إلا حمية الدين، ولا عصبية إلا عصبية الدين، فإذا قتله فإنه مأجور على قتله، لكنه -كما ذكر العلماء رحمهم الله- افتيات على حق السلطان والوالي، لكن مثل هذا مهدر الدم لا يقتص له بوجه، فلا يقتص ممن قتله لما سب الله عز وجل، أو سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، فيكون مهدر الدم. وفي هذه الحالة لا يكون القصاص على من قتله، فإن قتل به فهو شهيد، إذا ثبت على هذا الوجه أنه مرتد. قال رحمه الله: [فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا أو مرتدا لم يضمنه بقصاص ولا دية] . المسلم إذا قتل حربيا، فإنه مهدر الدم، وإذا حارب المسلمون الكفار سقطت الحرمة لدمائهم، إلا إذا كان بينهم وبين المسلمين ذمة، على تفصيل سبق أن بيناه في باب العهد والأمان. ولكن من حيث الأصل أنه لو قتل المسلم الحربي فلا يقتل به، لكن لو قتل الذمي الحربي، كما كان في القديم عندما كان أهل الكتاب تحت ذمة المسلمين، فلو خرج رجل من أهل الكتاب أو كتابي فوجد حربيا فقتله، فإن هذا الحربي مهدر الدم، مع أن قاتله كافر مثله، لكن هذا له أمان، وله ذمة الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة) ، فله ذمة المسلمين، فإذا قتل فله حرمة في بلاد الإسلام، فلا يقتل بمن قتله؛ لأنه في حكم الشريعة، وفي حكم من أعطاه الأمان والذمة أن هذا الدم مهدر، ولذلك لا يقتل به. وقوله: (فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا) هذا تمثيل على الدم المهدر وهو دم الحربي. وقوله: (أو مرتدا) أي: لو قتل مسلما مرتدا، فإن هذا بإجماع العلماء على أن المرتد مباح الدم، لكن عندهم تفصيل هل تشترط الاستتابة أو لا تشترط؟ فمن أهل العلم من قال: إن المرتد لا يستتاب بل يقتل كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن امرأة وجدت مقتولة في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرج بالله من كان عنده خبر منها أن يقوم. فقام زوجها -وكان كفيف البصر أعمى- وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتتكلم في دينك، فما هو إلا أن قمت عليها وهي نائمة بمعول -وهو الفأس- فبقرت بطنها فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر) ، فأسقط عليه الصلاة والسلام هذا الدم؛ لعدم عصمتها بالردة. وهذا يدل على أن من سب الله وسب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مهدر الدم، ولا يقتص من قاتله. قوله: (أو مرتدا) الردة سواء كانت بالأقوال أو بالأفعال الموجبة للخروج من الإسلام، فهذا كله سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في ضوابطه، والأحوال التي يحكم فيها بالردة. ومن أهل العلم من يشترط الاستتابة، واحتجوا بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه معاذ رضي الله عنه وقال: (إن رجلا اختار دين اليهودية بعد أن أسلم، قال: فقربناه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلا أدريتموه وأطعمتموه ثلاثا وعرضتم عليه، وإن أبى قتلتموه، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر) ، فـ عمر رضي الله عنه برئ من قتله بدون استتابة. وعلى كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن المرتد مباح الدم، والنص في هذا واضح في قضية الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبقى النظر في تعزير من افتات على السلطان وقتل بدون بإذنه، وهذا يحتاج إلى نظر وتفصيل. وقوله: (لم يضمنه بقصاص) فلا يقتص من الذي قتله، فلو كان مرتدا في الحقيقة، ولم يوجد شهود يثبتون ردته، وجاء رجل وقتله، فالأصل أن نقول: إنه مسلم، فهذا القاتل إذا أخذه أولياء المقتول، وقالوا: نريد القصاص، فاقتص منه وقتل فهو شهيد؛ لأنه في هذه الحالة قتل بغير حق، وقتله للمرتد هو على وجه شرعي. وبناء على ذلك لا يكون دمه مباحا في الأصل الشرعي، فإذا قتل به فإنه مقتول ظلما، ولكنه في حكم الشرع يقتل؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان أي شخص يقتل شخصا ويقول: هذا مرتد، ولذلك لا بد من إثبات الردة، وعدم وجود دليل يدل على توبته من الردة؛ لأنه يمكن لأي شخص -والعياذ بالله- أن يرتد ثم يتوب. وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من زنى -والعياذ بالله- وهو محصن، ثم قتله القاتل فيقتل به، ما لم يثبت عند القاضي زناه وعدم توبته؛ لأن أصل القضية أنه إذا كان زانيا محصنا فيحتمل أنه تاب، وإذا تاب لم يقتل؛ لأن الزاني إذا زنى وتاب ولو بعد الزنا مباشرة، ولو زنى مليون مرة -والعياذ بالله- فما دام أنه تاب إلى الله توبة نصوحا؛ فإن الله يتوب عليه. والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما يريد التقوى من القلوب، فالعبد الذي يفعل الذنب ثم يتوب يتوب الله عليه، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه: {لا يخلف الميعاد} [آل عمران:9] ، أما من تاب صادقا من قلبه بعد ذنبه فالله يغفر ذنبه. فقالوا: يحتمل أنه زنى ورآه يزني، وعلم أنه محصن، وتاب الرجل بينه وبين الله، فحينئذ لا يستحق دمه؛ لأنه في الأصل قد تاب وأناب إلى الله عز وجل، فقالوا: لشبهة التوبة ولاحتمال أن يكون تاب بينه وبين الله لا يفتح هذا الباب. فقالوا: إذا قتله فيحتمل أنه تاب قبل قتله، ومثل هذه الذنوب تنفع فيها التوبة، وحينئذ قتل معصوما، وأكدوا هذا بالدليل في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن سعدا رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت لو وجد لكع قد تفخذها رجل، فيذهب فيحضر الشهود، إذا يفرغ الرجل من حاجته، وإذا قتله قتلتموه) . وفي الصحيحين من ح الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفا قال رحمه الله: [الثاني: التكليف] . الشرط الثاني: التكليف، والتكليف يقوم على أساسين: البلوغ والعقل، قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر فلابد في التكليف من البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل غير مكلف، كصبي قتل رجلا أو قتل صبيا، فإنه لا يقتص من هذا الصبي؛ لأنه مرفوع عنه القلم وغير مكلف وغير مؤاخذ. وكذلك أيضا إذا قتل مجنون رجلا أو قتل جماعة، فإنه لا يقتص منه؛ لأنه غير مؤاخذ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، وفي الصبي خلاف إذا كان مميزا، والقول بأنه يكون في حكم المكلف قول معارض للنصوص القوية، والأدلة الواضحة، والإجماع السابق لهذا القول يدل على أنه إن كان مميزا أو غير مميز فإنه لا تكليف عليه، والتفريق بين الصبي المميز وغير المميز قول ضعيف. والنصوص واضحة، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم) ، فهذا نص واضح ليس فيه إشكال، وإن كان بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فرقوا بين الصبي المميز وغير المميز، وهو تفريق بدون دليل، ومعارض لما ذكرناه من الأصول الشرعية وإجماع السلف قبل حدوث هذا القول. قال رحمه الله: [فلا قصاص على صغير ولا مجنون] . ولذلك فعندهم قاعدة تقول: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي إذا قتل فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية، وهكذا لو أن الصبي قطع عضوا أو ضرب شخصا فأتلف له عضوا أو نحو ذلك، فإنه يجب ضمان هذه الجناية، ولا يجب القصاص والقود. الشرط الثالث: المكافأة قال رحمه الله: [الثالث: المكافأة] . الشرط الثالث: المكافأة، وهي المساواة، أي: أن يساوي القاتل المقتول، وألا يكون أزيد منه، وتحقق بمسألة الديانة والحرية، والأصل في ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة:178] ، فجعل الله عز وجل المقابلة، والقصاص في الأصل يقتضي المساواة؛ لأن المقاصة تحتاج إلى مماثلة، وعدم وجود فضل في القاتل على المقتول من جهة الدين أو من جهة الحرية مما يعتبر في المكافأة، قالوا: لأنه إذا كان القاتل فوق المقتول حرية مثلا، فإننا إذا قتلنا القاتل وهو حر، لم نساوه بمن قتله، وكان هذا ليس قصاصا؛ بل كان زيادة في القصاص، والله عز وجل يقول: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فحرم الله الزيادة في القصاص عن الأصل. وقول الله عز وجل: {الحر بالحر} [البقرة:178] هذا يسمى عند العلماء: مفهوم الحصر، أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، والسبب في ذلك بيناه في غير مرة: أن مسألة الرق والحرية مبنية على أصول شرعية، ولذلك فإن الإسلام لا يحكم بالرق في الأصل والأساس إلا في حالة مقاتلة المسلمين للكفار وضرب الرق عليهم، فالرق مستفاد من الكفر؛ لأنه عرض عليه الإسلام فأبى، ثم قاتل المسلمين، فلما أخذوه في الأسر ضرب عليه الرق وصار في مستوى البهيمية، قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، فهو كافر بالله، ثم حمل السلاح على دين الله وشرع الله عز وجل مانعا من كلمة الله عز وجل؛ فنزل إلى مستوى أحط من مستوى البهيمية، وهذا المستوى لا يمكن أن يكافئ به المسلم. ولذلك فإن القول المعتبر عند جماهير السلف والخلف، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهم، وجمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائهم: أنه لا يقتل حر بعبد، سواء كان العبد عبده أو عبد غيره، وهذا يستفاد منه الشرط الذي ذكرناه وهو المساواة، وأنه ينبغي أن يكون مكافئا لمن قتله. خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين] . أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين. ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربيا إجماعا، وإذا كان ذميا على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهوديا أو نصرانيا دخل إلى بلاد المسلمين ذميا، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به. وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:179] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] . واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال: أنا أحق من وفى بذمته) ، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سندا، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين. يعني أنه راو ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده. أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي: أولا: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل عليا رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهما يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكرا أو أنثى، وسواء كان الكافر ذميا أو معاهدا أو مستأمنا أو حربيا أو مرتدا، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثن كافرا من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة. إذا: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر. أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:178] ، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول. ثانيا: أن قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة. وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص. هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمنا فإنه يقتل به. وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذميا ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئا أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله. وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضا من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعا من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصا. والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان. وبناء على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكا لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جدا في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر. وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتدا أو حربيا أو ذميا أو مستأمنا، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال. وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه. خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين والحرية والرق] . أي: يساويه في الدين والحرية، فإذا قتل حر حرا قتل به، وهذا نص القرآن: {الحر بالحر} [البقرة:178] وهذا يسميه العلماء: مفهوم الحصر، وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة المشهورة، وهي: مفهوم الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر والغاية. وقد أشار إليها الناظم بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إغيا فلما قال: {الحر بالحر} [البقرة:178] يعني: اقتلوا الحر بالحر، وأيضا لا تقتلوا الحر إلا بالحر. وبناء على ذلك: لا يقتل الحر بالعبد، وهذا مبني على أن الحر أرفع درجة من العبد، كما بين الله تعالى أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، وأن الحر أرفع منه درجة بأصل الإسلام كما ذكرنا: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] . إذا ثبت هذا فإن الناقص لا يقتل به الكامل؛ لأن ذلك لا يعتبر قصاصا ولا عدلا، والشريعة جاءت بالعدل، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115] ، فالشريعة جاءت بالعدل، فالحر لا يقتل بالعبد. وخالف في هذه المسألة داود الظاهري رحمه الله فقال: الحر يقتل بالعبد، وجماهير السلف والخلف على غير ذلك، وفيه حديث مرفوع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يقتل حر بعبد) ، وحديث السنن عند ابن ماجة وغيره، وحسن بعض العلماء إسناده. فهذا يدل على أن الأصل ألا يقتل الحر بالعبد، سواء كان العبد مملوكا كامل الملك، وسواء كان مملوكا للقاتل، أو كان مملوكا لغيره، وسواء كان الرق فيه كاملا كالرقيق الكامل، أو مبعضا، كما لو كان نصفه حرا ونصفه عبدا، فإنه لا يقتل به إلا إذا كان حرا كامل الحرية. وعلى هذا فلو قتل العبد العبد قتل به: {والعبد بالعبد} [البقرة:178] ، فهذا يدل على أن العبد يقتل بالعبد، وإذا قتل الحر العبد؛ فإنه لا يقتل به، ولكن هل يدفع قيمته أو الدية؟ وجهان للعلماء: قيل: يدفع قيمته بالغا ما بلغ، وفي بعض الأحيان تكون قيمة العبد أضعاف أضعاف قيمة الدية، مثل أن يكون عبدا عنده صنعة وهو غالي الثمن، فتكون قيمته مثلا ثلاثمائة ألف، والدية مائة ألف؛ لأنه صاحب صنعة. فحينئذ اختلف العلماء -وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات-: هل الرقيق ملحق بالأموال فتقدر قيمته عند الجناية، أو ملحق بالآدمية؛ لأنه في الأصل آدمي، ولا يعامل معاملة الأموال في البيع والشراء بل يبقى على آدميته على الأصل؟ نقول: إن العبد تكون ديته نصف دية الحر، وحينئذ تكون خمسين ألف مثلا، إذا كانت الدية مائة ألف، وإذا قلنا: يدفع قيمته بالغة ما بلغت فقد تكون ثلاثة أضعاف الدية كما ذكرنا، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في باب الديات. قال رحمه الله: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد] . (الفاء) للتفريع، وهذا هو التفصيل والبيان، فإذا كان قد ثبت أنه لا بد من المكافأة في الدين والحرية والرق فينبني على هذا، ويتفرع عليه ألا يقتل مسلم بكافر، وهذا عام، كما ذكرنا في الردة، ولو أن شخصا -والعياذ بالله- ثبت بالشهود أنه سب الدين وسب الله عز وجل، فإنه يحكم بردته، فإذا قتله بعد سبه لله عز وجل مباشرة؛ فإنه قد قتل كافرا، فلا يقتل مسلم بكافر. ولا يقتل حر بعبد كما ذكرنا، سواء كان عبده أو عبدا لغيره. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم قتل الذمي بالمسلم قال رحمه الله: [وعكسه يقتل] . فلو أن ذميا كان بين المسلمين، وجاء وقتل مسلما، أو قتل امرأة مسلمة، قتل بها، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، وكانت من الأنصار، فسئلت: من فعل بك هذا؟ فلان فلان حتى ذكروا يهوديا) ، وقال بعض أهل العلم: إنه كان اليهودي يتربص بها من قبل، فلما ذكر اسمه هزت برأسها وأومأت، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالتدمية البيضاء، فعند مالك رحمه الله من مسائله في القتل هذه المسألة: أن الشخص إذا وجد في آخر رمق من حياته وقيل له: من الذي قتلك: فلان؟ وهز رأسه، قلنا: هذا تدمية بيضاء موجبة للقسامة ومؤثرة في الحكم؛ لأن الشخص في هذه الحالة أقرب ما يكون إلى الصدق, وأبعد ما يكون عن الكذب؛ لأنه مقبل على آخرته وقد ترك الدنيا، ولا مصلحة له أن يكذب، ولذلك يرى أن قوله هنا يؤخذ به لما ذكر، وستأتي -إن شاء الله- هذه المسألة. وفي هذه الحالة سئلت المرأة فقيل: من فعل بك؟ فلان فلان؟ فأخذ اليهودي فأقر واعترف، والحقيقة أن هذا الحديث ليس فيه حجة على ثبوت الدم، بل فيه حجة على ثبوت التهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بقولها، وإنما أخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فأخذ ووضع رأسه بين حجرين ورض كما رض رأس الجارية. وهذا يدل على أن الكافر يقتل بالمسلم، وعلى ذلك إجماع العلماء رحمة الله عليهم، أنه إذا قتل كافر مسلما؛ فإنه قد أسقط العهد الذي بينه وبين المسلمين فيقتل قصاصا، ويقتل أيضا لخروجه عن العهد الذي بينه وبين المسلمين. أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى قال رحمه الله: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر] . الذكر أرفع درجة من الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في أن الرجل لا يساوي المرأة من حيث الأصل، وهذا أمر واضح جلي في الشرع، وعلى المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن يترك هذا الخلط الذي يدعيه أعداء الإسلام من مساواة الرجل بالمرأة من كل وجه، فهذا قول باطل معارض لنصوص الكتاب والسنة. والله تعالى يقول: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36] ، والله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بعد هذا التكريم خلق منه حواء، فجاءت خلقة الأنثى بنصوص الشرع تبعا ولم تأت أصلا، وجاء التكريم استقلالا للإنسان الذكر، وجاءت خلقة الأنثى بنص الكتاب أنه خلق منها زوجها ليسكن إليها، فهي تبع للرجل، ولحكمة من الله سبحانه وتعالى أن جعلها على هذا الوجه، ولم يسو بينها وبين الذكر، والله عز وجل يخلق الضعيف والقوي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الضعيف كالقوي، فهذه خلقة الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحياة إلا بوجود قوي وضعيف. وهذا ليس فيه ظلم ولا جور، بل هذه خلقة الله عز وجل، فلا تستطيع أن تستدرك على الخالق، حاشا وكلا! تعالى الله عز وجل. فالله عز وجل في أصل الخلقة خلق المرأة على هذا التكوين: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] خلقها على هذا الضعف لحكمة بينها تعالى فقال: {ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فلو خلقت قوية لما استقامت أمور الحياة، ولتنكد العيش، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر على هذه السنن {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم:30] ، فلا يستطيع أحد أن يبدل خلق الله. نعم في الشريعة جاءت التشريعات تخاطب الرجال وتخاطب الإناث، ومع ذلك خصت الرجال بما خصتهم، وخصت الإناث بما خصصتهن، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها قد جعلت الرجل مثل المرأة سواء بسواء أبدا، هذا أمر واضح جدا في التكاليف الشرعية وفي الأحكام والمسائل، فلا يخلط الأمر، بل ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن تكون الأمور واضحة. ولذلك متى ما خرجت المرأة عن هذه الفطرة استرجلت، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات من النساء، أي: أنها خرجت عن هذا المقام الذي فطرها الله عز وجل عليه، وأرادت أن تساوي الرجل، والله يقول: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة:228] . فهذه أمور خلطت على المسلمين، ودخلت من الأفكار الوافدة من أعداء الإسلام؛ لأنهم يعلمون أنهم يناقضون كثيرا من أصول الشريعة، وتستقيم أمور المسلمين كثيرا إذا عرفت المؤمنة الصالحة مكانتها وعرف الرجل مكانه، وكمل كل منهما الآخر، وحاول كل منهما أن يكون على السنن والفطرة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا يخرج عنها ألبتة. ولذلك الذين يقولون: حقوق المرأة، هؤلاء والله يعذبون المرأة ويحملونها ما لا تطيق، وفوق ما تطيق، فهل يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل فلا يكلفوها، ولا يحملوها ما لا تتحمل. ومن هنا لما خرج الناس عن هذه الفطرة تنكدت الحياة، وتعذبت المرأة وأهينت وأذلت، حتى إن بعض أعداء الإسلام انتصر لحقوق المرأة، فلما خرجت المرأة في الدول الشيوعية للاتحاد السوفيتي تكنس الشوارع، وتعمل مثلما يعمل الرجل، صارت مهانة ذليلة ورجعت على العكس، فقد كانت تظن أن مسألة حقوق المرأة أنها مسألة يراد بها تكريم المرأة حقيقة، فتبين أنها إهانة للمرأة وإذلال لها. وأقسم بالله الذي فطر السماوات والأرض لن تجد المرأة تكريما غير الذي كرمها الله به، وأنها إذا ظنت أنها تجد التكريم في غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتعلم أنها لن تزداد عند الله إلا مهانة وذلا، ولتقدم على ما أقدمت أو تحجم. فعليها أن تعلم أن التكريم الحق إنما هو حينما تكون في مكانتها الطبيعية الجبلية التي فطرها الله عز وجل عليها، قائمة على أسرتها، وربة لبيتها، ومحافظة على أولادها، وراعية لزوجها، فقادت العالم أجمع بعدل وإنصاف وحكمة وقدرة من الله واقتدار، ومع ذلك ما تخلفت ولا تقاعست وكانت في أوج الحضارة، وكانت المرأة في قعر بيتها قائمة لحقوق أولادها وزوجها. وهل معنى ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا كانت المرأة مثل الرجل؟ أبدا، هذه كلها أمور مخلوطة، وأوراق مغالط فيها ومكابر فيها، فعلى الإنسان أن ينظر إلى الحقيقة. وعلينا أن نفهم الكتاب والسنة لنرد على كل من يأتي ويروج ويقول: المرأة مثل الرجل، وقد خاطبها الله كما خاطب الرجل، فهذه أمور لو جئنا نفصل فيها وأمسكنا من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه الإسلامي، لوجدت من المسائل ما لا يحصى كثرة من التفريق بين الرجل والمرأة، وتجد أن هناك أصلا شرعيا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط. وعلى كل حال: الأمر في هذا واضح، وليس هذا مقامه، لكن نقول: إن الرجل إذا قتل المرأة قتل بها، وإذا قتلت المرأة الرجل قتلت به. لكن إذا قتلت به فبعض العلماء يرى أنه يأخذ أولياء المقتول نصف الدية من أولياء المرأة أو من مال المرأة، قالوا: لأن المرأة نصف الرجل كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها) ، فهذا يدل على أنها على النصف، فإذا كانت على النصف فديتها نصف دية الرجل كما سيأتي إن شاء الله، وإذا ثبت أنها على النصف فمعنى هذا أنها لا تساوي الرجل، فلو قتل رجل امرأة وحكمنا بالقصاص، فإنه إذا قتل أولياء المرأة الرجل، فقال بعض العلماء: يدفع أولياء المرأة نصف الدية؛ لأنها لا تكافئ الرجل من كل وجه. والصحيح: أن المرأة تقتل بالرجل، والرجل يقتل بالمرأة، ولا دفع للفرق بينهما. الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول قال المصنف رحمه الله: [الرابع: عدم الولادة] . الشرط الرابع: عدم الولادة وعدم البعضية، وهو ألا يكون المقتول بعضا من القاتل، أو ألا يكون القاتل والدا للمقتول، سواء كان ذكرا كأبيه أو أنثى كأمه، فلا يقتل الأب إذا قتل ابنه، ولا تقتل الأم إذا قتلت بنتها أو ابنها، وقد ثبت هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه العمل، وفيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: إن الأمة تلقته بالقبول، يقصده حديث: (لا يقتل الوالد بالولد) ، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، وأغنت شهرته عن طلب إسناده. ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم تكلم على هذه المسألة في الإعلام، في مسألة الأحاديث التي اشتهرت فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا الذي درج عليه أئمة الإسلام والسلف الصالح. والمنبغي للمسلم أن يسعه ما وسع السلف، وما جرى عليه العمل وأجمعت عليه الأمة، وكانوا فيه على السنن؛ فإن المسلم يلزمه ذلك، وهو أولى بالصواب وأحرى به إن شاء الله. ولماذا لا نقتل الوالد بالولد؟! قالوا: لأن الوالد سبب وجود الولد، فلا يكون الولد سببا في موته وهلاكه, هذه علة. وبعضهم قال: لأن الولد جزء من الوالد، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعلهم كجزء من الإنسان. وقال بعض العلماء: العلة في عدم قتل الوالد بولده: أن الوالد يؤدب ولده، والغالب ألا يقتل والد ولده عمدا وعدوانا لكن هناك شبهة التربية والتأديب، وأنه لا يقدم على ضربه حتى يموت، لما جبل عليه الوالد من الرحمة والعطف عليه، فالشبهة قائمة، والشبهة تسقط القصاص. وعلى هذا الوجه الأخير استثنى المالكية المسألة المشهورة، وهي أن يضجع الوالد ولده ويقتله، مثل أن يذكيه تذكية مثل البهيمة، ففي هذه الحالة قالوا: تسقط شبهة التربية، ويقوى أن الوالد يريد إزهاق الروح عمدا وعدوانا، فيقتص منه. وعلى كل حال: فجمهور العلماء على عدم قتل الوالد بالولد مطلقا، ويشمل هذا الحكم الوالد المباشر والجد والجدة سواء من جهة الوالد أو من جهة الوالدة، أي: سواء تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث. قال رحمه الله: [فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] وذلك كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ويقتل الولد بكل منهما] . أي: العكس، يقتل الولد بكل منهما، فلو قتل الولد -والعياذ بالله- والده، وهذا من أسوأ ما يكون؛ لأنه جمع بين العقوق والقتل -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من الشقاء المتناهي -والعياذ بالله- فإذا قتله فإنه يقتل به. الأسئلة السؤال لو قتل ذمي عبدا مسلما فهل يقتص منه أم لا، أثابكم الله؟ حكم الذمي إذا قتل رقيقا مسلما الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا قتل الذمي رقيقا مسلما فإنه يقتل به، والجارية الأنصارية قيل: إنها كانت مولاة، ومن هنا يقتل به من جهة الكفر، والكافر ليس له فضل على الرقيق، ولذلك قال: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} [البقرة:221] . وعلى كل حال ليس هذا مما يمنع القصاص من الذمي، بل يقتص منه ويقتل، والله تعالى أعلم. حكم القصاص من السكران إذا قتل السؤال هل هناك قصاص على السكران إذا قتل، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل السكران مكلف أو غير مكلف؟ ومن حيث الأدلة والأصول قد سبق أن ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق، وأن السكر موجب للحكم بزوال العقل، ونص الله عز وجل على أن السكران لا يعلم ما يقول، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] . فمن حيث الأصل لا شك أن مذهب الظاهرية ومن وافقهم في أن السكران غير مكلف قوي جدا. وفي مسألة القتل هنا استثنى بعض العلماء فقالوا: لو فتح الباب لكان لا يسع الإنسان إلا أن يسكر ثم يقتل. وعلى كل حال: فإن قضاء الصحابة هو الأولى، كما ذكرنا في قضاء علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه حينما جمع الصحابة، وقد اشتكى إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر، فقال علي: هذا أصل يقتضي أنه يعامل معاملة الصاحي. والذي يظهر والله أعلم أنه من حيث الأصل في الحكم أنه غير مكلف، لكن لا مانع في بعض الأحوال المستثناة إذا استشرى الأمر وعظم الفساد أن يستثنى كما استثنى الصحابة، فإن الصحابة زادوا في الحد وزادوا في العقوبة عند الانهماك في شرب الخمر. ولذلك رجح شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الزيادة راجعة إلى تقدير الظرف، لا من باب أن الزيادة تعزيرية، وليست زيادة نصية حدية، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس إن شاء الله، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم. حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة السؤال هل يجوز قبول مال الذي لا يصلي أو الأكل من طعامه أو محادثته إن كان من الأقرباء، أثابكم الله؟ الجواب أما بالنسبة للأكل من طعامه فلا شك أن فيه خلافا: هل هو كافر أو ليس بكافر؟ فإن ترك الصلاة كلية وحكمنا بكفره؛ فإنه يجوز الأكل من مال الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، واستضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، كما في مسند أحمد، ولأنه طعم من شاة اليهودية كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على قبول ضيافة الكافر، خاصة إذا رجي تأليفه وكسبه للإسلام، وبشرط أن يؤمن مكره وضرره. وأما قبول هديته ففيها تفصيل: فبعض العلماء يقول: إذا كان فيها منة وأذية على المسلم؛ فإنه لا يقبل هديته، ولا يقبل منه شيئا، فلا يقبل منه مالا، ولا يجيب له دعوة، فإذا كان فيه خبث وله أغراض سيئة، أو يريد مثلا أن يدعو إنسانا طيبا وحاله طيب حتى يغري غير الطيبين، أو نحو ذلك من المداخل التي قد يفعلها أصحاب الكفر لأذية المسلمين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة قبول الدعوة؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والله عز وجل أمرنا معهم أن نأخذ الحذر، والواجب على المسلم أن يأخذ الحذر، وهذا من الحذر، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل، وتحقيق لمقصود الشرع، والله تعالى أعلم. بيان من هم أهل الذمة السؤال هل أهل الذمة هل هم أهل الكتاب فقط، أم يشمل حتى المجوس وأهل الشرك أثابكم الله؟ الجواب الذمة تختص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، واختلف في السامرة والصابئة، هل كانت لهم أصول سماوية أم لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله. فالذمة خاصة بالكتابيين كما قدمنا في باب العهد وأحكام الذمة، وقد فصلنا في هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله، وأن الصحيح أن الكتابي من كان له أصل من دين سماوي، كما قال تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام:156] ، فخص الكتب السماوية بهاتين الملتين، وهذا هو الأصل فيهم أنهم هم اليهود والنصارى. وأما المجوس فإنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في شيء، ويبقون على الأصل في شيء آخر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) ، فتضرب عليهم الجزية ويعاملون كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ومن هنا فإنه يختلف أهل الذمة عن المجوس من وجه، ويوافقونهم في وجه. وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عند المسلمين، فإن المشرك إما أن يعرض عليه الإسلام وإما أن يقتل، إما أن يسلم وإما أن يقتل. أما أهل الكتاب فلأن لهم دينا سماويا، وقد اختلفوا عن غيرهم من هذا الوجه، فالإسلام يقر الشرك ولا يقر الوثنية، فعباد الأشجار والأحجار وعباد الأوثان إذا هجم عليهم المسلمون فإنهم لا يخيرونهم إلا بين أمرين: أن يسلموا أو أن يقاتلوا. وأما إذا كانوا من اليهود والنصارى فيخيرون بين الثلاثة الأمور: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29] ، وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في كتاب أحكام الذمة، والله تعالى أعلم. حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر السؤال هل يجوز جمع صلاة الجمعة والعصر للمسافر، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة الأصول الشرعية تقتضي جواز الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا لا إشكال فيه من جهة الأصول، أي: لا فرق بين الجمعة وبين الظهر. لكن الأصل أن المسافر لا يصلي الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة في سفره ألبتة، وهذا أمر واضح وجلي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان معه مائة ألف نفس في عرفات، وكان بالإمكان أن يجمع ولو مراعاة لأهل مكة، ومع ذلك لم يصل الظهر جمعة. ومن هنا نص العلماء على أن المسافر في الأصل لا تجب عليه الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه العدد الذي تصح به الجمعة وما صلى جمعة واحدة. ومن هنا كان يشدد بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في خروج الإنسان وهو مسافر يجمع بالغير؛ لأنه لا يجمع بهم إلا من كان منهم، من أجل تحقيق هذه السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام. والجمع بين الصلاتين يشدد فيه بعض الحنابلة، وبعض المتأخرين يقول: دليلنا أنا وجدنا العلماء يقولون: يجمع بين الظهر والعصر، وما وجدناهم يقولون: يجمع بين الجمعة والعصر، لكن هذا ليس بدليل، فالعلماء رحمهم الله يذكرون الأصل وينبهون به على ما حل محله، ولذلك الجمعة إذا صلاها فإنه يصح له أن يجمع بعدها العصر، ولكن إذا أراد أن يخرج من الخلاف ويحتاط فهذا شيء آخر. أما من حيث الأصل فإنه لا إشكال في جواز أن يجمع العصر إلى الجمعة، وليس هناك دليل بمنع ذلك، بل الرخصة التي أحل بها الجمع هي وجود السفر، ووجود السفر موجب للرخصة، ولا فرق بين الجمعة وبين غيرها، ولذلك إذا فرق المفرق فعليه بالدليل. لكننا نقول: إذا احتاط وصلى الظهر وجمع إليه العصر فلا بأس. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: يحضر الجمعة فينوي بها الظهر ولا ينويها جمعة, فإذا نواها ظهرا فلا إشكال، ووجه واحد أنه يجمع العصر إليها؛ لأنه يصلي وراء الإمام بنية الظهر، ويصح أن يصلي الظهر لاتحاد صورة الصلاتين، واختلاف النية مخرج على حديث معاذ رضي الله عنه؛ لأن الشرط ألا تختلف صورة الصلاتين، فإذا أراد أن يخرج من الإشكال فينوي المسافر الظهر، ويستفيد من حضور الجمعة للذكرى. والفرق: أنه إذا حضرها بنية الظهر جاز له أن يتكلم، وجاز له أن يتحرك، وجاز له أن يفعل؛ لأنه ليس بمجمع أصلا، وهذا مبني على أصل عند العلماء رحمهم الله، وخاصة أن المسافر لا تجب عليه الركعتان الأوليان من الظهر، وقد قالوا: إن الخطبتين منزلة منزلة الركعتين خاصة في الحاضر. فإذا ثبت هذا فإنه يدخل بنية الظهر، ثم يحضر الجمعة ويستفيد، ويصلي العصر جمعا، وإن أراد أن يدخل بنية الجمعة طلبا لفضيلة الجمعة فلا بأس؛ لأنه يحصل له فضيلة أفضل من الظهر، إلا أن الوالد رحمة الله عليه كان يختار أن تكون نيته للظهر؛ لأن اتباع السنة بعدم التجميع أولى وأقوى، وإن كان الأصل في ظاهره أن الجمعة أفضل من الظهر، والله تعالى أعلم. حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة السؤال هل يجوز أداء صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد في الصلاة الواحدة؟ وأيضا في نية الصوم هل يجمع بين صيام الإثنين إذا وافق يوما من أيام البيض، أثابكم الله؟ الجواب يجوز أن يدخل المسجد وينوي الراتبة وتندرج تحتها التحية، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) ، فلما قال: (يركع ركعتين) دل هذا على أنها إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة أجزأت، وأن مراد الشرع ألا يجلس في المسجد حتى يصلي، وعلى هذا فإنه تجزيه عن الراتبة. وأما بالنسبة للصوم فإنه إذا كان يصوم يوما ويفطر يوما ووافق الإثنين والخميس؛ أجزأه عن صيامه المعتاد للإثنين والخميس، وهكذا لو وافقت الأيام البيض يوم الخميس أو يوم الإثنين، فإنه ينوي في قرارة قلبه الإثنين, كونها من البيض، وكونه يوما مستقلا من عادته أن يصومه، فيكتب الله له أجر اليومين، الأول بنيته والثاني بعمله. وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن من اعتاد الشيء من الطاعة وحال بينه وبين تحقيقه العذر؛ كتب له الأجر، فهو اعتاد أن يصوم أيام البيض، واعتاد أن يصوم الإثنين، ولا وجه للفصل بينهما، إذا وافق يوم الرابع عشر يوم الإثنين فلا يستطيع أن يجعل أيام البيض في غير يوم الإثنين، ومن هنا يكتب له أجر اليومين، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة. وهكذا إذا كان يصوم يوما ويفطر يوما؛ شرع له أن يدخل زيادة الإثنين والخميس؛ لأنها مقصودة لليومين، فلو كان يصوم يوما ويفطر يوما، فصام الأحد، شرع له أن يصوم الإثنين؛ لأنه لمعنى مستقل، كما لو صام يوما وأفطر يوما، ووافق يوم فطره يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ فإنه يشرع له أن يصومه؛ لأنه لمعنى خاص، والله تعالى أعلم. نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته السؤال زوجي رجل مستمسك بدينه والحمد لله، وحسن الخلق مع الآخرين، ولكنه يشد علي، ويسيء الظن بي، ويتلمس أخطائي، ولا يرعى كوني امرأة ضعيفة أمانة بين يديه، فهل يحق لي طلب الطلاق منه، أرجو منكم توجيه النصيحة لزوجي أثابكم الله؟ الجواب الله المستعان! أولا وقبل كل شيء: احمدي نعمة الله عز وجل أن رزقك الله زوجا بهذه المثابة، ما دام أنه يخاف الله عز وجل وفيه حسن خلق، وما كان من إساءة الظن، ففي بعض الأحيان قد يقسو الرجل على زوجته من باب الغيرة، وحب الخير لها، وفي قرارة قلبه هو يحبها ويجلها ويكرمها، فيدخل الشيطان على المرأة بالظنون، فأوصيك دائما أن تجعلي احتمالا مضادا لهذا الاحتمال حتى يضعف سلطان الشيطان على قلبك. ثانيا: أرجو لك عند الله أجرا عظيما، وثوابا جليلا كريما إن صبرت على هذا الزوج، وأرجو لك من الله أن يعوضك على صبرك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأن لله سننا لا تتبدل ولا تتحول، والله لا يضيع أجر الصابرين، ولا يخيب أمة أو عبدا صبر لوجهه. فأنت إذا صبرت على عبد صالح ترجين رحمة الله؛ فأنت على خير، وأما الحدة والشدة فلا خير فيها، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في الإحرام يضرب عبده وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (انظروا إلى هذا المحرم) يعني: هو في إحرامه وهو يضرب. فكان عند الصحابة قسوة، حتى إنه لما دخل على ابنه عبد الرحمن قسا عليه قسوة شديدة في قصة الضيف المعروفة، وقال له: اخرج غدر. فقد يكون الإنسان صالحا وفيه حدة، فالصبر على هذا الصالح المحتد أجره عظيم عند الله عز وجل وثوابه عظيم. فأوصيك بالصبر، فإذا جاوز حدوده فبالإمكان الاستعانة بمن يوثق فيهم، فإذا كان له عم أو والد أو أخ كبير، فتعرضين الأمر عليه عن طريق أخيك، وإذا لزم الأمر تكلميه مباشرة أو عن طريق الهاتف أن فلانا يقسو زيادة عن اللازم، وتحددي الأمور التي تضايقك ولا تستطيعين الصبر عليها. أما الطلاق فليس هو الحل، بل هو نهاية الحلول، وما دام أنه رجل يخاف الله عز وجل؛ فأوصيك إذا جاوز الحد أن تقولي له: اتق الله عز وجل، فإن المؤمن إذا قيل له: اتق الله؛ رعدت فرائصه من الله عز وجل خوفا من الله سبحانه، فأنت عندك سلاح متين. وأخاف عليك -لا قدر الله- إن طلقك ألا يبدلك الله خيرا منه، وقد تجدين من يهش لك ويبش، ولكن تجدين منه من الشؤم والبلاء ما لا يخطر لك على بال، وهذه سنة الله عز وجل، أنه إذا أنعم على العبد أو الأمة بنعمة ونظر إلى غيرها أنه يصرفها عنه ويذيقه الويلات فيما انصرف إليه. ولا أقول لك: أنه كامل، ولا أحملك فوق طاقتك، أنا أقول: ما دام أنه يخاف الله، فبيدك سلاح عظيم وهو التذكير بالله عز وجل، ولذلك قولي له: اتق الله؛ لأن التقي يخاف من الله عز وجل. فعندك أمر تستطيعين أن تحلي به مشاكلك وهو تذكيره بالله، وإذا كان لا يسمع منك فكما ما ذكرنا تنظرين إلى العاقل من قرابته وتعرضين الأمر عليه، وثقي ثقة تامة وليثق كل إنسان في هذه الحياة أنه لن يجد شيئا كاملا، وأن الحياة جبلت على النكد والبلاء والكد: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:4] ، فالله عز وجل الذي خلق كل شيء، وقدر كل شيء، وعلم بكل شيء سبحانه، وأحاط بكل شيء رحمة وعلما, ووسع كل شيء رحمة وعلما يقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:4] ، فأقسم سبحانه وتعالى بالبلد الأمين، وأقسم برسوله وهو حال فيه، وبكل ما خلق: {ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد} [البلد:3 - 4] أي: في تعب وعناء. فإذا كان التعب والعناء تستطيعين أن تصبري عليه فهذا خير لك، والحكماء والعقلاء على مر العصور والدهور ما كانت حياتهم إلا صبرا وتجلدا، فتجلدي واصبري يا أمة الله، فإن الله يصبرك. وما يدريك فلعل الله أن يخرج منك من هذا الرجل ذرية صالحة، واحمدي الله عز وجل أن زوجك لم يبتل بالمخدرات، ولم يبتل بالمحرمات، واحمدي الله عز وجل أنه لا يأتيك آخر الليل سكران، ولا يأتيك آخر الليل -والعياذ بالله- من عند مومسة، أو من بعد حرام أو من بعد فحش وآثام، فاحمدي الله عز وجل، وقولي: بعض الشر أهون من بعض، وكم من امرأة أقض مضجعها زوج يقلقها بالمحرمات، ويسبها ويسب أهلها وذويها وقرابتها، واحمدي الله عز وجل أنه لم يظلمك في مال، ولم يظلمك في فراش، واحمدي الله عز وجل على أشياء كثيرة. ولابد من وجود النقص، فالإنسان ضعيف، وأنت ضعيفة وأضعف منه، لكن الله سبحانه وتعالى يجبر كسرك ويعينك إن صبرت، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر) . فما طابت الحياة إلا بالصبر، والصبر لا يكون إلا بالأذية والتعب والعناء، وأشد ما تكون الأذية والتعب والعناء من القريب، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيرا ابتلاه، وإذا أراد أن يعظم له الأجر في البلاء جعل بلاءه من أقرب الناس إليه. الزوجة يؤذيها زوجها، وابن العم يؤذيه ابن عمه وقريبه، والشيخ يؤذيه طالبه، قد يعلم طالبا ثم يوما من الأيام يرميه بنبله، أو يسييء الظن به، أو يتهجم عليه، فلابد من الأذية والبلاء. وإذا أتتك الأذية من أقرب الناس إليك؛ رفع الله درجتك، وأعظم أجرك، وأجزل مثوبتك، وجعل عاقبتك لك. يا أمة الله! إن الله وعدك وعدا لا يخلفه والله لا يخلف الميعاد، بشيء واحد إن حققتيه وقمت بحقوقه وآمنت به وصدقتيه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل أمره بين يديه: {والعاقبة للمتقين} [الأعراف:128] . فلا تنظري إلى ما أنت فيه اليوم، ولا تنظري إلى الهم والغم، فإن هذا من الشيطان، ولذلك كل امرأة تأتيها الهموم والغموم وتنظر فيها وتتأملها؛ تزداد عليها الهموم، ويدخل الشيطان عليها، ولكن إذا نظرت إلى أن الله معها، وأن هذا ابتلاء، وأنها سنة الحياة؛ والله ثم والله لو أن زوجك صفا لك من الكدر، ونعمت حياتك معه؛ إذا بك تفاجئيه بأولادك قد خرجوا عليك, وإذا سلمت من الأولاد؛ سلط الله عليك صويحباتك، فلن تسلمي من البلاء، وما يزال المؤمن في هم وغم وكرب وبلاء، ومن بلاء إلى بلاء حتى يقف على أبواب الجنة، ويطأ بقدمه أعتابها، فيقول كما قال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر:34] ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن. أتظنين أن زوجك إن طلقك أنك ستعيشين حياة هنية سعيدة؟! أتظنين أنه لو جاءك زوج آخر أنك ستعيشين معه حياة سعيدة، وأنك ستجدين فيه الكمال والخير الموجود في زوجك، ثم هذا النقص الموجود فيه يكمل؟! يا أمة الله! الصبر الصبر، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبره الله) ، تذكري ثم تأملي وتفكري في الأيام التي مضت والسنين التي انقضت وأنت في الهم والغم، كم لك من درجات وحسنات وأجور وخيرات وبركات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى!! فاحمدي الله، واصبري بصبر الله. أما الكلمة الأخيرة فأوصي هذا الزوج أن يتقي الله، وأوصي الإخوان والصالحين دائما أن يتواصوا بحقوق الأهلين والزوجات، وإذا جلس الصديق مع صديقه ينبه لمثل هذا، سواء في حقوق السهر، أو الفراش، أو حقوق المال والنفقة، فإذا رأيت صديقك أو قريبك مقصرا في ولده، كأن يكون بخيلا، فهو رجل صالح طيب ولكنه لا ينفق على ولده، بل يقتر على ولده وعلى نفسه، فعليك أن تقول له: اتق الله. فأوصي الصالحين أن يوصي بعضهم بعضا بالله عز وجل، ويقول: اتق الله عز وجل في أهلك وولدك. ففي بعض الأحيان تراه يسهر إلى ساعات متأخرة ولا يأتي إلى زوجته إلا في ساعات متأخرة، وهذا لا يأمن على زوجه الحرام، وقد لا يأمن عليها الآثام, فلينصح بعضنا بعضا، وليذكر بعضنا بعضا. وأوصي هذا الأخ أن يتقي الله في أمة الله، وأن يرحم ضعفها، وأن يرفق بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) . فالله الله في حقها، وليتذكر ما أمره الله عز وجل به: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وآخر دعوانا أن الحمد لله |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (496) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب استيفاء القصاص إذا تحققت الشروط المطلوبة لتنفيذ القصاص فإن من حق أولياء المقتول أن يستوفوا حقهم بطلب القصاص وتنفيذه، فإذا أرادوا استيفاء القصاص فلابد من شروط لذلك، وهي: أن يكون ولي المقتول مكلفا، وأن يتفق أولياء المقتول على طلب القصاص، وأن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني، فإذا تحققت هذه الشروط فإنه يحكم بالقصاص، وإذا تخلف منها شرط لم يحكم به. ولابد من حضور السلطان أو القاضي أو نائبه عند تنفيذ الحكم واستيفاء القصاص، ويجوز أن يكون القصاص بالمماثلة أو بالسيف على خلاف في ذلك. المراد باستيفاء القصاص بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب استيفاء القصاص] . الاستيفاء: استفعال من (وفى الشيء) ، والمراد به: حصول الإنسان على حقه كاملا، يقال: استوفى حقه، إذا أخذه كاملا ولم يترك منه شيئا، ولما كان أولياء المقتول لهم حق عند القاتل، والله سبحانه وتعالى مكنهم من هذا الحق، وجعل لهم سلطانا أن يطلبوه؛ وصف العلماء رحمهم الله تعالى أخذهم لهذا الحق بالاستيفاء، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى أن يذكروا باب الاستيفاء بعد بيان شروط القصاص؛ لأنه لا يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل إلا إذا استوفيت الشروط وتمت الشروط المعتبرة شرعا للقصاص، فإذا ثبت أنه يجب القصاص والقود قلنا لأولياء المقتول: هذا حقكم، فإن شئتم استوفيتموه، وإن شئتم تنازلتم عنه إلى عوض وهو الدية، أو تنازلتم بدون عوض وهو العفو المطلق، فقد خيرهم الله عز وجل بين هذه الثلاثة الأمور: بين أن يأخذوا بالقود والقصاص، وبين أن يأخذوا الدية، فيكون منهم العفو عن القتل ولكن تثبت لهم الدية، وبين أن يعفوا عفوا مطلقا بدون دية وبدون أخذ شيء. وهذا القصاص واستيفاء القصاص هو جوهر القضية ومحور الأمر؛ لأنه عن طريق استيفاء القصاص تسكن النفوس، وتصل الحقوق إلى أهلها، ويشفى الغليل، فإن أولياء المقتول في حنق وغيض بسبب ظلم القاتل وسفكه لدم وليهم. وسفك الدماء لا شك أن مرارته مؤلمة في النفوس، حتى إن المرأة قد تذهل عن عقلها، والرجل يذهل عن نفسه حتى يقتص من قاتل أبيه أو قاتل أخيه، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء يشتط الغضب بالواحد منهم فيقتل بالواحد العشرة، ولا تسكن نفسه إلا بقتل العظيم، فإذا قتل له أخ، أو ابن، أو قريب، التمس أعز الناس في عشيرة القاتل فقتله بوليه، ولربما قتل أضعاف العدد، كل ذلك من أجل أن يشفي غليله، حتى قال القائل: فساغ لي الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الفرات أي: أنه كان إذا شرب الشراب لا يستطيع أن يستطيبه، وهذا جبلة في النفوس، ولذلك حكم الله تعالى بالقصاص من أجل قطع أسباب التشفي وقطع بوادر الشر، والتوسع في إزهاق الأنفس، كما قال تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] . وهذا الاستيفاء له ضوابط في الشريعة الإسلامية، حيث يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل، ولكن لا بد من وجود شروط إذا توفرت حكمنا بأن لهم حق الاستيفاء، وقد تأتي عوارض وموانع تمنع من الاستيفاء مباشرة، وحينئذ ينبغي أن ينتظر حتى يمكن صاحب الحق من حقه كاملا ويمكن من النظر في أمره على الوجه المعتبر وعلى السنن والرشد. فقوله رحمه الله تعالى: (باب استيفاء القصاص) أي: في هذا الموضع سأذكر لك الأمور المعتبرة للحكم باستيفاء أولياء المقتول حقهم من القاتل، وذلك بالقصاص والقود. شروط استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [يشترط له ثلاثة شروط] . أي: يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط لابد من توفرها حتى يحكم بالقصاص: الشرط الأول: أن يكون طالب القصاص مكلفا، فلا يستوفى القصاص إذا طلبه مجنون أو صبي، أو نحوهم ممن ليس بأهل. الشرط الثاني: أن يتفق أولياء المقتول على القتل، فإذا كان للمقتول وليان فعفا أحدهما والآخر طلب القصاص، فلا قصاص، إذ لا بد أن يتفق الاثنان على القصاص، ولو كانوا عشرة فلا بد من اتفاق العشرة، فلو تنازل أحدهم عن القصاص، وقال: أريد الدية، فحينئذ لا قصاص؛ لأننا لو حكمنا بالقصاص لأسقطنا حقه في الدية، وهو يريد حق الدية ولا يريد حق القصاص. الشرط الثالث: أن يؤمن الحيف، ومحل ذلك في المرأة الحامل، فلا يقتص من امرأة حامل، فلو قتلت امرأة امرأة ثم حملت القاتلة أو كان بها حمل، لم يقتص منها حتى تضع ما في بطنها، ثم ينظر هل تنتظر إلى أن تتم الرضاعة أو لا؟ فهذه ثلاثة شروط، قصد منها تحقيق العدل، وتمكين صاحب الحق من حقه على الوجه المعتبر. فالشرط الأول: التكليف، والشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص والقود، والشرط الثالث: الأمن من الحيف، وهذه أصول في الاستيفاء سواء في القصاص في الأنفس أم في الأطراف. الشرط الأول: أن يكون ولي المقتول مكلفا قال رحمه الله تعالى: [أحدها: كون مستحقه مكلفا] . قوله: (كون مستحقه) ، الضمير عائد إلى القصاص، (مكلفا) أي: بالغا عاقلا، فالمستحق للقصاص هو ولي المقتول الذي له حق طلب القصاص، وله حق العفو عن القصاص، كأبيه وابنه وأخيه من عصبته، وهل يدخل في هذا النساء؟ فيه قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: حق القصاص للقرابة الوارثين سواء أكانوا من جهة النسب أم من جهة السبب، فتدخل الزوجة، وهو الذي عليه الأصحاب في المذهب، وهناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهي مذهب المالكية، واختارها الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى إمام العلماء، أنها للعصبة، والذين قالوا: إنها لأهل الميراث ذكورا وإناثا، فعلى قولهم يكون للزوج الحق، وأما على القول الثاني فليس للأخت ولا للبنت ولا للزوجة حق، وإنما هو حق للرجال العصبة، وهذا هو الصحيح الذي تميل إليه النفس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أما أنتم يا خزاعة فقد قتلتم القتيل وأنا عاقله) ، ومن جهة قال: (من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين) . فقوله عليه الصلاة والسلام في هذه القضية: (من قتل له قتيل فأهله) ، و (أهل) : أصلها في لغة العرب آل؛ ولذلك فإن المراد بهم آل الرجل، وهم عصبته المتعصبون حوله، وهذا يشمل الرجال دون النساء، يقال: آل الرجل في العصبة، وقال الناظم: قال الإمام سيبويه العدل أصل آل لديهم أهل فالأهل في قوله: (فأهله بخير النظرين) أي: قرابته وعصبته. والذين قالوا: إن النساء يدخلن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهله) ، والأهل يشمل الزوجة، وهذا ضعيف؛ لأن إطلاق الأهل إذا جاء في جانب العصبة والقتل فالأشبه به الآل والقرابة، تقول: آل فلان، بمعنى قرابته من جهة الرجال لا من جهة النساء. وإما إطلاق الأهل على الزوجة فهذا معروف في لسان العرب، كما قال تعالى: {فقال لأهله امكثوا} [طه:10] ، أي: لزوجته، لكن هنا الأهل بمعنى: الآل، وليس الأهل بمعنى الزوجة والقرابة، وإلا لضاق معنى الحديث: (فأهله بخير النظرين) ، والأشبه في هذا أن يليه الرجال، وهذا صحيح؛ لأن النساء الغالب فيهن الشفقة وفيهن الضعف، وهذا لا تسكن به تارة النفوس، ولا تستقر به الأحوال غالبا، ولذلك فولاية الرجال فيه أحظ وأقوى، وهو الأشبه إن شاء الله تعالى. إذا: يشترط في الولي أن يكون مكلفا، والتكليف فيه جانبان لا بد من توفرهما في الإنسان ليحكم بكونه مكلفا: أولهما: البلوغ، والثاني: العقل. قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر وإن كان الصحيح في البلوغ في السن أنها خمسة عشر حولا، لكن المراد أن التكليف له شرطان: أحدهما: البلوغ، والثاني: العقل، فإذا كان ولي المقتول مجنونا فلا يستوفي القصاص حتى يفيق من جنونه، وإن كان صغيرا دون البلوغ فإنه ينتظر إلى بلوغه. فرع: إذا كان الولي صبيا أو مجنونا قال رحمه الله تعالى: [فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف] . أي: لم يستوف القصاص، فلو أن هذا الصبي قال: اقتلوا قاتل أبي، فنقول: لا يقتص، ولا يستوفى القصاص حتى يبلغ؛ لأنه وهو صغير ضعيف ربما خوف وهدد، وربما عطف على القاتل لضعفه وصغره؛ لأن الله تعالى وصف الذرية من الصغار بأنها ذرية ضعيفة، فلذلك ينظر في أمره تمام النظر، إلا إذا كان بالغا عنده حلم وعقل يميز فيه بين محاسن الأمور وضدها. فلو قال: اقتلوه، وهو صغير، فإنه لا يقتل حتى يبلغ، ولو طلب فإنه لا يقتل، ولو قال: لقد عفوت، فلا يقبل عفوه حتى يبلغ. ولو كان وليه مجنونا، فقال: قد عفوت عنه، لم يقبل عفوه، ولو قال: اقتلوه، لم يقبل طلبه، ولم يستوف القصاص، والسبب في هذا أننا لا نثق بعقله، ومن هنا لا يقتص لصبي ولا لمجنون، فينتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون. ولكن اختلف في الوالد: فلو أن هذا الصبي قتلت أمه وكانت غير زوجة الوالد؛ إذ لو كانت زوجة الوالد لحمله الحنق والغيظ على أن يطلب القصاص، فالوالد هو وليه، فهل يلي الوالد لابنه القاصر؟ هناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يلي، وقال بها بعض أهل العلم، والصحيح المشهور عند أهل العلم: أنه لا يلي، إنما يلي مصلحة الصبي في تدبير أموره، وأما هذا الأمر فإنه متعلق بالصبي بعينه حتى يبلغ وينظر الأحض، هل يطالب بالقصاص أو يعفو؟ وهناك مسألة ثانية: إذا كان الصبي والمجنون فقيرين محتاجين إلى المال حاجة ماسة، وفي عفو أب الأب عن القصاص مصلحة من حيث وجود الدية، وهذا أرفق بالصبي والمجنون، فهل يعفو ويقبل عفوه؟ من أهل العلم من قبل عفوه في المجنون ولم يقبل في الصبي، والسبب في هذا: أن المجنون يطول انتظاره، ويتضرر بهذا الانتظار، هذا قول. القول الثاني: أن الحكم كما تقدم، وهذا القول أشبه بالأصل وأقوى، فينتظر إلى إفاقة المجنون وبلوغ الصبي، ولو طال انتظار إفاقة المجنون زمنا. قال رحمه الله تعالى: [وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة] . حبس الجاني: أن يمنع من الخروج، أو يوضع في موضع لا يمكنه الفرار؛ لأننا لا نأمن من فراره وهربه، حتى ولو جاء بوكيل وكفيل فلا يقبل؛ لأنه لو فر فلا نستطيع أن نقتص من الكفيل، بخلاف الأموال، فيمكننا أن نأخذ من مال الكفيل ونستوفي الحق، فإذا قبل الوكيل والكفيل في هذا غرر بحق أولياء المقتول، ومن هنا لا يقبل كفيل، ولو قال: سيرجع ويأتي عند بلوغه، وهذا كفيل يتكفل بحضوري بعد ثلاث سنوات، أو بعد أربع سنوات، لم يطلق ويبقى في السجن، وأما المعسر في المال فإنه يطلق، والسبب في هذا واضح: وهو أن استحقاق الحق بالقتل ليس كاستحقاقه في المال، والكفيل في المال ليس كالكفيل في النفس، فإنه لو فر القاتل وكان قد وضع كفيلا فبالإجماع لا يقتص من الكفيل؛ لأن الكفيل لم يقتل، ومن هنا لا يقبل قوله: خذوا مني كفيلا، بل يحبس حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولو طال الانتظار إلى عشرات السنين فيبقى في سجنه، فهذه جريمته والحق لصاحبه، إلا إذا عفا من يشارك الصبي والمجنون، فإذا كان مع الصبي والمجنون ورثة وطال الانتظار، فقالوا: ما دام الأمر فيه انتظار فنحن قد عفونا؛ سقط القصاص، ففي أحكام الشريعة إن وجدت فيها تشددا وجدت فيها رحمة من وجه آخر. فقد ينتظر إلى إفاقة المجنون فتلين قلوب أولياء القتيل، وقد لا تلين والله تعالى أعلم بخلقه، وأحكم في تدبيره، فإن طال الأمر إلى إفاقته عذب بجريمته، وإن لم يطل فإنه قد يعفو الأولياء، ويتذمرون من طول الانتظار فيعدلون إلى الدية ويعفون. وحينئذ لا بد من الانتظار سواء أكان المجنون فقيرا أم كان الصبي فقيرا، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، والدليل على حبس القاتل: إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإن هدبة بن خشرم وهو الصحابي المعروف الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم المال بالنهد، قتل، ورفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنهما، وكانت الحادثة في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان ولي المقتول يتيما، فحبس هدبة إلى بلوغ اليتيم، وشفع الحسن والحسين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة في أمره فلم يشفعوا، وقتل بمن قتله، وانتظر إلى البلوغ، ولم ينكر أحد من الصحابة فعل معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، ولذلك قالوا: في هذه المسألة إجماع سكوتي، فلم ينكره أحد، وجرى عليه عمل السلف أنه إذا كان ولي المقتول صبيا لم يبلغ ينتظر إلى بلوغه، ويحبس القاتل ضمانا لحق المقتول ووليه. الشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص قال رحمه الله تعالى: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه] . قوله: (اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في حق القصاص والقود، (على استيفائه) : أي على طلب القتل، فلو أن المقتول له عشرة من الأولياء، وهم قرابته الذين لهم حق القصاص، فسامح واحد منهم، أو عفا واحد منهم، سواء عفا إلى دية أم عفا بدون دية، فإنه يسقط القصاص ويعدل إلى الدية، فإذا عدل إلى الدية وقال: أنا سامحت عن كل شيء، ولا أريد دية ولا أريد شيئا، فقد سقط عشر الدية، وتبقى التسعة الأعشار للباقين، فإن أرادوا أن يعفوا أيضا سقطت الدية كلها وسقط القصاص، وإن قالوا: نريد حقنا من الدية، أخذ كل واحد حقه ونصيبه، وعلى كل حال هناك تفصيل في هذه المسألة، لكن الأصل أن عفو بعض الأولياء يسقط القصاص، والسبب في هذا: أن له حقا، والقصاص لا يتبعض؛ لأن الآخر يريد الدية، فإذا أراد الدية وقتل القاتل لم نستطع دفع الدية إليه. ومن هنا فلا قصاص مع عفو بعض الأولياء، وليعدل إلى الدية ولا بد بناء على هذا، وهذا الأمر بإجماع عند العلماء أنه لا بد من اتفاق الأولياء على طلب القصاص، وهو القتل. قال رحمه الله تعالى: [وليس لبعضهم أن ينفرد به] . قوله: (وليس لبعضهم) أي: بعض المستحقين للقصاص إذا طالب بالقتل فليس له ذلك، فلو أنه قتل رجل آخر وكان له ثلاثة أولياء مستحقون للقود والقصاص، فقام أحدهم وقتله قبل أن يحكم بقضيته، وقبل أن يحكم القاضي بالاستيفاء، فإذا قتله فإما أن يقتله قبل عفو الباقين، وإما أن يقتله على اتفاق الباقين على القتل، أو يقتله وقد عفا بعضهم وطالب الآخرون، فهذه ثلاث حالات: أما الحالة الأولى: فإذا قتله وقد اتفق الجميع على قتله فلا إشكال أنه لا قصاص؛ لأنه سيقتل أصلا، لكن يؤدب ويعزر؛ لأنه كان ينبغي أن يناط الأمر بولي الأمر حتى يمكنه من حقه، فلما استعجل وقتل كان هذا منه افتياتا على الحاكم والقاضي كما يسمونه، فحينئذ يعزر بما يناسبه. وأما الحالة الثانية والثالثة: فهي أن يعفو الجميع، أو يعفو بعض الأولياء، كاثنين شريكين في القصاص، فقام أحدهما وقال: عفوت، فغضب الآخر وأخذ سلاحه وقتله، فإذا ثبت العفو عند القاضي، فإنه حينئذ يقتص من هذا الثاني؛ لأنه إذا ثبت العفو حقن دم المقتول الذي هو القاتل في الأصل، فإذا جاءه وقتله فقد قتله بدون وجه حق؛ لأنه ليس له حق في القتل، وحينئذ يقتص منه في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه في هذه الحالة لا حق له في القصاص؛ لكن إذا لم يعلم بعفوه وجاء وقتله، وهو لا يعلم أن شريكه قد عفا، فحينئذ تكون شبهة، ويدرأ عنه الحد ولا يقتص منه. إذا: إذا اتفقوا على طلب القصاص، ولم يحكم القاضي بالاستيفاء، وقتل بعضهم، فإنه لا قود ولا قصاص على هذا القاتل؛ لأنه طلب حقه، وهو مقتول لا محالة، وحينئذ لم يتعد، وإن عفا بعضهم وثبت عفوه عند القاضي وعلم شريكه، فأخذه الحنق وقتل، فقد قتل معصوما، وحينئذ ليس له حق في هذا القصاص؛ لأنه بعفو شريكه سقط القصاص، وحينئذ يكون كأنه قتل معصوما، فإذا استوفيت الشروط يقتل به ويقتص منه، وأما إذا لم يعلم بعفوه وقتله، أو قتله قبل أن يسأل هل عفا أم لم يعف؟ فإنه لا يقتص منه لوجود الشبهة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان من بقي غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر القدوم والبلوغ والعقل] . أي: إذا قال بعض الورثة: نريد القصاص، ولهم شركاء فيه كصبي أو مجنون أو غائب؛ فإننا ننتظر الغائب حتى يأتي، وننتظر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، كما قدمنا في مسألة المستحق، ففي هذه الحالة لا يقتص بقول بعضهم. فلو كانوا عشرة، وطالب الأكثرون كتسعة مثلا، وبقي يتيم قاصر دون البلوغ، فإننا نقول: لا حق لكم حتى يبلغ هذا اليتيم، فإن طلب القصاص اقتص، وإن لم يطلب القصاص فلا إشكال أنه يعدل إلى الدية أو العفو المطلق على حسب الحال. وبناء على ذلك: لا ننظر إلى الأكثرية، ولا ننظر إلى نوعية الذين عفوا والذين هم غائبون، إنما ينظر إلى إجماعهم واتفاقهم، وهذا الذي عبر به المصنف باتفاق أوليائه، فلابد أن يتفق المطالبون بالقصاص على طلب القصاص. الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى الجاني] . لو قال: (أن يعتدى على الجاني) لكان ممكنا، لكن مراده: أن يؤمن في القصاص التعدي، فالأصل أن يؤمن الحيف، فبعضهم يقول: أن يؤمن الحيف، وبعضهم يقول: أن يؤمن الاعتداء والزيادة، والمراد بهذا: أن نأمن عند حكمنا بالقصاص الزيادة على الحق. وتوضيح ذلك: أن القاتل يقتل، ولا يقتل معه غيره، فلا يؤخذ بجريمته من لا جريمة له، وتبرز هذه الصورة وتتضح أكثر شيء في المرأة الحامل، ففي بطنها الجنين الذي لا ذنب له، وحينئذ لو قتلناها قتلنا نفسين بنفس واحدة، والله عز وجل يقول: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] . وبناء على ذلك: لا يقتل هذا الجنين؛ لأنه لا ذنب له، فينتظر إلى وضعها، فذكر العلماء هذا الشرط تنبيها على هذه المسألة: أنه لا تقتل المرأة الحامل حتى تضع ما في بطنها، والأصل في ذلك في الحدود: قصتا المرأتين اللتين زنتا وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما محصنتان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولي المرأة أن يبقى معها حتى تضع ما في بطنها ثم يأتي بها إليه، وفي الثانية قال: حتى ترضعه؛ لأنه لم يوجد من يقوم به ويرضعه، فهذا يدل على أنه لا يجوز التعدي على المرأة الحامل؛ لأن الجنين لا ذنب له، ثم ينظر إذا وضعت ما في بطنها أمرت بسقيه اللبأ؛ لأنه يكون به أوده وحياته، ولا بد له منه، وهو اللبن الذي يكون بعد الولادة، ثم ننظر في رضاعته، فإن وجدت امرأة بدلها ترضعه وتقوم عليه أخذت أمه واقتص منها وقتلت، وإن لم يوجد امرأة ترضعه والولد متعلق بأمه لا يريد إلا أمه ولا يرتضع إلا من أمه، مثل ما وقع لموسى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} [القصص:12] ، فبعض الأولاد فيهم حساسية لا يمكن أن يقبل إلا ثدي أمه، فإذا أبى أن يقبل إلا ثدي أمه، فإنه في هذه الحالة لو قتلنا أمه لقتلناه معها؛ لأنه سيمتنع من الرضاعة وسيموت، أو يتضرر في صحته، فحينئذ يكون قد حصل القصاص من الجاني وزيادة، وهي زيادة الضرر على الجنين، فننتظر إلى أن ترضعه وتفطمه، ثم بعد ذلك يقتص من هذه الأم. إذا: الشرط أن يؤمن الحيف، كما يعبر بعض العلماء، وأن تؤمن الزيادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} [الإسراء:33] ، فقتل الأم مع جنينها إسراف في القتل؛ لأن معنى (لا يسرف في القتل) أي: لا يزيد على قتل القاتل، وأخذ الجاني بجنايته دون أن يستتبع من لا حق في قتله، أو يستتبع في الحق الضرر به كالجنين بعد وضعه. ومن هنا فجمهرة العلماء رحمهم الله تعالى نصوا على أن الجنين لا يقتل مع أمه، فلا تقتل الأم وهي حامل بجنينها، حتى لا يكون إزهاقا لنفسين بنفس واحدة، فليس بالعدل أن تقتل النفس البريئة مع النفس القاتلة في مقابل نفس واحدة، هذا هو وجهه. فيشترط الأمن من الحيف، والأمن من التعدي على الجاني، وذلك التعدي على الجاني بقتل ولده معه ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ] . قوله: (إذا وجب) ، أي: القصاص على امرأة في بطنها جنينها، فهذا لا إشكال فيه مثل ما ذكرنا. فلو أنها كانت حائلا قبل الحكم، فعند جنايتها كانت حائلا، ثم جامعها زوجها، وحملت، وظهر الحمل بعد حكم القاضي بالقصاص والاستيفاء، وثبت عند القاضي، وطالب أولياء المقتول واستحق القصاص، ولم يبق إلا التنفيذ، وعند التنفيذ وجدت حاملا، فإنه لا يقتص منها، فليست العبرة بحالها أثناء القتل؛ لأنها أثناء القتل كانت حائلا، فالعبرة وجود الضرر والتعدي أثناء القصاص والاستيفاء، ويستوي في هذا أن تكون حاملا في بداية حملها، أو أن تكون حاملا في نهاية حملها، أو وسطا بين ذلك؛ لأن العلة هي أن لا يتعدى في القصاص، وهذا يشمل هذه الأحوال كلها. وإذا قالت: إني حامل، فقال أولياء المقتول: ليست بحامل، بل هي حائل، عرضت على أهل الخبرة، فإن قالوا: إنها حامل انتظرت، وإن قالوا: إنها حائل اقتص منها، والآن في زماننا يمكن اكتشاف ذلك والتثبت منه على وجه بين. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه] . قوله: (ثم إن وجد من يرضعه) أي: يرضع هذا الصبي الذي وضعته، فإن وجد من يرضعه فلا إشكال، وحينئذ يدفع إليها وترضعه، وإن لم توجد من ترضعه، أو وجدت امرأة ترضعه ولكنه لا يقبلها، ولم يرض بها، فحينئذ وجودها وعدمها على حد سواء فينتظر حتى تفطمه. قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع] . ذكر المصنف رحمه الله تعالى القصاص في الطرف وألحقه بالقصاص في النفس في هذه المسألة؛ لأن المرأة الحامل إذا قطعت يدها ففي الغالب أنها تسقط جنينها، ولا تتحمل، بل تسقط ما هو أخف وأقل من هذا، وبناء على هذا ينتظر إلى أن تضع الجنين، وبعد أن تضع الجنين يقتص منها، وهكذا لو كانت زانية وحملت من الزنا، فإذا كانت بكرا وأريد جلدها انتظر حتى تضع، وإن كانت محصنة ففي هذه الحالة ينتظر وضعها للجنين ولو كان من الزنا، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد. والقصاص في الأطراف وإقامة الحدود حكمهما حكم القصاص في النفس، فالمسألة تدور حول أصل واحد، بل إن الحد وتنفيذ الحد هو الأصل في تأخير تنفيذه على المرأة الحامل، كما ذكرنا في قصة المرأتين اللتين زنتا، والحديث في أمرهما صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وذكر المصنف رحمه الله تعالى مسألة القصاص في الأطراف من باب التنبيه بالنظير على نظيره، وهذه يسميها العلماء: مسائل النظائر، وإذا جاءوا يبحثون يقولون: المظان، فهناك مسائل تذكر تبعا ليست في أصل الباب؛ لأن الباب القصاص في النفس. وقد يقول قائل: كان ينبغي أن يؤخر مسألة القصاص في الأطراف من الحامل إلى باب القصاص في الأطراف، ولكن المصنف ذكر هذا من باب المظان، ومن هنا يعتني العلماء بذكر المسائل بأقربها شبها، وتعرف هذه بالمظان، بمعنى: تذكر في أقرب المواضع وتجمع المسائل مع أنها ليست تحت الباب. ولذلك قال رحمه الله تعالى: [والحد في ذلك كالقصاص] . وهذا هو الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من تنفيذ الحد لخوف الضرر على الجنين، وهو أصل المسألة، والحد في ذلك كالقصاص؛ بل هو أصل مسألة القصاص، فلو شربت الخمر -والعياذ بالله تعالى- امرأة حامل، أو زنت، أو قذفت، فإنه ينتظر إلى أن تضع ما في بطنها، ثم يقام عليها حد الزنا وحد القذف وحد الخمر، وهكذا لو سرقت فلا تقطع يدها، بل ينتظر حتى تضع ما في بطنها، ثم بعد ذلك تقطع يدها، للعلة التي ذكرناها. حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص قال رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وآلة ماضية] . هناك مراحل للقصاص: المرحلة الأولى: أن يحكم القاضي بثبوت القصاص. المرحلة الثانية: مرحلة التنفيذ للقصاص، ولا يمكن أن ينفذ القصاص إلا بعد ثبوت الحق وحكم القاضي به، فإذا قضى القاضي بتنفيذ القصاص، فينبغي أنه ثبت لفلان حق القصاص، فالتنفيذ يفتقر إلى أمور لا بد من وجودها: أولها: أنه لا يستوفى إلا بحضرة السلطان، أو الحاكم، أو القاضي، أو من ينيبه، وذلك لأنه قد تطرأ أمور أثناء تنفيذ الحد لا بد من الرجوع فيها إلى رأي القاضي وحكمه، وهذا أصل حتى في الحدود، والسبب في ذلك: تلافي الضرر بعدم وجود القاضي والحاكم. وبعض العلماء يقول: لا يشترط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لولي الدم: (اذهب فاقتله) ، فأمره أن يذهب ويقتله، ولم ينصب وكيلا عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن ماعزا لما آذته الحجارة وأدرك حرها فر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يرجع فيتوب فيتوب الله عليه) ، وفي رواية: (يراجع نفسه) . وأصحاب القول الأول قالوا: إنه إذا أقر بالزنا، وكان القاضي موجودا، وقال: لقد رجعت عن إقراري، أوقف التنفيذ؛ لأنه لا يوقف التنفيذ إلا بحكم القاضي، ومن هنا يمكن أن يحتاط لدماء الناس وحقوقهم؛ لأن هذا يسمونه: حق الجاني بعد صدور الحكم، فللجاني حقوق بعد صدور الحكم عليه، ولا يمكن الاحتياط فيها بالشيء على الوجه المعتبر إلا بوجود القاضي أو الحاكم أو كل منهما. والحمد لله تعالى فهذا موجود في زماننا، وقد جرت العادة في المملكة -ولله الحمد- أنه يوجد من يكون وكيلا عن القاضي، وهذا على الحقيقة فيه احتياط، وهو أحوط المذهبين؛ لما فيه من صيانة لحق الجاني، وخوف أن تطرأ أمور يحتاج فيها إلى النظر، وحينئذ تحقن دماء الناس وتحفظ، ولا ينفذ القصاص على الوجه المعتبر إلا بحضور الحاكم أو نائبه، وحضور الحاكم لا شك أنه أبلغ في الزجر، وأبلغ في تنفيذ حكم الله عز وجل، وأكثر تعظيما لشعائر الله عز وجل، ولذلك حضر الخلفاء الراشدون، وكان بعضهم يحضر تنفيذ الحد وتنفيذ القصاص؛ لما في ذلك من إعلاء كلمة الله عز وجل وحصول الهيبة أكثر وأبلغ. أما كون الآلة حادة، فهذا أصل في الشريعة أنه لا يعذب عند القتل، وعند إزهاق الروح، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ، وهذا في البهائم فالآدمي من باب أولى، فإذا أريد القصاص فيجوز أن يمكن القاضي ولي المقتول من الجاني، ويقول له: هذا قاتل أبيك فاقتله إن شئت. فيكون ولي المقتول معه سلاحه أو سيفه، وهذا في القديم كان موجودا، فإذا قال: أريد أن أقتله بنفسي، ينظر في سيفه والآلة التي يريد أن يقتل بها، فإنه ربما كانت كالة -أي: لم يحدها كما ينبغي- فيضر بالقاتل إذا قتله، فإذا كانت كالة ليست ماضية عذب بها الجاني؛ لأن هذا لا ينفذ الإزهاق بسرعة فيتعذب، وهذا لا يجوز. وكذلك أيضا ربما وضع السم في آلته، وهذا كان يفعله بعضهم، وهو زيادة في التعذيب؛ لأن القاتل ما قتل بهذا الوجه، وحينئذ لابد أن تتفقد آلة القاتل، لكن في زماننا وضع من يقوم بالتنفيذ من بيت مال المسلمين، وهذا نص عليه بعض العلماء، وأريح الناس من هذه الأمور، وكفوا فيه، وحصل بحمد لله عز وجل الرفق في كثير من هذه الدواخل والاعتبارات التي ربما يفعلها بعض الأولياء احتيالا لحقه، ومبالغة في التشفي، لكنهم نصوا على هذا الأصل أن على القاضي أن يتفقد آلة القاتل وينظر فيها. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها قال رحمه الله تعالى: [ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف] . هذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل، والذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنه لا قود إلا بالسيف، وحينئذ إذا قتل المقتول قلنا لأوليائه أو لمن يقوم بالتنفيذ: خذ السيف واضرب عنق القاتل، فهذا ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. لكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء حاصله: أن القاتل إذا قتل بطريقة، وطالب أولياء المقتول وعصبته أن يقتل بنفس الطريقة؛ كان من حقهم ذلك، فإذا أخذ المقتول وقطع يده، ثم قطع يده الثانية حتى نزف ومات، فنقول لأوليائه: اقطعوا يديه بالطريقة التي قطع بها يدي المقتول. ولو أنه أخذه وضربه بحجر على رأسه، فرضخ رأسه فمات، قلنا لهم: خذوا حجرا كالحجر الذي قتل به، واضربوه مثلما ضربه، هذا هو الأصل في القصاص، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن جارية من الأنصار وجدت قد رض رأسها بين حجرين -أي: أخذت المسكينة بين حجرين وضرب رأسها حتى ماتت- فقيل لها: من فعل بك؟ فلان فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأشارت برأسها: أن نعم، فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ رأسه ويرض بين حجرين، وفعل به مثل ما فعل بالجارية) ، ولأن الله تعالى يقول: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، والقصاص: من قص الأثر إذا تتبعه، فنتتبع جناية الجاني، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا في الحقيقة يختاره غير واحد من العلماء، أي: أن يفعل بالجاني مثلما فعل، إذا طلب ذلك أولياء المقتول، فلو قال أولياء المقتول: لا نريد أن نقتص بالسيف، بل نريد أن نشفي غليلنا وأن نأخذ حقنا كاملا بأن نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه؛ كان من حقهم هذا، ويمكنون من هذا الحق. ولو أنه أخذه فغمسه في الماء حتى غرق ومات، قلنا لهم: خذوه فاغمسوه في الماء مثلما غمسه، ولو ربطه ورماه في بركة حتى مات، قلنا لهم: اربطوه كما ربط المقتول، وارموه في بركة مثلها يموت غرقا كما قتل غرقا، ولو أنه أحرقه فوضع الوقود عليه، ثم أشعل عليه النار فأحرقه، قلنا لهم: خذوا الوقود وافعلوا به مثل ما فعل بالمجني عليه. وهذا أبلغ في زجر الناس، وأشد هيبة في زجر المجرمين والعصاة، ولو أن ولي الأمر في بعض الأحوال المستثناة يفعل هذا عند استشراء القتل في الناس؛ لكان أبلغ في زجرهم، وهو أبلغ في إسكان الثائرة، وهدأة النفوس، ولكن العبرة بالقتل، فإذا قتل يقتل وقد جاء في حديث ابن ماجة رحمه الله تعالى: (لا قود إلا بالسيف) ، ولكنه حديث ضعيف، ولو حسن لعارض ما هو أصح منه، فإن حديث الجارية في الصحيحين. ولكن لو أنه قتله بطريقة محرمة، مثل أن يسقيه خمرا -والعياذ بالله تعالى-، ويبالغ في سقيه حتى يموت، فإذا سقي الجاني الخمر سكر، وحينئذ لا يجوز لنا أن نسقيه الخمر؛ لأن هذا يفضي إلى حرام، فلا يفعل به مثلما فعل في هذه الحالة، ولا يوجر الخمر في حلقه حتى يموت؛ لأنه يؤدي إلى حرام، فهذا يستثنى، ولذلك قالوا: يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه ولأوليائه الحق في طلب ذلك، ويمكنهم السلطان والقاضي من ذلك، بشرط ألا يكون الفعل محرما ولا يمكن الاستيفاء به مثل ما ذكرنا في الخمر. ومن أمثلتها في زماننا المخدرات، حيث يحقنه بكمية كبيرة من المخدر تقضي عليه، فإنه لا يمكن أن نقول لأوليائه: احقنوه؛ لأنه في هذه الحالة سيسكر، وستؤثر عليه قبل الإزهاق، ولا يجوز تعاطي المسكرات والمخدرات، فحينئذ يعدل إلى السيف وتدق عنقه ويقتص منه بالسيف. قال رحمه الله تعالى: [ولو كان الجاني قتله بغيره] . أي: ولو كان الجاني قتله بغير السيف كما ذكرنا، فالمصنف يرى أنه لا قصاص إلا بالسيف، لحديث: (لا قود إلا بالسيف) ، وهذا مرجوح، والصحيح أن لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص مماثلة، وهذا ما يسميه العلماء: القتل بالمماثل، فإن أخذ حديدة عريضة فضربه في رأسه فشق رأسه نصفين، قلنا لهم: خذوا نفس الحديدة أو مثلها، واضربوه بمثل ما ضرب به وليكم، وإن أخذه فغطه وكتم نفسه، أو فعل به أي فعل محرم فنقول لهم: خذوه وافعلوا به مثل ما فعل، وهذا هو الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص) ، فنحن نقتص من الجاني بأخذه بجنايته مماثلة. الأسئلة حكم القصاص داخل حدود الحرم السؤال ما حكم القصاص داخل حدود الحرم؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالقصاص في الحرم فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: يقاد في الحرم، خاصة إذا حصل الإزهاق في الحرم، فمن قتل في الحرم قتل في الحرم، وهذا للأصل الذي ذكرنا؛ لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، ولأن القاتل لم يعظم الحرم فيؤخذ بجنايته وجريمته، ولأننا لو لم نقتص ممن يجني في الحرم، أو لا نقتص من الشخص إذا كان داخل الحرم، فمعنى ذلك أن نجعل الحرم محلا للمجرمين والمفسدين، فكل قاتل إذا قتل لا يسعه إلا أن يدخل البلد الحرام حتى لا يتعرض له، وفي هذا من الشر والبلاء ما الله تعالى به عليم، بل تصبح هذه البقعة المفضلة المشرفة بقعة أهل الفساد وأهل الشر، وهذا كله يناقض شرع الله عز وجل، وبناء على ذلك قالوا: يقتص من الجاني ولو كان في الحرم، وهذا أقرب إلى الأصول وأوفق، والله تعالى أعلم. الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقا وبين النهي عن التعذيب بالنار السؤال إذا قلنا بالمماثلة في القصاص لو قتل بالتحريق، فكيف يجمع بين ذلك وبين النهي عن التعذيب بالنار؟ الجواب لا تعارض بين عام وخاص، فالنهي عن التعذيب بالنار عام، والمماثلة في التحريق قصاصا خاصة؛ لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، فهذه مسائل مستثناة، والفقه أن تنظر إلى الأصول العامة وما استثني منها، فتجعل الأصل العام كما هو، وتبقي المستثنى على استثنائه، وبهذا تكون عملت بشرع الله عز وجل وطبقته، فالله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] . فالنهي عن التحريق نهي عن عقوبة مبتدأة وعقوبة منشأة، فلا ننشئ العقوبة بالتحريق، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكن هذا أخذ بالجناية والجريرة، وأمرنا الله عز وجل أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ينهى عن التمثيل، وقال لأميره على السرية: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخا ولا صغيرا ولا امرأة، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) ، فقوله: (ولا تمثلوا) ، نهي عن التمثيل بالقتلى، ولما خرج العرنيون إلى إبل الصدقة، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا المسامير من النار فسملوا بها عين الراعي، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل بهم مثلما فعلوا بالراعي، فسمل أعينهم، وفي رواية: (سمل وسمر) ، والله تعالى يقول: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، فهذه أمور وأحوال مستثناة لوجود الموجب بصفائهم. وبناء على ذلك: يجوز في هذه الحالة أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، ومن باب المماثلة ما يوجد الآن عندنا من الأكسيد -أعاذانا الله تعالى وإياكم- والمواد الحارقة، والمواد الكيماوية، حيث يؤخذ المقتول ظلما ويصب على رأسه وبدنه من هذه المواد، أو يربط ويقتل بأبشع الصور، فيؤخذ مثل هؤلاء المجرمون ويوضعون أمام الناس، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بالمجني عليهم، ليكون فيه من الزجر والردع، خاصة في هذه الأمور من القتل الذي توسع فيه بعض الناس، وفي الجرائم المنظمة، فهذا لا شك أنه يردع، ويكون وقعه في النفوس بليغا، فالجاني يكبت بجنايته، ومن تسول له نفسه ذلك يرتدع عن الإقدام في فعله، وهذا هو مقصود الشرع أن يرتدع الناس، قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، قالها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، بل الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، فإذا اقتص من الجناية بمثلها، أيا كانت هذه الجناية ما لم تكن محرمة، فلا إشكال أن هذا أبلغ وأوجب في حصول المقصود شرعا، والله تعالى أعلم. حكم الرجوع في العفو عن القصاص السؤال إذا طالب أبناء المقتول بالقصاص، وعفا أحدهم فطلب الدية، فقال إخوته: نحن نعطيه حقه من الدية من أموالنا، ونريد أن نمضي القصاص، فهل يمضي؟ الجواب لا يمضي، وهذا حكم جديد، فلو أعطوه ملء الأرض ذهبا فلا يمضي القصاص، فإن قال: قد عفوت، فقد عفا، وبناء على ذلك يسقط القصاص، وهذا أصل. فإن كانوا يريدون أن يرضوه بالمال فإنهم لم يرضوا المقتول الذي سيقتل؛ لأن الحق للمقتول الذي هو الجاني في الأصل، أما إذا اتفقوا فيما بينهم وقالوا: ما دام أنك فقير ومحتاج، وتريد المال، فنحن نعطيك المال ولا تعف، فهذا شيء آخر، إذ قد يكون الشخص مجرما مفسدا، وفي القرابة رجل ضعيف، أو فيهم من عنده حنق وغيض، وخافوا أنه إذا لم يقتل الجاني بالقصاص أن يذهب ويقتله، فيحصل ضرر، فأرادوا أن يضغطوا على قريبهم أن لا يعفو، فلهم الحق أن يضغطوا على قريبهم حتى لا يعفو، وهذا شيء يتفاهمون فيه بينهم. أما من ناحية شرعية فإذا قال: قد عفوت، فقد عفا وسقط الحق، ويصبح الحق مشتركا؛ لأنه حق للقاتل أن لا يقتل، وحق لهذا الذي عفا، وهو أن يكون له حق في الدية، والله تعالى أعلم. الآداب الإسلامية تجاه من حد واقتص منه السؤال يسمع من بعض الناس إذا تم تنفيذ القصاص على القاتل الشتم والسب واللعن، فهل يجوز هذا؟ أم أنه تطهر من جنايته بهذا الحد؟ الجواب لا يجوز أن يسب ويشتم ويلعن القاتل، ولا من طبق عليه الحد؛ كالزاني وشارب الخمر، فلا يجوز لأحد أن يلعنهم، أو يسبهم، أو يشتمهم، فالله تعالى أقامهم أمام العباد اعتبارا، ولم يقمهم شماتة، ولم يقمهم من أجل أن يعيرهم الناس، أو يسبوهم وينتقصوهم، فلا يجوز هذا، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر، قال بعض الصحابة: تبا له، وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: مه! لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) ، فرجل تقطر لحيته من الخمر وقالوا: تبا له، ومع ذلك قال: (لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) ، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] ، فاحمد الله تعالى على العافية، واشكره أن عافاك. وقد يكون الإنسان مبتلى بذنوب ويفضحه الله تعالى بها لكي يرفع درجته؛ لأنه يطهره بها في الدنيا، ثم يصلح له حاله ويحسن له خاتمته، وقد يكون غيره ممن يراه يحد يفعل الذنب ويستره الله عز وجل، فيتراكم عليه الذنب تلو الذنب تلو الذنب، حتى يهلك، وقد يكون ذلك سببا في سوء خاتمته والعياذ بالله تعالى، فلا يدخلن أحد بين الخالق والمخلوق، وهذا ربهم وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى، قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون} [الشعراء:113] ، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل. وهكذا في أهل الجرائم وأهل الفسوق وأهل الجنايات، لا يسخر الإنسان منهم، ولكن يقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به ويشعر بالضعف والمسكنة والحاجة إلى ربه تعالى، فإن الله تعالى إذا أراك عورة من أخيك لم يركها لكي تشمت به، ولكن أراكها لكي تعرف مقدار نعمة الله تعالى عليك، وفضله وجميل إحسانه وجليل كرمه عليك، فلا تسئ إلى عباد الله تعالى، والله تعالى يقول: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] . ومن هنا قال بعض العلماء: إن المظاهر ليست قطيعة الدلالة على الجواهر، وقد تجد الرجل لحيته إلى نصف صدره، وهو من أكثر الناس حقدا وحسدا وكراهية للناس واحتقارا للناس، وقد تجد الرجل حليقا وترى حاله فتزدريه، كأنه غير صالح، ولكنه من أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأكثرهم جودا وكرما وسخاء، فالمظاهر ليس فيها كل شيء، والعبرة بالجواهر والحقائق، وصحيح أن المظاهر تتبع الجواهر، لكن لا يسخر من الإنسان. وقد ترى الإنسان مبتلى بشرب الخمر، وهو من أحسن الناس في أشياء يفعلها في جوده وكرمه، وستره لعورات المسلمين، وتفريجه لكرباتهم، وما يكون منه من الخير قل أن يوجد له نظير، ولكن الله تعالى ابتلاه بشرب الخمر، وليس معنى هذا أنه قد انتهى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب) ، والتثريب: الملامة، فنهاه أن يلومها بعد إقامة الحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذروات فأبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حد الله) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقيم عليه الحد فهو كفارة له في الدنيا) ، فهذا أصل، فلا تحتقر أهل الجرائم ولا تشمت بهم، ولا تتبع الحديث عنهم، فإذا أقيم عليهم الحد فهو كفارة لهم وطهارة لهم، خاصة في الحدود التي هي غير القتل، أما القتل ففيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، لكن ينبغي للإنسان أن يخاف، وكم من معافى ابتلاه الله تعالى بتعييره للغير. والتعيير والانتقاص يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في الجنان والقلب، والصورة الثانية: أن يكون في اللسان. فإذا رأيت عاصيا، أو رأيت مبتلى، أو رأيت أحدا يفعل معصية، فلا تشمت به ولا تتكلم عليه، ولا تقل: كيف يفعل هذا؟ وما يليق به أن يفعل هذا، ولماذا يفعل هذا؟ فهذا ليس من شغلك ولا من شأنك. وإنما من شغلك وشأنك أن يتفطر قلبك بين يدي الله تعالى، وتقول: يا رب! لك الحمد على العافية، اللهم عافه ولا تبتلني، واسأل الله تعالى لأخيك وادع له بظاهر الغيب، فهذه نصيحة المؤمن لأخيه المؤمن، أما أن يذهب ويشمت به، ويشهر به، ويكون حديثه في المجالس أرأيتم فلانا كيف فعلوا به؟ وفلانا الذي فعل؟ ولربما يتوب هذا المسكين، ويأتي هذا يعيره ويتابعه وهذه هي المصيبة العظمى التي ابتلي بها المسلمون، خاصة في هذه الأزمنة الأخيرة، فالعصاة والمجرمون إذا دخلوا السجون قضي عليهم، وانتهى أمرهم، وإذا أقيمت عليهم الحدود أصبحوا محل نبذ من الناس، وهذا لا ينبغي، فإذا أقيم الحد على الإنسان فلتفتح له أبواب التوبة وأبواب الصلاح، وأبواب الاستقامة، وليزره أهل الخير، ويقولون له: لعل الله عز وجل أن يبارك لك فيما بقي من عمرك، ولا تيأس، وكلنا خطاء وكلنا مذنبون، والأمل في الله تعالى كبير، فإن الله تعالى يحب أن يهدى عبده، ويحب أن يتوب عبده إليه. فانظر إذا جعل الله تعالى توبته على يدك، وانظر كم يكون من الخير للأمة حينما يفتح لمثل هؤلاء أبواب الأمل، وهم مكروبون منكوبون منبوذون، يحتاجون إلى من يرحمهم، ويحتاجون إلى من يحتويهم، ويحتاجون إلى من يريهم بارقة الأمل لكي تصلح أحوالهم، وما أرسل الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عذابا على العباد، وإنما أرسله رحمة للعالمين، وأرسله سعة لا ضيقا، وأرسله رحمة لا عذابا، ويسرا لا عسرا، وقد قال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) ، وقال: (إن منكم منفرين) . فهذا الذي ينصب نفسه للدخول بين الناس وبين ربهم، والاطلاع على أعمال العباد والتشهير بهم، قد فعل سوءا بنفسه وبالناس، ولا والله ما اتقى الله تعالى في نفسه ولا في عباد الله تعالى. وعلى الإنسان أن يذكر نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، فالمرأة أمة عند سيدها، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (فليجلدها الحد ولا يثرب) ، وهو سيدها الذي يعير بها ويؤذى بها، ومع ذلك يقول: (ولا يثرب) ، قالوا: لأن التثريب يحطم الإنسان، ويقتل معاني الأمل في نفسه، ويجعله كأنه انتهى، وهذا هو الذي نجده كثيرا خاصة في هذه الأزمنة. وعلى الهداة والدعاة والمصلحين والأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على هذا، ويبينوا لهم أن هؤلاء مكروبون، وأن هؤلاء معذبون ويحتاجون إلى من يذكرهم، وكل منا يسأل نفسه: هل هو سالم من الذنوب؟ لربما يكون الشخص عنده صغيرة من صغائر الذنوب يداوم عليها يبلغ بها ما بلغته كبائر الذنوب، وقد تزيد بأضعاف أضعاف، ولربما يكون الواحد منا يحتقر بعض الصالحين، أو يتكلم في مناهجهم أو أفكارهم، فيبوء بالذنوب والسيئات التي لم تخطر له على بال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرف والمغرب، أو سبعين خريفا) ، فالاستقامة الحقيقية والملتزم الحقيقي هو الذي يشفق على نفسه، ويعلم أن الهداية ما كانت له ولا لأبيه ولا لجده، ولا حكرا عليه ولا حكرا على آله، وإنما هي من الله تعالى يهدي بها من يشاء، سبحانه وتعالى، وليعلم أن الله تعالى رحمه، وأن الله تعالى لطف به بهذه الهداية، فلا يتخد من هدايته وصلاحه وسيلة لتعيير الغير وانتقاصه. عليك نفسك فاشغتل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس وطوبى لمن شغله ربه تعالى عن نفسه، وشغلته نفسه عن الناس، فأقبل عليها فاستكمل نواقصها، وطوبى لمن جعله الله تعالى رحمة للعالمين، فآوى إلى الناس وآوى الناس إليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون) ، فهم المبشرون لا المنفرون، وهم الميسرون لا المعسرون، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته، والله تعالى أعلم. حكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد السؤال إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام قد سلم من الصلاة، فهل أعود إلى المنزل؟ أم أصلي وحدي؟ أم أنتظر أحدا وأصلي معه؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فهذه المسألة تعرف بالجماعة الثانية، وقد اختلف العلماء فيها، والجمهور على جواز إحداث الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد، وذلك لما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فتصدق عليه فصلى معه) ، وهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: بطلان مذهب من يقول: إنه يذهب إلى بيته؛ لأن الرجل صلى في المسجد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه. وأما الاستدلال بحديث قباء حينما تأخر عليه الصلاة والسلام ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فرجع إلى بيته، فالجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو صلى جماعة ثانية لوقع الحرج للصحابة، ولكان فيه مما لا يخفى بالنسبة للصحابة حينما يرون أنهم سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطيب خواطر أصحابه، وكان نعم الصاحب لصحبه صلوات ربي وسلامه عليه، وهل كان ذهابه ليجدد وضوءه؟ أم هل ذهب عليه الصلاة والسلام لأجل أن لا يكسر خواطر الصحابة؟ فليس هناك دليل صريح يبين علة تركه للجماعة، ثم إن حديث أبي بكر قوي الدلالة من وجوه: أولا: أنه قال: (من يتصدق على هذا) ، فجعل سر المسألة أن يحصل الفرد على الجماعة، ولا يختلف اثنان أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حصول جماعة ثانية، وإلا فلماذا يقول: (من يتصدق على هذا) بأسلوب الترغيب والتحديد؟ فهذا واضح الدلالة على مشروعية طلب الجماعة الثانية، وتحصيل الجماعة الثانية. ثانيا: أن هذا الدليل دليل قول، وفعله عليه الصلاة والسلام دليل فعل، والأصل أن أدلة الأقوال أقوى؛ لأنها تشريع للأمة، ومخاطبة للأمة، ودليل الأفعال تدخلها الخصوصية، وإلا فكله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مسلك أصولي، فيقولون: إنه إذا جاءنا دليل يحتمل مع دليل لا يحتمل؛ قدم غير المحتمل على المحتمل، فدلالة الفعل تحتمل خصوصيته، وتحتمل العارض، أي: أنه عرض له عليه الصلاة والسلام عارض، مع أنه ليس عندنا جزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بعد، وإن كان هذا يسمونه: دلالة ظاهر. فالشاهد: أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كونه يذهب إلى بيته ولم يعرج، تدخله كثير من الاعتراضات، بخلاف حديث: (من يتصدق على هذا) . هذا جانب. والجانب الثاني في القضية: أن القاعدة عند العلماء: أنه إذا تعارض نصان -وهب هنا أن النصين بمرتبة واحدة- فإنه إذا تعارض النصان رجع إلى الأصل، فهل الأصل أن يصلى في المسجد أو لا؟ والجواب: أن الأصل أن تصلي في المسجد، وأن تكسب أجر الصلاة في المسجد بالجماعة. وعلى كل حال: فالقول بأنه يصلي الجماعة الثانية هو الصحيح، وهو الأولى بالأصول الدالة على مشروعية الصلاة في المسجد، وأما تحريم أن يصلي في المسجد ومنعه من ذلك فبعيد. ثم العجيب أنهم قالوا: لا يصلي جماعة ثانية، أي: نهوا وحرموا، ودلالة الفعل ليس فيها نهي، فنفس الدليل الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى حجرته، ليس فيه دليل نهي، وهذا مسلك ننبه عليه طلاب العلم، وهو أنه إذا استدل أحد بدليل طبق وجه الدلالة على الحديث، فالحديث الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته ولم يعرج على المسجد، هل فيه: (لا تصلوا) ؟ وهل فيه نهي ينقل عن الأصل الذي جعلت المساجد من أجله وهي الصلاة؟ فالواضح من هذا أن مذهب المالكية ومن وافقهم بأنه لا تعاد الجماعة الثانية ولا تكرر مذهب ضعيف مرجوح أمام ما هو أرجح منه قوة ودلالة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخيرا: فعند العلماء أصل في النصوص، وهو أنه ربما نبه بالأدنى على ما هو أعلى منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يصلي وحده قال: (من يتصدق على هذا) ؟ فندب من صلى أن يصلي مرة ثانية، وهذا يدل على أنه إذا وجد من لم يصل أصلا فمن باب أولى وأحرى، وهذا ما يسميه العلماء: الدلالة بالأدنى على ما هو أعلى منه، والله تعالى أعلم. وقت صلاة الجمعة السؤال متى يبتدئ وقت صلاة الجمعة، هل بعد طلوع الشمس أم بعد الزوال؟ الجواب الصحيح مذهب الجمهور أن الجمعة تبدأ بعد الزوال، وأما حديث: (نقيل قائلة الضحى ونرجع ونتتبع الفيء) ، فإنه ليس بصريح في أن الجمعة تصلى قبل الزوال، وهذا الأمر حرره بعض العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بعد الزوال مباشرة، بحيث إنه عليه الصلاة والسلام كانت خطبته قصيرة صلوات الله وسلامه عليه، وقراءته مرتلة، فالبعض يطبق واقعه على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى الجمعة في زمانه فيقوم الخطيب يخطب قرابة نصف ساعة، ثم يقوم يصلي، وربما يطيل قراءته، وقد يقرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] ، و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1] فيما لا يقل عن عشر دقائق، فهذه ساعة إلا ثلث، فلا يتصور في ساعة إلا ثلث امتداد الفيء، فيقول: كيف كان الصحابة يتتبعون الفيء؟ والواقع أن هذا معروف في المدينة، ومن يعرف سمت الظل في الجدران والحيطان يجد هذا، وهذا يقع إذا كان أوقع الجمعة عند بداية الزوال، وخفف الخطبة، فإنه بإمكانه أن يدرك هذا القدر، ثم إن الأمر يختلف صيفا وشتاء بحسب بعد الشمس عن خط الاستواء وقربها، والحديث: أنه يتتبع الفيء، لا يدل على أن الجمعة وقعت قبل الزوال. وأيا ما كان فالأشبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقعها بعد الزوال مباشرة، وكانت خطبته قصيرة عليه الصلاة والسلام. ثم انظر رحمك الله تعالى إذا كان يقرأ بالجمعة والمنافقون، أو بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، و {هل أتاك حديث الغاشية} ، فهاتان السورتان صفحة ونصف، وخطبته أقصر من صلاته، فكم وقتا تتوقع؟ وكانت كلماته تعد عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فالأمر يحتاج إلى نظر، فقد كان عليه الصلاة والسلام كلامه محدودا وقليلا، فلا يبعد أنه إذا كان بعد الزوال مباشرة وصلى بالناس وقراءته مرتلة أن يخرجوا ويتتبعوا الفيء وانتهى الإشكال، أما إن يقال: أنه صلاها قبل الزوال، ويبنى على ذلك أن الجمعة عيد، ثم تأتي الأقيسة: والعيد تصح صلاته من بعد طلوع الشمس قيد رمح، ثم ركب من هذا أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، فهذا كله بالاحتمالات والاجتهادات، والأصل أن الجمعة بدل عن الظهر، والبدل يأخذ حكم مبدله، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد زوال الشمس) هو الأصل، وهو الذي عليه المعول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (497) صـــــ(1) إلى صــ(21) العفو عن القصاص إلى الدية قال رحمه الله تعالى: [يجب بالعمد القود أو الدية] . قوله: (يجب بالعمد القود) أي: القصاص، وقد تقدم؛ لأن الله تعالى يقول: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى) ، فقوله: (إما أن يقاد) يدل على مشروعية القود، والإجماع على هذا، وقد تقدم. وقوله: (أو الدية) أي: يخير فيقال له: إما أن تقتص وتأخذ بحقك بقتل من قتل وليك، كما قال تعالى: {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} [الإسراء:33] ، فيقال له: اقتل من قتل أباك، أو اقتل من قتل أخاك، فإن الله تعالى أعطاك هذا الحق، فإن قال: لا أريد أن أقتله، وقد عفوت عن القاتل، فنقول: لك الدية؛ لأن الله عز وجل أمر إذا عفا ولي الدم عن الدم والقصاص بإعطاء الدية له، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإذا قتل وعفا ولي المقتول فإنه ينتقل إلى الدية، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [فيخير الولي بينهما] . أي: يخير الولي بين أن يقتل قصاصا وبين أن يأخذ الدية -وسيأتينا في باب الديات توضيح الدية وضوابطها وأحوالها- فهذا بإجماع أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم؛ لانعقاد نصوص الكتاب والسنة على أنه بالخيار بين الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وهو ظاهر الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بالقصاص فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178] ، فهذا يدل على أنه يخير بين القصاص وبين أخذ حقه وهو الدية، فإذا كان لا يريد القصاص يأخذ حقه من المال وهو الدية. العفو عن القصاص والدية جميعا قال رحمه الله تعالى: [وعفوه مجانا أفضل] . أي: وعفوه بدون أن يأخذ شيئا أفضل؛ لأنه إذا فعل ذلك تولى الله تعالى أجره وثوابه، ولأن غاية الإحسان أن يعفو عمن ظلمه وعمن آذاه، ولا يأخذ منه شيئا، وإنما ينتظر من ربه العوض والخلف، ولو أنه عفا ثم أخذ الدية فلا يلام. ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله عز وجل، ومن المحادة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237] ، وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئا. أخذ الدية والصلح على أكثر منها قال رحمه الله تعالى: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها والصلح على أكثر منها] . إذا اختار القود مكن منه، وإذا قال: أريد أن أقتص، فحاول معه أولياء القاتل، وقالوا له: اعف عنه، ورضي بالدية، فلا إشكال، لكن في بعض الأحيان لا يرضى بالدية، فيبذلون أكثر من الدية، وهذا البذل لأكثر من الدية على سبيل الصلح، فيقولون له: إن تنازلت نعطك ديتين، أو إن عفوت نعطك ثلاث ديات، أو إن عفوت نعطك أربع ديات، أو خمس ديات، فهذا من باب الصلح. وفي الحقيقة من حيث الأصول أن الدم له دية مقدرة شرعا لا يزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحا، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول، ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن صالحوا فلهم ما أخذوا) أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسنها غير واحد، وملنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحد أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جان قد لا يستحق أن يبذل له ذلك، وقد يكون شريرا كما ذكرنا؛ كل هذا لا يجوز. فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يقتصر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة أنه قتل رجلا، وكان أولياء المقتول يتامى قاصرون، منهم ابن المقتول، فحبس هدبة، ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله تعالى عنهما، فشفع سعيد بن العاص وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم من أجل أن يعفو ولي المقتول، وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يعفو، فأبى إلا القتل، فقتل به، والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية. إذا اختار الدية أو عفا مطلقا أو هلك القاتل فليس له إلا الدية قال رحمه الله تعالى: [وإن اختارها أو عفا مطلقا أو هلك الجاني فليس له غيرها] . أي: إن اختار الدية فليس له إلا الدية، بمعنى أنه لو قال: عفوت، ثم رجع وقال: أريد القصاص، فإنه لا يمكن من القصاص؛ لأنه إذا قال: عفوت؛ سقط حقه في القصاص إلى الأبد، ولا رجوع عن هذا الحكم، وليس له إلا الدية إن اختارها. قوله: (أو عفا مطلقا) إذا قال: عفوت عنه، ثم رجع إلى القاضي وقال: أريد القصاص، فقال بعض العلماء: لا قصاص ولا دية، وقيل: لا قصاص ولكن له الدية؛ لأنه إذا عفا عن الدية ثم رجع فيكون مثل الهبة إذا وهب شيئا ثم رجع فيه، فكأنه وهب الدية للقاتل، ثم رجع عن هبته، وهذا مذموم شرعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يأكل قيأه) . وقوله: (أو هلك الجاني) أي: لو أن شخصا قتل عمدا عدوانا، ثم جاءته نقمة من الله تعالى فأخذه الله تعالى وأهلكه، فحينئذ لا يمكننا القصاص، لكن يبقى حق أولياء المقتول في الدية، وحينئذ تثبت لهم في تركته الدية، فتؤخذ من تركته. وقوله: (فليس له غيرها) أي: ليس لولي المقتول غير الدية، وليس له القصاص، ولو قال: رجعت، وأريد أن أقتص، فإنه لا يعطى القاتل ولا يمكن من قتله. السراية وأحكامها قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعا عمدا فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر] . هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمدا وعدوانا، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملا، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها. فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفوا عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله. وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجبا للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى. فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـ مالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعف. ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، ف السؤال هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟ فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضا أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة. وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات. ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة. على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالة، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جدا في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالبا، وحينئذ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن. العفو في السراية قوله: (وكان العفو على غير شيء فهدر) . إذا قال: عفوت عن الأصبع، فهذه صورة، وكل الذي ذكرناه فيما إذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، ويبقى قوله: عفوت عن هذه الجناية، فإذا قال: عفوت عن الجناية فلا شيء له، حتى ولو سرت إلى البدن كله؛ لأنه لما قال: عفوت عن الأصبع، حدد عفوه بالعضو، وحينما قال: عفوت عن الجناية، فقد عفا عن الشيء وما يترتب عليه، ومن هنا لا يعطى ولا يضمن، ولا يطالب الجاني بضمان سراية الجناية؛ لأنه عفا عن الجناية كلها، فلما قال: عفوت عن هذه الجناية يسقط حقه، وإذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، فالتفصيل الذي ذكرناه، والخلاف الذي بيناه بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في تلك المسألة. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العفو على مال فله تمام الدية] . المصنف رحمه الله تعالى اختار أن العفو عن الأصبع عفو عن جزء، ولكن إذا سرت إلى البدن فهو إتلاف مستأنف، وحينئذ تجب فيه الدية كاملة، فهذا الذي اختاره رحمه الله تعالى، واختاره أيضا غيره من أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، وهو قوي جدا من حيث الحجة والدليل. التوكيل في القصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما]حكم التوكيل في القصاص إثباتا واستيفاء هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: أولا: هل يشرع التوكيل في إثبات القصاص، والقصاص؟ جماهير العلماء وأئمة السلف على أنه من حق أولياء المقتول أن يوكلوا شخصا يتولى في القضاء إثبات الجناية، فإذا وكلوا شخصا وقالوا له: أثبت جناية فلان على عمنا، أو أثبت جناية فلان على أبينا، فإن هذا مشروع، والدليل على مشروعيته عموم الأدلة الواردة على مشروعية الوكالة، وقد بينا في باب الوكالة ذلك، وذكرنا أدلة النقل والعقل، فيشرع للإنسان أن يوكل غيره في إثبات حق من حقوقه، فإذا قالوا له: وكلناك فعلى صورتين: الصورة الأولى: أن يوكلوه في إثبات الجناية التي هي القتل العمد العدوان الموجب للقصاص. الصورة الثانية: أن يوكلوه في استيفاء حقهم، أي: في القصاص وقتل القاتل. ففي الصورة الأولى يقوم هذا الشخص بإحضار الأدلة والشهود على أن فلانا قتل فلانا، فهذا يسميه العلماء: التوكيل في الإثبات، والتوكيل في الإثبات مشروع فيما قاله جمهور العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم، إلا القاضي أبا يوسف رحمهم الله تعالى من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى، فيقول: لا يشرع أن يوكل شخص لإثبات الجناية، فالإثبات يكون على أولياء المقتول، وهم الذين يحضرون عند القاضي، وهم الذين يكون عليهم عبء الإثبات. والصحيح هو مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف وأهل العلم رحمه الله تعالى أجمعين؛ أنه يشرع لأولياء المقتول أن يقوموا بأنفسهم، وأن يوكلوا غيرهم لإثبات حقهم، شأنه في ذلك شأن سائر الحقوق. هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: إذا وكله على الإثبات فهل من حق الوكيل إذا أثبت أن فلانا قتل فلانا أن يطالب بالقصاص؟ أي: هل التوكيل في الإثبات توكيل في الاستيفاء؟ جمهور العلماء يقولون: ليس التوكيل في الإثبات توكيلا في الاستيفاء، وهذا الوكيل ليس من حقه إلا الإثبات فقط، فيحضر الأدلة ويثبت أن فلانا هو القاتل، فإذا أثبت وحكم القاضي بصحة إثباته انتهت الوكالة. وخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى من أئمة السلف رحمه الله تعالى فقال: إذا وكل في إثبات الجريمة وإثبات القصاص، كان من حقه أن يطالب بالقصاص؛ لأن المقصود من الإثبات هو القصاص، فإذا وكل في الإثبات فمعناه أنه موكل في القصاص، كما لو وكل في البيع فله حق القبض. والصحيح هو مذهب الجمهور؛ أنه إذا وكل في الإثبات فقد اختصت الوكالة بالإثبات، فهي وكالة خاصة، ولا يكون من حقه أن يطالب بالاستيفاء. فإذا ثبتت مشروعية الوكالة على الإثبات، فيبقى الكلام على الاستيفاء فنقول وبالله التوفيق: الاستيفاء: هو تنفيذ الحكم، فقد نص العلماء على جواز أن ينصب ولي الأمر شخصا، أو جهة معينة تقوم بتنفيذ هذه الحدود والحقوق، وارتاح الناس من كثير من الإشكالات الموجودة في الفقه بهذه الطريقة والحمد لله تعالى. لكن الأصل أن استيفاء القصاص حق لولي القتيل، وله أن يوكل في ذلك كشأن سائر الحقوق، وهنا يجيء الكلام على مسألة الوكالة في القصاص. فقد كان في القديم إذا ثبت عند القاضي أن رجلا قتل رجلا، فيقول القاضي لولي القتيل: هذا قاتل وليك فاقتله إن أردت، ويمكنه من قتله، فيأخذ الولي سيفه ويقتله، فيكون ولي الدم هو الذي يباشر القتل، كما ذكرناه في الاستيفاء. إلا أن ولي الدم قد لا يستطيع أن يقتل قاتل وليه، إما لصغر سنه، كصغير بلغ ولا يحسن الضرب بالسيف، أو يكون رجلا كبيرا في السن، أو مشلولا، أو مقعدا، أو زمنا، أو مريضا، فقد تكون هناك أعذار في ولي المقتول، فحينئذ يحتاج إلى شخص يقيمه مقامه من أجل تنفيذ القصاص، فهذه مسألة التوكيل في الاستيفاء. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء فإذا وكل شخص شخصا من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور: الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله. الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعا بالعفو لا رجوعا مطلقا؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذ فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهرا، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهرا، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلا، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتله، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفو عن شيء غير موجود أصلا؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص. ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلا؛ لأنه قد انتهى حقه. الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواء قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقا، فلهذه الحالة صورتان: الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذ لا يجوز له شرعا أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلانا رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذ يكون قاتلا عمدا عدوانا فيقتص منه. هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع. الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناء على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضربا من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعا في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثرا لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذورا شرعا، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذور؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل. وهناك وجه ثان للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان. حقوق الرفيق في الحد والقصاص قال رحمه الله تعالى: [وإن وجب لرقيق قود أو تأثير قذف فطلبه وإسقاطه إليه] . هذه مسألة أخيرة يختم بها هذا الفصل، وهي: مسألة حقوق العبد إذا كانت في قتل أو قذف، فإذا كان للعبد حق معنوي، فإنه يتولى الأخذ والعفو، فله أن يطالب وله أن يعفو، ولا أحد يستطيع أن يجبره على أمر خيره الله عز وجل فيه؛ لأن هذه الأمور لا يملكها السيد، فليس للسيد أن يقول: أنا أتولى أمر عبدي في هذا؛ لأن الحق للعبد، فإذا قذفه شخص فإنه حق ليس بمادي وإنما هو معنوي، والحقوق المعنوية مردها إلى صاحبها، فيتولى العبد أمر نفسه، وليس لسيده عليه سلطان، فبين المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن الحق في القصاص في النفس والأطراف راجع إلى العبد وليس إلى السيد، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق كما في القذف ونحوه. قال رحمه الله تعالى: [فإن مات فلسيده] . أي: فإن مات فإنه ينتقل الحق إلى سيده؛ لأنه وليه، ومعلوم أن الولاء لحمة كلحمة النسب، وهذا في حال العتق، فإذا لم يعتق فمن باب أولى وأحرى، وكما أن النسيب والقريب يرث نسيبه وقريبه في الحقوق، فكذلك السيد يرث حق عبده في هذا، كورثة المقذوف ينزلون منزلة المقذوف بعد موته. الأسئلة الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو السؤال إذا أراد بالدية صرفها في وجوه الخير فهل هذا أفضل أم العفو؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالحقيقة أن هذا أمر يحتاج فيه أن ينظر الإنسان في الثواب المترتب على عفوه، والثواب المترتب على توزيع هذه الصدقات، وهذا أمر غيبي لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن عند العلماء نظائر من هذه المسائل، وهي: الحكم النسبي، ففي بعض الصور الأحكام النسبية معتبرة، كما إذا كان القاتل غنيا ثريا لا تهمه الدية، والمال عنده كثير، وهناك ضعفاء وفقراء محتاجون، وقد يكون بعضهم من قرابة المقتول نفسه، فأحب وليه أن يأخذ الدية وأن يتصدق بها على رحمه، وأن يعيل بها أيتاما وضعفاء وفقراء، فهذا لا شك أن أجره عند الله تعالى عظيم، ولكن هذا شيء نسبي، ومن الخطأ تطبيق هذه الصورة عموما، كما تجد في بعض الفتاوى: أن الأفضل أن يأخذها ويتصدق بها، وذلك أنه إذا أخذها وتصدق بها على الضعفاء والفقراء فهذا أعظم. فهذا لا ينبغي تعميمه؛ إذ قد يكون أولياء القاتل ضعفاء وفقراء لا يستطيعون الدية، وإذا حملوا الدية تحملوا مشقة كبيرة، وإن كانوا في العمد لا يتحملون، لكن ما جرت به العادة أنه يضغط عليهم ويحملون هذه الدية، فإذا كان القاتل سيتحمل عناء الدية ومشقتها، وكان ضعيفا، فلا تستطيع أن تطبق عليه هذا الأصل. ولذلك نقول: من حيث الأصل الأمر غيبي، فلا يستطيع أحد أن يقول: ثواب العفو أعظم من ثواب إنفاق الدية على الضعفاء؛ لأن الناس تتفاوت أحوالهم وتختلف، ما لم يرد نص يبين أيهما أفضل، لكن في الأحوال الخاصة -كما ذكرنا- إذا كان أولياء القاتل لا يهمهم المال، ودفع المال يسير عليهم، ويمكن أخذ هذا المال والتصدق به، فهذا لا شك أنه أفضل وأحسن وأكمل، والتصدق بالمال فيه ثواب عظيم عند الله عز وجل، ولذلك لما باع حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه داره -دار الأرقم- قيل له: بعت مفخرة قريش! قال: ستعلمون من هو المغبون. ثم نزل ونادى في الناس: من كان عليه دين فليأتني، فما بقي أحد إلا قضى دينه، فكان ربحه عند الله تعالى أعظم، وثوابه أجل من أن يمسك دارا على أنها مفخرة، فرضي بمفخرة الآخرة على مفخرة الدنيا، ورضي بربح الآخرة على ربح الدنيا، ورضي بعز الآخرة على عز الدنيا. فالأمور النسبية والأحوال النسبية معتبرة، لكنها لا تعتبر قواعد في الفتوى، أي: لا تعتبر أصولا يحكم بها حكما عاما في الفتاوى، بل يقال: يمكن نسبيا أن يقع هذا، ولذلك نترك الأمر، فإذا نظر الشخص إلى مصلحة قرابته وجماعته وأوليائه، ورأى أن يصل رحمه وأن يحسن إليهم بهذه الدية، وتأول أن يكون ذلك له أفضل عند الله تعالى فأرجو، والله تعالى أعلم. ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل السؤال هل الصلح على أكثر من الدية في العمد فقط أو في جميع أنواع القتل؟ الجواب من حيث الخطأ فليس لهم إلا الدية المقدرة شرعا، ولا يجوز أن يزيدوا عليها إذا كان القتل خطأ، أما في العمد إذا استحق أولياء المقتول القصاص، فيحتاج إلى ترغيبهم ترغيبا أكثر، أما القتل خطأ فلا يحتاج فيه إلى الترغيب بأكثر من الدية؛ إذ ليس لهم إلا الدية، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بثلاث ديات أو ديتين؛ لأن هذه مخالفة مضادة لشرع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل للنفس حق الدية الواحدة، ومن هنا كنا نستشكل الصلح في قتل العمد على أكثر من الدية؛ لأن هذا وجهه أن الله تعالى قدر المقادير، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها، والله تعالى أعلم. حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية السؤال هل يجوز صرف أموال الزكاة لمن وجبت عليه الدية وكان فقيرا لا يستطيع السداد؟ الجواب الغارم وهو المدين يستحق الزكاة، لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الدين فيه نظر، فإن كان سبب الدين يعذر به شرعا فإنه يعطى من الزكاة سداد دينه، كشخص يعول أسرة، ويسكن في شقة تكفيه وتكفي عياله دون بذخ ودون إسراف، فسكن في هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة، وأصبح مديونا، فنعطيه العشرة آلاف كاملة؛ لأن الغارم يعطى سداد دينه، بشرط أن يكون دينه على الوجه المعروف، لكن لو كان دينه في الحرام، كمن يسافر للحرام والفساد -والعياذ بالله تعالى- ثم أصابته ديون، فحينئذ نقول: إنه لا يعطى؛ لأن سبب غرمه محرم، وكذلك لو أنه تزوج وهو فقير، وتكلفة زواجه في فرضنا ثمانون ألفا، فكانت مؤنة زواجه بمائتي ألف، فيعطى في حدود الثمانين. أما في هذه المسألة ففيها نظر؛ إذ القتل إما أن يكون عمدا، وإما أن يكون خطأ، فإذا كان عمدا فهو جناية وجريمة، ومثلها لا يساعد فيها؛ لأن أصل الجناية لا تجوز شرعا، ولو أننا كلما قتل قاتل وعفي عن قتله أعطيناه من الزكاة؛ لذهب المعنى من زجر الناس، وتحملهم لمشقة الدية حتى يجدوا العناء فيحجموا عن الدماء المحرمة وعن سفك الدم الحرام. أما إذا كان القتل خطأ، كشخص عنده حافلة ووقع عليه حادث، فمات معه شخصان وتحمل ديتهما، فالأصل أن العصبة هم الذين يتحملون من الدية ما كان فوق الثلث، كما سيأتي معنا إن شاء الله تعالى، وهذا نظام معروف في الإسلام بنظام العاقلة، ففي الحديث الصحيح: (وقضى بديتها على عاقلتها) ، فالعاقلة نظام شرعي، وهو موجود والحمد لله وعند كثير من القبائل جزاهم الله تعالى خيرا، ولا يزال ما يسمى بصندوق القبائل يفعل حقيقة العقل الشرعي في كثير من الصور تشبه الأصول الشرعية، وهذا أمر محمود ينبغي بقاؤه. فإذا كانت عاقلته غنية وامتنعت فالواجب أن يشتكيهم إلى القاضي حتى يدفعوا ما عليهم، والقاضي يلزم عاقلته بما يلزمه هو، فهذا هو الأصل، فإن كانت العاقلة فقيرة، أو كانت مديونة، فحينئذ يشرع إعطاء الزكاة له سدادا لهذا الدين، وسواء أكانت الجناية خطأ بالقتل أم كانت الجناية على الأطراف، كما لو وقع عليه حادث فقطعت يد راكب من ركاب سيارته فعليه نصف دية، ففي هذه الحالة إذا كانت عاقلته قادرة على السداد فلا إشكال، وإذا كانت غير قادرة على السداد فإنه يعطى من الزكاة على قدر دينه. وعلى كل حال: ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتقي الله عز وجل، وأن يحذر من حرمان أهل الحقوق حقوقهم، فهناك فقراء، وهناك مساكين، وهناك أيتام وأرامل لهم حق في هذه الزكوات دون غيرهم، حتى ولو وجدت بعض الفتاوى المتوسعة مثل إجازة طبع الكتب من أموال الزكاة، ومثل إعانة المتزوج من أموال الزكاة، بناء على قوله تعالى: {وفي سبيل الله} [التوبة:60] ، فهذا مذهب مرجوح وضعيف عند أهل العلم، إذ الصحيح أن قوله تعالى: {وفي سبيل الله} ، مختص بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وحتى لو قيل بهذه الفتوى فينبغي أن ننظر إلى من هو أحوج وأحق، وبدل أن يعطى هؤلاء القتلة يعطى من هو أحوج، وقد تطبع بعض الكتب وتدفع فيها عشرات الألوف، ثم توزع هدرا، فتعطى للذي يستطيع أن يشتري والذي لا يستطيع أن يشتري، وهناك من هو في أشد الحاجة إلى مثل هذا المال. فينبغي الانضباط، وينبغي تحديد هذه الأمور بالضوابط الشرعية، فهناك من هو أحق وأحوج، فهناك اليتيم، وهناك الأرملة، وهناك الأسر التي تكتوي بنار الفقر والمسكنة، فهؤلاء جعل الله تعالى لهم حقا في الزكاة، فلا يتوسع في هذه الأمور على حساب من هو أحق وأحوج، وإن كنت طالب علم فانظر كم في مكتبتك من الكتب، فأسألك بالله تعالى كم من كتاب قرأت؟ وتؤخذ المنشورات وتطوى وترمى في الصناديق، ولربما ترمى في المكاتب ولا ينظر إليها إلا قليلا، وهذا كله على حساب من هو أحوج وأحق، فينبغي أن ينتبه لهذه الأمور في الزكوات وتوزيعها؛ إذ يخشى على من يتولاها أن يصلى بنار جهنم. فالزكاة أمرها عظيم، وليس من السهل بمكان أن الشخص يحرم صاحب الحق حقه ويذهبه في أمور مختلف فيها، بل يصرفه بدون ضوابط. وأذكر أن رجلا ذات مرة طبع مطوية في أمر قد نوقش في أكثر من رسالة، وقتله أهل العلم بحثا، وهو طويلب علم مبتدئ ليس من أهل العلم وليس من أهل التأليف، فجاء وقال: أبشرك أن بعض المحسنين دفع لي مالا فوزعت منها بتسعين ألف ريال!! فهذه التسعون ألف ريال كم من أسرة لو أعطيت أنقذتها! وكم من نساء قد يتعرضن للحرام بسبب الفقر والجوع والمسكنة لو أعطين لامتنعت من ذلك! وليس معنى هذا أن نحجم أمور الدعوة، فالدعوة لها وسائل كثيرة ولها طرق كثيرة، ولا تقتصر على المطوية ولا على الشريط. ولا شك أن من دفع في الشريط والمطوية مأجور ومثاب، ولكن ليس على حساب الحقوق الواجبة في الزكوات، وإنما تكون من بابها المعروف، فإذا جئنا لغني نريد أن نصرفه لمقام أفضل، فهناك مدينون في السجون، وهناك أناس أصحاب أسر وعوائل مدينون في حقوق ومسجونون؛ لأن الدائن من حقه سجن الغريم، فمثل هذا الذي عليه عشرون ألفا أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف ربما وقع أولاده في الحرام، وربما وقعت زوجته في الحرام، فهؤلاء هم الذين يوجه الناس لإعانتهم والرفق بهم. ونريد من هذا أن يتنبه إلى أن الخير ينبغي أن يصرف في بابه، وأمور المعونة والزكوات والصدقات ينبغي أن تصرف في بابها، وأعظم ما يكون في هذا الباب الزكوات إذا صرفت في غير حقها، وكذلك الصدقات، فقد تجد شخصا يتبرع لجمعية خيرية من أجل أن تنفق هذا المال على الأيتام والفقراء والضعفاء والمساكين، فتقوم الجمعية وتفعل مسابقة، وتوزع الجوائز والنثريات بعشرات الآلاف! ولا نشك أن أهل الجمعية يريدون الخير، ولا نشك أنهم يريدون الطاعة ويريدون البر، ولكنه الجهل وعدم الرجوع إلى العلماء، وعدم ضبط الأمور بضوابطها الشرعية، إذا وضعت جمعية للصدقات، فضع صندوقا للمسابقات، وانظر من الذي يتبرع لك من أجل المسابقات، ومن أجل الأمور الزائدة التي تكون على حساب من هو أحق؟ فأنت مؤتمن، فمن دفع لك هذا المال لكي تدفعه للمحتاج فعليك أن تدفعه للمحتاج، وتنضبط بضوابط شرعية، أما الأمور الفاضلة فتوضع لها صناديق خاصة، وهي أمور خير، كتوزيع شريط، أو كتيب، أو منشور، لكن لا تكون عمية وبدون ضوابط شرعية، فلابد من التقيد بهذا، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم. وأكثر ما ضر الدعوة اليوم وهو الاجتهاد الذي لا يرجع إلى فتوى من أهل العلم المعتبرين، فكل يجتهد، وكل يرى أنه على حق، وإذا جئت تنبهه على ملاحظة ظن بك ظن السوء -نسأل الله تعالى العافية- وهذا لا يجوز، فلابد من بيان هذه الحقوق، ولابد من التوجيه فيها، ولابد من ضبطها بالضوابط الشرعية. ولذلك ينبغي صرف الزكاة في مجالها، والله جل وعلا لم يكل أمر قسمة الزكاة إلى ملك مقرب وإلا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها من فوق سبع سماوات؛ لأن فيها الحق المعلوم للسائل والمحروم، وجعل هذه الزكاة لا منة فيها للغني على الفقير، حتى كان بعض أهل العلم يقول: ينبغي على الغني إذا أعطى الفقير أن لا يشعره المن؛ لأن الله تعالى يقول: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] ، فليست فيها منة للغني على الفقير، وهذا يدلك على عظم أمرها، فتولى الله تعالى قسمتها من فوق سبع سماوات، وأنزل جبريل الأمين على نبيه بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60] ، فعددها وبينها وجعلها آيات تتلى إلى يوم القيامة، إنصافا لهم في حقوقهم، وتنبيها للأمة على خطر هذا الباب. فإذا كان الشخص محتاجا ومن أهل المساعدة في قتل الخطأ لا قتل العمد، فعند عجز أوليائه وعاقلته عن تحمل الدية يعطى من الزكاة من باب سداد الدين عن العاقلة؛ لأنهم أصبحوا مدينين، فيندرجون تحت القسم الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {والغارمين} [التوبة:60] ، والغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي عليه دين، ويشترط عند العلماء أن لا يكون دينه في سفه، كما ذكرنا. فهؤلاء المدينون من أحق الناس بالزكاة، فينبغي تفقدهم والسعي في قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتح الخير، وأن يجد الخير على أيدينا وأيديكم إنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم. معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله. مائة مرة ... ) السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة ... ) الحديث، هل تقال المائة مرة مجتمعة أم تقال متفرقة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالأصل أنها تقال مجتمعة، والتفريق الذي لا يطول لا يضر، ولكن الأصل أنها تقال مجتمعة في حين المساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح) ، وهذا يدل على أنها تكون في حين الإمساء وحين الإصباح، وأما أن تكون متفرقة طيلة اليوم فهذا ليس ذكرا للمساء والصباح؛ لأن هذا ذكر مقيد من أجل الحفظ والحرز صباحا ومساء، فينبغي أن يكون عند أول المساء وعند أول الصباح. والمساء يبتدئ من بعد العصر، فلو أنه قالها بعد العصر خمسين مرة، ثم جلس ساعة يرتاح، ثم قالها بعد ذلك، فما زال في حين المساء ولا يضره، كما لا يضره أن يقولها عشرين مرة، ثم يرتاح، أو يقوم ليقضي عملا، ثم يرجع ويقولها عشرين مرة، ثم يتكلم بكلام، ثم يقولها عشرين مرة وهكذا؛ لأنه في حين الإمساء، أما أن يفرقها خلال اليوم كله فلا؛ لأن الفضل هو الحفظ والحرز، وهذا يقتضي أن تكون في أول النهار حتى يحفظ إلى مسائه، أو في أول المساء حتى يحفظ إلى صباحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قالها حين يمسي. ومن قالها حين يصبح) فالمراد بها الحينية والوقت، وهذا يتقيد بالبداية. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تقول: قل هو الله أحد، والمعوذتين إذا أمسيت وإذا أصبحت ثلاثا تكفيك من كل شيء) ، فهل معنى ذلك أنه يقولها ثلاث مرات طيلة اليوم؟ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمسيت وإذا أصبحت) يقتضي أنها تكون حرزا في حين المساء وحرزا في حين الصباح، ومن هنا فلابد أن تكون مجتمعة، بمعنى أنها في الحينية والظرفية التي يبتدأ بها المساء، أو الحينية والظرفية التي يبتدأ بها الصباح. تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع السؤال شخص كان يؤدي سنة الظهر بعد الصلاة، فجاء شخص وائتم به، فحول نيته من السنة إلى أربع ركعات، فما الحكم؟ الجواب هذه المسألة فيها جوانب: الجانب الأول: يجوز الانتقال من الأدنى عددا إلى الأكثر، كما لو كان في قيام الليل وصلى الركعة الأولى والثانية، ثم رأى أنه يحتاج إلى كسب الوقت، فبدل أن يجلس في التشهد ويسلم، أتى بالأربع متصلة، فلا بأس به، وليس فيه حرج، لكن المشكلة أن الانتقال هنا سيشبه النافلة بالفريضة، وهذا أصل منع منه طائفة من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم، ولذلك نهي في الوتر أن يجلس بين الركعة الثالثة والثانية إذا قصد الوصل، حتى لا يتشبه بصلاة المغرب، وهو الأمر الذي اختلف فيه الجمهور مع الحنفية رحمهم الله تعالى، فالشاهد من هذا: أن الأفضل أن يصلي ركعتين ويسلم، ثم يقوم هذا الشخص ويتم الركعتين الباقيتين عليه، والله تعالى أعلم. النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته السؤال كنت مريضا ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جدا؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟ الجواب تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابدا لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور: الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلبا لله عز وجل، وأصدقهم حبا لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضا عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد. الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل. الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك. فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟ ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له) ، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن. فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزما بالإسلام حقا، وأن يكون مؤمنا صدقا، وأن يكون موحدا كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبرا تقرب الله منه ذراعا، ومن تقرب إلى الله ذراعا تقرب الله منه باعا، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة) ، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال! فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز. ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعرا أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئا، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا) ، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزا برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته. والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضا، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات. والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلة من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل. فإذا جئت للعبادة قائلا: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقا، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين. وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذر عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهل العبادة قولا وعملا واعتقادا، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزما لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال. فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائما -سواء نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقا مسددا، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (498) صـــــ(1) إلى صــ(28) شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [1] ينقسم القصاص إلى: ما يتعلق بالنفس، وما يتعلق بما دون النفس، ومما يتعلق بما دون النفس: القصاص في الأطراف؛ كاليد والرجل والعين والأذن ونحوها، فإذا جنى الجاني على المجني عليه بقطع شيء من ذلك قطع منه مثل الذي قطع سواء بسواء، وهناك شروط لابد من توافرها حتى يحكم بالقصاص في الأطراف. أقسام القصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس] . ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، والتي قصد بها أن يبين أن هذا الموضع مختص بالقصاص فيما دون النفس، وقد تقدم معنا أن القصاص ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالقصاص في الأنفس، وذلك بالاعتداء على الأرواح بإزهاقها. القسم الثاني: يتعلق بالقصاص فيما دون النفس. والذي دون النفس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية على الأطراف، ويكون القصاص في الأطراف. القسم الثاني: أن تكون الجناية في غير الأطراف من الجروح والكسور ونحو ذلك. فإن كانت الجناية في الأطراف فتنقسم إلى قسمين أيضا: الأول: أن تكون الجناية على الأطراف بقطعها وبترها، مثل أن يقطع يده، أو يقطع رجله، أو يقطع أذنه، أو يفقأ عينه، ونحو ذلك. الثاني: أن تكون الجناية على الطرف بإتلاف منفعته، مثل أن يجني عليه فيضربه ويلطمه لطمة تذهب نور بصره، فلا يبصر ويصبح كفيف البصر، أو يزول الإبصار من إحدى عينيه دون الأخرى، فهنا العين موجودة، ولكن الجناية أثرت في منفعة العين وهي الرؤية، أو يضربه على أذنه فيذهب السمع والأذن موجودة، فالطرف لم يتضرر ولم يذهب بل هو موجود، ولكن الجناية أثرت في منفعة هذا الطرف، فهذا مجمل الجنايات. فالمصنف رحمه الله بعد أن فرغ من بيان القصاص في النفس أراد أن يبين القصاص فيما دون النفس، وهذا ترتيب منطقي عند العلماء، وهو التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وهذا له دليل من الكتاب، فإن الله تعالى يقول: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة:45] ، فابتدأ الله بالأنفس، ثم بعد ذلك بالأطراف، فابتدأ بما هو أعظم. ومن هنا سلك الفقهاء رحمهم الله هذا المسلك، فابتدءوا بالقصاص في النفوس، وبيان متى يجب القتل قصاصا ويثبت القود لمستحقه، ثم بعد ذلك شرعوا فيما يتعلق بالأطراف والجنايات بالجروح، والله عز وجل جاء بالثلاثة الأنواع فقال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فجعل القصاص في هذه الأمور إما في النفس، وإما في الأطراف، وإما في الجروح، وهذا من بديع القرآن، وهو تدرج من الأعلى إلى ما هو أدنى منه. فالمصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا في هذا الموضع القصاص في الأطراف وفي الجروح، فقال رحمه الله: (باب القصاص فيما دون النفس) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بثبوت القصاص في الجناية إذا كانت لا تصل إلى حد إزهاق النفس، ويستوي في ذلك أن تكون جناية بإتلاف الأطراف أو منافعها، أو جناية بالكسر، أو جناية بالجروح. ما يقاد به في النفس يقاد به في الأطراف والجراحات قال رحمه الله تعالى: [من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح] . هذه قاعدة في القصاص في الأطراف، وعلى هذا فلا بد من وجود -أولا- العمد والعدوان، فلا نحكم بالقصاص على رجل قطع يد رجل إلا إذا كان القاطع قاصدا للجناية وقاصدا للإتلاف. فلو أن شخصا أغلق باب بيته ولم ينتبه لمن كان واقفا، فقطع الباب يد رجل، فهذا خطأ لا قصاص فيه؛ لأنه ليس هناك موجب القصاص وهو العمد العدوان، وقد تقدم معنا هذا، وبينا متى تكون الجناية عمدا، ومتى تكون خطأ، ومتى تكون شبه عمد، وبينا الضوابط في هذا من خلال الأدلة النقلية والعقلية. ولو جنى عليه جناية أضرت بالطرف أو منفعته، أو أوجبت جرحا أو كسرا، فإننا لا نحكم بالقصاص إلا إذا كان الجاني مكلفا، فلو أن مجنونا أقدم على ضرب شخص فقطع رجله، أو قطع يده، أو فقأ عينه، أو قطع أذنه فلا قصاص؛ لأن المجنون غير مكلف، ولو أن صبيا اعتدى على بالغ فقطع رجله، أو قطع يده، فعمد الصبي والمجنون خطأ، وقد تقدم معنا هذا. وكذلك يشترط أن يكون المجني عليه معصوما، فإذا قطع المسلم يد المسلم عمدا عدوانا قطعت يد الجاني، وإذا قطع أذنه قطعت أذنه، ولو أن كافرا قطع يد مسلم عمدا عدوانا قطعت يده، ولو أن رقيقا قطع يد الحر عمدا عدوانا قطعت يده، على تفصيل عند الفقهاء رحمهم الله. فما تقدم معنا في شروط القصاص في النفس كذلك هو شرط في القصاص في الأطراف والجروح، فلابد من وجود العصمة للمجني عليه، ووجود التكليف في الجاني، وقصد العمد والعدوان في الجناية، وألا يكون المجني عليه بعضا مثلما ذكرنا، وألا يوجد موجب لسقوط القصاص، وبناء على ذلك: لو أن امرأة قطعت يد رجل قطعت يدها، ولو أن رجلا قطع يد امرأة قطعت يده، ولو أن جماعة قطعوا يد رجل ظلما وعدوانا، واشترك الجميع في فعل القطع قطعت أيديهم، لكن لو أن أحدهم قطع أصبعا، والثاني قطع الأصبع الثاني، والثالث قطع الأصبع الثالث، والرابع والخامس. قطعنا من كل واحد مثل الأصبع الذي قطعها. إذا: لابد من وجود الأصول التي قررناها في القصاص في النفس، واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بثبوت القصاص؛ لأن الله عز وحل شرع لعباده القصاص، وهذه الشرعية من الله سبحانه وتعالى جاءت بغاية العدل الذي تمت كلمة الله عز وجل به كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] . فلا بد من تحقق هذه الأمور لكي نوجب القصاص في الجناية على الأطراف، مثلما قررنا في الأنفس كذلك نقرر في الأطراف. قال رحمه الله: [ومن لا فلا] . أي: لو أن والدا قطع يد ولده، لم تقطع يد الوالد، كما أنه إذا قتله لم يقتل به، على التفصيل الذي تقدم معنا، ولو أن مسلما قطع يد كافر لم تقطع يد المسلم؛ لأن الذي قطعت يده ليس بمعصوم. قال رحمه الله: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس] . أي: ولا يجب القصاص إلا بما يوجب القود في النفس، وقصده في الأول من جهة الأفراد، وفي الثاني من جهة الشروط، من وجود العصمة، وثبوت الجناية العمد العدوان، والمكافأة. إلى غير ذلك مما ذكرناه في القصاص في النفس. القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وهو نوعان: أحدهما في الطرف] . أي: القصاص فيما دون النفس نوعان، وهذان النوعان منتزعان من القرآن؛ لأن القرآن قسم الجناية على ما دون النفس إلى قسمين: الأول: جناية على الأطراف. الثاني: جناية على الجسد بالجروح والشجاج والكسور، وجمع الله النوعين في قوله: {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة:45] فمن قوله تعالى: (والعين بالعين) يبدأ القصاص في الأطراف، ثم قوله تعالى: (والعين بالعين) ، جمع فيه الجناية على العين بالذات، والجناية على منفعتها بإذهاب البصر، ومن هنا يقتص بإتلاف العضو قائما، وإتلاف منفعته، على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى. القصاص في ذهاب العين كلها أو منفعتها قال رحمه الله: [فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن والشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر كل واحد من ذلك بمثله] . قوله: (فتؤخذ العين) أي: فتؤخذ العين بالعين؛ لأن الله تعالى يقول: {والعين بالعين} [المائدة:45] ، فالعين الأولى عين الجاني، تؤخذ بالعين الثانية التي هي عين المجني عليه، فالله عز وجل أوجب علينا أن نفقأ عين الجاني كما فقأ عين المجني عليه، وأن نتلف بصر عين الجاني كما أتلف بصر عين المجني عليه، وأن يكون هذا على سبيل المماثلة بالشروط التي سيبينها المصنف رحمه الله، بما يتحقق به العدل وتتحقق به المساواة، وأن لا يكون فيه جور ولا ظلم. والعين: العضو المعروف، ويستوي أن تكون العين المقتص منها مماثلة للعين وغير مماثلة، فالعين الكبيرة بالعين الصغيرة، والعين الصغيرة بالكبيرة، والعين الجميلة بالعين ناقصة الجمال، والعين الكحلاء بالزرقاء، والزرقاء بالكحلاء، وتؤخذ العين بالعين على العموم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، لكنه مقيد بضوابط تتحقق بها المساواة ويحصل بها التماثل. فإذا جنى الجاني على عين المجني عليه كلا، فقلع العين كلها، قلعت عينه كما قلع عين المجني عليه، بشرط أن يؤمن الحيف، على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله في الشروط. ولو أنه ضربه ضربة أذهبت منفعة العين وأبقت العين، مثل اللطمة، ففي هذه الحالة يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، ومن العلماء من قال: يلطم، فإن ذهب نور بصره حصل العدل، وإن لم يذهب نور بصره أذهب هذا النور بالعلاج، فيقطر في عينه من الدواء ما يذهب نور البصر، كما أذهب نور بصر غيره. وهذه المسألة فيها قضاء عن الصحابة وشبه إجماع؛ لأنه لم يخالف فيها أحد، وحاصله: أن عثمان رضي الله عنه كان عنده مولى، فجاء رجل من الأعراب بجلب إلى السوق يريد أن يبيعه، فأخذ وأعطى مع هذا المولى، وكان المولى شديدا، فوقعت بينهما خصومة، فقام المولى وضرب الأعرابي ضربة أذهبت نور عينه، وأضرت بالمنفعة والعين قائمة، فوصل الخبر إلى عثمان رضي الله عنه، فنادى الأعرابي، وعرض عليه أن يعطيه ضعف الدية حتى يسامح ويتنازل، فأصر الرجل على حقه، فلما أصر على حقه رفعهما إلى علي رضي الله عنه، فأمر علي أن تحمى حديدة فأحميت، وأمر أن تكف العين الثانية التي هي خارج الجناية وأن تستر، ثم وضع الحديدة أمام العين حتى سالت وذهب بصرها، ففعل به مثلما فعل بالجاني من إذهاب بصره. وهذا الفعل من علي رضي الله عنه شبه إجماع لم ينكره أحد من الصحابة، وهو خليفة راشد وبمحضر عثمان رضي الله عنه، وفي حال حياته، ولم ينكره أحد. ولذلك فبعض الفقهاء يقول: إنه إذا لطمه وأذهب بصر العين فإنه لا يلطمه؛ لأن اللطم لا يؤمن معه الحيف، واللطمة عن اللطمة تختلف، ولا نستطيع أن نضبط اللطمة بقدر تتحقق به المساواة، فقالوا: في هذه الحالة ذهاب المنفعة، فنذهب منفعة عينه كما أذهب منفعة عين أخيه. فمنهم من قال بالدواء، مثلما ذكر بعض الأئمة من تقطير الكافور ونحوه مما يذهب البصر، ولكن يشترط إذا عولجت العين بالدواء ألا يؤذي هذا الدواء داخل البدن؛ لأنه زيادة على الجناية فلا يجوز. وفعل علي رضي الله عنه أخرج الأمر عن الإشكال؛ لأنه جاء بالحديدة محماة ثم وضعت أمام العين حتى سالت وذهب نور الإبصار فيها، وما أحرق بها العين، وحينئذ تلافى الضرر بتقطير الدواء؛ لأن تقطير الدواء لا يؤمن معه الضرر كما لا يخفى. وعلى هذا انعقدت كلمة الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا يعرف مخالف لـ علي رضي الله عنه في هذا، ولـ عثمان في سكوته على هذا القضاء. ويستوي في ذلك أن تكون العين المجني عليها قوية الإبصار والجانية ضعيفة، أو العكس، فتؤخذ العين قوية الإبصار بالعين الضعيفة، ما دام أنه يبصر بها، ومنفعة الإبصار موجودة، فتؤخذ منفعة عينه كما أخذ منفعة عين أخيه، هذا بالنسبة للعين. القصاص في الجناية على الأنف قوله: (والأنف) الأنف: هو العضو المعروف في الوجه، فلو جنى على الأنف جناية فقطع بها الأنف، كما لو اختصما فأخذ الجاني سكينا فقطع أنف الآخر، والقطع يكون لما لان من الأنف وهو المارن، فإذا جدع الأنف وقطعه جدع أنفه بأنف أخيه، لقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف} [المائدة:45] . ويستوي في ذلك أن يكون الأنف كبيرا وأنف المجني عليه صغيرا، أو أن يكون الأنف طويلا والآخر أفطس أو قصيرا، فما دام أنه قد أخذ هذا العضو وجدعه من أخيه جدع أنفه، سواء ماثله في صفات الكمال أم لم يماثله، ولو كان المجني عليه لا يشم بأنفه، فحاسة الشم عنده غير موجودة، وجاء جان فقطع أنفه، والجاني يشم وحاسة الشم عنده موجودة، فيقطع أنفه؛ لأن العبرة بالجرم، ومسألة أن يشم أو لا يشم أمر متعلق بالدماغ في تلك المنفعة، لكن الجناية وقعت على الطرف نفسه، فمادام قد قطع الأنف يقطع أنفه، بغض النظر عن كون الأنف المقطوع يشم به أو لا يشم، وإنما المراد أنه مثل بأخيه المسلم، ثم إنه إذا قطع أنفه لم تذهب حاسة الشم من كل وجهه؛ لأن حاسة الشم متعلقة بالدماغ، فيقطع أنفه كما قطع أنف أخيه، ويجدع أنفه كما جدع أنف أخيه. وهذا لقوله تعالى: {والأنف بالأنف} [المائدة:45] ، فأمر الله بالقصاص في الأنف، سواء استوى الأنفان في الطول والقصر -كما ذكرنا- أم اختلفا، فكما أنه أزال العضو بكامله يزال عضو الأنف منه بكماله وتمامه. الأذن والخلاف في القصاص بالمتحشفة قوله: (والأذن) أي: يجب القصاص في الأذن، فتؤخذ أذن الجاني إن قطع أذن المجني عليه، وذلك لقوله تعالى: {والأذن بالأذن} [المائدة:45] ، فأمر الله بالقصاص في طرف الأذن، وأوجب علينا أن نقطع أذن الجاني كما قطع أذن المجني عليه، سواء اتفقت صفات الأذن طولا وقصرا وجمالا ونقصا في الجمال أم اختلفت. ولكن عند العلماء خلاف في الأذن المتحشفة، وهي التي تيبست من المرض حتى صارت مثل خسف التمر، فإذا جنى الجاني على أذن متحشفة، وأذن الجاني سليمة، فهل تقطع أذن الجاني أو لا؟ في ذلك وجهان للعلماء رحمهم الله تعالى: فمنهم من قال: إن كونها متحشفة لا يمنع منفعة السمع؛ لأن صوان الأذن يحفظ الأصوات ويعين على السماع، فقطع أذن الجاني مثلما قطع أذن المجني عليه؛ لأن المعنى فيهما واحد، وهذا في الحقيقة أقوى الوجهين وأصحهما وأولاهما بالصواب إن شاء الله؛ لأن العبرة بصوان الأذن كما لا يخفى، وهذا معروف؛ لأن الأذن إذا تحشفت يبست، ولكن الجرم موجود والسماع موجود، والانتفاع بالمتحشفة موجود كالانتفاع بغير المتحشفة. وكما أننا نقتص من صاحب الأذن الكبيرة بالأذن الصغيرة لوجود الخلقة، فالمتحشفة في حكم الأذن الصغيرة، ولكن المنفعة موجودة وهي السماع، ولأن الله عمم فقال: {والأذن بالأذن} [المائدة:45] ، وهذا عام يدل على أننا نقتص ممن قطع الأذن على الصفات التي ذكرناها. فإذا نظرنا إلى الأذن ففيها منفعة وهي السمع، وفيها الجرم والذات المتعلقة بالطرف، فإذا كانت الجناية على طرف الأذن أخذت أذن الجاني بأذن المجني عليه. القصاص في الجناية على السن قوله: (والسن) . أي: وتؤخذ السن بالسن، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن الربيع بنت النضر رضي الله عنها وعن أبيها، اختصمت مع امرأة فاعتدت على سنها، فبلغت القضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنس بن النضر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: كتاب الله القصاص -أي: تكسر ثنية الربيع كما كسرت ثنية أختها في الإسلام-، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه: لا والله لا تكسر ثنية الربيع، -قالها من محبته، والإنسان تدركه الشفقة، وقد كان رجلا صالحا، ومن خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمع من الله أن لا تكسر ثنية الربيع - فتنازل أهل المجني عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فما ذهبت يمينه. فالشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، والله يقول في كتابه: {والسن بالسن} [المائدة:45] . وعلى هذا فلو أنه اعتدى على سن أو أكثر فقلعها من المجني عليه قلع مثلها من الجاني، وأخذ بجنايته مثلا بمثل، كما أمر الله تعالى. القصاص في الجناية على الجفن والشفة قوله: [والجفن] أي: جفن عين الجاني يؤخذ بجفن عين المجني عليه، فنأخذ من الجاني جفنه، ولو أنه اعتدى فقطع الجفن الأعلى والجفن الأسفل من المجني عليه قطعنا من عينه مثلما قطع، وهذا -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وكما يقع القصاص في الطرف كاملا يقع في جزء الطرف، فلو أن الجاني قطع يد المجني عليه كاملة من المنكب، فإننا نقطع يد الجاني من مفصل الكتف، مثلما قطع يد المجني عليه. ولو أنه قطع جزء اليد فقطع الأصابع قطعنا أصابعه، ولو قطع من مفصل الكف مع الساعد قطعنا يده من مفصل الكف مع الساعد، ولو أنه قطع من مفصل المرفقين قطعنا من مفصل المرفقين، فيكون القصاص في كل الطرف وفي جزء الطرف، لكن بشرط أمن الحيف -كما سيأتي-، ويكون له موضع يمكن أن تتحقق به المساواة ويتحقق به العدل. قوله: [والشفة] أي: لو أنه قطع شفة المجني عليه السفلى أو العليا قطعنا شفته السفلى إن كانت الجناية في السفلى، وإن كانت في العليا قطعنا العليا، وإن قطعهما قطعناهما منه، مثلا بمثل سواء بسواء؛ لأن الله أمرنا بالقصاص، فلما ذكر الله عز وجل العين والأنف والأذن والسن نبه بما ذكر على بقية الأعضاء، فلا يأتي شخص ويقول: القصاص في هذه الأعضاء المذكورة فحسب، فإن الله عز وجل ينبه بالمثل على مثيله، وبالشيء على نظيره وشبيهه، فكما أن الجاني إذا جنى على الأذن قطعنا أذنه، كذلك إذا جنى على اليد قطعنا يده، وإذا جنى على الرجل قطعنا رجله مثلا بمثل سواء بسواء؛ لأن الله قال: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، وقال: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فجعل الأمر راجعا إلى المقاصة والمماثلة، فكما أنها تقع في الأنفس تقع كذلك في الأطراف. القصاص في الجناية على اليد قوله: (واليد) أي: تقطع يد الجاني باليد وهي يد المجني عليه، وننظر في جنايته على اليد، فإن كانت على اليد كلا بأن قطع بالسكين يد المجني عليه من مفصل الكتف -والعياذ بالله- فإننا نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه، سواء أكانت يده طويلة أم قصيرة، وسواء كانت يده ذات قيمة أم لم تكن، كيد الصناع الذي له حرفة، فيده لها أثر ولها قيمة. فإذا قطع رجل أو ذو صنعة يد رجل لا صنعة له فقالوا: تقطع أيدي أصحاب الحرف بأيدي من لا حرفة له؛ لأن الإسلام سوى بينهم، وتقطع يد الجاهل بالعالم، وتقطع يد الوضيع بالشريف، والضعيف بالشريف، ويد القوي تقطع بيد الضعيف، عدلا من الله عز وجل، فمثلما فعل بأخيه يفعل به، وقد سوى الإسلام بينهما، فإذا قطعها كلا قطعت يده كلها، وإذا قطعها من مفصل يمكن القطع منه دون حيف وجور، قطع من مفصل الكف، وكذلك من مفصل المرفق، وهكذا. القصاص في الجناية على الرجل قوله: (والرجل) أي: تقطع الرجل بالرجل، فلو أنه اعتدى على رجل المجني عليه فقطعها من الكعبين، قطعنا رجله من الكعبين، أو قطع رجله اليمنى قطعنا رجله اليمنى، أو قطع رجله اليسرى قطعنا رجله اليسرى، مثلا بمثل سواء بسواء، سواء أكانت الرجلان على صفة واحدة طولا وقصرا أم لا، فلو كانت رجل الجاني طويلة ورجل المجني عليه صغيرة، قطعنا الرجل الطويلة بالصغيرة، والعكس؛ لأن المراد الاتحاد في العضو وقد حصل، والعدل يتحقق بأخذ هذا العضو بمثله ممن اعتدي عليه. القصاص في الجناية على الأصبع قوله: (والأصبع) : أي: ولو قطع الأصبع قطعنا أصبعه، فيقطع أصبع الجاني بأصبع المجني عليه، سواء أكان من أصابع اليد أم من أصابع الرجل، ولا بد من العدل في هذا، فإذا قطع الخنصر قطعنا خنصره بخنصر المجني عليه، ولو قطع البنصر قطعنا بنصره، ولو قطع الوسطى قطعنا الوسطى منه مثلا بمثل، ولو اجتمع جماعة -كما ذكرنا- فقطع بعضهم الخنصر والثاني البنصر والثالث الوسطى والرابع السبابة والخامس الإبهام، قطعنا من كل شخص مثلما قطع. فإن اجتمعوا كلهم وأخذوا حديدة، أو قاموا بتحريك جهاز كلهم اشتركوا في تحريكه وإدارة الفعل الذي يكون به قطع الرجل، فحسمت الرجل كلها، أو حسمت الأصابع كلها، أو حسمت اليد كلها، حسمنا من الجماعة جميعا أيديهم، وحسمنا أرجلهم مثلما يقع من الجناية على المجني عليه؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد ففعله موجب للقطع. وهذا كما ذكرنا في القصاص في النفس أن الجماعة لو اشتركوا في فعل لو انفرد الواحد منهم به قتل، فإنهم كلهم قتلة فيقتلون بالمقتول، وبينا دليل ذلك، والأصل في هذا قضاء الصحابة رضوان الله في السنة العمرية من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الراشد رضي الله عنه، وإقرار الصحابة على هذا. القصاص في الجناية على الكف والمرفق قوله: (والكف) أي: وكذلك الكف، والكف سمي كفا؛ لأنه تكف به الأشياء، وحد الكف من أطراف الأصابع إلى الزندين، فهذا يمسى كفا، وبطنه تسمى الراحة، فلو أنه قطع الكف قطعنا كفه، فإن قطع كف اليمنى قطعنا كفه اليمنى، وإن قطع كفه اليسرى قطعتا كفه اليسرى. وقوله: (والمرفق) سمي المرفق مرفقا؛ لأنه يرتفق عليه، أي: يتكأ عليه، والمرفق: هو مفصل الساعد مع العضد، فالعظم الذي بين زند الكف وبين العضد يقال له: الساعد، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكتف يقال له: العضد، فإذا قطع اليد إلى المرفقين قطعنا يده إلى المرفقين، وإذا قطعها إلى الكوع قطعناها إلى الكوع، وهكذا. قطع الذكر والخصية أو تعطيل منافعها قوله: (والذكر) إذا جنى عليه بقطع ذكره، فقد أجمع العلماء رحمهم الله كلهم على أنه يقتص من الجاني، فيقطع ذكره كما قطع ذكر المجني عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، وهذا بإجماع العلماء، كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني؛ أنه يجب القصاص بإجماع أهل العلم في قطع الذكر، سواء أقطعه كاملا مع الخصيتين، أم قطع العضو وحده دون الخصيتين، فيقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، فكما أنه جنى هذه الجناية على أخيه المسلم فإنه يفعل به مثلما فعل به. وقوله: (والخصية) كذلك لو أنه جنى على خصيته، فإذا جنى على خصيته فقطعها قطعنا منه مثلما قطع، وهذا كله بشرط أمن الحيف، أي: أن يكون القطع بطريقة يمكن أن يقتص منه فيها، ولا تكون هناك زيادة عند القصاص، أما إذا لم تؤمن الزيادة فلا، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في الشروط. ولو جنى عليه جناية في خصيته عطلت منافعه فأصبح عقيما، فيفعل به مثلما فعل بالمجني عليه إذا أمكن ذلك وأمن الحيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، وكذلك لو اعتدى عليه فعطل منفعة الذكر فأصبح لا ينتشر، فيفعل به من الدواء ما يمنع انتشار ذكره، فيستعمل منه مثلما استعمل من أخيه. القصاص في الجناية على الإلية قوله: (والألية) وكذلك لو أنه قطع إلية أخيه، فإنه تقطع إليته، ولو قطع الإليتان قطعت منه الإليتان، ويستوي أن يتفقا في حجم الإلية أو يختلفا، كما لو كان أحدهما سمينا ذا شحم فإنه يؤخذ النحيف بالسمين والسمين بالنحيف؛ لأن المراد المساواة في العضو، فما دام أن هذا الجزء قطع فيقطع من الجاني مثله، وهذا كله -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وهذه المواضع ليست كالكف، وليست كالمرفق لها مفصل معين، بل تحتاج إلى نظر في الجناية، والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء في تقرير المماثلة والقصاص. فإن قالوا: تمكن المماثلة حكمنا بالقصاص، وإن قالوا: لا يمكن، فحينئذ لها شأن آخر يأتينا إن شاء الله في حال عدم أمن الحيف. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
القصاص في الجناية على شفر المرأة وشرط اتحاد الجنسين في الأعضاء التناسلية قوله: (والشفر) الشفر في فرج المرأة، فإذا اعتدت امرأة على امرأة فقطعت شفريها قطع منها الشفران، ولو قطعت أحد الشفرين الذي هو جانب الفرج الأيمن أو الأيسر قطع منها مثلما قطعت من أختها، وهذا بالنسبة لاتحاد الجنس. أما إذا كان الجاني رجلا فلا يمكن أن يتحقق التماثل، ومثل هذا لا تستطيع أن تحكم فيه بالقصاص، فيشترط اتحاد الجنسين -أي الجاني والمجني عليه- بالنسبة للأعضاء التناسلية. ولكن هنا مسألة أخرى وهي: لو أنه اعتدت امرأة على خنثى مشكل، فإن الخنثى إذا أشكل فرجه فليس أصليا، وحينئذ فهناك نزاع بين العلماء رحمهم الله، أما إذا تبين وكان فرجا أصليا، فبعض العلماء يرى أن الخنثى إذا صار ذكرا صار الشفر وفرج الأنثى فيه عضوا زائدا، وحينئذ تأتينا مسألة قطع الأصلي بالزائد، والزائد بالأصلي، وسيكون تفصيله -إن شاء الله- في موضعه. وكذلك إذا استبانت أنثى وكانت الجناية على عضو الذكر فنفس الحكم؛ لأنها لما تمحضت أنثى وتبين أن الخنثى وجدت فيه علامات على كونه امرأة، فحينئذ عضو الذكر فيها زائد، فيكون كالجناية على العضو الزائد. وقوله: (كل واحد من ذلك بمثله) أي: يؤخذ كل واحد مما تقدم من العين والأنف والأذن والسن والذكر والخصية والإلية والجفن وغيرها مما ذكره رحمة الله عليه بمثله، وعلى هذا فلابد من اتحاد الأعضاء، فلا تؤخذ اليد بالرجل، ولا تؤخذ العين بالأذن، ولو كان المأخوذ أقل منفعة مما أخذ، فلابد من الاتحاد والتماثل، ولا يجوز اختلاف الموضعين، وهذا محل إجماع، فلو اعتدى على يده وكانت يدي الجاني مقطوعة بأن قطعت بعد الجناية، سقط القصاص؛ لأنه لا يمكن الاتحاد والتماثل. وكذلك لو اعتدى على رجله فقطعت رجله قبل أن يقتص منه، فلا يمكن القصاص، ولا يجوز أن يقتص من يده مثلا. ومن هنا قال رحمه الله: (كل واحد من ذلك بمثله) ، فلابد من وجود التماثل بين عضو الجاني وعضو المجني عليه. شروط القصاص في الأطراف قال رحمه الله: [وللقصاص في الطرف شروط] الشروط: جمع شرط، وهذه الشروط إذا وجدت حكمنا بالقصاص، وإذا فقدت أو فقد بعضها لا يحكم به. الشرط الأول: الأمن من الحيف قال رحمه الله تعالى: [الأول: الأمن من الحيف] معنى الأمن من الحيف أي: من الزيادة في القصاص على مقدار الجناية، والدليل على ذلك أن الله تعالى أوجب القصاص؛ كما نص على ذلك دليل الكتاب، ودليل السنة الصحيحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، ولا يمكن أن يتحقق القصاص مع وجود الزيادة؛ لأن الجاني حينها يكون مظلوما، ومن هنا قالوا: لو أنه قلع عينه، وغلب على الظن أننا لو قلعنا عينه بالطريقة التي قلعها الجاني أننا سنزيد ولا نأمن أن تحدث مضاعفات، وقد يموت الجاني، ففي هذه الحالة لا يقتص؛ لأن الجناية التي فعلها الجاني لا يمكننا أن نفعل مثلها بالجاني، وحينئذ لا يتحقق القصاص الذي أوجب الله عز وجل وفرضه. وعلى هذا إذا لم تؤمن الزيادة، ولم يؤمن الحيف، فإنه لا يجب القصاص. قال رحمه الله: [بأن يكون القطع من مفصل] . هذا تفصيل وتفسير لما تقدم، فالأمن من الحيف يتحقق بوجود نهاية للعضو المجني عليه، فيمكننا عند القطع أن نصل إليها، فإذا قطع كفه فعندنا مفصل الكف، وإذا جئنا نقطع كف الجاني فإننا نأمن الزيادة؛ لأن عندنا حدا واضحا نقف عنده، فحينئذ القطع فيه أمن من الحيف والزيادة، فيجب حينئذ القصاص ويثبت، ولذلك قال رحمه الله: [أو له حد ينتهي إليه] ، وذلك مثل أن يكون له مفصل كالكف والأصابع، فلو أنه أخذ أنملة من أصبع فإنه يمكن أن تؤخذ نفس الأنملة من الجاني؛ لأن لها مفصلا، فيمكن تحقق المساواة، وحصول العدل المطلوب بالقطع والبتر والإبانة من هذا المفصل. قال رحمه الله: [كما رن الأنف وهو ما لان منه] . أي: كما في مارن الأنف، فلو أخذه بسكين فجدعه جدعنا المارن من الجاني، وحينئذ يتحقق العدل وتحقق المساواة. الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع قال رحمه الله: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع] . أي: يشترط أن يتماثلا في الاسم ويتماثلا في الموضع؛ لأن أصل القصاص المساواة والتماثل، فإذا اختلف الاسم واختلف الموضع فإنه لا قصاص، فإذا أخذ الجاني يد المجني عليه اليسرى فيجب أن نأخذ يده اليسرى، وحينما يأخذها من مفصل الكف نأخذ من مفصل الكف، وهكذا. ولا يجوز أن تؤخذ اليسرى باليمنى ولا اليمنى باليسرى؛ إذ لابد من التماثل في الاسم والموضع. ولذلك قال رحمه الله: [فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين] . ولو أنهما تراضيا على ذلك، فنقول: لا، حتى ولو تراضيا، فلا تؤخذ اليد إلا بمثلها مستوية في الاسم والموضع؛ لأن موضع اليد اليمين ليس كموضع اليد الشمال، والجناية في موضع اليمين ليست كالجناية في موضع الشمال، وأخطر ما تكون الجناية في اليسار؛ لأنها جهة النزف للقلب، وأكثر المنافع في اليمين؛ لأن اليمين غالبا يكتب بها، ويتعاطى بها الأشياء المنتفع بها الصالحة والطيبة. فعلى كل حال موضع اليمين ليس كموضع اليسار، واسم اليمين ليس كاسم اليسار، فلا تؤخذ يد يسرى بيد يمنى ولا العكس. قال رحمه الله: [ولا خنصر ببنصر] : أي: ولا يؤخذ الخنصر بالبنصر، فلو قطع الخنصر - وهو الأصبع الصغير- من المجني عليه، فقال الجاني: اقطعوا بنصري، فنقول: لا يقطع إلا الخنصر الذي قطعت مثله، وسواء أوجد الخنصر أو أم يوجد، فإن لم يوجد الخنصر وقال: اقطعوا البنصر، فنقول: لا يقطع إلا ما قطعت، ولا يبتر إلا ما بترت، ولا يجدع إلا ما جدعت. قال رحمه الله تعالى: [ولا أصلي بزائد ولا عكسه] . هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فلو كان عنده أصبع زائد، فجاء الجاني وقطع الأصبع الزائد، فلا نقول: اقطعوا أصبعا من أصابعه؛ لأن الجاني ليس له أصبع زائد، والأصبع الزائد ليس كالأصبع الأصلي. ومن هنا تفرعت مسألة الخنثى المشكل، فقالوا: إنه إذا قطع من الخنثى المستبين الذكر شيء من فرج الأنثى وقطعته الأنثى، لم يقتص منها؛ لأنها لم تقطع عضوا أصليا، والشفر في حق الجانية شفر أصلي، وبناء على ذلك لو أننا حكمنا بالقصاص في هذه الحالة فقد ظلمنا الجانية؛ لأن المجني عليه لا ينتفع بهذا العضو، وليس هناك مساواة بين هذا العضو ومثله في الجاني. ومن هنا فرق بين العضو الزائد والعضو الأصلي، فلا ينظر إلى كونه عضوا أصبعا، أو شفرا، أو ذكرا فحسب، فإذا كانت أنثى فقطع منها الذكر فإنه لا يقطع الأصلي بالزائد، إذا فالجناية إذا كانت متعلقة بالزوائد يعدل فيها إلى الضمان. قال رحمه الله: [ولا عكسه] . أي: لو أن الجاني خنثى استبانت امرأة فقطعت ذكر رجل، فإن الذكر بالنسبة لها زائد، ولا يقال: إن القصاص تحقق من كل وجه، ولذلك لو بتر فلا تتحقق المساواة. قال رحمه الله: [ولو تراضيا لم يجز] . قوله هذا إشارة إلى خلاف بين العلماء، فقد قال بعضهم: إذا تراضيا جاز، كما أنه من حق المجني عليه أن يتنازل عن حقه، فلو جنى على أصبع أصلي فقال المجني عليه: اقطعوا الزائد، أو جنى على زائد فقال المجني عليه: اقطعوا الأصلي. وتراضيا على ذلك، فإنه جائز عند هذا الفريق من العلماء؛ لأن هذا حق المجني عليه، فإذا رضي جاز، ولكن اختار المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من العلماء أنه لا يجوز وإن تراضيا، والمنصوص عليه عند الجمهور أنه لا يؤخذ الأصلي بالزائد ولا الزائد بالأصلي. وبعضهم فرق وقال: إن أخذ الزائد بالأصلي فله وجه إذا رضي صاحب الأصلي؛ لأنه دون حقه، فإذا رضي به كان له ذلك. الشرط الثالث: استواء الطرفين في الصحة والكمال قال رحمه الله: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال] أي: الشرط الثالث، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب في القصاص المماثلة؛ لأنه إذا كان العضو الذي يقتص منه مماثلا للعضو الذي اعتدي عليه تحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالمقصود من القصاص: العدل بين الجاني والمجني عليه، ومن هنا اشترط الأئمة رحمهم الله اقتباسا من النصوص استواء الطرفين في الصحة والكمال، فلا يؤخذ طرف صحيح بطرف مريض، ولا يؤخذ طرف كامل بطرف ناقص؛ وذلك لأننا لو أخذنا طرفا كاملا بطرف ناقص فقد ظلمنا الجاني. فلو أنه اعتدى عليه فقطع يده، وكانت يد المجني عليه مقطوعة الأصابع، والجاني يده كاملة الأصابع، فإننا لو قطعنا يد الجاني فقد ظلمناه، ومن هنا لابد من وجود العدل في القصاص في الأطراف، كما يجب العدل في القصاص في الأنفس، ولذلك قال رحمه الله: (استواؤهما) أي: وجود التماثل، وعدم وجود التفاوت بين العضوين في القصاص في الأطراف. قال رحمه الله: [فلا تؤخذ صحيحة بشلاء] . أي: لا تؤخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء، واليد المشلولة مسلوبة الحركة، وهذا الخلل في اليد يقتضي نقصها، ومن هنا لو اعتدى على يد مشلولة فقطعها لم نقطع يده الصحيحة؛ لأننا لو قطعنا يده الصحيحة فقد ظلمناه؛ لأن الجناية التي فعلها لا تماثل ما نفعله به، ومن هنا لا بد من وجود العدل، فلا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء، كما لا تؤخذ رجل صحيحة برجل شلاء، ولا أصبع صحيحة بأصبع شلاء، فهذا من العدل، والدليل على هذا قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] ، وهذا يقتضي أن يكون هناك تماثل، وهذا أصل منتزع من قوله سبحانه وتعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن. [المائدة:45] إلى آخر الآية، فإن من تأمل هذه الآية الكريمة وجد أن المقصود العدل بين الجاني والمجني عليه، فإذا كان طرف الجاني المماثل للطرف المجني عليه أكمل، فإنه لا يمكن أن يتحقق العدل بقطع ذلك الطرف الكامل بالطرف الناقص. فلا تقطع يد صحيحة -أي كاملة- بيد شلاء، سواء أكانت مشلولة بكاملها أم كان الشلل في بعضها، وسواء أكان الشلل في أكثر اليد أم في بعض اليد، فلابد من وجود التماثل، ولكن لو اعتدى على يد مشلولة الكف، ويده هو مشلولة الكف، فإنه تؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، ويقتص منهما؛ لأن العدل يتحقق بهذا. قال رحمه الله: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] أي: ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، واليد الناقصة الأصابع تكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكون النقص في أصابعها خلقة، كأن خلقها الله عز وجل بثلاث أصابع، أو خلقها الله بأصبعين، أو خلقها الله بأربع أصابع، فهذا نقص في الأصابع خلقة. الضرب الثاني: أن تكون الأصابع موجودة في الأصل، ولكن قطعت أو بترت، كشخص قطع منه أصبعان في حادث، ثم جاء الجاني وقطع يده، أو قطع كفه، فإذا قطع كفه وكف الجاني كاملة الأصابع، فلا يمكن أن تقطع كف الجاني الكاملة الأصابع بهذه الكف الناقصة الأصابع، فيستوي أن يكون نقص الأصابع خلقة، أو أن يكون نقص الأصابع عارضا لحادث أو أمر اقتضى بتر هذه الأصابع، فإنه لا تؤخذ الكاملة بالناقصة. قال رحمه الله: [ولا عين صحيحة بقائمة] أي: ولا يجوز أن تؤخذ عين صحيحة يبصر بها صاحبها، سواء أكان إبصاره كاملا أم كان إبصاره ناقصا، بعين قائمة، وهي التي فيها البياض والسواد، ولكن صاحبها لا يبصر بها، ولا يعتبر في قيامها بالبياض والسواد من ناحية الشكل أنها تماثل العين الصحيحة؛ لأن عين الجاني فيها صفتان: كونها قائمة في الصورة والشكل، وكونه يبصر بها، فمنفعة العين موجودة غير مفقودة، وعين المجني عليه منفعتها مفقودة، فلو أننا قلعنا عين الجاني ظلمناه؛ لأنه قلع عينا ناقصة، ولا يمكن حينئذ أن يتحقق العدل لو قلعنا عينه؛ لأن الكامل لا يتحقق العدل فيه بالناقص، ومن هنا لا تؤخذ ولا تقلع العين الصحيحة بالعين القائمة، وهي التي لا يبصر بها صاحبها. وهكذا في العينين، فلو جنى الجاني على أعمى، وكانت عيناه قائمتين، فإنه لا يقتص من الصحيح المبصر؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق العدل، فلو اقتلعنا عين الجاني الصحيحة بعين المجني عليه القائمة فقد أخذنا كاملا بناقص، وهذا لا تأذن به الشريعة، ولذلك يعدل عن القصاص. قال رحمه الله: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] هذه حالة ما إذا كان الأمر عكسيا، بحيث تكون يد الجاني شلاء، وقطع يد المجني عليه وهي صحيحة، فحينئذ نقول: إن يد الجاني يد مشلولة، ويد المجني عليه يد كاملة، واليد الكاملة فيها صفتان: الصفة الأولى: صورة اليد وذاتها. الصفة الثانية: منفعة اليد، وهي كونه يحركها ويقوم بها. فالجاني وجد في يده أحد الأمرين؛ لأن الحركة غير موجودة في المشلولة، والعضو الذي هو ذات اليد موجود، فإذا رضي صاحب الحق -وهو المجني عليه- بقطع يد الجاني المشلولة، فإننا نقطع يده؛ لأنه رضي بالأقل، ومن حقه أن يرضى بهذا؛ لأن القصاص في مثل هذه الحالة يقتضي قطع يد فيها الصفتان، وهذا حقه كاملا، وللإنسان أن يأخذ حقه كاملا، وله أن يأخذ حقه ناقصا، وله أن يعفو، فلو قال: اقطعوا يده، فإني أريد أن يكون مقطوع اليد كما عذبني بقطع يدي؛ قطعنا يد الجاني. وكذلك لو كانت كفه مشلولة، واعتدى على ذي كف صحيحة، فقال صاحب الكف الصحيحة: أريد أن تقطعوا كفه، كما أنه بتر كفي، لأراه مبتور الكف فأشفي غليلي، قطعت كفه؛ لأنه وإن كانت كفه مشلولة لا يتحرك بها فالصورة قائمة في ذات اليد، والاعتداء على العضو كان صورة ومعنى؛ لأن المقصود من العضو المنافع، فإذا تعطلت المنفعة فلا يمنع أن يقتص الإنسان من الصورة وهي بعض حقه، ولذلك قال رحمه الله: (ويؤخذ عكسه) ، وهكذا لو كانت كف الجاني فيها ثلاث أصابع وكف المجني عليه فيها أربع أصابع، أو كف الجاني فيها أصبعان، وكف المجني عليه فيها ثلاث أصابع، أو كانت كف المجني عليه كاملة فيها خمس أصابع، وكف الجاني فيها أربع أصابع، أو كانت كف الجاني فيها بعض الأصابع مشلولة، فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا كفه كما قطع كفي، أعطي حقه، ووجب أن يقتص من الجاني، فيؤخذ الناقص من طرفه بالطرف الكامل؛ لأنه يجوز للإنسان أن يأخذ بعض حقه. وقوله رحمه الله: (ولا أرش) إذا اقتص من العضو الناقص في الجاني، فإن بعض العلماء قال: يضمن له الأرش، أي: أرش الفرق بين اليدين، فلو كان الأرش ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال، قطعت يد الجاني الناقصة، ويقال له: ادفع للمجني عليه الفرق بين اليدين وهو العشرة آلاف ريال، وستأتينا -إن شاء الله تعالى- مسائل الأروش، وسنبين كيف يرجع فيها إلى أهل الخبرة في تقديرها وضابطها. الأسئلة حكم استعمال المخدر حال القصاص في الأطراف السؤال: هل يجوز استعمال المخدر أو ما يسمى بالبنج عند القصاص في الأطراف؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فعند القصاص لا يجوز استخدام المخدر؛ لأن المجني عليه تألم بالقطع، فيجب أن يتألم الجاني كما تألم المجني عليه، فالجريمة مشتملة على الألم ومشتملة على الضرر، فالألم بالحسم ووجود الألم الذي تضرر به المجني عليه بعد الجناية، والحسم: هو قطع العضو، فإذا خدرناه وقطعنا يده حصل الحسم ولم يحصل الألم، والمقصود: أن يتألم كما تألم المجني عليه، فعندها يمتنع ويحرم على نفسه أن يقدم على قطع يد مسلم بعد ذلك. ولذلك قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179] ، فبين سبحانه وتعالى أن الأرواح تصان، وأن الأعضاء تحفظ، والأطراف تصان عن الاعتداء عليها بحصول الألم، فإذا ذاق مرارة الألم كما ذاق غيره، فإنه حينئذ يتحقق العدل، وثم شرع الله الذي كتبه الله عز وجل. ومن هنا فحصول الروع للجاني مثلما فعل بالمجني هو العدل، ولابد أن يتألم كما تألم المجني عليه، ولكن لو أنه أراد أن يقطع يد المجني عليه فخدرها ثم قطعها، خدرت يده، وفعل به مثلما فعل بالمجني عليه. والله تعالى أعلم. العدول إلى الدية حال تعذر القصاص الجواب هذا سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في الكلام على مسائل الديات ولزوم الأرش في حال تعذر القصاص. حكم المسح على الجورب السؤال ما حكم المسح على الجوارب التي نلبسها اليوم ولا ترى البشرة من خلالها، ولكن بلل الماء الممسوح ينفذ من حلال الجورب ويصل إلى البشرة؟ الجواب المسح على الجوربين سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين) ، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، لكن يشترط في الجورب -وهو الشراب- أن يكون ثخينا، وأما الرقيق فالصحيح أنه لا يمسح عليه، وهو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله تعالى. والدليل لمن قال بجواز المسح عليه هو: القياس على الثخين؛ لأنه ما كان موجودا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقيس على الثخين، والقياس في الرخص ضيق وضعيف، هذا أولا. ثانيا: أن هذا القياس مع الفارق، فإن الرقيق إذا مسحته كأنك تمسح ظاهر القدم، ومذهب مسح ظاهر القدم يمكن أن يكون أرحم وأفضل من مسح الرقيق. والثخين ينزل منزلة الخف؛ لأن الخف من الجلد ساتر حافظ للقدم، وأما الرقيق فإنه لا يستر ولا ينزل منزلة الجورب ولا منزلة الخف. وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يستبرأ لدينه، وأن يحتاط لدينه، خاصة أمر الصلاة، فإن أمرها عظيم، ومن هنا قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: إن الله فرض علينا غسل الرجلين بيقين، ولما جاءت أحاديث الخفين متواترة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها وانتقلنا إلى هذه الرخصة. وعلى هذا فكذلك لما جاءتنا رخصة الجوربين نقول: إنها جاءتنا بحديث صحيح بجوربين كانا ساترين لمحل الفرض، ولم تكن الجوارب كهذه الجوارب الموجودة الآن الشفافة الرقيقة، التي لو وضع الإنسان أصبعه لربما وجد حرارته على بدنه من رقتها، فهي حوائل ضعيفة جدا، لا تنزل منزلة الحوائل الثخينة في الجلد -كما في الخف- ولا في الجوربين. ومن هنا اشترط بعض العلماء أن يكون الجورب منعلا؛ لأن الرواية في الجوربين المنعلين؛ كل هذا تحقيقا لمماثلة الجورب للخف حتى يكون أشبه بالخف. وعليه فإنه لا يجوز المسح إلا على شراب ثخين لا ترى البشرة من تحته. والله تعالى أعلم. كيفية قضاء الفائت من ركعات الصلاة السؤال إذا دخل المصلي في الركعة الثالثة لصلاة العشاء، فهل يأتي بالركعتين المتبقيتين جهرا ويقرأ الفاتحة وسورة سواها، على أساس قضاء الركعة الأولى والثانية، أم يأتي بهما سرا ويقرأ الفاتحة فحسب، على أساس أنهما الثالثة والرابعة بالنسبة له؟ أثابكم الله. الجواب هذه المسألة الصحيح فيها أن صلاة المأموم مع الإمام هي الأولى، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أتموا) أي: ابنوا على صلاتكم مع الإمام. وعلى هذا يعتبر صلاته مع الإمام هي الأولى في الأقوال والأفعال، وأما رواية: (وما فاتكم فاقضوا) ، فيجاب عنها من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإن رواية الإتمام أصح، ومن رواة أقوى؛ لأنهم أصحاب الزهري رحمه الله، فهم الأوثق والأقوى والأضبط ممن روى القضاء. ثانيا: من ناحية المتن، فالقضاء يستعمل بمعنى الإتمام، ومنه قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] ، أي: أتمت، وقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة:200] ، أي: أتممتموها، ومن هنا قويت رواية الإتمام، وصارت هي الأصل؛ لاحتمال أن رواية القضاء جاءت بالمعنى، خاصة وأن رواتها أقل ضبطا من رواية الإتمام. وعلى هذا فالأرجح أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وعليه فإنك تصلي بركعتين لا تجهر فيهما في العشاء، وتصلي ركعتين لا تقرأ مع الفاتحة سورة كما في العصر؛ لأن الصحيح أنها لا تقاس على الظهر بقراءة سورة الإخلاص. والله تعالى أعلم. نية الغسل والوضوء داخل الحمام السؤال بالنسبة للنية للغسل أو الوضوء، إذا كانت المغسلة داخل دورة المياه، فهل يشترط أن ينوي قبل دخول الدورة، أو عند إرادة الشروع في الوضوء أو الغسل؟ الجواب النية ليست كلاما فيمتنع داخل الحمام، بل النية في القلب، ولا علاقة لها بداخل الحمام أو خارجه، فإذا كان يغتسل داخل الحمام فلا يضره أن ينوي الغسل أو ينوي الوضوء، فينوي في قرارة قلبه ويجزيه ذلك. والله تعالى أعلم. انتقاض الوضوء أثناء الغسل السؤال إذا توضأت قبل الغسل ثم غسلت البدن، وفي أثناء غسل البدن لمست الفرج أو خرج الريح، فهل يجب إعادة الوضوء عقب الغسل؟ الجواب من مس ذكره أثناء الغسل فغسله صحيح وترتفع جنابته، ولكن لا يصلي بهذا الغسل إلا إذا عمم بدنه بعد هذا اللمس، حتى يندرج الوضوء تحت الغسل أو توضأ بعد غسله؛ لأنه بلمسه للذكر انتقضت طهارته الصغرى دون طهارته الكبرى، فيشترط بعد لمسه للذكر أن يتوضأ وضوءا كاملا، أو يعمم بدنه بالماء. والله تعالى أعلم. استيعاب غسل الرجلين ثلاثا السؤال ما المراد بغسل الرجلين ثلاثا، هل استيعابها بالغسل ثلاث مرات، أم المراد ثلاث غرفات؟ الجواب المراد به الاستيعاب ثلاث مرات، وهذا هو الإسباغ، وذلك أن يتوضأ فيغسل رجليه ثلاث مرات، ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه ثلاث مرات، وأما رأسه فيمسحه مرة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة، فهذه هي السنة، ولأنه لو مسح رأسه ثلاث مرات لأصبح الرأس مغسولا؛ لأنه بتكرار المسح يصير في حكم المغسول، ومن هنا فرق بين مسح الرأس وبقية الأعضاء، فلا يشرع التثليث في مسح الرأس وحده. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الجنايات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (499) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [2] من أنواع القصاص فيما دون النفس: القصاص في الجراح، وهناك جراح يمكن فيها القصاص، مثل الموضحة التي توضح العظم، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، وهناك جروح لا يمكن القصاص فيها، ويرجع فيها إلى الأرش والضمان، وذلك مثل الشجاج كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، ويقتص من الجماعة إذا قطعوا طرف شخص أو جرحوه بما يمكن فيه القصاص. القصاص في الجراح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: النوع الثاني الجراح] القصاص فيما دون النفس إما أن يكون في الأطراف؛ كالعين والأنف والأذن والسن، وإما أن يكون في الجروح؛ لأن الجاني ربما قطع عضوا كاليد، وربما طعن بسكين، أو جرح بها، أو خدش بها، ولربما ضرب بحديدة فكسر العظم أو هشمه، فالجنايات فيما دون النفس على هذين النوعين، فإما جناية على الأطراف والأعضاء، وإما جناية بالجروح والكسور، والكلام هنا عن النوع الثاني وهو الجناية بالجروح، والجناية بالجروح يتبعها الجناية بالكسور. والجناية بالجروح كأن يأخذ سكينا فيضربه على كتفه، أو يأخذ سكينا فيضربه على عضده، أو يأخذ سكينا فيضربه بها في بطنه فتظهر جوفه وأحشاءه، وهي الجائعة، وربما ضربه على موضع من بدنه فتكون موضحة، وربما كانت مأمومة تبين أم الدماغ، وربما كانت الجناية على العظام بهشمها وهي الهاشمة، أو كسرها كسرا ينقل العظم وهي المنقلة، فهذه كلها جنايات في الجروح، وهذا من كمال الشريعة وسعتها، وعظمة هذا الدين في تفصيله لهذه الأشياء، ولذلك لم يقتصر في الجناية على وضع الضوابط العامة، دون دخول إلى تفصيلات، وبيان أنواع هذه الجنايات وأحوالها المختلفة، فرحمة الله على أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، الذين أظهروا مكنونات هذه الشريعة بفضل الله عز وجل الذي لا فضل إلا فضله وحده لا شريك له، والذي علمهم وفهمهم فبينوا هذه الأحوال والظروف. ما يقتص فيه من الجراح قال رحمه الله تعالى: [فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم] . أي: يتقص من الجاني في كل جرح ينتهي إلى عظم، وهذا مبني على أن الجناية بالجروح أضيق من الجناية على الأعضاء والأطراف، فإن الجناية على الأطراف والأعضاء يستطاع فيها أن يستوفى من الجاني حق المجني عليه؛ لأنه يستطاع تحديد موضع الجناية على الطرف وعلى منفعته، أما الجناية بالجروح فمقيدة، ولذلك لا يقتص فيها إلا بحدود، والسبب في هذا: أن الجناية بالجروح لا يؤمن معها الحيف، ولا تؤمن معها الزيادة. ومدار القصاص على العدل والمساواة، ولذلك يكون أمر القصاص هنا أضيق منه في القصاص في الأطراف، ولذلك قال رحمه الله: (فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم) ، وذلك مثل الجروح التي تكون في العضد، والجروح التي تكون في الساعد، والجروح التي تكون في الساق، ونحوها؛ لأنه يمكن ذلك، فلو قيل للخبير في القصاص أن يجرحه جرحا مثل الجرح الذي فعله بالمجني عليه لأمكنه ذلك، ولكن إذا كان في موضع لا ينتهي إلى عظم، والجناية إن لم تنته إلى عظم فلا تستطيع أن تحدد غور الجرح، بحيث تجرحه مثل جرحه، وتبضع اللحم مثلما بضع لحم المجني عليه، ومن هنا يضيق القصاص في الجروح ويكون صعبا؛ لأنه لا يؤمن معه الحيف، فإذا أراد المقتص أن يقطع مثل قطع الجاني فلن يستطيع أن يزن السكين، أو يزن القطع بنفس الوزن الذي وزنه به الجاني، أو يضربه نفس الضربة، أو يطعنه نفس الطعنة، والقاعدة أن كل ما لا يؤمن معه الحيف فإنه لا قصاص فيه؛ لأنه إذا لم نأمن الحيف فإننا لا نأمن التعدي، والأصل أن الجاني له حرمة، وإنما يؤخذ منه بقدر جنايته، فإذا لم نظمن أن نأخذ بقدر جنايته، فحينئذ لا يكون ظلمه للمجني عليه داعيا لنا أن نظلمه هو، وحتى يتحقق بين الطرفين فقد وضعوا ضابطا هو القصاص في الجرح الذي ينتهي إلى عظم. قال رحمه الله تعالى: [كالموضحة] . الوضوح: ضد الخفاء، ووضح النهار إذا بان ضوؤه، والموضحة: هي التي توضح العظم، كما لو وقعت خصومة بين الجاني والمجني عليه فأخذ السكينة -والعياذ بالله- فضربه على كتفه، فوجدنا أن الجرح الذي جرحه به أبان العظم وأوضحه، وما أضر بالعظم ولا كسره ولا هشمه، لكنه جرح يظهر العظم، فحينئذ انتهى الجرح إلى حد معين وواضح، فتستطيع أن تفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه، سواء أكان هذا في العضد، أم في الساعد، أم في الساق، فهذه كلها يمكن فيها الجرح مماثلا لجرح الجاني، فحينئذ يقدر الجرح ويسبر، ثم بعد ذلك يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [وجرح العضد] . العضد: ما بين مفصل المرفق إلى مفصل الكتف، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكف يقال له: الساعد، ومثل هذا يقع أيضا في جرح الساعد، فإنه إذا ضربه بالسكين على ساعده وأوضح العظم، وظهر العظم من ضربته، فيمكن أن يفعل به مثلما فعل بالمجني عليه. قال رحمه الله تعالى: [والساق] . الساق: ما بين مفصل القدم ومفصل الركبة، فلو أنه ضربه بسكين، أو بآلة جارحة فأظهرت عظم ساقه، ولم تؤثر في العظم؛ اقتص منه في الموضحة، ولو أنها هشمت العظم وكسرت عظم المجني عليه، فقال: أريد أن تفعلوا بالجاني موضحة، فإنه يقتص منه بالأقل؛ إذ لا يستطاع أن يكسر عظمه نفس ما كسر، فيقتص بالأقل، وسيأتينا هذا إن شاء الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [والفخذ] . أي: والفخذ كذلك، وعظم الفخذ ما بين مفصل الركبة ومفصل الورك الذي في الأعلى، وسواء ما أقبل منه أم أدبر، فإذا ضربه بالسكين عليه فأوضح عظم الفخذ فعل به مثلما فعل بالمجني عليه، واقتص منه موضحة. قال رحمه الله تعالى: [والقدم] . إذا أتت الجروح في نفس القدم من مفصل الكعبين إلى أطراف الأصابع، فإنها تنتهي إلى عظم، فلو جرحه جرحا أوضح عظم قدمه فعل به مثله، فلو كان جرحا طويلا جرحناه جرحا طويلا، ولو كان وضوح العظم في نصف الجرح أوضحنا عظمه في نصف الجرح، فخدشناه الخدش ثم أوضحنا فيه، ولو كان الوضح في نفس العضو كاملا فعل به مثلما يفعل بالمجني، سواء بسواء، والدليل على هذا كله قوله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة:45] ، فإن هذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم في القصاص في الجروح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقتص من الجارح إذا جنى على المجني عليه بجرح، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن القصاص يقع في الجروح كما يقع في الأنفس والأطراف. ما لا يقتص فيه من الجراح وأنواع جناياتها قال رحمه الله: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح] . تقدم معنا أن القصاص إما أن يكون في النفس، فيما دون النفس، والذي دون النفس: إما أن يكون في الأطراف -وقد ذكرنا مسائله-، وإما أن يكون في غير الأطراف، والذي في غير الأطراف يشمل: القصاص في الجروح، والقصاص في الشجاج، وهي جمع شجة، ويعبر بها عن الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه. ثم هذه الشجاج والجروح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يمكن فيه القصاص، وتتحقق فيه المماثلة، ويؤمن فيه الحيف، بمعنى أننا لو أردنا أن نمكن المجني عليه من فعل جناية بالجاني كجنايته عليه أمكن ذلك. القسم الثاني: أن يتعذر ذلك، بحيث يغلب على ظننا أننا لو أردنا القصاص فلابد من حصول الزيادة -التي هي الحيف-، أو عدم حصول التماثل، ومن هنا بين المصنف رحمه الله أن الموضحة، وجرح العضد، وجرح الساق، وسائر ما سمى رحمه الله أنه يقتص فيها، والموضحة -كما تقدم معنا- هي التي توضح العظم. ومن حيث الأصل فالجنايات إذا كانت جروحا ففي الجسم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: الجلد، والطبقة الثانية: اللحم، والطبقة الثالثة: العظم. فهذه ثلاثة مواضع تقع عليها الجنايات، وإذا حصلت الجناية على الجلد فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على اللحم فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على العظم فإنها -كذلك- تأتي على طبقات ومراتب. وبناء على هذا بين المصنف رحمه الله أنه لا يقتص في غير الموضحة، وهي التي توضح العظم، فإذا أوضحت العظم فمعنى ذلك أن الآلة وصلت إلى كشف العظم دون أذيته، فهذا النوع من الجنايات له حد ينتهي إليه، بخلاف جرح الجلد، وبخلاف جرح اللحم، فإنه ليس له حد ينتهي إليه. وتوضيح ذلك: أن الجناية غير الموضحة إما أن تكون أقل من الموضحة، وإما ان تكون فوق الموضحة. أما الجنايات دون الموضحة فأولها يسمى: بالقاصرة والحاصرة، وهي التي تقشر الجلد، ولا يخرج معها الدم، ثم يلي ذلك البازلة، ويقال لها: الدافعة، والبازلة: هي التي تكشط الجلد، ويخرج معها دم، فالجناية بها أقوى من الجناية الأولى، ثم بعد ذلك الباضعة، والباضعة: هي التي تنتهي من الجلد، وتدخل في اللحم، ولكنها لا تتوغل في اللحم، وإنما تجرح اللحم فتبضعه، ثم بعد ذلك المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم، ولكن لا تصل إلى العظم، ثم بعد ذلك السمحاق، والسمحاق: هي التي ليس بينها وبين العظم إلا القشرة الرقيقة. فهذه الجنايات الأول كلها قبل الموضحة، ولا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله. وبناء على ذلك: فلو اختصم اثنان، فجرح أحدهما الآخر بسكين، فكشط لحم جلده، ولم يخرج دم، فهي حاصرة، ولا قصاص فيها، ويعدل إلى الأرش، وفيها حكومة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- كيف تقدر، وكيف يعطى حقه في هذه الجناية. وإذا ضربه بالسكين، فنفذ من الجلد إلى اللحم، وغاص في اللحم، ولم يصل إلى العظم، فهي متلاحمة، أو قطع اللحم، ولكن ضربة السكين لم تدخل في اللحم، فهذه باضعة، وكلها لا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى. إلا أن بعض العلماء يرى القصاص في الباضعة، ويرى القصاص في المتلاحمة، ويرى القصاص في البازلة، التي تكشط الجلد ثم يخرج منها دم، وهو مذهب المالكية وأهل الرأي، وقالوا: إنه بالإمكان إذا جني على شخص جناية بمثل البازلة أن نقيس الجرح الذي جرح طولا، ونحدد مكان الجناية، ثم نبضعه، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وبهذا يمكن القصاص. والذي دعا الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم إلى منع القصاص في هذا هو قولهم: إنه يتعذر أو يصعب التماثل، ومن شرط ثبوت القصاص في الجروح: حصول التماثل وأمن الحيف، والناس يختلفون من حيث اللحم نحافة وسمنا، ثم طبيعة العضو طولا وقصرا، وهذا يؤثر في الجناية نفسها، ولا يمكن أو لا يستطاع -غالبا- أن يأتي القصاص مثل الجناية سواء بسواء، وإذا لم يؤمن الحيف سقط القصاص. وفي الحقيقة مذهب الحنابلة ومن وافقهم أقوى؛ إذ إن هذه الجنايات والجروح لا يؤمن معها الحيف في الغالب، خاصة لاختلاف أحوال الناس، ومن هنا فالأحوط مذهبهم الذي يقول: لا قصاص في هذه الأشياء. هذا بالنسبة لما هو أقل من الموضحة. وأما ما فوق الموضحة: فالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، فإذا دخلت الضربة في العظم وكسرته فقد هشمته، فالهاشمة توضح العظم وتهشمه وتكسره، والمنقلة -وهي فوق الهاشمة- توضح العظم، وتهشمه، وتنقله، فإذا جاءت الشجة في الرأس، أو في جهة الدماغ، وكسرت العظم ونقلته عن موضعه فهي منقلة، والمأمومة: وهي الدامغة التي تكسر العظم، وتنفذ حتى تظهر لنا خريطة دماغ الشخص، وتسميتها قديمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وفيها ثلث الدية، وهي أعلى أنواع الجنايات بالنسبة لما يتعلق بالرأس. فهذه الثلاث، وهي: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة؛ لا قصاص فيها، ويكاد يكون شبه إجماع على أنه لا قصاص فيها؛ لأننا لا نأمن الحيف، ولا يستطيع أحد أن يكسر عظما مثل كسر الآخر؛ لأن العظم إذا انكسر تهشم، ولا يمكن أن تكسره كسرا يساوي كسر الجاني، ومن هنا قالوا: يتعذر القصاص، ويمتنع الحكم به. وقد حفظ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه أنه قضى بالقصاص في المأمومة، وأنكر عليه الناس ذلك، وقالوا: ما عرفنا أحدا يقتص في المأمومة، وهذا الأثر اختلف فيه، وإن كان نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت عن عبد الله بن الزبير، فإن لم يثبت فالأمر واضح، والإجماع محكي على أنه لا قصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة، والسبب في هذا: أنه لا يمكن تحقيق المساواة، كما لا يؤمن الحيف والزيادة، وهذان عذران موجبان لسقوط القصاص. و (من) في قوله: (ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح) بيانية، والشجاج: جمع شجة، وهي التي تكون في الوجه، وتكون في الرأس، والجروح: هي التي تكون في سائر البدن، فبين رحمه الله تعالى أن القصاص فيما دون النفس، سواء أكان في الشجاج، أم كان في الجروح، لا يقتص فيه إذا كان على هذا الوجه الذي ذكرناه. القصاص في كسر السن قال رحمه الله: [غير كسر سن] . استثنى رحمه الله السن، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وكلهم متفقون على أنه لو قلع سن أخيه قلعت سنه، إذا أتلف السن كلية، فتتلف سنه كما أتلف سن المجني عليه، وتؤخذ نفس السن التي جنى عليها، سواء أكانت من الأضراس، أم كانت نابا، أم كانت غير ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {والسن بالسن} [المائدة:45] ، أي: كتبنا عليهم أخذ السن -وهي سن الجاني- بالسن، والباء للبدلية، أي: بدلا عن السن، وهي سن المجني عليه الذي ظلم بالاعتداء على سنه، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكانت السن زائدة، أم أصلية، فلو أنه جنى على سن زائدة في أخيه وقلعها، وهو له سن زائدة مثلها، فإنه تقلع سنه بسن أخيه، ولو قلع سنا أصلية من أخيه؛ فإنه تقلع منه مثل السن التي قلعها من أخيه، والدليل على ذلك ظاهر الآية، وما ورد في السنة في حديث أنس بن النضر في قصة الربيع رضي الله عنها لما كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) . أما إذا جنى عليه جناية دون القلع، فكسر له نصف سنه، أو كسر ربع سنه، ففي القصاص حينئذ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما وأقواهما أنه يقتص من سن الجاني بمثل وبقدر ما اعتدى على سن المجني عليه، بشرط أمن الحيف، فلو كسر سن المجني عليه، فقال الأطباء: هذا الكسر نصف السن، أخذ من سن الجاني بقدر ما جنى، وكانوا في القديم يبردونها بالمبرد الحديد، فيأخذون نصف السن بردا، أو ربعها، أو نحو ذلك على قدر جنايته. فالصحيح أنه يقتص من السن، والدليل على ذلك الحديث الصحيح في قصة الربيع، فإنها كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) ، فأمر بالقصاص، فدل على أن السن يقتص منها بأخذ جزء معادل للجزء الذي جني عليه. فإن كان الكسر على صفة لا نستطيع أن نفعل بالجاني قدرها، أو قال الأطباء: لا نأمن أن السن تتهشم، أو أن السن التي كانت في الجاني ضعيفة، بحيث لو بردت تكسرت وتشهمت، سقط القصاص وعدل عنه إلى الضمان. القصاص بموضحة في أعظم منها قال رحمه الله تعالى: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد] . أي: إلا أن تكون الجناية أعظم من الموضحة، وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو أنه جني عليه بجناية فوق الموضحة، وأراد أن يقتص بها موضحة، فهل يجوز له ذلك؟ المسألة الثانية: إذا اقتص وأذن بالقصاص، فهل يضمن الجاني الباقي ويدفع الأرش. فهاتان المسألتان اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه إذا جنى عليه جناية هشمت عظامه، أو نقلت العظم، فإنه يمكن جرحه موضحة، ثم يؤمر الجاني بدفع الفرق بين الموضحة وبين الجناية، فالموضحة فيها خمس من الإبل، فإذا كانت الجناية هاشمة ففيها عشر من الإبل، فيدفع خمسا من الإبل باقية عليه، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف رحمه الله. والدليل على ذلك: أنه جنى عليه جناية يتعذر القصاص فيها، فأخذ بعض حقه، وبقي له الآخر، كما لو قطع له أصبعين، فاقتص من أحدهما وأخذ قيمة الثاني، كما لو كان الأصبع الثاني مشلولا فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا منه مثل ما قطع مني، وآخذ أرش الباقي لي من الأصبع المشلول، فلا أريد القصاص فيه، فله ذلك، وبناء على ذلك فإن الأصل يقتضي أن يطالب بحقه كاملا، وهو القصاص، فلما تعذر أن يأخذ بالقصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة لما ذكرناه كان من حقه أن يقتص موضحة. لكن هناك ملاحظة دقيقة لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم في هذا، حاصلها أنه يقول: إن هذه المسألة ينبغي أن يفرق فيها بين الهاشمة والمنقلة إذا كان معهما جرح وإذا لم يكن معهما جرح؛ لأن الهاشمة قد تهشم عظامه دون جرح، كأن يضربه بحديدة فتتهشم العظام ولا يحصل جرح، وحينئذ فالجناية في العظم، وليست في الجلد، وكذلك المنقلة فقد ينتقل العظم بالضرب بدون جرح، فلو فصل بين ما إذا كانت الجناية قد جرحت، وأوضحت، ثم هشمت أو نقلت، وبين أن يكون الهشم أو النقل بدون جرح؛ لأن الجرح فيه إيلام زائد على الجناية؛ لأن الجناية قد تكون بالضرب والرض فقط، وفرق بين الجرح وبين الرض. وهذا الملحظ أستسيفه, وأرى له قوة ووجاهة؛ لأن أصل القصاص المماثلة، ومن هنا فلو ضربه بحديدة، فلم تجرح، ولكنها كسرت العظام فهشمتها، أو كانت الجناية منقلة نقلت العظام ولكنها لم تجرح، فحينئذ لو حكمنا بجرح الجاني فمعنى ذلك أننا آلمنا الجاني بغير جنايته؛ لأن جنايته بالرض، وليست بالجرح، فالأشبه أن ينبه على هذا، ويفرق بين أن تكون المنقلة والهاشمة بجرح الجلد واللحم والنفوذ إلى العظم، وبين أن تكون رضا بدون جرح. القصاص من الجماعة بالواحد في الأطراف والجروح قال رحمه الله تعالى: [وإذا قطع جماعة طرفا، أو جرحوا جرحا يوجب القود، فعليهم القود] . هذه المسألة فيها نفس التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص من الجماعة، والحاصل: أنه إذا اعتدى على الشخص جماعة، فلهم صورتان، والكلام عن إحداهما: وهي إذا كان فعل كل واحد منهم جناية لوحده، بحيث لو انفرد لحصل به القطع، ومن أمثلة ذلك: أن يعتدي ثلاثة أشخاص على شخص، فيقوم أحدهم ويجرحه موضحة في آخر رأسه، ثم يضربه الثاني موضحة في منتصف الرأس، ثم يضربه الثالث موضحة في وجهه، فهذه ثلاث جنايات من جماعة، فيقال له: افعل بكل واحد مثل ما فعل بك في نفس الموضع الذي ضربك فيه، فالأول يقتص منه موضحة في آخر الرأس، والثاني يقتص منه موضحة في منتصف الرأس، والثالث يقتص منه موضحة في وجهه، ولو أراد أن يقتص من بعضهم ويعفو عن بعضهم، أو يقتص من بعضهم، ويأخذ الدية من بعضهم، فذلك من حقه، فلو قال: فلان أقتص منه، وفلان أريد منه المال، وفلان عفوت عنه لوجه الله تعالى؛ فله ذلك، كما لو اعتدوا عليه متفرقين. وبناء على ذلك: فإذا اعتدى عليه جماعة، فإننا نظر إلى فعل كل واحد منهم، وإذا كان فعلهم جميعا في موضع لو انفرد كل واحد منهم بالفعل لأبان ذلك الموضع، فإنه يثبت القصاص على كل واحد منهم منفردا مستقلا، كما تقدم معنا تفصيله في القتل. فالخلاصة: أن الجماعة يقتص منهم، وهذا هو الذي جرى عليه عمل السلف، ونصوص الشريعة تدل عليه. أما عمل السلف: فإن عمر بن الخطاب لما قتل جماعة رجلا باليمن أمر بقتلهم، وقال قولته المشهورة: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم) ، فلا يفرق بين أن تكون الجناية على الواحد من شخص أو أشخاص، وأما نصوص الشريعة فعموم الكتاب في قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص} [البقرة:178] يدل على أنه يقتص من الجاني، وهؤلاء كل واحد منهم جان، وكل واحد منهم يوصف بكونه في فعله جانيا، فيمكن المجني عليه من أخذ حقه من كل واحد بحسبه، وهذا هو المذهب الصحيح، والذي دلت عليه الأدلة، واقتضته قواعد الشريعة، ولو أننا لا نقتص من الجماعة فما على المجرمين-إذا أرادوا أن يفعلوا جريمتهم- إلا أن يفعلوها مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وبهذا يحصل الشر والبلاء على الأمة، فقطع الله دابر أهل الفساد، فجعل كتابه وشرعه وحكمه: القصاص من الظلمة والجناة مجتمعين ومنفردين. الأسئلة السؤال هل تسن تعزية أهل القاتل إذا اقتص منه؟ حكم تعزية أهل المقتول قصاصا الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيجوز تعزية أهل القاتل؛ لأنه لا ذنب لهم، والمسلم يعزى في مصيبته، والأصول الشرعية دالة على مواساة المسلم لأخيه المسلم، فيشرع إذا قتل القاتل أن يعزى أهله في مصيبتهم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، وكونه يجني هذه الجناية لا يقتضي إسقاط حق أهله، فواجب على المسلم أن يعزي أخاه المسلم في مصيبته، وهكذا بالنسبة لأهل الجرائم، فلو كان قتل في جريمة المخدرات أو نحوها، فيشرع أن يعزى أهله، فما دام أنه من المسلمين فإنه يشرع تعزية أهله فيه، وبعض الناس يظن أنه إذا قتل في مخدرات، أو قتل في قصاص، أو في جريمة؛ أنه لا يزار أهله ولا يعزون. وبعضهم يبالغ في هذا فيقول: مثل هذا لا تعزونا فيه. وهذا لا يجوز شرعا؛ لأنه إذا أقيم الحد على العبد طهر من ذنبه، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على المرأة التي زنت تكلموا فيها، وتكلموا في ماعز حينما أقيم عليه الحد رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام في ماعز: إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة) ، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، ويدل على أن من أعظم نعم الله على الإنسان ألا يشتغل بالناس، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة عظيمة في كتابه الفوائد -وكلامه رحمة الله عليه درر- قال: (أخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه) . فأخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله فجلس في الشهوات والملهيات يلذذ نفسه، ونسي ربه -والعياذ بالله- فاشتغل بنفسه عن الله، فهذا على الأقل متع نفسه، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه، فقد يبدأ الإنسان بغيبة الناس حسبة أو طاعة أو قربة فيزل لسانه، ثم يستدرج حتى تصبح الغيبة في لسانه تأكل من حسناته ما لم يخطر له على بال، ولذلك فالاشتغال بالناس لا خير فيه، ومن هنا قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} [الحجرات:11] . ولما تكلم بعض الصحابة في الذي شرب الخمر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: فلان تقطر لحيته خمرا، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) ، فظاهره ذنوب وخطايا ولكنه مبتلى، وعندها شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله. عليك نفسك فاشتغل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس ولذلك ترى الرجل الصالح التقي الورع شغلته ذنوبه، وألهته عيوبه، وأقبل على نفسه فاستكمل نواقصها، وقال: أنا المسيء، وأنا المذنب، وأنا الذي عندي عورات، وأنا الذي عندي سيئات. وأذكر أن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان لا يجلس أحد عنده فيذكر أحدا بسوء إلا نفر وقام كالأسد، فإما أن يطرده، وإما أن يوبخه، وإما أن يسكته، ويقول له: أنا الذي عندي العيوب، ونحن المخطئون، ونحن المذنبون، فدع الناس عنك، ومع ذلك تجده في نعمة محبوبا من الناس، ومقربا من الناس، ومهابا عند الناس، ومحفوظ العرض بين الناس، وفي الحديث: (قيل: يا رسول الله! من المسلم؟ قال: الذي سلم المسلمون من لسانه ويده) . وكثيرا ما يجر الإنسان بسبب الغرور، فإذا التزم نسي أنه لا حول له ولا قوة، ثم يبدأ بنفسه وكأنه قد وصل إلى أعتاب الجنة بل إلى درجاتها العلا، ثم يبلغ به الشيطان استدراجا وأخذا حتى يقف على أبواب الجنة -والعياذ بالله- ليدخل من شاء ويخرج من شاء، فهذه زلات القدم، ولذلك على الإنسان أن يتفقد نفسه، ومن سرته حسنته وأبكته أو ساءته سيئته، فهذا هو المؤمن الحق. فمن نعم الله على العبد، بل من أجل النعم أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه وإلى خطاياه، ويزدري نفسه في جنب الله عز وجل، وعندها إذا سمع عن مؤمن أو مسلم أخطاء أو عيوبا رفع كفه إلى الله، وقال: اللهم عافه ولا تبتلنا، اللهم اهد فلانا، اللهم تب على فلان، وإذا بالملك يؤمن، بينما تجد البعض -نسأل الله السلامة- يتتبع العثرات، حتى يبلغ به الأمر أن لو قيل له: فلان تاب، فإنه يشكك في توبته -نسأل الله العافية والسلامة- والله تعالى يقول: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [فاطر:8] ، وهذا كله بالاستدراج، ووالله لو أن العبد الواعي الفاهم درس نصوص الشرع في بيان كيفية استدراج الله للعبد في معصيته، خاصة في حقوق عباده وأوليائه؛ لتعجب كيف أن الله سبحانه وتعالى يخذل من يؤذي عباده. وإنما نقول هذا ونؤكد عليه؛ لأننا درسنا نصوص الكتاب والسنة فوجدنا الوعيد الشديد، والتقريع والتوبيخ على ازدراء المسلم؛ لأنه لا يتكلم في الناس إلا من يزدريهم، ولا يتكلم في الناس إلا من يحتقرهم، وانظر كيف عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات بسبب ما حدث من عبد ضعيف جاء يريد أن يستفيد، فقال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الأنعام:52] ، مع أنه عليه الصلاة والسلام تأول واجتهد، ومع هذا جاء الخطاب من فوق سبع سماوات. فحرمة المسلم عظيمة، وليعلم كل إنسان أن أعراض الناس ليست رخيصة، وليعلم كل إنسان أنه إذا جاء ينظر إلى الناس بأحسابها وأنسابها وألونها، وفقرها ومناصبها؛ فذلك لا يغني عند الله شيئا، وقد قال الله لكل عبد مؤمن بالله واليوم الآخر: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات:13] ، فويل لك إذا تكلمت في عبد كريم عند الله عز وجل. والتقوى في القلوب، والله يقول: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم:32] ، فإذا أصبح الإكرام من الله لعبده وكرامة العبد عند الله عز وجل موقوفة على التقوى، فإن التقوى ليس لك سبيل إلى علمها، وغيب القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى نعم، لك أن تحكم على الظاهر، وكلامنا إذا لم توجد حاجة، وإنما في الاسترسال في أعراض المسلمين. والعجيب أن تجد الشخص ملتزما، وربما يمسي الليل قائما، ويصبح بالنهار صائما، ثم إذا به يقول كلمة واحدة عن الجنس الفلاني، والقبيلة الفلانية، فإذا به يبوء بالسيئات العظام؛ لأنه اغتاب جنسا، أو جماعة فلان، أو قوم فلان، وفي الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا -وفي لفظ: ما يتبين فيها- يهوي بها في النار سبعين خريفا، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) . فلا يظن أحد أن أعراض المسلمين عند الله رخيصة، وأن المسلم سهل أن يلاك عرضه باللسان، وليعلم أن له ربا يحاسبه، وأنه كما يستشعر عظم عرضه ومكانته، فلربما يكون مرقع الثوب عند الله بمكان أفضل من مكانه، وله عند الله حرمة أعظم من حرمته. فهنيئا لمن قدر نفسه قدرها، وأذل نفسه وعرف حقها، هنيئا لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس، وتوطن بالتقوى، وتسربل بسربالها، وسلم المسلمون من يده ولسانه، وزلات جوارحه وأركانه، وجماع الخير كله في الخوف من الآخرة، وما كف المسلم عن الوقيعة في المسلمين واحتقارهم والكلام فيهم شيء مثل ذكر الآخرة، فوالله لو استشعر الإنسان أنه قائم بين يدي الله، موقوف بين يدي جبار السماوات والأرض؛ لهانت عليه الدنيا وما فيها، ولم يستطع أن يذكر مسلما إلا بكل خير. وكم رأينا والله من الصالحين والأخيار من العلماء والأئمة وطلاب العلم الفضلاء من شغلته نفسه عن الناس، فوجدناه في عافية من أمر دينه عجيبة، فقل أن تجده مفتونا، وقل أن تجده يشتكي فتنة؛ لأن الذي بينه وبين الله صالح، فأصلح الله سريرته، وأصلح ما بينه وبين الناس، فزكت روحه وسمت نفسه، فالمؤمن دائما يبحث عن هذا، وثق ثقة تامة أنك إن وطنت نفسك على أنك المقصر، وعلى أنك الذي تطلق لسانك، وأنه ينبغي أن تكبح هذا اللسان، وأن تكبح جماحه، وأن تمنعه بمانع التقوى، حفظك الله، وذلك كله بفضل الله، ثم الدعاء، ثم ذكر الآخرة. فما هذب أخلاق الإنسان وسلوكه شيء مثل ذكر الآخرة، والعلم بأنه لا مكان له بين يدي الله إلا بالعمل الصالح، وأن الله لم يجعله حكما على عباده، وأن الله لم ينصبه من أجل أن يدخل من شاء في جنة الله، ويخرج من شاء عن رحمة الله عز وجل، وإنما هو عبد مربوب، وليس برب يحاسب، وليس برب مطلع على ضمائر الناس في سرائرهم. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والسلام عليكم. |
| الساعة الآن : 08:45 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour