ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 26-04-2021 02:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الغرض من الجهاد في سبيل الله هو هداية البشر لا جباية أموالهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94]، ولنذكر أن سبل الله كثيرة وهي سبيل واحد، فالذي ضرب الأرض يطلب العلم في سبيل الله، والذي ضرب الأرض حاجاً أو معتمراً في سبيل الله، والذي ضرب الأرض برجليه يزور مؤمناً في سبيل الله، إذاً فسبيل الله كل عمل صالح يجلب لك رضا الله ورحمته عليك، لكن المراد به هنا في الآية الخروج للجهاد. فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ [النساء:94]، وفي قراءة سبعية أخرى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم، قراءة، والسِّلم والسَّلم والسلام كلها بمعنى واحد، ومعناها: عدم الحرب والاعتداء.وقوله: عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94]، والعرْض كل البضائع والأدوات والأثاث وغيرها، وأما العَرَض-بفتح العين- فهو الدينار والدرهم وغيرهما من الأمتعة المالية؛ لأنه عارض ويزول كالشيء يعرض لك ثم يزول، وهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الغنى عن كثرة العرْض، إن الغنى غنى النفس ).( ليس الغنى عن كثرة العرْض )، أي: المال والأغنام وكل المتاع، ( إنما الغنى -في الحقيقة- غنى النفس )، أليس الغني هو ذاك الذي لم يحتج إلى غيره ويحتاج الآخرون إليه؟ إن الغني حقاً وصدقاً هو الذي استغنى عن غيره، فلا يمد يده ولا يطلب حاجة من أحد، ولذلك فكم من صاحب عرْض وهو يسرق ويغش ويظلم ويجمع المال من كل أبواب الحرام، وهذا والله ما هو بغني، وإنما الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً ولا يسأل أحداً، ولا يأخذ مال أحد، ولا يسرق ولا يغش ولا يظلم، والله لهذا هو الغنى.( ليس الغنى عن كثرة العرْض، إنما الغنى غنى النفس )، من هو الغني؟ الذي يحتاج إليه غيره ولا يحتاج هو إلى غيره، فالذي لا يشحت ولا يطلب ولا يسرق ومستغني بشاة أو بصاع تمر، هو الغني الحق، والذي يملك الدنانير والدراهم والإبل والأغنام والأموال وهو يأخذ من هذا وذاك، فهذا هو الفقير والله. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94]، ما هو بمغنم واحد، فاقرعوا باب الله عز وجل واطلبوا الغنى منه تبارك وتعالى.إذاً: فتثبتوا من هذا الرجل حتى تتيقنوا أنه كافر أو مشرك أو ملحد، وعند ذلك فاقتلوه وخذوا منه المال وأنتم في الجهاد، وهذه القضية خاصة في حال الحرب، وأما الذين بيننا وبينهم معاهدة ومسالمة فلا يجوز قتل واحد منهم، أما إذا كنا في حرب مع أمة فحينئذ إذا وجدنا أحداً منهم نتثبت هل هو مؤمن أو لا؟ فإن كان غير مؤمن قتلناه كما نقاتل إخوانه لندخلهم في رحمة الله. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، وهذه موعظة إلهية ربانية، وقد جاء في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، وليس بالحيف ولا بالجور، ثم قال تعالى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]، ما معنى هذا؟ أما كنت جاهلاً لا تعرف الياء ولا الباء؟ من علمك؟ إذاً: فاذكر إفضال الله وإنعامه عليك فاكتب لأخيك إذا قال لك: من فضلك! اكتب بيني وبين فلان. كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]، أي: يكتب بحسب العلم الذي علمه، وهذا معنى، والأصل: كما علمه فليشكر نعمة الله عليه وليكتب لإخوانه، كذلك هنا قال: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: أما كان إخوانكم في مكة يخفون الإيمان خوفاً من أهل مكة حتى لا يقتلوهم وحتى يهاجروا؟ فكذلك أيضاً هذا كان خائفاً من قومه أن يقتلوه، فكان جاحداً لإسلامه، لكن لما رآكم أعلن عنه. كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: كفرة ومشركين، ثم تاب الله عليكم وهداكم وعلمكم، فكذلك أخوكم هذا يتوب الله عليه ويهديه ويعلمه، وهذه هي الآداب القرآنية. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، أي: بنعمة الإيمان والإسلام والعلم والمعرفة. فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، أي: قبل أن تقتلوا. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94] كان وما زال، وهذه صفاته الدائمة معه، فهو عليم بكل خير أو غيره، فيا عباد الله! احذروا الله تعالى، ولا تفهم أنك عندما تعمل أو تتكلم وأنت خالٍ ليس معك أحد، والله ما من حركة نتحركها إلا والله يراها ويعلمها، فإذا امتلأ قلب العبد بمراقبة الرب عز عليه بل صعب عليه أن يخرج عن طاعة الله ورسوله، وإذا غفل ونسي وما يدري أن الله معه يسمعه ويراه يقع في المهاوي والمفاسد وهو لا يشعر.
أدوات الحفاظ على زكاة الروح وطهارتها
ولهذا لما ذكر تعالى أدوات الحفاظ على زكاة الروح وطهارتها، قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أي: بالليل والنهار، وذلك بالتدبر والتفهم واستنباط المعاني واستخراج الهداية القرآنية، وهذا من أكبر عوامل الإبقاء على نور الإيمان في النفس، وصاحبه لا تزل قدمه ولا يقع في كبيرة من كبائر الذنوب.ثانياً: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، فالذي يقيم الصلاة كما بينها رسول الله، ويؤديها على الوجه الذي بين رسول الله، فيستوفي أركانها بعد شرائطها وفروضها وآدابها، وفي أوقاتها المحددة لا يقع في كبيرة من الكبائر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].وكثيراً ما أسمعنا المؤمنين والمؤمنات -أربعين سنة- ونحن نقول: هيا بنا نمشي إلى المحافظ أو إلى مدير الشرطة، ونقول له: يا فلان! أعطنا قائمة بالمجرمين الذين سرقوا أو ضربوا أو قتلوا في هذا الشهر، فيعطينا القائمة فنجد مائة جانٍ، والله ما نجد بينهم أكثر من خمسة في المائة من مقيمي الصلاة، وخمسة وتسعين إما تاركون للصلاة أو مصلون غير مقيمين للصلاة، وتكلمنا بهذا في الشرق والغرب، ولذلك فالذي يناجي ربه ويتكلم معه ويجالسه خمس مرات في أربع وعشرين ساعة لا يقوى على أن يزني أو يسرق أو يكذب أو يقول الباطل، إذ إنه مع الله، أما أن يصلي المسلم صلاة لا خشوع فيها ولا ذكر ولا معرفة ولا اطمئنان فصلاته لا تنتج شيئاً؛ لأن الله ما قال: والمصلين، وإنما قال: والمقيمي الصلاة.ثالثاً: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: ولذكر الله أكبر مما تقدم؛ لأن الذي يذكر الله بقلبه ولسانه لا يستطيع أن يمد يده إلى ما لا يحل له، وبالتالي كيف يقع في الجريمة؟! لا يتأتى له ذلك أبداً، إذ إنه لو أراد أن يشتم أو يسب ثم ذكر الله توقف عن ذلك، أو أراد أن يأكل محرماً ثم ذكر الله عز وجل امتنع عن ذلك. إذاً: ذكر الله أكبر حصن لمن أراد أن يتحصن من الوقوع في معاصي الله، ولن يقع في هذه المهاوي إلا التاركون لذكر الله، الناسون المعرضون، على شرط أن يكون الذكر بالقلب واللسان، وأن يكون على علم بالمعاني التي يذكر الله بها. رابعاً وأخيراً: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] المراقبة لله تعالى، فإذا علمت أن الله يعلم ما تصنع بجوارحك وأيقنت بهذا فوالله ما تستطيع أن تعصي وتخرج عن طاعته. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، أي: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن عرف هذا وأيقن به ما يستطيع أن يقتل مؤمناً أو يزني بامرأته أو ابنته، أو يسلبه ماله، أو يمزق عرضه، أو يحتقره ويهينه بين المؤمنين. فإن قيل: يا شيخ! ولماذا نشاهد هذا الباطل والفساد والشر والظلم والخبث؟ والجواب: ما علمنا، من علمنا؟ من ربانا؟ أما كان الرسول يربي أصحابه الكرام؟ أما كان الأصحاب يُربَّون؟ ونحن من ربانا؟ من يرفع يده ويقول: أنا تربيت عند الشيخ الفلاني، اليوم نحن نشتم المشايخ ونعيرهم، إذاً: كيف نستطيع أن نستقيم في آدابنا وأخلاقنا ومعارفنا وحياتنا؟ يتربى مع الصعاليك في البيت؟ مع الأولاد في الشارع؟ يحاول لكن ما ينفعه، والله يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فهيا نعود إلى الله تعالى، فإن قيل: ما نستطيع يا شيخ، قلنا لهم: لماذا؟ قالوا: الدنيا والشهوات والأهواء غلبتنا، فنقول لهم: ونحن طالبناكم بالمال أو بالدماء والجهاد؟ لا أبداً، إذاً يا أهل القرية! يا أهل الحي الفلاني! من غدٍ لا يتخلف منا رجل ولا امرأة عن المسجد، أو في يوم الجمعة يقول خطيب المسجد: يا معشر الأبناء والإخوان! غداً لا يتخلف أحد من رجالنا ونسائنا عن صلاة المغرب في المسجد، فيحضرون جميعاً، النساء في مؤخرة المسجد أمامهن الستارة، والأبناء صفوف كالملائكة، والفحول أمامهم، والمربي أمام الجميع، فيأخذون ليلة آية من كتاب الله تعالى، فيدرسونها ويحفظونها ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على العمل والتطبيق، وليلة بعدها يأخذون حديثاً من أحاديث الرسول المفسرة للقرآن المبينة له، والكل عازم على أن يعمل وأن يطبق، ويوماً بعد يوم والحال كذلك، فوالله لن يبق مظهراً من مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، بل ينتهي كل ذلك بلا عصا ولا هراوة ولا بوليس، وإنما فقط بالعلم واليقين، فهل هناك طريق آخر؟ والله لا طريق إلا هذا، ولهذا نصرخ طول العام: أي قرية قامت بهذا؟ أي حي من أحياء المدن قام بهذا؟ ما بلغنا بعد شيء، فإلى الله شكوانا.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.




ابوالوليد المسلم 26-04-2021 02:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (51)
الحلقة (274)

تفسير سورة النساء (56)

إن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة، وقد نفى الله سبحانه وتعالى أن يستوي في الأجر والمنزلة من يجاهد بنفسه وماله من المؤمنين، ومن يقعد عن الجهاد بخلاً بماله وضناً بنفسه أن يقدمها لله عز وجل، ولكن الله استثنى من الذين لم يجاهدوا أولي الضرر، فجعل لهم أجر المجاهدين رغم قعودهم عنه لصلاح نياتهم ورغبتهم في الجهاد لولا وجود ما يعيقهم، وحتى مع وجود العذر فإن المجاهد يفضل على من لم يجاهد لعذر درجة في الجنة، لما حازه من سبق، وما قدمه من تضحيات.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومعنا آيتان كريمتان قبل الشروع في تلاوتهما ثم في تفسيرهما أذكر الناسين بما جاء في الآيتين السابقتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:94].
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين: أولاً: مشروعية السير في سبيل الله غزواً وجهاداً ] وذكرنا أيضاً أن السير إلى الحج، أو إلى العمرة، أو إلى طلب العلم، أو لزيارة الأرحام وصلتهم، أو لزيارة الصالحين الأحياء لا الأموات، كل هذا يعتبر سيراً في سبيل الله عز وجل، لكن المقصود هنا بـ(في سبيل الله): الغزو والجهاد في سبيل الله.قال: [ ثانياً: وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب عليها الخطأ فيها ] أي: ينبغي لنا معشر المستمعين والمستمعات! أن نتثبت ونتبين في الأمور التي إذا وقع فيها خطأ كان الضرر والألم الكبير. ومن أقرب ما أشير إليه: يا سائقي السيارات! تثبّتوا في سياقتكم! وتأملوا واحترسوا؛ لأنكم تحملون أرواحاً، ويمر بين أيديكم أرواحاً، وقتل النفس خطأ قد عرفتم ماذا يترتب عليه؟ الدية وعتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين؛ لأنه ما تحفّظ وما تثبّت وما تبيّن.فعلينا معاشر المؤمنين! أن نتبيّن وأن نتثبت في الأمور كلها، فلا نصدر حكماً إلا على علم، ولا نتحرك حركة إلا على بينة وعلم.قال: [ ثالثاً: ذم الرغبة في الدنيا إذا كانت تتعارض مع تقوى الله عز وجل ] أي: ذم الدنيا من مال وجهاه وسلطان إذا كانت تتعارض مع تقوى الله عز وجل، أما قال تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94]؟ فهم قتلوا هذا العبد وقد سلّم عليهم ليدلل على أنه مسلم، ولكن لاحت الرغبة في نفوسهم في الغنيمة والمال، فقالوا: ما قال: السلام عليكم إلا تقية فقط لنفسه، فهو حقيقة من قوم كافرين محاربين، لكن من كان معه فقد هرب، وهو ثبت على أنه مسلم، لكن الأصحاب رضي الله عنهم تعرضوا لهذه المحنة، ونزل فيهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94]، أي: أنتم.قال: [ رابعاً: الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة ]، أما كنتم يا أصحاب رسول الله كافرين مشركين؟ من أنعم عليكم بالإيمان والإسلام؟ فكذلك أيضاً هذا مثلكم كافر وقد أنعم الله عليه بالإسلام والإيمان، أما كنتم تخافون من المشركين وترهبونهم ولا تعلنون عن إسلامكم؟ فكذلك هذا أيضاً كان مع قوم كافرين مختفياً، ما استطاع أن يظهر إسلامه، وهذا هو التأديب الإلهي، فيا ليتنا نأخذ به.
تفسير قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...)
ونعود إلى الآيتين الكريمتين اللتين وصلنا إليهما، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96].يروى أن عبد الله بن أم مكتوم لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، جاء عبد الله بن أم مكتوم -أمير المدينة-ذاك الذي نزل فيه قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3]، فعاتب الله تعالى رسوله في عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، إذ كان الرسول يتصدى لرجالات قريش في مكة ليدعوهم إلى الإسلام، فجاء هذا المؤمن الأعمى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بصناديد قريش، وقال: يا رسول الله! علني، فعبس الرسول في وجهه، فنزل هذا القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم، عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، ولو قال: عبست وتوليت فقد يغمى على الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يطيق ذلك، لكن رحمة الله بأوليائه وصالح عباده جاء بصيغة الماضي فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا.. [عبس:1-11].أريتم هذا؟! انظر إلى الكمال المحمدي، ثم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء ابن أم مكتوم الأعمى يقف له ويجلسه على فراشه ويقول: ( مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي )، فهل فينا من يفعل مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا مأمورين بالتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه؟ فإن قيل: يا شيخ! ما تعلمنا هذا ولا عرفناه، وبالتالي فنحن معذورون، لا والله، لم لا نتعلم ونعمل؟نعود فنقول: لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ...) الآية، أتى عبد الله بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله؟ فما برح مكانه حتى نزلت: غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، استثناء على قراءة النصب، وهي قراءة سبعية، والأصل: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، إذ كيف يستويان؟! هذا ضن بماله وبخل بنفسه، وهذا أنفق ماله وخرج بنفسه، وبالتالي فكيف يستويان؟!(لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ)، أو غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، فإن قرأنا بالنصب فاستثناء ويصلح حالاً، وإن قرأنا بالرفع فهو نعت للفظ (القاعدون).وأصحاب الضرر هم العميان، والمرضى، والعرج، فالأعرج معذور، والأعمى معذور، والمريض معذور، وابن أم مكتوم رضي الله عنه كان أعمى، وفي آية الفتح يقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. قال: فلما اشتكى عبد الله بن أم مكتوم وقال: وكيف وأنا أعمى؟ نزل قوله: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، فأدخلت بين جملتي: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الله هو الذي ينزل هذا الوحي، وأنه هو الذي يوحي به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الكلام كلام الله عز وجل وليس كلام بشر. لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]، وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضاه، وذلك بعبادته وحده دون من سواه، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والسير في طريقه إلى آخر نفس للإنسان، وذلك لإقامة دينه وشرعه، ولإبعاد الضرر والأذى والألم عن أوليائه الذين يضطهدون ويعذّبون ويقاتلون.قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، من أولي الضرر دَرَجَةً [النساء:95]؛ لأنهم قعدوا فهم معذورون، ولهم أجرهم لكن مستواهم دون ذلك، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، أي: المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والقاعدون للضرر، الكل وعده الله بالجنة، وفسرت الحسنى بالجنة، ولهذا فرح ابن أم مكتوم رضي الله عنه. ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، و(القاعدين) هنا من غير أولي الضرر، إذ إن القاعدين هنا الذين ضنوا بأموالهم وبخلوا بأنفسهم وما خرجوا في سبيل الله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96]. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً [النساء:96]، والدرجات: جمع درجة، ولنستمع إلى هذا الخبر، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: ( من رمى بسهم فله أجره درجة )، فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أما إنها ليست بعتبة بابك )، أي: ليست مثل درجة الباب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( ما بين الدرجتين مائة عام )، أي: ليست رفع رجل فقط، وإنما بين الدرجة والدرجة الأخرى مسافة مائة عام، وقد علمنا سابقاً: أن أهل الجنة يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب في السماء، وروي أيضاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ).

يتبع

ابوالوليد المسلم 26-04-2021 02:10 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
والآن مع شرح هاتين الآيتين فلنستمع. ‏
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيتين: روي أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ )، أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله؟ فما برح مكانه حتى نزلت: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، فأدخلت بين جملتي: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وجملة: وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ .ومعنى الآية: هو أن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لم يجاهد بخلاً بماله وضناً بنفسه ] إذ إنهم لا يستويان.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه ]، وقد علمنا مما تتقدم أن الأعذار هي: العرج، والمرض، والعمى، أو كتمريض رجل لوالده مثلاً، كما تأخر علي مرة على النبي صلى الله عليه وسلم لتمريض واحد من الناس بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه، فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا، وذلك لحسن نياتهم ]، إذ إن بعضهم والله لما يتأخر يبكي حتى يعود الرسول والمجاهدون من الغزو، فهو عجز وما استطاع أن يوفر له مركوباً ليركبه، أو أنه مريض في بدنه، فيبقى متألماً متحسراً حتى يعود الرسول والمؤمنون إلى المدينة، وفي هذا نستمع إلى هذا الحديث النبوي: روى البخاري تعليقاً وغير واحد من أصحاب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قفل عائداً من إحدى غزواته -وهي غزوة تبوك- قال لأصحابه: ( إن بالمدينة -هذه-رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر )، إنه إعلان نبوي. فقوله عليه الصلاة والسلام: ( إن بالمدينة رجالاً )، أي: فحولاً عظاماً، ( ما قطعتم وادياً )، أي: في مسيركم، ( ولا سرتم مسيراً )، أي: خلاف الوادي، ( إلا كانوا معكم )، لا بأبدانهم وذواتهم، وإنما كانوا معكم بقلوبهم وبما يحصل من الأجر لهم. وفي سورة التوبة يقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92]، ولهذا فإنه في كل زمان ومكان إذا كان المؤمن صادق النية والعزم، لكنه عجز عن القيام بالعمل، فإنه يؤجر على نيته، فمثلاً: قام قائم وقال: اجمعوا لأخيكم مالاً حتى يعود إلى بلده، وأخذ الناس يساعدونه إلا أن أحدهم ما استطاع، إذ إنه ليس في جيبه شيء، فتألم وتحسر عند ذلك، فإنه في الأجر مع الذين أنفقوا سواء، وآخر ما استطاع أن يصوم فتتألم وكله عزم ونية أن لو يقدر على الصوم، فكذلك هو في الأجر سواء مع من صام. قال: [ ومعنى الآية: أن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله وبنفسه ومن لم يجاهد بخلاً بماله وضناً بنفسه ]، والبخل والضن بمعنىً واحد.قال: [ واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه، فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا، وذلك لحسن نيتهم وعدم استطاعتهم ] لكن لو كانت نيتك حسنة وأنت مستطيع على العمل فإن ذلك لا ينفع، إذ ما دامت النية حسنة إذاً فادفع المال وصم.قال: [ فلذا قال تعالى: وَكُلاً ]، أي: من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين للأعذار، قال [ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى التي هي الجنة ]، وهل الله يخلف وعده؟ والله ما يتخلف.قال: [ وقوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً أي: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95] لعذر دَرَجَةً [النساء:95]، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى ] وفضلهم الله لأنه ليس لهم عذر، وإنما قعدوا فما أنفقوا ولا جاهدوا.قال: [ وقوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ لغير عذر أَجْراً عَظِيماً ، وهو الدرجات العالية مع المغفرة للذنوب والرحمة للنفوس، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيماً، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم ] يا رب العالمين!مرة أخيرة: يقول تعالى وهو يعلمنا: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، قولوا: نعم لا يستويان. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95] لعذر، دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، أي: القادرين والعاجزين.ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، والقاعدون هنا هم الذين بخلوا وضنوا بأموالهم وهم مؤمنون. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95]، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، دَرَجَاتٍ مِنْهُ [النساء:96]، أي: درجات عالية يعطيها لهم، إذ إنه مالكها ومعطيها وواهبها والمنعم بها. وَمَغْفِرَةً [النساء:96]، فلا تبقي أثراً للذنب في النفس. وَرَحْمَةً [النساء:96]، وهي دار السلام. وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96]، فما سألت الله مغفرته إلا غفر لك، ولا سألت رحمته إلا رحمك؛ لأن هذا شأنه دائماً وأبداً، فهو غفور رحيم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيتين: أولاً: بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون ] والآن لماذا نحن لا نجاهد؟ والجواب أيها الأحباب: أن الله عز وجل قد كفانا مؤنة الجهاد بتدبيره وهو العليم الحكيم، وما أصبحنا والله في حاجة إلى أن نرسي سفننا الحربية على شاطئ أسبانيا أو إيطاليا أو فرنسا؛ لأن تلك الديار أصبحت مفتوحة الأبواب لنا، فلك أن تأذن فيها وتكبر وتدعو إلى ربك، ولا يصرفك صارف ولا يصدك صاد عن ذلك. فهذه أمريكا فيها ملايين المسلمين وعشرات المراكز والمساجد، وألمانيا فيها عشرات المساجد، والدعوة قائمة فيها، وهذه أيضاً بريطانيا أبواب الدعوة فيها مفتوحة، وكذلك فرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، وإيطاليا معقل الصليبية فيها العديد من المساجد، إذاً فهيا نجاهد، لكن بم نجاهد؟ والجواب: أن الله قد أراحنا من المدفع والرشاش، وبالتالي فلنجاهد بالعلم والمال، فإن قيل: أي علم يا شيخ! نجاهد به؟ أولاً: نترك حالنا نحن المسلمين، إذ نحن هابطون لاصقون بالأرض من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً؛ لأننا كما يعلم الله هبطنا من علياء السماء إلى الأرض وأصبحنا كغيرنا، فملئت ديارنا بالخبث والظلم والشر والفساد والعبث، لكن مع هذا نحن نقول: يجب على المسلمين أن يعودوا إلى الله، أن يتوبوا إلى ربهم، إذ إنهم أحرار، فمن الذي يمنعهم وأغذيتهم وأكسيتهم متوفرة لديهم؟!فإن قيل: كيف نتوب؟ والجواب: نعبد الله وحده بما شرع، وعند ذلك تتجلى فينا حقائق الإيمان من الأخوة والمودة والحب والولاء، وينتهي كل مظهر من مظاهر الشر والخبث والفساد؛ لأن نور الله بيننا، ولأن سنة الرسول قائمة فينا، فنحتاج فقط إلى أن نصدق الله في أننا مسلمون، ونسلم القلوب والوجوه له عز وجل.فهيا نبدأ بالتوبة والرجوع إلى الله، وذلك أن أهل كل حي من أحياء مدينة من المدن يجتمعون كل ليلة ويتلقون الكتاب والحكمة من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، لا يتخلف رجل ولا امرأة إلا لعذر حقيقي، فيجتمعون ليتعلموا وليعرفوا، إذ من المستحيل أن يلتقوا وهم جاهلون، كيف يرغبون في الملكوت الأعلى وقلوبهم مظلمة ونفوسهم مدنسة؟ثم أي شيء يكلف المؤمنين إن عملوا هذا؟ إن اليهود والنصارى والمجوس والمشركين إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، وأقبلوا بنسائهم وأطفالهم إلى الملاهي والملاعب ليروحوا عن أنفسهم، ونحن لماذا -إذا مالت الشمس إلى الغروب- لا نحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا فنتعلم الكتاب والحكمة، وكلنا عزم على أن ما تعلمناه نعمل به؟ ويبقى الحال هكذا طول العام، فلا يبقى عند ذلك باطل أو شر أو فساد أو ضعف أو نقصان، إذ مستحيل أن يبقى ذلك كله، ونرقى بسلم الكمال إلى الملكوت الأعلى.نعود إلى قضية الجهاد فأقول: ما دام أن الله قد فتح لنا العالم من الصين إلى أمريكا، فيجب أن تكوَّن لجنة عليا تضم من كل إقليم من أقاليم المسلمين عالمين اثنين، هذه اللجنة تضع خارطة لتلك الجماعات والجاليات الإسلامية في كل العالم، وتقدر نفقاتها وكم تتحملها، وتضرب على كل مؤمن ديناراً أو درهماً في العام؛ ليساهم كل مؤمن في الجهاد في سبيل الله، فتكون أضخم وأعظم ميزانية في العالم، إذ إن كل مؤمن يدفع ريالاً واحداً.ثم إن كل مركز أو كل مسجد يبعث إليه بإمام رباني عالم -ويوحدون الكتاب الذي يدرس- فيعلمهم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مذهبية ولا حزيبة ولا طرقية ولا وطنية، وإنما مسلمون أمرهم واحد، وفي صمت وعدم تبجح كما هي عادتنا أيام الهبوط. فهذا هو الجهاد يا من يطالبون بالجهاد، أما الجهاد والعنترية وتكفير الحكام والقتال فهذا ظلم.. باطل.. منكر.. حرام.. شر.. فساد، والله لن ينتج إسلاماً، ولن يوجد خيراً قط؛ لأنه على سبيل غير سبيل محمد صلى الله عليه وسلم.إذاً: ميدانان: ميدان الخارج، أي: تكون لجنة عليا فنعطيها قلوبنا وأموالنا، وميدان الداخل، أي: أننا نعطي قلوبنا ووجوهنا لله في صدق، وذلك بأن نجتمع في بيوت ربنا بصدق، سواء في قرانا أو في جبالنا أو في سهولنا، فنتعلم الكتاب والحكمة، ثم العزم على العمل بشرع الله عز وجل، فوالله ما تمضي سنة إلا والأنوار تغمر ديار العالم الإسلامي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.




ابوالوليد المسلم 26-04-2021 02:11 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (52)
الحلقة (275)

تفسير سورة النساء (57)


توحيد الله عز وجل في العبادة وإقامة شعائر دينه هو الهدف الأسمى والمطلب الأعظم من العباد، والعبد المؤمن مطالب بإقامة هذه الشعائر في بلده وأرضه، فإن لم يستطع وحيل بينه وبين ذلك وجب في حقه الهجرة إلى بلد يستطيع فيه إقامة شعائر دينه، ولا عذر له في عدم الهجرة ما لم يكن من الضعفة أو النساء أو الولدان، الذين لا يقدرون على الهجرة ولا يهتدون إلى مسالكها، فأولئك عفا الله عنهم مكثهم بين ظهراني المشركين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس بإذن الله كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وقبل الشروع في دراسة آيات جديدة أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات تفسير الآيتين اللتين درسناهما البارحة.يقول تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، رجال دفعوا أموالهم وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وآخرون بخلوا بالمال وضنوا بالنفس فكيف يستوون؟ لا يستوون أبداً. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95]، والقاعدون هم أولو الضرر، إذ إنهم قعدوا لعلل قامت بهم، كالعرج والعمى والمرض، فهل يستوون مع المجاهدين؟ لا، ولكن لهم درجة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95]، ما الحسنى يا أبناء الإسلام؟ الجنة، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26]، وللذين أساءوا جهنم والعياذ بالله، والسر والعلة هو أن من أحسن فقد زكى نفسه وطيبها وطهرها فأصبحت أهلاً للملكوت الأعلى كأرواح الملائكة في الطهر والصفاء، ومن أساء إليها فقد خبثها ودساها ودفنها بأوضار الذنوب والآثام، وهذه النفس خبيثة منتنة كأرواح الشياطين، وهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء وتدخل الجنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، فمستحيل أن يدخل البعير في عين الإبرة، وكذلك صاحب النفس الخبيثة الملطخة بأوضار الذنوب والآثام مستحيل أن تفتح له أبواب السماء، وأن يخترق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام. إذاً: من الليلة نعزم على ألا يبقى بيننا سارق ولا زان ولا كاذب ولا مراب ولا مشرك ولا ضال، وذلك حتى نسعد ونكمل في الدنيا والآخرة. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، فلا سعادة أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم، إذ يرفع الجبار الحجاب عن وجهه فينظرون إليه فتغمرهم فرحة ما عرفوها، اللهم اجعلنا منهم. فهيا إذاً نطهر هذه الأرواح، فلا غل ولا غش ولا كبر ولا حسد ولا شرك ولا رياء ولا نفاق، لكن لا بد من العمل، إذ يقول الله تعالى في سورة النساء: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فكن أبيضاً أو أسوداً، أعجمياً أو عربياً، ابن النبي الفلاني أو أباه، كل هذا لا قيمة له، وإنما فقط قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].مرة أخرى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ [النساء:95]، لمرض، دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96].في البارحة قد تهيأنا للجهاد بالنية، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، ويقول أيضاً: ( إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم فجاً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر )، فالمسلمون الآن محبوسون بالعذر، إذ إنه ليس هناك خلافة إسلامية تحمل راية لا إله إلا الله، وتدعو إلى الله وتقاتل من أجلها.إذاً: فنحن الآن فقط ننتظر حتى يرفعوا راية لا إله إلا الله، أي: حتى يعلنها إمام المسلمين فيقول: الله أكبر، وعند ذلك يكون قد أتيحت لنا الفرصة، أما الآن فليس هناك فرصة أبداً، لكن لا يوجد الآن بلد في العالم يمنعنا من أن نصلي ونؤذن فيه، يمنعنا من أن نقيم الصلاة فيه، أو ندعو فيه إلى أن نعبد الله وحده، حتى روسيا البلشفية الحمراء تحطمت وانتهت، فلأي شيء نغزو؟!كما ذكرنا كلمة وكررناها كثيراً وما بلغني أن مستمعاً نقلها قط، وهي أنه ما دام أن الله قد فتح لنا الدنيا بتدبيره وهو العليم الحكيم، فيجب أن تكوَّن لجنة عليا من علماء هذه الملة -أهل الكتاب والسنة- يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالمين، وتصبح أفراد هذه اللجنة ثمانون عالماً أو نيفاً وثمانون، ويضعون خارطة للكرة الأرضية من البرازيل إلى كذا، ويعرفون الجاليات الإسلامية في كل بلد، فأوروبا شرقها غربها، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وكندا، والشرق بكامله، واليابان، والصين، فيعرفون كل جالية أين هي موجودة؟ وكم عدد أفرادها؟ كم مسجداً فيها؟ وما حاجتها؟ وبعد ذلك يعلنون للمسلمين إعلان السر حتى لا يرهبوا أعداء الإسلام: أن على كل مسلم في العالم أن يساهم بدينار واحد، فإذا كان عدد أفراد الدولة الفلانية عشرة ملايين، افرض أن خمسة ملايين من النساء، وبالتالي يؤخذ منهم خمسة ملايين دولار، وكذلك دولة عدد أفرادها مثلاً عشرون مليوناً، فيؤخذ منهم عشرة ملايين، وتصبح ميزانية لا نظير لها، وبحالة من السر والخفاء.ثم إن هذه اللجنة تتولى توزيع الكتاب، وتتولى إرسال المربين والمعلمين والمزكين للأرواح، وتتبنى بناء المسجد، وتوحد المذهب، فلا مذهبية ولا طائفية، وإنما قال الله وقال رسوله، وذلك كعهد رسول الله وأصحابه وأولادهم، فلا حنفي ولا شافعي ولا حنبلي ولا مالكي ولا أباضي ولا زيدي، وإنما فقط مسلم، قال الله وقال الرسول.ولا تعجب فنحن لنا أكثر من أربعين سنة ونحن لا ندرس مذهباً معيناً، وإنما قال الله وقال رسوله، وذلك حتى تنتهي الفرقة نهائياً، فلا إقليمية ولا طائفية ولا وطنية هابطة، وإنما مسلمون فقط، ويأخذ ذلك النور يمتد في تلك الأراضي المظلمة، فوالله ما هو إلا ربع قرن وقد أصبح الإسلام فوق ما نتصور.وإذا استقام المسلمون في الجاليات فسوف ينتقل إلينا من بركتهم ما يجعلنا نستقيم نحن في بلادنا الإسلامية، إذ إننا نستحي ونخجل عندما لا نستقيم كاستقامتهم، فلمَ لا نفعل هذا وقد أراحنا الله من الجهاد بالسيف والرشاش والصاروخ؟!
تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ...)
والآن مع هذه الآيات الأربع، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:97-100].قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، وهؤلاء هم كل من مات ونفسه مدنسة مظلمة متعفنة بأوضار الذنوب والآثام. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ [النساء:97]، والأصل: تتوفاهم. الْمَلائِكَةُ [النساء:97]، أي: ملك الموت وأعوانه، وذلك حال كونهم ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، أي: أنهم رضوا بالبقاء في ديار الكفر والشرك، فما استطاعوا أن يوحدوا الله وأن يعبدوه، ولا أن يصوموا ولا أن يصلوا؛ لأن المشركين يحيطون بهم من كل جانب، فماتوا وأرواحهم خبيثة منتنة قد ظلموها، فما هاجروا بل رضوا بالبقاء مع الكافرين، فمنعوهم من أن يصلوا أو أن يصوموا، أو يقولوا: لا إله إلا الله، ثم قال تعالى: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، وذلك أن ملك الموت لما يتقدم لأخذ الروح ومعه أعوانه، يستلمها ويعطيهم إياها، ثم يعرجوا بها أو يهبطوا بها، فيتعجب هؤلاء الملائكة من هذه الأرواح الخبيثة المنتنة المتعفنة ويسألون أصحابها: فيم كنتم؟! لماذا أرواحكم خبيثة ومنتنة؟! والجواب: أنهم أفرغوا وصبوا عليها أطناناً من الذنوب والآثام، ولأنهم ما كانوا يعبدون الله عز وجل، إذ إنهم كانوا ممنوعين من المشركين، فيأتيهم التوبيخ والسؤال من الملائكة: لمَ لم تهاجروا إذاً؟ أرضيتم بالبقاء من أجل أموالكم وأهليكم؟ أرضيتم بالبقاء حتى لا ينتصر دين الله وأهله، وحتى تلطخت أرواحكم وأصبحت عفنة منتنة؟ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]؟ وكان جوابهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين مقهورين، لا نستطيع أن نعبد الله تعالى، إذ إن أعداء الله ما سمحوا لنا، فردت عليهم الملائكة فقالت: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]؟ إذ إنهم كانوا يقولون: إن أرض الله ضيقة، ووالله ما هي بضيقة، فلمَ ترضون بالبقاء في ديارٍ تمنعون فيها من أن تعبدوا الله وتزكوا أنفسكم بتلك العبادة؟! وهذا دليل على وجوب الهجرة، وبالتالي فأيما مؤمن أو مؤمنة يجد نفسه في بلد أو في قرية أو في مدينة أو في إقليم لا يستطيع أن يعبد الله تعالى فيه، إلا ووجب عليه الهجرة، ولا يحل له المقام أبداً في بلد لا يمكنه أن يعبد الله تعالى فيها، ولا عذر له عند الله تعالى. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، والاستفهام للتوبيخ، أي: ما لأرواحكم ملطخة منتنة؟! أين كنتم؟ في المراحيض؟! فماذا قالوا؟ قالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين ما استطعنا أن نعبد الله فتطهر نفوسنا، وهذا عذر لم تقبله الملائكة، بل قالوا لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [النساء:97]، وهم يقولون: لا، بل ضيقة، أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، ثم اسمع إلى الحكم الإلهي: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، أي: أولئك الأشقياء البعداء، فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ [النساء:97]، أي: المكان الذي يؤوون إليه وينزلون فيه، جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ [النساء:97]، جهنم مَصِيرًا [النساء:97].وإن أردت تصويراً قريباً لجهنم فأشعل عود كبريت تلوح لك حرارة جهنم، أو قف في الشمس فقط، وإن أردت نسبة هذا العالم إلى جهنم فأدخل أصبعك في الفرات أو في النيل أو في البحر الأبيض ثم أخرجها، فكم نسبة من الماء علق بأصبعك؟! إن نسبة عالم النار إلى هذا العالم الذي نعيش فيه كنسبة غمس أصبعك في البحر ثم استخراجها منه، ونحن الآن كأننا أجنة في أرحام أمهاتنا، ولما نولد وتخرج الروح نشاهد العالم الثاني.إذاً: فَأُوْلَئِكَ [النساء:97]، أي: البعداء، مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ [النساء:97]، جهنم مَصِيرًا [النساء:97]، أي: يصيرون إليها.قد يقول أحدكم: يا شيخ! والعجزة من النساء والمرضى والشيوخ الكبار لا يقدرون على الهجرة، فكيف يكون حالهم إذاً؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 26-04-2021 02:12 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً)
قال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98].قال ابن عباس: كنت أنا وأمي منهم، ولذلك المرأة لما تسافر كيف تعرف الطريق؟ والمريض وكبير السن ما عنده قدرة على أن يمشي، وكذلك الأطفال الصغار، فاستثنى الله تعالى أصحاب الأعذار بحق، وهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً [النساء:98]، أي: لا قدرة لهم على التحيّل والانتقال من حال إلى حال، ولا وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98]، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله من مكة إلى المدينة اتخذ خرّيتاً خاصاً جغرافياً ليدله على الطريق، وحتى يهرب من القبائل التي في تعترضه في طريقه. نعود إلى الهجرة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النساء:97]، أي: حال كونهم ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموا أنفسهم؟ يا عبد الله! كانت نفسك طاهرة كأرواح الملائكة، فقد نفخها الملك في رحم أمك وسالت في الجسم وأصبح المخلوق مخلوقاً، ثم بعد خروجه من بطن أمه أخذ هذا الطفل يرضع، ثم أخذ يحبو ويمشي إلى أن يبلغ الحلم، وروحه مضيئة مشرقة طاهرة نقية، ثم يأخذ في أن يصب عليها أنواعاً من الذنوب والآثام والأوساخ، وهو بذلك يكون قد ظلمها. ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]؛ لأنهم بقوا في بلد لا يعبدون الله فيه، بل يعصونه فيه، وهم بذلك قد ظلموا أنفسهم. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل لهم هم الملائكة، وما قالوا لهم: أين كنتم؟ وعند ذلك سيكون جوابهم: كنا في مكة، لكن أين يوجد هذا الظلم وهذا العفن وهذا النتن؟! قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: مغلوبين مقهورين، إذ ما أذنوا لنا ولا سمحوا لنا أن نعبد الله، إذاً لم ما خرجتم وهاجرتم؟ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، ماذا يقولون؟ يقولون: ضيقة؟! إذاً: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، اللهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98].
تفسير قوله تعالى: (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)
قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99].قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ [النساء:99]، أي: المستضعفين، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:99]، وعسى للترجي، ولكن في حق الله تفيد التحقيق، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99]، فيا بشراهم.
تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً...)
ثم قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، وهذا خبر من أخبار الله الصادقة، وَمَنْ يُهَاجِرْ [النساء:100]، طلباً لرضا الله، يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا [النساء:100]، أي: ما يرغم به أنف أعدائه ويذل أنوفهم. فإن قلت: أنا إذا هاجرت من بلدي تركت بستاني ومتجري ووظيفتي فكيف ذلك؟ والجواب: هاجر واخرج فقط والله يهيئ الله لك ما ترغم به أنف أعدائك، هذا وعد من الله تعالى، وقد حصل هذا والله، فقد كانوا يوزعون الذهب والفضة في الأكياس، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع فضة في الأكياس جاءت له من البحرين، وقد جاء إليه العباس فأعطاه حتى ملأ ثوبه وما استطاع أن يقوم به، فطلب الإعانة من الصحابة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( خلوه )، فنقّص منه.إذاً: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، أي: في الرزق والحال، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء:100]، أي: خرج ومشى مائة كيلو أو خمسين كيلو وهو مريض ثم مات، فأجره وافي كامل كالمهاجرين، وقد حصل هذا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرجوا من مكة مهاجرين بعد اضطهاد وتعذيب، وفي أثناء الطريق ماتوا فندم أو بكى عنهم إخوانهم، فكانت الآية فيصلاً في ذلك، فقال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، أي: وقع وثبت الأجر على الله تعالى، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمن وبين عبادته لربه وإقامته لشعائر دينه
نعود إلى بيان ما هي الهجرة؟ وإلى أين تكون الهجرة؟ فأقول: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقيم في دار أو في بلد لا يمكنه أن يعبد الله تعالى فيه، حتى ولو كان هذا البلد مكة، إذ قد فرض الله على من قبلنا أن يخرجوا منه، وهذه قاعدة باقية إلى يوم القيامة، فلا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، وتنقطع التوبة ويغلق بابها إذا طلعت الشمس من مغربها، وهي علامة من علامات الساعة الكبرى، وعبد ذلك تقول: لقد آن أوان خراب هذا الكون، فيستيقظ الناس في الصباح فيظنون أن الشمس ستطلع من المشرق، وإذا بها قد طلعت من المغرب، ووالله لقد كان بعض الصحابة ينظرونها يومياً خوفاً من أن القيامة قد قامت.إذاً: الشخص الذي يوجد في بلاد كافر مشرك لا يسمحون له أن يصلي أو أن يصوم أو أن يذكر الله أو أن يتلو كتاب الله أو أن يتجنب ما حرم الله من مأكول أو مشروب أو ملبوس، يجب عليه أن يهاجر، فإن رفض الهجرة وهو قادر عليها ومات فقد سمعتم حكم الله فيه، إذ قال تعالى: فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، وإن كان شيخاً كبيراً لا يقوى على المشي، أو امرأة مسكينة لا تعرف الطريق ولا تدري أين تذهب، أو أولاداً صغاراً كذلك، فإن الله قد استثناهم وعفا عنهم فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98-99]، رجاهم ورجاء الله لا يخيب. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:100]، أي: خرج ومشى يوماً أو يومين أو ساعة أو ساعات ثم أدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وهو كالمهاجرين سواء بسواء، وهذه من إنعامات وإفضالات الله عز وجل.وهذا الإمام مالك إمام دار الهجرة في المائة الثانية، أدرك ثلاثمائة من التابعين الذين درسوا على أصحاب رسول الله، وأربعمائة من تابعي التابعين، يرى في الموطأ أنه يجب على المؤمن أن يهاجر من بلد إسلامي فيه بدعة، وقد بين هذه البدعة فقال: أن يسب فيها أصحاب رسول الله، وذلك كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، إذ كيف يستطيع أن يعيش في بلد يسب فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى أن يُطبع على قلبه وأن يختم على نفسه فيصبح مثلهم والعياذ بالله، فكيف إذاً ببلاد الكفر مطلقاً حيث لا يتمكن العبد من أن يعبد الله عز وجل؟! يجب الهجرة، فإذا دخلت في الإسلام اليوم أو غد، فهاجر من تلك البلاد حتى تعبد الله عز وجل، وحتى تزكي نفسك وتطهرها فتتأهل للملكوت الأعلى.وهنا استثناء فأقول: إذا كان العبد في البلاد الكافرة حراً في عبادة الله تعالى، فلا يضطهد ولا يكره على الكفر والجرائم والمعاصي فلا بأس له بالإقامة، وليس هناك حاجة إلى أن يهاجر منها، بدليل: أن أصحاب رسول الله هاجروا إلى الحبشة الصليبية المحضة، ونزلوا ضيوفاً على أصحمة رحمه الله تعالى ورضي عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يتمكنوا من أن يعبدوا الله تعالى؛ لأن الكفار في مكة قد ضايقوهم ومنعوهم من عبادة الله تعالى، إذ إن المقصود والهدف أن تتمكن من أن تعبد الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى قد خلقك لهذه العبادة وهي سلم سعادتك إلى الملكوت الأعلى، كما أن علة وجودنا في هذه الحياة أن نعبد ربنا عز وجل، وذلك ليؤهلنا إلى أن ينزلنا في العالم العلوي الجنة.فإذا كنت في بلد بل في عمارة، وما استطعت أن تعبد الله فيها، فيجب أن تخرج من هذه العمارة ما دام أن وجودك يحملك على أن تتأثم وترتكب المعاصي والذنوب، فارحل من هذه العمارة إلى أخرى، إذ إن العبرة ما هي بمساحة الأرض، وإنما العبرة بوجود مكان تعبد الله تعالى فيه.وقد كتبنا رسالة بعنوان: إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام، وخلاصتها: أيها المسلمون في بلاد الكفر! هل أنتم مضطهدون مضطرون إليها؟ هل دولكم وإخوانكم ألجئوكم إلى الخروج من البلاد الإسلامية فلجأتم إلى تلك الديار تعبدون الله تعالى؟ فإن قلتم: نعم، قلنا: لا بأس فأنتم في خير، وإن قلتم: لا، ما اضطهدونا ولا عذبونا ولا منعونا أن نصوم ونصلي، لكن خرجنا لطلب الرزق والعيش، قلنا: والله ما يجوز لكم أن تعيشوا بين ظهراني الكفار من أجل القوت، إذاً: وقعنا في مشكلة، فما المخرج منها؟ قلت لهم وبتوفيق من ربي: يا معشر الإخوان! يا أبناء الإسلام! الطريق هي أن تنووا بإقامتكم في ديار الكفر الدعوة إلى الإسلام، فتحولوا نيتكم من طلب العيش إلى نشر دعوة الله تعالى، وأول شيء يجب أن تصححوه هو عقائدكم، وأن تكون لا إله إلا الله محمد رسول الله نوراً تلوح على أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم، فلا خرافة ولا ضلالة ولا شرك ولا باطل، وإنما توحيد حقيقي كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دور المسلمين المقيمين في بلاد الغرب في نشر الإسلام والدعوة إليه
ثانياً: أن تتهذب أخلاقكم وآدابكم فتسمون وتعلون على أولئك الكافرين، فيظهر منكم الصدق والأمان والوفاء والطهر حتى يتأثر بكم أولئك الكفار، أما أنكم ناوون البقاء لنشر الإسلام وأنتم تطردون الناس من الإسلام بكذبكم وجرائمكم وتلصصكم وهبوطكم فلا ينفع هذا، بل لا بد وأن تكونوا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم أخيراً: تدعون إلى الله تعالى بالكلمة الطيبة إذا أمكنكم، ولما يكون لكم المسجد فهو مركز دعوتكم، ويأتي من يريد أن يدخل في الإسلام فيبين له، وبهذه النية فأنتم مرابطون في سبيل الله، ويجري لكم أجركم إلى يوم القيامة، وقد وزعنا هذه الرسالة، لكن ما دام أنه لا توجد لجنة عليا تحتضن مثل هذا، فقلَّ من بلغته أو عمل بها.إذاً: الذين يعيشون في بلاد الكفر ما داموا آمنين على دينهم وأعراضهم وأبدانهم فيجوز لهم البقاء هناك، لكن لا بد وأن يحولوا هجرتهم من أجل المال أو الطعام والشراب إلى هجرة من أجل نشر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى بين الناس، وهذه النية لا تتحقق إلا بالمبادئ الآتية:أولاً: لا بد من عقيدة صحيحة سليمة، أما أن توجد جماعات خرافية ضالة تعبد الأولياء، فإن هذا لا قيمة لدينهم ولا لوجودهم، بل لا بد من عقيدة ربانية كعقيدة رسول الله وأصحابه.ثانياً: لا بد من استقامة لتكونوا مقبولين بين الكافرين، بل وأفضل منهم وأسمى وأعلى، فيظهر منكم الصدق والوفاء والشجاعة والكرم والطهر، ولا يبق مظهر من مظاهر الباطل والسوء فيكم، وبهذا تنشرون دعوة الله، ولكم أجر المرابطين في سبيل الله، ولو لم يسلم على يدك واحد طول حياتك، بل يكفيك أنك بينت الإسلام وأظهرته.والخلاصة: أن الهجرة فريضة الله على كل مؤمن إذا وجد نفسه في مكان لا يستطيع أن يعبد الله عز وجل، وبعض الشبان يقولون: نحن منعونا من إعفاء اللحية، فكيف نفعل؟ أقول: اللحية ليست هي الدين الإسلامي كله، وإنما هي سنة من سنن الإسلام، وما منعوكم من إعفاء اللحية إلا لما وجدت الفتن، وذلك كفتنة جهيمان وغيرها، حتى أصبح كل ذي لحية ينسب إلى هؤلاء الذين يعملون الفتن، وقد صدر أمر خادم الحرمين بأن هذا الباب لا يفتح علينا، والجيش السعودي ورجال البوليس بلحى.أقول: أحدثنا شغباً وتعباً للحكومة فأصبحت تتبع أصحاب هذه الفتنة، إذاً: في هذه الفترة إذا حلقت وجهك فلا بأس، وذلك حتى تسلم من الفتنة، ولما تنتهي الفتنة فباب الله مفتوح، فعد إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا: أنهم لا يقولون: نحن نهاجر لأننا في بلادنا الآن قد منعنا من الصلاة في وقتها، لا، إذ إن هذا وقت فتنة، ولما تنتهي السنة والسنتان تعودون إلى ما كنتم حيث لا فتن.فالذين يجب عليهم أن يهاجروا هم الذين يُمنعون من أن يعبدوا الله تعالى ويوحدوه، وهذا هو الحكم الشرعي، ويبقى إذا وجدت نفسك في قرية ما فيها من يعرف الله، ولا كيف يعبد الله تعالى، أو وجدت نفسك في بلد ما فيه من يفرق بين الحلال والحرام، فإنه يجب عليك أن تهاجر إلى بلد تعرف كيف تعبد الله عز وجل، أن تهاجر إلى بلد تتعلم فيه دين الله تعالى، إذ السر في الهجرة هي أن نعبد الله من أجل أن نهيئ أنفسنا للكمال والسعادة في هذه الدار وفي الدار الأخرى، وبالتالي فأيما ظرف أو حال عطّل هذه العبادة فيجب عليك أن نرحل.وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:15 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (53)
الحلقة (276)

تفسير سورة النساء (58)

رخص الله عز وجل لعباده إذا هم خرجوا في سفر أن يقصروا الصلاة إن خافوا عدوهم، وبعد أن انتشر الإسلام وأمن الناس واضمحل الشرك والكفر بقيت رخصة القصر في سائر السفر، رحمة من الله عز وجل بعباده، فمن خرج في سفر شرع له أن يقصر الصلاة الرباعية كالظهر والعصر والعشاء فيصليها ركعتين ركعتين، وأما الفجر والمغرب فلا قصر فيها.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم لك الحمد على ما أوليت وأعطيت، اللهم لك الحمد على ما أحسنت وأفضلت، فإنا لك شاكرون.
وجوب الهجرة عندما يحال بين العبد وربه والوعيد لمن ترك ذلك
معاشر المستمعين والمستمعات! قبل أن نشرع في آيات جديدة فنتلوها ونأخذ في دراستها، أعيد إلى أذهانكم ما سبق أن درسناه في الليلة الفائتة، قال تعالى -وقوله الحق- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، كيف ظلموا أنفسهم وقد كانت نورانية كهذه المصابيح؟ ظلموها بأن أفرغوا عليها أطناناً من الذنوب والآثام فتعفنت واسودت، ومثل ذلك أن تأتي إلى مؤمن طاهر نقي فتصب عليه الأوساخ والقاذورات، وأنت بذلك تكون قد ظلمته. قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، أي: قالوا لهم: فيم كنتم؟ في مزابل؟ في مراحيض؟ في أي مكان كنتم حتى أصبحتم هكذا؟ فقالوا معتذرين: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: قهرونا وغلبونا ومنعونا من أن نذكر الله تعالى، وأن نقف بين يدي الله عز وجل، وأن ننكر الشرك والمشركين، فهذه هي علتهم، فردت عليهم الملائكة فقالت: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، فما استطاعوا أن يجادلوا؛ لأن الحجة قد قامت عليهم.فقال تعالى في الحكم عليهم: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، فلماذا كان مستقرهم ومأواهم جهنم؟ لأن أرواحهم خبيثة منتنة عفنة ليست أهلاً لأن تنازل الأبرار وتجالسهم في الملكوت الأعلى، فهل في هذا ظلم؟ لا والله، إذ الآن لو يدخل عليكم رجل ملطخ بالدماء والقيوح والقاذورات والأبوال، فهل تسمحون له أن يجلس بينكم؟ والله ما تسمحون له، إذاً فكيف يُسمح لشخص ملطخ متعفن بأوضار الذنوب والآثام أن يدخل الجنة دار السلام؟!
سقوط الهجرة عن أصحاب الأعذار
وإن قلتم: يا شيخ! ما استطعنا أن نخرج من تلك الديار؛ لأننا مرضى لا نستطيع أن نمشي أو نهرب في الليل، والمرأة تقول: أنا ضعيفة لا أعرف الطريق، ولا أدري أين نذهب؟ والطفل الصغير يقول: يا رب! ما ذنبي، فماذا قال الله تعالى فيهم؟ قال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:98-99]، فهل هناك أوضح من هذا البيان الإلهي؟ لو كنا نجتمع على كتاب الله منذ نعومة أظفارنا، منذ وجود أسلافنا والله ما هبطنا أبداً، ولكن هجرنا كتاب ربنا عز وجل، وصدق الله إذ يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، حولتموه إلى الموتى.إذاً: أولاً: الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة وجوباً عينياً لا كفائياً، ثم لما فتح الله مكة على رسول الله والمؤمنين سقطت تلك الهجرة عنهم، فأهل مكة يبقون في مكة، ثم أيما مؤمن وجد نفسه في دار أو في بلد لا يجد فيه من يعرف الله تعالى، ولا الطريق إليه، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر ليعرف الله، ويعرف كيف يعبده ويتقرب إليه.ثانياً: إذا وجد المؤمن نفسه في بلد لا يستطيع أن يقيم فيها صلاة، ولا أن يتجنب ما حرم الله، لا من أكل ولا من شرب ولا من ملبوس، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى مكان آخر ليتمكن من عبادة الله تعالى، إذ الهجرة هي الانتقال من مكان إلى مكان لأجل أن نعبد الله تلك العبادة التي هي علة وجودنا وعلة وجود الكون كله، وهي السلم للوصول إلى الملكوت الأعلى، فإذا تعطلت من أجل فقر أو خوف هاجر يا عبد الله إلى بلد آخر.وكان أول من هاجر في سبيل الله هو الخليل إبراهيم عليه السلام، فاقتدوا بأبيكم، واقرءوا قوله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، وذلك بعد أن حُكِم عليه بالإعدام، فأججوا النار وأوقدوها أربعين يوماً أو أكثر، وأرادوا أن يلقوه فيها حتى لا تتعلق به قلوب الناس أو يفتنهم عن دينهم الجاهلي الكافر، ولما أرادوا أن يلقوه في النار ما استطاعوا لشدة لهبها وحرها، فوضعوه في منجنيق ودفعوه من بعيد، وقبل أن يصل إلى النار عرض له جبريل فقال له: هل لك حاجة يا إبراهيم؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، والمتصوفة والهابطون في الضلال يقولون: قال إبراهيم: حالي يغني عن سؤالي، ومعنى هذا: إياكم أن تدعو الله عز وجل، إذ إن هذا عيب عليكم، كيف تدعوه وهو يعرف حالك؟! ومعنى هذا أيضاً أنهم هدموا أعظم حصن في الإسلام وهو العبادة، إذ إن الدعاء هو العبادة ومخها، فاستطاعوا أن يحرموا المؤمنين والمؤمنات من دعاء الله حتى يبقوا هابطين، وهذا من تخطيط الثالوث الأسود، والمقلدون يقلدون ويقولون: هذا من وضع الماكرين، فقالوا: ليس هناك حاجة إلى أن تقول: رب أعطني، ارزقني، اعملي لي كذا، هل هو ما يعرف؟ معناها: أنك تقول: رب لا يدري وأنا أبين له! وهذه مقتلة ومذبحة للعقيدة، فالدعاء هو العبادة، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي [الجن:20]، فمن ترك دعاء الله كفر، فهل عرفتم من أين أخذوا هذا؟ إبراهيم قال: أما إليك فلا، أي: أنا أدعو ربي فقط، فقال الله عز وجل: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فانقلبت برداً لولا قوله: وسلاماً، إذ إن البرد يقتل كالنار تقتل، وما أتت النار إلا على قيد في يديه ورجليه، فأحرقته فقط وخرج وقال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، فودعهم وتركهم، وهاجر معه ابن أخيه لوطاً وامرأته سارة، فخرجوا تائهين في الأرض، ليس عندهم ما يركبون ولا ما يأكلون، فاتجهوا غرباً تجاه فلسطين.
بيان من هو المهاجر الحق
فهل فيكم من قد هاجر؟ هذا رجل يقول: أنا من المهاجرين، على كل حال الله يعلم ما في نياتنا وقلوبنا، فالذي يهاجر من بلد إلى بلد يريد وجه الله هو المهاجر، لكن أفضل المهاجرين هو من أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( المهاجر )، و(أل) الدالة على عراقة الوصف ومكانة ...، ( المهاجر ) بحق، ( من هجر ما نهى الله ورسوله عنه )، أي: المهاجر بحق وصدق، من هجر، أي: ترك، ما نهى الله تعالى عنه ورسوله من سائر المنهيات والمحرمات، فذلك هو المهاجر بحق، فمن فاتته الهجرة من دار إلى دار فلا تفوته، فاستعن بالله واهجر بقلبك وبسمعك وببصرك كلما نهى الله تعالى عنه ورسوله.واعلموا أنه لا بد من أن تكون القلوب مقبلة على ربها، فصححوا معتقداتكم، وحققوا معنى لا إله إلا الله، فصاحب هذه المنزلة العالية قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، أما مع دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذور لهم والعكوف على قبورهم والتمسح بأتربة أضرحتهم، فهذا يتنافى منافاة كاملة مع الإيمان بالله ورسوله، إذ لا يصح أبداً أن يكون صاحبها مؤمناً، وقد خدعونا وغرونا وفعلوا بنا العجب، والحمد لله قد صحونا وانتبهنا وعرفنا ألا إله إلا الله معناها: لا ينبغي أن يوجد في الأكوان من نقبل عليه بقلوبنا ووجوهنا إلا الله تعالى، فلو تعطش ألف سنة لا تقل: يا سيدي عبد القادر اروني، ولو تجوع حتى يكاد الجوع أن يقتلك فلا تقل: يا أولياء الله! أنا خادمكم، ولو تصاب بمصائب فلا تفزع فيها إلى غير الله أبداً؛ لأن هذه الفضائل والمقامات السامية لا بد لها من أصل ألا وهو توحيد الله عز وجل.إذاً: المهاجر المؤمن الصادق ذو التوحيد الخالص هو الذي هجر كل ما نهى الله عنه من الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والعجب والسرقة والفجور والزنا والربا وعقوق الوالدين وأذية الجيران وأذية المؤمنين، بل كل ما نهى الله ورسوله عنه، فهذا هو المهاجر حقاً، فاللهم اجعلنا منهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:15 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100]، هذا خبر إلهي، فأبشروا يا عباد الله، من يهاجر في سبيل الله ويترك الدار والبلاد لأنهم ما سمحوا له أن يعبد الرحمن فيها، فليعلم وإن ترك ماله وترك منصبه أن الله سيعوضه الله -والله- خيراً مما ترك بهذا الوعد الإلهي. يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا [النساء:100]، أي: ما يرغم به أنف أعدائه الذين منعوه من عبادة الله تعالى، وَسَعَةً [النساء:100]، أي: وسعة في رزقه الخير الكثير، وقد هاجر المسلمون من مكة فتركوا أموالهم وأوطانهم، وما هي إلا سبع أو ثمان سنوات إلا وهم يوزعون الفضة في الأكياس، فيا من تهجر ما نهى الله عنه ورسوله امنع نساءك وبناتك من السفور، ولا تخاف ولا تشقى ولا تتعب، بل طهر بيتك واهجر منه ما يشابه بيوت الغافلين، من الفيديوهات والتلفازات التي تعرض العواهر وهن يغنين ويرقصن وأهل البيت يشاهدون نساء ورجالاً! بل حتى لو كنت في بلد لا تستطيع أبداً إلا أن يكون في بيتك تلفاز ونساؤك وأطفالك يشاهدون، والله لوجبت عليك الهجرة، وحرام عليك أن تبقى في ذلك البلد، ولو تلتحق برءوس الجبال خير لك، ولكن الحمد لله ليس هناك مؤمن قد أكره على هذا، لا في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أبداً، ولكن الجهل وظلمة النفس هي التي أوقعت الناس في هذا.سألني شاب فقال: هل يجوز لبناتنا أن يمارسن الرياضة البدنية؟ فقلت: لا، فقد أعطانا الله رياضة حُرِمها اليهود والنصارى والبلاشفة والعالم الكافر بكامله، هذه الرياضة تؤدى خمس مرات في اليوم والليلة، ألا وهي إقامة الصلاة، فوالله لو أقمنا الصلاة كما أراد الله ورسوله ما احتجنا إلى رياضة بدن قط، لكن أكثرهم لا يصلون، ومن صلى لا يطمئن ولا يستقر، فلو أنك تقف معتدلاً كما يعدلونك أصحاب الرياضة ثم قلت: الله أكبر من كل جوارحك، ثم تأخذ في تلاوة الآيات-وأنت مع الله-فتفصح في بيانها وإخراجها من فمك، ثم تقول: الله أكبر، وتمد ظهرك وصلبك وتقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، وذلك سبع مرات، أو تسع أو إحدى عشرة أو عشرين وأنت في تلك الحال، ثم ترفع باعتدال وتقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ثم تقول: الله أكبر، وتمد نفسك على الأرض، وجبهتك وأنفك وأعضاؤك كلها مشدودة وأنت تسبح فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتدعو بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، ثم ترفع فتقول: الله أكبر، وتجلس جلسة معتدلة وتقول: رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني، وتفعل ذلك في صلاتك كلها، والله لا توجد رياضة أنفع من هذه، وأن أتكلم على علم، أمع هذا نقول: هل لبناتنا أن يمارسن الرياضة؟! لو كانت الرياضة ضرورية لبدن المسلم لأنزل الله فيها قرآناً، ولشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله شرع إقامة الصلاة فقال: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [البقرة:277] ولم يقل: صلوا، فتؤدى خمس مرات كل مرة على الأقل نصف ساعة مع النوافل والقيام في الليل وفي آخره، فهل صاحب هذه الرياضة يحتاج إلى أن يجري في الشارع؟! وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا [النساء:100] إلى من؟ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء:100] قبل الوصول، كأن مرض في الطريق فمات، فما أجره؟ قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] ويجزيه به، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].فهذه الآيات المباركات التي درسناها بالأمس تستقر هذه العلوم في أذهانكم، كما عرفتم أول المهاجرين، وعرفتم المهاجر الحق من هو؟ الذي يهجر ما نهى الله عنه ورسوله، فإن فاتتك الهجرة لكونك آمناً في ديارك، فإن هناك هجرة أخرى أعظم من تلك، ألا وهي أن تهجر ما نهى الله
ورسوله عنه من سائر الذنوب والمعاصي.
تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ...)
والآن مع قول الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، كانوا وما زالوا إلى يوم القيامة. ‏
جواز قصر الصلاة لمن كان مسافراً
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: ضربتم بأرجلكم مسافرين للهجرة أو للجهاد أو للتجارة أو لأي عمل كان. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج أو تضييق أو إثم أبداً. أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، أي: أن تقصر الطويلة منها، فتصلي الظهر ركعتين، وتصلى العصر ركعتين، والعشاء ركعتين، أما المغرب فوتر لا تنقص، إذ هي وتر النهار، والصبح كما هي. إذاً: هذه الآية تحمل حكماً فقهياً وهو مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر للجهاد أو للعمرة أو للتجارة أو لأي عمل شرعي يحبه الله ويأذن فيه. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وهذا الشرط قد زال، فقد تحررت الجزيرة واستقلت البلاد وقامت دولة الإسلام، وما بقي من يخاف، فتمشي من الرياض إلى المدينة، أو من مكة إلى نجران ولا تخاف شيئاً، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن عفو الله عنه، فشرع قصر الصلاة في السفر، وأنها سنة ثابتة وقائمة إلى يوم القيامة، وليست مستحبة أو فضيلة من الفضائل فقط، بل رحمة الله عز وجل بالمؤمنين، فقد أذن لهم أن يقصروا الرباعية، فبدل أن يصلوا الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، يصلوها ركعتين ركعتين وإن كنا في أمن كامل.
معنى قوله تعالى: (إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً)
ثم قال تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، أي: كانوا وما زالوا عدواً واضحاً بيناً، وأقل ما يحمله على عداوتك أن يراك تسعى لتكمل وتسعد وهو يسعى ليشقى ويهلك، وهو ما يحب لك هذا، والآن بعض الأوروبيين يعرف الإسلام، ولكن شهوته ودنياه ما تتركه يدخل في الإسلام فيتقيد بالصيام والصلاة والأوامر الأخرى، فما يقوى على هذا، ومن ثم يحسد المسلم لأنه يدخل الجنة وهو يدخل النار، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ الْكَافِرِينَ [النساء:101]، أي: المتوغلين في الكفر، كَانُوا [النساء:101] وما زالوا، لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، أي: واضح بين.
بعض الأحكام المتعلقة بالسفر
ونعود إلى بعض الأحكام المتعلقة بالسفر فأقول: هذه الآية تدل على مشروعية القصر، وأن القصر سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن بعض أهل العلم يقول: إن القصر واجب، ويستشهد بحديث: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر )، والحديث روته عائشة وخالفته بعملها، وقال أهل الملة الصحيحة من المذاهب الأربعة: لا وجوب أبداً، وإنما القصر من سنن الإسلام، فلو أتم لما بطلت صلاته ولما لحقه إثم أبداً؛ لأن الذي يقول: إن القصر واجب، لو صليت أربعاً فإنك صلاتك باطلة، فأنت زدت فيها ركعتين، وفي الحقيقة هذه الأقوال الشاذة والبعيدة والمتطرفة نحن بعيدون عنها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا مذهبية ولا تعصب، وإنما مسلمون نطلب الطريق إلى الله عز وجل من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: القصر سنة مؤكدة فلا تتركه يا عبد الله، يقول الرسول: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل يتصدق عليك مولاك وتقول: أنا لا أقبل؟ هل هذا أدب مع مولاك؟ إنها صدقة تصدق الله بها علينا فلنرضى بها ولنفرح ولنحمد الله على ذلك.ثم إن قوله: ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، يعني: مسافرين، فكم هي مسافة القصر؟ من العلماء من يقول: كل سفر يجوز للمؤمن أن يقصر فيه، ومعنى هذا: من خرج من هنا إلى أحد فهو مسافر؛ لأنه تجاوز البلد، وسافر كما تسفر المرأة إذا أبعدت الحجاب عنها، وهذا القول باطل ومردود وإن كان صاحبه من أئمة الإسلام وبصائر الهدى كـابن حزم، إذ السفر الحق هو الذي يرحل فيه الإنسان عن بلده ليجتاز مسافة يوم، أما مسافة عشر دقائق أو ربع ساعة في البستان فليس بسفر هذا، وإن تركت الدار وراءك، والدليل على ذلك: أن أسفار النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت أكثر من يوم وليلة.وبعض الفقهاء من قال: يجوز القصر إن كانت المسافة سبعين ميلاً أو خمسة وثمانين كيلو، والقول الذي قلت به ورجحته وكتبته في المنهاج أنه ثمانية وأربعين كيلو، وهو قول وسط، وديننا دين الوسطية، ومنهم من يقول: مسافة عشرين ميلاً، ومنهم من يقول: ثمانين أو خمسة وسبعين، والدليل على ما ذهبت إليه دليل علمي، ألا وهو أن الميل في لغة العرب ولغة القرآن وعرف علماء الأندلس وأئمة الإسلام ألفا ذراع، وألفا ذراع هو كيلو متر، والكيلو متر فيه ألف متر، والمتر ذراعان، وهنا فإن أوروبا قد أخذت هذا من الإسلام، إذ ما كانوا يعرفون الكيلو متر، وبالتالي فمن سافر مسافة ثمانية وأربعين كيلو فما فوق فهو مسافر وله جواز القصر، فإذا ركبت بعيرك أو حمارك ومشيت فإنك لا تستطيع أن تقطع خمسين كيلو إلا وقد انتهى النهار، ومع هذا إذا قال الرجل: أنا حنفي أو شافعي أو حنبلي أو مالكي لا أقصر، فهذا شأنه ولا نلومه أبداً، وجزاه الله خيراً، وإنما فقط من قال: أنا أقصر إذا خرجت من البلد فلا نقبل ذلك منه؛ لأن هذه ليست مسافة قصر، أما إذا كانت المسافة مسافة قصر فله أن يقصر، ومسافة القصر كما ذكرنا ثمانية وأربعين كيلو، سواء بالحمار أو بالسيارة أو بالطيارة أو بغير ذلك، قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]. ثانياً: متى نبتدئ في القصر؟ لما تترك البلد والدور وراءك، فإذا حضرت الصلاة وأنا إنسان مسافر إلى جدة مسافة خمسين كيلو فأقصر، لكن لا تقصر وأنت في البلد، كأن دخل وقت العشاء فنصلي العشاء ركعتين فلا يجوز هذا أبداً حتى تفارق البلد الذي خرجت منه، أما إذا دخلت البلد التي سافرت إليها، كأن سافرت إلى ينبع وأذن المغرب فقلت: سأصلي المغرب والعشاء ونخرج، فيجوز لك ذلك لأنك مسافر، إذ إن ينبع ما هي بلدك، إنما فقط بلدك التي أنت فيها مقيم، فلا تقصر حتى تغادر وتترك بلدك وراءك، والآن نحن نقصر في مطار المدينة إذا حضرت الصلاة؛ لأننا قد تركنا المدينة وراءنا بأميال وهكذا، ثم تبقى تقصر إلى أن تعود إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك انتهى القصر وجاء الإتمام والتتميم.ويبقى مسألة وهي: إذا نويت الإقامة بجدة أو بالقاهرة أو بالرياض يومين أو ثلاثة أو أربعة فلك أن تقصر الصلاة، لكن إذا عزمت أن تقيم أكثر من أربعة أيام، كأن عزمت أن تقيم خمسة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فلا تقصر؛ لأنك أصبحت مقيماً، فأنت إذا سافرت الآن إلى مدينة بريدة، وأردت أن تقيم خمسة عشر يوماً أو عشرة أيام، فبمجرد ما تدخل المدينة لا تقصر الصلاة؛ لأنك أصبحت من أهلها، أما إذا كنت لا تدري هل سنخرج غداً أو بعد غد؟ ففي هذه الحال تبقى تقصر ولو شهراً، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصلاة في تبوك عشرين يوماً، فقد خرجوا من المدينة وأخذوا في قصر الصلاة حتى عادوا؛ لأن الرسول ما يرحل ولا يقيم إلا بإذن الله، فهو ينتظر أمر الله عز وجل، فهو لا يدري متى يقول: سافروا أو تقدموا لقتال العدو؟ وهذا الذي عليه الأئمة الجمهور، وهو الوسط. إذاً: إن نوى الإقامة لأكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة حتى يستأنف السفر ويقبل خارجاً من بلده، فإن لم يدر متى يخرج غداً بعد غد، فإنه يبقى يقصر ما دام كذلك ولو عاماً.وهنا استغل بعض الطلبة فقلدوا الأباضيين، والأباضي إذا رحل من بلده وترك زوجته وأولاده فهو مسافر، ولو فتح دكاناً أو متجراً عظيماً، فإنه يشتغل لأعوام ويقول: أنا مسافر؛ لأن امرأتي في البلد، وقد أخذ هذا بعض طلاب العلم الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا فقالوا: نحن نقصر لأننا لسن من أهل البلد، وقد أخطئوا، وبالتالي يجب أن يراجعوا أمرهم، ثم أي سفر هذا؟!كذلك الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز، فلك أنت فيه حر، فلك أن تجمع، ولك ألا تجمع، إذ كونك تصلي الصلاة في وقتها هذا أفضل لك، لكن إذا الضرورة استدعت ذلك، كأنك أصابك التعب أو الإعياء فاجمع ولا تتحرج، فتجمع المغرب والعشاء، والظهر والعصر، إن شئت جمع تقديم فتصلي العصر مع الظهر، أو جمع تأخير فتصلي الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، أو تصلي العشاء مع المغرب فهذا جمع تقديم، والكل واسع، وراعي فيه مصلحة سفرك وحاجتك إلى ذلك، وإن شاء الله سنعود إلى الآية في يوم آخر.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.




ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (54)
الحلقة (277)

تفسير سورة النساء (59)


الصلاة هي عمود الدين؛ لذلك فإن الله لم يرخص لأحد في ترك الصلاة حتى لو كان مريضاً أو خائفاً، فشرع للمريض صفة صلاة تناسبه، وشرع للخائف صفة صلاة تناسبه، وصلاة الخوف تكون عند ترقب لقاء العدو أو أثناء المعركة، ولها صفات متعددة تصل إلى إحدى عشرة صفة، تتناسب مع الحال التي يكون فيها المؤمنون، وموضعهم من عدوهم، فإذا زال الخوف عاد المسلمون لإقامة صلاة الجماعة كما كانوا يقيمونها أول الأمر.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، وارفع درجاتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين.ومعنا هذه الآيات الأربع وقد درسنا الآية الأولى منها، وبقي معنا الآيات الثلاث وهي تتحدث عن مسألة فقهية، فاللهم فقهنا في الدين، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).فهيا نتلو الآيات ونستمع ونصغي ونتدبر ونتفكر حتى نفهم مراد الله تعالى منها، إذ إننا مأمورون بتدبر القرآن الكريم، فقال مولانا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وهذا في الحقيقة ذم للمنافقين؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن الكريم، أما المؤمنون فإنهم يتدبرون الآيات حتى يفهموا ما يريد الله تعالى منهم فيقدموا مطلوب الله، فأولئك هم المؤمنون الأحياء، فهيا نتلو الآيات الكريمات حتى نفهم مراد الله تعالى منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104]. وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: ضربتم بأرجلكم مسافرين، إذ الماشي على الأرض يضربها برجليه. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: تضييق وحرج. أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، فتصلوا الرباعية كالظهر والعصر والعشاء اثنتين، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـعمر عندما قال: قد زال الخوف يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ). وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهذه الآية قد درسناها.وخلاصة ما علمناه من الآية: أن قصر الرباعية في السفر سنة مؤكدة، ولا نقول كما يقول بعض الغلاة: إنها فريضة، ولو أتم أحد فصلاته باطلة، وهذا اتركوه جانباً، ولا نقول: هذه رخصة إن شئت عملت بها وإن شئت تركتها، فأيضاً نترك هذا جانباً؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمتنا ما تركوا القصر قط في المسافات التي يقصر فيها، فالصلاة ذات الأربع الركعات كالظهر والعصر والعشاء تقصر إلى اثنتين اثنتين، وتقرأ في الأولى بالفاتحة وسورة، وفي الثانية كذلك، والمغرب لا تقصر لأنها وتر، والصبح لا تقصر لأنها ركعتان.وأما المسافة التي نقصر فيها فكذلك نترك الغلو أو التطرف كما يقولون، فلا نقول: كل من خرج من بلده كيلو متراً فإنه يقصر، بل لا بد وأن تكون المسافة مسافة يوم وليلة على بعيرك، وأقلها ثمانية وأربعين كيلو متراً، فإذا خرجت من بلدك وكانت المسافة ثمانية وأربعين كيلو أو خمسين كيلو، ثم أذن المؤذن فدخل الوقت فلك أن تقصر حتى ترجع إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك فقد انتهى القصر، وإن أقمت في البلد الذي سافرت إليه أكثر من أربعة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فيجب أن تتم صلاتك؛ لأنه قد انتهى السفر، لكن إن أقمت فيها يوماً أو يومين أو ثلاثة إلى الأربعة فاقصر، وإن كنت لا تدري متى تخرج منها غداً أو بعد غد، أو حتى يجيء فلان، ما استقريت أبداً على مدة المكث، أو استقريت على البقاء في هذا البلد أكثر من أربعة أيام، فواصل القصر حتى تعود، وهذا الذي عليه أئمة الإسلام: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وتلامذتهم.وأما الجمع في السفر فللمسافر إذا احتاج إلى الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، أن يجمع، وهذا جائز، وليس بسنة يثاب عليها ويأثم على تركها، وإنما يجوز فقط، وينظر المسافر في ذلك إلى مصلحته، فله أن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر أولاً، أو يؤخرها ويصليها في وقت العصر، أو يصلي المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو يؤخر المغرب ويصليها مع العشاء. وقد نجمع ليلة المطر، وذلك أيام كان لا أضواء ولا سفلتة للطرقات، وليس عندنا ثياب ولا مدفئات كاليوم، فيؤذن للمغرب فيصلي أهل القرية المغرب والعشاء ثم يعودون ما دام الضوء موجوداً في الشوارع، وهذه رحمة الله بنا، ورخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.وكذلك المريض الذي يصعب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها، فله أن يجمع وهو على فراشه، فيصلي الظهر مع العصر جمع تقديم أو تأخير، ويصلي المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير؛ لمرضه وعلته وعدم قدرته على القيام والصلاة. الآية مرة أخرى، قال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ [النساء:101] وما زالوا، عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهنا قال عمر: ( قد انتهى الخوف يا رسول الله؟ فقال: اسكت يا عمر! هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فأولاً كان العذر: السفر والخوف، وإذا زال الخوف يبقى هذا كصدقة تفضل الله بها علينا، فنأخذ بصدقة الله ولا نردها أبداً.
تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...)
والآن مع الآيات الباقية وهي في صلاة الخوف، قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:102-104].صلاة الخوف يعني إذا كنت خائفاً كيف تصلي؟ قالت العلماء: إذا كان السيل آت من الغرب إلى الشرق، وإذا دخلت تصلي جاءك السيل فأغرقك وأهلكك، استقبل السيل واترك القبلة، وكذلك عدو ينتظرك ويتربص بك وأنت تعلم أنه يجيء من هذا الطريق، فإذا أردت أن تصلي فاستقبل جهة العدو، وكل هذا حفظاً لأولياء الله عز وجل من أن ينالهم مكروه أو سوء.فهيا بنا إلى صلاة الخوف في حال الحرب، قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، أي: يا رسولنا! والمخاطبون هم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وقد شذ أبو يوسف من أئمة المذهب الحنفي فقال: إن صلاة الخوف قد انتهت؛ لأنها لا تكون إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الله قد قال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وما دام أن الرسول ليس بيننا إذاً ليس هناك صلاة خوف، فرد عليه أهل العلم أجمعون، وقالوا: فقط أن يكون معنا إمامنا وحامل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا صلى بنا صلينا وراءه في حال الخوف وفي حال السلم.
صفة صلاة الخوف
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، أي: أذن المؤذن للصلاة وأقامها، فماذا نصنع؟ قال: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، أي: اقسم الجيش إلى قسمين، فقد يكونون أربعون أو مائة شخص أو مائتين أو أربعمائة، فاقسمهم إلى نصفين.إذاً: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، أي: دعوتهم إليها وأقمتها، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، أي: يصفون فيصلون وراءك. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أي: ما يضعون الرشاش والمدفع أو السيف أو الرمح، بل يحملونها استعداداً لما قد يحدث.إذاً: وَلْيَأْخُذُوا [النساء:102]، وهذا أمر، يأخذون ماذا؟ أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، وما قال: سيوفهم؛ لعلمه أن يوماً سيأتي ما ينفع فيه السيف. فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: فإذا سجدت يا رسولنا ومن معك فليكن أولئك الحاملون للسلاح من ورائكم يحمونكم. مرة أخرى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، ولا يضعونها، بل يصلون وأسلحتهم على أعناقهم وأكتافهم، فَإِذَا سَجَدُوا [النساء:102] أي: الذين معك، فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: أولئك الذين هم كالحرس يحمونكم. وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].ولصلاة الخوف أكثر من إحدى عشرة صورة، وكل ذلك بحسب شدة الخوف ووضع المعركة، وهذه الصورة التي في هذه الآية تقتضي أن يكون العدو غير حاضر، وإنما نتوقع هجومه علينا فقط، وفي هذه الحال يقول إمامنا بعد أن يقيم الصلاة فينا: فلتأت طائفة ولتصل ورائي، فيصفون ويصلون وراء الإمام، والطائفة الأخرى تقف في وجه العدو، والكل سلاحه في يده أو على كتفه، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة ويبقى واقفاً وهم يتمون لأنفسهم، ثم يذهبون إلى المعسكر، فيقفون موقف أولئك، ثم يأتي أولئك فيصلي بهم الإمام ركعة ويبقى جالساً ويقومون هم فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم الإمام جميعاً.وخلاصة القول: أن هذا بحسب وضع المعركة، فأحياناً يتطلب منا أن نصلي ونحن على صهوات الخيول، والرجل يجري وهو يصلي، والمهم أن صلاة الجماعة هي منبع الفضائل الإسلامية، ومصدر المودة والإخاء والتعاون، وقوام هذه الملة، فلا تترك حتى في حال الحرب، بل حتى في شدة الخوف، والله ليصلين أحدهم وهو يطارد العدو، وذلك خوفاً من أن يفوته، وأما الهارب فلا تسأل. إذاً: للمسلم في الحرب أن يصلي بالإيماء، أو يصلي على ظهر الخيل بالإيماء والإشارة، وليس شرطاً أن يأتي بالركوع والسجود، وإنما بحسب وضع المعركة، فإن تطلب منا الوضع أن نصلي ونحن نهاجم العدو نصلي بالإيماء والإشارة، إن لم يتطلب منا الوضع لأننا ما أطلقنا الرصاص بعد، والعدو ينتظر متى نغفل حتى ينصب علينا، فنقسم أنفسنا إلى قسمين، فقسم يقفون في وجه العدو، وقسم يصلي ركعة مع الإمام، ثم يتمون لأنفسهم والإمام واقف ينتظر، ثم تذهب حتى تقف في وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلون وراء إمامنا الركعة الثانية، ركعتين، ويبقى الإمام جالساً فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم، ولا نقول: كيف هذا؟ هذا تشريع الله وقد أذن الله فيه ولا حرج.واسمعوا إلى الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وقد أبطلنا قول من قال: ليس هناك صلاة خوف إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم! وتسعة وتسعون في المائة قالوا: صلاة الخوف تصح وراء إمامنا في المعركة، ولا نحتاج إلى رسول الله في كل مكان، والمهم أن هذا القول لا التفات إليه، وأما قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، فلأنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل وهو يشرع ويبين، والإنسان الذي قال بهذا القول مهما كان قد تزل قدمه، إذ قد يخطئ البشر، لكن ما نأخذ بأخطاء شخص ونترك صواب مائة، فدائماً كن مع جماعة المسلمين، أما أن يشذ شاذ فنجري وراءه فإننا سنهلك، ثم ما الداعي إلى ذلك؟ وهل هو أفضل أم أمة كاملة أفضل؟ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالجماعة ). وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: الآخرون الذين يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هي نفسها، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].ثم قال تعالى: وَدَّ [النساء:102]، من؟ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102]، ومعنى: (ود): أي: أحب، وهي تعني أكثر من كلمة الحب. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ [النساء:102]، يخبر الله تعالى عما في قلوبهم، إذ هو خالق القلوب وعالم بحركاتها. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فإذا مالوا عليهم وهم يصلون أكلوهم. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وتصلوا؛ لأنه إذا كان هناك مطر وشخص مريض ما يقوى على حمل سلاحه فله أن يضع سيفه بين يديه ولا حرج، وهذه رخصة ثانية.يقول تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:102]، أي: لا إثم ولا حرج، إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وهذه رخصة، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: يجب أن تأخذوا حذركم من عدوكم. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، أي: إن الله قد هيأ للكافرين عذاباً مهيناً يهينهم ويكسر أنوفهم ويذلهم بأيديكم أيها المؤمنون.

يتبع

ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله...)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].إذاً: خلقنا للذكر فقط، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، سواء كنا في الصلاة أو في الجهاد، فإذا اطمأننا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ يدخل فيه كل مؤمن ومؤمنة، فإذا فرغ من الصلاة فيذكر الله عز وجل وإن كان يمشي، وإن كان يقود سيارته، بل يقود طيارته وهو يذكر الله، إذ إن ذكر الله غذاء روحي يزيد في طاقة إيمانك، ويزيد في طاقة صبرك، ويزيد في طاقة كمالك، ويدخل فيه الدعاء وأنواع الذكر؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ أيضاً يدل على أنه إذا اشتدت المعركة نصلي على أي حال، فلك أن تصلي وأنت جالس والرشاش في يدك؛ لأنك إن قمت ضربك الآخر برصاصة، بل ممكن أن تنام على جنبك حتى تتقي الرصاصة، وثم أنت تذكر الله وتصلي. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، وزال الخوف والإعياء والمرض، فإذا اطمأننتم ماذا تصنعون؟ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: أقيموها كما تقام في حال الأمن والصحة والعافية، وأتموها على الوجه الذي نزل به جبريل وعلم رسول الله كيف يصلي، فيقوم ويقرأ ويطمئن في الركوع وفي السجود وفي الجلوس. فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، يعني: زال الخوف وسكنتم فأقيموا الصلاة، وإن قلت: لم يا الله؟ والجواب: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: كتاب مؤقت، صلاة مؤقتة، فلا تستطيع أن تصلي أي صلاة في غير وقتها، إذ إن الصلاة مؤقتة بأوقاتها المحددة من قبل ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فلا تصح صلاة قبل وقتها أبداً إلا ما أذن فيه عز وجل، وذلك كالجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقد نزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح عند الكعبة في أول وقتها، ثم جاء الظهر فصلى بالرسول عند الكعبة في أول وقتها، وجاء كذلك في العصر وفي المغرب وفي العشاء، ثم جاء اليوم الثاني فصلى به جميع الصلوات في آخر الوقت، ثم قال له: ما بين هذين وقت، أي: ما بين صلاتنا أمس وصلاتنا اليوم وقت، فمثلاً: يؤذن للظهر على الساعة الثانية عشرة وربع، وهو في اليوم الثاني جاءه في الثالثة فصلى به، والعصر في الثالثة والربع، فهذه الربع الساعة ما بين هذين وقت، وهكذا صلى العصر عند الساعة الثالثة والربع، وفي اليوم الثاني الخامسة والربع صلى العصر، وقال: ما بين هذين وقتين، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم...)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].ثم قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: يا أولياء الله! يا جيش الرحمن! لا تهنوا ولا تضعفوا، والوهن هو الضعف والانهزام والخور. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: في طلب العدو وأنتم تجاهدون. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لجراحات أو تعب أو مرض أصابكم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: هم، فإذا تألمنا نحن للتعب وللجوع وللمرض وللحرب الدائرة من ساعات طويلة، فالعدو هو أولى بهذا الألم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، وشيء آخر: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فرق ما بينكم وبينهم، فأنتم ترجون المغفرة والعزة والنصر وهم آيسون من هذا لا يرجونه؛ لأنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا بلقائه. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فاقبلوا إرشاداته وتوجيهاته بل وأوامره؛ لأنه عليم بما يقنن ويشرِّع، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلو جاء من يقول: لا داعي لصلاة الخوف! والله ما نقبل كلامه؛ لأن المشرع ما كان جاهلاً فأخطأ، ولا كان أحمقاً ما يدري الأول من الآخر فوضع أشياء وهي خطأ، إنه عليم بخفايا الأمور وظواهرها، عليم بما بين أيدينا وما خلفنا، عليم بما في صدورنا، حكيم في كل شرعه وعمله، فلا يضع الشيء إلا في موضعه، والحكمة ما عرفناها إلا منه، إذ هو واهبها ومعطيها.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هيا نتلو عليكم الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وقد زال الخوف وبقيت هذه الرخصة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله عمر: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فبقيت هذه السنة إلى يوم القيامة.ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] أي: للصلاة، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون من ورائكم يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، أي: بعد صلاة الركعتين، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، أيها القائد صلى الله عليه وسلم، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] فهذه هي صلاة الخوف. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فماذا يتركون لهم لو مالوا عليهم ميلة واحدة؟ يأكلونهم، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وقد تقدم أنه يصلي والسلاح، لكن إذا كانت حالة مطر شديد أو كان الرجل مريضاً ما يقوى على حمل السلاح والصلاة به، فقد أذن له الشرع بأن يضع سلاحه بين يديه، وهذه رخصة من الله تعالى، ولكن وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، لم؟ قال: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، ومعنى هذا: أنكم منتصرون أعزاء، وأما عدوكم فقد هيأ الله له الذل والهون والدون؛ لأنهم كفروا به، إذ إنه يطعمهم ويسقيهم وهم يجهلونه ولا يسألون عنه، ولا يحمدونه ولا يشكرونه.ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، ماذا نصنع؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذه عامة إلى يوم القيامة، إذ لا يوجد مؤمن منا يقول عند الانتهاء من صلاته: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم يخرج ولا يذكر الله أبداً! أعوذ بالله، ولذلك إن كان هناك وقت متسع فيجلس على الأقل فيقول: استغفر الله ثلاث مرات، ثم يقول: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )، ثم يقول: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ثلاث مرات، ثم يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين، ثم يختم المائة فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم يقرأ آية الكرسي، والمواظبة عليها ضمان له بالجنة بإذن الله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو الله ويسأله حاجاته، وإن كان مضطراً أن يخرج فليس هناك ما يمنعه أن يسبح الله وهو يمشي أو وهو على دابته، فهل فهم الصالحون هذا أو لا؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، حتى الصلاة أيضاً تتضمن هذه الآية، فإذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم فيصلي وهو قاعد، أو ما استطاع أن يصلي وهو قاعد فيصلي على جنب، أو ما استطاع أن يصلي على جنبه فيصلي وهو مستلقٍ ويومئ برأسه أو بعينيه.وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ [النساء:103]، وما زالت عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:103]، أي: المؤمنين الصادقين، كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: محدد الوقت، فالكتب تأكيد والوقت معين.ثم قال عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو أيها المجاهدون، ونخشى أن يسمع التائهون والضائعون فيقولون: الشيخ يقول: المجاهدون، نعم، المجاهدون الذين قادهم إمام بايعته الأمة فقادهم إلى دار الكفر ليدعو أهلها إلى الدخول في الإسلام، أو ليفتحوا المجال لتعليم تلك الأمة وإنقاذها من الكفر والخبث والشر والفساد، فإن أبوا إلا القتال فالقتال، وذلكم هو الجهاد، أما عصابات تتعنتر وتخرج عن الإمام وتلتحق بالجبال وتختبئ ويقولون: هذا جهاد! فبئس الجهاد، ووالله ما هو بالجهاد، إنما هي الفتنة العمياء والضلال المبين، وممكن واحد من الجالسين يقوم يتعنتر ويبين لنا، دلونا ماذا أنتجت تلك الطفرات؟ هل أوجدت دولة إسلامية؟! من إندونيسيا إلى بريطانيا ثلاثة وأربعين دولة ما استطاعت دولة واحدة أن تقيم الصلاة فقط أبداً، أو أن تجبوا الزكاة، أو أن تشكل فيها لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك لأن الأمة هابطة جاهلة لاصقة بالأرض. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي قوم؟ الكفرة المشركون الذين يحاربونكم. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فهم أيضاً يألمون، إذ إنهم بشر مثلكم، وبالتالي ما داموا يألمون وأنتم تألمون فأنتم أولى بالثبات والوقوف في وجوههم. فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وهذا هو الفضل العظيم، فنحن نرجو إذا متنا أن نموت شهداء نبيت في دار السلام، وهم يبيتون في جهنم، وإذا انتصرنا نشرنا العدل والخير والطهر والصفا، وهم إذا انتصروا نشروا الخلاعة والدعارة والكفر والشر والفساد.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:18 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 

http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (55)
الحلقة (278)

تفسير سورة النساء (6)

لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، بحجة أنهما لا يركبان فرساً ولا ينكيان عدواً، لكن لما جاء الإسلام ونزل الكتاب بين أن المرأة والطفل لهما حق في الميراث، وفي هذه الآيات يوجه الله عز وجل المؤمنين إلى أنهم إذا حضروا احتضار أحدهم فلا يسمحوا له أن يحيف في الوصية، بأن يوصي لوارث، أو يوصي بأكثر من الثلث، أو يريد حرمان الورثة بأي وجه من الوجوه.
الخلاف في كون البسملة آية في كل سور القرآن إلا سورة براءة
الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!وها نحن مع سورة النساء المدنية، وسبقتها سورة آل عمران المدنية، وسبقتها سورة البقرة المدنية، وسبقتها سورة الفاتحة المكية المدنية، نزلت بمكة ونزلت بالمدينة، فمرة نزلت بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، وأخرى بدونها، فمن هنا من رأى نزولها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم جعلها آية من آياتها السبع، وفرض قراءتها في كل قراءة، ومن رأى نزولها مرة ثانية بدونها رأى آياتها سبع آيات بدون بسم الله الرحمن الرحيم.والمذهب الجامع والطريق السديد: هو أننا لا ننكر على من لم يقرأها، ولا ننهى من قرأها، ونحن إن كنا أئمة نصلي بالناس نفتتح الفاتحة بـ: بسم الله الرحمن الرحيم سراً، ولا نجهر بها؛ حتى لا يتألم من يرى عدم قراءتها، ونقرأ بها لما ثبت من أنها نزلت بها. وبسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل سورة من كتاب الله، وليست بواجبة، وإنما الوجوب في آية من سورة النمل، فتلك بالإجماع آية من سورة النمل.لعلكم ما اطمأنت نفوسكم إلى هذا البيان، لا حرج، كل ما في الأمر أننا نهبط إلى أن تجتمع كلمتنا، ولا نختلف بيننا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء أبي بكر ووراء عمر فكانوا يفتتحون القراءة بـ: الحمد لله رب العالمين ) هل هناك من هو أعلم من أنس برسول الله وهو سيده ومولاه وأبي بكر وعمر ؟ هذا حديث في الصحيحين وفي الموطأ.فمن هنا الذي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أعظم أجراً، فمن هنا أخذاً بالحديث الصحيح ما نجهر بها، إذ من الجائز أنهم كانوا يسرونها سراً، ويرفعون أصواتهم بـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] للفرق بين البسملة وبين آية من سورة الفاتحة.ومن رأى كالإمام الشافعي أنها آية: ألزم تلامذته ونفسه بأن يجهروا بها ويقرءوها.قلنا: لكم ذلك، فأنتم ما عصيتم الله! وأنتم طالبون رضا الله بسملوا، وما بقي بيننا خلاف.ومن قال: كيف تسقطون آية من كتاب الله؟ هذا كفر. قلنا: لا! لا تقل هذا يا عبد الله! السورة نزلت مرتين، قرأها جبريل على رسول رب العالمين فمرة بسمل، ومرة لم يبسمل، فقلنا: ليست آية، وإنما هي افتتاح السورة كما افتتحت بها عامة سور القرآن إلا براءة؛ لأنها إعلان حرب، ما يحسن ذكر بسم الله الرحمن الرحيم مع ذكر الضرب بالسيف!إذاً: بسم الله الرحمن الرحيم موجودة في كل سور القرآن، وهذا المصحف أمامكم اللهم إلا سورة براءة، ما السر؟ إعلان الحرب: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:1-3] الآيات، فلم يحسن أن تفتتح بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، التي تحمل راية الرحمة.الحمد لله، العلم ما يؤخذ في ليلة واحدة، الله يعلم أننا ظالمون،لم؟ كيف نفتتح آية بها الأحكام الكثيرة ونريد أن نفهمها ونحفظها في يوم واحد؟ ما هو صحيح، والله ما نحن بمستقيمين في هذا الباب، تعودنا أن حكماً واحداً يتقرر ويتكرر؛ حتى يصبح من الضروريات للعبد الذي يطلبه، وبذلك يستقر في نفسه، ويقوى على تطبيقه، والدعوة إليه.عرفتم خطأنا؟ هيا نستغفر الله إذاً، اللهم اغفر لنا وتب علينا، اللهم اغفر لنا وتب علينا!
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً...) من كتاب أيسر التفاسير
والآن أذكركم بالآيتين الكريمتين اللتين درسناهما بالأمس، ونستعرض هداياتهما، هل نحن علمنا؟ حفظنا؟ هل في نفوسنا شك فنحتاج إلى بيان؟! ثم ننتقل إلى ثلاث آيات أخرى.تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا نقول: بسم الرحمن الرحيم، وإن قلناها لا بأس، فإذا كانت أول السورة فمن السنة أن نفتتحها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، ونقدم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أيضاً، وإن كانت الآيات في أثناء السور وداخلها فالطريق السليم المعهود عن السلف الصالح أن نفتتحها بـ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: نتحصن بالله؛ حتى لا يفسد علينا قراءتنا، ولا يرمي ألواناً من الشك والاضطراب في نفوسنا؛ لأنه بالمرصاد، لا يريد أن نسعد ولا أن نكمل ولا أن نتعلم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:5-6].
هداية الآيات
هاتان الآيتان تحملان هدايات.. تحملان أحكاماً شرعية؛ لأن السورة مدنية، حيث كان القانون تتوالى أحكامه يومياً لمدة عشر سنوات.قال: [ من هداية الآيات: أولاً: مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته ] وقد يكون السفيه امرأة، وقد يكون رجلاً، من السفيه؟ الذي ما يحسن التصرف في المال، يسرف فيه، يكثر من إنفاقه، حتى يفتقر ويصبح عالة على المجتمع.وما معنى الحجر؟ حجرة على رأسه؟! ما الحجر؟ كأن تضعه في حجرك، لا تسمح له أن يتصرف، حجرت عليه؛ لأنه يتصرف تصرف السفهاء بالمال، وهذا المال مال الأمة، (أموالكم)، والمال قوام الأعمال، وقد قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5] لا بالتشنيع والتنفير والسب والشتم: يا أحمق! يا سفيه! لا. حرام هذا. لم إخوانكم ما يحجرون على سفهائهم؟ للجهل. ما عرفوا، وإلا فالأسرة إذا ظهر فيها فرد مبذر ينفق في المعاصي.. يبدد في المال يجب أن يصدر حكم من المحكمة على هذا الشخص حيث لا يشترى منه إذا أراد أن يبيع، ولا يباع له إذا أراد أن يشتري؛ لأنه محجور عليه، فهو يتصرف في حدود المعروف فقط، حتى إذا زال السفه وحل محله الرشد والبصيرة والمعرفة أعطوه ماله يبيع ويشتري.لم نفعل هذا؟ حفاظاً عليه أولاً، وحفاظاً على مال الأمة التي تعيش عليه.هل تعرفون التصرف الباطل؟ أعطيكم مثالاً: يا شيخ! اشتر سيارة، هذه التي معك كم سنة تستخدم؟ والسائق يتململ ويتبجح هذه ما تمشي يا شيخ! ما دامت هذه السيارة تحملك، وتأتي ببضائعك إلى بيتك لم تستبدلها؟ تبيعها بعشرة أو عشرين وتشتري أخرى بتسعين؟ أيجوز هذا؟ هذا مثل من الأمثلة.هذا الحذاء صالح نافع طيب، قالوا: بدله، فقد طالت عليه المدة له سنة كاملة، هذا عدنان غلبنا وجاء بحذاء جديد، لا يحل الإسراف في المال وتضييعه.أولاً: ريال واحد تنفقه في معصية الله شر إسراف وأعظمه، ولا يحل أبداً، بله نصف ريال تنفقه في غير مرضاة الله فهو من الإسراف القبيح، وصاحب عرضة لسخط الله وعذابه، عرفتم هذا؟ وما ينفق في طاعة الله وإن أنفقت الكثير لا يقال فيه: إسراف، ما دام في طاعة الله عز وجل.ما هي السبل التي ينفق فيها المال وتكون في طاعة الله؟الصدقات، الأوقات، الجهاد، صلة الأرحام، معالجة المرضى، في سبيل الله.. هذا سبيل الله، وإن كان أيضاً لا بد من الاعتدال والقصد، وإليكم هذا الحديث الشريف يحضرنا الآن وهو: لما مرض سعد بن أبي وقاص المكي المهاجر لا سعد بن معاذ الأنصاري ، لما مرض سعد بن أبي وقاص وكان مرضه شديداً فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، ما معنى عاده؟ زاره. وعيادة المريض سنة من سنن الإسلام، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد : ( يا رسول الله! إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة واحدة، فأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فشطره -أي: نصفه- قال: لا. قال: الثلث. قال: الثلث، والثلث كثير ) الثلث لا بأس، والثلث كثير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك يا سعد ! أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة -أي: فقراء- يتكففون الناس ) هذا هو القول السديد، وقولوا لهم قولاً سديداً. لا نطيل على السامعين والسامعات، القصد القصد! في الإنفاق في الطعام في الشراب في اللباس في المركوب في السكن، وإياك والمباهاة والمفاخرة وإظهار العنتريات، لا! أنت عبد الله أليس كذلك؟ والعبد كيف حاله؟! إن شاء الله استفدنا هذه.إذاً: مشروعية الحجر عرفناها من الآية أم لا؟ وهي قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]. [ثانياً: استحباب تنمية الأموال ].كيف تنمي الأموال؟ كانت ألفاً فأصبحت ألفاً ومائتين! كانت خمسين ألفاً فأصبحت سبعين ألف، تنمو كما ينمو الشجر والعشب.[ثانياً: استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال ] لا في الأوجه الحرام كالربا وتجارة الحشيشة، وكالفيديو والتلفاز وفي آلات الأغاني وفي أزياء العواهر والمشركات، بل ينبغي أن ننمي أموال فقرائنا ويتامانا وسفهائنا وأموالنا .. ننميها لتنمو وتكثر في أوجه الحلال، فلا تفتح دكاناً في المدينة تبيع فيه السيجارة، ولا تفتح قهوة تبيع فيها آلات الشيشة. لا تغضبوا، سوف تضحكون في القبر إن شاء الله، لا تفتح استوديو التصوير، وإياك أن تبيع آخرتك بدنياك الهابطة! أصحيح هذا؟ إي والله ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ) قد يقول النحوي: لم ما قال: المصورين؟ قالت العلماء: من أجل أن يلفت النظر إلى الخطأ؛ حتى تقيس المصورون؛ لأنهم يضاهون خلق الله، ومن هنا اقترحنا على حكومتنا من سنين أن تأتي بكافر من الكفار الفقراء من الفلبينيين وتجعله في البلدية يصور في الجوازات. أيما مواطن يحتاج إلى صورة فهذا الكافر يصوره! أين نحتاجه؟ في البلديات .. في الجوازات .. في المستشفيات، حيث نحتاج إلى التصوير! اجعل هذا الكافر -وهو من أهل النار- يصور، وإذا قال: لم أنا ما أتوب وأسلم وأدخل الجنة؟ تفضل، اغتسل وتعال صل، ونبحث عن مصور آخر من أهل النار. معقول هذا الكلام أم لا؟ إذاً: [ استحباب تنمية الأموال ] في البنوك؟ لا! تودع مالك في بنك على أن تعطى كل سنة مائة ألف تعيش عليها، وتدع المليون هناك ينمى لك، فهذا لا يجوز، والله لأن تعيش على الكسبر والفلفل وكسور الخبز أحب إليك وأفضل من أن تعيش على هذا المبلغ المالي المحرم عليك؛ لأنها أيام وتنتهي، أطال الله عمر شيخكم، أصبح يستحي لما يقول: معشر الأبناء والإخوان! أين الإخوان؟ ماتوا، أولئك الذين كانوا في وجوههم البياض والشيب انتهوا، أين هم؟ وعما قريب تسمعون: مات الشيخ الجزائري .والله العظيم! ما هي إلا أيام فقط وتنتهي، كيف تبيع خلدك في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من أجل أوساخ قذرة؟ تستطيع أن تصوم على الخبز فقط، تستطيع أن تعيش ستين سنة وأنت جائع ولا تبالي، وأنت عزب ولا تفكر في فسق وخروج عن طاعة الله.قال: [ ثالثاً: وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه ].من أين أخذنا هذا؟ من فرض علينا أن نمتحنه ونختبره؟ الله، فقد قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]. ما معنى ابتلوهم؟ بالعصا يعني؟! اختبروهم، أعطه عشرة ريالات وقل له: جئنا بكذا، وانظر كيف يتصرف. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] والسفيه كاليتيم أيضاً، فإذا عرفنا أنه أصبح صالحاً لأن يأخذ ماله نمتحنه، فإن نجح أعطيناه ماله.قال: [ رابعاً: وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وبعد رشده ].هل عرفنا بم البلوغ يتحقق؟ أما في الغلام فإنبات الشعر حول العانة، وببلوغ الثامنة عشر من عمره، وأما الجارية فإنها تزيد على الإنبات بالحيض والحمل؛ فإن حاضت الجارية بلغت سن الرشد، ما حاضت لكن حملت، الولد في بطنها، يبقى شك في أنها بلغت؟ ما يبقى شك! إذا:ً [ خامساً: حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً ].لا يجوز أن تأكل مال السفيه، حجرت عليه وتأكل ماله، يجب أن تنميه وأن تحفظه له، وأن تنفق عليه منه في حدود فقط، حتى إذا ثاب إلى رشده وأصبح أهلاً للتصرف تعطيه أمواله، واليتيم كذلك تنمي ماله وتحفظه إذا بلغ سن الرشد ورشد ادفع إليه وأشهد عليه.من أين أخذنا هذا؟! وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6].قال: [سادساًً: الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض منه ] على أساس أن يرده يوم ما ييسر الله عليه [ ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى ] عمل هل الوصي يعمل فيه؟ يعمل، بأجرة أو بدون أجرة؟ إذا كان فقيراً بأجرة كأجرة مثيله، هذا المال يحتاج إلى حراسة، الحارس عادة كم يعطى؟ يعطى مثلاً ألف ريال، أنت أيها الوصي! احرس وخذ الألف وما تزيد على الأجرة، هذا العمل يحتاج إلى رفع ووضع وإدخال وإخراج مثلاً وأنت فقير؛ اعمل هذا العمل وخذ أجرة مثلك، اسأل عن العمال في هذا الشأن كم يعطون؟ خذها أنت. واضح هذا المعنى؟قال: [ وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولي أن يعمل بأجرة المثل ].لا يزيد ولا ريالاً واحد، هذه التعاليم من أنزلها؟ من شرعها؟ من قننها؟ الله رب العالمين، هذا الذي كفره الإنس والجن، ليهلكوا ويعيشوا إلى جهنم، كيف ينسون الله وهذه تعاليمه وهذه هدايته؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ...)
والآن مع أربع آيات موضوعها متحد، فهيا نسمعكم تلاوتها، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] ما معنى هذه الآية؟ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ [النساء:7] بعد موتهما، الأب والأم أم لا؟ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] كالأخ والأخت ومن إلى ذلك، مِمَّا قَلَّ مِنْهُ [النساء:7] سواء مليون أَوْ كَثُرَ [النساء:7] مما قل ريال، أو كثر عشرة نَصِيبًا [النساء:7] قسطاً مَفْرُوضًا [النساء:7].هذه الآية المجملة قررت قسمة التركات، أما تفصيلها جاء في: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:11] بعد ثلاث آيات، ولها سبب في نزولها. ‏
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات:لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ] قبل نزول هذه الآية أهل الجاهلية لا يورثون طفلاً ولا امرأة، لم؟ قالوا: المرأة لا تقاتل، والولد كذلك. لم نعطيهم المال؟ هذا المال لمن يحمل السيف ويدافع عن الحي والبلاد!قال:[ لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرساً، ولا تحمل كلاً، ولا تنكي عدواً ].قانون هذا؟ سمعتم الحجج أم لا؟ قالوا: والطفل كالمرأة لا تركب فرساً المرأة، بمعنى: لا تقاتل عن البلاد، ولا تحمل كلاً، إذا شخص كل وعجز لضعفه وفقره المرأة ما تفعل شيئاً معه، والطفل كذلك، ولا تنكي العدو، المرأة تجرح العدو أو تزعجه؟قال: [ يكسب ولا تكسب، وحدث -حصل- أن امرأة يقال لها: أم كحة ] تعرفون كحة أم لا؟ هذه تسمى: أم كحة ؛ لأنها تكح، [ مات زوجها، وترك لها بنتين، فمنعهما أخو الهالك ] أي: عم البنتين [ من الإرث ] قال: المال مال أخي، أنا أولى به، أما المرأة والبنتان لا حظ لهما! لا تنكي عدواً ولا تركب فرساً ولا تحمل كلاً.قال: [ فشكت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشو إليه [ فنزلت هذه الآية الكريمة ] لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] لها أثر أم لا؟ إليكم كيف جاءت تشكو.قال: [ لما شكت أم كحة أخا زوجها وجاء معها قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( انطلقا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن ) فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وإبطالاً لقولهم وتصرفهم الجاهلي؛ إذ المفروض أن الصغير والمرأة أولى بالإرث لحاجتهما وضعفهما ] أليس كذلك؟ فكيف يكون الرجل أولى، المرأة والطفل أولى بالتركة للضعف والعجز، لكن قانون الجاهلية قالوا: المرأة والطفل ما يدافعان عن البلاد ولا يحمل كذا ولا كذا، أبطل الله هذه القاعدة الجاهلية وحل محلها الهدي الإلهي. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا [النساء:7] حظاً مَفْرُوضًا [النساء:7] فرضه الله. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8].الجمهور: على أن الآية منسوخة، لكن ابن عباس قال: لا. بل هذه الآية محكمة، وقد عشناها وطبقناها ونحن لا نعرف، والله طبقت في قرى المؤمنين، لما نجذ قناطير التمر يوم الجذاذ، ويقسم التمر على الورثة، صاحب السدس سدس، صاحب النصف، صاحب الثلث، الخماس هذا يأخذ الخمس، الفلاح الذي يسقي ويؤبر له الخمس، لما نكون نقسم يأتي الفقراء من الأقارب بزنابيل وأكياس، مع أنهم لا يرثون لكن يجلسون وينتظرون، ولما نقسم نعطيهم كذلك، صاع صاع كذا كذا، سبحان الله! بركة هذه الآية، ولا نفهمها!فـابن عباس قال: محكمة، فعندما تأخذون في قسمة المال ويحضر بعض الفقراء من بعض الأقارب الذين لا يرثون وهم محتاجون أعطوهم شيئاً فشيئاً، وامسحوا دموعهم، آمنا بالله. قال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ [النساء:8] ما معنى حضر؟ جاء وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء:8] علم أنهم يقسمون الليلة التركة الفلانية. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى [النساء:8] أصحاب القرابة ما هم وارثون، كعمة أو خالة وهم فقراء ما يرثون. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ [النساء:8] حتى اليتيم دائماً يتتبع من يقسم يحضر معه. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8] أعطوهم شيئاً من ذاك الذي تقسمون. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] إذا شححتم وما أعطيتم أو أعطيتم قليلاً قولوا لهم قولاً معروفاً: هذا الذي حصل وبارك الله لك فيه، وسامحنا، أما العنف والشدة والغضب: قوموا، لم جئتم يا طماعون؟! فلا، الله أكبر! أين هذه الأمة؟ ماتت يوم ما جهلت هذه البيانات وما عرفتها، فالقرآن يقرءونه على الموتى، ولا يجتمعون لآية كهذه قط!وهذا أحد الإخوان يقول: نحن في بلادنا نقسم أولاً على الفقراء ثم نقسم التركة، فأقول له: تعال أقبل رأسك إذاً. الحمد لله! ولا بد من بقايا خير، يقول تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] لا منكراً بالتعيير والشتم والتقبيح.
تفسير قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً...)
ثم قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] هذا حكم آخر، ما تفهمونه لو تفكرون فيه إلى غد! أتحداكم؛ لأنكم ما سمعتم به من قبل. وَلْيَخْشَ [النساء:9] يجب أن يخاف، يخشى بمعنى: يخاف أم لا؟ وَلْيَخْشَ [النساء:9] من؟ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] المريض على فراش الموت، ويجيء الماديون مثلي يأخذون ينصحون له: أوص لفلان بكذا، أوص لفلان بكذا، الورثة كذا، يقول: لفلان علينا دين، له كذا، فيوصونه بما يجعله يأخذ ذاك المال ويوزعه على غير الورثة. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النساء:9] أنت يا من توصي بالباطل! ما تخاف غداً تموت وتترك أيضاً ذرية بعدك؟ انظر حالك قبل أن تنظر إلى حال هذا المريض الذي يجلس فينا وهو يعاني آلام الموت ما يوصيه ولا ينصح له بأن يحرم الورثة من المال، بأن ينسب إلى فلان كذا وفلان كذا وفلان كذا. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] لأنهم أيضاً سوف يمرضون ويوضعون على سرير الموت، ويجيء من ينصح لهم أيضاً ويفسد عليهم مال أولادهم.تربية عجيبة هذه! ‏
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآية
وإليكم الآية كما هي في الشرح قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]. قال: [ فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمنين الذين يحضرون مريضاً على فراش الموت بألا يسمح له أن يحيف في الوصية، بأن يوصي لوارث، أو يوصي بأكثر من الثلث، أو يذكر ديناً ليس عليه، وإنما يريد حرمان الورثة، فقال تعالى آمراً عباده المؤمنين: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [النساء:9] أي: من بعد موتهم ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] أي: فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته كما يخشونها على أولادهم.إذاً: فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم، وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولاً سديداً أي: صائباً لا حيف فيه ولا جور معه ].
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً...)
تبقى الآية الأخيرة، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].حتماً. نعم، أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب.. من السبع الموبقات، يقول صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ). أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب ويكفي فيه هذه الآية، اسمع هذا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10] بدون حق .. بدون مقابل عمل أو غيره، إنما هم في الواقع يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].وقرأ أبو حيوة : ( وسَيُصَّلَّون سعيراً ) بالتضعيف.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآن سأعيد عليكم تلاوة الآيات: قال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7] وقد أبطلت حكم الجاهلية أم لا؟ ورثت، وسيأتي بيان الورثة في الآية التي بعد هذه: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بالتفصيل العجيب، كلاً أعطاه الله ما يستحق، هذه مجملة منسوخة.ثاني آية: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] قال الجمهور: هذه منسوخة بآية المواريث الآتية، وقال ابن عباس وعمل بها المؤمنون. قال: ما هي منسوخة، لما تأخذون في قسمة المال إذا حضر المسكين أو حضر قريب لا حظ له إذاً: أعطوهم شيئاً، أو على الأقل قولوا لهم قولاً معروفاً لا تطردوهم، والحمد لله.الآية الثالثة: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النساء:9] كما تخاف على أولادك خف على أولاد أخيك الذي توصيه وهو مريض بأن يجور في وصيته .. الذي تخافه على نفسك خفه على الغير، الذي تكرهه لك اكرهه على غيرك أيضاً، هذا هو الأدب. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ [النساء:9] فلا يجوروا فيما يوصون به المريض، ويشرحون له ويقولون وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: تقرير مبدأ التوارث في الإسلام ]. ما هي الآية التي قررت مبدأ التوارث؟ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ [النساء:7]. [ ثانياً: استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم أو مسكين، وإن تعذر إعطاؤهم ] ماذا يقولون لهم؟ قولاً طيباً [ وفي الحديث: ( الكلمة الطيبة صدقة ) ].[ ثالثاً: وجوب النصح والإرشاد للمحتضر ] وهو من حضره الموت [ حتى لا يجور في وصيته عند موته ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ [النساء:9].[ رابعاً: على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره؛ فإن الله تعالى يكفيه فيهم ].فيا من له أطفال صغار يخاف أن يموت ويتركهم أحسن إلى يتامى وأطفال الآخرين، الله عز وجل يكفيك في أطفالك. [ خامساً: حرمة أكل أموال اليتامى ظلماً، والوعيد الشديد فيه ] وهذا وعيد شديد: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].يا أهل القرآن! لم الشيخ ما يجود القرآن؟ إذا جودنا ما ظهر المعنى، فنقرأه كحديثنا؛ لأنه نزل لتعليمنا، وليس هناك حاجة إلى مد وغنة، ولكن نأتي بالكلمة فصيحة. قرأ أبو حيوة : ( سَيُصَّلَّون ) بضم الياء وتشديد اللام من التصلية التي هي كثرة الفعل مرة بعد أخرى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:31] أي: مرة بعد مرة، وعليه قول الشاعر:وقد تصليت حر حربهمكما تصلى المقرور من قرتينمن يعرف المقرور وقرتين نعطيه ألف ريال؟ ما نعرف، اسمع بيت الشعر. يقول: وقد تصليت. هذا من قراءة: ( صلوه ) (تصليت حر حربهم) قبيلة مضادة. (كما تصلى المقرور من قرتين). المقرور: من به القر وهو البرد. وقرتين: مرتين. الأصل القر ضد الحر. القر: البرد، لكن للتجانس والمناسبة قالوا: الحر والقر، ففتحوا القاف لأجل كلمة الحر، الحر والقر.إذاً: هو قال: وقد تصليت حر حربهمكما تصلى المقرور من قرتينوالمقرور: البردان.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.




ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (56)
الحلقة (279)

تفسير سورة النساء (60)

شرع الله صلاة القصر، وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، ومشروعية هذه الصلاة بكيفياتها المختلفة إنما تدل على أهمية صلاة الجماعة، فهي إن أقيمت حال الخوف والقتال، فمن باب الأولى أن تقام حال الأمن والطمأنينة، فتؤدى في أوقاتها المحددة التي قدرها الله لعباده، وبالكيفية التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الأربع والتي قد درسناها في ليلتين سالفتين، وما زلنا نحتاج إلى فهمها؛ لأنها تحتوي على أحكام فقهية، فهيا نتلوها وتأملوا وتدبروا فيها، ثم إن شاء الله ندرسها كما هي في الكتاب ليتقرر كل معنى إن شاء الله في نفوسنا، ونصبح عالمين بهذه القضية الفقهية الهامة، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104]. ‏
مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر سواء في الأمن أو الخوف
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، في هذه الآية الأولى الأذن بقصر الرباعية للمسافر ما دام في سفره، وإن قلت: القصر سنة مؤكدة والآية تحمل فقط رفع الحرج، قلنا: إن عمر قد تساءل وقال: يا رسول الله! كيف والله يقول: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عمر! صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته ). إذاً: إذا قال القائل: الآية فقط فيها رفع الحرج، فأنا لا أقصر وإنما أتم صلاتي، فتقول له: قد استشكل هذا عمر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب البيان فقال: ( يا عمر! هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل هناك من يقول: أنا لا أقبل صدقة الله! أعوذ بالله، والله سيحترق.مرة أخرى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقال عمر: ذاك يوم كنا خائفين، أما اليوم فنحن آمنون، إذاً لا نقصر، ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل عرفتم ما هي الصلاة التي تقصر؟ صلاة الظهر والعصر والعشاء ذات الأربع ركعات فقط.
مشروعية صلاة الخوف والتأكيد على صلاة الجماعة
ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102].هذه الآية تضمنت صفة واحدة من صفات صلاة الخوف، فإذا كنا خائفين من العدو ونحن في ساحة الحرب، فهل نصلي فرادى؟ هل نؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها؟ الجواب: لا، إذ الصلاة لا تؤخر أبداً، بل هي ميعاد بيننا وبين الله، ثم أيحضر الله ونغيب نحن؟! أما نستحي منه عز وجل؟! إنه ميعاد بيننا وبين سيدنا ومالك أمرنا، وهو الذي حدده وعينه، ونحن نقول: لا بأس، ما نحضر! أعوذ بالله.إذاً: علمنا الله تعالى فقال: انقسموا إلى قسمين، فالإمام القائد الأعظم يصف وراءه نصف الكتيبة فيصلون معه، والآخرون بأسلحتهم يرقبون العدو حتى لا يتدفق علينا، ويصلي الإمام بنا ركعة ويبقى واقفاً ونحن نتم ركعة لأنفسنا ونسلم؛ لأنها قصر، ثم يأتي الآخرون ونحن نقف في مكانهم بأسلحتنا ضد العدو، فيصلون ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يتم صلاة الركعتين فيجلس وهم يتمون ركعة، فإذا أتموها سلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه صورة من عدد من الصور، وتختلف من كيفية إلى أخرى لاختلاف الظروف والأحوال.قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، من هو الذي قال: لا تصلى صلاة الخوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو يوسف من علماء الأحناف، ورد عليه كل الناس، إذ ليس شرطاً أن يكون الرسول في كل معركة أبداً، بل ولا في كل زمان، فكل من يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المؤمنين فهو مثل رسول الله في هذا الباب، وهو فقط أخذ واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فيصلي والرشاش على كتفه، والبندقية في يده. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هذه بالذات، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102] أيها القائد، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] لم؟ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102] بجدع أنوفكم، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:102]، وهذه رخصة من الله تعالى، فإذا كان المطر ينزل أو بالرجل مرض، فلا بأس أن يضع سلاح أمامه، قال تعالى: أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، ثم قال تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: وخذوا حذركم من أعدائكم إلى يوم القيامة. ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، أي: فإذا سلمت من الفريضة فاعلم أنك مطالب بذكر الله على اختلاف أنواعه، وإن كنت في الطائرة، وإن كنت سائراً، وإن كنت جالساً، فاذكر الله عز وجل وخاصة في الحرب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]؛ لأن قوانا مستمدة من ربنا عز وجل، لذا لا بد أن يكون ذكره في قلوبنا وعلى ألسنتنا، فهو الذي يقوي طاقاتنا ويزيد في قوتنا، فإذا انقطعنا عن الله هبطنا وتمزقنا، فلا تترك ذكر الله يا عبد الله ويا أمة الله إلا إذا كنت على كرسي المرحاض فقط، إذ إن الذي يدخل بيت الخلاء لا يذكر الله تعالى، إذ إن هذا معفو عنه، أما خارج هذا المكان فدائماً اذكر الله، سواء عند الأكل أو عند الشرب أو عند القعود أو عند القيام أو عند الركوب أو عند المنام أو عند الاستيقاظ، والناس يتفاوتون في هذا الميدان، لكن إرشاد الله عز وجل في قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، وذاك في حال الحرب، فصلوا مع الرسول أو مع الإمام ركعة، ثم أتموا الركعة لأنفسكم، وهم مع ذكر الله على كل حال. إذاً: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، على الوجه المطلوب، فأولاً في بيوت ربنا عز وجل، وثانياً في جماعة المسلمين، وثالثاً بأدائها بكل أركانها وشروطها وآدابها كما صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما صلاها رسول الله بالمؤمنين فقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا معنى إقام الصلاة إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مؤقتة ذات وقت محدد، ومواعيد ضربها الملك جل جلاله لعباده، فحرام عليك يا عبد الله أن يحضر الله وتغيب، فالمصلي يناجي ربه والله ينصب وجهه لعبده، فكيف إذاً تهرب وتبعد وتترك الوقت يخرج ثم تأتي وتصلي؟! وقد ورد في الأثر: ( من ترك صلاة واحدة فهو بها كافر )، وورد أيضاً: ( لأن يفقد المرء أهله وماله وولده خير من أن تفوته صلاة العصر في وقتها ).
حرمة الضعف والهون أمام أعداء الله تعالى
وأخيراً قال تعالى: وَلا تَهِنُوا [النساء:104]، أيها الأبطال فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] الكافرين؛ لجهادهم وإدخالهم في رحمة الله، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: من الجراحات والتعب الذي يصيبكم، فهم يألمون مثلكم كما تألمون، ولكن وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104]، أي: من الأجر والمثوبة والنصر والتأييد ما لا يرجون، وبالتالي فأنتم أحق بالثبات والصبر. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:104]، أي: بالأحوال والظواهر والبواطن وبما يقنن ويشرع، وحكيماً [النساء:104]، أي: في كل ما يقنن ويشرع.إذاً: فما علينا إلا أن نقبل تشريعه ونذعن له ونطبقه كما أمر.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

يتبع

ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:21 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
هيا بنا أسمعكم شرح الآيات من الكتاب لتزدادوا معرفة.
معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: بمناسبة الهجرة والسفر ] وقد عرفنا حكم الهجرة، والهجرة لا تنقطع إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وبالتالي كل مؤمن يجد نفسه في بلد لا يمكن أن يعبد الله حرم عليه أن يبقى فيه، بل يجب عليه أن يغادر، أو وجد نفسه في قرية ليس فيها من يعرف الحلال والحرام فيجب عليه أن يهاجر، أو يعيش يأكل الحرام وهو لا يدري. وسيد المهاجرين وأفضلهم هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله، وهذا يحتاج إلى أن يكون الإنسان عالماً عارفاً بما ما نهى الله عنه ورسوله، لا أن يكون أمياً عامياً جاهلاً لا يعرف شيئاً. قال: [ بمناسبة الهجرة ] في الآيات السابقة [ والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية ] أي: الصلاة ذات الأربع ركعات [ إلى ركعتين، فقال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: سرتم فيها مسافرين، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج وإثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ولم يخف، فهذا القيد غالبي فقط ] إذ الغالب أن المسافر يخاف. قال: [ وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ] أي: من الخوف [ فهذا القيد غالبي فقط، وقال تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101] ] وهذه الجملة قال: [ تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين، فلذا شرع لهم هذه الرخصة ] إلى يوم القيامة.قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها، وصورتها ] هي: [ أن ينقسم الجيش قسمين: قسم يقف تجاه العدو، وقسم يصلي مع القائد ركعة ] أي: قائد المعركة، سواء كان رسول الله أو غيره [ ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة، هذا معنى قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، يريد الطائفة الواقفة تجاه العدو لتحميهم منه، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]. وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، سبق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى، والأمر بالأخذ بالحذر، وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات، أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم، فقال عز وجل: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] ] هذا [ تذييل ] الكلام [ لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره: فإن كان الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم، ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان الضمير إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر. وقوله تعالى في الآية الأخيرة: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان، أي: الأوقات، لاسيما في وقت لقاء العدو؛ لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوة المادية وتهزمها، فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط، بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال. وقوله تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف، إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلي إيماء فقط وإشارة في حال الخوف، وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم ] وقد بينا هذا فقلنا: يصلي وهو راكب.قال: [ وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، تعليل للأمر بإقامة الصلاة، فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين، وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها. وقوله تعالى في الآية الأخيرة: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو لإنزال الهزيمة به، ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104] النصر والمثوبة العظيمة، مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فأنتم إذاً أحق بالصبر والجلد، والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم بإذن الله. وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد؛ لأن علمهم بأن الله عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم، وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العاقبة لهم بالنصر على أعدائهم ] وقد فعل، فقد انتصر رسول الله وأصحابه، ففي خلال خمسة وعشرين سنة فقط أو ربع قرن إلا والإسلام من أقصى الشرق إلى أقص الغرب. نقول: من أراد أن ينشئ مصنعاً فقط فحتى يستقيم ويصبح ينتج يحتاج إلى خمس وعشرين سنة، وما مرت خمس وعشرون سنة إلا والإسلام قد انتشر من وراء نهر الهند إلى الأندلس، ولولا نصر الله فكيف يتم هذا؟!
هداية الآيات
والآن امتحنوا أنفسكم بهذه الهدايات القرآنية فتأملوا! قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: مشروعية صلاة القصر ] ما حكم صلاة القصر؟ قال: [ وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله فأصبحت ] ماذا؟ [ سنة مؤكدة لا ينبغي تركها ] فلو قيل لك: من أين أتيت بهذا؟ من الآية الأولى. قال: [ ثانياً: مشروعية صلاة الخوف ] أي: الصلاة في وقت الخوف، قال: [ وبيان كيفيتها ] كيف نصلي؟ في حدود الطاقة، فإذا كنا ما التحمنا مع العدو بعد، وإنما ننتظره أو ينتظرنا، فنقسم الجيش إلى قسمين، وإذا التحمنا صل وأنت تقاتل بلسانك وقلبك وبالإشارة، وإن كنت هارباً أيضاً إلى القبلة أو إلى غير القبلة فصل على حالك. فإن قيل: يا شيخ! إنهم آمنون غافلون في الطعام والشراب واللباس ولا يصلون؟ ما لهم؟! عمي لا بصيرة ولا نور في قلوبهم، لم خلقت؟ خلقت لتجامع النساء وتأكل الطعام؟ تعالى الله أن يخلق لهذا العبث، وإنما خلقك لتذكره بقلبك ولسانك وتشكره بجوارحك، أما الطعام والشراب والنكاح فقط لتواصل ذكر الله عز وجل ولا تقطعه. قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة ] ما معنى صلاة الجماعة؟ كل صلاة من الصلوات الخمس يجب أن تقام في بيوت الله في القرية أو في المدينة أو في الطريق أو في أي مكان، ولذلك فقد كانوا يأتون بالصحابي والله يهادى بين اثنين حتى يضعوه في الصف، إذ إن أكبر مظهر من مظاهر العبادة لله عز وجل أن ترى المؤمنين في بيت الله صفوفاً كالملائكة بالسماء، فإذا تركت صلاة الجماعة فقد انتهى الإسلام. قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة؛ بحيث لا تترك حتى في ساحة الخوف وساعة القتال. رابعاً: استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع ] فهل أخذتم بهذا أو لا؟ حالنا دائماً أن نذكر الله تعالى إلا في حال واحدة وهي عند التغوط ويبول فقط، قال أبو هريرة: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة. قال: [ خامساً: تقرير فريضة الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها المؤقتة لها ] فقد قال الله تعالى: كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فما المعنى الكتاب؟ أي: مكتوبة رسمياً بصك وليس مجرد كلام. قال: [ سادساً: حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله تعالى ورجائه ].
حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
لماذا ما احتفلنا بليلة الإسراء والمعراج؟ ألسنا بمسلمين؟ بلى، ألسنا من أهل السلف الصالح؟ والجواب: أيها الأحباب! وبلغوا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سن في هذه الليلة سنة قط، لا صيام ولا قيام ولا صدقة ولا ذكر ولا قول ولا إعلان أبداً، والله العظيم! وولي الأمر من بعده: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي والله ما عرفوا شيئاً عن هذه الليلة، لا صيام ولا صلاة ولا زكاة ولا طعام ولا لهو ولا أي شيء أبداً.ومضى القرن الأول والثاني والثالث ولا وجود لها، والآن نحييها! كيف نحييها؟ ماذا نصنع؟ هل نغني فيها؟ هل ننشد القصائد؟ هل نقرأ القرآن؟ ماذا نستفيد؟ اعلموا والعلم ينفع، وأهل الحلقة من نساء ورجال على علم، والأسف مع الذين لا يحضرون، أن هذه العبادات التي شرعها الله قد وقتها وقننها بدقة أكبر من مركبات الكيمياويات من أجل تزكية النفس، أي: تطهير الروح البشرية لتصبح كأرواح الملائكة، إذ لا تستطيع أن تطهر نفسك وتزكيها وتطيبها بالماء والصابون والعطورات؛ لأنك لا تمسكها ولا تعرفها، فالذي يزكيها ويطيبها ويطهرها لتتأهل للملكوت الأعلى بعد الموت هو الله عز وجل، إذ إن هذه العبادات التي شرعها الله جل جلاله وبين كيفياتها وكيفية أدائها، وبين أوقاتها رسوله صلى الله عليه وسلم، علتها أنها تزكية النفس وتطهيرها ليتأهل الآدمي إلى أن يخترق السبع الطباق وينزل عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15]. كما أن هذه العبادات ليست من حق أي أحد سوى الله ورسوله، فله سبحانه أن يشرع كلمة فقط ويقول: من قال كذا يحصل له كذا، أو حركة فقط فيقول: من مشى بين كذا وكذا حصل له كذا، وأيما إنسان يبتدع بدعة ويدعو إليها ويعمل بها فهو كالذي يأكل الرمل والحصى والتراب، فهل يشبع؟ لا والله، ومثله كالذي يتمضمض بالخرء والبول والدماء، فهل ينظف ويطيب؟! مستحيل. إذاً: فهذه العبادات التي شرعها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته هي التي تزكي النفس بشرط: أن تؤديها كما بينها في أوقاتها وأمكنتها، مثال ذلك: لو أراد المسلمون أن يقفوا بأحد بدل أن يقفوا بعرفة، فهل يصح حجهم؟ مستحيل، أو أرادوا أن يطوفوا بالحجرات النبوية بدل أن يطوفوا بالكعبة، هل يصح هذا الطواف؟ يزكي النفس؟ مستحيل. وعليه فلابد من عبادة شرعها الله تعالى وبينها رسوله وعمل بها أصحابه وأولادهم وأحفادهم وحملها أئمة الإسلام إلينا، أما بدعة ابتدعناها من عند أنفسنا فلا، ولنرفض العمل بها، فهيا بنا، ماذا نعمل في الليلة الرجبية؟ ماذا نصنع؟ فقط نقول: الحمد لله ما عندنا في هذه الليلة شيء، ونحن نعبد الله كما كنا نعبده بالأمس، فقيام الليل هو القيام والصيام هو الصيام.
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي نقوله في حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج نقوله في المولد النبوي، ثم يا ليتكم تركتم الموالد إلى المولد النبوي، بل أتيتم لنا بمولد السيدة فلانة، ومولد سيدي فلان، ومولد فلان، ومولد فلان، فلا إله إلا الله! اسمعوا! عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأحفادهم ثلاثمائة سنة ما عرف مؤمن شيئاً اسمه: مولد، والله العظيم. وإنما في القرن الرابع بعد سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين ابتدعت بدعة المولد وجاءت من طريق النصارى، والنصارى اليوم يحتفلون بأعياد كثيرة، ونحن للأسف نقلدهم ونعطي إجازات لطلابنا أيضاً، وأظن أن هذا واقع في العالم الإسلامي باستثناء هذه البقعة، فهناك عيد الميلاد! بينما نحن ما عندنا إلا عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن زاد عيداً فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهله ونسب إليه الكتمان والجحود وترك أمته بلا أعياد. فمن يقف هذا الموقف والعياذ بالله؟! عيدان فقط، عيد الفطر وذلك بعد صيام شهر بكامله، وهو ذاك اليوم الذي تقام فيه الصلاة والخطبة، وتوزع الصدقات، ويحصل التلاقي والمحبة والإعلان عن الفوز والنجاة، وعيد الحج، وذلك يوم الحج الأكبر، يوم عاشر ذي الحجة، إذ الوقفة في يوم تسعة ويوم عشرة عيد، فيفرح المسلمون بنعمة الله عليهم، ويصلون صلاة خاصة محددة الركعات والتكبيرات والمكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حددها وصلاها. كما أنه ليس هناك شعبانية، أي شعبان هذا؟! رجل اسمه شعبان! والآية التي يحتج بها الضائعون: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:1-3]. فقالوا: هذه ليلة النصف من شعبان، والله ما هي ليلة النصف من شعبان، وإنما هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر في رمضان، فكيف يصرفون أمة الإسلام عن الحق؟! لأنهم يستغلون هذه المواقف، والحمد لله فقد أفقنا وعرفنا الطريق ولن نضل بعد اليوم أبداً. إذاً: هذه البدع وهذه الخرافات كلها من باب صرف الأمة عما يزكي نفوسها ويطهر أرواحها ويعدها للكمال في الدار الآخرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:22 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (57)
الحلقة (280)

تفسير سورة النساء (61)


كان طعمة بن أبيرق سارقاً، وذات يوم سرق طعاماً وسلاحاً من بيت أحدهم، فلما عرفت السرقة اتهم أبيرق هذا جاراً له من يهود، وشهد إخوانه على صدق ما يقول، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله أنزل فيهم آية تتلى تفضح أبيرقاً وتبرئ اليهودي، فما كان من أبيرق إلا أن ارتد وفر إلى مكة، وأثناء وجوده فيها دخل بيتاً من بيوتها ليسرق، فوقع عليه الجدار فمات كافراً.
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، ومن أراد أن ينظر إلى هذه السكينة فليقف ولينظر إلى الحلقة، هل فيها هيجان وصياح وكلام واضطراب؟ لا والله، وإنما سيجد السكينة والطمأنينة، ( وغشيتهم الرحمة )، والرحمة واضحة، فهل هناك سب أو شتم؟ سرقة وتلصص؟ خيانة؟ آلام وأمراض حصلت؟ لا أبداً، وإنما الرحمة غشيتنا، ( وحفتهم الملائكة )، أي: أحاطت بهم إكباراً لهم، ولو كنا نقوى على رؤيتهم والله لرأيناهم، ولكن أبصارنا ضعيفة ليست قادرة على أن ترى الملائكة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذه أجل وأعظم، فمن نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟ الحمد لله، ومع هذا فالمسلمون محرومون من هذا إلا من رحم الله، والمفروض والمطلوب والواجب أن أهل كل قرية من قرانا عرباً وعجماً إذا للمغرب تركوا العمل وأقبلوا على ربهم يتوسلون إليه، ويتقربون ويتزلفون، ويجتمعون كاجتماعنا هذا، فيدرسون ويتعلمون ليلة آية من كتاب الله تعالى، وليلة سنة من سنن رسول الله، ومع هذا وهم يعملون، فينمون نماءً عجباً، وما تمضي سنة إلا وهم كالملائكة في القرية، فلا كذب ولا غش ولا خداع ولا زور ولا فجور ولا زنا ولا باطل، بل كل هذه المظاهر والله تمحى، ويحل محلها الوفاء والصدق والحب والتعاون الذي لا يمكن أن يتحقق إلا على نور الكتاب والحكمة، فمن منعهم؟ من حرمهم؟ قروناً عديدة وهم يعيشون بعيدين عن القرآن وسنة الرسول حتى هبطنا ولصقنا بالأرض بعدما كنا في الملكوت الأعلى، وا أسفاه! وا حسرتاه! ولا ينفع بكاء ولا تحسر. وها نحن مع هذه الآيات الكريمات من سورة النساء، فهيا نتلوها وتدبروا وتأملوا وتفكروا، إذ هذا كلام ربكم إليكم من أجل هدايتكم وإسعادكم، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:105-109]. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [النساء:105]، فالمتكلم هو الله تعالى، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالكتاب الذي أنزله هو القرآن العظيم، ومعنى قوله تعالى: (بالحق)، أي: مصاحباً وملازماً له، فلا باطل فيه ولا يدعو إليه ولا يتحقق به. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، من منا لم يفهم معنى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:105]؟ في خصوماتهم، في دنياهم، في نزاعاتهم، في كل أحوالهم، في أعراضهم وأموالهم، فالرسول يحكم بينهم بقانون فرنسا؟ بشطحات اليهود؟ بقيصرة اليونان؟ لا والله، وإنما بما أنزل الله إليه. قال: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، أي: بما علمه فيما أنزله إليه، فهل عرفتم كيف وجه الله هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ ونحن أيضاً مثله، وبالتالي فكل حاكم يجب أن ينزل هذا المنزل، فما أنزل الله عليه كتاباً، أنزله على رسوله، وعلمه إياه وعرفه به، وذلك من أجل أن يحكم بين الناس بما أراه الله وعلمه. وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: ولا تكن للخائنين خصماً تخاصم عليهم وهم خونة وسرق. ولهذه الآيات سبب نزول نذكره أولاً لتفهموا معناها، فقد كان يوجد ثلاثة أنصار: بشر وبشير ومبشر وطعمة بن أبيرق، وطعمة بن أبيرق هذا كان منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر؛ لأنه في تلك الأيام كان النفاق موجوداً في المدينة، وما دخلت المدينة كلها في رحمة الله تعالى، وكان لهذا المنافق جار له مشربة فيها طعام وسلاح، فحفر واستخرج الطعام والسلاح، سرقة، فلما صاح المسروق المؤمن ونظر إلى الأحوال والجيران وشعر ابن أبيرق أنه سيتهم، جاء بالدرع أو بذلك السلاح ووضعه في غرفة يهودي من جيرانه، وضجت المدينة، ووقف بنو أبيرق يدافعون عن صاحبهم، وأنهم براء وليسوا ممن يفعل هذا. وأخيراً قالوا: لقد اكتشفنا السرقة، إنها موجودة عند اليهودي، فاليهودي المسكين قال: ما سرقت، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى مجموعة كاملة قد وقفوا مع هذا المنافق، ورأى أن السلاح أو الدرع موجودة عند اليهودي، وقف يدافع ويخاصم ليبرئ ابن أبيرق فيما ظهر له، فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، والآن يا رسولنا ليس عندك علم، وإنما فقط وقفت إلى جنب هذه الجماعة التي تقول وتحسن الكلام والدعاوى، فظننت أنهم على حق، وهم في الحقيقة خونة وسرقة. وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: تدافع وتخاصم عنهم.
تفسير قوله تعالى: (واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، وهذا الكلام موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! إذاً فكيف يوجه الخطاب إلى قضاتنا وحكامنا؟! مع أن الرسول ما أذنب، ولكن من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فإذا كان رسول الله يوجه بهذا الخطاب فمن دونه ماذا يقال له؟
تفسير قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم...)
وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، أي: بني أبيرق، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وهم خونة آثمون.
تفسير قوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله...)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108]، وهم بنو أبيرق أصحاب المؤامرة، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108].
تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا...)
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:109]؛ لأن مجموعة من المؤمنين وقفت إلى جنب بني أبيرق، وكذلك الرسول وقف إلى جنبهم لكثرة الذين يبرئون هؤلاء المنافقين، والمؤمنون في الحقيقة لا علم لهم، ولكن نظراً إلى ما يظهرون من الصلاح والاستقامة، ثم قال تعالى: فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109] اللهم لا أحد. إذاً: لتبقى هذه الآيات خالدة، ولتبقى نور الله في الأرض، فالقاضي والوكيل والحاكم ومن يُحكَّم يجب أن يكونوا على منهج الحق، فلا يغترون بألفاظ ولا بجماعة ولا غير ذلك، وإنما يطلبون الحق كما هو فيقضون ويحكمون به، وهذا درس عجيب لأمة الإسلام.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نعيد تفسير الآيات فتأملوا، يقول تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، لا بالهوى أو بالتعصب أو بالميل الغريزي، وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: لا تكن واقفاً إلى جنب الخائن تخاصم وتجادل عنه. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106]، أي: من زلت قدمه وارتكب خطأً فباب الله مفتوح، فليندم على فعله، وليستغفر ربه، وليعزم وليصمم على ألا يعود لهذه الخطيئة، وما هي إلا أيام حتى تمحى محواً كاملاً ولا يبقى لها أثر، وهذه سنة الله عز وجل، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، فاسمع هذا يا محامي! إذ المحاماة في العالم الإسلامي شائعة، وقد يسألني فقال: أنا أعمل محامياً في الدولة الفلانية، وهذه الدولة لا تحكم بالإسلام ولا بالشريعة، فما حكم ذاك؟ فنقول: اجتهد، فإن عرفت أن الذي تترافع عنه في قضية ما مظلوماً فقف إلى جنبه ولو تأخذ مبالغ مالية لرفع الظلم عن هذا العبد وتحقيق الحق له، وإن علمت أنه لا حق له فلا تترافع في قضيته ولا تقبلها ولا تأخذ فيها ديناراً ولا درهماً؛ لأنك إن فعلت ذلك فأنت تدافع عن الباطل وهذا لا يصح أبداً، إذ يقول الله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، بل وقل له: يا فلان! أنت ظالم، وهذا الموقف لا يقفه إلا أهل الإيمان. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ [النساء:108]، وذلك لما يتآمرون في الليل أو في البيت فيقولون كذا ونفعل كذا وندبر كذا، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108] إيه والله، أتدرون كيف؟ العوالم كلها في قبضة الله عز وجل، واقرءوا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فأين نحن إذاً مع الله؟ هو فوق عرشه بائن من خلقه، والخليقة كلها في قبضته وبين يديه، لا يخفى عليه من أمر الناس شيئاً! قال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى [المجادلة:7]، أي: أقل وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، سواء في المريخ أو في الزهرة أو في الشمس أو في الأرض، فأينما كانوا فالله يعلمهم وهو معهم. تأملوا! يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] لما كانوا يتآمرون هو معهم، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [النساء:109]، وهذا للتقريع والتأديب والتوبيخ، فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:109]؟! من هو؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، أي: يدافع عنهم ويأخذ حقهم إن كان ذا حق؟ والجواب: لا أحد. ومن هنا مسح من قلوبنا الدفاع عن الباطل حتى ولو كان صاحب الباطل أباك أو ابنك أو أخاك أو أمك أو امرأتك، فلا تقف تدافع عن الباطل أبداً، فهذا يهودي أنزل الله في شأنه القرآن، إذ إنه كان مظلوماً، فقد ألقوا الدرع في بيته وقالوا: أخذه اليهودي، فنجاه الله عز وجل وإلا كانت ستقطع يده. وأما خبر هذا الخبيث طعمة فقد ارتد وأعلن عن كفره وهرب لما انفضح، وأتى مكة وجاء يسرق في الليل، فبينما هو يحفر في الجدار في الليل حتى يدخل إلى الغرفة التي فيها الطعام، فلما أدخل رأسه سقط الجدار عليه فقبض عليه كالعصفور، رأسه من داخل ورجلاه من خارج عليه لعنة الله، وهذا جزاء من يخون الله ورسوله والمؤمنين.

يتبع

ابوالوليد المسلم 30-04-2021 01:22 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
والآن أسمعكم الشرح من الكتاب فتأملوا.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات: روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته ] وهم بشير ومبشر وبشر، قال: [ وكان قد سرق درعاً من دار جار له يقال له: قتادة ]، والدرع عبارة عن لباس يلبسه المحارب في الحرب، فإذا أصيب برصاصة أو برمية أو بسهم فإنه لا يؤثر فيه؛ لأنه لباس من حديد، وقد كان داود عليه السلام يصنع الدروع في الدنيا، قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]. وهنا لطيفة أذكر بها الناسين وأعلم غير العالمين وهي: أن في القرآن سورة تسمى بسورة لقمان، ولقمان هذا كان حبشياً نوبياً آتاه الله الحكمة وعلمه إياها، فمر ذات يوم بداود -وكان معاصراً له- وهو ينسج الدرع من الحديد، فهم أن يسأله: ما هذا يا داود؟ فأدركته الحكمة فسكت، كما هي القاعدة عندنا: إذا كان العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر، فاترك ذلك ولا تسأل. فسكت لقمان وواصل داود عليه السلام نسج الدرع، ولما فرغ أخذ يقيسه على جسمه، ثم قال: نعم لبوس الحرب أنتِ، فعرف لقمان وقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، إذ لو سأل لأهان نفسه فيقال: جاهل لا يعرف، ثم لمَ يسأل وليس هذا شأنه؟ لكن أدركته الحكمة فسكت، وما زال ينتظر حتى عرف رحمه الله تعالى. قال: [ وكان قد سرق درعاً من دار جار له يقال له: قتادة، وودعها عند يهودي يقال له: يزيد بن السمين ] أو السمين، قال: [ ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي وقالوا: هو السارق ] كما سمعتم. قال: [ وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم طعمة، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، إذ لا يعقل أن ثلاثة أو أربعة من الرجال يحلفون فلا يصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه في مستوى الأخلاق لن يصل إليه أحد، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فلا يعقل أن أربعة من رجال البلاد وصلحائها في الظاهر يحلفون فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم تكذبون؟! إذ ليس عنده علم في ذلك، قال: [ فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هو السارق، وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه ]، أي: هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد السارق؛ لقيام الحجة عليه من أربعة أنفار. قال: [ وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة ] المنافق، قال: [ ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة، ونقب جدار منزل ]، أي: حفر فيه، [ ليسرق، فسقط عليه الجدار فمات تحته كافراً ] والعياذ بالله، أرأيتم عواقب الظلم والكفر؟ إنها والله مذمومة. قال: [ وهذا تفسير الآيات قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [النساء:105]، أي: القرآن، أيها الرسول لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، أي: بما أعلمك وعرفك به، لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين ]. قال: [ وعاتبه ربه تعالى بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة؛ لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عليهم بأيمانهم الكاذبة إذ حلفوا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:106]، من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، فيغفر لك ما هممت به ويرحمك. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، كـطعمة بن أبيرق. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ [النساء:108]، حياءً منهم، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108]، ولا يستحيون منه وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء؟ وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي، هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى. وقوله عز وجل: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108]، فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي، ثم اتهامهم اليهودي وحلفهم على براءة أخيهم، كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى والله به محيط، فسبحانه من إله عليم عظيم. وقوله تعالى: هَاأَنْتُمْ [النساء:109]، أي: يا هؤلاء، جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة، فعاتبهم الله تعالى بقوله: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ [النساء:109] اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم التهمة تهمة السرقة، فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]؟! ] لا أحد. قال: [ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]، بتولي الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله؛ فتضمنت الآية تقريعاً شديداً حتى لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا ]، وهذا وإن كان في بني أبيرق واليهودي في الصدر الأول، إلا أنه ما دام على الأرض من يقول: لا إله إلا الله، فهي موجودة في القرآن تُقرأ وتُطبق وتُحكَّم إلى يوم القيامة، ولو سألت إخوانك لوجدتهم وقفوا مئات المواقف من هذا النوع.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات ]، واسمعوا إعادة هذه الآيات وكيف نستخرج منها ما تهدي وتهدف وتدعو إليه، وذلك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:105-107]، والذي لا يحبه الله لا يسعد، ولا ينزل منازل الأبرار، إذ إن مصير أعداء الله معروف، فهم في أسفل سافلين، في دار الشقاء والبوار والعياذ بالله. قال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [النساء:108-109]، أي: يا هؤلاء، جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109].
عدم جواز الحكم بغير ما أنزل الله
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]. وأذكر أيام استقلالنا استقلت موريتانيا، واستقلت كذا، واستقلت كذا، فوضعتُ لهم دستوراً إسلامياً من بداية الحكم إلى المقبرة، وهو مطبوع في وريقات، ووالله لو طبق في أرض لسادوا وعزوا وكملوا. وقلنا: نضيفه إلى كتاب منهاج المسلم ويطبع معه، ومنهاج المسلم كتاب شامل جامع، إذ جمع فيه العقيدة السلفية والآداب الإسلامية والأخلاق الربانية والعبادات والأحكام والمعاملات، أي: خلاصة الشريعة، فلا فرق بين مذهب ومذهب، وإنما المذاهب الأربعة هي الصحيح والحق، وهذا الدستور يضاف إليها؛ لأنه عمل سياسي في تكوين الحكومة وأعمالها، وقد بعثتُ نسخاً منه لبعض المسئولين، فبعضهم رد عليَّ وبعضهم لم يرد عليَّ شيئاً، وها هم يحكمون بغير ما أنزل الله، فما المانع أن يطبق هذا الدستور الإسلامي؟ القانون البريطاني سهل تطبيقه، وتطبيق القرآن ليس بسهل! على كل حال فعل العدو هذا بنا، فالقرآن يقرأ على الموتى، ولو تقول لهم: طبقوا القرآن فإنهم يضحكون، وبالتالي فهم يكتفون به ليقرأ على الموتى فقط للبركة. وهذه الآية بالذات تحرم تحكيم المسلمين لغير شريعة الله، أي: الكتاب والسنة، فلا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله، وليس هذا خاص بالحاكم أو بالقاضي، بل إذا حكمك اثنان أو اختلفت جماعة وحكموك فيجب عليك أن تحكم بما أنزل الله وبين رسوله، وإن لم تعلم الحكم فقل: الله أعلم، ولا تحابي ولا تجامل ولا تميل إلى قريب ولا إلى بعيد، واذكر قوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:109]؟!
عدم جواز الوقوف إلى جنب الظلمة الخونة نصرة لهم
قال: [ ثانياً: لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم ]، إذ إن هذا حرام ومعصية، فالمسلمون كالجسم الواحد، فأي طينة أو تراب أو وطن يجعلهم متفرقين؟ حدثنا قاض بصدق فقال: جاء حوالي خمسين رجلاً يشهدون مع أخيهم بالباطل! لا لوم عليهم؛ لأنهم ما عرفوا الله معرفة توجد حبه في قلوبهم، ولا الخوف منه في نفوسهم، ولا عرفوا الطريق إليه، فكيف تلوموهم؟! من أين لهم أن يعرفوا؟ لماذا ما يعرفون؟ منعهم الثالوث من أن يطلبوا العلم، حولوا القرآن إلى المقابر، إذاً من أين يطلبون العلم؟! إذاً: لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم، أي: من أجل أن تنصرهم، ولو كان أباك أو ابنك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135]، ما بقي بعد النفس شيء، لا أب ولا أم. وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107]، وقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، أي: مخاصم تخاصم عليهم.
وجوب الاستغفار من الذنب صغيراً كان أو كبيراً
قال: [ ثالثاً: وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً ] وعرفنا هذا من قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106]، فإذا كان الرسول هم فقط ولم يفعل شيئاً، وذلك لما لاح له من شهادة الناس بأن اليهودي هو السارق، ومع هذا أُمر بالاستغفار، فمن باب ألف مرة نحن أولى، فمن زلت قدمه فليقل: أستغفر الله وأتوب إليه، ويعدل عن جريمته، أي عن خطأه وذنبه، وطول الحياة وهو هكذا. وهذا الذنب الذي ذكر للرسول ليس ذنباً كبيراً، لكن لمقامه عليه الصلاة والسلام، وحسنات الأبرار سيئات المقربين كما يقولون، وأضرب لكم مثلاً لو أن صعلوكاً مثلي فعل جريمة في الشارع أو في الباب فستلومونه: يا صعلوك ما تستحي من كذا، لكن لو كان عالماً وفعلها فكيف تنكرون عليه؟! أو لو أن جاهلاً سرق أو فجر فستلومونه قطعاً، لكن لو كان العالم فعل ذلك، فإنكم ستستعظمون ذلك بالفطرة، وذلك لعلمه، وحسنات الأبرار تعتبر سيئات المقربين من الله؛ لأن منزلة المقربين أعلى، فحسنات الأبرار ما تعتبر شيئاً للمقربين، وإنما تعتبر كالسيئة. والذنب مأخوذ من ذنب الحمار، إذ إن للحمار ذنباً وكذلك للكلب، فإذا أردت أن تمسك بهذا الحيوان فمن أين تأخذه؟ من ذنبه، فأنت تجري وراءه وهو هارب أمامك فتمسكه من ذنبه. وكذلك فكل خطيئة يؤاخذ بها العبد يسمى ذنباً ومنها يؤخذ، وكل خطيئة يرتكبها العبد يؤخذ به كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ومن هنا أخذ لفظ: الذنب.
وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان
قال: [ رابعاً: وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان ]، أي: يجب أن نبغض الخوان الأثيم أياً كان ولو في مكة، أما عاب تعالى ولام فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]؟ فكيف أنت تحبه؟! أعوذ بالله! قد كفرت بالله، أيحب ربك شيئاً وأنت تكرهه، ويكره شيئاً وأنت تحبه؟ بقيت علاقة بينك وبين الله؟ لا، فقد انتهت. فإذا علمت أن الله يحب كلمة كذا فيجب أن تحبها، وإذا علمت أن الله يكره كلمة كذا فيجب أن تكرهها، وإلا انقطعت صلتك بسيدك ومولاك، وما أصبحت عبداً حقيقياً له، هو يحب وأنت تكره، أو هو يكره وأنت تحب؟! تعاكسه! إذاً: كل خوان أثيم يجب بغضه وعدم حبه، حتى ولو كان ابناً لك أو أباً أو أخاً أو أماً أو زوجة، إلا إذا انغسل ونظف وتاب وطهر.
استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة
قال: [ خامساً استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة ] وما يجري لأصحابها فيها، والقرآن الكريم يفيض بهذا، وأخذنا هذا من قوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109]. معاشر المستمعين! أذكركم ونفسي أن علينا أن نحكم شرع الله في أنفسنا وفي غيرنا، وأن نحب الصالحين ونبغض المفسدين، وأن نستغفر الله كلما أذنبنا ذنباً صغيراً أو كبيراً، وأن نعلم أنفسنا أننا تحت النظارة وأننا مراقبون، ووالله ما تستطيع أن تخفي شيئاً عن ربك ولو كنت في قعر بئر. ومن هنا يجب أن نستحي منه تعالى، وإليكم صورة: لما نتوضأ نترك صنبور الماء يسيل بكثرة، فلو استحينا من الله فإننا سنغلقه، فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعيش مع الله حق العيش، فلا يفارقه أبداً حيثما كان الله معه، وبذلك يقوى على مواصلة سيره إلى دار السلام، أما أن تغفل أو تنسى أو تعرض عن الله فإنك تقع في كل هاوية وتسقط في كل حفرة من حفر هذه الحياة، والله أسأل أن يعصمنا وإياكم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 01:28 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (58)
الحلقة (281)

تفسير سورة النساء (62)


فضائل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومما تفضل الله به عليه أنه وقاه من الجور في الحكم في قضية بني أبيرق واليهودي الذي اتهموه بالسرقة، فبعد أن كاد النبي يحكم على اليهودي بعد شهادة الشهود عليه أنزل الله عز وجل قرآناً يتلى، برأ فيه اليهودي وفضح طعمة بن أبيرق المنافق إذ كان هو الذي سرق ورمى بهذه التهمة اليهودي البريء، وبعد فضحه انقلب على عقبيه فاراً إلى مكة كافراً.
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وما زلنا مع سورة النساء الميمونة المباركة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلو هذه الآيات ونتدبر معانيها وما تحمله من هدى، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:110-113]. تأملوا هذا، الله يخاطب رسوله فيقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، وهذه عامة لكل مؤمن ومؤمنة. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، لا على غيره، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111]، لا يخفى عليه من كسب إثماً وجحده وغطاه، (حكيماً) يجزي بحسب ذلك العمل. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، وتأملوا هذه الآية. ثم قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، ماذا تفهم يا عبد الله ويا أمة الله من هذا الخبر؟ المخبر هو الله العليم الحكيم، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، والسوء كل ما يسيء إلى نفسك فيخبثها ويدرنها ويعفنها، وذلك كل إثم من الآثام، والإثم إما تركك واجباً وأنت قادر على فعله، أو ارتكابك محرماً من المحرمات. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، أي: ما يسيء إلى نفسه، أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110]، أي: يعمل سوءاً مع غيره، كأن يكذب أو يضرب أو يظلم غيره، أو يظلم نفسه بارتكاب محرم، إما بترك واجب أوجبه الله، أو بغشيان محرم حرمه الله تعالى، عقيدة كان أو قولاً أو فعلاً، وتذكرون قصة بني أبيرق وعلى رأسهم طعمة، والآيات تدور عليهم. فانظر كيف تجلت رحمة الله تعالى فقال لهم: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110]، أي: منكم يا بني أبيرق ومن شارك في الإثم ووقف إلى جنبكم، فبابنا مفتوح فاستغفروا الله تجدوا الله غفوراً رحيماً. هذه الجماعة التي ارتكبت أكبر جريمة وهي السرقة، ثم اتهمت اليهودي بالسرقة، واستطاعوا أن يجذبوا رسول الله إليهم، وكاد أن يوافقهم على دعواهم ويقطع يد اليهودي، لكن الله سلم فأنزل هذه الآيات، وفضح أولئك المنافقين، ومع هذا فتح لهم باب الرحمة.و (مَن) في الآية تفيد العموم، سواء ارتكب هذا السوء أبيضاً أو أسوداً، ذكراً أو أنثى، عربياً أو أعجمياً، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110]، أي: مع أي مؤمن أو مؤمنة، كأن يأخذ ماله أو يسبه أو يشتمه أو يكذب عليه أو يفتري عليه، أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ [النساء:110] أي: بارتكاب محرم أو ترك واجب، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ [النساء:110]، أي: يتوب توبة نصوحاً، ويكثر من الاستغفار، ولا يفارقه الندم، ويطلب العفو ممن جنى عليه أو اعتدى عليه، وهذه التوبة عبر عنها بالاستغفار، فلا بد من التوبة والرجوع إلى الصواب، والرجوع إلى الحق، فإن كان بينه وبين أخيه يطلب سماحاً منه ومعذرة وعفواً، ويعطيه ما أخذه منه، يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، أي: من شأنه هذا فإنه يجد الله غفوراً رحيماً، وبالتالي لا تخف أن تقول: أغلق باب التوبة في وجهي، إذ ما من مؤمن ولا مؤمنة يعمل سوءاً وهو الإثم الضار الفاسد، أو يظلم نفسه بالذات، بأن يرتكب ما حرم الله، ثم يستغفر الله نادماً راجعاً إلى الصواب عائداً إلى الحق، ويواصل الاستغفار والتوبة، فإنه يجد الله غفوراً له رحيماً به، يغفر زلته ويرحمه، وعليه ففتح الله لهم باب التوبة إلا من رفض منهم.
تفسير قوله تعالى: (ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه...)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111].يقول تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا [النساء:111] من الآثام، والإثم كل ضار فاسد، أو كل ما يضر فهو إثم، أو كل ما هو فاسد فهو إثم غير صالح. فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، لا على غيره، فلو يقوم أحد منا الآن ويقول الباطل فإننا لا نتأذى به، وإنما يعود عليه هو وحده، وذلك لأن العمل يتولد أو ينتج عنه ظلمة النفس وخبث الروح وتدسيتها، فما تتدسى روحي ولا روحك بذنب ذلك الرجل، اللهم إلا في حال رضانا بالباطل وسكوتنا عنه، وحينئذ نكون قد ارتكبنا ذنباً آخر وهو أننا ما أمرنا بمعروف ولا نهينا عن منكر. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111]، عليماً لا يخفى عليه ذنب يرتكبه إنسان على وجه الأرض، فلا تفهم أنه لا يطلع الله عليك، أو لا يدري ساعة ما قلت أو فعلت، فالله مازال عليماً بالخلق كلهم، وعلمه تعالى تغلغل في كل ذرات الكون العلوي والسفلي، فلا يخفى عليه من أمرنا شيئاً، وحكيماً يضع الشيء في موضعه، فالذي أذنب هو الذي يؤاخذه، والذي لم يذنب لا يصيبه بالمصيبة ولا يحل به العذاب، بخلاف لو كان غير حكيم، فـعدنان يسرق وهو راض فتقطع يده، لكنه عليم عادل، فاطمئن إلى أنك لا تظلم أبداً، لا في حسنة تقوم بها ولا في سيئة ترتكبها. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:111]، أي: بخلقه، حَكِيمًا [النساء:111]، في قضائه وتصرفاته وشرعه، فلتطمئن النفوس تماماً.
تفسير قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112].قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112]، ما الفرق بين الخطيئة والإثم؟ الخطيئة أن يفعل الإنسان شيئاً ضد أخيه كما فعل ابن أبيرق، والإثم مطلقاً، أي: ترك واجب أو فعل محرم، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، والبريء مأخوذ من البراءة، وهو الذي ما فعل، ما قال قولاً شنيعاً أبداً ولا سرق ولا كذب، بينما الآخر يرتكب الخطيئة أو الإثم ويقول: فلان هو الذي فعل ذلك، يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، كما رمى بنو أبيرق اليهودي، فقد وضعوا الدرع في بيته وقالوا: هو الذي سرق. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، ما له؟ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، احتمل لأنه ما يطيق أن يحمل هذا، فهو احتمله بأمر فظيع، والبهتان هو الكذب الذي يبهت صاحبه فيتركه حيراناً، فالكذب كذب، ولكن إذا بهت مؤمناً ولم يسبق له هذا القول ولا هذا العمل، ثم واجهته وقلت له: أنت قلت كذا أو فعلت كذا، فإنه يحتار ويندهش، فهذا هو البهتان، أي: الكذب الذي ما له عامل أبداً يقتضيه أو سبب ممكن يوجد بسببه، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112]، والجزاء عند الله إن تاب نجا؛ لأن باب التوبة مفتوح، لكن كرر الحادثة، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112]، فهم سرقوا، لكن لما خافوا أن يفتضحوا رموا اليهودي، فارتكبوا بذلك خطيئة وإثماً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112].وهنا قد انتهى الكلام عن بني أبيرق ومن وقف إلى جنبهم من أهل الغفلة، وقد فتح الله لهم الباب وتاب على من تاب منهم، والآن الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].
امتنان الله على رسوله بأن حفظه وعصمه من الخطأ في الحكم
يقول تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ [النساء:113] يا رسولنا، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113]، فقد جاءوا بمن ينطق ويحلف: السارق هو اليهودي، وهذا ما علمنا به، ولا يمكن أن يتم هذا بيننا، فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عصمه الله وحفظه قبل أن يصدر الحكم على اليهودي، فنزلت الآيات القرآنية ببراءة اليهودي، وهذا فضل الله ورحمته على رسوله صلى الله عليه وسلم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113]، ما معنى: يُضِلُّوكَ [النساء:113]؟ أي: يوقعونك في الضلال وفي الخطأ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [النساء:113]، أما أنت يا رسولنا فيحميك ربك ويصونك مولاك، وقد فعل ذلك، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113]، فطمأنه وأمنه، وكيف لا وهو وليه، وهو من أرسله إلى الناس كافة، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء:113] أبداً، بل أقل الضرر لا يمكن أن يصل إليك يا رسولنا.

يتبع

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 01:28 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
امتنان الله على رسوله بأن أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، ولم يقل: وأنزلنا، وإنما قال: وَأَنزَلَ اللَّهُ [النساء:113] جل جلاله وعظم سلطانه، عَلَيْكَ [النساء:113] يا رسولنا، الْكِتَابَ [النساء:113]، أي: القرآن الكريم، فهل هناك من يدعي أنه أنزل عليه؟وهذه أعظم آية في كتاب الله تقرر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد تحدى الله عز وجل العرب وهم أولوا البلاغة والفصاحة والبيان على أن يأتوا بسورة كسور القرآن الكريم، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]، إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وهنا لطيفة قرآنية وهي قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، إذ لا يقول هذا إلا الله؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يختم على قلوبهم وألسنتهم، ولا يقدر أحد أن يحاكي أو يماثل الله في ذلك.ثانياً: أن هذه الأنوار القرآنية من أين لغير الرسول أن يأتي بمثلها؟ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، أي: في شك، مِمَّا نَزَّلْنَا [البقرة:23] على عبدنا من هذا القرآن، إذاً: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] من مثل محمد في أميته، فقد قضى أربعين سنة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بهذه العلوم والمعارف التي يحار لها العقل، ويأتي بالقصص وتاريخ البشرية، ولن يستطيع أحد أن يرد كلمة أبداً أو يقول: هذا ما وقع.ثم يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي [البقرة:24]، أي: أسلموا وادخلوا في رحمة الله، لكن قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، و(لن) الزمخشرية تنفي المستقبل، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، واليوم مضت ألف وأربعمائة سنة ما جاءوا بسورة من مثله، بل نقول: اليابان الصناعية اليوم قد تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من آلات الحديد، كسيارة أو غيرها وتقول: نتحدى البشرية لمدة سبعين سنة أن ينتجوا مثل هذه؟ لا يمكن، كذلك أمريكا أو روسيا أو أي دولة صناعية تقول: نتحدى البشرية أن يوجدوا مثل هذا الاختراع لفترة خمسين أو سبعين سنة، لا يمكن ذلك أبداً، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل فعلوا؟ لا والله، كم سنة الآن؟ ألف وأربعمائة وخمسة عشر سنة ولم يفعلوا ذلك، آمنا بالله وحده. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، والحكمة هي معرفة أسرار هذا الكتاب، والحكمة ذلك النور الذي يغشى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الحكمة ويظهرها ويوصي بها ويشرعها للعباد، ولهذا فالحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113]، هل كان الرسول يعلم شيئاً؟ اقرءوا قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:6-7]، ما كان عليه الصلاة والسلام يعلم شيئاً، وإنما مجرد شاب من شبان قريش من بني هاشم حتى بلغ أربعين سنة، ففاجأه الحق في غار حراء في رمضان، وبدأ الوحي ينزل عليه واستمر ثلاثاً وعشرين سنة حتى اكتمل هذا القانون السماوي، وحتى اكتمل هذا القرآن الكريم.
فضل الله العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم
قال: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، إي والله، فقد كان فضل الله على رسوله عظيم، فيا من هم مخدوعون بالدنيا! إن الرسول الذي يقول له ربه: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] ما شبع من خبز شعير مرتين في يوم واحد، فلا تفهموا أن المال والغنى هو رضا الله عز وجل، أو مظاهر إكرام الله للعبد، والله ما هو إلا ابتلاء وامتحان، إما أن تنجح وإما أن تتمزق وتخسر أبداً، فلا التفات إلى أوساخ هذه الدنيا أبداً، فهذه أم المؤمنين تقول: كانت إحدانا -أي: نساء النبي- تتحيض في الثوب الواحد الحيضتين.إذاً: ما فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ حسبه أن يرفعه الله إليه، وأن يجلسه بين يديه، وأن يكلمه شفوياً كفاحاً ومواجهة بلا واسطة، فأي رائد برز في الكون غير محمد صلى الله عليه وسلم ليخترق السبع الطباق مسيرة خمسة آلاف وخمسمائة سنة، وانتهى إلى سدرة المنتهى وإلى ما فوقها، حتى إن جبريل يقف فيقال له: ( تقدم يا جبريل فيقول: ما منا إلا له مقام معلوم )؟!وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرس من المؤمنين، إذ إنهم كانوا خائفين عليه من اليهود والمنافقين والمشركين في العام الأول والثاني من قدومه المدينة، فلما نزل قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال لأولئك الحرس: ( أيه الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله )، فلو اجتمعت الدنيا كلها على أن يقتلوا رسول الله ما قدروا على قتله، مع أنهم كانوا يتربصون به ليقتلوه، فالمنافقون واليهود متعاونون على قتله لكن الله فضحهم. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، فأي فضل أعظم من أن تصبح رسول الله، فتتكلم مع الله ويلقي بالمعارف والعلوم إلى قلبك وينزل عليك كتابه، ثم ماذا؟ اسمعوا! أول من يدخل الجنة دار السلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فهم أول أمة دخولاً الجنة مع أنهم آخر أمة في الوجود.
المقام المحمود الذي يعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما أعطى الله رسوله أعظم عطاء، فقد أعطاه الشفاعة العظمى، أتعرفون الشفاعة العظمى؟ إليكم صورتها: لما تقف البشرية كلها على صعيد واحد، على أرض بيضاء كخبز النقي، لا جبل ولا تل ولا انخفاض ولا ارتفاع، وذلك في يوم طوله خمسون ألف سنة، فإذا كان من عهد عيسى إلى اليوم ألفين سنة ما كملت بعد، فأين ثمانية وأربعون ألف سنة أخرى؟ واقرءوا: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:4-5].وهم واقفون ينتظرون القضاء فيهم وعليهم، ومن مظاهر هذا: وإذا بنفخة من إسرافيل فيصعق كل أحد إلا من شاء الله، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أول من يفيق )، أي: أول من يفيق من تلك الصعقة، ( وإذا بأخي موسى آخذ بإحدى قوائم العرش، لا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور فلم يصعق؟ )، وصعقة الطور لما كان في جبل الطور، وذلك لما كلمه ربه كفاحاً بلا واسطة، فلما غمره ذلك الحب وذلك الكمال، هشت نفسه وطلب من ربه أن يريه وجهه، واقرءوا قوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، الذي أمامك، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فتجلى الرحمن، أي: ظهر للجبل فاندك الجبل، وما إن رأى موسى الجبل العظيم بصخوره قد تحلل صعق وأُغمي عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعل موسى جزاه الله بتلك الصعقة ) ، أي: ما أعطاه الله صعقة ثانية. وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ [الزمر:67-69]، جاء الرب، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69].وبينما هم واقفون وقد طال الزمان والمدة، والحر شديد والهول عظيم، والله من الناس من يلجمه العرق، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى سرته بحسب ذنوبهم وصالح أعمالهم، فيأتون آدم عليه السلام، وقد أخبر بهذا الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وصحيح الأحاديث، وليس معنى هذا أن كل البشرية بالمليارات تأتي آدم، وإنما طوائف منهم تأتي آدم عليه السلام، فيقولون له: يا آدم! لقد خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربنا ليقضي بيننا، فقد طالت مدة الوقوف، فيعتذر آدم ويقول: كيف أكلم ربي وقد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وقد عصيته، فيذكر آدم معصيته، ونحن كم عندنا معصية؟! ألف معصية؟!وأبشركم -ولا تقولوا: الشيخ بهلول- بأني منذ ثلاث ليال رأيت آدم في المنام كأحسن ما يكون، وأنا معه جالس وأتكلم معه، والله سنراه إن شاء الله، ولعلنا نكون ممن يأتون إليه إن شاء الله.فيعتذر آدم لزلة قدمه مرة واحدة عندما نهاه الله وامرأته عن أكل الشجرة، فزين لهما الشيطان وغرر بهما فأكلا منها، فقال: كيف أواجه ربي وأنا قد عصيته؟ فكم زلة قد ارتكبناها؟!ثم قال لهم: أنصح لكم أن تذهبوا إلى نوح أبو البشرية الثاني بعد آدم، كيف لقب بأبي البشرية الثاني؟ لأنه في عام الطوفان ما نجا إلا سفينة نوح وفيها نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، وكل البشرية جاءت من أولاده، فصار مثل آدم أو قريب منه.فأتوا نوحاً عليه السلام فقالوا له: يا نوح! أنت، وأنت، وأنت، اشفع لنا عند الله ليقضي بيننا، فيعتذر ويقول: أما قال آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله؟ ولكن أنصح لكم أن تذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، ويذكر زلته وخطيئته، فيا ترى ماذا فعل؟ هل قتل نفساً؟ هل زنى بامرأة مؤمن؟ هل شرب الخمر والكوكايين؟ ماذا فعل نوح؟ ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يتلقى الضرب حتى يغمى عليه، ما هي خطيئته التي استحى أن يكلم الله؟ هو أنه قال بعد مرور القرون الكثيرة والقوم في زيادة كفر وعناد: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، من لهم؟ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، وما من حقه أن يقول هذا، فاعتبرها خطيئة واستحى من الله أن يكلمه. ثم قال لهم: أنصح لكم أن تأتوا إبراهيم خليل الرحمن، وأول من هاجر في سبيل الله، وابتلي بما لم يبتلى به غيره، ومن مظاهر ابتلائه: أن الله أمره أن يذبح ولده له، فأنت تحبني يا إبراهيم، إذاً اذبح لي إسماعيل، واقرءوا قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، أي: أوامر، فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وقد نال الإمامة بالامتحان، ومن الامتحان أنه وقف في وجه المشركين وعلى رأسهم والده كذا من السنين، حتى حكموا عليه بالإعدام وبالإحراق بالنار، ووالله لقد ألقوه بالمنجنيق في ذلك الأتون الملتهب، ولكن الله استدركه وهو في الطريق إلى النار؛ لأن النار أججوها أربعين يوماً، حتى النساء ينذرن النذور لآلهتهن من أجل إبراهيم، فتأتي إحداهن بحزمة الحطب، فلما أرادوا أن يلقوه جعلوه في مثل المنجنيق أو المعلاق ورموه، وفي الطريق عرض له جبريل فقال له: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم، فقال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوقع فيها فاحترق القيد الذي برجليه ويديه، وخرج وودعهم وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، فكان أول مهاجر في الأرض.فأتى إليه القوم فقالوا له: يا إبراهيم! أرأيت ما بنا من كرب وغم، اشفع لنا عند الله حتى يقضي بيننا، فقال كما قال من قبله: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، فكيف أكلمه؟ وذكر ذنبه عليه السلام، هل قتل؟ هل زنى؟ هل أكل الربا؟ هل عق والديه؟ هل شرب الخمر؟ هل قذف المؤمنين والمؤمنات؟ لا أبداً، كل ما فيه أنه ذكر ثلاث كذبات، وكذبات إبراهيم أحسن من صدقنا نحن؛ لأنه كذب لله لا لنفسه، فالكذبة الأولى: لما أراد أن يبيت القوم ويدمر أصنامهم مروا به فقالوا له: هيا يا إبراهيم! اليوم عيد فلنخرج إلى الفضاء، فلنأكل اللحوم والخضر وغيرها، فنظر إلى السماء فقال: إني سقيم، قال تعالى مصوراً ذلك: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، أي: مريض، وهذه هي الكذبة الأولى، فهو عليه السلام نظر في النجوم لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، فظنوا أنه نظر إلى آلهتهم، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، فتركوه، ولما خلت البلاد من أهلها جاء بفأس أو معول فحطم الآلهة في بهوها، إذ للآلهة بهو عظم، فقد كانوا يضعون الحلويات والأكل الناعم بين يديها، فحطمها وجعل الفأس في أحد الآلهة الكبار وربطه به وعاد، ولما دخلوا في المساء يجرون إلى الآلهة ليأخذوا الحلويات من عندها؛ لأنهم كانوا يضعونها من الليل لتباركها كما يفعل جماعتنا اليوم، فوجدوا الآلهة متناثرة، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، فقال واحد منهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، أي: سمعنا فتى يسمى إبراهيم يذكر هذه الآلهة بغير رضا، فهو ساخط عليها، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، فجيء بإبراهيم، فقيل له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، فأشار إلى يده، فظنوا أنه أشار إلى الصنم، وهذه هي الكذبة الثانية، لكنها أحلى من صدقنا اليوم، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:63-64]، أي: ماداموا يحطمون ولا يعترفون من حطم، ولا ينطقون، فكيف تعبدونهم؟ أي مسخ أصاب هذه العقول؟ وأما الكذبة الثالثة: أنه مشى سائحاً في الأرض مع زوجته سارة، فدخل الديار المصرية من جهة سينا، وكانت سارة جميلة وحسناء، فلما رآها القوادون بلغة أهل المغرب، أتعرفون القوادون؟ عندنا في المملكة نسميهم الجرارون، أي: الذين يجرون ويسحبون، فقالوا لسلطان مصر: إن امرأة حسناء لا نظير لها، لا تصلح إلا لك، فهل فهمتم معنى القواد؟ القواد هو الذي يقود إلى الباطل، والجرار أبشع منه.فقال ملك مصر: ائتوني بها، فعرف إبراهيم، فقال: يا سارة إنه لا يوجد على الأرض من مؤمن إلا أنا وأنتِ، فإذا سألك عني فلا تقولي: زوجي فيغضب ويقتلني، وإنما قولي: أخي، وهو كذلك في الإيمان والإسلام، وهذا ذكاء منه عليه الصلاة والسلام، ولو قالت: زوجي لقتلوه؛ لأنه كيف يتزوج بها الملك وزوجها موجود؟ ثم جيء بها إليه، وحسنوا لباسها وزينتها وأنزلوها إلى السلطان أو الملك أو ذاك الطاغية، فكان كلما أراد أن يمسها بيده يصاب بالشلل الفوري والله العظيم ثلاث مرات، يتكلم معها ويضاحكها ويداعبها، يريد أن يمسها أو أن يمد يده إليها، قبل أن يمسها يصاب بالشلل على الفور، وفي الرابعة قال: أخرجوا عني هذا الشيطان، ومع هذا أحسن إليها وأمتعها بالمال وباللباس وببغلة كما فعل المقوقس مع رسولنا الكريم، فقد أعطاه بغلة تسمى: الدلدل، وأعطاه مارية القبطية، فهذه هي الكذبة الثالثة، وهي في الحقيقة ليست بكذبة، إذ إنه أخوها في الإسلام والإيمان.ثم قال لهم عليه السلام: أنصح لكم أن تذهبوا إلى موسى بن عمران نبي بني إسرائيل ورسولهم، فأتوا موسى فقالوا: يا موسى! ترى ما حل بالبشرية، توسلنا بك إلى الله فادع الله أن يقضي بيننا، فموسى يذكر ذنباً عظيماً فقال: كيف أكلم ربي وأنا الذي قد قتلت نفساً؟! هل قتل عمداً؟ لا والله، وإنما خطأ، وذلك لما تضارب القبطي مع إسرائيلي، وصاح الإسرائيلي يبكي، فوكز موسى القبطي فجاءت في القلب فمات، وهذا كان بقضاء الله وقدره، ثم قال: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] وغفر الله له، ومع هذا ما استطاع أن يكلم الله مع هذا الذنب الوحيد. ثم قال لهم: ولكن عليكم بعيسى، فأتوا عيسى بن مريم فلم يذكر ذنباً قط، فقد قضى ثلاثاً وثلاثين سنة في الفترة الأولى، وسيقضي مثلها في الفترة الثانية عما قريب وستسمعون، ومع هذا قال لهم: عليكم بمحمد، وهذه هي الشفاعة العظمى، فما إن وصل الوفد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا لها، أنا لها )، فقد كان عنده صك قديم في الدنيا بها، أما قال تعالى في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فهذا هو المقام المحمود الذي حمده عليه أهل الموقف بكافتهم، ثم قال عليه السلام: ( فآتي العرش فأخر ساجداً تحت العرش، فيلهمني ربي محامد -ألفاظ حمد وثناء- ما كنت أعلمها، فلا أزال أحمد الله وأثني عليه بها حتى يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واسل تعطى، واشفع تشفع )، فصلوا عليه وسلموا تسلماً.فهذا هو المقام المحمود، وهذه هي الشفاعة العظمى، فهل ذكر رسول الله ذنباً؟ لا أبداً، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. اللهم صل عليه وسلم تسليماً، اللهم اجمعنا معه في دار الكرامة يا رب العالمين.

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 01:30 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (59)
الحلقة (282)

تفسير سورة النساء (63)


نهى الله عز وجل عباده عن التناجي، وبين لهم أن التناجي خصلة ذميمة إلا في حالات معينة، فقد استثنى من مواطن الذم أن يكون التناجي للأمر بالصدقة على الفقير والمسكين، أو يكون للأمر بالمعروف والخير، أو يكون لغرض الإصلاح بين المتخاصمين، سواء كانوا قبيلتين أو طائفتين أو رجلين، فهذا كله من باب التعاون على البر والتقوى والتناجي بالمعروف لنفع العباد.
تفسير قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ....)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المكية المدنية الميمونة المباركة، ذات الأحكام والقوانين الإلهية، ومعنا الليلة هاتان الآيتان، فهيا بنا نردد تلاوتهما، فأنا أجهر وأنتم في أنفسكم، ثم نأخذ في شرحها وبيان هداية الله تعالى منها، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:114-115].تأملوا -يفتح الله عليكم- في معاني هاتين الآيتين مرة أخرى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:114-115].‏
بيان معنى النجوى
معاشر المستمعتين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من صاحب هذين الخبرين؟ الله جل جلاله، إذ هذا كلام ربي تبارك وتعالى الذي أنزله على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو على مقربة منا، وتلك حجراته، وهذا مسجده، فاسمع الخبر الأول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]، ما هي النجوى؟ النجوى: مصدر أو اسم مصدر، ومعناها: المسارة بالكلام، وهي مأخوذة من النجوى التي هي المكان المرتفع، كالذي يأخذ رجلاً من بيننا ويخلو به ويساره، أي: رفعه إليه، فلا خير يوجد قط في أية مناجاة إلا ما استثنى الله عز وجل، وهذا من باب هداية الخلق وإصلاح البشرية، فربهم جل يريد كمالهم وسعادتهم؛ لأنه سيدهم ومولاهم، وخالقهم ورازقهم، وخالق الكون كله من أجلهم، فكيف إذاً لا يريد إكمالهم وإسعادهم؟! لو ما أراد ذلك ما أنزل كتاباً ولا أوحى بوحي ولا بعث رسولاً، بل ولتركهم كعالم الشياطين. لا خَيْرَ [النساء:114] نفي كامل، أي: لا يحل لمؤمن أن يخلو بآخر ويناجيه سراً؛ لقول الرسول المفسر المبين: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، كأن نكون جالسين في مجلس تحت ظل شجرة أو جدار أو منزل، فيأخذ أحدهم الثاني ويخلو به ويناجيه، أي: يساره بالكلام بينه وبينه، فهذه الوضعية حرام؛ لأن المؤمن يتأذى، وقد يقول في نفسه: ماذا يقولان؟ لعلهما يتآمران علي، لعلهما يريدان بي الشر، لعلهم يحجزاني عن الخير ويبعداني عنه، لماذا وأنا أخوهم؟! فهذه التساؤلات في حد ذاتها أذية للمؤمن يتأذى بها، ولذلك فلا يحل أن يتناجى اثنان دون الثالث، ولا أربعة دون الثالث، ولا خمسة دون الرابع، وهذه صورة عامة حفاظاً على مودة المؤمنين وعلى حبهم لبعضهم البعض، وبالتالي كل قول أو عمل، بل أو حركة تحدث في نفس مؤمن أذى فهي ممنوعة في مجتمعنا الإسلامي.وفي سورة المجادلة يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المجادلة:9]، أي: بالخير وما يساعدكم على تقوى الله عز وجل.وليذكر أهل الحلقة من نساء ورجال أن السياق مازال مع طعمة بن أبيرق وإخوته الذين تناجوا وتآمروا بالليل واتهموا اليهودي بسرقة الدرع، وهو من السرقة بريء، ولكن القرآن كتاب هداية للبشرية كلها ما دامت على سطح الأرض، فلم تُرفع أبداً أحكامه ولا آدابه ولا شرائعه ولا حكمه حتى يرفعه الله عز وجل، والعبرة دائماً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالسبب في نزول الآيات هو طعمة بن أبيرق الذي هلك في مكة، وذلك أنه سرق درعاً من بيت رجل من المسلمين، فلما سمع كلام الجيران خاف فرماه في بيت يهودي، وتآمر مع إخوانه وقالوا: اليهودي هو الذي سرق، وكاد الرسول أن يقطع يد اليهودي، إلا أن الله أنقذه وبين له الفتنة وأصولها، وقد درسنا هذا فيما سبق، والسياق ما زال مع الحادثة التي تمت في المدينة.
الأمر بالصدقة مما استثناه الله من النجوى
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]، اللهم إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [النساء:114]، فمثلاً أنتم جالسون في منزل أو في مكان ما، وفلان فقير محتاج بين أيديكم، فليس من إكرامه أن تقول: يا إخواني! أخوكم جائع أو عاري أطعموه واكسوه؛ لأن المؤمن الحق يتأذى بهذا أشد الأذى، فيتأذى أن يُعلن عن فقره أو حاجته، فإن قيل: يا شيخ! هم الآن يشحتون ويتسولون ويطلبون؟ والجواب: هبطنا وهبطوا معنا فلا عجب، وإلا كان من يمد يده؟ من يسأل غير الله عز وجل؟إذاً: من باب إكرام الله لأوليائه، أن من أراد أن يجمع لأخيه ما يفطر به فلا يحل له أن يعلن عن ذلك، بل يناجي هذا وهذا: نجمع لفلان كذا وكذا، وهذه صدقة يجوز فيها المناجاة؛ لأن الله لا يرضى أن يؤذى وليه وعبده الذي ابتلاه بالجوع أو بالعري امتحاناً له ليرفعه أو يزيد من كماله، لذلك لابد أن نحترم هذا المؤمن لما جاع أو عري، فإذا أردنا أن نجمع له فنخفي هذا الكلام ونسره فيما بيننا ونقدم له، فهل فهمتم هذه؟ وهل ممكن أن نعمل بها أو أنها صعبة؟
الأمر بالمعروف مما استثناه الله من النجوى
ثم قال تعالى: أَوْ مَعْرُوفٍ [النساء:114]، ما المعروف؟ العرف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]، العرف والمعروف: كل ما عرفه الله لنا في كتابه أو على لسان رسوله من أنواع البر والخير، وبعبارة أوضح: كل ما أذن الله لنا في قوله أو فعله، كل ما أمر الله بفعله أو قوله، كل ما أمر الله منتدباً مستحباً لعباده أن يأتوه، والمعروف العام ضد المنكر، ومادام قد أذن الله بقوله أو عمله أو أوجبه أو انتدب إليه، فأي معروف أعظم من هذا؟!إذاً: المناجاة محرمة، إلا أن تكون في أمرٍ بصدقة وجمعها لمؤمن أو مؤمنة حتى لا يُفضح بين الناس ويؤذى، أو أراد أن يأمر بمعروف، واقتضى الإسرار والمناجاة من أجله فلا بأس.
الأمر بالإصلاح مما استثناه الله من النجوى
ثم قال: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، أراد أن يصلح بين جماعتين، أو بين قريتين، أو بين شخصين، حتى بين الرجل وامرأته، ففي هذه الحالة يناجي من هو أهل للمساعدة على إزالة هذه الجفوة أو على إبعاد هذه الأذية من بينهما، فلهما أن يتناجيا ويتكلما سرياً من أجل أن يصلحوا بين فلان وفلان لوجه الله، وهذا الإصلاح نذكر فيه حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين )، أي: إذا كان ما بين فلان وفلان قد تمزق وفسد، فاعملوا على إصلاح ما بينهما، وهذا بيان رسمي ألقاه الرسول علناً فقال: (ألا). معشر المستمعين! هل نعمل في هذا الميدان؟ أظن لا، اتركهم يأكل بعضهم بعضاً؛ لأننا هبطنا من علياء السماء، فقد كنا سادة وقادة وهداة، فاحتال علينا أعداء الله فهبطنا، فهانحن في الأرض، وكأن هذا القرآن ما سمعنا به أبداً، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وكلمة: بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] أيضاً تشمل حتى الكفار، فلو تنازع كافران يهوديان أو نصرانيان فإننا نصلح بينهما ولا حرج وبسرية ومناجاة؛ لأن لفظ: (الناس) عام، فنحن هداة الخلق نحمل إليهم أنوار السماء ليعيشوا عليها كرماء أصفياء أطهار.قالت العلماء: هذه الثلاث جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي : صدقة، معروف، إصلاح بين الناس، وهذه دعوة لنا معشر المؤمنين أن نتصدق ونفعل المعروف وندعو إليه ونبشر به ونقيم إلى جنب أصحابه.وهذه الثلاثة يدلك على خيريتها قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:114]، أي: ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، بشرط: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، لا لقومية ولا لعصبية ولا لقرابة، وإنما يفعل ذلك طلباً أن يرضى الله عنه، فإن قام بها إلى غير الله ما قبلها الله منه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:114]، أي: حال كونه طالباً لمرضاة الله، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، وابتغى الشيء، أي: طلبه بكل حواسه ومشاعره، فيتجرد عن القرابة، وعن الوطن، وعن القبيلة، وعن الفائدة المادية، فلا يريد إلا الله عز وجل، وهنا لا معنى لفلاسفة الدنيا الذين يقولون: لإصلاح المجتمع، بل يفعل ذلك من أجل أن يرضى الله تعالى عنه، فإذا فاز برضا الله فاز بخيري الدنيا والآخرة، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو دار السلام.

يتبع

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 01:30 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الطريق إلى معرفة الله عز وجل
معشر المستمعين والمستمعات! لمَ يعمل الناس ولا يريدون بهذا وجه الله وابتغاء مرضاته؟ والجواب: لأن أكثرهم ما عرفوا الله والله العظيم، ومن لم يعرف الله كيف يعمل له؟ كيف يغمض عينيه عن كل هذه المصالح الدنيوية ولا يرى إلا الله عز وجل، فيفعل ذلك من أجله؟ العلة أنهم ما عرفوا الله تعالى، فمن منكم يقول: وكيف نعرف أن فلاناً عرف الله أو لم يعرفه؟ إن معرفة الله عز وجل المعرفة الحقيقية اليقينية تعني: المعرفة بآياته الكونية والتنزيلية، وهذه المعرفة متى ما وجدت أوجدت شيئين في العبد: الأول: الخوف من الله، والثاني: حب الله جل جلاله وعظم سلطانه، فمن لم يعرف الله معرفة حقيقة كما يعرف أمه وأباه، بل أشد، لا يوجد في نفسه من هذا شيء، لا الخوف من الله ولا الحب في الله، ويدلك لذلك أن ترى العبد يخاف الله، فلو قلت له وهو على معصية: أما تخاف الله؟ اضطرب وبكى وصرخ: أستغفر الله وأتوب إليه، فهذا يخاف الله عز وجل، كما قد ترغبه في شيء يحبه الله، ورغب عباده فيه، فما إن يعلمه حتى يكون قد دخل في قلبه من السرور والفرح والبهجة ما لا يقدر قدره إلا الله، وأصبح يعمل بذلك عملاً يؤثره على حياته كلها. فإن قيل: يا شيخ! ما الطريقة إلى العلم والمعرفة؟ سمعنا رسول الله يقول: ( إنما العلم بالتعلم )، أي: إنما يحصل العلم لصاحبه بالتعليم شيئاً فشيئاً يوماً فيوماً حتى يعلم، فلمَ ما نتعلم؟ نتعلم القرآن وحفظناه ثم نقرؤه على الموتى! ماذا نتعلم؟ وكيف نتعلم؟ نتعلم أن نعلم الله عز وجل بجلاله وكماله وصفاته، ونعلم محابه، وما أكثر ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات أيضاً، ونعلم ما يكره الله تعالى من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات أيضاً، وهذه المعرفة لا تتأتى بالانتساب إلى الإسلام، ولا بكونه مؤمناً، والله لا تتأتى ولا تتهيأ لعبد إلا إذا طلب، ومن طلب في جد وأخذ يحصل على هذا العلم يوماً بعد يوم حتى يعلم بدون هيهات هيهات.إذاً: من يفعل هذه الثلاث التي هي أصول هداية الخلق ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لرضا الله؛ لينزله بجواره، لا من أجل قرابة ولا من أجل وطن ولا من أجل أي علة أخرى، وإنما فقط من أجل ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [النساء:114]، فالله يعده ومن أصدق من الله وعداً وعهداً وحديثاً. فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، فإذا كان العظيم-الله-يستعظم الأجر فكم يكون هذا الأجر؟! كم تقدرونه؟! إن كوكبكم الأرضي هذا يعطى المؤمن في الجنة أكثر من دنيانا هذه بسبع أو ثمانِ أو عشر مرات، هذا الأجر العظيم هو الجنة دار السلام.والآن بعدما عرفنا زادنا الله معرفة أننا لا نتناجى بالسوء والشر والأذى أبداً، وخذوا قاعدة قعدناها لأبنائنا لو كانوا يعملون، فأقول لهم: اسمعوا! إن الكلام الذي لا أستطيع أن أقوله في المسجد النبوي بين الناس لا أقوله في المنزل؛ لأن الكلام الذي تتحاشى أن تقوله بين الناس معناه أنه غير مرضٍ لله تعالى، فتخفيه أنت وتقوله في بيتك، فهل يصح هذا؟ إن المؤمن ظاهره كباطنه، فلا يفكر إلا فيما هو معروف وخير، ولا ينطق إلا بما هو معروف وخير، ولا يتحرك حركة فيعمل إلا فيما هو خير ومعروف، فالمناجاة الخاصة في البيوت والمنازل-وقد شاعت بيننا-تكون ضد الحكومات، ضد الأحزاب والجماعات، ضد المناوئين والمناوئات، فهل المجتمع الإسلامي يكون هكذا؟! ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذه ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله )، ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، فكيف تسار فلاناً وفلاناً سراً على أن تفعلوا كذا وكذا، أو تجحدوا الخير عنهم وتغطوه وتخفوه بينكم ولا يطلع عليه إخوانكم؟! إن هذه المسالك ليست ربانية ولا إسلامية أبداً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9].معاشر المستمعتين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من طلب وجد، فمن أراد أن يعلم علم، ومن أراد أن يعمل عمل ووفقه الله، فقط نقبل على ربنا في صدق، ونسأله هدايتنا وتوفيقنا لما يحبه ويرضاه.
تفسير قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى...)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
حرمة مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين
قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، أي: ومن يشاقق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أين يوجد ضريحه؟ هنا، سبحان الله! لو كنا في الهند أو في أمريكا ونقول: أين ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نحن الآن في دياره والحمد لله، هذا الرسول المكرم المبجل المعظم، و(أل) هنا للتعظيم والتبجيل؛ لأن الرسول معروف، لا هو موسى ولا عيسى، (ومن يشاقِّ)، وفك الإدغام: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115] محمداً صلى الله عليه وسلم، كيف يشاقه؟ يتركه في شق وهو في شق، فلا يلتقيان ولا يتصافحان ولا يتعانقان، يقال: شاقه، أي: جعله في شق وهو في شق آخر، فلا تلاقي ولا مودة ولا حب ولا تعاون معه، فالرسول يدعو إلى كذا وهو يدعو إلى كذا، الرسول يأمر بكذا وكذا، وهو يأمر بعكس ذلك، فهذه هي المشاقة، وبالتالي فالذي يأمر بغير ما يأمر به رسول الله، والذي يدعو إلى غير ما يدعو إليه رسول الله، والذي يحب غير ما يحب رسول الله، والذي يكره غير الذي يكره رسول الله، فوالله لقد شاق الرسول مشاقة كاملة. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، لابد من هذا الشرط، أي: من بعد ما عرف ما جاء به رسول الله وما يدعو إليه من الهدى والخير للبشرية، ولاحت أنواره وظهرت كراماته وأثره في البلد وفي البلاد والمجتمع، أما من كان جاهلاً ما عرف وما شاهد، فهذا له أمره، إذ نحن الآن مع من عرف ما يأمر به الرسول وما ينهى عنه وما يدعو إليه، ثم عاكسه من بعد ما تبين ولاح له وضوح النهار، وما يدعو إليه من الخير والحق والمعروف والهدى وإكمال البشرية وإسعادها، فقد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة كاملة، وهذا يدخل فيه مجموعات من اليهود ممن عرفوا أن محمداً رسول الله، كما قال عبد الله بن سلام: والله لا أشك في رسالة محمد ونبوته، وقد أشك في ولدي، فقد يكون ليس مني، أي: ممكن أن أمه قد خانتني، أما هو فصلى الله عليه وسلم فلا أشك فيه، وصدق الله إذ يقول: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال: نعرفه أكثر مما نعرف أبنائي؛ لما لاح من أنواع الهداية التي يقوم بها ويدعو إليها. مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، وهذا أولاً، وثانياً: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: ويتبع غير طريق المؤمنين، هيا نبكي، ما هذه الفرقة؟ قال أهل العلم من كبار الصحابة والتابعين: إن هذه الآية دليل قطعي على الإجماع الإسلامي، فإذا أجمع علماء الأمة المحمدية في أي عصر من عصورها على شيء فإنه يحرم الخروج عنهما، ولا يحل لمؤمن أن يخرج عن ذلك الإجماع ويعيش منفرداً برأيه، وهكذا أهل القرية من قرانا الإسلامية العربية والعجمية، فيجب على أهل القرية أن يجتمعوا على إمامهم وواعظهم ومعلمهم ومربيهم ولا يختلفون أبداً، ومن خالف وانفرد وقع في هذه الورطة، واتبع غير سبيل المسلمين، وهذا إغلاق لكل نافذة أو فوة فضلاً عن باب يدعو إلى الفرقة بين المسلمين؛ لأن المسلمين يحملون راية الهدى، يحملون راية لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى البشرية كلها، فهل يقدرون على رفعها وهم متنازعون متحاربون مختلفون؟ والله ما يستطيعون، وانظر إليهم لما تمذهبوا مذاهب وطرائق سقطت الراية منهم واستعمرهم الغرب فأذلوهم، وعملوا على تمزيقنا وتشتيتنا وتفريقنا، وإن قلت: كيف؟! كم من مذاهب موجودة في المسلمين حتى مذاهب الحق الأربعة؟ والله ما ينبغي أن تكون، ولكن تباعد الديار، فكيف يعرفون؟ قالوا: لا بأس، وهذه المسائل التي جاءت عن إمام من أهل العلم، كـأبي حنيفة أو أحمد أو مالك نعمل بها بشرط واحد: إذا صح عند أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبا حنيفة الحديث فلا يحل لمؤمن أن يقول: أنا حنفي، أو أنا مالكي، أو أنا حنبلي، أو أنا شافعي، إذ هذه مذاهب الحق الأربعة الواردة لمصادر الكتاب والسنة، فإذا بقينا في إقليم وأخذنا المذهب الفلاني نعمل به على أنه حق، لكن إذا جاءت السنة المبينة نقول: اسمحوا لنا نحن أحناف ما نعمل بهذا! والله ما يجوز هذا، أما المذاهب التي أعلنت خروجها عن جماعة المسلمين فلا تسأل عنها ولا نذكرها، إذ هي هالكة. سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: أن الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل هو العمل بالقرآن العظيم والسنة النبوية المبينة المفصلة الشارحة لما جاء في كتاب الله عز وجل، فهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، أي: وما أعطاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.وتلك الطوائف المتنوعة قد هبطت وتمزقت، وكان الواجب أن يراجعوا أمرهم ويعودوا إلى جماعة المسلمين، فلمَ يرضون بالاستقلاليات؟! هل يقولون: نحن كذا ونحن كذا؟!والمهم أن هذا وعيد إلهي: ومن يشاقق الرسول، ومعنى يشاقه: أي: ما يقبل قوله، فتأتيه السنة فيرفضها لا لشيء إلا لهوى أو شهوة أو مادة أو للحفاظ على مركز أو للإبقاء على منافع دنيوية. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، ولاحت أنواره وعرف أن هذا هو الحق، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، أي: ما يمشي مع المؤمنين في طريقهم الموصل إلى رضا ربهم، وهو العمل بالكتاب والسنة، عقيدة وقولاً وفعلاً.
جزاء من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين
قال تعالى: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، أي: نتركه لما طلب، إلا إذا تاب وأناب فالله عز وجل يقبله، أما ما دام مصراً على الهوى وهذه الشهوة وهذا الباطل فيتركه لذلك، فنوله الآن في الدنيا ما تولاه، وهذه سنة الله عز وجل، وهذا نظام الأسباب، فإذا رغبت عن الله ورسوله، ورغبت عن جماعة المسلمين واخترت غيرهم، يتركك الله لهم، إلا عرفت الطريق ورجعت، وندمت وبكيت، فالله يقبلك مادمت حياً قبل الآخرة. نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، أي: نتركه لما طلب، فلا ننزل عليه ملكاً يبين له أو يأخذه، بل نتركه لما طلبه من الخروج عن جماعة المسلمين، ولكن في الآخرة بعد الموت: وَنُصْلِهِ [النساء:115]، أي: نحرقه بجهنم، وساءت جهنم مصيراً يصير إليه الآدمي، فماذا تعرفون عن جهنم؟ يُسقى أهلها الحميم، ويصب على رءوسهم الحميم، فيصهر ما في بطونهم والجلود، وتعظَّم أجسامهم وتكبر حتى يكون عرض الإنسان مائة وخمسة وثلاثين كيلو متراً، وذلك كما بين أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، وضرسه ونابه والله كجبل أحد، وذلك ليخلد في عالم الشقاء بلا نهاية، وهذا والله أمر لا يطاق أبداً. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، لو كانت الأعمار ما تنتهي نقول: متى هذا؟ لكننا نشاهد أنفسنا نقبض يومياً ونؤخذ من بين أهلنا وذوينا، فهل هناك من أثبت حياته وقال: لن أموت حتى لا نعذب؟ لا أحد، بل مادام أنه خلق ثم يميت ثم يحيي، ولا يميت بعد ذلك، فقال تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أولاً: عرفنا هذه الآداب الإسلامية، فلا يتناجى اثنان دون آخر حتى لا يؤذونه، وثانياً: إذا كنا نتناجى لواحدة من هذه الثلاثة: إما صدقة، وإما إصلاح بين اثنين، أو معروف ليفعله إخواننا، فقد أذن الله لنا في هذا، ثم بعد ذلك نعمل إن شاء الله على أن نكون من أهل هذه الصفات الثلاث، ممن يتصدقون أو يدعون إلى ذلك، ممن يأمرون بالمعروف ولا يفارقونه، ممن يصلحون بين إخوانهم حيثما وقع الشقاق أو الخلاف بين اثنين أو بين جماعة، فنعمل على إصلاحهم، وقد سمعتم جزاء الله عز وجل على ذلك فقال: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو الجنة بعد رضا الله عز وجل، وعرفنا أيضاً أن المناجاة بالكلام المهلك الممزق المسيل للدماء، المفرق بين المسلمين، المفرق بين الرجل وزوجته، بين الأخ وأخيه، باطل وأهله في النار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]، وليكن باطننا كظاهرنا، فالكلمة التي هي حق وخير ومعروف وأنها تنفع المسلمين، فلنقلها في السوق أو في المسجد أو في البيت، والكلمة التي نعلم أنها تحمل الأذى والضرر فلا نقولها حتى ولو كنا في أنفسنا لا نتكلم بها، ومن طلب وجد، ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، عرفت أنك لا تستطيع أن تقول الخير إذاً لا تتكلم، ولنذكر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )، أي: إذا لم تستح من الله ولم تخفه فافعل كل شيء، فلابد من مراقبة الله عز وجل، فنعيش مع الله عند الأكل وعند الشرب، بل في كل أحوالنا نراقبه ونطلب رضاه، وبذلك نظفر إن شاء الله.أخيراً: إياكم والتحزب والتجمع، ففي أي بلد قل: أنا مسلم، ولا تقل: أنا حنفي ولا وطني، فمن سألك: من أنت يرحمك الله؟ فقل: أنا مسلم، مرني بأمر الله وانهني بنهي الله، مرني بأمر رسول الله وانهني بنهي رسول الله فأنا معك، أما حزب أو جماعة أو منظمة أو تكتل أو دولة أو إقليم، فإن هذا ممحوٌ عندنا معشر المؤمنين والمؤمنات، وذلك حتى لا نخرج عن جماعة المسلمين.وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:07 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (60)
الحلقة (283)

تفسير سورة النساء (64)


الشرك بالله هو الظلم العظيم، والله عز وجل لا يغفر لمن أشرك به، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، فلا يقبل أن يشرك معه شيء في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، أما ما عدا ذلك من المعاصي والآثام التي تقع من العبد فإن الله عز وجل إن شاء آخذه بها وإن شاء تجاوز عنه ما دام أنه سالم من الشرك.
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن الليلة مع آية فقط من كتاب الله عز وجل، مع مراجعتنا للآيتين اللتين درسناهما في الليلة الماضية، وآيتنا الليلة التي نتدارسها ونقرؤها ونتلوها ويحفظها الكثير منا، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].أبنائي العوام! إخواني العوام! هيا بنا نحفظ هذه الآية ونرجع بها إلى بيوتنا محفوظة، إذ هي أولاً: كلام الله، وثانياً: نصلي بها النافلة والفريضة طول حياتنا، وثالثاً: أنه بحفظنا إياها نكتنز كنزاً نورانياً في صدورنا حتى تلقى ربنا، وإذا فهمنا معناها وحفظناها فقد خطونا أكبر خطوة إلى ظلال العلم الوارف.فما المانع أن نحفظها؟ هيا نكررها: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، قال علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه رضي الله عنه كما جاء عند الترمذي في جامعه: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية. وسوف يتضح لكم سبب هذا الحب، وتعرفون مقام علي في العلم، إذ إنه بحر زاخر. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، أي: ما دون الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أتعرفون الضلال البعيد؟ لو أن رجلاً أراد أن يذهب إلى مكة، ومكة كما هو معلوم توجد جنوباً، فأخطأ ومشى شمالاً، ومشى أربعين يوماً في الشمال، فهل يستطيع أن يرجع إلى مكة؟ ما يستطيع، فقد نفد الزاد، وتعب وعيي، لكن لو مشى فقط كيلو أو اثنين أو ثلاثة، أو يوماً واحداً، فيمكن أن يرجع؛ لأن الضلال قريب، لكن إذا كان الضلال بعيداً، ووصل إلى أوروبا، فكيف يرجع؟ هلك، وهذا تفسير الضلال البعيد في كلام الله، فقد انتهى عمره وانتهت حياته.ومعنى هذا يا عبد الله! يا أمة الله! لا تتوغل في الشر والفساد والظلم والخبث والكفر، فإن التوغل في ذلك كالضلال البعيد، بخلاف من زنى أو سرق أو كذب أو ضرب أمه أو عق والده، ثم رجع فيمكنه أن يرجع، لكن إذا توغل في ذلك الظلم العام بعد العام، وما ترك جريمة إلا ارتكبها، فمثل هذا لن يعود، بل يطبع على قلبه، وتتغير طبيعته، ويفسد قلبه، ولا يصبح أبداً يؤمل أن يعود إلى الحق والخير، ولهذا فالقاعدة عند أهل الإسلام: أن التوبة تجب على الفور، ولا يجوز تأخيرها عاماً أو شهراً أو أياماً، فإذا وقعت يا عبد الله في معصية الله فأعلن عن توبتك وقل: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، يمحى ذلك الأثر ولا يمكن أن تعاوده، وإن عاودته مثلاً فأنت متهيئ للتوبة دائماً، فلا يجيء ختم ولا طبع على قلبك، أما إذا استمريت في هذه الجريمة يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يمكن أن ترجع. هل تريدون أن تعرفوا كيف تكون التوبة؟ كان هناك سوق المدينة لبيع التمر، فجاءت مؤمنة -زوجها في الجهاد-لتشتري شيئاً من التمر لها ولأولادها، فمرت بالبائع واشترت منه فرأى كفها، إذ لم يكن عندها قفاز، فأعمى الشيطان ذلك العبد فقبل كفها، فقالت له: أما تتقي الله؟ فما الذي حصل؟ والله العظيم خرج من مكانه ذاك وهو يصرخ، وينتف في شعره، ويرمي بالتراب على وجهه حتى وصل إلى أحد، ثم عاد من أحد كأنه فاقد عقله، ودخل على الرسول في صلاة المغرب، وأراد أن يتكلم مع أبي بكر فرفضه، ومع عمر كذلك، وانتظر حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب بالمؤمنين وأخبره، فعرف الرسول توبته التي لا تعادلها توبة، فقال: ( هل صليت معنا المغرب؟ فقال: نعم، فقرأ عليه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] )، أما أن يواصل العبد الجريمة بعد الأخرى فأنى له أن يتوب؟!واسمع إلى أستاذ الحكمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتةً سوداء على قلبه، فإن تاب ونزع انمحت وذهب أثرها، فإن لم يتب وزاد ذنباً آخر إلى جنب الأولى وثالثة ورابعة يختم على قلبه، وذلكم الران الذي قال تعالى فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )، وهؤلاء ما يستجيبون لنداء الحق ولا يقبلونه.معاشر المستمعين! حفظتم هذه الآية أو تعدونها رخيصة؟ والله لحفظها خير من خمسين ألف ريالاً، وليسمح لي ربي إذا ما أعطيتها حقها، والله لأن يحفظها مؤمن أو مؤمنة، ويصلي بها النوافل والفرائض ويذكرها دائماً وهي نور في قلبه؛ فتبعده عن ساحات الشرك والعياذ بالله، لكان ذلك خيراً له من الدنيا وما فيها.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء

النهي عن النجوى وبيان مواطن جوازها
يقول تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، والمناجاة هي الكلام السري في المخابئ أو في البيوت أو تحت أي شيء، فإذا لم تكن من هذه الثلاثة فهو باطل وصاحبه هالك والعياذ بالله، فلا بد أن تكون ظواهرنا كبواطننا، وقد قلت لكم يوم أمس: والله إن الكلام الذي لا أستطيع أن أقوله في المسجد لا أقوله في البيت، إذ كل ما فيه أذى فهو حرام، وكل ما فيه رضا الله فهو حلال، وقله وتبجح به، وما كان به سخط ربنا ويحمل أذية للمؤمنين والمؤمنات، فلا يحل أبداً أن تقوله لا في السر ولا في العلن. وفي حديث الأنبياء كلهم: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )، ونحن نستحي من الله أن نقول كلمة تغضبه، نستحي من الله أن نجحد كلمة جحودها يغضبه، وبالتالي فما كان حقاً وخيراً فقله في السر والعلن، وما كان شراً فلا تقله لا في السر ولا في العلن، وهذا نظام حياتنا معاشر المؤمنين. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، والجزاء: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ألا وهو الجنة دار السلام، فأي أجر أعظم من الجنة؟! وهذا قد علمناه وعزمنا على أن نعمل به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتناجى اثنان دون الثالث )، وقال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:10]، فيا إخواننا! تخلوا عن التحزب والتجمع والطائفية والكلام السري والتآمر على بعضكم وإخوانك، إذ هذا ليس من شأننا، فنحن أولياء الله عز وجل.
النهي عن مشاقة النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد ذلك ماذا؟ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وهذا الخبر صاحبه الله تعالى، وهو يحمل حكماً إلهياً لا ينقض، ومن هنا فإن أهل القرية وأهل المدينة وأهل الإقليم، ومن سكنوا في جبل أو في أي مكان من الأرض، إخوان متحابون متعاونون، لا يحل لك أن تقول كلمة تؤذي أحداً منهم، ومن هنا فلا حزبية ولا طائفية ولا وطنية أبداً، وإنما مسلمون أولياء الله تعالى، وهذا ممكن، فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة ولم يكن عنده تحزب عنده أبداً، وإنما مسلمون فقط، وولي الخلافة من بعده أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وفي أربعين سنة لم يكن هناك في المسلمين حزب كذا أو جماعة كذا.نعم خرج الخوارج على علي فقتلهم وقاتلهم، وهذه الآية بالذات أحبها علي؛ لأنها تغلق الباب في وجوه الخوارج الذين يكفرون المؤمنين بذنب من الذنوب، وما زالوا يتواجدون، فعندهم إذا ارتكب المؤمن كبيرة كزنا أو رباً أو عقوق الوالدين أو سرقة ومات بدون توبة فإنه يخلد في جهنم، فيكذبون على الله ورسوله وعلى شرع الله، مع أن هذه الآية الكريمة تقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، ولا خلاف في هذا، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك [النساء:116]، أي: دون الشرك، فكل المؤمنين والمؤمنات من مات منهم على كبيرة من كبائر الذنوب دون الكفر أو الشرك، فإنه تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء أدخله النار، أما أن نحكم بالخلود في النار لكل من أذنب، فهذا المذهب مذهب الخوارج وعلي قد قاتلهم وقتل منهم آلاف. وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، فهل فهمتم معنى مشاقة الرسول أو لا؟ الرسول يقول: ( إذا أكلت فقل: بسم الله )، وأنت تقول: لا نقول: بسم الله، الرسول يقول: ( إذا أكلت فكل بيمينك )، وأنت تقول: لا، فتأكل بشمالك، الرسول أوصى رجاله بأن يعفوا لحاهم، وأنت تقول: ما هذا؟! ولا تعفي لحيتك، أو لا تبقي مظاهر الرجولة فيك فقط، الرسول يأمر الناس بأن يصلوا في بيوت الله، وأنت تقول: لا، ثم تصلي وحدك، فهذه هي المشاقة للنبي صلى الله عليه وسلم.والشاهد عندنا في مشاقة الرسول كمعاداة الرسول، يقال: عادى فلان فلاناً، بمعنى: وقف في عدوة وذاك في عدوة أخرى، وعدوة الوادي، أي: جانبي الوادي، فهذه الجهة تسمى: عدوة، والأخرى: عدوة، وكذلك المشاقة، فهو في شق وأنت في شق، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115]، بمعنى: يقف بعيداً عنه، فلا يواليه لا في فريضة ولا نافلة ولا في شيء، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا [النساء:115]، عرف الحلال والحرام، الحق والباطل، الخير والشر، الإيمان والكفر، الصدق والكذب، ثم يفضل المشاقة والبعد عن الرسول، فيواصل جرائمه وأطماعه وهواه، فيموت والعياذ بالله على ذلك.

يتبع

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:08 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
التحذير من اتباع غير سبيل المؤمنين
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، ما هو سبيل المؤمنين؟ الصراط المستقيم الذي نسأل الله إياها في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، إذ إن الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى رضوان الله وجواره في الدار الآخرة، وهذا الطريق معشر المسلمين والمسلمات! هو أوامر هنا ونواهي هنا، وامش أنت بينهما، فلا تهمل واجباً ولا تغشى حراماً، وامش عاماً وعامين حتى ينتهي عمرك وتموت على هذا المنهج الرباني فتكون من أهل الجنة دار السلام، وقد يكون الصراط خمسين سنة بالنسبة إلى عمرك، فإن زلت القدم واستغفلك العدو وأنت سائر إلى الله، كأن تركت واجباً أو فعلت حراماً، فانهض على الفور وأنت تصرخ: أتوب إلى الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وواصل سيرك حتى يختم لك بخاتمة السعادة وتدخل الجنة.إن سبيل المؤمنين بعبارة أوضح، اسمعوا! بلغوا! تحدثوا بهذا الكلام مع إخوانكم ومع نسائكم: كان الحبيب صلى الله عليه وسلم في مسجده هذا يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم، يعلمهم الكتاب وهو القرآن، ويعلمهم الحكمة وهي السنة، ويزكيهم بأن يطهر قلوبهم من أوضار الذنوب والآثام والأخلاق الفاسدة والمفاهيم السيئة، فمن لنا يا ربنا يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكي نفوسنا؟ يا عبد الله! لو طلبت لوجدت، لكن ما طلبنا ولا رغبنا، والمفروض فينا والواجب علينا معاشر المسلمين! على اختلاف ديارنا ولغتنا، أننا ما بين المغرب والعشاء نجلس هذا الجلوس كما تشاهد وتنظر، وذلك من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء؛ لنتعلم الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا يوماً بعد يوم، بل العمر كاملاً، فهل يبقى جاهل؟ وهل يبقى ضال؟ وهل يبقى فاسد؟ لا والله، ولكن العدو أبعدنا عن الكتاب والحكمة وتزكية النفوس، فتهنا في متاهات الضلال، وهذه هي حالنا، والرسول الكريم يقول وهو ينظر إلى هذا الواقع: ( لقد افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة )، فدينهم واحده ولكن جزءوه وقسموه حتى أصبح إحدى وسبعين طائفة، ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة )، بزيادة فرقة واحدة، والله الذي لا إله إلا الله غيره لكما أخبر رسول الله، ولن يستطيع نصراني أن يرد هذا إلا إذا كان جاهلاً، فالإنجيل قد حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، لكن لما عيبوا ولوموا جمعوا الخمسة والثلاثين في خمسة أناجيل! فكيف كتاب الله يحول إلى خمسة كتب؟! وأين الحق الذي فيه إذاً؟ والقرآن لمَ ما حوله؟ تولى الله حفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، والله لو قدروا لقسموه إلى سبعين وثمانين، وقد قلت لكم: حاولوا في مؤتمرات ظالمة في ظلمة على إسقاط كلمة: (قل) فقط من القرآن فعجزوا؛ لأن الله تعهد بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، أكثر من النصرانية واليهودية، فالرسول قال هذا والمؤمنون بين يديه، لا هم في الشام ولا في العراق ولا في الهند ولا في السند ولا في المغرب، وإنما بين يديه في المدينة، وصدق رسول الله، إذ في القرية الواحدة تجد هؤلاء إخوان سيدي عبد الحفيظ، وهؤلاء إخوان سيدي عبد القادر، وهؤلاء إخوان مولاي إدريس، وهؤلاء إخوان كذا، فتجد الجماعات والجماعات، ثم ماذا؟ المذاهب والطوائف والروافض، وذلك أكثر من ثلاثين طائفة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم قال في النهاية: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، والله العظيم، وأهل الحلقة من النساء والرجال لو تسأله فإنه يبين لك، إذ ليس في ذلك عجب أبداً؛ لأن الذي يعمل بما جاء عن رسول الله وأصحابه في عقيدته وعبادته وقضائه وآدابه وأخلاقه، فإن نفسه ستصبح مشرقة أكثر من هذا النور، ولا تتلاءم أبداً مع مكان إلا الملكوت الأعلى، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، والنفس الملطخة الملوثة بأوضار الذنوب والآثام والعقائد الباطلة أنى له أن تدخل دار السلام، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]؟! والبعير الأورق لا يدخل في عين الإبرة، إذ إن هذا مستحيل، وكذلك ذو النفس الخبيثة المدساة المنتنة العفنة بالشرك والمعاصي؛ يستحيل في حقها أن ترتقي إلى الملكوت الأعلى، كلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7].ثم قام أحد الصحابة فقال: من هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، ما الذي كان عليه رسول الله وأصحابه؟ العقيدة الربانية التي جاءت في آيات الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات من الطهارة إلى الحج كما جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحكام القضائية كما جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله، والآداب والأخلاق كما هي في الكتاب وبينها الرسول، فهذه هي العقيدة الربانية، حتى تجد أخاك أو تجد نفسك كأنك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقيدتك كعقيدتهم، وعبادتك كعباداتهم، وآدابك وأخلاقك مع الناس كآدابهم وأخلاقهم، وهذا يتوقف على الحلقة المفقودة وهو أن نتعلم، أن نعرف كيف كانت عقيدة الرسول وأصحابه؟ كيف كانت عبادات الرسول وأصحابه وهو يقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي، حجوا كما رأيتموني أحج )؟وعليه فلابد أن نتعلم لا لنتوظف، لا من أجل الدنيا وأوساخها، نعم قد نعمل فلاحين وصناعاً، لكن لابد وأن نتفرغ ساعة في اليوم من أجل أن نعرف ما هي العقيدة التي يرضاها الله لنا، وكيف العبادة؟ وكيف الآداب والأخلاق؟ وبدون هذا التعلم مستحيل أن تكون كأصحاب رسول الله في عقيدتك وآدابك وعملك وعبادتك، فمتى نرجع؟ هذا الأمر لله.إذاً: من هم يا رسول الله الناجون من النار؟ قال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، فنتعلم كيف كان الرسول يعتقد، جيء إليه بأمة سوداء فقل لها: ( أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة )، المذاهب الهدامة إذا قلت: الله في السماء، يتمنى قطع يدك، وإن قلت: الرسول يقول: ( إن الله يضحك لعبد من عباده )، يقولون: الذي يصف الله بالضحك كافر، وهكذا لم يبقوا لله صفة من صفاته، بحجة أن الله ليس كمثله شيء، ومن شبه الله بعباده فقد كفر، وأوقعوا الأمة في محنة أبعدوها عن الله تعالى، فاسمع يا عبد الله! هم يقولون: لا تقل: الله فوق؛ لأنك حصرته في مكان، ولا تقل: أسفل ولا عن يمين وعن شمال! وهذا خلاصته: أنه لا وجود له، ولذا فالله عز وجل فوق عرشه، وهو القائل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والرسول قد وصفه عندما عرج إليه، وهذا يقول: لا تقل: في السماء!والمهم يا معشر الأبناء والإخوان! يجب أن نجتمع في بيوت الله في صدق، ونتعلم كيف كانت عقيدة رسول الله وأبي بكر وأصحابه، كيف كانت عباداتهم، كيف كانت آدابهم وأخلاقهم، وإلا فلن نصل إلى هذا المستوى.والخلاصة أن سبيل المؤمنين هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فلا روافض ولا خوارج ولا طوائف، وإنما مسلمون فقط، فلم يكن لأصحاب رسول الله مذهب ولا شيخ خاص ولا طريقة خاصة، بل خلال ثلاثة قرون وهم مسلمون فقط، والمسلم أخو المسلم، يعمل ويعتقد ما جاء عن الله في كتابه وعن رسوله المبين المفسر له، فمن خرج عن جماعة المسلمين فقد خرج عن إجماعهم وأكلته النار، فقد قال تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]؛ لأنه أعرض عن الحق وجانبه، وبعد عن جماعة المسلمين، إما لحب دنيا، وإما لعنصرية وعصبية، وإما لأطماع، وإما لسياسية، فالله يتركه ويوليه ما تولى؛ لأنه أعرض عن علم، والجزاء إذا لم يتداركه الله بتوبة: َنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
التحذير من الشرك بالله تعالى
وهنا يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، فهي كالمفسرة لقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]؛ لأن الطوائف التي استباحت دماء المسلمين وكفرتهم، وأخرجتهم عن دين الله، وقضوا على فتنهم وحربهم وأذيتهم من عهد علي إلى يوم القيامة، هؤلاء هم الذين يصليهم الله نار جهنم.فقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]؛ لأن تلك الطوائف خرجت ففسدت عقائدها، ما أصبحت تعتقد ما يعتقد رسول الله وأصحابه، وحينئذٍ ارتموا في أحضان الكفر والشرك، وإن كانوا يعتقدون أنهم المسلمون وغيرهم كفار، وهؤلاء يقول تعالى في هذا الحكم العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، لم؟ لأن الأمر له، ولأنه عاداه واحتقره وما وثق فيه، بل وما أخذ بهديه ولا بشريعته، وسوَّاه بغيره، فهذا يغضب الجبار عنه غضباً لا يزول، بخلاف من زنا أو سرق أو فجر، ثم هو مؤمن بالله ولقائه، معتقد ما اعتقد رسول الله وأصحابه، فهذا تحت المشيئة، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، ثم أخرجه من النار، إذ إن أهل التوحيد الذين ماتوا على معنى لا إله إلا الله محمداً رسول الله وإن دخلوا النار ومكثوا فيها أحقاباً فإن مصيرهم إلى دار السلام، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، أما من مات يشرك بالله، فهذا قد عادى الله معاداة كاملة، وسوى به مخلوقاته، بل ورفع درجات المخلوقات إلى درجة الله، فأطاعهم وأحبهم وعصى الله ولم يحبه. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، أي: الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، وهذا أمره تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أي: ضل ضلالاً لا يستطيع العودة منه، أما إن سرق أو زنا أو عق والديه، فهذا في الإمكان أن يعود، إذ ضلاله ليس بعيداً، فكم من إنسان عاش على الخمر أربعين عاماً ثم تركها ومات وهو لا يشربها، وكم من إنسان يدخن طول حياته وآخر أمره ألقى بالسيجارة وتاب إلى الله تعالى.
أنواع الشرك الذي يحصل من العباد
معاشر المستمعين! وقد حفظتم الآية فهيا بنا نتناول درسها وإن بقي وقت فإلى غدٍ إن شاء الله، اسمع! الشرك بالله يعني: أن تجعل له في عبادته شريكاً، نقول: فلان أشرك فلاناً في المزرعة، وأشركه في الدكان، أي: جعل له نصيب. فأولاً: الشرك في ربوبية الله عز وجل، وهي كونه تعالى الخالق الرازق المدبر لكل الكائنات، وهذا توحيد الربوبية، فلا يوجد من خلق مع الله ولو ذبابة، ولا يوجد من خلق مع الله كوكباً واحداً من بليارات الكواكب، إذ الله تفرد بالخلق والرزق والتدبير للكون كله، وبالتالي فمن اعتقد أن فلاناً من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء شارك الله في هذا فقد كفر كفراً كاملاً، كفر بربوبية الله عز وجل، وهذا الشرك في الربوبية نادر عند الأولين، إذ إن العرب أنفسهم ما كانوا يعتقدون أبداً أن الله خلق معه خالق آخر أو رزق معه رازق آخر، والرسول يقال له: اسألهم: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [يونس:31]، قل: الله، إذ ليس هناك جواب إلا هذا، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، ويكفي أنهم يحلفون بالله، ولكن أشركوا في عبادته لا في ربوبيته.إذاً: التوحيد أولاً: أن نوحد الله في ربوبيته، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله تعالى، والتدبير معروف، يقال: المرأة تدبر المطبخ، وكذلك تدبير الحياة تعني: أنه تعالى هو الذي يميت ويحيي، يعطي ويمنع، يعز ويذل، يجمل ويقبح، كل الحياة هو الذي يديرها، فهل هناك من يحيى بدون الله؟ من يوجد بدون الله؟ من يموت بدون الله؟ لا، وهذه الربوبية نخص الله تعالى بها، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا هو.ثانياً: الشرك في أسمائه وصفاته، إذ لله مائة اسم إلا واحداً، وأكثر المسلمين لا يقولون بهذا، فهم لا يحفظونها، وهذه الأسماء الحسنى والصفات العلا لا يصح أن نسمي أحداً بها؛ حتى لا نشاركه في أسمائه وصفاته، فلا يجوز أن تسمي أحداً: الله! أو تسمي آخر: الرحمن!واسمع إلى الرسول الكريم وهو يقول: ( إذا كان ثلث الليل الآخر -آخر الليل- ينزل الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا -القريبة منا- وينادي: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ )، فكل من سأل واستغفر وطلب يحصل على ما أراد، وهذا نزول حقيقي يليق بجلال الله عز وجل. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ( يضحك الرب تبارك وتعالى لرجلين قتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: هذا الكافر يقتل مؤمناً في الجهاد، ويسلم الكافر الذي قتل المؤمن، فيدخل الجنة فيلتقي مع مقتوله )، أي: أن المشرك قتل صحابياً ثم أسلم بعد ذلك، فإنه يدخل الجنة، والشاهد في كون الله يضحك، لكن لا تفهم أو تتصور أن ضحك الله كضحك الكائنات، إذ هذا مستحيل؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وكون الجبار عز وجل يضع قدمه في النار لما يسألها: هل من مزيد؟ فتقول: قط قط، يعني: أن لله قدماً تليق به سبحانه وتعالى، لا كأقدام المخلوقات.وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (61)
الحلقة (284)

تفسير سورة النساء (65)


إن الشرك خطر عظيم يحدق بالإنسان، فمن نجا منه فقد نجا، ومن لم ينج منه وتلبس بشيء منه فقد خسر الخسران المبين؛ لأن الله عز وجل خالق الخلق ومصرف الأكوان ومدبر أحوال العباد لا يقبل أن يشرك معه غيره، فهو سبحانه المستحق لأنواع العبادات، ومن أتى شيئاً من الذنوب والمعاصي والسيئات دون الشرك فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع آية منها تناولناها بالأمس قراءة وحفظاً وشرحاً وتفسيراً، ونعود إليها ليلتنا هذه؛ لما لها من أثر في حياتنا معشر المستمعين والمستمعات! وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].وطالبنا أبناءنا وإخواننا العوام والذين ما درسوا كتاب الله أن يحفظوا هذه الآية، فإنها كنز من كنوز دار السلام، وكتلة من النور الإلهي متى ما استقرت في قلب العبد وشاعت أنوارها على سمعه وبصره ولسانه، اهتدى إلى سعادته وكماله، ولا شك أن بعضاً وفقهم الله وحفظوها، فليحافظوا عليها، وذلك بالصلاة بها في الفرائض والنوافل، ولو أن عامياً لم يحفظ من القرآن إلا هذه الآية، خير من ألف عامي ما حفظوها.
تعريف الشرك وبيان قبحه وخطره على العبد
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وهذه الآية لها أختها أيضاً في نفس السورة، وهي قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وللآيتين أيضاً نظير من سورة الزمر، إذ قال تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزمر:65]، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65]، أي: من رسل الله عليهم السلام، ما الذي أوحي إليه وإليهم؟ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].ومن هنا كان الشرك خطراً عظيماً على الإنسان، من نجا منه نجا، ومن لم ينج منه وحل به وتورط فيه، فقد خسر الخسران الأبدي، ولنعلم أنه لا فرق بين الشرك والكفر، فكل كافر مشرك؛ لأنه عبد الشيطان ولم يعبد الرحمن، والشيطان هو الذي أمره بالكفر بآيات الله وبلقاء الله وبتوحيد الله وبرسل الله وبشرع الله فأطاعه، وليس كل مشرك كافر؛ إذ الشرك صنفان أو نوعان: شرك أكبر يكفر صاحبه، وشرك أصغر لا يكفر، ولكن يأثم ويتورط في الإثم، وواجبنا نحن المسلمين رجالاً ونساءً أن نعرف الشرك ما هو؟ كما يجب أن نعرف التوحيد ما هو؟الشرك: ضد التوحيد، يقال: هذا موحد وهذا مشرك، وباللسان القريب للمؤمنين والمؤمنات: الشركة تكون في بعير اشترك فيه اثنان، وتكون في منزل اشترك فيه اثنان، وتكون في سيارة اشترك فيها اثنان، فعبادة الله عز وجل ينبغي ألا يشاركه فيها أحد، إذ إنها خاصة به، فلا ينبغي أن يشارك الله تعالى في عبادته مخلوق كائناً من كان؛ لأنه استحق هذه العبادة وتعينت له ووجبت له دون غيره، ولأنه هو الذي خلق الإنسان والجان والملائكة، وسر خلقهم وعلة هذا الخلق وحكمته هي عبادة الله عز وجل، ولم يكن الله تعالى في حاجة إلى ملك ولا إلى جني ولا إلى إنسان، وإنما فقط خلقهم ليعبدوه، فمن لم يعبده تمزق وتلاشى وخسر خسراناً أبدياً، ومن عبده وأشرك معه غيره فقد خسر نفس الخسران وتمزق نفس التمزق التام، ألا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].إذاً: الشرك ضد التوحيد، والموحد ضد المشرك، والمشرك ضد الموحد، وأعيد القول مكرراً له: إن علة الحياة وسر هذا الوجود هو أن يعبد الله عز وجل، إذ خلْق الله للملائكة وللجان وللإنسان علته وسببه والحكمة منه هو أن يُعبد الله تعالى وحده، ولنقرأ لهذا آية من طوال المفصل، إذ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهل هناك غرض آخر؟ لا.ثم قال تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، ومن السنة ومن بيانات الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي )، أي: يا ابن آدم خلقك الله من أجل أن تذكره وتشكره، من أجل أن تعبده، وإن قلت: وما جزائي؟ وما أجري على عبادتك يا رب؟ فالجواب: الجزاء أن أُسعدك وأكملك في الدنيا وفي الآخرة، وأن أنزلك منازل الأبرار في الجنة دار السلام، وإن كان لا حق لك في هذا؛ لان عبادتك بذكره وشكره هي مقابل خلقه ورزقه وحفظه لك وتدبيره لحياتك، ومع هذا منته عليك هذه العبادة وهذا الذكر وهذا الشكر، الذي من شأنها تطهير النفس وتزكية الروح، فإذا طهرت النفس وزكت قبلها تعالى في الملكوت الأعلى وأنزلها منازل الأبرار، ولا ننس حكم الله في هذه القضية، إذ قال تعالى بعد أيمان حلفها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يعقب على حكم الله وهو القائل في سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟ لا أحد.
بيان توحيد الربوبية والشرك فيه
التوحيد ضد الشرك، فهيا نتحدث عن التوحيد أولاً ثم نتحدث عن الشرك، وذلك من أجل أن نتعلم، إذ يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف التوحيد من أجل أن يعيش عليه حتى يموت، ومن أجل أن يعرف الشرك فيتخلى عنه ويبتعد عنه حتى الموت، لذا فلابد من العلم والمعرفة، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فالذين ما عرفوا التوحيد والله ما وحدوا الله، والذين ما عرفوا الشرك والله ما نجوا منه ولا سلموا، لذا لابد من العلم، إذ هو أمر ضروري كالهواء والغذاء والماء لحياة الإنسان.أولاً: التوحيد يكون في توحيد الله تعالى في ربوبيته، بحيث لا يشاركه فيها كائن ما، لا في العالم العلوي ولا في العالم السفلي، بحيث لا نقر ولا نعترف بوجود من يدعي أنه الرب.ثانياً: توحيد الله في أسمائه وصفاته، فلا نشرك كائناً من كان في صفة من صفات الله أو في اسم من أسمائه.ثالثاً: التوحيد في عبادة الله وفي ألوهيته، بحيث لا نعتقد وجود إله مع الله، ولا نعبد غير الله، ولا نقر عبادة لغير الله، ولا نرضى بها أبداً، وهذا يؤديه لفظ: لا إله إلا الله، ولعلنا نعرض له إن شاء الله تعالى.فأولاً: توحيد الربوبية، الربوبية: نسبة إلى الرب، والرب في لغة العرب وفي لغة القرآن معناه: السيد والمالك، فمن ملك داراً أو بستاناً أو دابة يقال: هذه ربها فلان، ويقال: يا رب هذه السيارة أبعدها عنا، بمعنى: يا مالكها! والعبد هو الرقيق، والأمة هي الرقيقة، فيقال فيها: أمة فلان، ويا سيد خذ عني أمتك، أو أبعدها من بابي، فالسيد هو الرب، والسيد هو المالك، والرب الحق هو الذي ملك كل شيء، وكيف لا وهو خالقه وموجده؟! والرب هو المعبود الذي لا يستحق العبادة سواه، وبالنسبة إلى الله عز وجل فالله رب العالمين، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، فالرب هو الإله المعبود، إله الأولين ولآخرين.إذاً: اسمعوا يا رجال الإسلام ونساءه: لا يصح أبداً أن تشرك في ربوبية الله كائناً من كان، وربوبية الله تتمثل وتتجلى وتتضح فيما يلي:أولاً: في كونه الخالق، فهل يوجد خالق سوى الله؟ لا والله ولا ذبابة، فكل الخلق من إنسان وجان وملائكة وحيوان في البر أو في البحر أو في الجو لا خالق له إلا الله، فإياك إذاً أن تنسب خلق شيء إلى إنسان، إلى كائن سوى الله عز وجل، وتحفَّظ حتى من عبارات الضائعين في متاهات العلمانية والفلسفة الكاذبة فتقول: فلان خلق، لا، إذ لا خالق إلا الله، فهو موجد مادة الذي يخلق منها، ثم يخلق المخلوق، وأنت إذا صنعت صورة أو تمثالاً، فهل مادة التمثال خلقتها أنت؟ وهل جئت بها؟ وهل أنت صانعها؟ إن الأخشاب والألواح والطين والحديد أوجدها الله عز وجل، ثم عقلك وإرادتك وفهمك أنت خالقها أم الله واهبكها ومعطيك إياها؟ إنه الخالق والصانع، فلا خالق إلا هو.ثانياً: لا رازق إلا هو، ومعنى الرازق: الذي يخلق الأقوات، وذلك بأن يوجد مادتها بأسباب سببها وتسخيرات سخرها، فمثلاً: البر كالذرة والشعير والتمر غذاء للإنسان، فمن خلقها؟ الله، وإن قلت: الفلاح، فالفلاح جاء بالبذر ورماه في الأرض، ثم يد الفلاح من خلقها؟ وفكر وإرادة الفلاح من وهبها؟ وذاك البذر من خلقه؟ ولما يرميها في الأرض ويغطيها عن الطير حتى لا يأكلها، فهذه الفكرة من وهبها إياه؟ الله، ثم كيف تتفاعل التربة مع الماء مع البذر حتى تصبح سنبلاً أخضراً وأصفراً ليؤكل؟ وهذه النواة لما تغرسها وتصبح نخلة بعد عام أو عشر سنوات فتطعمك الرطب والتمر، أأنت خالقها؟ والله إنه لا خالق إلا الله، فمن الكفر والشرك أن تنسب خلق شيء إلى غير الله عز وجل، وهو من باب الجهل فقط والهبوط.ومن القصص في هذا: أن ملحداً من الاتحاد السوفيتي استدعيناه لأمر ما، فجاء إلى ديارنا وقدمنا له العجوة من التمر، فأكل منها فاندهش، إذ لم يذق مثلها قط، فقال: هل هذا صنعتموه أنتم؟ نعم الصناعة هذه، وأنتم أرباب الحلويات وصناعها، فسكتنا وأخذناه إلى البستان، وأريناه النخلة، وقلنا له: هذه هي التي تثمر الرطب، فقال: هل أوجدها الفلاح؟ إذاً الفلاح هو الإله، وهو الذي ينبغي أن يعبد، فبينا له أن الفلاح مخلوق الله، ومعلمه الله، وما زاد على أن أخذ النواة ودفنها في الأرض، والله هو الذي أحياها وأنبتها وجعلها تثمر، والفلاح نفسه مخلوق لله، ما خلق شيئاً في نفسه لا قواه الباطنية ولا الظاهرية، وحينئذٍ عرف الطريق إلى الله وقال: آمنت بالله.والرَزق والرِزق مصدر: رزق يرزق رزقاً، والرزق اسم المصدر، أي: موجد أنواع الأغذية والمياه والأكسجين، فمن أوجد هذه؟ بنو فلان؟ لا، والجواب: لا أحد إلا الله، وارفع صوتك إلى عنان السماء ولن يُرد أبداً.واللبن في الضرع كان بالأمس دماً أحمر فكيف تحول إلى لبن أبيض حلو؟ وقبل أن تحمل المرأة أو الشاة فإن دمها دم، وما إن تحمل وتقارب الوضع حتى يتحول الدم الأحمر إلى لبن أبيض، فمن فعل هذا؟ أصابع الطبيب أو سحر الساحرين؟ لا، وإنما هو الله وحده.ثالثاً: التدبير للحياة كلها، فالمرأة تدبر المنزل، فتعرف كيف تكنس، وكيف تطبخ، وكيف تنظف، وكيف تضع الأواني في المطبخ، وهذا معنى التدبر، وكذلك المدبر للحياة كلها بالإحياء والإماتة، بالفقر والغنى، بالعز والذل، بالإعطاء والمنع، بالجمال والقبح، بل بكل مظاهر الحياة، هو الله عز وجل، فهو المدبر للخليقة كلها، وإن أردت أن تنظر إلى أمر مشاهد فانظر فقط إلى السحب كيف ترتفع ثم تتجمع وتتواجد على سطح البحر بتدبيره سبحانه، ثم تنتشر وترتفع حتى تكون جبالاً في السماء، ثم من يسوقها من مكان إلى مكان؟ وتنزل بديارنا وترحل؛ لأنه ما أذن لها أن تصب ماءها، وتنزل بديار أخرى فتصب، وكل ذلك بأذن الله تعالى، فلا دخل لإنسان ولا جان في هذا التدبير العظيم، بل وكل ذرات الكون، وكل ما يجري في الحياة، فإن المدبر له هو الله، ومن نسب ذلك إلى مخلوق فقد أشرك بالله في ربوبيته.مرة أخرى: من نسب الخلق إلى غير الله ولو في بعوضة فقد أشرك في ربوبية الله، ومن نسب الرزق وإيجاد الأرزاق لغير الله فقد أشرك في ربوبية الله، ومن نسب التدبير بالإعطاء والمنع، بالإعزاز والإذلال، بالحياة والموت لغير الله فقد أشرك بالله، هذا التدبير من نسبها إلى كائن فقد أشرك في ربوبية الله عز وجل وأصبح مشركاً، وإن مات على ذلك خسر خسراً أبدياً.فهذا هو القسم الأول من أقسام التوحيد -توحيد الروبية- فوحدوا ربكم، ولا تنسبوا الخلق إلى أي كائن كان، ولا تنسبوا الرزق إلى أين إنسان، ولا تنسبوا التدبر إلى غير الله رب العالمين، فأنتم موحدون.استطراداً: عشنا وبلغنا وعرفنا عن ديوان الصالحين، هذا الديوان لأولياء الله من الأقطاب والبدلاء، وهو ينعقد مرة في بغداد ومرة في الشام ومرة في المغرب، وهؤلاء الأقطاب والبدلاء هم الذين يدبرون الحياة في زعمهم! فيحلفون بهم، ومن النكت أو العجائب: أن ديوان الصالحين انعقد في مسجد من المساجد ليتداولوا الأمر في: من يخلف فلان إذا مات؟ من يكون بدلاً عنه؟ هل فلان يساويه؟ فسمع لص بالمحادثة الليلية في ظلام الليل، فظن أن تجاراً ناموا في هذا المسجد وهم يحسبون أموالهم، فقال: لأبيتنهم غداً، فجاء بعد ما صلى المسلمون وخرجوا، وتأخر فتلفف بالحصير وأقامها ووقف فيها، ثم جاء الديوان، أي: الأقطاب البدلاء، وأخذوا يتداولون في من يخلف سيدي فلان؟ فقال أحدهم: يخلفه هذا الذي في الحصير، فأصبح قطباً من الأقطاب! دخل لصاً فخرج قطباً! ولما نقص هذه القصة يبكي إخوانكم من الخشوع! سبحان الله! دخل لصاً وخرج قطباً، وهكذا كانت أمة التوحيد بعد أن أدبرت عنه وألقته بعيداً عنها، والذي فعل بهم هذا هو العدو الذي ما زالوا لا يعادونه، بل يجرون وراءه، من المجوس واليهود والنصارى.

يتبع

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:09 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
بيان توحيد الأسماء والصفات والشرك فيه
ثانياً: توحيد الأسماء والصفات، وهو موجز وليس بطويل، فاعلموا أولاً: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، والله الذي لا إليه غيره لا يوجد مثل الله شيء، لا في عالم الملائكة ولا في عالم الجن ولا في عالم الشياطين ولا الإنسان ولا الحيوان، ويستحيل أن يكون مثلهم وهو خالقهم، فهل صانع هذا القلم يكون مثل القلم؟! مستحيل، إذاً فكيف نصبح مثل ربنا؟! إن هذا مستحيل، إذ كل ما في الكون لا يشبه الله شيئاً، واقرءوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].ثانياً: لله تعالى أسماء وصفات عرفناها من طريقه هو وطريق رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت أسماء الله وصفاته في كتابه القرآن العظيم، وقبله في التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء، وتلك الأسماء والصفات علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نؤمن بها، أي: نصدق بها، وهذا أولاً، وثانياً: ألا ننسب صفة منها لغير الله من مخلوقاته، بل نوحده في أسمائه وصفاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن لله مائة اسم إلا اسماً واحداً )، وهي موجودة في القرآن الكريم مفرقة هنا وهناك، وهي كما أخبر صلى الله عليه وسلم مائة اسم إلا اسماً واحداً، وهذه الأسماء لا نطلق اسماً منها على مخلوق أبداً، حتى لا يكون شريكاً لله في اسمه أو صفته.ثالثاً: أن لله صفات ذاتية وفعلية، فالصفات الذاتية يجب أن نؤمن ونقر ونعترف ونعتقد بها، ونحن نعلم أنها صفات لا يشبهها صفة من صفات المخلوقات، فمثلاً: قال الله عز وجل وقوله الحق وهو يخاطب عدوه إبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فـ(يدي): تثنية: يدٍ، فيقال: يدان ويدين، وإذا أضفت قلت: يدا فلان، وفيه دليل على إثبات اليدين لله تعالى، وكذلك (الخلق) فهي صفة من صفات الله الفعلية، إذ هو الخالق لكل شيء. ولذا فاسمع يا عبد الله! هلكت أمم في هذه الصفات، فلا يصح أبداً أن تشبه يدي الله بيد المخلوقات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، بل آمن بأن لله يدين، ولكن يستحيل أن تشبه يد المخلوقات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].رابعاً: إياك أن تجحد هذه الصفة، وذلك إما بتأويلها فتقول: معنى: (بِيَدَيَّ)، أي: بقدرتي، فلمَ تكذب على الله؟ أأنت ترد على الله؟ الرسول عاش ثلاث وعشرين سنة يعلم أمته التوحيد، وما أوَّل يوماً صفة من صفات الله، وتأتي الجهمية والمعتزلة والطوائف الأخرى فتؤول، وذلك حتى يفرغوا قلوب المؤمنين من وجود الله والإيمان به، وقد بينت لكم بالأمس فقلت: يقولون: مثلاً: لو تشير بيدك إلى الله في السماء فيجب أن تقطع يدك؛ لأنك قد حددت المكان له، وبالتالي فلا تقل: هو فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن شمال، وخلاصة هذا: أنه لا وجود لله، فالذي لا يكون لا فوق ولا أسفل ولا عن يمين ولا عن شمال ما معنى هذا؟ لا وجود له، إذاً كيف يخاف؟ كيف يرهب؟ كيف يحب؟ كيف يطاع وهو لا وجود له؟ هكذا فعلوا بأمة الإسلام.إذاً: نؤمن بأن لله يدين، وكلنا عقيدة أن يديه لا تشبه يدي المخلوقات أبداً، إذ ليس كمثله شيء.كما أخبر تعالى عن مجيئه في ساحة فصل القضاء فقال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [الزمر:68-69]، جاء ربي لفصل القضاء، فمن قال: الله لا يجيء حتى لا نشبهه بمخلوقاته، فهذه كلمة خبيثة مجوسية؛ لأن الله يقول: وَجَاءَ [الفجر:22]، وهم يقولون: لا، إنما المراد: جاء ملكه أو أمره، فإن سئلوا: ما حملكم على هذا؟ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل صفة من صفات الله عز وجل، قالوا: حتى لا نشبه الله تعالى بخلوقاته.إذاً: الجهمية والمعتزلة والطوائف الهابطة يقولون: ما نعتقد هذا، فيئولون فيقولون: ينزل أمره، أو ملك من ملائكته، فعطلوا صفات الله عز وجل، وكذبوا الله ورسوله، وحكم من كذب الله ورسوله الكفر والعياذ بالله.أيضاً يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا امتلأت النار -أدخل فيها الإنس والجن بالمليارات وبلا عدد- تقول: هل من مزيد؟ واقرءوا الآية من سورة (ق): يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فيضع الجبار تبارك قدمه فيها فتقول: قط قط قط، أي: يكفي، فيجب أن نؤمن بقدم الجبار جل وعز، ولا يحل أبداً أن يخطر ببالك شبه هذا القدم، فلا تنظر إلى المخلوقات؛ فإنه ليس كمثله شيء.كذلك السمع والبصر، فالله عز وجل يخبر في آياته إنه هو السميع البصير، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فمن أراد أن ينفي صفة السمع أو البصر عن الله فقد أراد أن يحترق، لكن هم لا ينفونها، وإنما يحرفونها ويؤولونها، وهذا كله معناه: أنهم ما رضوا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يضعفوا في نفوس المؤمنين الخوف والرهبة منه والحب له.وعليه فتوحيد الأسماء والصفات يا أبنائي! يا إخوة الإسلام! أن نؤمن بكل اسم وصفة لله عز وجل، ولا نحرفها ولا نؤولها ولا نجحدها ونكتمها، ولا نشبهها بصفات المخلوقات، إذ له صفاته لا تشبه الصفات، كما أن ذاته لا تشبه الذوات.فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة في القرن الثاني بعد قرن النبوة، وهو على كرسيه يعلم المؤمنين السنة، فوقف سائل فقال: يا إمام! ما معنى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؟ فغضب واحمر وجهه وعرق؛ لأن بدعة قد ظهرت، إذ المفروض أن تؤمن بقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا تسأل: كيف؟ ثم هل عرفت ذات الله حتى تعرف كيفية الجلوس؟ لذا آمن بما أخبر تعالى به، فقال مالك وهو يضبط أعصابه وهو النوراني الموفق: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، يا عسكري! خذه للتأديب. فقوله: الاستواء معلوم، يقال: استوى على سريره أو على عرشه أو على كرسيه، أي: جلس عليه، والكيف مجهول، أي: السؤال عن الكيفية مجهول، إذ إننا لا نعرف الذات، فلو قلنا: جلست النملة على الكرسي، فكيف جلوس النملة؟ هل يتناسب مع الكرسي؟ لا، إذاً فما دمنا أننا ما عرفنا ذات الله فكيف نفسر الجلوس؟ كيف يكون ذلك الجلوس؟ مستحيل أن نعرفه، بل كل ما يخطر ببالك فالله منزه عن ذلك، فلا تفتح المجال للخيالات، وقل دائماً: الله أحد، لم يكن له كفؤاً أحد، ليس كمثله شيء. إذاً: صفات الله التي جاءت في القرآن هي صفات جلال وكمال، وصفات ذاتية وفعلية، فيجب على المؤمن والمؤمنة أن يؤمن بها إيماناً راسخاً يقينياً، ولا يحل له أن يؤولها أو يشبه صفات المخلوقات بها، ويلزم دائماً قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
بيان توحيد الألوهية والشرك فيه
ثالثاً: توحيد الألوهية، ومعنى الألوهية: النسبة إلى الإله، والإله هو الله، والإله معناه: المعبود بالحب غاية الحب، وبالتعظيم غاية التعظيم، وبالذلة والانكسار له وبين يديه غاية الذلة والانكسار.ولا يحصل على هذه الألوهية كائناً من كان إلا الله؛ لأن الإله بمعنى: المعبود بالحب والتعظيم والطاعة، وهو ذاك الذي امتن عليك بخلقك ورزقك وتدبير حياتك، وما عدا الله فلا، فهل هناك من خلق الشيخ أو رزقه أو دبر حياته؟ لا أحد، إذ لا يوجد في الخلائق من الملائكة والإنس والجن وغيرها من سائر الخلوقات من خلق ولا بعوضة.فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، فهو رب العالمين، وبالتالي فلا تصح أي عبادة إلا له، وكل من عبد غير الله فقد أشرك في ألوهية الله وخسر خسراناً أبدياً.إذاً: ما هي العبادة التي نخلصها لله ونوحدها له ولا نلتفت أبداً إلى غيره فيها؟ هي العبادة التي شرعها وبينها رسوله، فأنواع العبادات القولية والعملية لا يصح لمؤمن ولا لمؤمنة أن يصرفها لغير خالقه عز وجل، لغير ربه ومالك أمره.ولها مظاهر بإيجاز: منها: الدعاء، فهل تعبدنا الله بالدعاء؟ نعم، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال الرسول في نزول الرب إلى السماء الدنيا: ( هل من داع فأستجيب له؟ ) فالدعاء: سؤال الرب الحاجة، فيا عبد الله الفقير! إذا افتقرت إلى شيء فاسأل ربك، ويقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، سبحان الله! كقوله: ( الحج عرفة )، فحقيقة الحج هو عرفة والطواف والسعي والإحرام ومزدلفة، لكن لا قيمة لها بدون الوقوف بعرفة، إذ من لم يقف بعرفة ما حج ولو طاف سبعين مرة.كذلك من لم يدع الله ما صحت عبادته ولا كان من المؤمنين العابدين، قال تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء مخ العبادة )، فهل هناك حيوان يعيش بدون مخ؟ إذا فسد مخ الآدمي هلك، وكذلك الدعاء إذا فسد بطلت العبادة، والدعاء هو سؤالك غير الله حاجتك. ويبقى إن دعوت من يسمعك ويراك ويقدر على إعطائك، فتقول: يا بني! ائتني بكأس ماء، لقد ظمئت وعطشت، فهذا يجوز؛ لأن الله قد أذن في هذا، إذ قد سألت شخصاً يسمع ويبصر ويقوى على أن يعطيك، لكن لو كان لاصقاً بالأرض مشلولاً، وتقول: يا فلان! أعطني كأس ماء، فهذا عبث وباطل، كذلك تقول لأعمى: من فضلك يا كفيف! دلني على بيت فلان! فهل عاقل يقول ذلك؟! الأعمى لا يعرف الطريق، كيف تقول له: دلني على بيت فلان؟! وبالتالي فالدعاء أن تدعو من يعلم حاجتك، ويرى مكانك، ويقدر على إعطائك وإنقاذك، وهذا لن يكون إلا لله عز وجل، فمن سأل نبياً من الأنبياء، أو ولياً من الأولياء، أو ملكاً من ملائكة الأرض أو السماء وهو لا يراهم ولا يرونه ولا يسمعون صوته ولا يقدرون على إعطائه؛ فقد هبط هذا المخلوق وتمزق، وأصبح شر الحيوانات.ومن هنا عرف العدو الثالوث الأسود من أين يأتي أمة الإسلام، أمة السيادة والقيادة، فسلط عليها من أفسد عقيدتها، فأصبح (75%) من أمة الإسلام من القرن الرابع إلى اليوم يدعون الأولياء، يا سيدي عبد القادر! يا مولاي إدريس! يا سيدي البدوي! وكذلك الروافض: يا فاطمة! يا حسين! يا علي! ونسوا الله عز وجل.وهذا واقع أيها المستمعون والمستمعات، فأي شرك أدهى وأعظم من هذا؟! يقف أمام قبر وينادي: يا فلان! امدد يديك، خذ بيدي، أنا في حماك، أنا في جوارك، أنا كذا وكذا، وهذا قبل وجود دولة عبد العزيز، فقد كنت أسمعه من آلاف الحجاج حول الحجرة الشريفة، واذهب الآن إلى قباب الأولياء في مصر وفي الشام وفي العراق وفي المغرب، بل في أي مكان واسمع وهم ينادون الأولياء بأعلى أصواتهم، فهل يجوز هذا عقلاً؟ وهل يجوز أن تنادي ميتاً لا يعرف عنك شيئاً، ولا يسمع حاجتك، ولا يقدر على أن يمد إليك يد العون، فتضفي عليه صفات الرب وتجعله كأنه الله؟! لا إله إلا الله!وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:11 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (62)
الحلقة (285)

تفسير سورة النساء (66)


الله عز وجل هو خالق كل شيء، وهو سبحانه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وقد يقع الشرك من البعض سواء شعر أو لم يشعر، ومن مظاهر الشرك التي يقع فيها البعض دعاء غير الله والاستغاثة والاستعانة به، ومن ذلك الركوع والسجود لغير الله، والحلف بغير الله، والنذر لغير الله، وغير ذلك من الأمور التي لا تصرف إلا لله وحده.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآية التي تدارسناها وتلوناها البارحة، وهي قول ربنا جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وحفظها الكثير من المستمعين والمستمعات، وفهمناها فهماً جيداً، وفهمنا أن الله عز وجل أعلن هذا الإعلان الرسمي الإلهي الرباني الذي لا ينقض بحال من الأحوال، وهو أن الله تعالى لا يغفر لمشرك مات على شركه، وما عدا الشرك من سائر الذنوب والآثام فموضوعة تحت النظر، إن شاء الله غفر، وإن شاء آخذ وعذب. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، الذي هو الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، ثم أخبر خبراً عظيماً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، ما يرجع إلى الصواب.كما أخذنا يوم أمس في دراسة التوحيد من هذه الآية المباركة الكريمة، وعلمنا أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة أو الإلهية، وعلمنا أن من ادعى أن فلاناً يخلق أو يرزق، أو يعطي أو يمنع، أو يضر أو ينفع، أو يخلق شيئاً ما من المخلوقات، فقد أشرك هذا المخلوق في ربوبية الله عز وجل؛ إذ لا يوجد من يخلق سوى الله، ولا يوجد من يرزق سوى الله، ولا يوجد من يدبر الحياة سوى الله تعالى.ولهذا فإن المشركين على عهد نزول القرآن الكريم لا يشركون بتوحيد الربوبية، بل لقد كانوا يقرون به، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، وإنما كان شركهم في الإلهية أو العبادة، وقد ظهرت جماعات تشرك بالله في ربوبيته، وتشرك بالله في عباداته، وتشرك بالله في أسمائه وصفاته، وقد نبهنا بأيسر طريق وهو أن علينا أن نؤمن بأسماء الله وصفاته الذاتية والفعلية، فنجريها على ألسنتنا كما هي في الكتاب وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إن لله مائة اسم إلا واحداً، أي: تسعة وتسعين اسماً، فلا نسمي بها أحداً من المخلوقات، وإنما لنا أن نسمي فنقول: عبد العزيز، عبد الرحمن، عبد الغفار، عبد الله، عبد الرحيم، أما أن نسمي كائناً مخلوقاً باسم الله فقد أشركنا في أسماء الله تعالى، أيضاً إن لله صفات عليا نوردها وننطق بها ونتكلم بها كما هي، بلا نؤول ولا تحريف ولا تشبيه، فنقول: سمع الله ليس كسمع الإنسان، أو بصر الله ليس كبصر الإنسان، إذ هو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء. وقد ذكرنا أمثلة لذلك ومنها: نزول الله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فلا نقل: كيف؟ لأنك لن تستطيع أن تعرف، وإن قلت: لا، فقد كفرت وكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أولت وقلت: ينزل الملك أو أمره فقد كذبت الله والرسول، إذ ما حملك على هذا؟!ومنها: أن الله تعالى قد أخبر أنه خلق آدم بيديه، فقل: آمنت بالله، ولا تقل: كيف؟ ولا يخطر ببالك أن تتمثل يد الله أو تتخيلها؛ لأنك عاجز عن هذا، ولا تستطيع أن تدركه لضعفك وهزلك.كذلك: الملائكة الآن هي حولنا تحفنا، فهل استطعنا أن نراهم بأعيننا؟ لا؛ لضعف أعيننا، إذ إنها ليست متأهلة لأن ترى الملائكة والجن! مع أن هذا حادث بيننا، فنؤمن بصفات الله كما أخبر بها هو عن نفسه، وكما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم.ومنها أيضاً: أنه جاء في الحديث الشريف المفسر: أن الله يحشر ويدخل الكفار والمشركين والمجرمين والظالمين النار، وهي مع ذلك تقول: هل من مزيد؟ بل كل ما يُدفع إليها تقول: هل من مزيد؟ فأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجبار تعالى يضع قدمه فيها فتمتلئ وتقول: قط، قط، أي: يكفي، ما بقي مزيد، فلا تسأل فتقول: كيف القدم؟ أتصور الله كمخلوقاته؟! هل ناسج هذا الثوب مثل هذا الثوب؟ وهل خالق المخلوقات يكون مثلهم؟ مستحيل! فآمن بأسماء الله وصفاته كما آمنت بوجوده وعلمه وقدرته وسلطانه في خلقه، وإياك أن تحرفها أو تؤولها أو تشبهها بصفات المحدثين والمخلوقين، فإن الله ليس كمثله شيء.ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة )، فلا تقل: كيف يضحك؟ وهل عرفت ذات الله حتى تسأل ذلك السؤال؟ قل: آمنت بأن الجبار تعالى يضحك، وكذلك يغضب الجبار، لكن لا تحاول أن تفهم غضب الله وتقيسه بغضب المخلوقات، وأيضاً يرضى الرحمن عن المؤمنين، فلا تتصور رضا الله كرضا مخلوقاته، بل هو فوق ذلك، وإنما فقط آمن بأسماء الله وصفاته ولا تشرك فيها كائناً من الكائنات، وهذا قد وفيناه ما يستحق بالأمس، وانتقلنا إلى توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة، وكلها بمعنى واحد.
بيان مقتضيات لا إله إلا الله
توحيد الألوهية أو وتوحيد العبادة تحمله كلمة: لا إله إلا الله، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقد وجب عليه أولاً أن يعبد الله، إذ إنه أقر واعترف معلناً بالشهادة أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وهو بهذا النفي يعترف ألا إله يستحق أن يعبد في السماء ولا في الأرض إلا الله، إذ إن الذي يستحق أن يعبد وحده هو الخالق الرازق المدبر، الذي خلقني ورزقني ودبر حياتي، فهو الذي أعطيه قلبي وسمعي وبصري، أما الذي لا خلق ولا رزق كيف يعبد؟ وقد قامت الأدلة والبراهين على أنه ما وجد مخلوق خلقه سوى الله قط، لا في العوالم العلوية ولا في السفلية، بل ولا في الكائنات كلها، فلا خالق إلا الله، وإعلان ذلك تعالى في كتابه فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].وعليه فمن قال: لا إله إلا الله لزمه ووجب عليه قضاء أن يعبد الله تعالى، وهذا أولاً، إذ كيف تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله وتعبد غيره؟! إن هذه زلة عظمى، أو من قال: لا إله إلا الله ولم يغتسل من جنابة ولم يصل ركعة ولم يصم يوماً؛ فإن ذلك لا ينفعه أبداً، إذ لو عرف معرفة حقيقية ألا معبود إلا الله والله لعبد الله تعالى، فهو قد عرف وأعلن عن علم، والشهادة لا تكون إلا عن علم، فأنت نظرت في الكون فرأيت أنه لا يستحق العبادة إلا هو فقلت: أشهد أنه لا إله إلا الله، فكيف لا تعبده؟! إذاً: شهادتك مردودة عليك؛ لأنك ما شهدت بالعلم.ثانياً: ألا تعبد معه غيره وإلا تناقضت في نفسك، إذ إنك من جهة تشهد ألا معبود إلا الله وعبدته، ثم تعبد معه غيره، كيف ذلك؟! إن هذا تناقض، لكن لو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وفلاناً معه وسميته، لكنت ربما تعذر، فأنت نطقت بما تعتقد، أو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وجبريل مثلاً أو فلان، لكن كونك تشهد أن لا إله إلا الله وتعبد معه غيره فقد تناقضت، ومثلك كمثل من يقول: أشهد أن هذا المفتاح لفلان ثم لا تعطيه إياه! أو أشهد أن هذه السيارة لإبراهيم ثم لا تعطيعها إياه، فهذا تناقض ولا تقبل الشهادة منك.إذاً: من شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أولاً: أن يعبد الله الذي شهد له بالعبادة، وأنه لا معبود يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى.ثانياً: يجب ألا يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات، وسنبين ما شاء الله منها أن نبين.ثالثاً: ألا يرضى بعبادة غير الله تعالى، فلو عبد أباه أو أمه فإن الله لا يرضى بذلك، بل يسخط وينكر، فكيف وهو يشهد أنه لا يعبد إلا الله ويقر من يعبد غير الله تعالى؟! إن هذا تناقض واضح، إذ ما صدق في شهادته، ولهذا لا يقر أبداً ولا يرضى بعبادة غير الله من أي إنسان كان، قريباً كان منه أو بعيداً، ومن ثم تصبح شهادته ذات وزن وذات قدر.
بيان مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله
وأما شهادة أن محمداً رسول الله، فهي جزء من شهادة التوحيد، إذ هما شهادتان، واحدة لله تعالى، والثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتنا لله تعني أن لا إله إلا هو ونعبده ولا نعبد معه غيره، ولا نرضى بعبادة غيره أبداً، وأما شهادة أن محمداً رسول الله فتعني أنك تقول: أنا على علم، وقد نظرت وتأملت وقرأت وفهمت أن محمداًرسول الله.وبالتالي فيجب عليك أموراً بشهادتك أن محمداً رسول الله، فأولاً: أن تقبل ما يأتيك عنه ويبلغك من رسالته، ولا ترد أمراً أبداً من أوامره، ولا ترفض نهياً من نواهيه، وهذا مقتضى شهادتك أنه رسول الله، فكل ما أخبرك به الرسول يجب أن تصدقه فيه، سواء أدركته أو عجزت، فإذا أخبرك بخبر وصح هذا الخبر عنه فيجب أن تؤمن به وتصدق، وحرام أن ترده، وإن رددته والعياذ بالله فقد كفرت برسالته.وهنا صورة لهذا الأمر: كان صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة، فأوحي إليه بخبر وهو أن رجلاً من بني إسرائيل في الزمان الأول كان يركب بقرة، فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت، أنما خلقت للحرث والسني، فكيف تركبني؟! وفجأة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به، وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وهما غائبان! والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق ذاك الخبر وعقد على لحيته وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به )، ومن هنا إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً فيجب أن تصدق به، سواء استطعت أن تدركه بقدراتك العقلية أو ما استطعت، وإنما قل: آمنت به، ولذا فمن رد على رسول الله شيئاً فقد كفر وأبطل شهادته.ثانياً: يجب أن تطيعه في الأمر والنهي، فإذا كان الأمر للإلزام وللوجوب لا للندب والاستحباب فيجب أن تطيعه فيه، فإن قلت: أنا لا أطيع محمداً في هذه القضية، فقد خرجت من الإسلام، كما إذا بلغك نهيه عما حرم الله فانتهي مباشرة، إذ ما حرم الله أمراً كان قولاً أو عملاً إلا لأنه ضار بالإنسان مفسد له معوق له عن السعادة والكمال، والله الذي لا إله غيره! ما أمرنا الله بشيء لنعتقده أو نقوله أو نعمله أو نتصف به إلا من أجل إسعادنا وإكمالنا؛ لأن الله ليس بعدو لنا، يكلفنا ويعذبنا! إنه ربنا وخالقنا ورازقنا وولينا، وهو أرحم بنا من أنفسنا، فإذا أمرنا أو نهانا فلنفهم أن ذلك لصالحنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يأمر الله به، ولا ينهى إلا عما ينهى الله تعالى عنه، ولهذا الكتاب والسنة أو الكتاب والحكمة متلازمان.ثالثاً: حبه صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك وولدك ومالك والناس أجمعين، وهنا قد غفل الغافلون وهبط الهابطون، إذ إنهم يدعون حب رسول الله وهم في الحقيقة ما أحبوه، وإنما دعاوى فقط، ولما يُسأل عن الحب وحقيقته ما يدري، وسأعطيكم مثالاً فقط لذلك وهو: إذا علمت أن رسول الله يحب كذا، سواء كان قولاً أو اعتقاداً أو عملاً، فإن كنت تحب رسول الله فسوف تفعل ذلك لأنه يحبه، فكيف تخالفه وتدعي حبه؟! نعم، قد تعجز، فقل: أستغفر الله، أتوب إلى الله، ضعفت عن هذا، أما أن تعلم أن رسول الله يحب كذا وأنت تبغضه، فوالله ما أحببته.والمثال القريب هو: من المعلوم أنك تحب والدتك وزوجتك وولدك، فإذا طلبت منك زوجتك أن تعطيها كذا، فإنك سوف تعطيها؛ لأنك تحبها، ولذلك فمن أحب الله أو أحب رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتنازل عن حبه للشيء من أجل حبه لربه عز وجل، ومن هنا يجب عليك أولاً أن تحب الله ورسوله، ومن ثم يجب أن نحب ما يحب الله ورسوله، فمن أحب ما يكره الله ورسوله فقد تناقض في دعوى محبته لهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين. فقال عمر: ومن نفسي؟ قال: ومن نفسك أيضاً )، ولولا فرض الله حب رسوله على عباده ما أطاعوه كما أطاعوه بعد أن أوجب حبه، فإذا أحببت شيئاً وأحب رسول الله شيئاً آخر، فكيف نعرف أنك تحبه عليه السلام؟ أن تترك ما تحب من أجل ما يحب هو، فإذا علمت أن رسول الله يكره الشيء الفلاني، فإن لم تكرهه ما أحببت الرسول، وإنما ناقضته، إذ كيف هو يحب وأنت تكره؟! أو هو يكره وأنت تحب؟! ولذا لا بد من مجاهدة النفس حتى نحب ما يحب الله ورسوله، ونكره ما يكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.إذاً: عرفنا من شهد أن محمداً رسول الله ماذا يجب عليه؟ أن يطيعه في الأمر والنهي، أن يصدقه في كل ما يخبر به، سواء أدركته أو عجزت عن إدراكه، ومثال ذلك: لما أخبر أنه أسري به من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم إلى الملكوت الأعلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ماذا قال المؤمنون؟ قال أبو بكر: صدقناه فيما هو أعظم من ذلك، صدقناه في الوحي ينزل عليه من الله، فكن متهيئاً لأن تصدق رسول الله في كل خبر، على شرط أن تعلم أنه صح عنه وأنه قاله، أما إذا شككت في صحته فمعذور، ولكن اسأل أهل العلم: هل هذا صحيح أم لا؟ أي: هل ثبت هذا عن رسولنا أنه قاله أو لم يثبت؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 03-05-2021 03:11 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
من مظاهر الشرك: دعاء غير الله تعالى
معاشر المستمعين والمستمعات! يجب علينا أولاً في توحيد العبادة أن نعرف وجوباً حتمياً بم تكون عبادة الله أو بم يعبد الله تعالى؟ إذ كيف نعبده بما لا تعرف؟ لذا لا بد وأن تعرف بم يعبد الله؟ وقد بدأنا البارحة بالدعاء، وسنواصل إن شاء بيان العبادات ومظاهر الشرك فيها بين الناس، والدعاء عبادة من العبادات، فأنت عندما تطلب حاجتك من الله فهي عبادة؛ لأن الله أمرك بهذا فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ثم هل يستغني مخلوق عن خالقه؟ أو مرزوق عن رازقه؟ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء لا ننساه أبداً وهو: ( الدعاء هو العبادة )، حتى تعرف أنه لا توجد عبادة أعظم من الدعاء أبداً، لا صلاة ولا حج ولا جهاد ولا رباط، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ( الدعاء مخ العبادة ).وهنا انظروا إلى الشيخ وهو يمثل لكم هذه المظاهر لهذه العبادة لتعرفوا أن الدعاء هو العبادة، فالآن أنا رفعت كفي إلى السماء فماذا تقرأ؟ الشيخ فقير مسكين وضع كفيه يتكفف سيده، الشيخ فقير محتاج إلى من يقضي حاجته ويسد فاقته، إذ عرف أن الله فوق سمواته فوق عرشه هو الذي يعطيه ويقضي حاجته، فلذا رفع كفيه إليه. ثانياً: أن الشيخ علم أن ربه يعلم حاله، ويعرف مكانه، ويعرف حاجته، ويقدر على قضائها وإعطائها وإلا ما سأله. ثالثاً: الشيخ لو علم أن ربه ليس فوق السماوات فوق العرش لنكس يديه إلى الأرض، لكن هو رفع يديه لأنه علم أن الله فوقنا، فهو أقر بوجود الله، وبعلم الله، وبقدرة الله، ثم كفر بكل كائن سوى الله يعطيه حاجته ويقضيها، وإلا لقال: يا فلان! لكنه وحد الله عز وجل غاية التوحيد وأعظمه. ثم إن كل من يدعو غير الله من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصلحاء فقد أشرك بربه، أي: أشرك في عبادة ربه، ويصدق عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، فإن تاب وتاب الله عليه فنعمت، وإن لم يتب ومات على ذلك فقد انتهى أمره ولو صام سبعين سنة، ووقف متعبداً سبعين أخرى، وحج سبعين حجة، وغزا سبعين غزوة؛ إذ كل ذلك باطل لا يعطى عليه شيئاً. وها نحن نشاهد من يدعون غير الله عز وجل من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا في العالم طيلة خمسمائة عام أو أكثر! فأين مصير هؤلاء؟ يسألني بعض الإخوة أو الأبناء فيقول لي: إن أمي قد ماتت على كذا، وأبي مات على كذا، فنقول له: اسمع، لعل والدك أو أمك كانت جاهلة فقط ما عرفت الطريق، وكانت تصوم وتصلي وتتصدق وتذكر الله، فإذا كانت صادقة فالله عز وجل يحفظها عند الوفاة، وذلك بأن يوفقها للشهادة عند الموت، فلا تقول: يا سيدي عبد القادر! يا مولاي إدريس! يا عبد الرحمن! وتكون بذلك قد نجت، إذ إن من مات وآخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن هذه الكلمة إذا عرفها العبد وأعلن بها فإنها تمحو كل الذنوب وتبخرها!وإن مات العبد وهو يأتي يقول: يا سيدي عبد القادر! فقد انتهى أمره، ولا تصل ولا تصم ولا تحج عنه، إذ لا ينفعه ذلك شيئاً، وافهموا هذه القضية بالذات؛ لأننا جاهلون متورطون في ظلمة الجهل، لكن إذا أراد الله أن ينقذ عبداً من عباده أو أمة من إمائه لعلمه بسابق نياته -ولكن وقع في الجهل- فإنه يحفظه ساعة الوفاة، فلا يعرف إلا الله تعالى، وينسى عبد القادر وفلان وفلان، وهذه هي حسن الخاتمة.إذاً: قد رأينا المسلمين في الشرق والغرب يدعون غير الله تعالى، وهم بهذا الدعاء والله مشركون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فماذا نصنع؟ نأخذ في تعليمهم فنقول: لا يدعى سوى الله عز وجل، لا ملك ولا نبي ولا ولي ولا أي كائن، إذ لا يعلم أين أنت؟ ولا يعلم حاجتك، ولا يسمعك، ولا يقدر على أن يعطيك شيئاً إلا الله، ولك أن تقف في صحراء وتنادي يا عبد القادر! هل يجيبك؟! لا والله، بل لو ناديت رسول الله فإنه لن يجيبك أبداً، والقرآن الكريم قد بين هذه المواقف فقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، وأخرى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ [الأحقاف:6]، أي: يوم القيامة، كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، وهذه وحدها كافية، وَمَنْ [الأحقاف:5]؟ إنه استفهام من الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الأحقاف:5]، لو دعا عيسى إبراهيم وهو بين يديه يسمع صوته ويرى حاجته ويقدر عليها فلا بأس، لكن أن يدعو من لا يستجيب له إلى يوم القيامة! فوالله لو تقف على قبر رسول الله وتناديه إلى يوم القيامة ما استجاب لك، ويوم القيامة والله ليكفر بشركك، ولا يعترف لك أبداً بأنك دعوته، إذ كيف يعترف أنه قد عُبِد مع الله؟! وهذا سيد الخلق، فكيف بمن دونه من الخلق؟! بل والله قد هبطنا حتى ما أصبحنا ندعو الأنبياء والأولياء، وإنما ندعو الصعاليك وندعي أنهم أولياء وأقطاباً وهم من تاركي الصلاة والعياذ بالله! فاحذر يا عبد الله! واحذري يا أمة الله! أن يراك الله وأنت تقولين: يا سيدي فلان! كما أنه لا يحل أيضاً أن تركب سيارتك أو بغلتك أو دابتك إلى الضريح الفلاني أو إلى القبر الفلاني لتتمرغ عليه وتبكي بين يديه وكأنك بين يدي الله، إذ إن هذا والله لهو الشرك الأعظم، وصاحبه لن ينجو إلا إذا أدركه الله فمات عند آخر ساعاته وهو يقول: لا إله إلا الله.
من مظاهر الشرك: الركوع والسجود لغير الله تعالى
بعد أن عرفنا أن الدعاء عبادة من العبادات الجليلة، فكذلك الصلاة عبادة من العبادات العظيمة، فلا يحل لك أن تنحني راكعاً لكائن من كان،إذ الركوع لا يكون إلا لله تعالى، وإذا ركع أحدنا فينبغي أن يسبح الله فيقول: سبحان ربي العظيم، على الأقل ثلاث مرات، لكن قد يحصل من إخوانكم أنهم لا يطمئنون في صلاتهم بالقدر المطلوب، فإذا ركع رفع رأسه بسرعة، وهذا صلاته باطلة، حتى الوقفة المعتدلة التي يقفها العسكري، فلا يرمش بعينيه ولا يحرك جسمه أبداً، لا تنبغي إلا لله تعالى، وبالتالي فالركوع هو انحناء بين يدي العظيم جل جلاله، فمن ركع وانحنى لغير الله فقد أشرك، وهو والله في عداد المشركين.وكذلك السجود لا يكون إلا لله تعالى، وهو وضع الجبهة والأنف -أفضل الأعضاء وأعظمها- في التراب بين يدي الله، وبالتالي فمن سجد لغير الله تعظيماً لحي أو ميت فقد أشرك بالله عز وجل، وهو والله من المشركين وإن صام وصلى؛ لأنه قد أشرك في عبادة الله تعالى، وما وحد الله تعالى، بل كذب في قوله: لا إله إلا الله.وقد رأينا وبلغنا أن إخواننا الجهلة يأتون إلى ضريح سيدي فلان وهم يزحفون على أستاههم وذلك تعظيماً له! ثم يخرون ساجدين، مع أنهم ما فعلوا هذا مع الله تعالى، ولذلك فلا ركوع ولا سجود إلا لله عز وجل، كما لا دعاء ولا سؤال حاجة إلا من الله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله عز وجل، فقد أمره أن يعلنها للعالم أجمع: قُلْ إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها الدعاء والركوع والسجود.
من مظاهر الشرك: الذبح لغير الله تعالى
ثم قال تعالى: وَنُسُكِي [الأنعام:162]، والنسك: هو الذبح تقرباً وتزلفاً، وإن كان النسك يطلق على العبادة، لكن أول ما يطلق على الشاة تذبحها تتملق بها للجبار عز وجل، سواء في حج أو في عمرة أو في يوم العيد أو صدقة تتصدق بها، والذبح لا يكون إلا لله تعالى، فأولاً: سم الله تعالى ثم اذبح، وثانياً: ألا تلتفت إلى كائن من الكائنات أن تذبح له ومن أجله تقرباً إليه أو تزلفاً، إذ من ذبح لولي من الأولياء أو لميت من الأموات فقد أشرك في عبادة ربه تعالى، وأصبح من المشركين، حتى ولو قال: باسم الله؛ لأن بعض الناس يقول: أنا قلت: باسم الله، وما قلت: باسم عبد القادر! لكن لو سئل: لم ذبحت؟ فسيقول: لسيدي عبد القادر! فنحن نتقرب إلى الله بالذبح لعبده الصالح عبد القادر أو العيدروس! مع أن هذا الذبح للأولياء نظير الذبح للجن والعفاريت. وقد ظننا أن هذه القضية قد انتهت، وإذا بكتاب يأتينا من حضرموت يقول فيه صاحبه: اذبح شاة سوداء أو بيضاء عند دخولك البيت، وذلك حتى تسلم من الجن والعفاريت، وهذه قد عاصرناها، إذ يأتي المريض أو أبو المريض أو المريضة للشيخ، وإذا بالشيخ يفتح الكتاب، وهو كذب، إذ ليس هناك كتاب، فيقول: ولدك مضروب على الدم، أو مضروب على كذا، وإذا أردت شفاءه فاذبح تيساً أسوداً، وأحياناً يمكرون بهم فيعطيه وصفاً لا يحصل عليه! ولما يموت المريض يقول: يا أحمق! نحن قلنا لك النوع والوصف كذا، فهل هذه أمتنا؟ قرون عديدة وهي هكذا! يذبحون للجن والعفاريت، واسمع هذه القصة: سكنا منزلاً في باب المجيدي، وبني منزل إلى جنبنا، ولما تم بناؤه جئت مع الغروب وإذا بكبش مذبوح وهو يوزع لحماً، فقلت: ما هذا؟ فقال صاحب المنزل: أمرني المعلم -وهو في جدة- أن نذبح على العتبة، وذلك حتى نحصن السكان من الجن! ولذلك فكل ما ذبح وإن قلت: باسم الله، ولكن نيتك ليبعد الجان أو يتخلوا عن مريضك أو يفعل كذا وكذا، فالجن يعلنون عن فرحهم ويقولون: قد عبدناهم؛ لأن من أكبر العبادات النسك، آالله أمرك بهذا؟ والجواب: لا، وإنما أطعت الشيطان والعياذ بالله، فزين لك عبادة غير الله فعبدته بذبحك للجان، فهل عرفتم الذبح لغير الله ما حكمه؟ وهل هناك من يذبح لغير الله تعالى؟ كل من ذبح لسيدي فلان أو من أجل الجان الفلاني فقد أشرك ورب الكعبة، وإن مات على ذلك ما نجا.
من مظاهر الشرك: النذر لغير الله تعالى
من مظاهر الشرك أيضاً: النذر أو العِدة أو الوُعدة -وكلها بمعنى واحد، إذ العرب يلونون الكلام- وهذه لا تكون إلا لله تعالى، لكن أنا قد سمعت بنفسي أن بعضهم يقول وهو أمام القبر: يا سيدي فلان! إذا غلب أخي زوجته في المحكمة أذبح لك كذا! وآخر يقول: يا سيدي فلان! إذا شفي ولدي من هذا المرض سآتي لك بكذا، أو سآتيك لو ببخور وبشموع، وأخرى تقول: أحلي الضريح بأزر حريرية، فهذه والله لمن الشرك بالله تعالى، ينذرون ويعدون أمواتاً؟ وآخر يقول: يا سيدي فلان! إذا حصل كذا وكذا سأفعل لك كذا وكذا، وهذه العدة أو وهذه الوعدة أو هذا النذر لا تكون إلا لله عز وجل، وهو القائل: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] ، والقائل: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، والعهد كالنذر أيضاً، فمن نذر لغير الله حتى لرسول الله فقد أشرك والعياذ بالله، سواء كان النذر ذبيحة أو طعاماً، وقد كانوا يأتون بالشموع للولي أيام ما كانت الكهرباء وجودة، وذلك ليوقدوا على قبره في الليل؛ تقرباً إليه ونذرٍ من النذور، وكذلك يأتون له بالبخور، وآخر ينذر أن يجدد القبة إذا قدُمت، أو يصبغها بصبغة كذا، وكل ذلك تقرباً إلى الأولياء لتقضى حاجاتهم بواسطتهم!
من مظاهر الشرك: الحلف بغير الله تعالى
ومن مظاهر الشرك أيضاً الحلف بغير الله تعالى، فيقول أحدهم: وحق سيدي فلان، أو ورأسك، أو وبالملح الذي بيننا، وهذا قد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم شركاً وكفراً، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ومرة قال: ( فقد كفر )، ولو اتسع الوقت نعلمك كيف أشرك؟ إذ لا يحلف الإنسان إلا بما يراه أعظم من غيره، وهذه هي الفطرة، فكونه يحلف بغير الله فمعناه أنه عظم هذا المخلوق بتعظيم الله وسواه بالله، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله أبداً، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).
بيان سبب تفشي مظاهر الشرك في هذه الأمة وعلاج ذلك
معاشر المستمعين! هناك مظاهر للشرك لا نستطيع استيفاءها في هذه اللحظات، لكن عندنا كلمة أخيرة وهي: ما سبب هذا الشرك؟ هل لأن القرآن ليس عندنا؟ أو هل لأن السنة أحرقت كتبها وما بقي شيء منها؟ لا هذا ولا ذاك، إذاً كيف حصل هذا الجهل؟ والجواب: الكتاب محفوظ بحفظ الله، والسنة محفوظة بحفظ الله، والذي أوقعنا في هذه الفتنة هو عدونا المكون من ثلاثة أجناس: المجوس واليهود والنصارى، فلا يريدون أن ندخل الجنة ويدخلوا النار، بل ما يريدون لنا ألا أن يوجد بيننا البغاء والزنا والعهر والخمر والباطل، وأنا أقول هذا على علم، وقد عملوا على تجهيلنا، إذ علة هذا الشرك والله لهي الجهل، فالقرآن حولوه ليقرأ على الموتى، إذ ما يتدارسونه هكذا أبداً، وفي هامش أو حاشية على شرح خليل يقول القائل: تفسير القرآن صوابه خطأ، أي: إذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر! فعاشت أمتنا قرى ومدن مائتين أو ثلاثمائة سنة ما يفسرون آية من آيات الله! وبالتالي كيف يعلمون؟! وكذلك السنة تقرأ للبركة، وقد رأيت هذا في ديارنا الجزائرية في الجامع الكبير، ورأيناه في الروضة الشريفة إلى غد، فسيدخل رمضان وتجدون جماعة من أهل الخير عاملين حلقة في الروضة يقرءون سيدي البخاري للبركة فقط! ولا يريدون أن يفهموا حكماً، فهل معنى ذلك أن الرسول يتكلم بالباطل؟ إن كل كلامه شرائع وقوانين وآداب وأخلاق، وقد بلغهم هذا البكاء أربعين سنة وما زالوا؛ لأن الأمة هبطت، فمن يرفعها؟ أما من عرف الله وامتلأ قلبه بحبه والخوف منه، مجرد أن يسمع فقط كلمة محرمة لا يقولها حتى الموت، أو يسمع فقط حركة يكرهها الله والله ما يتحركها، ولو كان قد عاش خمسين سنة يعملها، بل بمجرد أن يعرف أن الله لا يرضى بهذا ما يفعله، ومن لم يعرف الله فإنه يرقص وهم يرقصون.فإن قيل: كيف نقضي على هذا الجهل؟ بإيجاد الخلافة الإسلامية؟! هذه خرافة، إذ والله لا تقضي على الجهل، إذاً كيف نقضي على الجهل؟ والجواب وقد كررنا هذا والله يعلم ويشهد: أن على أهل القرية المسلمة عربية أو عجمية، في الجبال أو في السهول، أن يجتمعوا بنسائهم وأطفالهم في بيت ربهم كل ليلة وطول الحياة، وذلك كاجتماعنا هذا من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية من كتاب الله، فيفهمونها ويعملون بها، وليلة أخرى حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يتعلمون ويعملون، فتتهذب آدابهم وأخلاقهم، وترتفع مستويات علومهم ومعارفهم، وتطهر قلوبهم من الشرك والزيغ والباطل.وكذلك أهل المدن، فكل حي من المدينة يجتمعون أهله في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية وليلة حديثاً فقط، لا قال سيدي فلان ولا فلان، ولا أنا مذهبي مالكي ولا حنبلي، وإنما قال الله وقال رسوله، فلا فرقة ولا انقسام ولا أباضية ولا زيدية ولا سنية، وإنما مسلمون نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الطريق، وهذا الذي يزيل هذه المحن والإحن، وهذا الذي يجمع الكلمة، وهذا الذي يطهر القلوب، وهذا الذي يجعلنا أمة واحدة، وأهل القرية والله كأسرة واحدة، فيبكون إذا بكى أحدهم، ويضحكون إذا ضحك أحدهم، وبدون هذا النظام الإلهي الذي جاء به رسول الله هيهات هيهات أن نعلم ولو فتحنا في كل زاوية مدرسة! فقد خمت الدنيا بمدارس أبنائنا وبناتنا، حتى البلاد الفقيرة، فهل نفع هذا العلم؟ والله ما نفع؛ لأنه ما أريد به وجه الله، وإنما أريد به الوظيفة فقط، فيقول الأب لابنه: تعلم يا ولدي لتكون كذا! أما في بيت الرب لماذا يجتمعون؟! لم يتعلمون قال الله وقال رسوله؟ لله، ليعرفوا الله فيخافوا ويحبوه ويعبدوه، فيكملون ويسعدون.مرة أخرى: بلغوا هذا الكلام، أين الكتاب؟ لم ما يكتبون هذا الكلام؟ لأن الأمة هابطة وما زالت هابطة، وجرب يا عبد الله! انزل في قرية من القرى، واجمع الناس بعد المغرب، فالفلاح يضع المسحاة على جهة، والتاجر يغلق بابه، وما بقي عمل قط، وتقول: هيا إلى الله نجلس بين يديه، فنبكي فقط حتى يفرج ما بنا، لكن ما يريدون، إذاً كيف يتعلمون؟ والله لن يزول الجهل ولا الظلم ولا الخبث ولا الشر ولا الفساد إلا بالعلم بالله ومحابه ومساخطه، فهل فهمتم هذا أو لا؟ وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.




ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:15 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (63)
الحلقة (286)

تفسير سورة النساء (67)


إن الضلال الكبير هو في اتباع الشيطان الرجيم، فهو يأمر أتباعه بطاعته في كل ما يغضب الله ويجر إلى سخطه، فيأمرهم باتخاذ الأوثان والأصنام وصرف شيء من العبادة لها، ويأمرهم بتغيير خلق الله من وشم ووسم لأنعامهم، ويمنيهم الأماني الباطلة ويزين لهم الباطل في صورة خادعة، حتى يكونوا معه في العذاب المقيم في جهنم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الست، وقد درسنا آية منها والباقي خمس آيات، والآية التي درسناها تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].فعلمنا بتعليم الله عز وجل لنا أنه عز وجل لا يغفر الشرك من عبده إذا مات عليه، أما من تاب منه قبل أن يموت فوحد الله عز وجل فقد نجا، وأما من مات وهو يشرك بالله شيئاً في ربوبيته أو في أسمائه وصفاته أو في عباداته، فهذا قد أخبر الكريم الرحيم جل جلاله وعظم سلطانه أنه لا يغفر له، وأما ما عدا الكفر والشرك من سائر الذنوب فهي موقوفة للنظر فيها، إن شاء غفر له، وإن شاء آخذ وعذب، إلا أن أهل لا إله إلا الله -أهل التوحيد- إذا دخلوا النار ومكثوا فيها ما شاء الله فإنهم يردون إلى الجنة دار السلام، أي: أهل الكبائر من هذه الأمة إذا لم يغفر لهم ودخلوا النار فإنهم لا يخلدون فيها كما يخلد فيها المشركون والكافرون. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فكيف يرجع وقد ضل ضلالاً بعيداً؟!
تفسير قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً)
والآن مع هذه الآيات فتدبروا معانيها، والله أسأل أن يفتح علينا وعليكم، وأن ننتفع بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:117-121]، أي: مهرباً.
إخبار الله عن حال المشركين أنهم ما يعبدون إلا إناثاً
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثاً، كيف يدعون الإناث؟ في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن لفظ (الميت) يطلق عليه لفظ المؤنث؛ لأن الأنثى لا تقاتل ولا ترفع السلاح ولا تجلب الطعام، إذاً: فالذي يدعو الميت يدعوه وكأنه أنثى.وتأملوا مرة أخرى: إِنْ يَدْعُونَ [النساء:117]، أي: ما يدعون مِنْ دُونِهِ [النساء:117]، أي: أولئك المشركون إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] والإناث: جمع أنثى، قال أهل العلم: العرب يطلقون على الميت أنثى؛ لأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يشفع، فهو إذاً أنثى.كما أن هناك آلهة مؤنثة، منها: اللات التي كانوا يعبدونها ويعتزون بعبادتها، وكذلك مناة ونائلة، وهكذا يدعون أصناماً تمثلوها وجعلوها آلهة وهي إناث في لفظها، ولكن الأول أوسع، أي: ما يُدعى من دون الله، أو ما يعبد من دون الله من سائر المعبودات من أصنام وأحجار وتماثيل أُطلق عليها لفظ أنثى ولا تحزن؛ لقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، وإناث: جمع أنثى؛ لأن الأنثى من بني آدم لا تفعل شيئاً، إذ لا وزن لها ولا قيمة لها في باب القتال والجهاد والأخذ والعطاء، وهذا الميت أو الشجر أو الصنم أنثى أيضاً، إذ لا يعطيهم شيئاً ولا يدفع عنهم شيئاً، فهو أنثى! وقد اختار الله الحكيم العليم هذا اللفظ من أجل تبكيتهم وخزيهم، وكشف سوءتهم وعوراتهم، أي: ما يدعون إلا إناثاً، ويتركون الجبار العليم الحكيم.
عبدة الأصنام هم في الباطن عبدة للشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه
ثم قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، ونثهذا كشف للستار الثاني، إذ هم في الحقيقة إذا دعوا اللات أو العزى أو مناة أو عيسى وأمه أو عبد القادر والبدوي، فهم في الحقيقة إنما يدعون الشيطان، إذ هو الذي أمر بذلك، فالذين يعبدون عيسى ما أمرهم عيسى بعبادته، بل ولا أمرهم الله بعبادتهم، وإنما الذي أمرهم هو الشيطان.إذاً: فهم والله يدعون الشيطان، لا اللات ولا العزى ولا مناة ولا جبريل ولا ميكائيل، وبالتالي فكل ما عبد من دون الله هو ما عبد حقيقة، وإنما عبد الشيطان الذي زين عبادته وحسنها ورغب فيها ودعا إليها، فالشيطان هو المعبود، ثم أليس المعبود هو المطاع؟ نعم، إذاً: من أُطيع هذه الأصنام أم الشيطان؟ الشيطان هو الذي أُطيع، فهو الذي أمر وزين وحسن فعبدوها.وتأملوا: إِنْ يَدْعُونَ [النساء:117]، أي: ما يدعون مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، فقد تمرد على ربه ورفض أن يسجد لآدم، وتبجح الكثير، وقال ما قال، وهذه مواقف له نقف عليها الليلة إن شاء الله تعالى، وسبحان الله! فهذه الآيات عجب.
تفسير قوله تعالى: (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118].قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118]، من لعنه؟ الله عز وجل، ومعنى: لعنه الله، أي: أبعده من ساحة الخير، فقد كان في الجنة مع آدم في الملكوت الأعلى، لكن لما لعنه الله، فقد أبعده من الخير نهائياً. وَقَالَ [النساء:118]، أي: هذا الملعون عدو الله لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: يقول للرب تعالى لما طرده من الجنة بسب إفساده لآدم وحواء، ورفضه السجود للآدم، إذ كل الملائكة سجدوا إلا هو والعياذ بالله، قال لما أيس وعرف مصيره: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: يتحقق لا بد منه، وقد نجح، ففي الأثر يقول الرب تبارك وتعالى في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء: يا آدم! خذ بعث النار، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وواحد إلى الجنة فقط.فهيا لنلق نظرة في البشرية الآن، كم نسبة الناجون من أهل الإيمان والصدق والتوبة والطاعة إلى باقي هذه الأمم؟ من الألف واحد! إذاً: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]؛ لأنه عرف ضعف هذا الإنسان وعجزه وعدم قدرته، وذلك لما زين لآدم وحواء الأكل من الشجرة المحرمة، فسلبهم ذاك النعيم وأخرجهم من دار السلام، وكذلك أولاد آدم مثله، ولهذا حلف فقال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، فقد استطاع أن يغرر بآدم وحواء ليخرجهم من الجنة، فزين لهم أكل الشجرة وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]؟ فاستجاب آدم وحواء لذلك وأبعدوا من دار السلام، واهبطوا إلى دار الشقاء وهو معهم.إذاً: عرف أن هذا الجنس ضعيف يستطيع أن يؤثر عليه، واسمعوا ماذا فعل أيضاً؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ...)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
معنى قوله تعالى: (ولأضلنهم)
قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: أبعدهم عن طريق عبادتك وولايتك؛ ليكونوا عبيدي وأوليائي، ويدخلون جهنم ويخلدون فيها معي، وهذا الحقد وهذا الغيظ سببه أنه أطرد من رحمة الله هو وذريته من الجنة من دار السلام، وذلك بسبب آدم وحواء، ثم قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، اللهم اجعلنا من الذين استخلصتهم لعبادتك.إذاً: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: عن جادة الصواب، عن طريق الحق، عن الصراط المستقيم؛ ليعيشوا في الشرك والكفر والجرائم والموبقات، فتسود نفوسهم وتخبث، ويكونوا أهلاً لعالم الشقاء جهنم.
معنى قوله تعالى: (ولأمنينهم)
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، أتعرفون الأماني؟ يأتي الآدمي فيقول له: لم تبق في هذه الحال؟ افعل كذا، اقتل فلاناً واحصل على هذا المال، وبعد ذلك تستريح مرة واحدة، ويقول لفلان: افتح مقهى أو مخمرة كما يفتحها غيرك، والله يتوب على من يشاء، فما يزال به حتى يوقعه في ذلك، ويأتي لآخر فيقول له: لم تبق في هذا الكرب والغم والهم؟ اطلب لك فتاة وازن بها وافجر بها والله غفور رحيم! وغير ذلك من الأماني التي يلقيها على الآدمي، ولا نستطيع أن نستوفي ما يطرحه من أماني! إلا أننا نقول: كل الذين بغوا وظلموا وفسقوا كان ذلك بأماني الشيطان لهم، فهو الذي يحسن لهم القبيح ويزين لهم المشئوم حتى يوقعهم في ذلك، وما يقدم من أماني عذبة حتى يورط الآدمي في هذه الفتن.
معنى قوله تعالى: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام)
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، أي: ولآمرنهم فيطيعونني، فَلَيُبَتِّكُنَّ [النساء:119]، أي: فليقطعن، آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119].يقول تعالى عن إبليس عليه لعائن الله، وهو عز وجل يخبر بأخباره وكلامه الذي قال، فيقول: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، أي: بني آدم عن الطريق الموصل إلى سعادتهم ورضاك. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، أي: بالأماني الكاذبة حتى يتورطوا في الشرك والكفر والفجور والذل والفساد والشر. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، وآذان جمع أذن، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، فقد كان العرب في الجاهلية يعلِّمون الشاة أو البعير أو البقرة بشق أذنها على أنها لسيده أو لمولاه أو لربه، قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103].إذاً: فهم يجعلون للآلهة مواشيهم، فهذا البعير يسمونه الحام لأنه محمي، أي: لا يركبه أحد؛ لأنه لإلهه، وطول حياته وذاك البعير يرتع ولا يركب ولا يحمل عليه، وإنما حموه للآلهة.والسائبة هي التي يسيبونها ويتركونها، كشاة أو مجموعة من الأنعام، فلا تحلب ولا تركب؛ لأنها للإله.وأما البحيرة فهي التي يبحرون أذنها أيضاً من الإبل أو البقر، والذي زين لهم هذا هو الشيطان، وقد جاء إلينا بعد أنوار القرآن، فكم من إنسان يقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر، فلا تمسها ولا تأكلها! ويغرس نخيلاً فيقول: هذه نخيل لسيدي عبد القادر! ويشتري قطيعاً من الغنم ويقول: هذه شاة مولاي فلان! وعلة ذلك الجهل، فيتقربون إلى الأولياء، فهل الأولياء يقبلون منهم هذا؟ وهل أمرنا الله بأن نجعل لأولياء الله شاة أو نخلة أو شجرة من الزيتون ونقول: هذه لسيدي فلان؟! والله ما أمر بهذا إلا الشيطان عليه لعائن الله.
معنى قوله تعالى: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله)
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119]، كيف يغيرون خلق الله؟ مثلاًً: شق الأذن تغيير لخلق الله، وحلق الحاجبين تغيير لخلق الله، وحلق اللحية والشارب معاً تغيير لخلق الله، والوشم في اليد والوجه تغيير لخلق الله، وقد عمل إبليس واستطاع ونجح في هذا الباب بلا حساب.قال: [ فيطيعونني في ذلك، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقتهم، ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة، كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة ]، فلهذا معاشر الأبناء والبنات والمؤمنين والمؤمنات! نعمل على ألا نغير خلق الله، لا في شاة ولا في بعير ولا في إنسان ولا في أي شيء، فنترك خلق الله كما هو، فالوشم حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( لعن الله الواشمة والمستوشمة، لعن الله الواصلة والمستوصلة )، وهي التي توصل شعر غيرها بشعرها، إذ ما رضيت بما أعطاها الله عز وجل فاحتالت وألصقت شعراً بشعرها، ( لعن الله الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة ).والمهم إذا رأيتم من يغير خلق الله فاعلموا أنه استجاب لدعوة إبليس، إذ هو القائل: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119].
جزاء من اتخذ الشيطان ولياً من دون الله
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، وهو كذلك، فبدل أن توالي الله عز وجل بالإيمان الصحيح وبطاعته وطاعة رسوله فتصبح ولي الله؛ تترك الله عز وجل ولا تؤمن به ولا تطيعه وتؤمن بالشيطان وتطيعه في كل ما يأمر ويزين، فصاحب هذه الطاعة قال الله فيه: فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
تفسير قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].وبين ذلك فقال: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [النساء:120]، أي: يعدهم بالوعود الكاذبة، فهل يحقق شيئاً؟ ويمنيهم بالأماني العذبة الكاذبة. وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، والله ما يعد الشيطان أحداً إلا وقد غرر به، فلا يستطيع أن يعطيه شاة ولا بعيراً ولا ديناراً ولا درهماً، وإنما الذي يعطي ويمنع هو الله عز وجل، لكن الشيطان يمني ويحمل الإنسان على الأماني الكاذبة من أجل أن يضله الضلال البعيد والعياذ بالله، ومن أجل أن يخسر خسراناً واضحاً بيناً.
تفسير قوله تعالى: (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً)
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121]. قال تعالى في ختام هذه الآيات: أُوْلَئِكَ [النساء:121]، أي: أتباع الشيطان ومطيعوه، أولياء إبليس. أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
لهذه الآيات هدايات خمس فتأملوا! ‏
معنى الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيات: سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء، إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه ] وأخذنا هذا من الآية الأولى.قال: [ ثانياً: عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان، إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه ] فهو وليهم.قال: [ ثالثاً: من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها، إذ هو الذي أمر بها وأُطيع فيها ] أي: أن كبائر الذنوب، بل المعاصي كلها الشيطان هو الذي أمر بها وحسنها وزينها، ونحن إذا أطعناه فقد عبدناه. قال: [ رابعاً: حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع ] الوشم حرام إذ فيه تغيير لخلق الله، والوسم كذلك، والخصاء للذكر كذلك إلا ما أذن فيه الشارع، فقد أذن الشارع أن نخصي التيس والكبش للحفاظ على الشحم واللحم، وأذن في أن نعمل علامة في الأغنام بشق بعض الأذن حتى لا تختلط أغنامنا بأغنام الآخرين، فهذا قد رخص فيه الشارع؛ لأنا ما فعلنا هذا لنعبد الشيطان أو نجعل هذه الشاة لفلان أو علان.قال: [ رابعاً: حرمة الوشم ] سواء في الوجه أو في غيره، [ والوسم ] أيضاً بالسيم أو العلامة، [ والخصاء، إلا ما أذن فيه الشارع ] صلى الله عليه وسلم.قال: [ خامساً: سلاح الشيطان العِدة الكاذبة، والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة ] أي: سلاح عدونا إبليس: العدة، أي: الوعد الكاذب، والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة.والله تعالى أسأل أن يعيذنا وإياكم من فتنه ومن شره وتزيينه، وأن يحفظنا بما يحفظ به أولياءه حتى نلقاه طيبين طاهرين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (64)
الحلقة (287)

تفسير سورة النساء (68)


بين الله عز وجل جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان، وأنهم مجموعون في نار جهنم لا يجدون عنها محيصاً، ثم بعد ذلك بين سبحانه جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن، وأنه سبحانه سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وأن خلودهم مقدر فيها بإذن ربهم سبحانه، فلا يخرجون منها أبداً.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآية أيضاً المباركة الميمونة، وتلاوة هذه الآية بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نريد أن نمر مرة أخرى بالآيات التي تدارسناها البارحة؛ لأن لها ارتباطاً كبيراً بهذه الآية، فهيا نسمعكم تلاوتها مرة واحدة ونقرؤها في التفسير ونتذكر بها ما نسيناه ونتعلم ما لم كنا تعلمناه بإذن الله، وتلاوة هذه الآيات -التي تدارسناها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:116-121]، هذه قد درسناها بالأمس، فإليكموها في التفسير.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر. وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً، وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته ].قصة طعمة بن أبيرق قد تقدم الحديث عنها في الآيات السابقة، وطعمة هذا كان منافقاً في المدينة وله إخوة، وقد سرق درعاً ثمينة، فلما خاف أن يُعرف ألقاها في بيت يهودي جار له وقال: إن اليهودي هو الذي سرق الدرع، وجاء إخوته وشهدوا معه، فالرسول بشر وإن كان سيد البشر، مال إلى قولهم وأراد أن يقطع يد اليهودي السارق، وإذا بالقرآن ينزل فقال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:105-106]، الآيات.ففضح الله تعالى طعمة بن أبيرق وإخوته، وهرب طعمة -والعياذ بالله تعالى- إلى مكة عاصمة الشرك يومئذ، ثم جاء يسرق بيتاً من بيوت أهل مكة ففتح نقبة في الجدار فسقط الجدار عليه، فمات مشركاً كافراً سارقاً والعياد بالله، وفيه نزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، كـطعمة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116] كإخوة طعمة، إذ ما أشركوا بالله لكن أمرهم إلى الله؛ لأنهم ارتكبوا كبيرة وهي شهادة الزور والعياذ بالله تعالى.ثم قال المؤلف: [ وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117]، هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون، إذ أوثانهم ميتة، وكل ميت فهو مؤنث، زيادة على أن أسماءها -أيضاً- مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة ]، فلماذا يسمى هذا المعبود أو هذا القبر أنثى؟ لأن العرب يطلقون على كل من يجدوه لا يقوى على الدفاع والعطاء: أنثى، والأصنام والقبور والأحجار التي يدعونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي، إذاً فهي ميتة، وبالتالي فهي أنثى، إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:117-118].قال: [ كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها، فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان ]، فالنصارى الآن المسيحيون لا يعبدون عيسى، وإنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادة عيسى، ولذلك فكل من عبد غير الله هو في الحقيقة ما عبد ميتاً ولا عبد شمساً ولا عبد قمراً، إنما في الحقيقة هم يعبدون من أمرهم بذلك، والذي زين لهم عبادة غير الله ودعاهم إليها هو الشيطان، فهم والله عابدون للشيطان، فهل نحلف والله هو الذي يقرر ذلك؟! لا حاجة إلى الحلف.قال: [ فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا للأوثان، ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] ] وقد فسرنا (مريداً) بأنه متمرد عن الحق فلم يعبد الله عز وجل.قال: [ لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم ]، أي: لعن الله إبليس وأبلسه لما رفض أن يسجد لآدم في الوقت الذي سجد فيه كل ملائكة الله، فأبلسه الله وأيأسه من الخير، وهذا معنى (لعنه).قال: [ ولذا قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117]، لعنه الله وأبلسه عند إبائه ورفضه السجود لآدم، وَقَالَ [النساء:118] -أي: إبليس- لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلاً ] وقد ذكرنا بالأمس أن الله يأمر آدم بأن يخرج بعث النار من كل ألف واحداً، أي: تسعمائة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة، فالتسعة والتسعون عبدوا الشيطان بالشرك والجرائم والموبقات، والجنة والله لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية الطاهرة، أما ملوثة مخبثة فهيهات هيهات، وقد سمعتم حكم الله الصادر علينا فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فإما أن تعمل أيها الآدمي على تزكية نفسك وتطهيرها حتى تصبح كأرواح الملائكة فتنزل الملكوت الأعلى معهم، وإما أن تخبثها وتلوثها بأدران الشرك والمعاصي فأنت تهبط فلا تعلو أبداً، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] ما لهم؟ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].قال: [ وقال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك وطاعتهم لي.وواصل العدو تبجحه قائلاً: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، يريد عن طريق الهدى ]، أي: ولأضلنهم عن طريق الهدى، عن الصراط المستقيم.قال: [ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119]، يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم ] وهذه أمانيه.قال: [ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] فيطيعوني، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقناهم، ويعلِّمونها بقطع آذانها لتُعرف أنها للآلهة، كالبحائر والسوائب -والحامات- التي يجعلونها للآلهة، وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك والمعاصي كالوشم والخصي ] وما إلى ذلك.قال: [ هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد ] وله المنة.قال:[ ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، لأنه من والى الشيطان عادى الرحمن، ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران، يدل على ذلك قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ [النساء:120]، فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً، فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟وهذا حكم الله تعالى يُعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121]، أي: معدلاً أو مهرباً ].

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ...) من كتاب أيسر التفاسير
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].قول ربنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النساء:122]، خلاف الذين أشركوا بالله وعبدوا الشيطان. ‏
معنى الآية
قال المؤلف: [ معنى الآية الكريمة: لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل ] والموحدون هم الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله تعالى، فقلوبهم لا تتقلب أبداً إلا في طلب رضا الله عز وجل، ووجوههم لا تلتفت إلى غير الله، فلا يركعون ولا يسجدون ولا يذبحون ولا ينذرون ولا يحلفون أبداً لمخلوق كائناً من كان، بل حياتهم كلها موقوفة على ربهم، وأعلنوا ذلك لما قالوا: لا إله إلا الله، فعبدوا الله بما شرع لهم من أنواع العبادات وأخلصوها له فلم يلتفتوا في شيء منها إلى غير الله، فأولئك هم الموحدون الذين عبدوا الله ووحدوه بالعبادة، فلم يلتفتوا إلى غيره ولم يشركوا غيره أبداً في عبادة من عباداته، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً، فضلاً عن الكواكب والأصنام والأحجار.قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم ]، وذلك ما إن يلفظ أحدنا أنفاسه إلا ويرقى بها الملائكة إلى الله عز وجل، بينما الآخرون يرقون بها إلى السماء، فيستأذنون السماء الأولى والله ما يؤذن لهم؛ لأنها منتنة وعفنة، فيؤمر بها أن اهبطوا بها إلى أسفل سافلين، وأما الزكية الطاهرة النقية فيفرحون بها وتفتح لها أبواب السماء وينتهون بها والله إلى العرش، ثم يكتب اسمها في عليين، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]، ثم ينزلون بها للمحنة وللاختبار في القبر أو في البحر حيث وجد منها جزء، ثم بعد ذلك الامتحان يعودون بها إلى دار السلام، فاللهم اجعلنا منهم.فهؤلاء هم الذين آمنوا بالله حق الإيمان، وعبدوه وحده ولم يلتفتوا إلى غيره، وما عبدوه بالبدع والخرافات فإنها والله لا تزكي النفس ولا تطهرها، وإليكم مثالاً لذلك: تعبدنا الله بالطواف ببيته سبعة أشواط، فمن طاف شوطاً واحداً لا يقبل منه، ومن طاف خمسة أشواط أو ستة أو تسعة لا ينفع، حتى لو قلت: أنا زدت لربي شوطاً أو شوطين، وهذا خير، والله ما ينفع، ومعنى لا ينفع أنها لا تزكي النفس، لا تتولد لك المادة النورانية من هذه العبادة التي أثبتها بالزيادة أو بالنقصان، وإذا ما اتضح لك الموقف فإليك مثالاً آخر: صلاة المغرب كم هي ركعة؟ ثلاث ركعات، وقد صلى جبريل برسول الله في الأرض ثلاث ركعات، فإن أتى آت فقال: ما هذا؟ أن أزيد ركعة فأصلي المغرب أربعاً، فهل تجد فقيهاً يقول له: صلاتك صحيحة؟ والله ما تجد، كذلك الظهر أربع ركعات، فيأتي آت فيقول: أنا مريض، فيكفي أن أصلي الظهر ثلاثاً، فهل تجد فقيهاً في الدنيا يقول له: صلاتك صحيحة؟ لا والله، لماذا؟ ما السر يا فقهاء؟ لأن هذه العملية شرعها الله لتوليد النور، وذلك بمادة الحسنات المنيرة للقلب، فإذا أنت أخللت بأدائها فزدت أو نقصت بطل مفعولها ولا تنتج النور المطلوب، إذاً: فكيف تبتدع بدعة وتريد أن تزكي نفسك؟! والله ما كان ولن يكون، واسمعوا إلى قول المفسر صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا )، أي: ما أذنا فيه، ( فهو رد )، أي: مردود على صاحبه، لا ينتفع به.ونعود إلى الطواف، فلو قال قائل: هيا بنا نطوف بالحجرة النبوية سبعة أشواط؛ لأن الرسول فيها وهو أفضل من الكعبة بأكثر من مليون مرة! فهل هذا الطواف تزكو به نفسه؟ والله ما تزكو، بل تدنس؛ لأن الله ما شرعه، وعلى هذا فقيسوا كل البدع، فإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فمن ثَمَّ لا نعبد الله إلا بما بين لنا رسوله من أنواع العبادات، أما أن نخترع ونبتكر ونوجد لنا عبادة والله لا ينفع، فلا تزكي النفس ولا تطهرها، بل تخبثها وتلوثها.قال: [ لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ]، أي: جنات تجري من تحتها الأنهار، ومعنى من تحتها الأنهار، أي: من تحت القصور والأشجار.قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها -بقضاء الله وقدره- بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً ]، والله ما يخرج من الجنة من دخلها قط، أما النار فقد يخرج منها، وذلك أن العبد قد يدخل النار بذنوبه التي ليست شركاً ولا كفراً وإنما هي من كبائر الذنوب، وذلك إذا لم يغفر له ومات عليها والعياذ بالله، ولكن من أهل لا إله إلا الله الموحدين الذين لا يعرفون عبادة لغير الله، فهؤلاء قد يمكثون فيها أحقاباً ثم يخرجون منها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.قال: [ وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم، فلا يخرجون منها أبداً، وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولاً من الله تعالى ]، وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].
هداية الآية
قال المؤلف: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها ]، والسر في ذلك هو النفس البشرية لا تطيب ولا تطهر إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وليس هناك نسب أبداً، بل لو كنت ابن نبياً من الأنبياء ونفسك خبيثة منتنة فلن تدخل دار السلام، أو كنت أبا نبي من الأنبياء لا ابنه، وقد علمنا الله هذا في القرآن، فكيف حال آزر والد إبراهيم؟ في النار، وإبراهيم قد وعده ربه بأن لا يخزيه يوم يبعثون، فقال إبراهيم: يا رب! لقد وعدتني في أبي وأبي في النار، فيقال له: انظر تحت قدميك، فينظر فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ذكر ملطخ بالدماء والقيح -والضباع أسوأ منظر- فما ينظر إليه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون جهنم. فهذا أبو إبراهيم عليه السلام.وهذا كنعان بن نوح عليه السلام، إذ قال نوح عليه السلام: يا رب إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46]، فهل نفع نوح ولده؟ لا والله. وهذه الزوجة الحنونة زوجة نوح ولوط عليهما السلام، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فهذا قضاء الله تعالى، فمن لم يرض به يضرب رأسه على الحائط، إذ ليس هناك حيلة أبداً. وهذه امرأة فرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية، آسية بنت مزاحم عليها السلام، هل ضرها أن كانت تحت فرعون؟ قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، فهي في الجنة؛ لأن القضية أنه قد صدر على البشرية حكم علمناه وجهله غيره، وهذا الحكم هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فيا أيها المستمعون! هل حفظتم هذا الحكم أم لا؟ والله حرام عليكم أن تقوموا ولم تحفظوها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كيف لا ننطق بهذا؟ كيف تنسى حكماً صدر عليك وعلى أمك وعلى زوجتك وأولادك بل والبشرية كلها ولا تستطيع أن تنطق به ولا أن تبينه؟ إن هذا الحكم الإلهي قد حلف الله بأيمان ما حلفها على غيره فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، فهذه أيمان كلها من أجل ماذا؟ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ما هي مواد التزكية؟ أين توجد مواد التزكية؟ علمونا، دلونا، يا شيخ! إنها الإيمان والعمل الصالح، فأين يوجدان؟ في أي صيدلية؟ في الكتاب والسنة النبوية، فاقرأ كتاب الله تجد حقيقة الإيمان ما هو؟ وتجد العمل الصالح ما هو؟ وكيف تفعله؟ وما هي أوقاته؟ وما هي موازينه ومقدراته إن كنت تريد الفلاح، وإن كنت لا هم لك في الفلاح ولا في الخيبة والخسران فأنت كبلايين البشر من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم والعياذ بالله؟ واسمعوا إلى يمين آخر لله تعالى، إذ يقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3]. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، من خلقها وسواها؟ الله، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، أي: علمها أنواع الإيمان والعمل الصالح وصنوف الفجور والكفر والشرك، ولولا أن الله علمنا لم نعرف، فهو الذي علمنا وفهمنا التقوى ما هي والفجور ما هي، وليس معنى هذا أن النفس البشرية وحدها تستطيع أن تعرف كيف تزكي نفسها وكيف تطهرها، لا، بل لا بد من وحي وكتاب ورسول، وذلك لتعلمنا الفجور ما هو، والشرك والذنوب والمعاصي، وتعرفنا التقوى وهو عبادة الله بما شرع، ولولا أنه عرفنا ما هو الكفر وما هو الشرك وما هو التوحيد فكيف نعرف ذلك؟ فالحمد لله! لتقوم الحجة علينا فقد علمنا.قال: [ من هداية الآية الكريمة: أولاً: الإيمان الصادق ]، وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة، من شأن العالم الثاني وما فيه من نعيم مقيم أو عذاب أليم، من شأن عرصات القيامة وما فيها من حساب، وما إلى ذلك من الغيوب التي أخبر الله بها وأخبر بها رسوله، فصدقنا وآمنا، ولا نشك ولا نتردد في أي خبر من أخبار الله ورسوله، وأركان الإيمان ستة محفوظة معروفة عند الناس، ولكن مع ذلك نحن نصدق الله ورسوله في كل خبر، أطاقت عقولنا أو ما أطاقته، فإذا صح الخبر عن الله أو عن الرسول فقل: آمنت به، وقد علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يوماً في الروضة يحدث أصحابه، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فألقي إليه خبر عاجل وهو: أن فلاحاً من بني إسرائيل -ممكن في الشام أو في أي بلاد أخرى- ركب على بقرته! والبقرة ما يركب عليها إلى الآن، فهي للحرث، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! فأخذ الرسول والله بلحيته وقال: آمنت به، آمنت به، آمنت به وآمن به أبو بكر وعمر )، وهما غائبان عن المجلس، فهل عرفتم ما هو التصديق؟ بقرة تنطق وتفصح؟ عجيب هذا! لكن أُخبر به عليه السلام فقال: ( آمنت به )، ونحن: آمنا به، آمنا به، والشاهد عندنا: أن حقيقة الإيمان بالله هو تصديق الله تعالى ورسوله في كل ما أخبر به، أطاقت عقولنا أم عجزنا عن إدراكه وفهمه، وإلا فلا إيمان. قال: [ أولاً: الإيمان الصادق -لا الكاذب- والعمل الصحيح الصالح ] لا الفاسد، فالحج مثلاً عمل صالح يفسد إذا اختل أحد أركانه، وكذلك الصلاة عمل صالح تفسد إذا اختل أداؤها ونقصت شروطها، وهكذا كل عمل صالح.قال: [ هما مفتاح الجنة وسبب دخولهما ]؛ لأنهما يزكيان النفس ويطهرانها، فهذا هو السبب.قال: [ ثانياً: صدق وعد الله وصدق قوله عز وجل ]، فإذا وعد الله فلن يتخلف وعده أبداً، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق ] فيا عبد الله! ربك يصدق، ومن أصدق منه قيلاً؟ وأنت عبده ووليه أمرك بالصدق أيضاً، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكذب كذبة، والحبيب يقول: ( آية المنافق ثلاث )، أي: علامة المنافق من الرجال والنساء ثلاث، منها: ( إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان )، أي: وإذا ائتمن النافق خان، وإذا واعد أخلف، فيتلذذ بخلف الوعد، فيترك من واعده يتعذب، فإذا واعده مثلاً في الساعة الثانية ليلاً في طريقهم إلى مكة، فيعرف أنه وصل للمركز أو للمحطة وهو في بيته نائم! فهو يود ويريد أن يؤذي المؤمنين والعياذ بالله.قال: [ ثالثاً: وجوب صدق الوعد من العبد؛ لأن خلف الوعد من النفاق، لحديث: ( وإذا واعد أخلف ).رابعاً: وجوب صدق القول والحديث؛ لأن الكذب من النفاق، لحديث: ( وإذا حدث كذب ) ]. هذا والله تعالى أسأل أن يرزقنا الإيمان وصالح الأعمال، وأن يقينا الشرك والكفر والنفاق.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (65)
الحلقة (288)

تفسير سورة النساء (69)


إن من سنن الله التي لا تتحول ولا تتبدل أن من عمل سيئة جزي بها في الدنيا، ثم يوم القيامة لا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، كما أن من عمل الصالحات، وأتى بالطاعات، واجتنب المنكرات؛ فإنه يحيا حياة طيبة، ويوم القيامة يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار، يخلد فيها فلا يموت، ويسعد فلا يبأس، جزاء من عند الله الذي لا يخلف الميعاد.
تفسير قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها ونتغنى بها عدة مرات ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة والله عقدناها الآن في قلوبنا، وما كان أمراً تهيأنا للنهوض به إن كنا غير ناهضين به، وإن كان نهياً عما لا يحله الله ولا يرضى عزمنا على تركه من الآن إن كنا فاعلين، وإن كان أدباً أيضاً تحلينا به من الليلة، وإن كان خلقاً فاضلاً تخلقنا به، وإن كانا خلقاً سيئاً تخلينا عنه من الليلة، وهذا شأن طالب العلم الرباني، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:123-126]. هذا كلام الله عز وجل الذي تحدى به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، والحمد لله! أننا نتلوا كتابه ونعرف ما يريده منا ويطلبه، ونعمل من أجل أن نكمل ونسعد، فالحمد لله على ذلك، وقد حرم من هذا بلايين البشر.تأملوا يرحمكم الله! قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، أي: ليس بأمانيكم يا أهل الإسلام! ويا أهل القرآن! ولا بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كيف إذاً؟ الجواب: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، مسلماً أو كافراً، فهذه هي الحقيقة. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، تباهى أو تفاخر مجموعة من اليهود ومجموعة من المسلمين، فقال اليهود: كتابنا قبل كتابكم، وديننا قبل دينكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أفضل منكم، والجنة لنا دونكم، وقال المؤمنون: نحن أيضاً نبينا خاتم الأنبياء، وديننا خير من دينكم، وكتابنا القرآن خير من كتابكم، ومفروض عليكم أن تتبعوا نبينا وتؤمنوا بكتابنا، فأنزل الله حل هذه المشكلة فقال: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123]، يا أيها المسلمون! وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، وإنما: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، فهذه هي الحقيقة، والأماني: جمع أمنية، وهي ما يتمناه المرء في قلبه ويرغب في تحقيقه وهو صعب ليس بهين عليه، أو ما يقرره الإنسان في قلبه من رغبة في شيء وهو صعب، فهذه تسمى أمنية، فهو تمناها، فالقضية ليست بأننا من المسلمين أو أننا مسلمون أو أننا يهود أو أننا أتباع موسى أو أننا أتباع محمد، إذ كل هذا أماني كاذبة لا قيمة لها؛ لأن دخول الجنة يا معشر المستمعين والمستمعات! متوقف بعد رحمة الله على طهارة الروح وزكاتها، وحرمانها من الجنة ودار السلام لخبثها ونتنها وتدسيتها، فلم يبق معنىً للمفاخرة ولا التبجح ولا نحن كذا وكذا، إذ كل هذا لا قيمة له، فالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار متوقف لا على نسب ولا قبيلة ولا أي شيء، بل حتى ولو كنت ابن النبي أو أباه، وإنما على زكاة النفس وطهارتها، والحكم الإلهي الصارم القاطع ما ننساه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من هي؟ النفس البشرية، أما قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:7-9]؟ أبيض أو أسود أو أصفر أو في الأولين أو في الآخرين أو شريف أو وضيع، بل قل ما شئت، كل هذا لا قيمة له إلا أن تكون النفس طاهرة زكية نقية كأنفس الملائكة وأرواحهم، وهي التي تفتح لها أبواب السماء وتدخل الجنة دار الأبرار في جوار ربها جل جلاله وعظم سلطانه، فهل اقتنع المستمعون والمستمعات أو لم يقتنعوا؟ والله ما هو إلا ما سمعتم. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، والسوء هو الاعتقاد الذي يسيء ويفسد، القول الذي يسيء ويفسد، العمل الذي يسيء ويفسد، الوصف الذي يسيء ويفسد، ونعرفه من طريق كتاب الله وهدي رسوله، فكل ما يسيء إلى النفس ويخبثها قد بينه الله ورسوله، وكونك لا تسأل عنه ولا تتعرف إليه فهذا شأنك، أما الله عز وجل ورسوله فقد بينا كل ما يسيء إلى النفس ويدسيها، فحرماه وتوعدا عليه ولعنا عليه ولا يهلك على الله إلا هالك. وإليكم مظاهر هذا: الآن لو تمد يدك وتصفع أخاك الذي بجوارك لأنه ضايقك، تجز به الآن، إما بالدعوة عليك، وإما بسجنك أو تعذيبك؛ لأنك عملت سوءاً، فالآن حصل الجزاء، أو الآن تشرب ملي جرام من السم، فالآن أنت في المستشفى، فقد تم الجزاء على الفور، وهكذا في الدنيا والآخرة، أي: من يعمل سوءاً يجز به، وهذه سنة الله التي لا تتبدل، وهنا خاف الصديق لما سمع هذه الآية وهو على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف النجاة يا رسول الله! مع قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تجوع؟ ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تبتلى؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ذلك جزاؤك )، أي: السوء الذي فعلته تجز به الآن لتبقى نفسك زكية طاهرة نقية متأهلة لدار السلام، وقد كان السلف الصالح إذا عثرت بغلة أحدهم أو دابته -تعرفون عثور الدابة؟ يهتز ويتألم- يقول: عرفت أنني أذنبت ذنباً، وهذا هو الجزاء على ذلك، أو قد تغضب امرأته فترفع صوتها وتؤذيه فيعرف أنه أذنب، أو تباطأ خادمه في فعل شيء أمره به، فيعرف أنه قد أذنب ذنباً. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، وهذا في الدنيا، فالقاتل يقتل، والسارق تقطع يده، والزاني يجلد أو يرجم إن كان محصناً، وهكذا من أكل سماً أو من تعرض للبرد أو تعرض للحر فإنه يجز به، ولكن الجزاء ليس هذا، إذ الجزاء هو أن يطرد من دار السلام لينزل إلى الدركات السفلى في دار البوار ليخلد في العذاب المهين، والقرآن حمال للوجوه، فمن يعمل سوءاً يجز به في الدنيا، فهل عمل المسلمون السوء وجوزوا به؟ نعم، أما تخلوا عن القرآن الكريم وحولوه إلى الموتى والقبور؟ أما انتهى بينهم الأمن والطهر والصفاء وانتشر الزنا والعهر والباطل والتلصص والإجرام والسرقة وما إلى ذلك، ففسدت عقائدهم بالشرك والخرافات؟ هل عفا الله عنهم وسامحهم أو لاقوا جزاءهم؟ أذلوا وأهينوا واستعمروا من أقصى الدنيا إلى أقصاها، من إندونيسيا إلى موريتانيا، فحل بهم البلاء والمصائب، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].ولهذا نقول: إن العالم الإسلامي والله لمتعرض لبلاء عظيم وهم غافلون ناسون، وكأن أكلهم الربا وإشاعة الزنا والباطل والفساد والخيانة والوثنية والعلمانية لا أصل له، والله إنهم لتحت النظارة، فإما أن يتوبوا ويقيموا دين الله وشرعه ويعبدوا الله بما شرع، أو يصيبهم ما أصاب أجدادهم.وقد سئل أحدهم: أين الله؟ فأجاب قائلاً: بالمرصاد، وذلك نظراً إلى قول الله تعالى من سورة الفجر: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فدمرها وقضى عليها، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ [الفجر:9-10]، كيف حاله؟ أغرقه الله عز وجل وانتهى، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، لا بد من إسلام القلب والوجه لله، وذلك بتتبع أوامر الله فتُفعل مع كل حال وظرف، وتتبع مناهيه فتترك على كل حال وظرف، وبذلك يتم الكمال والإسعاد، أما بالنسبة أننا مسلمون فلن تجزي ولن تغني شيئاً. فهيا نتأمل! لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، كيف إذاً؟ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]، لا في الملائكة ولا في الجن ولا في البشر أبداً، بل لا بد وأن ينفذ أمر الله فيه.

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى...)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ [النساء:124]، (مَنْ) من ألفاظ العموم، فيدخل الذكر والأنثى، والعرب والعجم، والأولون والآخرون، ماذا يعمل؟ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124]، ولم يقل: من يعمل كل الصالحات؛ لأنه لا يقدر على ذلك. وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن، أما أن تتصدق بالأموال، وأما أن تصوم، وأما أن توقف الأوقاف، وأما أن تبني المشافي، والقلب خالٍ من الإيمان بالله ولقائه لا ينفع ذلك شيئاً، والآن الجمعيات التنصيرية المسيحية تعمل المشافي، وتجلب الدواء للمرضى، وتأتي بالأطباء، وتوزع الأموال، فلن تغني عنهم من الله شيئاً؛ لأنهم غير مؤمنين، أي: لأنهم كافرون، والكافر الجاحد لله عز وجل وحقه في عباده وهي عبادته وحده، والجاحد للقاء الله والوقوف بين يديه والجزاء لعباده على عملهم في الدنيا، إما بالسعادة أو بالشقاء، والكافر برسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والكافر بكتاب الله وما فيه، فهؤلاء لو عملوا ما عملوا من الصالحات فلن تغني عنهم شيئاً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال: أنه مؤمن، فالجملة حالية ضرورية، والله تعالى أحياناً يقدم الإيمان أولاً لأصالته وأهليته، وأحياناً للمناسبات يقدم العمل الصالح كما هنا، إذ دخول الجنة ما هو بالأماني، بل بالعمل الصالح، لكن والحال أن عامل الصالحات مؤمن ليس بكافر. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، يا شيخ! ما هي الصالحات؟ هل هي النساء والجواري لأن جمع الصالحات: صالحة؟ لا، فالصالحات ما أمر الله عباده أن يعقدوه في قلوبهم عقدة لا تنحل، فلو يقتل أو يصلب أو يحرق لا يتبدل ذلك المعتقد ولا يتغير، الصالحات كلمات طيبات كذكر الله عز وجل وتلاوة كتابه، وكالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصيام والحج والاعتمار والجهاد والرباط، الصالحات كل ما شرع الله لعباده أن يعتقدوه أو ينطقوا به تعبداً ويقولوه، أو يقوموا وينهضوا به ويعملوه، فذلكم هي الصالحات، فلا يستطيع أحد أن يوجد صالحة من قول أو اعتقاد أو عمل أبداً، فما جعله الله صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها هو الصالح، وما لم يصبغه الله بصبغته فهو باطل فاسد وليس بصالح.ولا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: مردود على فاعله، فمن عمل عملاً ما أذنا فيه وما شرعناه؛ فهو مردود على صاحبه، ولهذا فإن جميع البدع التي ابتدعها الناس وأدخلوها في الدين وأخذوا يتقربون بها إلى الله هي باطلة مردودة لا تعمل في نفوسهم زكاة ولا طهراً، حتى لو يبيت طول الليل وهو يقول: هو، هو، هو، حي، حي، حي، والله لا يكسب حسنة واحدة، إذ ما تعبدك الله بهذا يا عبد الله. وقد جاءني اليوم شاب بقصيدة طويلة عريضة قالوا: إنها لـحسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها شرك والعياذ بالله، فلم تكذبون على صاحب رسول الله؟ هل يعقل أنه يتوسل بالرسول ويستغيث به فيقول: يا رسول الله! مد يدك، يا رسول الله! افعل لي كذا؟! حاشا حسان وحاشا أهل القرون الأولى أن ينطقوا بهذا الكلام، لكن هذه من مظاهر الهبوط، إي والله قد هبطنا من قرون، فقد كنا في علياء السماء هداة قادة للبشرية نهدي ونقود إلى الكمال والخير، وننقذها من كل شر وفساد، فاحتالوا علينا وهبَّطونا، فلما هبطنا فعلوا بنا ما شاءوا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، فأولاً الإيمان، والإيمان هو تصديق الله جل جلاله وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به، فإن رددت خبراً واحداً كفرت ووالله ما أنت بمؤمن، إذ المفروض عليك أنه إذا بلغك خبر الله بكذا أو خبر رسوله الصحيح الثابت عنه بكذا فيجب أن تقول: آمنت به، ودائماً نحن نقول: إن هذا الإيمان هو بمثابة الطاقة الدافعة، وبيان ذلك: أن المؤمن بحق يستطيع أن يصوم في الحر الشديد، والمؤمن بحق ينقطع عشرين سنة وهو يعبد الله ما يفجر ولا يزني بامرأة ولا يتزوج زواج المبطلين أو نكاح العابثين. تعرفون مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة النبوية؟ كان في القرن الثاني بعد المائة الأولى، وشيخه يقال له: ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، وأبو عبد الرحمن والد ربيعة كان قد خرج على فرسه عشرين سنة وهو يتنقل من غزوة إلى أخرى وهم يفتحون العالم، ثم رجع بعد عشرين سنة إلى أهله، فقرع الباب وهو على فرسه، فصرخت امرأته: من هذا الذي يدخل علينا الدار؟ فقال: هذا بيتي، وهذه امرأتي! فصاح الجيران: كيف هذا؟! فقال: أنا أبو عبد الرحمن، وهذا منزلي وهذه امرأتي، وقد ترك ولده في بطن أمه أو رضيعاً، فجاء فدخل المسجد فوجد ربيعة حوله الناس يروون الحديث، وأصبح يفيض بالحديث النبوي الصحيح للعرب والعجم. وآخر يجوع فيربط الحجر على بطنه ولا يمد يده، ألا وهو أبو هريرة رضي الله عنه، فقد كان يغمى عليه من الجوع في هذا المسجد النبوي، ويأتي أبناء المدينة فيعلون على صدره ويقولون: جن أبو هريرة، ويقول: والله ما بي من جنون وإنما الجوع فقط. فهل يسرقون أو يكذبون أو يجحدون؟ لا، إذاً فهذا هو الإيمان، ما هي دعوى باللسان والقلب خالٍ وفارغ لا نور فيه، وإنما إيمان ذو طاقة دافعة تحمل صاحبها على الصبر والثبات عشرات السنين، فلا تزل له قدم، ولا يقع في معصية الجبار، فمن يقول: هل أنا مؤمن؟ من يريد أن يعرف هل هو مؤمن بحق أم لا؟ إن دعوى الإيمان دعوى عامة يدعيها كان الناس حتى البلاشفة الحمر يقولون: نحن مؤمنون، فمن منكم يريد أن يعرف هل هو مؤمن أم لا؟ أرشدكم إلى حكيم إذا وقفت عنده وسألته: هل أنا مؤمن أو لا؟ هل هو في الجزائر؟ والجواب: لا، تريد أن تعرف هل أنت مؤمن أو لا؟ إذا وجدت في نفسك حب الله وحب ما يحب الله، وهذا أولاً، وثانياً: إذا وجدت في نفسك الخوف من الله والخشية منه، فأنت والله مؤمن، فإن لم تجد في قلبك حب الله ولا حب من يحب الله، ولم تجد في قلبك خوفاً ولا خشية منه، فوالله ما أنت بمؤمن، وإنما هي دعوى باطلة لا قيمة لها، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
صفات المؤمنين الصادقين
إذاً: عرفتم المؤمن؟ هيا أعرض عليكم صورة أو شاشة بيضاء نقية من شاشات القرآن الكريم، إذ أنتم تعودتم على التلفاز والسينما، فإليكم هذه الشاشة أو الصورة الأولى، وانظر هل أنت فيها أم لا؟ إن وجدت نفسك معروضاً بينها وبين أفرادها فقل: الحمد لله، أنا مؤمن، وإن وجدت نفسك غائباً فابك واطرح وقل: علموني كيف نؤمن؟ فاسمعوا! ادعى المنافقون الإيمان في هذه المدينة، وتطاولوا وقالوا: نحن مؤمنون، فقال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ))[الأنفال:2] وهذه الصيغة معروفة، أي: إنما المؤمنون بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق.(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، كان منسوب الإيمان عنده مائة وخمسين، فإذا قرئت عليه آيات الله ارتفع منسوب الإيمان إلى المائتين وإلى الثلاثمائة، لكن إن بقي ولم يزد، إذاً ليس هناك إيمان، بل إنسان ميت يمشي على الأرض. (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، متى نعرف هذا؟ (( وَعَلَى رَبِّهِمْ ))[الأنفال:2]، لا على سواه يعتمدون ويفوضون أمرهم، هل نفضح أنفسنا؟ أحدنا قد يتوكل على وظيفة امرأته، وهذا على وظيفة ابنته، وهذا على بيع السجائر، وهذا على عمله في البنك، وهذا على مكره وحيله وخداعه، إذاً فأين التوكل على الله؟ (( وَعَلَى رَبِّهِمْ ))[الأنفال:2]، لا على سواه، (( يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2]، أي: يعتمدون ويفوضون أمرهم إلى الله، وليجوعوا وليعطشوا وليمرضوا وليهجَّروا من بلادهم، إذ كل ذلك غير مهم، وإنما المهم أنهم مع الله، (( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2].(( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ))[الأنفال:3]، إقامة حقيقية من شأنها أن تولد لهم الطاقات النورانية، فهم بذلك لا يفحشون ولا يمكرون ولا ينكرون معروفاً ولا يتنكرون لجميل، (( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ))[العنكبوت:45]، أي: المقيمين لها، المؤدين لها على أحسن وجه وأكمله وأتمه حتى تولد لهم تلك الأنوار التي تغمرهم فتتجلى في أعينهم، فإذا مر بامرأة يغمض والله عينيه ولا ينظر إليها، وإذا سمع باطلاً أغلق أذنه بأصبعيه، وإذا قُدِّم له حراماً لا يحل له تركه وأعرض عنه، فيتجلى ذلك النور في لسانه، خمسون سنة لا ينطق بسوء ولا يتكلم أبداً بفاحشة أو منكر، فهذا هو المقيم للصلاة، (( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ))[العنكبوت:45].(( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[الأنفال:3]، أي: من ذاك الذي رزقناهم من جاه أو سلطان، من علم أو معرفة، من مال صامتاً كان أو ناطقاً ينفقون طول حياتهم.(( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4] هذا الخبر من أخبر به؟ الله.(( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4]، لا ادعاءً ونطقاً، ما الجزاء؟ (( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:4] في دار السلام.معاشر المستمعين والمستمعات! فهل رأيتم أنفسكم في هذه الصورة أو هذه الشاشة؟أزيدكم لوحة أو صورة ثانية، إذ ما في القرآن إلا لوحتان أو شاشتان في هذا الباب، قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ ))[التوبة:71]، إذاً مقابل المنافقين من سورة التوبة القريبة النزول، والآية الأولى من الأنفال كجزء منها.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ))[التوبة:71]، أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق. (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71]، هل هذه الصفة موجودة فينا؟ ماذا تقولون؟ الجنسية والوطنية والقبلية والحزبية والمذهبية، كل هذه مزقت هذا الولاء، لكن كان المفروض أن المؤمن في الهند كالمؤمن في الأندلس، والمؤمن في الصين كالمؤمن في أمريكا، فالمؤمن يجب أن تحبه وأن تنصره، فمن لم يحب المؤمنين ولم ينصرهم ما هو بمؤمن، ودعواه الإيمان دعوى باللسان؛ لأن الولاء هو الحب والنصرة، فمن يكره المؤمنين ويبغضهم والله ما هو بالمؤمن، ومن يخذل المسلمين ويهزمهم ويكون عليهم لا لهم والله ما هو بمؤمن.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71]، والولاء هنا فسروه بالحب والنصرة، فالأحزاب والجماعات والمذاهب بيننا متحابون متناصرون؟ لا والله، وإنما تجد الطعن والنقد والتبغيض لبعضهم البعض، فلا إله إلا الله! لا تلمهم يا شيخ! والله ما عرفوا، فهذه هي الحقيقة، إذاً فماذا نصنع؟ يكفينا البكاء فقط، لمَ ما نعرف؟ أقسم بالله لن نعود إلى كمالنا وقيادتنا وسيادتنا وطهرنا وصفائنا إلا إذا رجعنا إلى بيوت ربنا التي بنيناها في قرانا ومدننا، وجبالنا وسهولنا، فنرجع إليها كما كان الرسول وأصحابه، وذلك كل ليلة ما إن نصلي المغرب حتى نجتمع على كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنساء من وراء الستائر، والأطفال في الصفوف كالملائكة يرعون ويراقبون، والفحول أمثالكم أمام المربي المعلم، فليلة نأخذ آية من كتاب ربنا، وأخرى نأخذ حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحال طول العمر، فوالله ليتغير حالنا إلى الأفضل.والعجيب أن اليهود والنصارى والكفار إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والمراقص والشر والباطل، والمؤمنون إلى أين يذهبون؟ دلوني بالله عليكم؟ إذاً كيف نتعلم نعرف وقد حرمنا أنفسنا من العلم والمعرفة؟ إذاً: عرفتم الآن أننا نصبح أولياء لبعضنا البعض حباً ونصرة إذا عرفنا وتعلمنا.(( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ))[التوبة:71]، فكل مواطن في القرية بوليس، وأعوذ بالله من كلمة: (بوليس)، أهي يهودية أم ماذا؟ لكن في ديننا آمر بمعروف وناه عن منكر، فأهل القرية كلهم، وأهل الحي كلهم، وأهل المدينة كلهم، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، وبالتالي فلا نحتاج إلى بوليس وشرطة، إذ كل مؤمن شرطي وبوليس، والمؤمن بحق هل يرضى بمنكر يشاهده في أخيه ويسكت عنه؟ والله ما كان ولن يكون، والمؤمن بحق يرى أخاه ترك معروفاً ليبعد عن رحمة الله، فهل يرض بهذا ويسكت عنه؟ والله ما يسكت.فانظر قوة الأمن عشرة آلاف رجلاً، وقوة الأمن الرباني كل البلاد بملايينها، (( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))[التوبة:71]، فهؤلاء هم المؤمنون.مرة أخرى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))، وهذه صفة أولى، (( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ))، صفة ثانية، (( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ))، صفة ثالثة، (( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))، صفة رابعة، (( وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))[التوبة:71]، ما الطريق يا شيخ؟ أن تعود الخلافة؟! هذه أحلام باطلة وكاذبة، والآن المستمعون يراجعون قلوبهم، هل هذا الكلام سرَّهم وأثلج صدورهم أم هم كما عهدنا أنفسنا من قرون؟ دعه يقول: هذا كلام فارغ، هذه دعوة إلى الرجعية! كيف نجتمع في البيوت؟ لم تجتمعون في المقاهي والأباطيل والترهات؟ كل ما نقوله: نريد أن نسكن السماء؟ إن سكنان السماء تتطلب اجتهاد في طاعة الله تعالى، إذ كيف نخترق السموات السبع إن لم نزك هذه النفوس ونطيبها ونطهرها، وذلك بالإيمان والعمل الصالح؟!وصلى الله على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:20 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (66)
الحلقة (289)

تفسير سورة النساء (7)


لما تقتضيه المواريث من أهمية عظيمة في حفظ حقوق الأفراد المالية فقد تكفل الله عز وجل ببيان تفصيلها، ولم يترك ذلك لاجتهاد أحد، وقد بين سبحانه في هذه الآيات الكريمات صفة التوارث بين الآباء والأبناء، فذكر من الأحكام المتعلقة بها أن نصيب الذكر كنصيب الاثنتين من النساء، وأن ولد الولد حكمه كحكم الولد في الحجب، وأن الأب يأخذ فرضه ابتداء مع أصحاب الفرائض، وما زاد يأخذه بالتعصيب.
فضل حضور حلقات العلم
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل والليالي الثلاث بعدها؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).الحمد لله على إفضال الله، الحمد لله على إحسانه، الحمد لله على آلائه وإنعامه، فزتم بها، فهنيئاً لكم، ومن أراد أن ينظر فليقف وينظر الحلقة، هل فيها صخب؟! ضجيج؟ خصومات؟! التفاتات؟! لا شيء؛ لأن السكينة نزلت، والرحمة كذلك. انظر! هل ترى مظهراً من مظاهر العذاب؟ لا شيء.والملائكة تحفنا والله العظيم! لكن عجزنا البصري ما مكننا من النظر إليهم فقط؛ لأننا عاجزون، والقوة التي أعطاناها ربنا في أبصارنا محدودة الطاقة.وتبقى الرابعة، وهل الذي أعطى الثلاث يحرم الرابعة؟ الرابعة: أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى، حاشاه ألا يذكرنا، ومن ذكره الله أكرمه وأعزه وأسعده. الحمد لله! بم نحصل على هذه الفضائل؟ والله لا نقدر على تحصيلها بحال من الأحوال لو أنفقنا العمر كله!
فضل تعلم علم المواريث
معاشر المستمعين! تعرفون أن علم الفرائض يعتبر العلم الثالث، وإليكم ما ورد في هذه القضية.أولاً: هذه الآيات من سورة النساء انتهينا إليها، وهي الآية الأولى، ثلاث آيات فقط اشتملت على علم الفرائض.هذه الآية مبينة لما أجمل في آية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ [النساء:7] من منكم يذكر ما قلناه في آية سبقت: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]؟تذكرون سبب نزولها؟ أم كحة ماذا فعلت؟ أخو زوجها جاء يريد أن يأخذ المال، فرفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، ففرض فيها للنساء نصيباً كما للرجال، أما العرب في الجاهلية فقالوا: المرأة لا تدفع مكروهاً ولا تحمل سيفاً، فأي شيء تأخذه من التركة؟ لا شيء، والطفل الصغير كذلك لا يدفع عن قبيلة ولا يأتي بخير، إذاً: فلما مات هذا الرجل وترك ابنتين ووالدتهما تسمى أم كحة ، جاء أخوه من أبيه ليأخذ المال كله، قالت: لا، بناته، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكي إليه أمرها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7] فأثبتت إرث النساء والأولاد والرجال، هذه الآية مجملة، نحتاج إلى آية تبين هذه الأنصبة، هذا النصيب كم وما هو؟ فجاءت هذه الآيات الثلاث تبين هذا النصيب.فنريد أن ندرس دراسة عملية وهي: أن نحفظ الآية، والذي ما يحفظها الآن يحفظها في البيت، وغداً إن شاء الله يأتي وقد حفظها، بحمد الله إذا صدقنا في الطلب ما تنتهي هذه الليالي الأربع إلا وكلكم فرضي. وتسمى هذه الآية آية المواريث، وهي من أعظم الآيات قدراً؛ لأن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود وغيره قال: ( العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل ) أي: زائد. تعرفون الفضل أم لا؟ تتغدى ويبقى شيء من الطعام فهو فضل. [ ( العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل ) ما هي هذه الثلاثة؟ قال: ( آية محكمة ) أي: غير منسوخة؛ لأن القرآن فيه آيات منسوخة وهي معدودة ومعروفة عند أهل العلم؛ لقول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106].( أو سنة قائمة ) ما نقول فيها شيء، هذا يقبل وهذا يردها، بل قائمة والمسلمون في ظلها يعملون. والثالثة: ( فريضة عادلة ) ما هي فريضة الصلاة ولا الزكاة، فريضة عادلة وهي ما وهب الله وأعطى عباده من قسمة التركات. العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنة قائمة ما هي منحرفة ولا مشكوك فيها، وفريضة عادلة، وقد تولى الله عز وجل بنفسه قسمة المال، ولا توجد قسمة مالية تولاها الله إلا الفرائض، فسبحان الله العظيم! فلهذا الذي يمنعها معناه: أعلن الحرب على الله، أو ادعى أن الله لا يعلم، أو ليس الله بأرحم أو ما هو بأعدل، فهذه قسمة قسمها الله عز وجل.
تفسير قول الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم ...)
يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وهذه الآية مع طولها نجتهد أن نحفظها ونفهم معناها. ‏
معنى قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين ...)
يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] فهما تأخذان كل واحدة منهما ألفاً وهو يأخذ ألفين. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] هذه الخطوة الأولى إلى دار السلام.
معنى قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين ...)
ثانياً: قال: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] ما في ولد ذكر فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] فوق اثنتين، ثلاث أربع أو خمس أو عشر أو سبعين امرأة هذا شرط فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ترك ثلاثين ألف لهما عشرون، ترك ثلاثة لهما اثنان والواحد يبقى للورثة، عم وأخ وابن أخ، والورثة الذكور، العصبة. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ثلث الثلاثة كم؟ واحد. وثلثاها كم؟ اثنان. وهكذا. فَإِنْ كُنَّ [النساء:11] أي: المتروكات اللاتي مات الوالد عنهن فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً [النساء:11] بنات ونساء على حد سواء فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11]؛ لأنها لو كانت واحدة فلها النصف، لكن إن كن اثنتين أو عشر فلهما الثلثان. ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ترك ثلاثين بقرة فلهن عشرون بقرة، وعشرة لأبناء الإخوة ولأصحاب الفريضة أو العصبة.قال: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء:11] ما ترك اثنتين ولا ثلاث، بل واحدة وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11] هلك هالك وترك ابنة وأبناء أخ مثلاً، فهذه البنت لها النصف، والنصف للعصبة. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بماذا؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] قاعدة عامة، فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11] ولو كان ملياراً. وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11] يا عامي! وكلنا عوام تشجع وأعد الكلمة وكررها، فإنك تفهمها وتحفظها، ما تقول: أنا ما أقرأ ولا أكتب! آلاف من الصحابة لا يقرءون ولا يكتبون وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] ولأبويه. وهل للإنسان أبوان؟ أم وأب، من باب التغليب تقول: القمران، أي: الشمس والقمر، والعمران أي: أبو بكر وعمر من باب التغليب.
معنى قوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس ...)
قال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء:11] أبوي الهالك الميت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] الهالك الأول ماذا فعل؟ هذا ترك ذكوراً وإناثاً وأعطاهم الله للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن ترك نساء فقط فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فالنصف، ولأبويه -الآن أمه وأباه- السدس مما ترك إن كان له ولد، هلك الهالك وترك أولاداً، وترك أمه وأباه، الأولاد يرثون الذكر مثل حظ الأنثيين، وأمه وأباه يعطيان لكل واحد منهما السدس، الأب له السدس، والأم لها السدس. لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] أم لا؟ هو الهالك من أول آية واحد، الميت واحد أم لا؟ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] مات الرجل وترك أولاداً بنين وبنات، كيف القسمة؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً [النساء:11] ما في أولاد؟ فلهن الثلثان مما ترك، وإن كانت بنتاً فقط فلها النصف، ولأبويه إن كان له ولد لكل واحد السدس، إذاً: مشينا إلى العلم ووصلنا. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان للأب. مات زيد وما ترك ولداً ولا بنتاً، ولكن ترك أمه وأباه، كيف يقتسمون التركة؟ للأم الثلث، والأب الباقي وهو ثلثان.إذاً: يقول تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] ذكر، أنثى، كبير، صغير، لا تلتفت إلى هذا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ [النساء:11] ماذا؟ الثُّلُثُ [النساء:11] والثلثان الباقيان للأب. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] فهذا الولد الذي ورثه أبواه إن فرضنا له إخوة فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] . كانت تأخذ الثلث والزوج الثلثان، ولما ترك الهالك هذا ولداً أو أولاداً فإنها تأخذ السدس فقط. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] إخوة عدد فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النساء:11] كذا. ولماذا؟ قالوا: لأن الأم لا تنفق على إخوة الميت؟ ومن ينفق عليهم؟ والدهم.إذاً: فالوالد الآن أولى بهذا الثلث، فالأم تأخذ السدس فقط والباقي يأخذه الأب، لم؟ لأن الأم لا تنفق على إخوة من مات، الذي مات ترك أمه وأباه وترك إخوة له أم لا؟ من ينفق على هؤلاء الإخوة؟ الأب لا الأم؛ فلهذا العادل الرحيم قال: خذي السدس للبركة فقط، وأما الزوج الأب فإنه يأخذ الباقي.قيل: سر حجب الإخوة لأمهم من الثلث إلى السدس هو: أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم، من يزوجهم؟ وينفق على زواجهم؟ الأب، هو الذي ينفق عليهم دون أمهم، وهو رأي حسن، قالوا: ما السر؟ الله حكم، إن أحببنا أن نعرف السر ما هو، لماذا كانت الأم تأخذ الثلث؟ والآن لوجود الإخوة واحد أو أكثر أخذت السدس؟ فما سر هذه القضية؟ الجواب: الأب هو الذي ينفق على أولئك الأولاد، وإذا كبروا هو الذي يزوجهم، والأم لا تفعل شيئاً، إذاً: تحمد الله وتأخذ السدس.

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:21 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دين ...)
قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].هذا تعقيب: فلا تقسم التركة على النحو الذي عرفنا إلا من بعد إخراج الوصية، إذا الهالك أوصى بوصية، عليه دين فلا تقسم التركة حتى يسدد الدين. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] ملاحظة قيمة هذه أم لا؟ مات فلان اتركوا المال، ابحثوا. هل وصى لشيء؟ قالوا: وصى لفلان بعشرة نوق، أعطوا العشر النوق والباقي يقسم، أوصى بمليون ريال للمسجد أو لفلان، أولاً: يخرج الوصية والباقي يقسم.إذا لم يكن هناك وصية لكن يوجد دين: لفلان ألف، ولفلان عشرة ألف، ولفلان خمسون. قبل قسمة التركة يجب أن تسدد الديون.هل طبق المسلمون هذا؟ الحمد لله، هذا مطبق، ما استطاعوا يجابهون الله في هذه. كيف؟ معناها: كفروا. اسمع. مِنْ بَعْدِ [النساء:11] أي: ذلك الذي بينه تعالى بعد التقسيم من بعد وصية يوصى بها أو دين.
معنى قوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً)
وأخيراً: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] ختم عجيب هذا! لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] إذاً: فارض بقسمة الله، وأعط من أعطى الله، وامنع من منعه، آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] كم من إنسان يظن فلاناً أكبر نفعاً منه، ويصبح عدوه ويؤذيه. فَرِيضَةً [النساء:11] من فرضها؟ من قدرها؟ من قننها؟ الله، إِنَّ اللَّهَ [النساء:11] كان وما زال عَلِيمًا [النساء:11] بخلقه وحاجاتهم وشئونهم، حَكِيمًا [النساء:11] في تصرفاته وإعطائه ومنعه، فما على المؤمنين إلا أن يطأطئوا رءوسهم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] واضح هذا عندكم أم لا؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11] وهل للإنسان أبوان؟ أبوان أي: أم وأب، أب وأم. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11] لأن الهالك ترك أولاداً.قال: إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] أما إذا الهالك ما له ولد فتبقى القضية كما هي، الأم لها الثلث، والأب له الثلثان. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] والباقي ثلثان للأب. فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] فقط مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] فوق اثنتين ثلاثة أم لا؟ أربعة خمسة إلى التسعين إلى ما لا حد له، فوق الاثنتين يعني: اثنتين فما فوق. فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ [النساء:11] يعني: اثنتان وفوقهما، لو قال تعالى: فإن كن نساء فوق واحدة هذه العبارة ما هي لائقة وما هي سامية، بربرية هذه! لكن فوق اثنتين، اثنتان ثلاثة أربعة خمسة إلى ما حد له فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ [النساء:11] ماذا؟ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] حجبت مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]. أي: فرض الله هذا فريضة.
مناقشة في بعض مسائل المواريث
أسألكم، والله يفتح عليّ وعليكم:إن مات رجل من رجال المؤمنين؛ لأن الكافر لا يرث ولا يورث، (الكافر لا يرث ولا يورث)، هذا حديث في الصحيح، إجماع الأمة: الكافر لا حظ له في التركة، وإن مات المؤمنون لا يرثونه.مات رجل من المؤمنين، وترك أولاداً بنين وبنات، -الأولاد: بنين، وبنات- كيف نقسم التركة عليهم؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، بلا خوف ولا وجل، للابن حظ اثنتين أو بنتين.هلك رجل آخر وترك بنات فقط، متزوجات أو صغيرات، نساء فوق اثنتين، كيف تقسمون؟لهما الثلثان، والباقي للعصبة، ما هي اللفظ القرآنية التي قالت هذا؟ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وإن كان ما ترك إلا بنتاً واحدة، فلها كما دلت الآية على هذا وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، خطوة عظيمة هذه.هذا الهالك الأول ترك أولاداً بنين أو بنات، الثاني: ترك نساء فقط، الثالث: ترك بنتاً واحدة، أعطيناها النصف، وهذا الرابع، خلف أيضاً أبويه مع الأبناء.لكل من الأبوين السدس والباقي للأولاد بنين أو بنات: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، كلمة السدس، تعني ماذا؟ واحد من ستة.ما هي الآية التي قالت هذا؟ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، فإن لم يكن له ولد وورثه أمه وأبوه فقط؛ فالأم لها الثلث والأب له الثلثان؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وستأتي قضية أخرى فيها الثلث الباقي، ما تستطيع تأخذ ثلث على الحقيقة للازدحام.هلكت هالكة وتركت زوجها وأمها وأباها، الزوج له النصف كما سيأتي، والنصف الباقي كيف يقسمه الأم والأب؟الأم لها الثلث والأب له الثلثان.وهنا: النصف أخذه الزوج، النصف الباقي يقسم على ثلاثة، الأم تأخذ ثلث الباقي، والأب يأخذ ثلثين.أي نعم، هذا يسمى الثلث الباقي.أولاً: يأخذ الأب ثلثين، والباقي ثلث تأخذه الأم، والحقيقة هذا نصف التركة، نصف التركة بكاملها قسمناها على ثلاثة، فالظاهر أخذت ثلث، والحقيقة ما هو ثلث من التركة، الثلث الباقي.فإن كان هذا الهالك له إخوة؛ هلك هالك وترك أمه وأباه وإخوته، كيف تقتسمون التركة؟ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] سواء ترك ولد أو أكثر لِم؟ يحجبها ابنها، يمنعها من الثلث؟ يطلع بها إلى السدس؟ إي نعم؛ لأن الوالد يتحمل نفقة الأولاد، وهي لا تتحمل شيئاً.إذاً: يكفيها السدس، ومن الذي قسم هذه القسمة العادلة؟ الله، الآية الكريمة تقول: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، كيف نفعل بالوصية والدين، نقدم أو نؤخر؟نقدم الدين؛ لأن الوصية لله والله بر رحيم، وقد يكون صاحبها ميت أو مسجد، وصاحب الدين يبدأ يدعو على الميت بالهلاك والعذاب، وإن قدمت الوصية في الآية؛ لعلم الله تعالى بأن أصحاب الديون ما يسكتون أبداً لا يضعون، طبعهم على هذا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله له: [ معنى الآية الكريمة:هذه الآية الكريمة وهي الحادية عشرة من سورة النساء، وهي: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ .. [النساء:11] إلى آخر الآية.والتي بعدها الثانية عشرة، وهي قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12].. إلى آخرها، نزلت في تفصيل حكم الآية السابعة، والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين ]، هذا عرفناه من قبل.قال: [ فالآية الأولى وهي الحادية عشرة، بين تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء، فقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، أي: في شأن أولادكم. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً، فإن التركة تقسم على أساس أن للذكر مثل نصيب الأنثيين، فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة دنانير، فإن الولد يأخذ دينارين والبنت تأخذ ديناراً، وإن ترك بنات اثنتين أو أكثر، ولم يترك معهن ذكراً -أي: ولداً- فإن للبنتين فأكثر الثلثين والباقي للعصبة، إذ قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ [النساء:11]، وإن كانت بنتاً واحدة، فإن لها النصف والباقي للعصبة، وهو معنى قوله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، وإن كان الميت قد ترك أبويه -أي: أمه وأباه- وترك أولاداً ذكوراً أو إناثاً، فإن لكل واحد من أبويه السدس، والباقي للأولاد -أولاد الميت- وهو معنى قوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11] -فأكثر- يريد ذكراً كان أو أنثى، فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد ].هذه جديدة: ولد الولد ينزل منزلة الولد في الحكم فيما يأخذ وفيما يمنع ويحجب، ابن الابن: إذا مات الابن وترك ولده، هذا الولد يقوم مقام أباه في الحجب وفي العطاء.قال: [ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]، يريد ذكراً كان أو أنثى، فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، وإن كان له إخوة اثنان فأكثر: فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] . هذا معنى قوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] أي: تسقط من الثلث إلى السدس، وهذا يسمى بالحجب، فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس.وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى بعد قضاء دين الميت وإخراج ما أوصى به، إن كان الثلث فأقل ]، الوصية بأكثر من الثلث لا تصح، أبداً.[ الثلث فأقل، وهو معنى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].وقوله تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] معناه: نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله، ولا تحاولوا أن تفضلوا أحداً على أحد، فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم، ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة، فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي، عليم بخلقه، وبما ينفعهم أو يضرهم، حكيم في تدبيره لشئونهم، فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم ].معشر المستمعين والمستمعات! اسألوا الله أن يشرح صدوركم وينور قلوبكم!
هداية الآيات
قال: [ هداية الآية الكريمة: أولاً: إن الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغير منها شيئاً.ثانياً: الاثنتان يعتبران جمعاً ] الاثنين يعتبر جمع كما تقدم.[ ثالثاً: ولد الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.رابعاً: الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض، وما بقي يرثه بالتعصيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) ].أتعبناكم الليلة، وغداً إن شاء الله نحاول مرة ثانية.وصلى الله على نبينا محمد.




ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:22 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (67)
الحلقة (290)

تفسير سورة النساء (70)


تفاخر قوم من اليهود ونفر من الصحابة كل يقول إن دينه هو الدين الحق، فأنزل الله هذه الآيات مبيناً أن الحق لا يكون بالتمنيات والادعاء فقط، ولكن لابد أن يصدق ذلك العمل، فمن عمل الأعمال الصالحة من التوحيد الصادق والطاعات جزي به في الدنيا، ومن عمل الأعمال الطالحة جزي بها أيضاً، وكانت ولاية الله متحققة لأهل الصلاح، محجوبة عن أهل الفساد، لأن سنة الله في تأثير العمل والكسب على مصير الإنسان لا تتبدل ولا تتخلف.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة النساء
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن ما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، ومع هذه الآيات الأربع، فأعيد تلاوتها وتأملوا واذكروا ما علمتموه البارحة منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124]، والنقير الذي لا يظلمه المؤمن العامل للصالحات هو أصغر شيء، والنقرة في ظهر النواة تسمى النقير، فنواة التمر فيها نقرة في وسطها، فمثل تلك النقرة لا يظلمها العبد المؤمن العامل الصالحات. وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:125-126]، فالله محيط بكل شيء، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فكل شيء الله محيط به، فالسموات مطوية طي الصحيفة في يده، والأرض في قبضته، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، فليخافوه وليرهبوه، لكنهم ما استطاعوا؛ لأن العدو كبّلهم وقيدهم، فلم يستطع أن يَرهب المؤمن ربه ويخافه فيعبده ويستقيم على عبادته إلا من نجاه الله من العدو، ألا وهو إبليس عليه لعائن الله، وقد سمعنا البيان السابق منه الذي واجه به الرب تبارك وتعالى، فماذا قال لتعرفوا الحقيقة؟ قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ [النساء:117-118]، أي: الشيطان، لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:118-119]، فلا تظنوا أنكم أحرار في هذه الدنيا، بل إن هناك عدواً قد أخرج أباكم وأمكم من دار السلام، وها أنتم تعيشون لاجئين على هذه الأرض، وداركم الحقيقية والله ما هي هذه، وإنما هي دار السلام في الآخرة.
الجزاء على العمل سنة من سنن الله التي لا تتبدل
نعود إلى الآيات بإيجاز، ثم ندرسها دراسة أخرى في التفسير، فأولاً: تذكرون أن مباهاة ومفاخرة تمت بين المسلمين واليهود في المدينة، فادعى اليهود أن دينهم هو الحق، وأنهم على الحق، وأن كتابهم أول كتاب وأعظم كتاب، ونبيهم قبل نبينا، وقال المسلمون مثل ذلك، وورد أن بعض النصارى ولعلهم من نجران قالوا مثل ذلك، فأنزل الله قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، إذاً: كيف يا رب؟ قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان أبيض أو أصفر، عربياً أو عجمياً، يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً، وهذه سنة الله عز وجل، فاشرب السم وانظر هل تموت أم لا؟ وأدخل الإبرة في جسمك وانظر هل تتألم أو لا؟ وقل كلمة سوء في أحد واسمع كيف يردها سباً وشتماً؟ وهذا في الدنيا، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، سواء كان من المسلمين أو من اليهود أو من النصارى، وهو حد فيصل، فما بقيت أمانٍ ولا أحلام ولا تمنيات، وهذا قضاء الله وحكمه، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا [النساء:123] يتولاه وَلا نَصِيرًا [النساء:123] ينصره أبداً.
ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124]، والصالحات هي الأعمال والأقوال والاعتقادات التي وضعها الله لتحمل مادة الطهر والصفاء إلى الروح البشرية، فالذي أوجد مادة الغذاء في التمر واللبن والفواكه والخضار وحرم ذلك في التراب والحجارة والصخور، فتأكل التمر فتتغذى، لكن إن أكلت الرمل والتراب لا تتغذى، إذاً: فما من عقيدة قال الله: آمنوا بها واعتقدوها، ولا قولاً أمر الله بقوله أو استحبه، ولا فعلاً أمر الله به إلا وهو والله من الصالحات، والعكس: ما حرم الله ولا منع اعتقاداً ولا قولاً ولا عملاً إلا وهو سيئ يسيء إلى النفس ويفسدها ويخبثها حتى تصبح كأرواح الشياطين، وهذا قضاء الله تعالى.وقد عرفتم الحكم الصادر علينا من قبل ذي الجلال والإكرام، وأنه لا معقب لحكمه، أي: ما فيه محكمة عليا تستأنف القضايا، إذ قال بنفسه من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، فما هو هذا الحكم؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وكن أباً لمن شئت، ويا مؤمنة كوني امرأة من شئتِ، إذا لم تزك نفسك والله ما نفعكِ ذاك الانتساب إلى أب صالح، أو ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، أو زوج من الصالحين، والذي يشك في هذا ما عرف الإسلام بعد. قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] من؟ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، من هي التي نزكيها؟ النفس البشرية، وَقَدْ خَابَ [الشمس:9] وخسر من؟ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].فهل عرفتم بم تزكى النفس البشرية؟ أو ما هي المواد التي تزكي النفس البشرية؟ والجواب: بالإيمان والعمل الصالح، إذاً فمن يعلمنا؟ من يعرفنا كيف نستعمل الصالحات في تزكية أنفسنا؟ والجواب: اطلب تجد، زاحم العلماء بركبتيك وتعلم، أو تريد أن تقول: أنا مسلم وتصبح عالماً، كيف تعبد الله؟ مستحيل، إذ لا يوحى إليك وما أنت بنبي، بل لا بد وأن تعرف كيف تستعمل الصالحات حتى تزكي بها نفسك، ويجب أن تعرف أيضاً المفسدات للنفس وتبتعد عنها وترحل من ساحتها، وتهجر حتى ديارها، وذلك إن كنت تريد أن تنزل دار السلام، أما إن كنت تريد أن تهبط إلى أسفل سافلين فما أكثر الهابطين. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، وبالأمس عرفتم أن النصراني قد يبني المشافي، ويوزع الأدوية والأكسية والأطعمة في الشرق والغرب، لكن والله لا يجد حسنة واحدة يوم القيامة؛ لأنه كافر غير مؤمن. وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أما من كفر بالله وبرسوله ولقائه، فكيف تقبل أعماله الصالحة؟! فَأُوْلَئِكَ [النساء:124] السامون الأعلون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، أي من حسناتهم وأعمالهم، فإياك أن تفهم أنك تظلم حسنة واحدة، بل معشار حسنة، إذ حسناتك مدونة ومسجلة، فاعمل ما شئت طول حياتك وثق بأنك لا تبخس ولا تنقص من حسناتك شيئاً، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
فضل الإسلام على سائر الأديان
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا [النساء:125]، لما عرفنا بطلان دعوى اليهود والنصارى وحتى دعوى المسلمين باللسان، جاء البيان الحق ليقرر ألا دين إلا الإسلام؛ إذ هو دين الأنبياء إبراهيم فمن دونه، ونوح فمن دونه إلى خاتم النبيين، فلا نصرانية ولا بوذية ولا مجوسية ولا يهودية، وإنما الإسلام فقط، فما الإسلام إذاً؟ الإسلام أن تسلم قلبك ووجهك لله تعالى، فتقول: يا رب! أنت الذي وهبتني قلبي ووجهي فخذهما؛ لأن (أسلم) فعل ماض مضارعه (يسلم)، يقال: أسلمت الدار الفلانية لفلان، بمعنى: سلمتها إليه، ويقال: أسلم الشيء، أي: أعطاه.إذاً يقول الجبار تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ [النساء:125]، لا وجود له، مِمَّنْ [النساء:125] أي: من عبد أبيض أو أسود، أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] أيضاً، حَنِيفًا [النساء:125]، فهذه ثلاثة قيود، فهل تريد أن تعرف من أحسن ديناً من الناس؟ من يرغب في أن يعرف من أحسن دين في البشرية؟ فالجواب: أن تقول: أحسن ديناً في الناس من أسلم وجهه لله، وذلك بأن لا ينظر إلا إلى الله، فقلبه ووجهه مقبل على ربه، بل كل حياته موقوفة على الله تعالى، فليأكلن من أجل الله، وليشربن من أجل الله، وليبني المنزل ويهدمه من أجل الله، ولينام ويستيقظ من أجل الله، وليتزوج ويلد من أجل الله، فكل شيء أعطاه لله، فهذا هو المسلم الحق.وإن قلت: يا شيخ! كيف هذا؟ يأكل من أجل الله؟! إي نعم، لما يوضع الأكل بين يديه يقول: باسم الله، ولولا أنه أذن له فيه ما أكله، كما أنك ناوٍ أن يأكل ليتقوى بالأكل أو لتستمر حياته على طاعة الله وعبادته، وكذلك لما يحرث ويرمي البذرة من أجل أن يوفر قوتاً له ليعبد الله عز وجل، ويبني هذا المنزل ليستر فيه نفسه وأسرته، وذلك حتى لا يؤذي المؤمنين ولا يؤذونه، ويطلق امرأته لله؛ لأنها مظلومة ما سعدت معه، بل تأذت وما أطاقت المكث معه، فهذه أمة الله طلقتها لأجل الله.فحياة المؤمن الحق كلها موقوفة على الله تعالى، وذلك إن أراد أن يكون أحسن الخليقة ديناً، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أي: في أداء تلك العبادات، حتى لو كانت ذكراً لله فيجب أن تحسن هذا الذكر فضلاً عن الأعمال التي هي بالأركان والجوارح؛ لأنك إذا أسأت في العبادة ما أنتجت لك النور ولا التزكية المطلوبة، فإذا قام وتوضأ فغسل رجله اليمنى ثم مسح رأسه ثم تمضمض، فماذا يقول له الفقيه؟ أعد وضوءك؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فلا بد من إحسان العمل والقول، فتأتي تذكر الله فتقول: الله، لا إله! الله، لا إله! لا ينفع هذا، بل قل: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، كذلك تقول: الله، سبحان! ما تنفع، بل قل: سبحان الله، ولذلك الذي لا يحسن صلاته ولا صيامه ولا جهاده ولا صدقاته ولا أذكاره، فإنه يعمل بلا ثمرة ولا نتيجة، وقد علمنا في البارحة كلمة الرسول الباقية الخالدة: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: من عمل عملاً ما أمرنا به، ما أذنا فيه، ما شرعناه، فهو مردود على صاحبه، ولا يقبله الله ولا يثيب عليه ولا يجزي به.

يتبع

ابوالوليد المسلم 06-05-2021 03:22 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
التسليم لله وإحسان العمل هو سبيل الوصول إلى الله
إذاً: أسكتَ الله كل من ادعى أنه على الدين الحق، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، أي: ووحد الله في عباداته كلها، عقائد وأقوالاً وأفعالاً؛ لأن ملة ودين إبراهيم قام على أساس ألا يُعبد إلا الله، فهو مال عن كل العبادات، وأعرض عن كل الآلهة والباطل إلى الحق فقط.واستعرضوا مواقف إبراهيم في القرآن، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهذا رد على اليهود والنصارى لما ادعوا أنهم على ملة إبراهيم، وأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، إذ أين اليهودية والنصرانية؟ بينهم وبين إبراهيم أكثر من ألفين سنة، لكن أكبتهم الله وأخزاهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذ ما كانت اليهودية إلا على عهد موسى، فكيف كان إبراهيم يهودياً أو نصرانيا؟ فهذه ردود الله تعالى على دعاوى اليهود والنصارى.والشاهد عندنا هو قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28].فإبراهيم كان حنيفاً مسلماً ووالله ما كان من المشركين، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فأولاً وقف حياته على الله عز وجل، فلا يتزوج إلا لله، ولا يطلق إلا لله، ولا يطلب وظيفة إلا لهه، ولا يترك وظيفة إلا لله تعالى.واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهذه الآية قد سميناها آية الوقفية، إذ إن حياة المؤمن وقف على الله تعالى، وكما قدمنا ازرع واحصد من أجل الله، وابن واهدم من أجل الله؛ إذ حياتك كلها لله، وهكذا أمر الله رسوله أن يعلنها ليتبعه أتباعه والمؤمنون به، إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها كل العبادات، وَنُسُكِي [الأنعام:162] كذلك، وإن كان المراد به الذبح لله، فكل العبادات نسك؛ لأنها تطهر النفس وتزكيها، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، هل بقي شيء؟ لا، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أتدرون ما الإحسان؟ هل الإحسان يعني التصدق على الفقراء والمساكين؟ اليهود والنصارى يتصدقون! إذاً ما هو الإحسان؟ الإحسان فسره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: ما الإحسان يا رسول الله؟ فقال: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، فإن عجزت ولم تكن تراه فلتعلم أنه يراك، فهاتان مرتبتان، الأولى عليا والثانية دنيا، فإن عجزت عن الأولى فلا تفوتك الثانية، فإذا توضأت وكأنك تنظر إلى الله لينظر إلى وضوئك كيف يتم، ولما تكبر وتدخل في الصلاة صل كأنك تنظر إلى الله وأنت تصلي أمامه، فلا تستطيع أن تلتفت بعينك وأنت مع الله، ومن ثم تحسن أداء العبادة، ولا تغشها ولا تدخل فيها ما ليس منها، والذي يدخل العبادة وليس من هذا النوع فلن يستفيد شيئاً.( أن تعبد الله كأنك تراه )، لما يختبرك المعلم كيف يكون حالك ساعة الاختبار؟ تجتهد في أن تؤدي ذلك العمل على ما يحب هذا المختبر، وذلك خشية أن تخيب وتخسر، ولذلك لو عرفنا هذا وكنا من أهله ما نزلنا من علياء السماء إلى هذه الأرض.قال: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، أي: مائلة عن كل ألوان الباطل وصنوف الشرك والضلال إلى الحق المبين وهو عبادة الله وحده، وأخيراً: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وما دام الله قد جعله خليلاً له إذاً فملته من أكمل الملل وأعظمها؛ لأن الله اتخذ صاحب هذه الملة خليلاً له.
إخبار الله سبحانه عن سعة ملكه وعلمه وقدرته
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:126]، لا تفهموا أن الله محتاج إلى إبراهيم، فلهذا صاحبه وأحبه واتخذه خليلاً! والخليل من تخلل حبه قلب المحبوب، فإبراهيم تخلل حبه قلبه، والدليل على أن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً لحاجته إليه وافتقاره إليه: أن له ما في السموات وما في الأرض، والذي يملك ما في السموات والأرض يزاحمك على غرفة أو على سيارة؟! وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، احتراس من أن يقال: إذاً الله في حاجة إلى إبراهيم، فقد اتخذه خليلاً له ليعينه أو يساعده، فهذا الكلام باطل؛ لأن الله ليس بعاجز وليس بمحتاج أو فقير، بدليل أن له ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء محيط؛ لعظم ذاته وقدرته.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
والآن بعدما درسنا هذه الآيات فهيا نسمعها من التفسير؛ ليتأكد علمنا الذي علمناه بإذن الله تعالى.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ روي أن هذه الآية: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا ] والملاحاة: كلمة من هذا وكلمة من هذا، قال: [ فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق، فحكم الله تعالى بينهما ]، أي: اختصما فحكم الله بينهما، [ بقوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، أيها المسلمون، وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ]، وإنما مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].قال: [ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية ] هو [ أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية، فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه، فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار، والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار ويبعدها عن مجاورة الفجار ]. مرة أخرى، قال: [ وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي ]، ما معنى الكسب الإرادي؟ أن تعمل العمل وأنت واع لست بسكران ولا مجنون ولا نائم، أما الخطأ والنسيان والنوم والجنون فلا يؤاخذ به الإنسان إن عمل عملاً، فالكسب الإرادي هو الذي يسلب إرادتك.قال: [ في تأثير الكسب الإرادي على النفس ] بماذا؟ [ بالتزكية أو التدسية ] فإذا كانت الكلمة طيبة أنتجت حسنة، وإن كانت الكلمة خبيثة أنتجت سيئة، وكذلك كل حركة يعملها الإنسان.قال: [ فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه ] أي: بحسب عمله، [ فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار ] في الدار الآخرة، [ والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها ] ويعدها [ لمجاورة الأبرار، ويبعدها ] في نفس الوقت [ عن مجاورة الفجار ] والكفار.قال: [ وقوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؛ لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها، بل تمضي كما هي، فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات أحد. فقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب ]، أي: العمل [ على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسية وخبثاً، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى، ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر. وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان؛ إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله، وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل، وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى، واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة.وقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً.وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله؛ فإنه رفعٌ لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو أنه في حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً، وإبراهيم في جملة ذلك، فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء ومليكه؟! ].
لطيفة
لطيفة: فاز إبراهيم عليه السلام بالخلة، فهل هناك خليل للرحمن سوى إبراهيم؟ نعم وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم. قال: [ وقد شرُف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم ]، والخلة هي الحب الذي يتخلل القلب ويسري في كل أجزائه.قال: [ وقد شرف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين ] أي: البخاري ومسلم، [ أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم آخر خطبة ] أي: خطب المؤمنين آخر خطبة في حياته، [ فقال: ( أما بعد: أيها الناس! فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله ) ]. أتعرفون أبا بكر ؟ ملايين من إخوانكم المسلمين يكفرونه ويبغضونه ويلعنونه، ويتقربون بذلك إلى الله! فأي عمى أكثر من هذا العمى؟! وأي موتٍ أعظم من هذا الموت؟! ولا يسألون ولا يفكرون بعقولهم، إذ إن أبا بكر هو صاحب رسول الله في الغار، والشاهد عندنا هو الجهل الذي غطى هذه الأمة وعماها وأضلها.
هداية الآيات
والآن مع هداية هذه الآيات الأربع، قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: ما عند الله ]، أي: من النصر والفوز، ومن النعيم المقيم في الجنة، [ لا ينال بالتمني، ولكن بالإيمان والعمل الصالح ]، وإن شئت فقل: [ أو التقوى والصبر والإحسان]، وأخذناها هذا من قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، بل مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]. قال: [ ثانياً: الجزاء أثر طبيعي للعمل ]، فلو تأخذ إبرة وتغرزها في لحمك فإنك تتأذى، ولو تشرب سماً فإنك تهلك، ولو تقوم الآن وتسب أحد الإخوان فإنه سيرد عليك، إذاً فالجزاء أثر طبيعي لا يتخلف أبداً، [ وهو معنى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء:123-124].ثالثاً: فضل الإسلام على سائر الأديان ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فمن يسلم وجهه لله سوى المسلم؟ المسلم الذي يعطي قلبه ووجهه لله، وكل حياته وقف على الله عز وجل حتى يموت، وفي نفس الوقت هو موحد لا يلتفت إلى غير الله، ولا يعرف من يدعوه أو يناديه أو يستغيث به غير الله، فهو على ملة إبراهيم عليه السلام.قال: [ رابعاً: شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه خليلاً ]، وسبب اتخاذ ربه له خليلاً أنه أول من هاجر في سبيل الله، فترك دياره وأهله وأولاده وأمواله، وذلك لما حُكِم عليه بالإعدام فنجاه الله وسلمه، وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، وترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، وهذه واحدة، والثانية: أنه امتحن بأن يبني لله بيتاً في جبال فاران، وأعظم من هذه أن الله ابتلاه بأن يذبح ولده، فهل تردد إبراهيم؟ لا والله، بل أخذت هاجر إسماعيل وطيبته وألبسته أحسن الثياب، ثم أتى به إبراهيم إلى منى وتله على جبينه على الأرض والمدية في يده وأراد ذبحه؛ لأن الله أمره بذلك. قال: [ خامساً: غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، والله تعالى أسأل أن يرد إخواننا وأمتنا إلى كتاب الله عز وجل، فيجتمعون عليه في مساجدهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، فتنتهي المذهبية والفرقة والعنتريات وأوضار الحياة وأوساخها؛ إذ والله لا نجاة إلا بهذا، إما أن نعود إلى كتاب الله وسنة رسوله بصدق، فإذا أذن المغرب لن تجد رجلاً في الأسواق ولا في الشوارع ولا في البيوت، إذ كل المؤمنين في بيت ربهم، وطول العمر وهم كذلك، فهل يبقى جاهل؟ لا والله، بل إذا انتفى الجهل لا يبقى الظلم والشر والخبث، ولا حيلة إلا هذه، ولنذكر أن الشيوعية لما بدأت كانت تلزم المواطنين بأن يجتمعوا حتى في الصحراء ليتلقوا معارف البلشفية الحمراء، حتى في عدن فعلوا بهم هذا، ونحن يؤذن المؤذن لصلاة فتجد هذا يغني، وهذا يلعب، وهذا يرقص، إذاً فكيف نرجع إلى الله؟ مستحيل بدون علم، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن شك فلينظر أعلمنا في أي قرية أتقانا لله عز وجل والله العظيم، وأجهلنا بالله أخبثنا، أتريد بياناً أعظم من هذا؟فهيا نعود على الله تعالى، ما نستطيع، لم؟ مقيدون مكبلون؟! لا والله، وإنما شهواتنا وأطماعنا وشياطيننا، وإلا فالأصل أنه إذا دقت الساعة السادسة توضأ واحمل زوجتك وأولادك إلى المسجد القريب منك، وصلوا المغرب واجلسوا جلوسنا هذا لتتعلموا الكتاب والحكمة، وعند ذلك لا يبقى جاهل أو ظالم، وهذا هو الطريق، فاللهم اهد هذه الأمة إليه.وصلى الله على سيدنا محمد.




ابوالوليد المسلم 09-05-2021 03:18 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (68)
الحلقة (291)

تفسير سورة النساء (71)


كان العرف السائد عند العرب في الجاهلية منع الميراث عن المرأة والطفل، وعدم مراعاة حق اليتيم، فجاء الإسلام مقرراً حق المرأة والطفل في الإرث، وحض على المحافظة على مال اليتيم، وأنزل الله آيات تتلى بهذا الشأن من أول النساء، ولا زالت تساؤلات بعض الصحابة حول هذا الشأن قائمة، فأنزل الله مرة أخرة الآيات المتعلقة بهذا الأمر قطعاً للتساؤلات، وتأكيداً على هذه الحقوق.
فضل طلب العلم وأهميته لتزكية النفس
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فحقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومعنا أربع آيات لو كنا صادقين في الطلب والحصول على العلم فلا نتجاوزها حتى نحفظها عن ظهر قلب، ونفهمها فهماً صحيحاً سليماً، ووطنا النفس على أن نعمل بها عملاً صحيحاً سليماً، ولكن للأسف أننا هبطنا، فمن قرون كنا في علياء السماء نقود البشرية ونسودها، لكن احتالوا علينا فهبطنا، فإذا قرأنا لا نفهم، وإذا سمعنا لا نحفظ، وإذا علمنا لا نعمل إلا من رحم الله.فهيا نجرب أنفسنا في هذه الآيات الأربع، فنتناول كل ليلة آية منها، ونجدُّ في حفظها وفهمها، لا سيما الذين ما حفظوا من القرآن شيئاً كالعوام، والعجب أنهم يسمعون كلام الناس فيحكونه كما سمعوه، وتتعدد الأحاديث بينهم فيرددونها، ويسمع أحدهم آية تكرر أربعين مرة ما يحفظها! ففسروا لنا هذه الظاهرة يا علماء النفس! يا علماء الاجتماع!فهذه أم الفضل رضي الله تعالى عنها أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تقول: ( صليت المغرب وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بالمرسلات فحفظتها )، فائتني بمرأة أو رجل من عوام المسلمين يسمع المرسلات عشرة أيام، والله ما يحفظها، كيف هذا؟! لأنهم كانوا طالعين ونحن هابطون، والآن قد عرفنا جيلاً عايشناه يسمع أغنية لعاهرة أو ماجن في الإذاعة أو في التلفاز فيحفظها بألفاظها ولهجتها، وإن شئتم حلفت لكم، فما هو السر؟ أولئك كانوا طالعين ونحن هابطون، وكلمة الحق والخير ما نحفظها ولا نُعنى بها! وكلمة الشر والطعن والسب تحفظ بصورة جيدة ونحكيها ونعيدها!مرة أخرى: كيف الخروج من هذه الظلمة التي وقعت فيها أمة النور؟ والجواب وليس سواه من جواب: أن نعود كما بدأ رسول الله وأصحابه، فقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ [الجمعة:2]، أي: العوام، رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فأهل القرية من قرانا المنتسبة إلى الإسلام يتعاهدون أنه إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، فيا فلاح! الق بالمسحاة من يدك وتوضأ وتعال إلى المسجد، ويا تاجر! أغلق باب تجارتك، ويا صانع! ارم الحديد من يدك، ويا أم فلان! اتركي ما في يدك، فيؤذن للمغرب وأهل القرية كلهم في المسجد، رجالاً ونساء وأطفالاً، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، فالنساء وراء الستار تحفظهن وتسترهن، والبنون الأطفال كالملائكة صفوف، والفحول كما أنتم، والمعلم والمربي أمامهم، فليلة يتعلمون آية ويتغنون بها ويحفظونها، وتشرح لهم وتفسر لهم، ويتذوقونها وتملأ قلوبهم نوراً ومعرفة، وفي اليوم الثاني سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغنون بها ويحفظونها ويبين لهم المراد منها، والكل عزم وتصميم على أن يعمل بما علم، وهكذا يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد يوم، فتصبح تلك القرية كالملائكة، ولاختفى كل مظاهر الشر والخبث والفساد، وحل محل ذلك الإخاء والمودة والطهر والصفاء، وكأنهم أسرة واحدة.وأهل المدن ذات المناطق المتعددة، وأهل كل حي ومنطقة يوسعون جامعهم حتى يتسع لهم، ثم يلتزمون بهذه الرجعة الصادقة إلى منهج أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فإذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، فتطهر الرجال والنساء وأقبلوا على بيت ربهم ليتعلموا الكتاب والحكمة، وأقسم بالله الذي لا إله غيره لتختفي مظاهر الخيانة والغش والشح والكبر والكذب والباطل، وتصبح تلك البلاد كأنهم أيام الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يبق مظهراً من مظاهر الشح ولا البخل ولا الشحاذة ولا التعاسة ولا السرقة، بل كل هذا ينتهي؛ لأنهم بعد عام أو عامين يصبحون علماء، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن أراد البرهنة فلينظر في عالمهم في قريته أو مدينته، أليس هو أتقاهم لله؟ والله لأتقاهم لله، وأقسم بالله على ذلك، والسر والسبب هو العلم، أي: عرفوا ربهم فأحبوه وخافوه، أما أن نعيش في ظلمة الجهل ونريد أن نكمل ونسعد ونسود فمستحيل هذا.لكن قد يقول القائل -وقالوها حتى في الحلقة-: ما هذا التأخر؟! أيريدون منا أن نعود من جديد إلى كذا فنترك العمل ونأتي كلنا للمسجد؟! فقلنا لهم: إن أئمتكم وهداتكم الذين اتبعتموهم وقلدتموهم ومشيتم وراءهم من اليهود والنصارى إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، فهيا نمشي إلى باريس عاصمة الكفر، أو إلى لندن، أو إلى برلين، أو إلى مكان شئت من بلاد الكفر، إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المراقص والملاهي والملاعب والعبث حتى نصف الليل، ونحن لا نذهب إلى بيوت ربنا! مسحورون أم عميان أم ماذا أصابنا؟! ولذلك لن ترتفع مظاهر الظلم والخبث والشر والفساد، بل والشرك والبدع والضلالات والهلاك إلا إذا سلكنا مسلك رسول الله وأصحابه.وهذا طبيب عظام وقلب يجلس معنا يقول: ما إن رجعنا إلى هذه الحلقة حتى طبنا وطهرنا! إي نعم، إذ كيف تسمع عن الله وتعيش عاماً أو عامين أو ثلاثة ويبقى ظلمة في نفسك؟ مستحيل، فالماء والصابون يطهران الأبدان، والحكمة والكتاب تطهران القلوب والأرواح، فكل الجرائم والموبقات والشر والفساد هي نتيجة الجهل وظلمته، ولا لوم على ذلك.
تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ...)
فهيا بنا نتغنى بهذه الآية الأولى من الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، أي: يطلبون الفتيا في شأنهن، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، أي: قل يا رسول الله: الله يفتيكم فيهن.وهذه الآية الكريمة نزل بيانها في أول السورة، وبقي بعض المستضعفين أو بعض ضعفاء الإيمان يترددون، إذ ما أطاقوا التشريع المفاجئ الذي يقضي على عادات عاشوا عليها قروناً، فكانوا يستفتون من جديد، أي: يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر تعالى الرسول فقال له: وَيَسْتَفْتُونَكَ [النساء:127]، أي: يطلبون الفتيا منك يا رسول الله، فقال الله له: قل لهم: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، أي: في النساء. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127] أولاً، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]، يجزيكم به كاملاً وافياً.
أمر الله لأوصياء اليتامى أن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا سن الرشد
نعود إلى الآيات التي أحالهم الله تعالى عليها، وقد تقدمت في أول السورة، فقال تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2]، أي: أعطوا اليتامى أموالهم يا أولياء، وهذا أمر من الله تعالى؛ لأنهم ما كانوا يعتبرون اليتيم أهلاً للمال، وإنما اليتيم يأكل ويشرب حتى يكبر وهم مسئولون عنه، ولا يعترفون بإرث لليتيم أبداً، وقد عاشوا على هذا قروناً كثيرة، فجاء القرآن يبطل الجاهلية ويوجد العدل والإسلام.

نهي الله لأوصياء اليتامى أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة

وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، وهذا قد عرفناه فينا لما جهلنا، وذلك أن الولي أو الوصي كان يأخذ مال اليتيم الجيد وينسب إليه الرديء، فمثلاً: الشاة السمينة لليتيم يذبحها الولي له ويترك لليتيم الشاة الهزيلة الضعيفة! وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، أي: تعطوا اليتامى الرديء من الغنم والإبل والتمر، بل ومن كل الأموال المتنوعة، وتأخذوا أنتم الجيد بحجة أن اليتيم ما له قيمة، أو ليس له حاجة إلى ذلك، فأبطل الله تعالى هذا نهائياً. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، فمال اليتيم طيب يبقى له، ومالكم خبيث يبقى لكم، أما أن تستبدلوا الطيب بالخبيث فلا، وأما كونهم يعطون الطيب لليتيم ويأخذون الخبيث فهذا مستحيل، إذ ما يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعملونه أنهم يأكلون الطيب من مال اليتيم ويستبدلونه بغير الجيد.
نهي الله لأوصياء اليتامى أن يخلطوا أموالهم بأموال اليتامى فيأكلوها جميعاً
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]، فيخلطونها مع أموالهم ويأكلونها. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]، أي: افصلوا بين مالكم وبين مال اليتامى؛ لأن هذا الخلط يسهل عليهم أن يأكلوا أموال اليتامى، وبالتالي فلا بد من فصل المال.ثم قال تعالى: إِنَّهُ [النساء:2]، أي: هذا الخلط وهذا الأكل، كَانَ حُوبًا [النساء:2]، والحوب هو الإثم العظيم، وهي كلمة أفظع من كلمة: إثم وذنب.
إرشاد الله لأولياء اليتامى إلى ترك الزواج منهن وطلب ما طاب من النساء من غيرهن
ثم قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، أي: يكون عند الرجل يتيمة دميمة ما يرغب فيها، ولكن مالها كثير، فيرغب أن يتزوجها ليأكل مالها، فأمره الله تعالى أن يزوجها غيره وأن يعطيها مالها، وله أن ينكح ما طاب ولذ من النساء، سواء اثنتين أو ثلاث أو أربع، أما أن يحتكر هذه المرأة لمالها فلا يتزوجها ولا يحسن إليها، وذلك لأجل أنها ذات مال، فهذا لا يصلح من المسلم ولا ينبغي أن يكون بعد اليوم، فقد أبطل الله تلك العادة أو ذلك الخلق السيئ. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا [النساء:3]، والقسط والإقساط هو العدل، يقال: أقسط يقسط إذا عدل، وقسط ويقسط إذا جار وظلم، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، كما تيسر لكم، واتركوا هذه المؤمنة الدميمة ومالها. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [النساء:127]، وقد قلنا: إن اليتيمة الدميمة ذات المال لا يزوجها لغيره، وإنما يتزوجها لأجل مالها، فيسيء إليها ولا يحبها ولا يعطيها حقها، إذاً فما هو الإرشاد الصحيح؟ أن يزوجها غيره ويعطيها مالها. فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، وشيء آخر وهو أن تكون عنده اليتيمة وما عندها مال فيحرمها من المهر، فبدل أن يعطيها مهر المثل يعطيها شيئاً تافهاً، ويقول لها: أنتِ ابنتي، أنت من عائلتي، لم نعطيك الخمسين والستين ألفاً؟! لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، أي: من المهور وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127].وهذا كله تقدم في أول السورة، وما زالت الاستفهامات، فهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم فأجابه الله فقال: قل لهم يارسولنا: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:127]، أي: القرآن فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النساء:127]، أي: من المهور وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [النساء:127]، والمستضعفون من الولدان هم اليتامى الذين لا حق لهم في هذا المال، فالوصي أو الولي هو الذي يتصرف فيه، فينفق كما شاء، والولد لما يكبر يأخذ ماله، والمهم أنهم كانوا لا يحترمون أموال اليتامى، ولا يعرفون حظاً لها أبداً عند الله، فجاء القرآن الكريم فبين لهم الطريق، وهو أن المستضعفين من الولدان يجب أن ترعى أموالهم وتحفظ وتنمى، ولا يؤكل منها إلا بقدر الحاجة كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:5]، والسفهاء هم الأطفال الصغار والنساء وفاقدي العقل والحصافة العقلية، فهؤلاء عيال الله يجب أن تحافظوا على أموالهم.
المال عصب الحياة فلا يعطى إلا لمن يحسن التصرف فيه
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وذلك كأن يكون عندك يتيم لا يعرف أن يبيع ويشتري، فلا يصح أن تعطيه المال، وإنما احجر عليه، وكذلك أخوك -وإن كان أكبر منك سناً- إن كان لا يحسن التصرف بالمال، وإنما يبذره ويفسده، فلا يحل لك أن تعطيه هذا المال، وأيضاً زوجتك -والمرأة أضعف في هذا الباب- إن كانت لا تحسن التصرف في المال، فلا يجوز لك أن تعطيها هذا المال، فهؤلاء هم السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في المال لا بالبيع ولا بالشراء ولا بالأخذ ولا بالعطاء، وبالتالي فلا تعطوهم أموالكم. الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، أي: حياتكم قائمة على المال، أما يقولون: المال قوام الأعمال؟ فإذا كان هناك امرأة أو ولد أو رجل وكان سفيهاً ليس بحكيم ولا عاقل، فلا تعطوهم أموالهم، وإنما تصرفوا أنتم فيها ونموها لهم واحفظوها. ثم بعد ذلك وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، أي: إذا بلغ اليتيم الثامنة عشرة أو بلغ سن البلوغ فامتحنه أولاً، كأن تعطيه ألفاً ليشتري لكم ما تحتاجون إليه من الأطعمة، أو أعطه شاة ليبيعها في السوق، وانظر كيف يتصرف؟ وهل يجيد الشراء والبيع أم لا؟ فإذا ابتليته وامتحنته واختبرته ونجح فأعطه ماله، أما ما دام سفيهاً فلا يحل لك أن تعطيه المال، وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، أي: أن بعض الأوصياء على مال اليتيم يكثر من النفقة والأكل والشرب من مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم، وذلك خشية أن يكبر ويتسلم ماله، وهذه طباع بعض البشر، فإذا لم يهذب الإنسان نفسه ويؤدبها ويصلحها فهذه هي حقائقها. وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا [النساء:6]، فبدل أن يذبح شاة يذبح شاتين، وبدل أن يأتي بقنطار من الدقيق يأتي بقنطارين، وَبِدَارًا [النساء:6]، أي: مبادرة، أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، أي: مخافة أن يكبروا، وهكذا في اليتامى قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فما ترك الله شيئاً تتعلق بحياة المؤمنين إلا بينه في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وإنما جهل الناس القرآن فما قرءوه.ومع هذا وبعد الذي سمعتموه في أول السورة قال تعالى يخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، ما لهن وما عليهن قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127]، وقد أفتاكم في الآيات السابقة وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [النساء:127]، وقد بينه تعالى اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ [النساء:127]، أي: اليتامى والسفهاء وإن كانوا أولادك، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ [النساء:127]، قل أو كثر، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا [النساء:127]، فيجزي به لعلمه به، فأدبهم وعلمهم طرق الخير ودعاهم إليها، وواعدهم بالجزاء الأوفى، فهذا هو الله رب العالمين.

يتبع

ابوالوليد المسلم 09-05-2021 03:19 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
فهيا نسمع هذه الآية من التفسير لنتأكد من صحة ما علمنا.
معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: هذه الآيات الأربع ]، ونحن قد قرأنا منها آية فقط، [ كل آية منها تحمل حكماً شرعياً خاصاً ]، يجب على المؤمنين أن يعرفوه وأن يطبقوه.قال: [ فالأولى: نزلت ]، أي: هذه الآية، [ إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب ] أي: هذه الآية نزلت استجابة الله لعباده المؤمنين لما أخذوا يتساءلون، فأنزلها الله ليبين لهم حكمه فيما هم شاكين فيه أو مترددين.قال: [ نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب ]، أي: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، [ حول حقوق النساء ما لهن ]، أي: من حقوق، [ وما عليهن ]، أي: من حقوق، [ لأن العرف-المعتاد-الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة ]، إذ ماذا تصنع المرأة بالمال؟ فهي زوجة والزوج ينفق عليها! وكذلك الأولاد الصغار لا يدفعون عن الحي ولا يقاتلون عدواً، وبالتالي فلا حاجة لهم إلى المال! إذاً فأطعموهم واسقوهم واكسوهم، فهذا هو العرف في الجاهلية.قال: [ لأن العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال ] من ماذا؟ قال: [ من الميراث بالمرة، وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق ]؛ لأنهم صغار ما يدافعون ولا يكسبون، [ فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة ] التي تدارسناها، [ وقررت حق المرأة والطفل في الإرث، وحضت على المحافظة على مال اليتيم، وكثرت التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم، حيث اضطربت نفوسهم لما نزل ] في أول السورة.قال: [ فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة ]، وارجعوا إلى أول السورة، [ وأنه الحكم النهائي في القضية، فلا مراجعة بعد هذه ] والحكم الموجود هناك في أول السورة هو الحكم النهائي، فليس هناك تردد.قال: [ فلا مراجعة بعد هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، أي: وما زالوا يستفتونك في النساء ]، لماذا قال: وَيَسْتَفْتُونَكَ [النساء:127] بصيغة المضارع؟ والجواب: جاء بصيغة المضارع ليشير إلى أن السؤال يتجدد، [ وما زالوا يستفتونك في النساء، أي: في شأن ما لهن وما عليهن من حقوق، كالإرث والمهر وما إلى ذلك، قل لهم أيها الرسول: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127] ] واسترح أنت يا رسولنا، [ وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن وما عليهن ]، فلمَ هذا التردد وهذا الشك؟قال: [ وقوله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127] ] أي: لا تعطونهن ما كتب لهن من واجب، وترغبون أن تنكحوهن، أي: تتزوجوا بهن.قال: [ وقوله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة شافٍ لكم لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضاً؛ إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة-غير جميلة-لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من شاء ] من النساء، [ ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها ] فلا يتزوجها ولا يزوجها، ويبقى كلما جاء من يخطبها يرد عليه: ما هي مستعدة للزواج! أو أن هذا الزوج غير صالح!... اتق الله، ومشى خطوتين ثم عاد إليك فقال: ما هي أوامر الله؟ إذاً تعال ابق معنا شهراً أو شهرين حتى تعرف أوامر الله، ثم بعد أن عرف أوامر الله، قال: وما هي نواهي الله؟ فيقال له: اجلس معنا أيضاً وسنعلمك نواهي الله، فالخمر والزنا والربا والكذب والغش والخداع والكبر والعجب والشرك وغيرها من نواهي الله عز وجل، وعند ذلك تستطيع أن تتقي الله، أما ترون في أمة الإسلام من ألف سنة هل تحققت لها ولاية الله؟ لأفراد فقط، والسبب في ذلك أنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا ما يحب ولا ما يكره.وأخيراً: هل نحن مستعدون لأن نطلب العلم من هذه الليلة؟ يا إخواننا! إذا دقت الساعة السادسة مساء فأغلق الدكان، سواء كنت حلاقاً أو قصاراً، يا صاحب المقهى! أغلقها وتوضأ وائت إلى مسجد حيك أو قريتك، فتجلس أنت وكل أهل الحي والقرية كجلوسنا هذا، وتأخذون تتعلمون الكتاب والحكمة، وبعد أن صليتم العشاء امش إلى دكانك وإلى مقهاك إن شئت، أما هذه الساعة فلا بد من أن نطلب العلم فيها، ووالله لا نجاة من هذه المحنة ومما يتوقع لهذه الأمة إلا إذا عادت إلى هذا الطريق، فتتخلى عن الكبر والعجب والدعوى الباطلة وحب المال، وتعكف في بيوت ربها بين يدي علمائها تتلقى الكتاب والحكمة.إذاً: وصانا ربنا فهيا فلننفذ وصية ربنا، فالذين يعرفون أوامر الله ونواهيه يتقونه، والذين ما يعرفون أوامر الله ولا نواهيه يجب عليهم أولاً أن يعرفوه.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ...)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131]. وَإِنْ تَكْفُرُوا [النساء:131]، أي: وإن جحدتم الله ولم تتقوه، فماذا يحصل؟ قال: فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:131]، أي: أنه ليس في حاجة إليكم، فهو غنى عنكم، فلا يحتاج إلى عبادتكم ولا طاعتكم، إذ ما شرعها إلا من أجلكم فقط. وَكَانَ اللَّهُ [النساء:131] وما زال، غَنِيًّا [النساء:131]، عن كل ما سواه، حَمِيدًا [النساء:131]، أي: محموداً في الأرض والسماء، إذ كل الكون يحمده، فأنت لما تنظر في أي آلة تقول: إن الذي صنعها عليم، فحمدته وتشكره، فانظر إلى أي شيء في هذا الكون فتقول: إن خالقه عظيم، وهو الغني الحميد.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:132]. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:132]، معشر المستمعين! عرفتم أن لله ما في السموات وما في الأرض، وموقنون ومؤمنون بهذا؟ إذاً عليكم ألا تتزلفوا ولا تتملقوا ولا تذلوا ولا تهونوا إلا له هو سبحانه، بل لا ترجوا ولا تطمعوا ولا ترغبوا ولا تسألوا ولا ترفعوا أيديكم ولا تطلبوا شيئاً أبداً إلا من الله، إذ ليس هناك من يملك شيئاً إلا الله، وفهمك واعتقادك أن لله ما في السموات وما في الأرض يصرفك عن الخلق كلهم صرفاً كاملاً، ويربطك بالله ارتباطاً وثيقاً، فلا تبرح أن تسأل وتتضرع إليه في كل حاجاتك؛ لأنه هو الذي له ما في السموات وما في الأرض، ولو عرف إخوانكم هذا فهل سيبيعون الخمر من أجل القوت؟ وهل سيتعاطون الربا من أجل المال؟ وهل سيسبون أو يشتمون العلماء من أجل الوظيفة؟ لا والله، لكنهم ما عرفوا ذلك، إذ لو عرفه كما عرفنا والله ما أصبح قلبه يتقلب إلا في الله، فهو الذي يغنيه، وهو الذي يرزقه، وهو الذي يشفيه، وهو الذي يعزه، وهو الذي يعطيه، وهو الذي يميته، وهو الذي يحييه، إذ الله مالك ما في السموات وما في الأرض، وما بقي سيدي عبد الرحمن ولا عبد القادر ولا رسول الله ولا خديجة ولا فاطمة ولا الحسين ولا البدوي؛ لأن هؤلاء لا يملكون شيئاً، بل والله ولا ذرة في الكون، إذاً فكيف تقبل عليهم بقلبك وتناديهم بلسانك: يا سيدي فلان! يا رجال البلاد!وعندنا مظاهر عجيبة ولا نلومهم؛ لأننا ما علمناهم، فهم جهلاء يعيشون في ظلمة الجهل، فمن علمهم؟ ومن عرفهم؟ ومن قرع أبوابهم وناداهم: أن احضروا بيوت الله لتتعلموا الكتاب والحكمة؟ لا أحد.ومن هذه المظاهر: تجد الرجل في يده المسبحة وهو يذكر الله بأعظم ذكر: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ولما تأخذه غفوة من النوم فتسقط المسبحة من يده فيقول: يا سيدي فلان! فهو يصرخ: لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله، لا مغني ولا معطي ولا ضار ولا نافع إلا الله، ولما تسقط المسبحة من يده: يا سيدي فلان! فأين معنى لا إله إلا الله؟ إنه ما عرف الله، وآخر يكتب على السيارة: يا فاطمة، أو يا حسين، فلا إله إلا الله!فلا لوم عليهم لأننا ما علمناهم، وهم كذلك ما طلبوكم حتى تعلموهم، فقد أعرضوا وأدبروا وأكبوا على دنياهم وأوساخهم، إذاً فالورطة عامة لنا ولهم إلا من شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ...)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء:133]. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]، إي والله العظيم، أما أذهب عاداً وثمود؟ يا سكان الجزيرة أين عاد؟ في حضرموت وما حواليها إلى عدن والشحر، تلك الأرض كانت لأعظم دولة في الكون، واقرءوا: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، هل الله يحلف؟ إي والله، فهذه يمين وقسم، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5]، أي: لصاحب عقل، أما الذي لا عقل له كالبهيمة لا يفهم اليمين ولا القسم، وقال تعالى أيضاً: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ارم ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فقد كان طول الرجل اثنين وثلاثين ذراعاً، فإذا كان طوله ثلاثين ذراعاً أو ستين ذراعاً فكم ستكون طول وعرض الغرفة؟! بل البيت كم سيكون طوله وعرضه؟! الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:8]، ومع ذلك فقد انتهت وأزالها الله وأبادها، وما زال التاريخ البشري إلى الآن عند الفلاحين يسمونها: قرة العجوز، والقَرة والقِرة بالعامية تعني: آخر يوم في الشتاء شديد البرودة، وذلك لأن عجوزاً من هذه الأمة دخلت في داخل جبل وظنت أنها نجت، ففي اليوم الثامن دخلت إليها الريح حتى أخرجتها وفلقت رأسها على باب الجحر، ثم رحل المؤمنون مع نبيهم هود صلى الله عليه وسلم وتركوا الديار ونجاهم الله بإيمانهم، فنزلوا بمدائن صالح، وهي إلى الآن موجودة وكأنك تشاهدها وتشاهد صناعاتهم وعجائبهم، فالجبال كانوا يتخذونها غرفاً وحجرات، وامش لتنظرها، لكن لا يسمح لك أن تمر بها وأنت تغني أو تضحك، والرسول قد قال: ( إذا مررتم بها فلا تضحكوا وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا )، ثم كثر عددهم وأصبحوا أمة عظيمة، فبعث الله فيهم رسوله صالحاً، فكفروا به وعقروا الناقة فأبادهم الله تعالى، فأين هم الآن؟!أما قوم لوط في غربهم، فالآن هناك بحيرة لوط موجودة عند الأردن وفلسطين تسمى بالبحر الميت، إذ تحولت البلاد إلى بحيرة، وحتى هذه البحيرة ليس فيها حوت ولا حيوان، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود:82].ونحن للأسف آثارنا الباطل فانتشر فينا الشرك والوثنيات والفجور، فمضت فترة ما بين قرية وقرية في بلاد المسلمين لا تجتازها إلا بعملة، بل والقرية الواحدة تجد فيها الثلاث الطرق والأربع الطرق!إذاً: انتظروا، فسلط الله علينا أعداءنا، وها هو تعالى قد نفعنا بدعوة الإسلام وعاد الاستقلال، وهانحن نضحك على الله، فأعرضنا عن ذكره وكتابه إعراضاً كاملاً، فلا إله إلا الله! فلو تنظر بعين القلب لقلت: لا إله إلا الله، إن يوماً عجباً سينزل بديار المسلمين، بل أعظم من محنة تسليط اليهود والنصارى علينا؛ لأننا نضحك على الله، فقلنا: تحررنا واستقللنا، والإسلام ليس تطبيق في بلاد المسلمين، بل إن أكثر البلاد بهذه الطريقة من انتشار الشر والخبث فيها. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النساء:133]، إما أن يذهب قوتكم ووجودكم، أو يذهب أموالكم، أو يذهب ما عندكم من نعم أخرى. وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء:133]، و(قدير) أبلغ من قادر، وقد فعل، ولننظر ما حولنا وما بعدنا وما قبلنا.
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ...)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134]، تريدون الدنيا؟ اعبدوا الله يعطيكم الدنيا والآخرة، فإذا كنتم صادقين تريدون الغنى والمال والراحة والسعادة فهذا موجود عند الله، فأطيعوه يتحقق لكم ويزيدكم الآخرة أيضاً، وما دمتم راغبين في الدنيا وتريدونها حتى أعرضتم عن الله وكتابه وذكره أُعلمكم بأن الله عز وجل عنده ثواب الدنيا والآخرة، فاطلبوا منه تعالى، فإن قيل: يا شيخ! وكيف نعبده؟ هذا كتابه وهذا رسوله وما قال: اعتقدوه بقلوبكم اعتقدناه، وافق عقولنا أو خالفها، أمرنا أن نقول قلنا، أمرنا أن نسكت سكتنا، أمرنا أن نعمل عملنا. مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134]، واسمع بعدها فقال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، أي: ليس فقط ثواب الدنيا عند الله، بل الآخرة أيضاً، والدنيا فانية وثوابها دنانير ودراهم وطعام، وينتهي كل ذلك بمرض أو بموت، لكن ثواب الآخرة وجزاؤها دائم.إذاً: أيها العاملون! أيها المتكالبون على الدنيا! ندلكم على أن الله عنده دنياكم بكاملها والآخرة أيضاً، إذاً فأطيعوا الله تحصلوا على السعادتين: الدنيا والآخرة، وهذا كلام الله سبحانه وتعالى. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، فكل الأصوات يسمعها الله تعالى حتى أصوات النمل، فقد سجل لنا القرآن خطبة النملة بالحرف الواحد، واقرءوا قوله تعالى من سورة النمل: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فقد كان سليمان يستعرض قواه العسكرية ليغزو ويفتح العالم ولينشر دين الإيمان والطهر والصفاء والعدل والرخاء، فاستعرض يوماً جيوشه والجيوش ماشية وإذا بنملة عند قرية من قراها ترفع صوتها فتقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فلا إله إلا الله! ما أذكاها! ما أفطنها! ما أجل أدبها! حين قالت: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، أما لو كانوا يشعرون بكم ما يطئونكم ولا يقتلونكم، لكن وهم لا يشعرون، فاتخذوا لأنفسكم حماية ووقاية من ذلك، فادخلوا قصوركم ومساكنكم، فلما سمعها سليمان ضحك، قال تعالى مصوراً ذلك المشهد: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، وهذا الذي ينبغي أن نقوله عندما كنا نستقل، استقلت البلاد الفلانية بريطانيا، واستقلت البلاد الفلانية عن فرنسا وإيطاليا، وكلما يستقل إقليم نقرأ هذه الآية، لكن كسر، دمر، هذا عميل يستحق العقاب! ما عرفوا الله ولا القرآن، فهذا سليمان عليه السلام سخر الله له الإنس والجن والطير وعلمه لغة الطير بكامله، لما حصلت له هذه النعمة قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، ونحن استقللنا وأعرضنا عن الله وكتابه، بل وعذبنا أولياءه وسخرنا من دينه!وصل اللهم على نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم.

ابوالوليد المسلم 09-05-2021 03:21 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (69)
الحلقة (292)

تفسير سورة النساء (72)


أمر الشهادة عظيم، فبها تؤخذ الحقوق، وتقام الحدود، وقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بأداء الشهادة على وجهها ابتغاء وجه الله، فيشهد المؤمن حتى على نفسه أو والده أو ولده أو أخيه، ومتى ما دعي لأداء الشهادة فلا يعرض عنها، ولا يلوي بالكلام فيها حيث لا يفهم مقصوده منها، أو يفهم على وجه غير مراد أصلاً، لما في ذلك من الإضرار بالمتخاصمين أو أحدهما، وأكل الحقوق بين الناس بالباطل.
التفقه في الدين وطلب العلم سبيل السعادة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأهنئكم بهذه الفضيلة العظيمة، وأزيدكم أخرى: قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة وهي: أن الملائكة تصلي عليكم فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم حتى تصلوا العشاء، فماذا تريدون بعد هذا؟! الحمد لله، الحمد لله.وما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، وهي التي نزلت بعد البقرة مباشرة، وهي سورة الأحكام الفقهية، ومعنا هذه الآيات الأربع، فهيا نتغنى بها أولاً ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها؛ لنعلم محابه فنعزم على إتيانها، ولنعلم مكارهه فنعزم على تركها والبعد عنها، إذ قد علمتم من قبل أنه لا يستطيع امرؤ رجل أو امرأة أن يتقي الله بدون أن يعلم محاب الله ومكارهه، ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، فنطلب الذي يحبه ربنا من الاعتقادات والنيات، من الأقوال والكلمات، من الأفعال والأعمال، من الصفات والذوات، حتى نعرفها ونتملق ونتزلف بها إليه، ونعرف ما يكره وما يسخط من قول أو اعتقاد أو صفة أو ذات؛ لنتجنب ذلك ونبتعد عنه ليبقى لنا ولايتنا بربنا، ولكن للأسف فقد صرفونا عن القرآن وأبعدونا عن السنة، وحالوا بيننا وبين أن نجتمع في بيوت الله، وأصبحنا نجتمع في المقاهي والملاهي ومجالس اللهو واللعب والعبث، والذين نجوا من هذا هم في الدكاكين مربوطين! فهم طول العام في الدكان، فلا يسأل عن الله ولا على ما عند الله، فلا إله إلا الله! ما الذي يمنعنا إذا دقت الساعة السادسة مساء أن نترك العمل ونلقي بآلاته ونتطهر ونتطيب ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا، فنستمطر رحماته، ونتلقى المعرفة عنه، ونعرف محابه ومساخطه؟ إن هذا هو الأصل في نظام حياتنا، ولذلك اليهود والنصارى والمشركون والشيوعيون وكل الكفار إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى المراقص والملاهي والملاعب يروحون على أنفسهم، ونحن ما نأتي إلى بيوت الله! فما المانع؟ لا شيء، إذاً كيف نعرف ما نتقي به ربنا؟ إننا إذا لم نتق الله عز وجل خسرنا خسراناً أبدياً؛ لأن ولاية الله التي هي الهدف الأسمى والغاية المثلى لكل مؤمن، ومن يظفر بها فقد فاز، والتي يتنافى معها خوف المؤمن وحزنه، متوقفة على الإيمان والتقوى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: أَلا [يونس:62]، ألو، فإن قال قائل: يا شيخ! لم تقول: ألو؟ لأن نساءنا وأطفالنا ورجالنا أصبحوا يستسيغونها أكثر من (ألا)، فالطفلة الرضيعة التي ما زالت تحبو إذا سمعت: ألو، تعرف أن هناك من يتكلم في التلفون، وفي لسان العرب وفي كتاب الله: أن (ألا) أداة استفتاح وتنبيه، ومعنى هذا: أنت معي؟ أنت تسمع كلامي؟ أنت متهيئ لأن تأخذ ما أقول؟ فيؤديه لفظ: (ألا) مع الجمل الاسمية، لكن نحن وللأسف سمعنا النصارى قالوا: ألو، فقلنا: ألو! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الحياة هذه، ولا في البرزخ بعدها، ولا يوم القيامة، والله لا خوف ينتابهم ولا حزن يملأ قلوبهم، إذاً فمن هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر؟! سيدي مبروك؟! سيدي عبد الحميد؟! الأموات! أما ولي في السوق فلا، ولذلك لو تدخل إلى دمشق أو بغداد أو القاهرة المعزية، ما عن تنزل من طائرتك أو من باخرتك وتستقبل رجلاً من البلاد وتقول له في أدب: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء هذه البلاد، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة ولياً في السوق أو في المسجد، وأنا أتكلم بهذا على علم، كذلك تدخل مراكش عاصمة المغرب فتقول: أنا جئت لهذه البلاد وأريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، وكأنه لا يوجد أبداً في تلكم الأمة ولي، وبالتالي إذا لم يكونوا أولياء فماذا عسى أن يكونوا؟ أعداء، فحصروا الولاية في الأموات.وسر ذلك أن الثالوث الأسود المكون من اليهود بني عمنا والمجوس جيراننا والنصارى الضالين بيننا، فهم الذين مكروا بهذه الأمة، ومن مظاهر ذلك: أن القرآن حوِّل إلى الأموات والمقابر، وذلك قبل قرابة ألف سنة، واسمعوا ما قررت لكم: قال في حاشية الحطاب: تفسير القرآن ثوابه خطأ وخطأه كفر، أي: أن تفسير القرآن خطأ وذنب، وإن فسرت فأصبت فأنت مخطئ مذنب، وإن أخطأت فقد كفرت، فألجموا أمة القرآن، فلا تقل: قال الله، إذاً ماذا نصنع بالقرآن؟ حولوه إلى الموتى ليقرا عليهم، فإذا مررت بحي من أحياء المسلمين وسمعت القرآن فاعلم أن هناك ميتاً، فسبحان الله! أصبح القرآن الذي ينذر به الرسول من كان حياً حولناه لمن كان ميتاً، ومددنا أعناقنا وقبلنا بذلك، فكيف عم الجهل وظلمته وأصبحنا أشباه مؤمنين ولسنا بالمؤمنين بحق؟ لأنهم أطفئوا هذا النور، إذ القرآن روح لا حياة بدونه، ونور لا هداية بدونه، لكن عرف هذا الثالوث أو رؤساء اليهود والنصارى والمجوس، فهم يتآمرون في كل مكان على هذا النور لإطفائه، وعلى هذه الروح لانتزاعها، وقد وفقوا في ذلك وهداهم إبليس إلى هذه فاستطاعوا أن يحولوا المسلمين عن كتاب الله، فلا تقل: قال الله ولا تفسر، وإنما اسكت، فالقرآن فيه الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من المباحث، لكن لا تتكلم.حتى السنة أيضاً، إذ إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والله لا تقرأ إلا للبركة فقط؛ لأن السنة فيها الخاص والعام، وفيها المجمل والمفصل والمبين، فيكفينا مصنفات علمائنا، فالأحناف لهم مصنفات، والمالكية لهم مصنفات، والحنابلة لهم مصنفات، والشافعية لهم مصنفات، حتى الطوائف الخارجة عن السنة لها مصنفات، أما قال الله وقال رسوله فلا.
الفهم الخاطئ لمعنى الأولياء وأثر ذلك في نشر الشرك والابتداع
وأزيدكم برهنة على ذلك فأقول: بعد أن يدخل رمضان تعالوا للروضة فستجدون مشايخ يدرسون البخاري للبركة، فيجتمعون: حدثنا حدثنا، ولا تسأل عن معنى حديث من الأحاديث، أو ماذا يريد الرسول منا؟ أو ماذا يحمل هذا الحديث من نور أو هداية؟ لا، وإنما اسكت، وإن قلت: ما الأدلة على ما تقول يا هذا؟والجواب: هل هبطنا بعدما كنا سادة وقادة الدنيا؟ هبطنا والله، وهل حكمتنا دول الكفر وسادتنا ومسختنا؟ لو كنا أولياء الله والله ما استطاعوا ولا قدروا ولا ساقهم الله إلى أن يذلونا أو يهينوننا، لكن للأسف احتالوا علينا، وأعظم شيء هو القرآن والسنة، إذ إنهم علموا أن القرآن روح الحياة، فلا حياة بدون القرآن، وأنه نور الهداية، فلا هداية بدون القرآن، فقالوا: إذاً نصرفهم عن القرآن والسنة، فالقرآن يقرأ على الموتى والسنة تقرأ للبركة، وللأسف ففي بعض البلاد توجد هناك نقابات، وعمل هذه النقابات أنها تؤجر قراء ليقرءون على الموتى، فإذا مات لك قريب فيمكنك أن تتصل بالنقابة وتقول لها: أريد خمسة من طلبة القرآن يقرءون القرآن على ميتنا! فيرد عليك قائلاً: من فئة ريال أو خمسة؟ يعني: على حسب غنى الميت وفقره! والله يقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] لا ميتاً.ونقرأ كون القرآن روحاً ونوراً آية من آخر سورة الشورى من آل حميم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، فسماه روحاً لأن الحياة لا تقوم إلا به، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فالقرآن نور، لكن أبعدوه عن المسلمين ليعودوا إلى الظلام، وقد نجحوا في ذلك.فهل فهمتم قضية الولاية أو لا؟ وهل الولي الذي عليه قبة بيضاء أو خضراء وهناك حرس وفيه النقود ويُعبد كما يعبد الله بل أشد؟ أستغفر الله، إنهم لا يطرحون بين يديه، ولا يبكون في صلاتهم ولا خشوعهم كما لو أنهم بين ذلك الضريح، لكن الأضرحة بكاء وتمرغ ودعاء ونداء في صدق، أما الله: يا رب بلا حرارة ولا إجابة، وهذا هو الحال من إندونيسيا إلى موريتانيا، وهذا هو العالم الإسلامي، وللأسف ما أفقنا إلى الآن، وإننا لنتعرض لضربة إلهية ما عرفناها ولا عرفها أسلافنا.وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فهم حصروا الأولياء في الموتى، وذلك ليستبيحوا فروج المسلمات وأموال المؤمنين وأعراضهم ودماءهم، فهل هناك مؤمن يستحي من الله أن ينظر إلى مؤمن آخر نظرة احتقار وسخرية؟ وهل هناك مؤمن ترتعد فرائصه أن يقول كلمة يؤذى بها ولياً من أولياء الله؟ لا أبداً، إذ الموجودون الأحياء كلهم أعداء الله، فانكحوا نساءهم وبناتهم، واسرقوا أموالهم، وسبوهم واشتموهم، وتعرضوا لهم بالباطل، بل وافعلوا بهم ما شئتم، إذ ليسوا بأولياء الله، إنما ولي الله هو الذي دفنتموه وبنيتم عليه القبة! وقد سمعت بهذه الأذن مجموعة في القرية يتحدثون فقال أحدهم: سبحان الله! فلان إذا زنا لا يمر بسيدي فلان وهو جنب بالزنا، وإنما يمر من جهة أخرى! فانظر خاف من الولي ما لم يخف من الله! فمن ركز هذه العقيدة في قلوبنا؟ إنه الثالوث الأسود المكون من اليهود والنصارى والمجوس، وذلك رؤساؤهم وأعيانهم وقادتهم، لا عوامهم فهم كالأبقار.فهل عرفتم السر في حصر الولاية في الموتى؟ حتى نستبيح دماءنا وفروجنا ونكذب ونخون كل شيء بيننا؛ لأننا لسنا بأولياء الله، إذ أولياء الله هم الأموات، أما الأحياء فاصفعه وسبه واشتمه وهكذا يفعلون، ولو عرف أن هذا ولي الله والله ما يستطيع أن يرفع صوته عليه، فكيف إذاً يزني بامرأته، أو يفسد عليه ولده، أو يعمل ما يعمل، ونحن نشاهدهم يرتعدون أمام الولي في قبره؟ فهل فهمتم؟ وهل ممكن أن تبلغوا هذا؟ لا، لسنا بمستعدين أبداً، إذاً كيف نسمع كلامك هذا وما نتحدث به في مجالسنا؟! من يمنعنا؟! إنه الشيطان، وذلك حتى لا ينتشر النور، وإنما يبقى الجهل والظلمة، ولذا فإن المفروض أنه إذا سمع المؤمن كلمة كهذه أن ينشرها ويبلغها لا أن يكتمها، لكن نحن نسمع ولا نتحرك، فلا إله إلا الله! آمنا بالله.

يتبع

ابوالوليد المسلم 09-05-2021 03:21 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...)
فهيا مع هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:135-137].
مناداة الله تعالى لعباده المؤمنين بأن يعدلوا في شهاداتهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:135]، هذا أمر الله تعالى، وقد نادى المؤمنين به، فلبيك اللهم لبيك وسعديك، فماذا يطلب منا؟ والجواب: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135].فهل عرف المؤمنون هذا؟ والله إن بعضهم يجلسون أمام المحكمة فيقول أحدهم لمن لديه قضية: هل تريد شاهداً؟ فيعطيه عشرة ريالات أو مائة ويشهد له! وهذا في محاكم العالم الإسلامي، فيجيء الرجل فيشهد عن ابن عمه ويلوي الشهادة ويحرفها حتى يفتن القاضي، بل أحياناً عشرون واحداً من القبيلة يشهدون بالباطل، ويعتزون فيقولون: نحن خلصناه ونجيناه من العقاب؛ لأنهم ما عرفوا الله حتى يخافوه أو يحبوه فيطيعوه.فهذا نداء الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ [النساء:135]، و(قوامين) جمع قوام على وزن فعَّال، كـ(أكَّال) و(شرَّاب)، ومعنى قوامين بالقسط: أي: بالعدل، إذ القسط هو العدل، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، أي: شهداء لله لا لغيره، فإن شهدت فاشهد لله ليحق الحق ويبطل الباطل، ولا تشهد لقبيلتك ولا لنفسك ولا لولدك.
أمر الله لعبده أن يشهد بالقسط ولو على نفسه
وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135]، فتشهد أمام المحكمة بأنك فعلت، أو أنك أخذت، أو أنك قلت، وتعترف على نفسك أو على ولدك أو على والديك، بل أقرب قريب إليك وهي نفسك؛ لأنك نائب عن الله عز وجل في هذه الشهادة، إذ هو سبحانه الذي أقامك شاهداً وجعل الحق يعطى بشهادتك، وبالتالي فاستح من الله عز وجل أن تخونه، إذ كيف ينصبك شاهداً باسمه ليحق الحق ثم تخونه؟!
حرمة شهادة الزور
ولهذا كان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة، فقال لهم يوماً: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله )، فالرسول يخاف على أصحابه أن يشركوا بالله! وجماعتنا وعلماؤنا من ألف سنة يقولون: المؤمن لا يكون مشركاً أبداً! وهو يعبد القبر ويستغيث بالموتى وغير ذلك من الشركيات، فهل العلماء هم الذين ورطوا هذه الأمة؟! ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً -لكبره وتعبه- فجلس ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، حتى قال الصحابة: ليته سكت )، أي: أتعبناه وأرهقناه وخافوا أن ينزل ما ينزل من عذاب الله تعالى، لكن اذهب الآن إلى المحاكم في العالم الإسلامي عرباً وعجماً، واسمع إلى الشهادات والشهود على الدماء وعلى الأموال، فلا تحصل على واحد في المائة يشهد لله عز وجل، ولا لوم عليهم؛ لأنهم ما عرفوا الله حتى يشهدوا له، ثم من علمهم؟ وهل سألوا حتى عرفوا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، فهيا من الآن نكون قوامين بالقسط الذي هو العدل، وشهداء إذا حكمنا بين اثنين حكمنا بالعدل، أو حكمنا بين الزوجتين فبالعدل، أو في كل قضية فنقضي فيها بالعدل، بل وإذا دعينا للشهادة فلنشهد ولو على أنفسنا وأبنائنا ووالدينا، وهذا هو الإسلام، لكن قد نسي هذا المسلمون وضاعوا قروناً حتى أصبح الكفار المسيحيون في أوروبا أكثر عدالة من المسلمين في محاكمهم وقضاياهم، بل وأكثرهم لا يشهد شهادة الزور أبداً ولا يتورط بالباطل، ونحن أهل القرآن لا تسأل عن حالنا، وسر ذلك أننا ما عرفنا هذا أبداً ولا تعلمناه، لا أمهاتنا ولا آباؤنا ولا أجدادنا قروناً عديدة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، كالأبناء والإخوة وما إلى ذلك.
وجوب أداء الشهادة على وجهها دون التفريق بين غني وفقير
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، أي: إن دعيت للشهادة فلا تلتفت إلى غنى الرجل أو إلى فقره، وتقول: هذا فقير فلنشهد معه لأنه في حالة ضعف، وهذا غني فلنشهد معه؛ لأنه ممكن أن يحرموني من كذا، أو يقف يوماً من الأيام ضدي، لا تلتفت إلى هذا أبداً. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، فليس أنت الذي تحارب الغني أو ترحم الفقير، وعند ذلك والله لا يبقي مجال أبداً لأن يشهد مؤمن شهادة باطل، أو أن يقضي قاض بالباطل، وذلك لمحاباة للفقير لفقره أو للغني لغناه، فقد أبطل الله هذا كاملاً، فإن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بفقره وغناه، فما أنت بمسئول عنه، إذ قال تعالى: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، والهوى -ليس الهواء بالمد- هو ميل النفس وانكسارها وانعطافها على الشهوات والأطماع الفاسدة، فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا.
علم الله بمن يلوي أو يعرض عن الشهادة
وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135]، بالكلمة، أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135]، عن بعض الكلام في الشهادة، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135]، أي: عند الحكم وعند الإشهاد؛ كراهة أو خشية أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، أي: تميلوا عن الحق، وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135]، واللي أن يلوي لسانه فيحرف الكلمة، أو أن القاضي يلوي وجهه عن هذا الخصم ويلتفت إلى هذا، ولذلك يجب على القاضي أنه إذا وقف أو جلس الخصمان أمامه أن ينظر إليهما نظرة متساوية، فلا يضحك مع هذا ويغضب على هذا، أو أن يتكلم مع هذا ويسكت مع الآخر، بل حتى النظر لابد أن يكون نظر القاضي إلى الخصمين متساوياً.والمقصود: لا تلووا في الكلام أو تعرضوا عن الشهادة بالمرة، أو عن المقصود منها بالمرة، إذ إن هناك من يلوي الكلام في شهادته فلا يثبت بها حقاً لصاحبها، إذ ما صدق، أو ما صرح تصريحاً كاملاً، بل زاد كلمة أو نقص أخرى، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، والخبير أكثر من العليم، إذ الخبير هو الذي يعرف أجزاء القضية من أولها إلى آخرها، وبالتالي فخافوه واعرفوا سلطانه، إذ هو الذي يميت ويحيي، وهو الذي يفقر ويغني، وهو الذي يمرض ويشفي، وهو الذي يعطي ويمنع، فهل هناك من يدير الكون سواه؟! تعيش سبعين سنة ما تكذب كذبة واحدة، وما تشهد شهادة زور ولا كلمة باطل؛ لأنك تعلم أن الله بما تعمل خبير، فيجزيك بصنيعك الذي صنعت.فهذا هو تفسير الآية الأولى، واسمعوا تلاوتها مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135]، إذا حكمتم، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، إذا استشهدتم، ثم قال: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، ثم: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا [النساء:135]، ليس بشاهد، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].ومن هنا ما بقي في عهد الرسول وأصحابه وأحفادهم وأولادهم من يشهد شهادة الزور، أو يحكم حكم ظلم وجور، فهذا علي بن أبي طالب أيام خلافته في السنوات الأربع النورانية، ينازعه يهودي في درعه، وكان القاضي الذي يحكم بينهم هو شريح القاضي، فأجلس القاضي علياً وأجلس اليهودي بجواره، وتكلم معهم بلغة واحدة، وكان ينظر إليهم نظرة متساوية، والشاهد عندنا: أن القاضي قال لـعلي: من يشهد لك أن الدرع ملكك؟ فقال: ولدي، فقال القاضي: شهادة الولد لا تقبل للوالد، إذ من الجائز أن يحابي أو يخاف والده، فلما رفض شريح شهادة الحسين بكى اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إمام المسلمين لا تقبل شهادته والدرع درعه! آمنا بالله، إنها مواقف للأمة الإسلامية في العصور الذهبية الثلاثة فوق ما تقدر أو تفكر. وعلة هذا أن القرآن روح ونور، إذ لما كانوا يقرءونه يبكون ويفهمون ما يقرءون ويعملون، فقد كانوا أطهر الخلق وأصفاهم وأعدلهم وأكرمهم، بل وقل ما شئت من الكمالات، ووالله ما اكتحلت عين الوجود بأمة على سطح الأرض من آدم إلى يوم القيامة بأفضل من تلك الأمة في قرونها الثلاثة، ( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فما سبب كمالهم؟ البترول؟! الأموال؟! إنه القرآن والسنة النبوية، الهداية الربانية.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله...)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136]، ناداكم مولاكم، لبيك اللهم لبيك، فهل بلغكم أن لله تسعين نداء في القرآن؟ لقد نادى الله عباده المؤمنين تسعين مرة، وكل مرة يأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم أو ينذرهم أو يعلمهم، واسلوا المسلمين ما نسبة من تعرف هذا؟ ولا واحد في المليون، فنادانا الله ليأمرنا باعتقاد وقول وعمل يزكي أنفسنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا، إذ حاشاه أن يأمرنا باللهو والباطل واللعب، أو الفساد والشر، ونادانا لينهانا عما يضر بنا ويفسدنا ويعوقنا عن السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، ونادانا ليبشرنا بنتائج وثمار صالحات أعمالنا لنزداد وراء ذلك عملاً، ونادانا لينذرنا من عواقب السلوك المنحرف والعقيدة الفاسدة، ونادانا ليعلمنا ما لم نعلم، وكل ذلك بالتتبع والاستقراء للتسعين نداء.وقد درسنا هذه النداءات هنا وقلنا للمسلمين: ترجموا هذه النداءات بلغات العالم الإسلامي ووزعوها يا أغنياء على الفنادق، وكل سرير يكون عنده كتيب، وذلك قدوة بالنصارى الذين يضعون الإنجيل الأعمى عند كل سرير، ولذلك إذا جاء أحدهم لينام فإنه يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيفرح بذلك؛ لأنه ربه ناداه ليعلمه وليهذبه، ولذا ينبغي على كل أهل بيت أن يعرفوا هذه النداءات، إذ كيف ينادينا ربنا وما نسمع؟ أو نسمع ونقول: قل ما شئت فلن نطيع! أعوذ بالله، أنرضى بالكفر بعد الإيمان؟!وأخيراً: خلاصة الشريعة بكاملها عقائد وآداب وعبادات وأخلاق وسياسات شرعية في الحرب وفي السلم، بل وفي كل الأحوال هي في تسعين نداء، فمن صرف المسلمين عن هذا؟ إنه الثالوث الأسود من اليهود والنصارى والمجوس، ووالله لو كنا صادقين على أن نعود إلى سيادتنا ما إن صدرت هذه النداءات حتى انتشرت في العالم بكامله، فماذا يكلفنا؟ الترجمة باللغات الحية ولغات المسلمين الفارسية إلى الأردية، ولكن صدق الشاعر عندما قال:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، ألا وهو التوراة والإنجيل والزبور، وهذا النداء صالح لنا ولليهود بني عمنا، وبعض الإخوان يقول: كيف اليهود بنو عمنا؟ إي نعم، أليسوا أولاد إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم؟ ونحن ألسنا أولاد إسماعيل بن إبراهيم؟ بلى.أزيدكم فضيحة على علم: لو حكم اليهود إقليماً من أقاليم المسلمين لكان حكمهم أرحم من حكم هؤلاء المسلمين إلا من رحم الله، وليس فوق هذا شيء أبداً.والشاهد عندنا: أن هذا النداء صالح للمؤمنين ولأهل الكتاب، فالمؤمنون بأن يزيدوا في طاقات إيمانهم ليصبحوا موقنين بما أنزل الله وشرع، واليهود يدعون أنهم مؤمنون، فهذا هو الإيمان الصحيح، فصححوا إيمانكم أيها اليهود! وهم يدخلون في هذا لأنهم مؤمنون بالله ولقائه والدار الآخرة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ولم يقل: أنزل، وإنما (نزل)، لأنه نزله مقسطاً آية بعد أخرى لظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما التوراة فقد نزلت جملة واحدة، وكذلك الإنجيل، أما القرآن فقد نزله يوماً بعد يوم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، الإنجيل والزبور. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، فلا يعود إلى السعادة والكمال أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ...)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137].ثم عقب على ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137]، يتلاعبون، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، وهذه الحقيقة واضحة عندنا، فالشخص إذا اعتاد جريمة معينة وبالغ فيها ما انقطع عنها وما تاب منها أبداً، بل يأتي يوم ويصبح لا يستطيع أن يتركها أبداً، وهؤلاء لن يتوبوا أبداً، آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137]، يتوبون بعد هذا؟ والله ما كان، وهذه هي سنة الله في الخلق.إذاً: فهؤلاء ما حكمهم؟ حكم الله فقال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، أي: طريقاً للكمال والسعادة.وصلى الله على سيدنا محمد.

ابوالوليد المسلم 09-05-2021 03:23 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة النساء - (70)
الحلقة (293)

تفسير سورة النساء (73)

جاء في عدد من المواضع في القرآن الكريم بيان حال المنافقين في هذه الأمة، وذلك لشدة خطرهم ونكايتهم في المسلمين، فهم يظهرون ولاءهم للمؤمنين وهم في حقيقة أمرهم يوالون الكافرين، كأنهم بذلك يبتغون عندهم العزة، ونسوا أن العزة إنما هي لله ولعباده المؤمنين، وإذا أصاب المؤمنون خيراً سارعوا إلى المطالبة بنصيبهم منه، وإذا كان للكافرين نصيب سارعوا إليهم يطلبون مكافأتهم على إعانتهم لهم على المسلمين، فهم عبيد للمصلحة، ومصيرهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار، جزاء كذبهم وخداعهم.
تفسير قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع النورانية، فهيا نتغنى بتلاوتها ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها، إذ إن هذا القرآن قد سماه الله نوراً، فلا هداية بدونه قط، وسماه الله روحاً فلا حياة طهر وكمال بدونه قط، وقد عرف هذا خصومنا من الثالوث الأسود فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن، فأصبح القرآن يقرأ ويحفظ من أجل أن يقرأ على الموتى، أما الأحياء فلا يجتمع اثنان أو ثلاثة ليقرءوا آية ويتدبروا معناها وليقوموا بما أوجب الله أو ينتهوا عما نهى الله طيلة قرون عديدة، فهيا نعد من جديد، والآن الحمد الله نقرأ القرآن ونتدارسه، لكن قبل هذه الفترة فهذا لا يقبل، إذ إنهم كانوا إذا سمعوا من يقول: قال الله يغلقون أذانهم بأصابعهم خشية أن تنزل الصواعق عليهم، كما أنهم قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، فماتت أمة الإسلام، ولما ماتت سادها الغرب والشرق وأذلوها وأهانوها، وها هي ذا تابعة كالذيل لهم، فلا استقلال ولا وعي ولا كرامة إلا من رحم الله، والسبب هو أنهم تركوا القرآن الذي هو روح، واقرءوا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فهل تهتدي أمة في الظلام بدون نور؟ مستحيل.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:138-141].كلام من هذا؟ إنه كلام الله تعالى، فهل هناك من ادعى فقال: إن هذا كلامي؟ لا الإنس ولا الجن، إذاً فالحمد لله أننا نسمع كلام ربنا وخالقنا ومحيينا ومميتنا وباعثنا، وبلايين البشر ما سمعوه ولا علموا به، فلا إله إلا الله! فأية نعمة أعظم من هذه؟! ثم إن هذا الكلام ماذا تسمع منه؟ السياسة الحربية، السلمية، الاجتماعية، الاقتصادية، الروحية، البدنية، فلا إله إلا الله! وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].فهيا نتأمل قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، من منا ما فهم هذه الجملة من العرب؟!
تفسير قوله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:139]، أي: يحبونهم وينصرونهم دون المؤمنين. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:139]، أي: أن هؤلاء المنافقون يطلبون العزة عند الكافرين! فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، إذ لا تطلب إلا من مالكها ومن هي في يده، أما الكافرون لا يملكون العزة ولا يعطونها.
تفسير قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ...)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140]، أي: القرآن العظيم في سورة الأنعام. أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وإنما قم وأغلق أذنيك واخرج من المجلس. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]، أي: غير الحديث الذي يسبون ويشتمون وينتقدون ويطعنون فيه. إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، أي: في الحكم، إذ إنك لو رضيت بأن يسب الله ورسوله أو يسخر بدينه وكتابه أو بأوليائه فأنت منهم، وهذا حكم الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فما هناك فرق بين الكافر والمنافق إلا أن خزي المنافق وعذابه أشد، إذ المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
تفسير قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم...)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فاسهموا لنا من الغنيمة. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، من الانتصار والغنيمة قالوا لهم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين، إذاً فأعطونا، ولهذا فإن المنافق يمسك العصا من وسطها، أي: إن كان المؤمنون ناجحون فهو معهم، وإن كان الكافرون ناجحون فهو معهم، وإن صالت الدنيا وضجت فهو معها، وإن بكت وصرخت فهو مع الآخرين. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء:141]، وهذا أيام رسول الله والغزو الإسلامي والفتوحات. قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النساء:141]، فلم تحرموننا من الأجر، أي: من الغنيمة. وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]، أي: نصيب من الأنصار، وما قال: فتح، إذ ماذا يفتحون؟ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]، أي: في المعركة وحطنا بكم حتى دفعنا عنكم المسلمين، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، فرد الله عليهم فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:141]، يا معشر المؤمنين والمنافقين. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، أي: لإذلالهم والسيطرة عليهم والتحكم فيهم، وهذه وحدها آية من آيات الله تقول: إن العالم الإسلامي الذي حكمته أوروبا من شرق الدنيا إلى غربها في تلك الأيام ما كان المؤمنون مؤمنين بحق وصدق؛ لأن إخبار الله تعالى لا يتطرق إليه الكذب أو النقص أبداً. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم، المؤمنين بحق، وإن شككت في تلك الأيام كيف كان حال المسلمين؟ الشرك والظلم والتسلط والخبث منتشر في البلاد الإسلامية، حتى إن أولياء الله هم الذين بنوا عليهم القباب وعبدوهم مع الله، أما أولياء لله في السوق أو في المسجد أو في المزرعة فلا، وإنما انكح نساءهم، وكل أموالهم، واضرب أولادهم؛ لأنهم ما هم بالأولياء، إذ الأولياء هم الذين بنيت على قبورهم القباب ووضعت التوابيت والأزر، وتوقد الشموع وتؤخذ الأجور، فهؤلاء هم الأولياء! ولا يستطيع مؤمن في العالم الإسلامي أن يسب ولياً من أولئك، أو يقول كلمة سوء فيهم، والرسول يقول عن الله: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فأولياء الله وإن كانوا رعاة إبل.وعندنا قصة أبو حمارة وجماعة كلبي، فأما قصة جماعة كلبي فهي أن مستعمِراً في بلد إسلامي من كان له كلب، والنصارى دائماً يعيشون كالكلاب مع الكلاب، إذ لا يفارقوهم أبداً، وشاء الله أن يموت هذا الكلب، فدفنه هذا المستعمر في حديقة قصره ومنزله، ثم بعد فترة مرت بعض عجائز البلاد فشاهدوا قبراً فأخذوا يدعونه من وراء الجدار ويقولون: هذا سيدي فلان، وهذا ولي الله، وأخذوا يستغيثون به ويدعونه، وكان المسلم الحارس يشاهد العجائز يفعلن ذلك، وبعد حين من الزمان قالوا للحارس: يا سيد! لو تفتح لنا الطريق فنزور هذا السيد ونتمرغ بتراب قبره، فقال: إن المعلم لا يسمح بذلك، وهو الآن غائب في أوروبا، فقالوا له: تشجع أنت وكن كذا وكذا، وبعد عدة محاولات معه فتح لهم الطريق إلى القبر، ثم جاء ذاك المستعمر بعد كذا شهراً ووجد النساء في يوم الخميس والاثنين جماعات يزرن القبر! فقال للحارس: ماذا يصنعن هؤلاء؟ فرد عليه فقال: هذا قبر سيد وولي وهم يزورونه، فقال: أليس هذا قبر كلبي؟! ثم أمر بإغلاق الباب وسُدَّ الطريق، وجاء المؤمنات فقلن: كيف يمنعنا هذا الكافر من زيارة ولي الله، إن هذا كافر لا يؤمن بالله، ورُفعت شكوى إلى البلدية، فقضى القضاء بأن ينبش القبر، فإن وجد كلب فالحق لهذا الأوروبي المستعمر، وإن وجد إنسان فهو ظالم ويجب أن يخرج حتى من البستان، فجاءت سيارة الإسعاف والمسئولون ونبشوا القبر وإذا كلب بأنيابه! وأما قصة قبر سيدي أبو حمارة فهي أن هذا شخصاً كان له حمار يركبه ما بين بلد وبلد آخر، وذلك أيام ما كان المركوب هو الحمار والفرس والبغل في العالم بأسره، وشاء أن مات هذا الحمار في الطريق، فدفنه صاحبه في مكان موته، وبعد فترة من الزمن مر به أناس فقالوا: هذا قبر ولي من الأولياء! وأصبحوا يمرون به ويدعونه ويضعون الفلوس والشموع عنده، وأصبح صاحب الحمار يكثر ماله من ذلك، والشاهد عندنا هو أن صاحب الحمار سافر وترك واحداً ليأخذ المال من الزوار والزائرات، وعند عودته فاجأه ذلك الرجل قائلاً: أنا صاحب الحمار! فاختصموا، فنبش القبر فوجدوا حماراً!إذاً فهذه هي أمة الإسلام، وهذا النوع مئات الفجرة والسرق واللصوص والسحرة والدجالون والمشعوذون يدعون أنهم أولياء الله تعالى، والآن النكتة السياسية الاجتماعية ما هي؟ من فعل بهم هذا؟ إنه الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى الذين فقدوا سيادتهم وسلطتهم في العالم الإسلامي، وعرفوا أن ولاية الله محترمة معظمة، وأن أولياء الله معظمون مبجلون، فماذا صنعوا؟ أوجدوا لهم فكرة الأولياء الأموات، أي: سيدي فلان وفلان، وفي خلال خمسين سنة ما بقي ولي بين الناس إلا إذا مات ودفن، ومن هنا أصبح المسلمون بدواً وحضراً، في الشرق والغرب، عرباً وعجماً، لا يحترمون ولياً بينهم إلا إذا كان ميّتاً ويُعبد مع الله بالذبح والنذر له والعكوف عليه والبناء عليه، ومن ثم ما بقي المؤمنون يحترمون بعضهم البعض، وإنما يزنون بنسائهم، ويسرقون أموالهم، ويكذبون ويخدعون بعضهم البعض. فكيف ولي الله يُسب أو يشتم؟! ما يستطيع أن يقول في ولي منسوب إلى الولاية كلمة سوء، إذ إنه يخاف أن تنزل به الصاعقة، وأولياء الله الأحياء لا وجود لهم، فيفعل ما يشاء، فهذه هي تعاليم الثالوث الأسود، وإلى الآن ما أفقنا، ولكن خف الجهل بعض الشيء، مع أنه ما زلنا لم نعي هذا الوعي أبداً.

يتبع


الساعة الآن : 09:22 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 777.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 776.01 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.23%)]