ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=194124)

ابوالوليد المسلم 31-07-2020 03:29 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (520)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(66)
الى الأية(73)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } 66 { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } 67 { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } 68 { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } 69 { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } 70 { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 71 { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 72 { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }73


يقول تعالى: ما ينتظر المكذبون، وهل يتوقعون { إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي: فإذا جاءت، فلا تسأل عن أحوال مَنْ كذب بها، واستهزأ بمن جاء بها. وإن الأخلاء يومئذ، أي: يوم القيامة، المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية اللّه، { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير اللّه، فانقلبت يوم القيامة عداوة.
{ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } للشرك والمعاصي، فإن محبتهم تدوم وتتصل، بدوام مَنْ كانت المحبة لأجله، ثم ذكر ثواب المتقين، وأن اللّه تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم، ويذهب عنهم كل آفة وشر، فيقول: { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي: لا خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من الأمور، ولا حزن يصيبكم فيما مضى منها، وإذا انتفى المكروه من كل وجه، ثبت المحبوب المطلوب.
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } أي: وصفهم الإيمان بآيات اللّه، وذلك ليشمل التصديق بها، وما لا يتم التصديق إلاّ به، من العلم بمعناها والعمل بمقتضاها.
{ وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } للّه منقادين له في جميع أحوالهم، فجمعوا بين الاتصاف بعمل الظاهر والباطن.
{ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } التي هي دار القرار { أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي: مَنْ كان على مثل عملكم، من كل مقارن لكم، من زوجة، وولد، وصاحب، وغيرهم.
{ تُحْبَرُونَ } أي: تنعمون وتكرمون، ويأتيكم من فضل ربكم من الخيرات والسرور والأفراح واللذات، ما لا تعبِّر الألسن عن وصفه.
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } أي: تدور عليهم خدامهم، من الولدان المخلدين بطعامهم، بأحسن الأواني وأفخرها، وهي صحاف الذهب وشرابهم، بألطف الأواني، وهي الأكواب التي لا عرى لها، وهي من أصفى الأواني، من فضة أعظم من صفاء القوارير.
{ وَفِيهَا } أي: الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } وهذا لفظٌ جامع، يأتي على كل نعيم وفرح، وقرة عين، وسرور قلب، فكل ما اشتهته النفوس، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومناكح، ولذته العيون، من مناظر حسنة، وأشجار محدقة، ونعم مونقة، ومبان مزخرفة، فإنه حاصل فيها، معد لأهلها، على أكمل الوجوه وأفضلها، كما قال تعالى:
{ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة، وهو الخلد الدائم فيها، الذي يتضمن دوام نعيمها وزيادته، وعدم انقطاعه.
{ وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ } الموصوفة بأكمل الصفات، هي { ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: أورثكم اللّه إياها بأعمالكم، وجعلها من فضله جزاء لها، وأودع فيها من رحمته ما أودع.
[ { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } كما في الآية الأخرى:
{ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن: 52] { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } أي: مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية، والثمار اللذيذة تأكلون] ولما ذكر نعيم الجنة، عقبه بذكر عذاب جهنم، فقال: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ... }.


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:23 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (521)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(74)
الى الأية(80)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف
{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } 74 { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } 75 { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } 76 { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } 77 { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }78


{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } الذين أجرموا بكفرهم وتكذيبهم { فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ } أي: منغمرون فيه، محيط بهم العذاب من كل جانب، { خَالِدُونَ } فيه، لا يخرجون منه أبداً، و { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } العذاب ساعة، بإزالته، ولا بتهوين عذابه، { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي: آيسون من كل خير، غير راجين للفرج، وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون:{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 107-108] وهذا العذاب العظيم، بما قدمت أيديهم، وبما ظلموا به أنفسهم. واللّه لم يظلمهم ولم يعاقبهم بلا ذنب ولا جرم. { وَنَادَوْاْ } وهم في النار، لعلهم يحصل لهم استراحة، { يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي: ليمتنا فنستريح، فإننا في غمٍّ شديد، وعذاب غليظ، لا صبر لنا عليه ولا جلد. فـ { قَالَ } لهم مالك خازن النار - حين طلبوا منه أن يدعو اللّه لهم أن يقضي عليهم -: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } أي: مقيمون فيها، لا تخرجون عنها أبداً، فلم يحصل لهم ما قصدوه، بل أجابهم بنقيض قصدهم، وزادهم غماً إلى غمهم، ثم وبخهم بما فعلوا فقال: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ } الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه، لفزتم وسعدتم، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } فلذلك شقيتم شقاوة لا سعادة بعدها.
{ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } 79 { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }80


يقول تعالى: أم أبرم المكذبون بالحق المعاندون له { أَمْراً } أي: كادوا كيداً، ومكروا للحق ولمن جاء بالحق، ليدحضوه، بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق، { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي: محكمون أمراً، ومدبرون تدبيراً يعلو تدبيرهم، وينقضه ويبطله، وهو ما قيضه اللّه من الأسباب والأدلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، كما قال تعالى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [الأنبياء: 18].
{ أَمْ يَحْسَبُونَ } بجهلهم وظلمهم { أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ } الذي لم يتكلموا به، بل هو سر في قلوبهم { وَنَجْوَاهُم } أي: كلامهم الخفي الذي يتناجون به، أي: فلذلك أقدموا على المعاصي، وظنوا أنها لا تبعة لها ولا مجازاة على ما خفي منها.
فرد اللّه عليهم بقوله: { بَلَىٰ } أي: إنا نعلم سرهم ونجواهم، { وَرُسُلُنَا } الملائكة الكرام، { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } كل ما عملوه، وسيحفظ ذلك عليهم، حتى يردوا القيامة، فيجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً.



ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:24 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (522)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(81)
الى الأية(89)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الزخرف
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } 81 { سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } 82 { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ }83


أي: قل يا أيها الرسول الكريم، للذين جعلوا للّه ولداً، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد.
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } لذلك الولد، لأنه جزء من والده، وأنا أول الخلق انقياداً للأمور المحبوبة للّه، ولكني أوّل المنكرين لذلك، وأشدهم له نفياً، فعلم بذلك بطلانه، فهذا احتجاج عظيم عند مَنْ عرف أحوال الرسل، وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق، وأن كل خير فهم أوّل الناس سبقاً إليه، وتكميلاً له، وكل شر فهم أوّل الناس تركاً له وإنكاراً له وبعداً منه، فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق، لكان محمد بن عبد اللّه، أفضل الرسل أول مَنْ عبده، ولم يسبقه إليه المشركون.
ويحتمل أن معنى الآية: لو كان للرحمن ولد، فأنا أوّل العابدين للّه، ومن عبادتي للّه، إثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، فهذا من العبادة القولية الاعتقادية، ويلزم من هذا، لو كان حقاً، لكنت أوّل مثبت له، فعلم بذلك بطلان دعوى المشركين وفسادها، عقلاً ونقلاً.
{ سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } من الشريك والظهير، والعوين، والولد، وغير ذلك، مما نسبه إليه المشركون.
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: يخوضوا بالباطل، ويلعبوا بالمحال، فعلومهم ضارة غير نافعة، وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل، وأعمالهم لعب وسفاهة، لا تزكي النفوس، ولا تثمر المعارف.
ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال: { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } فسيعلمون فيه ماذا حصّلوا، وما حَصَلوا عليه من الشقاء الدائم، والعذاب المستمر.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } 84 { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } 85 { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 86 { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } 88 { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } 87 { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }89


يخبر تعالى، أنه وحده المألوه المعبود في السماوات والأرض فأهل السماوات كلهم، والمؤمنون من أهل الأرض، يعبدونه، ويعظمونه، ويخضعون لجلاله، ويفتقرون لكماله.
{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }
[الإسراء: 44]{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد: 15].
فهو تعالى المألوه المعبود، الذي يألهه الخلائق كلهم، طائعين مختارين، وكارهين.
وهذه كقوله تعالى:
{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 3] أي: ألوهيته ومحبته فيهما.
وأما هو فهو فوق عرشه، بائن من خلقه، متوحد بجلاله، متمجد بكماله، { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } الذي أحكم ما خلقه، وأتقن ما شرعه، فما خلق شيئاً إلا لحكمة، ولا شرع شيئاً إلا لحكمة، وحكمه القدري والشرعي والجزائي مشتمل على الحكمة.
{ ٱلْعَلِيمُ } بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي، ولا أصغر منها ولا أكبر.
{ وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم، وكثر خيره، واتسعت صفاته، وعظم ملكه.
ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما، وسعة علمه، وأنه بكل شيء عليم، حتى إنه تعالى، انفرد بعلم كثيرٍ من الغيوب، التي لم يطّلع عليها أحدٌ من الخلق، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرّب، ولهذا قال: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } قدم الظرف، ليفيد الحصر، أي: لا يعلم متى تجيء الساعة إلاّ هو، ومن تمام ملكه وسعته، أنه مالك الدنيا والآخرة، ولهذا قال: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: في الآخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل، ومن تمام ملكه، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئاً، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد إلاّ بإذنه.
{ وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي: كل مَنْ دُعي من دون اللّه، من الأنبياء والملائكة وغيرهم، لا يملكون الشفاعة، ولا يشفعون إلا بإذن اللّه، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى، ولهذا قال: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ } أي: نطق بلسانه، مقراً بقلبه، عالماً بما شهد به، ويشترط أن تكون شهادته بالحق، وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية، ولرسله بالنبوة والرسالة، وصحة ما جاؤوا به، من أصول الدين وفروعه، وحقائقه وشرائعه، فهؤلاء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين، وهؤلاء الناجون من عذاب اللّه، الحائزون لثوابه.
ثم قال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } أي: ولئن سألت المشركين عن توحيد الربوبية، ومن هو الخالق، لأقروا أنه اللّه وحده لا شريك له.
{ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي: فكيف يصرفون عن عبادة اللّه والإخلاص له وحده؟! فإقرارهم بتوحيد الربوبية، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية، وهو من أكبر الأدلة على بطلان الشرك.
{ وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } هذا معطوف على قوله: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي: وعنده علم قيله، أي: الرسول صلى اللّه عليه وسلم، شاكياً لربه تكذيب قومه، متحزناً على ذلك، متحسراً على عدم إيمانهم، فاللّه تعالى عالم بهذه الحال، قادر على معاجلتهم بالعقوبة، ولكنه تعالى حليم، يمهل العباد ويستأني بهم، لعلهم يتوبون ويرجعون، ولهذا قال: { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ } أي: اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية، واعف عنهم، ولا يبدر منك لهم إلاّ السلام الذي يُقَابِلُ به أولو الألباب والبصائر الجاهلين، كما قال تعالى عن عباده الصالحين:


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:24 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (523)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الدخان


{ حـمۤ } 1 { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } 2 { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } 4 { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } 3 { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } 5 { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } 6 { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } 7 { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } 9 { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } 8 { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } 10 { يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } 11 { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ }13 { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } 12 { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } 14 { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } 15 { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }16


هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه، أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي: كثيرة الخير والبركة، وهي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام، لينذر به قوماً عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الشقاوة، فيستضيئوا بنوره، ويقتبسوا من هداه، ويسيروا وراءه، فيحصل لهم الخير الدنيوي، والخير الأخروي، ولهذا قال: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا } أي: في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن { يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي: يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم الله به، وهذه الكتابة والفرقان، الذي يكون في ليلة القدر، أحد الكتابات التي تكتب وتميز، فتطابق الكتاب الأول، الذي كتب الله به، مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه، ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا، وكَّل به كراماً كاتبين، يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة، وكل هذا من تمام علمه، وكمال حكمته، وإتقان حفظه، واعتنائه تعالى بخلقه { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } أي: هذا الأمر الحكيم أمر صادر من عندنا، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل، ومنزلين للكتب، والرسل تبلغ أوامر المرسل، وتخبر بأقداره، { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب، التي أفضلها القرآن، رحمة من رب العباد بالعباد، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة، فإنه من أجل ذلك وسببه، { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي: يسمع جميع الأصوات، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة، وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه، فرحمهم بذلك، ومن عليهم، فله تعالى الحمد والمنة والإحسان. { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي: خالق ذلك ومدبره، والمتصرف فيه بما شاء.
{ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } أي: عالمين بذلك علماً مفيداً لليقين، فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق، ولهذا قال: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: لا معبود إلا وجهه، { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي: هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: رب الأولين والآخرين، مربيهم بالنعم، الدافع عنهم النقم. فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام، ويدفع الشك، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان { فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي: منغمرون في الشكوك والشبهات، غافلون عما خلقوا له، قد اشتغلوا باللعب الباطل، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر. { فَٱرْتَقِبْ } أي: انتظر فيهم العذاب، فإنه قد قرب وآن أوانه، { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي: يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم: { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان، فقيل: إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة، وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة، وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم.
ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار بمن آذاهم، ويؤيده أيضاً، أنه قال في هذه الآية: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } وهذا يقال يوم القيامة للكفار، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا، فيقال: قد ذهب وقت الرجوع.
وقيل: إن المراد بذلك، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان، واستكبروا على الحق، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
" اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف " فأرسل الله عليهم الجوع العظيم، حتى أكلوا الميتات والعظام، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان، وليس به، وذلك من شدة الجوع.
فيكون - على هذا - قوله: { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون، وليس بدخان حقيقة. ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يدعو الله لهم، أن يكشفه الله عنهم، فدعا ربه، فكشفه الله عنهم، وعلى هذا فيكون قوله: { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إخبار بأن الله سيصرفه عنكم وتوعُّدٌ لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب، وإخبار بوقوعه فوقع، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى، قالوا: وهي وقعة " بدر " وفي هذا القول نظر ظاهر.
وقيل: إن المراد بذلك، أن ذلك من أشراط الساعة، وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس الناس، ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان، والقول هو الأول، وفي الآية احتمال أن المراد بقوله: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أن هذا كله يكون يوم القيامة، وأن قوله تعالى { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم.
وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين، لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك.
بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح، والله أعلم.


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:25 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (524)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)
الى الأية(33)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الدخان

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } 17 { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } 18 { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 19 { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } 20 { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } 21 { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } 22 { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } 23 { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } 24 { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 25 { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } 26 { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } 27 { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْماً آخَرِينَ } 28 { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } 29 { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } 30 { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } 31 { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } 32 { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ }33


{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } إلى آخر القصة لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، ذكر أن لهم سلفاً من المكذبين، فذكر قصتهم مع موسى، وما أحل الله بهم، ليرتدع هؤلاء المكذبون عن ما هم عليه فقال: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي: ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن عمران إليهم، الرسول الكريم، الذي فيه من الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره، { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ } أي: قال لفرعون وملئه: أدوا إليَّ عباد الله، يعني بهم: بني إسرائيل، أي: أرسلوهم، وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب، فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في زمانهم.
وأنتم قد ظلمتموهم، واستعبدتموهم بغير حق، فأرسلوهم ليعبدوا ربهم، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي: رسول من رب العالمين، أمين على ما أرسلني به، لا أكتمكم منه شيئاً، ولا أزيد فيه ولا أنقص، وهذا يوجب تمام الانقياد له.
{ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ } بالاستكبار عن عبادته والعلو على عباد الله، { إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي: بحجة بينة ظاهرة، وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات، والأدلة القاهرات، فكذبوه وهموا بقتله، فلجأ بالله من شرهم، فقال: { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أي: تقتلوني أشر القتلات، بالرجم بالحجارة.
{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } أي: لكم ثلاث مراتب: الإيمان بي، وهو مقصودي منكم، فإن لم تحصل منكم هذه المرتبة، فاعتزلوني لا عليَّ ولا لي، فاكفوني شركم، فلم تحصل منهم المرتبة الأولى ولا الثانية، بل لم يزالوا متمردين عاتين على الله، محاربين لنبيه موسى عليه السلام، غير ممكنين له من قومه بني إسرائيل.
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } أي: قد أجرموا جرماً، يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلام بحالهم، وهذا دعاء بالحال، التي هي أبلغ من المقال، كما قال عن نفسه عليه السلام
{ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24] فأمره الله أن يسري بعباده ليلاً، وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه، { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } أي: بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني إسرائيل كما أمره الله، ثم تبعهم فرعون، فأمر الله موسى أن يضرب البحر، فضربه فصار اثنى عشر طريقاً، وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة، فسلكه موسى وقومه. فلما خرجوا منه، أمره الله أن يتركه رهواً، أي: بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } فلما تكامل قوم موسى خارجين منه، وقوم فرعون داخلين فيه، أمره الله تعالى أن يلتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم، وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا، وأورثه الله بني إسرائيل، الذين كانوا مستعبدين لهم، ولهذا قال: { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا } أي: هذه النعمة المذكورة { قَوْماً آخَرِينَ } وفي الآية الأخرى:
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 59].
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } أي: لما أتلفهم الله وأهلكهم، لم تبك عليهم السماء والأرض، أي: لم يُحزن عليهم، ولم يُؤْسَ على فراقهم، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم، حتى السماء والأرض، لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم، ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين.
{ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي: ممهلين عن العقوبة، بل اصطلمتهم في الحال ثم امتنَّ تعالى على بني إسرائيل، فقال { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } الذي كانوا فيه { مِن فِرْعَوْنَ } إذ يذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم.
{ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي مستكبراً في الأرض بغير الحق، { مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } المتجاوزين لحدود الله، المتجرئين على محارمه.
{ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ } أي: اصطفيناهم وانتقيناهم { عَلَىٰ عِلْمٍ } منا بهم، وباستحقاقهم لذلك الفضل { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي: عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فَفَضَلوا العالمين كلهم، وجَعَلَهم الله خير أمة أخرجت للناس، وامتنّ عليهم بما لم يمتن به على غيرهم.
{ وَآتَيْنَاهُم } أي: بني إسرائيل { مِّنَ ٱلآيَاتِ } الباهرة، والمعجزات الظاهرة، { مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } أي: إحسان كثير، ظاهر منا عليهم، وحجة عليهم، على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليه السلام.


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:26 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (525)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(34)
الى الأية(42)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الدخان

{ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ } 34 { إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } 35 { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 36 { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }37


يخبر تعالى { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ } المكذبين يقولون مستبعدين للبعث والنشور: { إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي: ما هي إلا الحياة الدنيا، فلا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار.
ثم قالوا - متجرئين على ربهم، معجزين له -: { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذا من اقتراح الجهلة المعاندين في مكان سحيق، فأي ملازمة بين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه متوقف على الإتيان بآبائهم؟ فإن الآيات قد قامت على صدق ما جاءهم به، وتواترت تواتراً عظيماً من كل وجه.
قال تعالى: { أَهُمْ خَيْرٌ } أي: هؤلاء المخاطبون { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } فإنهم ليسوا خيراً منهم، وقد اشتركوا في الإجرام، فليتوقعوا من الهلاك ما أصاب إخوانهم المجرمين.

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } 38 { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } 39 { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } 40 { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } 41 { إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }42


يخبر تعالى، عن كمال قدرته، وتمام حكمته، وأنه ما خلق السماوات والأرض لعباً ولا لهواً أو سدى من غير فائدة، وأنه ما خلقهما إلا بالحق، أي: نفس خلقهما بالحق، وخلقهما مشتمل على الحق، وأنه أوجدهما ليعبدوه وحده لا شريك له، وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض.
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ } وهو يوم القيامة الذي يفصل الله به بين الأولين والآخرين، وبين كل مختلفين { مِيقَاتُهُمْ } أي: الخلائق { أَجْمَعِينَ }.
كلهم سيجمعهم الله فيه، ويحضرهم ويحضر أعمالهم، ويكون الجزاء عليها ولا ينفع مولى عن مولى شيئاً لا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي: يمنعون من عذاب الله عز وجل، لأن أحداً من الخلق لا يملك من الأمر شيئاً.
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة الله تعالى، التي تسبب إليها، وسعى لها سعيها في الدنيا. ثم قال تعالى: { إِنَّ شَجَرَتَ... }.





ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:26 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (526)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(43)
الى الأية(59)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الدخان
{ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ } 43 { طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } 44 { كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ } 45 { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } 46 { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } 47 { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ } 48 { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } 49 { إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }50


لما ذكر يوم القيامة، وأنه يفصل بين عباده فيه، ذكر افتراقهم إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهم: الآثمون بعمل الكفر والمعاصي، وأن طعامهم { شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ } شر الأشجار وأفظعها، وأن طعامها { كَٱلْمُهْلِ } أي: كالصديد المنتن، خبيث الريح والطعم، شديد الحرارة، يغلي في بطونهم { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } ويقال للمعذَّب: { ذُقْ } هذا العذاب الأليم، والعقاب الوخيم، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } أي: بزعمك أنك عزيز، ستمتنع من عذاب الله، وأنك كريم على الله لا يصيبك بعذاب، فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس، { إِنَّ هَـٰذَا } العذاب العظيم { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون، فالآن صار عندكم حق اليقين.
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } 51 { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 52{ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } 53 { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } 54 { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } 55 { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 56 { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } 57 { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } 58 { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ }59


هذا جزاء المتقين لله الذين اتقوا سخطه وعذابه، بتركهم المعاصي، وفعلهم الطاعات، فلما انتفى السخط عنهم والعذاب، ثبت لهم الرضا من الله، والثواب العظيم، في ظل ظليل، من كثرة الأشجار والفواكه، وعيون سارحةٍ، تجري من تحتهم الأنهار، يفجرونها تفجيراً في جنات النعيم.
فأضاف الجنات إلى النعيم، لأن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور، كامل من كل وجه، ما فيه منغص ولا مكدر بوجه من الوجوه.
ولباسهم من الحرير الأخضر من السندس والإستبرق، أي: غليظ الحرير ورقيقه، مما تشتهيه أنفسهم، { مُّتَقَابِلِينَ } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة، والطمأنينة، والمحبة، والعشرة الحسنة، والآداب المستحسنة.
{ كَذَلِكَ } النعيم التام والسرور الكامل { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي: نساء جميلات، من جمالهن وحسنهن أنه يحار الطرف في حسنهن، وينبهر العقل بجمالهن، وينخلب اللب لكمالهن، { عِينٍ } أي: ضخام الأعين حسانها.
{ يَدْعُونَ فِيهَا } أي: الجنة { بِكلِّ فَاكِهَةٍ } مما له اسم في الدنيا، ومما لا يوجد له اسم، ولا نظير في الدنيا، فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها، أحضر لهم في الحال، من غير تعب ولا كلفة، { آمِنِينَ } من انقطاع ذلك، وآمنين من مضرته، وآمنين من كل مكدر، وآمنين من الخروج منها والموت، ولهذا قال: { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } أي: ليس فيها موت بالكلية، ولو كان فيها موت يستثنى، لم يستثن الموتة الأولى، التي هي الموتة في الدنيا، فتم لهم كل محبوب مطلوب، { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ } أي: حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم، من فضل الله عليهم وكرمه، فإنه تعالى هو الذي وفقهم للأعمال الصالحة، التي بها نالوا خير الآخرة، وأعطاهم أيضاً ما لم تبلغه أعمالهم، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } وأي فوز أعظم من نيل رضوان الله وجنته، والسلامة من عذابه وسخطه؟ { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } أي: القرآن { بِلِسَانِكَ } أي: سهلناه بلسانك الذي هو أفصح الألسنة على الإطلاق وأجلها، فتيسر به لفظه، وتيسر معناه.
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ما فيه نفعهم فيفعلونه، وما فيه ضررهم فيتركونه.
{ فَٱرْتَقِبْ } أي: انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر، { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } ما يحل بهم من العذاب، وفرق بين الارتقابين: رسول الله وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا والآخرة، وضدهم يرتقبون الشر في الدنيا والآخرة.


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:27 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (527)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الجاثية

{
حـمۤ } 1 { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } 2 { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِين َ } 3 { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } 4 { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }5 { تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ } 6 { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } 7 { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } 8 { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } 9 { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 10 { هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }11


يخبر تعالى خبراً يتضمن الأمر بتعظيم القرآن والاعتناء به، وأنه { تَنزِيلُ } { مِنَ ٱللَّهِ } المألوه المعبود، لما اتصف به من صفات الكمال، وانفرد به من النعم، الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة، ثم أيد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقية والنفسية، من خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من الدواب، وما أودع فيهما من المنافع، وما أنزل الله من الماء، الذي يحيي به الله البلاد والعباد. فهذه كلها آيات بينات، وأدلة واضحات، على صدق هذا القرآن العظيم، وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام، ودالات أيضاً على ما لله تعالى من الكمال، وعلى البعث والنشور.
ثم قسم تعالى الناس، بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه، إلى قسمين: قسم يستدلون بها، ويتفكرون بها، وينتفعون فيرتفعون، وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إيماناً تاماً، وصل بهم إلى درجة اليقين، فزكى منهم العقول، وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم.
وقسم يسمع آيات الله سماعاً تقوم به الحجة عليهم، ثم يعرض عنها ويستكبر، كأنه ما سمعها، لأنها لم تزك قلبه، ولا طهَّرته، بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه.
وأنه إذا علم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، فتوعده الله تعالى بالويل فقال: { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي: كذاب في مقاله، أثيم في فعاله.
وأخبر أنّ له عذاباً أليماً، وأن { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } تكفي في عقوبتهم البليغة. وأنه { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ } من الأموال { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ } يستنصرون بهم فخذلوهم، أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا. فلما بيَّن آياته القرآنية والعيانية، وأن الناس فيها على قسمين، أخبر أن القرآن المشتمل على هذه المطالب العالية، أنه هدى، فقال: { هَـٰذَا هُدًى } وهذا وصف عام لجميع القرآن، فإنه يهدي إلى معرفة الله تعالى، بصفاته المقدسة، وأفعاله الحميدة، ويهدي إلى معرفة رسله، وأوليائه وأعدائه، وأوصافهم، ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال، ويبين الجزاء الدنيوي والأخروي، فالمهتدون اهتدوا به، فأفلحوا وسعدوا، { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ } الواضحة القاطعة، التي لا يكفر بها إلا من اشتد ظلمه، وتضاعف طغيانه، { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }.






ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:28 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (528)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(12)
الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الجاثية
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 12 { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }13


يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره، { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى، فإنكم إذا شكرتموه، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجراً جزيلاً.
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض، ولما أودع الله فيهما، من الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمرات، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معدٌّ لمصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أنَّ خلقها وتدبيرها وتسخيرها، دالٌّ على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنعة، وحسن الخلقة، دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة، دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات، دليل على أنه الفعَّال لما يريد، وما فيها من المنافع، والمصالح الدينية والدنيوية، دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه، وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود، الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة، لا تقبل ريباً ولا شكاً.
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 14 { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }15


يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره، { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى، فإنكم إذا شكرتموه، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجراً جزيلاً.
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض، ولما أودع الله فيهما، من الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمرات، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معدٌّ لمصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أنَّ خلقها وتدبيرها وتسخيرها، دالٌّ على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنعة، وحسن الخلقة، دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة، دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات، دليل على أنه الفعَّال لما يريد، وما فيها من المنافع، والمصالح الدينية والدنيوية، دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه، وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود، الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة، لا تقبل ريباً ولا شكاً.

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } 16 { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }17


أي: ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعماً لم تحصل لغيرهم من الناس، وآتيناهم { ٱلْكِتَابَ } أي: التوراة والإنجيل، { وَٱلْحُكْمَ } بين الناس، { وَٱلنُّبُوَّةَ } التي امتازوا بها، وصارت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، أكثرهم من بني إسرائيل، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملابس، وإنزال المن والسلوى عليهم، { وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } أي: على الخلق بهذه النِّعَم، ويخرج من هذا العموم اللفظي، هذه الأمة، فإنهم خير أمة أخرجت للناس. والسياق يدل على أن المراد غير هذه الأمة، فإن الله يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل، وميزهم عن غيرهم، وأيضاً فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة، وغيرها من النعوت، قد حصلت كلها لهذه الأمة، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة، فهذه الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها، فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين. { وَآتَيْنَاهُم } أي: آتينا بني إسرائيل { بَيِّنَاتٍ } أي: دلالات تبين الحق من الباطل { مِّنَ ٱلأَمْرِ } القدري الذي أوصله الله إليهم. وتلك الآيات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلام، فهذه النِّعَم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه، وأن يجتمعوا على الحق الذي بيَّنه الله لهم، ولكن انعكس الأمر، فعاملوها بعكس ما يجب. وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به، ولهذا قال: { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض، والظلم.
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيميز المحق من المبطل، والذي حمله على الاختلاف، الهوى أو غيره.





ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:29 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (529)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(18)
الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الجاثية
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } 18 { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ }19


أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، من أمرنا الشرعي { فَٱتَّبِعْهَا } فإن في اتباعها السعادة الأبدية، والصلاح والفلاح، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم، ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته، فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي: لا ينفعونك عند الله، فَيُحَصِّلوا لك الخير، ويدفعوا عنك الشر، إن اتبعتهم على أهوائهم، ولا تصلح أن توافقهم وتواليهم، فإنك وإياهم متباينون، وبعضهم ولي لبعض { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يخرجهم من الظلمات إلى النور، بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.

{ هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }20


أي: { هَـٰذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة.
{ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم، في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور، والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة، فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند.
{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }21


أي: أم حسب المسيؤون المكثرون من الذنوب، المقصرون في حقوق ربهم.
{ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم، واجتنبوا مساخطه، ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي: أحسبوا أن يكونوا { سَوَآءً } في الدنيا والآخرة؟ ساء ما ظنوا وحسبوا، وساء ما حكموا به، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين، وخير العادلين، ويناقض العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ويضاد ما نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل، بل الحكم الواقع القطعي، أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب، في العاجل والآجل، كل على قدر إحسانه، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة، والعذاب والشقاء، في الدنيا والآخرة.

{ وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }22


أي: خلق الله السماوات والأرض بالحكمة، وليُعبَد وحده لا شريك له، ثم يجازي بعد ذلك من أمرهم بعبادته، وأنعم عليم بالنعم الظاهرة والباطنة، هل شكروا الله تعالى، وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا، فاستحقوا جزاء الكفور؟
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } 23 { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } 24 { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 25 { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }26


يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ } الرجل الضال الذي { ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } فما هويه سلكه، سواء كان يرضي الله أو يسخطه. { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } من الله تعالى، أنه لا تليق به الهداية، ولا يزكو عليها. { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ } فلا يسمع ما ينفعه، { وَقَلْبِهِ } فلا يعي الخير، { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } تمنعه من نظر الحق، { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } أي: لا أحد يهديه، وقد سد الله عليه أبواب الهداية، وفتح له أبواب الغواية، وما ظلمه الله، ولكن هو الذي ظلم نفسه، وتسبب لمنع رحمة الله عليه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه، وما يضركم فتجتنبونه.
{ وَقَالُواْ } أي: منكرو البعث { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أي: إن هي إلا عادات، وجَرْيٌ على رسوم الليل والنهار، يموت أناس، ويحيا أناس، وما مات فليس براجع إلى الله، ولا مجازى بعمله.
وقولهم هذا صادر عن غير علم { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين، من غير دليل دلهم على ذلك ولا برهان.
إن هي إلا ظنون، واستبعادات خالية عن الحقيقة، ولهذا قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذا جراءة منهم على الله، حيث اقترحوا هذا الاقتراح، وزعموا أن صدق رسل الله متوقف على الإتيان بآبائهم، وأنهم لو جاؤوهم بكل آية لم يؤمنوا، إلا إن تبعتهم الرسل على ما قالوا وهم كذبة فيما قالوا، وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل، لا بيان الحق، قال تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم، لعملوا له أعمالاً وتهيؤوا له.


ابوالوليد المسلم 08-08-2020 04:29 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (530)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(27)
الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الجاثية
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } 27 { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 28 { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 29 { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } 30 { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُ مْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } 31 { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ } 32 { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } 33 { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } 34 { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } 35 { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 36 { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }37


يخبر تعالى عن سعة ملكه، وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع الأوقات، وأنه { يَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ } ويجمع الخلائق لموقف القيامة، يحصل الخسار على المبطلين، الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وكانت أعمالهم باطلة، لأنها متعلقه بالباطل، فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين به الحقائق، واضمحلت عنهم، وفاتهم الثواب، وحصلوا على أليم العقاب. ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العِبَاد، ويستعد له العُبّاد، فقال: { وَتَرَىٰ } أيها الرائي لذلك اليوم { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفاً وذعراً، وانتظاراً لحكم الملك الرحمن. { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى، وأمة عيسى كذلك، وأمة محمد كذلك، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به، هذا أحد الاحتمالات في الآية، وهو معنى صحيح في نفسه، غير مشكوك فيه، ويحتمل أن المراد بقوله: { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى كتاب أعمالها، وما سطر عليها من خير وشر، وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه، كقوله تعالى:{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46].
ويحتمل أن المعنيين كليهما مراد من الآية، ويدل على هذا قوله: { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم، يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل، { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهذا كتاب الأعمال، ولهذا فصل ما يفعل الله بالفريقين فقال: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } إيماناً صحيحاً، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، من واجبات ومستحبات، { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } التي محلها الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والعيش السليم، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } أي: المفاز والنجاة والربح، والفلاح الواضح البيِّن، الذي إذا حصل للعبد، حصل له كل خير، واندفع عنه كل شر. { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } بالله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: { أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم، ونهتكم عما فيه ضرركم، وهي أكبر نعمة وصلت إليكم، لو وفقتم لها، ولكن استكبرتم عنها، وأعرضتم، وكفرتم بها، فجنيتم أكبر جناية، وأجرمتم أشد الجرم، فاليوم تجزون ما كنتم تعملون، ويوبخون أيضاً بقوله: { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم } منكرين لذلك: { مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ }. فهذه حالهم في الدنيا، وحال البعث الإنكار له، وردّ قول من جاء به.
قال تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي: وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم، { وَحَاقَ بِهِم } أي: نزل { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزؤون به وبوقوعه وبمن جاء به.
{ وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ } أي: نترككم في العذاب { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } فإن الجزاء من جنس العمل، { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي: هي مقركم ومصيركم، { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونكم من عذاب الله، ويدفعون عنكم عقابه.
{ ذَلِكُم } الذي حصل لكم من العذاب { بِـ } سبب { أَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً } مع أنها موجبة للجد والاجتهاد، وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح.
{ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها، فاطمأننتم إليها، وعملتم لها، وتركتم العمل للدار الباقية.
{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أي: ولا يمهلون، ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً.
{ فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ } كما ينبغي لجلاله، وعظيم سلطانه { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: له الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي: له الجلال والعظمة والمجد.
فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال، ومحبته تعالى وإكرامه، والكبرياء فيها عظمته وجلاله، والعبادة مبنية على ركنين، محبة الله، والذل له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه.
{ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ } القاهر لكل شيء، { ٱلْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة.


ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:50 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (531)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(10)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الأحقاف
{ حـمۤ } 1 { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } 2 { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ }3


هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره، والإقبال على تدبر آياته، واستخراج كنوزه.
ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي، ذكر خلقه السماوات والأرض، فجمع بين الخلق والأمر،
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] كما قال تعالى:{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق: 12] وكما قال تعالى:{ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ * خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [النحل: 2-3] فالله تعالى هو الذي خلق المكلفين، وخلق مساكنهم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم ونهاهم، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال، لا دار إقامة لا يرحل عنها أهلها، وأنهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار، وموطن الخلود والدوام، وإنما أعمالهم التي عملوها في هذه الدار، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملاً موفراً.
وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار، وأذاق العباد نموذجاً من الثواب والعقاب العاجل، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب، والهرب من المرهوب، ولهذا قال هنا: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي: لا عبثاً ولا سدىً، بل ليعرف العباد عظمة خالقهما، ويستدلوا على كماله، ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء، وأن خلقهما وبقاءهما مقدر إلى { أَجَلٍ مُّسَمًّى }.
فلما أخبر بذلك - وهو أصدق القائلين وأقام الدليل، وأنار السبيل أخبر - مع ذلك - أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضاً عن الحق، وصدوفاً عن دعوة الرسل، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } وأما الذين آمنوا، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم، وتلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالانقياد والتعظيم، ففازوا بكل خير، واندفع عنهم كل شر.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 4 { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } 5 { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }6


أي: { قُلْ } لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثاناً وأنداداً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، قل لهم - مبيناً عجز أوثانهم، وأنها لا تستحق شيئاً من العبادة-: { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئاً؟ هل خلقوا جبالاً؟ هل أجروا أنهاراً؟ هل نشروا حيواناً؟ هل أنبتوا أشجاراً؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ لا شيء من ذلك، بإقرارهم على أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله، فعبادته باطلة. ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي، فقال: { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ } الكتاب يدعو إلى الشرك، { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم، ونهوا عن الشرك به، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم، قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وكل رسول قال لقومه:{ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 59] فعلم أن جدال المشركين في شركهم، غير مستندين فيه على برهان ولا دليل، وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة، وآراء كاسدة، وعقول فاسدة.
يدلُّك على فسادها استقراء أحوالهم، وتتبع علومهم وأعمالهم، والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته، هل أفادهم شيئاً في الدنيا أو في الآخرة؟ ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي: مدة مقامه في الدنيا، لا ينتفع به بمثقال ذرة، { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } لا يسمعون منهم دعاء، ولا يجيبون لهم نداء، هذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم. { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض { وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }.

{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } 7 { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } 8 { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 9 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }10


أي: وإذا تتلى على المكذبين { آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } بحيث تكون على وجه لا يمترى بها، ولا يشك في وقوعها وحقها، لم تفدهم خيراً، بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وافترائهم { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي: ظاهر لا شك فيه، وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السحر من المنافاة والمخالفة، أعظم مما بين السماء والأرض، وكيف يقاس الحق - الذي علا وارتفع ارتفاعاً على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة - بالباطل الذي هو السحر الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس، خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله، وهل هذا إلا من البهرجة؟ { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه، فليس هو من عند الله. { قُلْ } لهم: { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } فالله عليَّ قادر وبما تفيضون فيه عالم، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم؟ فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } إن أرادني الله بضرٍ، أو أرادني برحمةٍ { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولاً عليه، لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقاباً يراه كل أحد، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولاً، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته، فقال: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه، يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم، فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر. { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي: لست بأول رسول جاءكم، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم، فلأي شيء تنكر رسالتي؟ { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي: لست إلا بشراً، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى هو المتصرف بي وبكم، الحاكم عليَّ وعليكم، ولست الآتي بالشيء من عندي، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك عليَّ فحسابكم على الله، وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر. { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ } أي: أخبروني، لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء، واستكبرتم أيها الجهلاء الأغبياء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } ومن الظلم الاستكبار عن الحق بعد التمكن منه.


ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:51 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (532)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(11)
الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الأحقاف
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } 11 { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } 12 { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 13 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }14


أي: وإذا تتلى على المكذبين { آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } بحيث تكون على وجه لا يمترى بها، ولا يشك في وقوعها وحقها، لم تفدهم خيراً، بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وافترائهم { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي: ظاهر لا شك فيه، وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السحر من المنافاة والمخالفة، أعظم مما بين السماء والأرض، وكيف يقاس الحق - الذي علا وارتفع ارتفاعاً على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة - بالباطل الذي هو السحر الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس، خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله، وهل هذا إلا من البهرجة؟ { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه، فليس هو من عند الله. { قُلْ } لهم: { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } فالله عليَّ قادر وبما تفيضون فيه عالم، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم؟ فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } إن أرادني الله بضرٍ، أو أرادني برحمةٍ { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولاً عليه، لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقاباً يراه كل أحد، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولاً، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته، فقال: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه، يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم، فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر.
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي: لست بأول رسول جاءكم، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم، فلأي شيء تنكر رسالتي؟ { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي: لست إلا بشراً، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى هو المتصرف بي وبكم، الحاكم عليَّ وعليكم، ولست الآتي بالشيء من عندي، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك عليَّ فحسابكم على الله، وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ } أي: أخبروني، لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء، واستكبرتم أيها الجهلاء الأغبياء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } ومن الظلم الاستكبار عن الحق بعد التمكن منه.
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } 15 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }16


هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين، أن وصَّى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف، والكلام اللين، وبذل المال والنفقة، وغير ذلك من وجوه الإحسان.
ثم نبَّه على ذكر السبب الموجب لذلك، فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها، ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة، ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة، وليست المذكورات مدة يسيرة، ساعة أو ساعتين، وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلٰثُونَ شَهْراً } للحمل تسعة أشهر ونحوها، والباقي للرضاع، هذا هو الغالب.
ويستدل بهذه الآية مع قوله:
{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع - وهي سنتان - إذا سقطت من الثلاثين شهراً، بقي ستة أشهر، مدة للحمل { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي: نهاية قوته وشبابه، وكمال عقله، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } أي: ألهمني ووفقني { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } أي: نعم الدين، ونعم الدنيا، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها، ومقابلته مِنَّتَهُ، بالاعتراف والعجز عن الشكر، والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين، نِعَم على أولادهم وذريتهم، لأنهم لا بدَّ أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصاً نِعَم الدين، فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل، من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم. { وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ } بأن يكون جامعاً لما يصلحه، سالماً مما يفسده، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله، ويثيب عليه.
{ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيْۤ } لما دعا لنفسه بالصلاح، دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله: { وَأَصْلِحْ لِي }.
{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي، ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
{ أُوْلَـٰئِكَ } الذين ذكرت أوصافهم { ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } وهو الطاعات، لأنهم يعملون أيضاً غيرها. { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فِي جملة { أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ } فحصل لهم الخير والمحبوب، وزال عنهم الشر والمكروه.
{ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي: هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد صادقٌ من أصدق القائلين، الذي لا يخلف الميعاد.


ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:52 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (533)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)
الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الأحقاف
{ وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } 17 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } 18 { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُ مْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }19


لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه، ذكر حالة العاق، وأنها شر الحالات، فقال: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } إذ دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وخوفاه الجزاء.
وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما، أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية، وفلاحه السرمدي، فقابلهما بأقبح مقابلة، فقال: { أُفٍّ لَّكُمَآ } أي: تباً لكما، ولما جئتما به.
ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال: { أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } على التكذيب، وسلفوا على الكفر، وهم الأئمة المقتدى بهم، لكل كفور وجهول ومعاند؟ { وَهُمَا } أي: والداه { يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ } عليه، ويقولان له: { وَيْلَكَ آمِنْ } أي: يبذلان غاية جهدهما، ويسعيان في هدايته أشد السعي، حتى إنهما - من حرصهما عليه - أنهما يستغيثان الله له، استغاثة الغريق، ويسألانه سؤال الشريق، ويعذلان ولدهما، ويتوجعان له، ويبينان له الحق، فيقولان: { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } ثم يقيمان عليه من الأدلة ما أمكنهما، وولدهما لا يزداد إلا عتواً ونفوراً، واستكباراً عن الحق وقدحاً فيه، { فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: إلا منقول من كتب المتقدمين، ليس من عند الله، ولا أوحاه الله إلى رسوله، وكل أحد يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأ، ولا تعلم من أحد، فمن أين يتعلَّمه؟ وأنَّى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي: حقت عليهم كلمة العذاب { فِيۤ } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } على الكفر والتكذيب، فسيدخل هؤلاء في غمارهم، وسيغرقون في تيارهم.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأس ماله، فالأرباح من باب أولى وأحرى، فهم قد فاتهم الإيمان، ولم يحصلوا على شيء من النعيم، ولا سلموا من عذاب الجحيم. { وَلِكُلٍّ } من أهل الخير وأهل الشر { دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي: كلٌّ على حسب مرتبته من الخير والشر، ومنازلهم في الدار الآخرة على قدر أعمالهم، ولهذا قال: { وَلِيُوَفِّيَهُ مْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بأن لا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }20


يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون، فيقال لهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا، واغتررتم بلذاتها، ورضيتم بشهواتها، وألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم، وتمتعتم تمتع الأنعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم، { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، أي: تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله، وإلى حكمه، وأنتم كذبة في ذلك، { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي: تتكبرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل، والعمل بالباطل، والكذب على الله بنسبته إلى رضاه، والقدح في الحق، والاستكبار عنه، فعوقبوا أشد العقوبة.
{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } 21 { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } 22 { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } 23 { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } 24 { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } 25 { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }26


{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ } إلى آخر القصة أي: { وَٱذْكُرْ } بالثناء الجميل { أَخَا عَادٍ } وهو هود عليه السلام، حيث كان من الرسل الكرام، الذين فضلهم الله تعالى بالدعوة إلى دينه، وإرشاد الخلق إليه.
{ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } وهم عاد { بِٱلأَحْقَافِ } أي: في منازلهم المعروفة بالأحقاف، وهي: الرمال الكثيرة في أرض اليمن. { وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } فلم يكن بدعاً منهم ولا مخالفاً لهم، قائلاً لهم: { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
فأمرهم بعبادة الله، الجامعة لكل قولٍ سديد وعمل حميد، ونهاهم عن الشرك والتنديد، وخوّفهم - إن لم يطيعوه - العذاب الشديد، فلم تفد فيهم تلك الدعوة.
{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أي: ليس لك من القصد، ولا معك من الحق، إلا أنك حسدتنا على آلهتنا، فأردت أن تصرفنا عنها.
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وهذا غاية الجهل والعناد.
{ قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ } فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء.
{ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } أي: ليس عليَّ إلا البلاغ المبين، { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة، فأرسل الله عليهم العذاب العظيم، وهو الريح التي دمرتهم وأهلكتهم، ولهذا قال: { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي: العذاب { عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي: معترضاً كالسحاب، قد أقبل على أوديتهم التي تسيل، فتسقي نوابتهم، ويشربون من آبارها وغُدْرانها. { قَالُواْ } مستبشرين: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي: هذا السحاب سيمطرنا. قال تعالى: { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ } أي: هذا الذي جنيتم به على أنفسكم، حيث قلتم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها. فسلطها الله عليهم
{ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي: بإذنه ومشيئته].
{ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم.
{ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم، هذا مع أن الله تعالى قد أدَّر عليهم النعم العظيمة، فلم يشكروه، ولا ذكروه، ولهذا قال: { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي: مكناهم في الأرض يتناولون طيباتها، ويتمتعون بشهواتها، وعمرناهم عمراً، يتذكر فيه من تذكر، ويتعظ فيه المهتدي، أي: ولقد مكنا عاداً كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون، أي: فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم، وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئاً، بل غيركم أعظم منكم تمكيناً، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جنودهم من الله شيئاً.
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } أي: لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم، حتى يقال إنهم تركوا الحق جهلاً منهم، وعدم تمكن من العلم به، ولا خلل في عقولهم، ولكن التوفيق بيد الله.
{ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير، وذلك بسبب أنهم { يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة.
{ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه، ويستهزؤون بالرسل الذين حذروهم منه.





ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:52 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (534)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(27)
الى الأية(36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الأحقاف
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } 27 { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }28


يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم، بإهلاك الأمم المكذبين، الذين هم حول ديارهم، بل كثير منهم في جزيرة العرب، كعاد وثمود ونحوهم، وأن الله تعالى صرَّف لهم الآيات، أي: نوَّعها من كل وجه، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من الكفر والتكذيب، فلما لم يؤمنوا، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء، ولهذا قال هنا: { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ } أي: يتقربون إليهم، ويتألهونهم لرجاء نفعهم. { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } فلم يجيبوهم، ولا دفعوا عنهم، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب، الذي يمنون به أنفسهم، حيث يزعمون أنهم على الحق، وأن أعمالهم ستنفعهم، فضلت وبطلت.
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 29 { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } 30 { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 31 { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }32


كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، إنسهم وجنهم، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فالإنس، يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن، فصرفهم الله إليه بقدرته، وأرسل إليه { نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي: وصَّى بعضهم بعضاً بذلك، { فَلَمَّا قُضِيَ } وقد وعوه، وأثَّر ذلك فيهم { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } نصحاً منهم لهم، وإقامة لحجة الله عليهم، وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.
{ قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ } هذا الكتاب الذي سمعناه { إِلَى ٱلْحَقِّ } وهو الصواب في كل مطلوب وخبر، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله، وإلى جنته، من العلم بالله، وبأحكامه الدينية، وأحكام الجزاء.
فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته، دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثمَّ بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } فإن الله على كل شيء قدير، فلا يفوته هارب، ولا يغالبه مغالب. { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وأيُّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات، فأعرض واستكبر؟!!


{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 33 { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } 34 { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 35 { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }36


كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، إنسهم وجنهم، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فالإنس، يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن، فصرفهم الله إليه بقدرته، وأرسل إليه { نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي: وصَّى بعضهم بعضاً بذلك، { فَلَمَّا قُضِيَ } وقد وعوه، وأثَّر ذلك فيهم { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } نصحاً منهم لهم، وإقامة لحجة الله عليهم، وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن. { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ } هذا الكتاب الذي سمعناه { إِلَى ٱلْحَقِّ } وهو الصواب في كل مطلوب وخبر، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله، وإلى جنته، من العلم بالله، وبأحكامه الدينية، وأحكام الجزاء. فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته، دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثمَّ بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } فإن الله على كل شيء قدير، فلا يفوته هارب، ولا يغالبه مغالب.
{ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وأيُّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات، فأعرض واستكبر؟!!





ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:53 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (535)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة محمد
{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } 1 { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } 2 { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }3


هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين، والسبب في ذلك، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر، وأئمة الضلال، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه.
فهؤلاء { أَضَلَّ } الله { أَعْمَٰلَهُمْ } أي: أبطلها وأشقاهم بسببها، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله، أن الله جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا شيئاً، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها، أن الله سيحبطها عليهم، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة، كانت الأعمال لأجلها باطلة.
وأما { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بما أنزل الله على رسله عموماً، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة.
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها، وإذا كُفِّرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة.
{ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم: { ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ } الذي هو الصدق واليقين، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم، الصادر { مِن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم بنعمته، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه، فصلحت أمورهم، فلما كانت الغاية المقصودة لهم، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي الحق المبين، كانت الوسيلة صالحة باقية، باقياً ثوابها.
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } حيث بيَّن لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42].
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } 4 { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } 5 { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }6


يقول تعالى - مرشداً عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم -: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شدّ منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المنّ عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم. وهذا الأمر مستمر { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل حال حكماً، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر. { ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبداً، حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
{ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيماناً صحيحاً عن بصيرة، لا إيماناً مبنياً على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جداً، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.
{ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا. فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.
{ سَيَهْدِيهِمْ } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحاً كاملاً لا نكد فيه ولا تنغيص بوجه من الوجوه.
{ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي: عرفها أولاً، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليها، التي من جملتها القتل في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغَّبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من النعيم المقيم، والعيش السليم.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } 7 { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } 8 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }9


هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبَّت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.
وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، فإنهم في تعس، أي: انتكاس من أمرهم وخذلان.
{ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم، وبطلت أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله. ذلك الإضلال والتعس للذين كفروا، بسبب أنهم { كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } من القرآن الذي أنزله الله، صلاحاً للعباد، وفلاحاً لهم، فلم يقبلوه، بل أبغضوه وكرهوه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }.






ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:54 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (536)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(10)
الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة محمد
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } 10 { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ }11


أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر، فخمدوا، ودمَّر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم، وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات الذميمة. وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب. { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم ونصرهم، { وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ } بالله تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية الله، وسدوا على أنفسهم رحمته { لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه، بل أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }12


لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة، والأشجار الناظرة المثمرة، لكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة.
ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وُكِلُوا إلى أنفسهم، فلم يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية، بل نزلوا عنها دركات، وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جُلُّ همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي: منزلاً معداً، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها.

{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }13


أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات. { أَهْلَكْنَاهُمْ } حين كذبوا رسلنا، ولم تفد فيهم المواعظ، فلا نجد لهم ناصراً، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئاً. فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك، وعادوك، وأنت أفضل المرسلين، وخير الأولين والآخرين؟! أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة، لولا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل كافر وجاحد؟

{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ }14


أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علماً وعملاً، قد علم الحق واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحق وأهل الغيّ!.

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }15


أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة. { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارةٍ، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحاً، وألذها شرباً. { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بحموضة ولا غيرها، { طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي: يلتذ به شاربه لذةً عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس، ويغول العقل. { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } من شمعه، وسائر أوساخه. { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثم قال: { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، { وَسُقُواْ } فيها { مَآءً حَمِيماً } أي: حاراً جداً، { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } 16 { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }17


يقول تعالى: ومن المنافقين { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ما تقول استماعاً، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال: { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي: قريباً، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه الحال، ولهذا قال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل. ثم بين حال المهتدين، فقال: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ } بالإيمان والانقياد، واتباع ما يرضي الله { زَادَهُمْ هُدًى } شكراً منه تعالى لهم على ذلك، { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، والعمل الصالح.



ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:54 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (537)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(18)
الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة محمد

{
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ }18


أي: فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون { إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي: فجأة، وهم لا يشعرون { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي: علاماتها الدالة على قربها. { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ } أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا؟ قد فات ذلك، وذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءهم النذير. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام ساعته.
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }19


العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه. وهذا العلم الذي أمر الله به - وهو العلم بتوحيد الله - فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائناً من كان، بل كلٌّ مضطرٌ إلى ذلك.
والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور:
أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته، فإنها توجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعقولاً، ورأياً وصواباً، وعلماً - وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون - قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد - على تكرر الباطل والشبه- إلا نمواً وكمالاً.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير - وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته - فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره. وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.

{ وَ } استغفر أيضاً { لِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } فإنهم - بسبب إيمانهم - كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأموراً بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعاً تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون، فهو يَعْلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ } 20 { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } 21 { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } 22 { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ }23


يقول تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } استعجالاً ومبادرةً للأوامر الشاقة: { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي: فيها الأمر بالقتال.
{ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } أي: ملزم العمل بها، { وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر، ولهذا قال: { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم. وهذا كقوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77].
ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه. { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } أي: جاءهم الأمر جد، وأمر محتم، ففي هذه الحال لو صدقوا الله بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من حالهم الأولى، وذلك من وجوه: منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده. ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل، ضعف عن العمل، بوظيفة وقته، وبوظيفة المستقبل، أما الحال، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه. ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتأليِّ الذي يجزم بقدرته، على ما يستقبل من أموره، فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هَمَّ به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناً بربه في ذلك، فهذا حريٌ بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
ثم ذكر تعالى حال المتوليِّ عن طاعة ربه، وأنه لا يتولى إلى خير، بل إلى شر، فقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثَمَّ الخير والرشد والفلاح، وإما إعراضٌ عن ذلك، وتولي عن طاعة الله، فما ثمَّ إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام. { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ } أفسدوا في الأرض، وقطعوا أرحامهم { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله.
{ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعاً تقوم به حجة الله عليها، ولهم أعين، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.



ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:55 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (538)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(24)
الى الأية(31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة محمد



{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }24


أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدَلَّهم على كل خير، ولحَذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرَّفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل.
{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبداً؟ هذا هو الواقع.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } 25 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } 26 { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } 27 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }28


يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال والكفران، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم، وإملاء منه لهم:{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [النساء: 120].
وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى، فزهدوا فيه ورفضوه، و { قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ } من المبارزين العداوة لله ولرسوله { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } أي: الذي يوافق أهواءهم، فلذلك عاقبهم الله بالضلال، والإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي.
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } فلذلك فضحهم، وبينها لعباده المؤمنين، لئلا يغتروا بها.
{ فَكَيْفَ } ترى حالهم الشنيعة، ورؤيتهم الفظيعة { إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } الموكلون بقبض أرواحهم، { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } بالمقامع الشديدة؟! { ذَلِكَ } العذاب الذي استحقوه ونالوه { بِـ } سبب { أَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ } من كل كفر وفسوق وعصيان.
{ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ } فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه، ولا يدنيهم منه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ } أي: أبطلها وأذهبها، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه، فإنه سيكفر عنه سيئاته، ويضاعف أجره وثوابه.


{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } 29 { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } 30 { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }31


يقول تعالى: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق بحكمة الله، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم.
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } فيجازيكم عليها.
ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده، وهو الجهاد في سبيل الله، فقال: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي: نختبر إيمانكم وصبركم، { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله لنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقاً، ومن تكاسل عن ذلك، كان ذلك نقصاً في إيمانه.




ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:56 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (539)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(32)
الى الأية(38)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة محمد



{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ }32


هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها، من الكفر بالله، وصد الخلق عن سبيل الله الذي نصبه موصلاً إليه.
{ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } أي: عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد، لا عن جهل وغي وضلال، فإنهم { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } فلا ينقص به ملكه.
{ وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } أي: مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران، وأعمالهم التي يرجون بها الثواب، لا تقبل لعدم وجود شرطها.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ }33


يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم، وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية، وهو: طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه، والطاعة هي امتثال الأمر، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام المتابعة.
وقوله: { وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها، بما يفسدها، من مَنّ بها وإعجاب، وفخر وسمعة، ومن عملٍ بالمعاصي التي تضمحل معها الأعمال، ويحبط أجرها، ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها. فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها، كلها داخلة في هذا، ومنهيٌّ عنها، ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض، وكراهة قطع النفل، من غير موجب لذلك، وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال، فهو أمر بإصلاحها، وإكمالها وإتمامها، والإتيان بها، على الوجه الذي تصلح به علماً وعملاً.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } 34 { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }35


هذه الآية والتي في البقرة قوله:{ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [البقرة: 217] مقيدتان، لكل نص مطلق، فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه، فقال هنا: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر { وَصَدُّواْ } الخلق { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } بتزهيدهم إياهم بالحق، ودعوتهم إلى الباطل، وتزيينه، { ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } لم يتوبوا منه، { فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } لا بشفاعة ولا بغيرها، لأنه قد تحتم عليهم العقاب، وفاتهم الثواب، ووجب عليهم الخلود في النار، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.
ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم، ويدخلهم الجنة، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله، والإقدام على معاصيه، فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، ولم يغلقها عن أحد، ما دام حياً متمكناً من التوبة.
وسبحان الحليم، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم، ويرزقهم، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم. ثم قال تعالى: { فَلاَ تَهِنُواْ } أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف، بل اصبروا واثبتوا، ووطِّنوا أنفسكم على القتال والجلاد، طلباً لمرضاة ربكم، ونصحاً للإسلام، وإغضاباً للشيطان.
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم، طلباً للراحة، { وَ } الحال أنكم { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ } أي: ينقصكم { أَعْمَالَكُمْ }.
فهذه الأمور الثلاثة، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين، أي: قد توفرت لهم أسباب النصر، ووعدوا من الله بالوعد الصادق، فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عدداً وعُدداً، وقوة داخلية وخارجية.
الثاني: أن الله معهم، فإنهم مؤمنون، والله مع المؤمنين، بالعون والنصر والتأييد، وذلك موجب لقوة قلوبهم، وإقدامهم على عدوهم.
الثالث: أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئاً، بل سيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، خصوصاً عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقال تعالى:
{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [التوبة: 120].
فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده، أوجب له ذلك النشاط، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب الله لعباده، وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم.

{ إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } 36 { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } 37 { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم }38


هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها، بأنها لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب، فلا يزال العبد لاهياً في ماله، وأولاده، وزينته، ولذاته من النساء، والمآكل والمشارب، والمساكن والمجالس، والمناظر والرياسات، لاعباً في كل عمل لا فائدة فيه، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي، حتى تستكمل دنياه، ويحضره أجله، فإذا هذه الأمور قد ولَّت وفارقت، ولم يحصل العبد منها على طائل، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه، وحضر عذابه، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، والاهتمام بشأنها، وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله: { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } بأن تؤمنوا بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته، وهي العمل بمرضاته على الدوام، مع ترك معاصيه، فهذا الذي ينفع العبد، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه، وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ولطفاً، ليثيبهم الثواب الجزيل، ولهذا قال: { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } أي: لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم، ويعنتكم من أخذ أموالكم، وبقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصاً يضركم، ولهذا قال: { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله. والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون منها، أنكم { تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية.
{ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك.
ثم قال: { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئاً. فإن الله هو { ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم.
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } في التوليِّ، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبُّون الله ورسوله، كما قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].



ابوالوليد المسلم 11-08-2020 03:57 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (540)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الفتح

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } 1 { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } 2 { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً }3


هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمراً في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل.
وبسبب ذلك لمّا أمن الناس بعضهم بعضاً، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار، يتمكن من ذلك، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجاً، فلذلك سماه الله فتحاً، ووصفه بأنه فتح مبين أي: ظاهر جلي، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله، وانتصار المسلمين، وهذا حصل بذلك الفتح، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور، فقال: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وذلك - والله أعلم - بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة، والدخول في الدين بكثرة، وبما تحمَّل صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من المرسلين، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى الله عليه وسلم، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
{ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعزاز دينك، ونصرك على أعدائك، واتساع كلمتك، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } تنال به السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي.
{ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي: قوياً لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، وقمع الكافرين، وذلهم ونقصهم، مع توفر قوى المسلمين ونموهم، ونمو أموالهم.
ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين، فقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ... }.
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } 4 { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } 5 { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }6


يخبر تعالى عن مِنَّتِهِ على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطَّنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيماناً مع إيمانهم. وقوله: { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.
{ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. { وَكَانَ ذَلِكَ } الجزاء المذكور للمؤمنين { عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.
وأما المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، فإن الله يعذبهم بذلك، ويريهم ما يسوؤهم حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين، وظنوا بالله الظن السوء، أنه لا ينصر دينه، ولا يُعلي كلمته، وأن أهل الباطل، ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، فأدار الله عليهم ظنهم، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا، { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } بما اقترفوه من المحادَّة لله ولرسوله، { وَلَعَنَهُمْ } أي: أبعدهم وأقصاهم عن رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }.

{ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }7


كرر الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل، وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173] { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } أي: قوياً غالباً، قاهراً لكل شيء، ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه وتدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.




ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:54 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (541)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(8)
الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الفتح

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } 8 { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }9


أي: { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ } أيها الرسول الكريم { شَٰهِداً } لأمتك بما فعلوه من خير وشر، وشاهداً على المقالات والمسائل، حقها وباطلها، وشاهداً لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه، { وَمُبَشِّراً } من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي، ومنذراً من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ومن تمام البشارة والنذارة، بيان الأعمال والأخلاق التي يبشر بها وينذر، فهو المبين للخير والشر، والسعادة والشقاوة، والحق من الباطل، ولهذا رتب على ذلك قوله: { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: بسبب دعوة الرسول لكم، وتعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور. { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي: تسبحوا لله { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }10


هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي " بيعة الرضوان " التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لا يفروا عنه، فهي عقد خاص، من لوازمه أن لا يفروا، ولو لم يبق منهم إلا القليل، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها، فأخبر تعالى: أن الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم { يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } ويعقدون العقد معه، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية، وحملهم على الوفاء بها، ولهذا قال: { فَمَن نَّكَثَ } فلم يف بما عاهد الله عليه { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي: لأن وبال ذلك راجع إليه، وعقوبته واصلة له، { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } أي: أتى به كاملاً موفراً، { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه.
{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } 11 { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } 12 { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً }13


يذم تعالى المتخلفين عن رسوله، في الجهاد في سبيله، من الأعراب الذين ضعف إيمانهم، وكان في قلوبهم مرض، وسوء ظن بالله تعالى، وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد، وأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، قال الله تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفاً يحتاج إلى توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعاً لهم، لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء. فظنوا { أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسببُ ذلك أمران: أحدها: أنهم كانوا { قَوْماً بُوراً } أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم. الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا قال: { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، { فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً }.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }14


أي: هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية، والأحكام الجزائية، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } وهو من قام بما أمره الله به { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ممن تهاون بأمر الله، { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة، فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين، وينزل خيره المدرار، آناء الليل والنهار.


ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:55 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (542)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(15)
الى الأية(24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الفتح

{ سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }15


لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة، ويقولون: { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ } بذلك { أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ } حيث حكم بعقوبتهم، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعاً وقدراً. { قُل } لهم { لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ } إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم القتال أول مرة. { فَسَيَقُولُونَ } مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: { بَلْ تَحْسُدُونَنَا } على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع، ولو فهموا رشدهم، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية، ولهذا قال: { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }.
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } 16 { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }17


لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله، ويعتذرون بغير عذر، وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ولا قتال، بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحناً لهم: { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي: سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة، وهؤلاء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أي: إما هذا وإما هذا، وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه، فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلُّوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية، { فَإِن تُطِيعُواْ } الداعي لكم إلى قتال هؤلاء { يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً } وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله، { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك. ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد، فقال: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما { يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ } فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، { وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعة الله ورسوله { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } فالسعادة كلها في طاعة الله، والشقاوة في معصيته ومخالفته.
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } 18 { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } 19 { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } 20 { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }21


يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت، معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين، وكانوا نحواً من ألف وخمس مئة، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان، { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكراً لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاءاً لهم، وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته. { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي: له العزة والقدرة، التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر. { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وهذا يشمل كل غنيمة غَنَّمها المسلمين إلى يوم القيامة، { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } أي: غنيمة خيبر أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثَمَّ شيء كثير من الغنائم سيتبعها، { وَ } احمدوا الله إذ { كَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ } القادرين على قتالكم، الحريصين عليه { عَنْكُمْ } فهي نعمة، وتخفيف عنكم. { وَلِتَكُونَ } هذه الغنيمة { آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها، { وَيَهْدِيَكُمْ } بما يقيض لكم من الأسباب { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } من العلم والإيمان والعمل. { وَأُخْرَىٰ } أي: وعدكم أيضاً غنيمة أخرى { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } وقت هذا الخطاب، { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } أي: هو قادر عليها، وتحت تدبيره وملكه، وقد وعدكموها، فلا بد من وقوع ما وعد به، لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
{ وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } 23 { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }24


هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين، بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم { لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يتولى أمرهم، { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم ويعينهم على قتالكم، بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }.



ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:56 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (543)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(25)
الى الأية(28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الفتح

{ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } 25 { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }26


يقول تعالى ممتناً على عباده بالعافية، من شر الكفار ومن قتالهم، فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ } أي: أهل مكة { عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم نحو ثمانين رجلاً، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة، فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم، فتركوهم ولم يقتلوهم، رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم، { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } فيجازي كل عامل بعمله، ويدبركم أيها المؤمنون بتدبيره الحسن. ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضاً صدوا { ٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أي: محبوساً { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلماً وعدواناً، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم، ولكن ثمَّ مانع وهو: وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطؤوهم، أي: خشية أن تطؤوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيَمُنُّ عليهم بالإيمان بعد الكفر، وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب. { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي: لو زالوا من بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم.
{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } 27 { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }28


يقول تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: " أخبرتكم أنه العام؟ " قالوا: لا. قال: " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " " ، قال الله هنا: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها، { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي: في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك، وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحاً قَرِيباً }. ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها، هدى ورحمة. أخبر بحكم عام، فقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ } الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر. { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي: الدين الموصوف بالحق، وهو العدل والإحسان والرحمة. وهو كل عمل صالح مُزَكٍّ للقلوب، مطهِّر للنفوس، مُربٍّ للأخلاق، مُعْلٍ للأقدار. { لِيُظْهِرَهُ } بما بعثه الله به { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } بالحجة والبرهان، ويكون داعياً لإخضاعهم بالسيف والسنان.


ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:57 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (544)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(29)
الى الأية(/)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الفتح

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }29

يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذلّ أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود. { يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه. { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } أي: قد أثرت العبادة - من كثرتها وحسنها - في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم. { ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا. وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء. { فَٱسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي: قوي وغلظ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } جمع ساق، { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال. { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. ولنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في " الهدي النبوي " فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، وتكلم على معانيها وأسرارها، قال -رحمه الله تعالى:- فصل في قصة الحديبية قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان. قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت في ذي القعدة على الصواب. وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، هكذا في الصحيحين عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفاً وأربعمائة، وفيهما، عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفاً وثلاثمائة، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وهم، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: وقد صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفاً وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم.
والقلب إلى هذا أَمْيَل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة، وغلط غلطاً بيَّناً من قال: كانوا سبعمائة، وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة. فصل فلما كانوا بذي الحليفة، " قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريباً من عُسْفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فروحوا إذاً " فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بغبرة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش. فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها، وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة أحدٌ من بني كعب يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: " أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عُمَّاراً، وادعهم إلى الإسلام ". وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " ، فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: " ذاك ظني به، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال: " هذه عن عثمان " ، ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظناً. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره " ، قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي: محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهاً، وأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي: غُدَر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء ". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه. وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وَضُوئِه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر، تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص، وقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد سهل لكم من أمركم " فقال: هات، اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا الكاتب، فقال: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: " باسمك اللهم " كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتب باسمك اللهم ". ثم قال: " اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل: فوالله لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا. فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نقض الكتاب بعد " ، فقال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأجزه لي " ، فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: " بلى فافعل " ، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً. قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله؟ قال: " بلى ". قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى " فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: " إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه " ، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ " قلت: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به ". قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا وانحروا، ثم احلقوا " ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل الله عز وجل: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } [الممتحنة: 10] فطلَّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع إلى المدينة. وفي مرجعه أنزل الله عليه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول الله؟ فقال: " نعم " ، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 4] "
الآية. انتهى.


ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:58 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (545)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الحجرات

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } 1 { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } 2 { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }3


هذا متضمن للأدب مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له ، واحترامه، وإكرامه، فأمر [الله] عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم، و [أن] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر، فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي [الشديد] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائناً ما كان. ثم أمر الله بتقواه عموماً، وهي كما قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله. وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع والجهات، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات والممكنات. وفي ذكر الاسمين الكريمين - بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله والأمر بتقواه - حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، والآداب المستحسنة، وترهيب عن عدم الامتثال. ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له صوته معه فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذوراً، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال. ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر والمكروه، والأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب، وفي هذا دليل على أن الله يمتحن القلوب، بالأمر والنهي والمحن، فمن لازم أمر الله، واتبع رضاه، وسارع إلى ذلك، وقدمه على هواه، تمحض وتمحص للتقوى، وصار قلبه صالحاً لها، ومن لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } 4 { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }5


نزلت هذه الآيات الكريمات في أناس من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، [أي: اخرج إلينا]، فذمهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب. فأدب العبد، عنوان عقله، وأن الله مريد به الخير، ولهذا قال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب والإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلات.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }6


وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجرداً، فإن في ذلك خطراً كبيراً، ووقوعاً في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كُذِّب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقاً.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } 7 { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }8


أي: ليكن لديكم معلوماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، وهو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول عليه، ولو يطيعكم في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكم، والله تعالى يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع الله في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره، وبما ينصب على الحق من الشواهد، والأدلة الدالة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وبما يفعله تعالى بكم من توفيقه للإنابة إليه، ويكرّه إليكم الكفر والفسوق أي: الذنوب الكبار، والعصيان: هي ما دون ذلك من الذنوب، بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده وعدم قبول الفطر له، وبما يجعله الله من الكراهة في القلوب له. { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الذين زين الله الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان { هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } أي: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم، والصراط المستقيم. وضدهم الغاوون، الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم، ولما{ زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب الله أفئدتهم. وقوله: { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل الله عليهم وإحسانه، لا بحولهم وقوتهم. { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته.


ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:58 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (546)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(9)
الى الأية(13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الحجرات
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } 9 { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }10


هذا متضمن لنهي المؤمنين [عن] أن يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها ونعمت، وإن { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال، [وقوله] { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ } هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات التي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله وعياله في أدائه حقوقهم، وفي الحديث الصحيح: " المقسطون عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ".
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بحقوق الأخوة الإيمانية: " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبعْ أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ".
ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها]، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثم أمر بالتقوى عموماً، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة [فقال: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ]، وإذا حصلت الرحمة حصل خير الدنيا والآخرة، ودلّ ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. وفي هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمر الله، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه، أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }11


وهذا أيضاً من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيراً من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، مُتَحَلٍّ بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ".
ثم قال: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: لا يعب بعضكم على بعض، واللمز بالقول، والهمز بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار.
كما قال تعالى:
{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } الآية [الهمزة: 1]، وسمى الأخ المؤمن نفساً لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي: لا يعير أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب ذمٍ يكره أن يطلق عليه، وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا.
{ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي: بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما تقتضيه بالإعراض عن أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب.
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فهذا [هو] الواجب على العبد، أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله والاستغفار، والمدح له مقابلة [على] ذمه.
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، ولا ثَمَّ قسم ثالث غيرهما.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }12


نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضاً إساءة الظن بالمسلم، وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه. { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله، التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه ".
ثم ذكر مثلاً منفراً عن الغيبة، فقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } شبه أكل لحمه ميتاً المكروه للنفوس [غاية الكراهة] باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصاً إذا كان ميتاً، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته وأكل لحمه حياً.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } والتواب الذي يأذن بتوبة عبده فيوفقه لها، ثم يتوب عليه بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }13


يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وفرقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل أي: قبائل صغاراً وكباراً، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعةً وانكفافاً عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، ممن يقوم بذلك ظاهراً لا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق. وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم شعوباً وقبائل لأجل ذلك.




ابوالوليد المسلم 14-08-2020 03:59 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (547)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(14)
الى الأية(18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الحجرات

{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 14 { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } 15 { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 16 { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } 17 { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }18


يخبر تعالى عن مقالة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً من غير بصيرة، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا: آمنا أي: إيماناً كاملاً، مستوفياً لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام، فأمر الله رسوله أن يرد عليهم، فقال: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أي: لا تدَّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهراً وباطناً، كاملاً.
{ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أي: دخلنا في الإسلام، واقتصروا على ذلك.
{ وَ } السبب في ذلك، أنه { لَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وإنما آمنتم خوفاً، أو رجاءً أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم، وفي قوله: { لَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي: وقت هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيراً منهم، مَنَّ الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله، { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بفعل خير، أو ترك شر { لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي: لا ينقصكم منها مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيراً ولا كبيراً، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: غفور لمن تاب إليه وأناب، رحيم به، حيث قبل توبته.
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: على الحقيقة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله، فإن من جاهد الكفار، دلّ ذلك على الإيمان التام في القلب، لأن من جاهد غيره على الإسلام، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى وأحرى ولأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب، وهو الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان، وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه وقام بواجباته، ولوازمه، فهو الصادق المؤمن حقاً، ومن لم يكن كذلك، علم أنه ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب، وهذا سوء أدب، وظن بالله، ولهذا قال: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا شامل للأشياء كلها، التي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران، والبر والفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله ويجازي عليه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
هذه حالة من أحوال من ادَّعى لنفسه الإيمان وليس به، فإنه إما أن يكون ذلك تعليماً لله، وقد علم أنه عالم بكل شيء، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنَّة على رسوله، وأنهم قد بذلوا له [وتبرعوا] بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، وهذا تجمُّل بما لا يجمل، وفخر بما لا ينبغي لهم أن يفتخروا على رسوله به، فإن المنّة لله تعالى عليهم، فكما أنه تعالى يمنّ عليهم بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنَّته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنَّته عليهم بالإيمان، أعظم من كل شيء، ولهذا قال تعالى: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: الأمور الخفية فيهما، التي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، ومهامه القفار، وما جنَّه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، وحبَّات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور.

{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ }
[الأنعام: 59].
{ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يحصي عليكم أعمالكم، ويوفيكم إياها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة وحكمته البالغة.



ابوالوليد المسلم 14-08-2020 04:00 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (548)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة قhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } 1 { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } 2 { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } 3 { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }4


يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات. والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، وأحق كلام يوصف بهذا، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه و [سرعة] الانقياد له، وشكر الله على المنّة به.
ولكن أكثر الناس لا يقدر نعم الله قدرها، ولهذا قال تعالى: { بَلْ عَجِبُوۤاْ } أي: المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، { أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي: ينذرهم ما يضرهم، ويأمرهم بما ينفعهم، وهو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه.
فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل من تعجب منه. { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم، لا نقص بذكائهم وآرائهم. { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب بين أمرين: إما صادقون في [استغرابهم و] تعجبهم، فهذا يدلّ على غاية جهلهم، وضعف عقولهم، بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة ظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.
ثم ذكر وجه تعجبهم، فقال: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } فقاسوا قدرة من هو على كل شيء قدير، الكامل من كل وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز من جميع الوجوه، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شيء عليم، الذي يعلم ما تنقص الأرض من أجسادهم مدة مقامهم في برزخهم، وقد أحصى في كتابه الذي هو عنده محفوظ عن التغيير والتبديل، كل ما يجري عليهم في حياتهم ومماتهم، وهذا استدلالً بكمال علمه، وسعته التي لا يحيط بها إلا هو، على قدرته على إحياء الموتى.
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ }5


أي: { بَلْ } كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق { لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وكذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجهة ولا قرار، [فترى أموره متناقضة مؤتفكة] كما أن من اتبع الحق وصدق به، قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصدق فعله قيله.
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } 6 { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } 7 { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } 8 { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } 9 { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } 10 { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ }11


لما ذكر تعالى حالة المكذبين وما ذمهم به، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية، كي يعتبروا، ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه فقال: { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ } أي: لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل، بل هو في غاية السهولة، فينظرون { كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مزينة بالنجوم الخنس، والجوار الكنس، التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة، لا ترى فيها عيباً، ولا فروجاً، ولا خلالاً، ولا إخلالاً.
قد جعلها الله سقفاً لأهل الأرض، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.
{ وَ } إلى { ٱلأَرْضَ } كيف { مَدَدْنَاهَا } ووسعناها، حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والاستقرار، والاستعداد لجميع مصالحه، وأرساها بالجبال، لتستقر من التزلزل والتموج، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي: من كل صنف من أصناف النبات التي تسر ناظرها، وتعجب مبصرها، وتقر عين رامقها، لأكل بني آدم، وأكل بهائمهم ومنافعهم، وخص من تلك المنافع بالذكر، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة، من العنب والرمان والأترج والتفاح، وغير ذلك من أصناف الفواكه، ومن النخيل الباسقات أي: الطوال، التي يطول نفعها وترتفع إلى السماء، حتى تبلغ مبلغاً لا يبلغه كثير من الأشجار، فتخرج من الطلع النضيد، في قنوانها ما هو رزق للعباد قوتاً وأدماً وفاكهة، يأكلون منه ويدخرون، هم ومواشيهم وكذلك ما يخرج الله بالمطر، وما هو أثره من الأنهار التي على وجه الأرض، والتي تحتها من حب الحصيد، أي: من الزرع المحصود، من بُرٍّ وشعير، وذرة، وأرز، ودخن وغيره.
فإن في النظر في هذه الأشياء { تَبْصِرَةً } يتبصر بها من عمى الجهل، { وَذِكْرَىٰ } يتذكر بها، ما ينفع في الدين والدنيا، ويتذكر بها ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، وليس ذلك لكل أحد، بل { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } إلى الله أي: مقبل عليه بالحب والخوف والرجاء، وإجابة داعيه، وأما المكذب أو المعرض، فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون. وحاصل هذا، أن ما فيها من الخلق الباهر، والشدة والقوة، دليل على كمال قدرة الله تعالى، وما فيها من الحسن والإتقان، وبديع الصنعة، وبديع الخلقة، دليل على أن الله أحكم الحاكمين، وأنه بكل شيء عليم، وما فيها من المنافع والمصالح للعباد، دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء، وجوده الذي عم كل حي، وما فيها من عظم الخلقة وبديع النظام، دليل على أن الله تعالى هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والذل [والحب] إلا له تعالى.
وما فيها من إحياء الأرض بعد موتها، دليل على إحياء الله الموتى، ليجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال: { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ }.
ولما ذكرهم بهذه الآيات السماوية والأرضية، خوَّفهم أخذات الأمم، وألاَّ يستمروا على ما هم عليه من التكذيب، فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين، فقال: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ... }.



ابوالوليد المسلم 14-08-2020 04:00 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (549)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(12)
الى الأية(22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ } 12 { وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } 13 { وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } 14 { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }15


أي: كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الكرام وأنبياءهم العظام، كـ " نوح " كذبه قومه، [وثمود كذبوا صالحاً]، وعاد، كذبوا " هوداً " ، وإخوان لوط كذبوا " لوطاً " ، وأصحاب الأيكة كذبوا " شعيباً " ، وقوم تبع، وتبع كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل الإسلام فقوم تبع كذبوا الرسول الذي أرسله الله إليهم، ولم يخبرنا الله من هو ذلك الرسول، وأي تُبَّع من التبابعة، لأنه - والله أعلم - كان مشهوراً عند العرب لكونهم من العرب العرباء، الذين لا تخفى ماجرياتهم على العرب خصوصاً مثل هذه الحادثة العظيمة. فهؤلاء كلهم كذبوا الرسل، الذين أرسلهم الله إليهم، فحق عليهم وعيد الله وعقوبته، ولستم أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، خيراً منهم، ولا رسلهم أكرم على الله من رسولكم، فاحذروا جرمهم، لئلا يصيبكم ما أصابهم. ثم استدل تعالى بالخلق الأول - وهو المنشأ الأول - على الخلق الآخر، وهو النشأة الآخرة.
فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم، كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى [الرفات] والرمم، فقال: { أَفَعَيِينَا } أي: أفعجزنا وضعفت قدرتنا { بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ }؟ ليس الأمر كذلك، فلم نعجز ونَعْيَ عن ذلك، وليسوا في شك من ذلك، وإنما هم في لبس من خلق جديد هذا الذي شكوا فيه، والتبس عليهم أمره، مع أنه لا محل للبس فيه، لأن الإعادة أهون من الابتداء، كما قال تعالى:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } 16 { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَا نِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } 17 { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }18


يخبر تعالى أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله وما يسرَّه، ويوسوس في صدره، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال، فيجلهم ويوقرهم، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه، مما لا يرضي رب العالمين، ولهذا قال: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَا نِ } أي: يتلقيان عن العبد أعماله كلها، واحد { عَنِ ٱلْيَمِينِ } يكتب الحسنات، { وَ } الآخر { عَنِ ٱلشِّمَالِ } يكتب السيئات، وكل منهما { قَعِيدٌ } بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له، ملازم له { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } خير أو شر { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي: مراقب له، حاضر لحاله، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10-12].
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } 19 { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } 20 { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } 21 { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }22


أي: { وَجَاءَتْ } هذا الغافل المكذب بآيات الله { سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } الذي لا مرد له ولا مناص، { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي: تتأخر وتنكص عنه، { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } أي: اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم الله به من العقاب، والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب. { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ } يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه، { وَشَهِيدٌ } يشهد عليها بأعمالها، خيرها وشرها، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد، وحفظه لأعمالهم، ومجازاته لهم بالعدل، فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال، ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام توبيخاً، ولوماً وتعنيفاً أي: لقد كنت مكذباً بهذا، تاركاً للعمل له فالآن { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } الذي غطى قلبك، فكثر نومك، واستمر إعراضك، { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } ينظر ما يزعجه ويروعه من أنواع العذاب والنكال.
أو هذا خطاب من الله للعبد فإنه في الدنيا في غفلة عما خلق له، ولكنه يوم القيامة، ينتبه ويزول عنه وسنه، ولكنّه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط، ولا يستدرك الفائت، وهذا كله تخويف من الله للعباد، وترهيب، بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم.


ابوالوليد المسلم 14-08-2020 04:01 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (550)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(23)
الى الأية(35)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } 23 { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } 24 { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } 25 { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } 26 { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } 27 { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } 28 { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }29


يقول تعالى: { وَقَالَ قَرِينُهُ } أي: قرين هذا المكذب المعرض، من الملائكة، الذين وكلهم الله على حفظه وحفظ أعماله، فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله ويقول: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي: قد أحضرت ما جعلت عليه، من حفظه وحفظ عمله، فيجازى بعمله.
ويقال لمن استحق النار: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي: كثير الكفر والعناد لآيات الله، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم والمآثم.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي: يمنع الخير الذي عنده، الذي أعظمه الإيمان بالله [وملائكته] وكتبه ورسله مناع، لنفع ماله وبدنه، { مُعْتَدٍ } على عباد الله، وعلى حدوده، { مُّرِيبٍ } أي: شاك في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان، والشك والريب والشح، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن، ولهذا قال: { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي: عبد معه غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، { فَأَلْقِيَاهُ } أيها الملكان القرينان { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها. { قَالَ قرِينُهُ } الشيطان، متبرئاً منه، حاملاً عليه إثمه: { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } لأني لم يكن لي عليه سلطان ولا حجة ولا برهان، ولكن كان في الضلال البعيد، فهو الذي ضل وأبعد عن الحق باختياره، كما قال في الآية الأخرى:
{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ... } الآية [إبراهيم: 22].
قال الله تعالى مجيباً لاختصامهم: { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } أي: لا فائدة في اختصامكم عندي، { وَ } الحال أني { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي: جاءتكم رسلي بالآيات البينات، والحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتكم، وقدمتم عليَّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } أي: لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به، لأنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أصدق حديثاً. { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } 30 { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } 31 { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } 32 { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } 33 { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } 34 { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }35


يقول تعالى مخوفاً لعباده: { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها، { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي: لا تزال تطلب الزيادة من المجرمين العاصين، غضباً لربها، وغيظاً على الكافرين. وقد وعدها الله ملأها، كما قال تعالى:{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه، فينزوي بعضها على بعض، وتقول: قط قط، قد اكتفيت وامتلأت.
{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ } أي: قربت بحيث تشاهد وينظر ما فيها، من النعيم المقيم، والحبرة والسرور، وإنما أزلفت وقربت، لأجل المتقين لربهم، التاركين للشرك، صغيره وكبيره ، الممتثلين لأوامر ربهم، المنقادين له، ويقال لهم على وجه التهنئة: { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي: هذه الجنة وما فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، هي التي وعد الله كل أواب أي: رجَّاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره وحبه، والاستعانة به، ودعائه وخوفه ورجائه. { حَفِيظٍ } أي: يحافظ على ما أمر الله به، بامتثاله على وجه الإخلاص والإكمال له، على أكمل الوجوه، حفيظ لحدوده. { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي: خافه على وجه المعرفة بربه، والرجاء لرحمته، ولازم على خشية الله في حال غيبه أي: مغيبه عن أعين الناس، وهذه هي الخشية الحقيقية، وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم، فقد تكون رياء وسمعة، فلا تدل على الخشية، وإنما الخشية النافعة، خشية الله في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية الله بالغيب كالمراد بالإيمان بالغيب، وأن هذا مقابلٌ للشهادة حيث يكون الإيمان والخشية ضرورياً لا اختيارياً، حيث يعاين العذاب وتأتي آيات الله وهذا هو الظاهر.
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي: وصفه الإنابة إلى مولاه، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه، ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار: { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أي: دخولاً مقروناً بالسلامة من الآفات والشرور، مأموناً فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم ولا كدر ولا تنغيص، { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات.
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أي: كل ما تعلقت به مشيئتهم فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ } أي: ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأعظم ذلك وأجلُّه وأفضله، النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بسماع كلامه، والتنعم بقربه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:06 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (551)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(36)
الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } 36 { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }37


يقول تعالى - مخوفاً للمشركين المكذبين للرسول:- { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي: أمماً كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشاً أي: قوةً وآثاراً في الأرض.
ولهذا قال: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي: بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وزرعوا، وعمروا، ودمَّروا، فلما كذَّبوا رسل الله، وجحدوا آيات الله، أخذهم الله بالعقاب الأليم، والعذاب الشديد، فـ { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي: لا مفر لهم من عذاب الله حين نزل بهم ولا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي: قلب عظيم حيٌّ ذكيٌّ زكِيٌّ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع فارتفع، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها استماعاً يسترشد به، وقلبه { شَهِيدٌ } أي: حاضر، فهذا له أيضاً ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.
وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئاً، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } 38 { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } 39 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }40


وهذا إخبارٌ منه تعالى عن قدرته العظيمة، ومشيئته النافذة، التي أوجد بها أعظم المخلوقات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، من غير تعب ولا نصب، ولا لغوب، ولا إعياء، فالذي أوجدها - على كبرها وعظمتها - قادر على إحياء الموتى، من باب أولى وأحرى. { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من الذم لك والتكذيب بما جئت به، واشتغل عنهم واله بطاعة ربك وتسبيحه، أول النهار وآخره، وفي أوقات الليل، وأدبار الصلوات. فإن ذكر الله تعالى مُسلٍّ للنفس، مؤنس لها، مُهوِّنٌ للصبر.
{ وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } 41 { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } 42 { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } 43 { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } 44 { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }45


أي: { وَٱسْتَمِعْ } بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلام، حين ينفخ في الصور { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من الخلق { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ } أي: كل الخلائق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة { بِٱلْحَقِّ } الذي لا شك فيه ولا امتراء. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من القبور، الذي انفرد به القادر على كل شيء، ولهذا قال: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ } أي: عن الأموات. { سِرَاعاً } أي: يسرعون لإجابة الداعي لهم إلى موقف القيامة، { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي: هيّن على الله، يسير لا تعب فيه ولا كلفة، { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } لك مما يحزنك من الأذى، وإذا كنا أعلم بذلك، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك، وتيسيرنا لأمورك، ونصرنا لك على أعدائك، فليفرح قلبك، ولتطمئن نفسك، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف من نفسك، فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله، والتأسِّي بأولي العزم من رسل الله، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي: مسلط عليهم{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] ولهذا قال: { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } والتذكير، [هو] تذكير ما تقرر في العقول والفطر، من محبة الخير وإيثاره، وفعله، ومن بغض الشر ومجانبته، وإنما يتذكر بالتذكير، من يخاف وعيد الله، وأما من لم يخف الوعيد ولم يؤمن به، فهذا فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه، لئلا يقول:{ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [المائدة: 19].


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:07 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (552)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } 1 { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } 2 { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } 3 { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً } 4 { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } 5 { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ }6


هذا قسم من الله الصادق في قيله، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل الله فيها من المصالح والمنافع ما جعل على أن وعده صدق، وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على الأعمال، لواقع لا محالة، ما له من دافع، فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه، وأقام الأدلة والبراهين عليه، فلم يكذب به المكذبون، ويعرض عن العمل له العاملون.
والمراد بالذاريات: هي الرياح التي تذروا في هبوبها { ذَرْواً } بلينها، ولطفها، وقوتها، وإزعاجها، { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } السحاب، تحمل الماء الكثير، الذي ينفع الله به البلاد والعباد، و { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً }: النجوم التي تجري على وجه اليسر والسهولة، فتتزين بها السماوات، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وينتفع بالاعتبار بها، { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً }: الملائكة التي تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، فكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الآخرة، لا يتعدى ما قدر له وما حُدّ ورسم، ولا ينقص منه.
{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } 7 { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } 8 { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }9


أي: والسماء ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، ومياه الغدران، حين يحركها النسيم. { إِنَّكُمْ } أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، { لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } منكم من يقول ساحر، ومنكم من يقول كاهن، ومنكم من يقول مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم وشكهم، وأن ما هم عليه باطل.
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، وانصرف قلبه عن أدلة الله اليقينية وبراهينه، واختلاف قولهم دليل على فساده وبطلانه، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، متفق [يصدق بعضه بعضًا] لا تناقض فيه ولا اختلاف، وذلك دليل على صحته، وأنه من عند الله
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82].
{ قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } 10 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } 11 { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } 12 { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } 13 { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }14


يقول تعالى: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي: في لجة من الكفر، والجهل، والضلال، { سَاهُونَ } { يَسْأَلُونَ } على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك، فلا تسأل عن حالهم وسوء مآلهم { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أي: يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر، ويقال [لهم ]: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي: العذاب والنار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر والضلال، { هَـٰذَا } العذاب، الذي وصلتم إليه، [هو] { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فالآن تمتعوا بأنواع العقاب والنكال، والسلاسل والأغلال، والسخط والوبال.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:07 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (553)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(15)
الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 15 { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } 16 { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } 17 { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } 18 { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }19


يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم، التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم، { فِي جَنَّاتٍ } مشتملات على جميع [أصناف] الأشجار والفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على قلوب العباد، { وَعُيُونٍ } سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيراً.
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلاً، ولا يبغون عنه حولاً، وكل قد ناله من النعيم ما لا يطلب عليه المزيد، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي أي: قد تلقوها بالرحب وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا، التي حقها أن تتلقى بالشكر [لله] عليها والانقياد.
والمعنى الأول ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم { مُحْسِنِينَ } وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، بأن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال، أو علم، أو جاه، أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه الإحسان، وطرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين، والإحسان إلى المماليك، والبهائم المملوكة وغير المملوكة، ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان، ولهذا قال: { كَانُواْ } أي: المحسنون { قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي: كان هجوعهم أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع، { وَبِٱلأَسْحَارِ } التي هي قبيل الفجر { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:
{ وَٱلْمُسْتَغْفِ رِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } واجب ومستحب { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يطلبون منهم.
{ وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } 20 { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } 21 { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } 22 { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }23


يقول تعالى - داعياً عباده إلى التفكر والاعتبار -: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار ونبات، تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الأحد الفرد الصمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى. وقوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أي مادة رزقكم من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني والدنيوي، { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار، فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهاً ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك بأظهر الأشياء [لنا] وهو النطق، فقال: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:08 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (554)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(24)
الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } 24 { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } 25 { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } 26 { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } 27 { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } 28 { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } 29 { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } 30 { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } 31 { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } 32 { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } 33 { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } 34 { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } 35 { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } 36 { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }37


يقول تعالى: { هَلْ أَتَاكَ } أي: أما جاءك { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } ونبأهم الغريب العجيب، وهم: الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاؤوه في صورة أضياف. { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ } مجيباً لهم { سَلاَمٌ } أي: عليكم { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك. ولهذا راغ إلى أهله أي: ذهب سريعاً في خفية، ليحضر لهم قراهم، { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } وعرض عليهم الأكل، فـ { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } حين رأى أيديهم لا تصل إليه، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } وأخبروه بما جاؤوا له { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } وهو: إسحاق عليه السلام. فلما سمعت المرأة البشارة { أَقْبَلَتِ } فرحة مستبشرة { فِي صَرَّةٍ } أي: صيحة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } وهذا من جنس ما يجري من النساء عند السرور [ونحوه] من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة، { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي: أنَّى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلاً، فَثَمَّ مانعان، كل منهما مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها:{ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [هود: 72]. { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله تعالى { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أي: الذي يضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علماً فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته. قال لهم إبراهيم عليه السلام: { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } الآيات، أي: ما شأنكم وما تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم الله لبعض الشئون المهمة. { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } وهم قوم لوط، قد أجرموا ، أشركوا بالله، وكذبوا رسولهم، وأتوا الفاحشة الشنعاء التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين. { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي: معلمة، على كل حجر منها سمة صاحبه، لأنهم أسرفوا وتجاوزوا الحد، فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل الله يدفع عنهم العذاب، فقال الله:{ يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود: 76]. { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وهم بيت لوط عليه السلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين.
{ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } يعتبرون بها ويعلمون أن الله شديد العقاب، وأن رسله صادقون مصدقون. فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام منها: أن من الحكمة، قص الله على عباده نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا بحالهم، وأين وصلت بهم الأحوال.
ومنها: فضل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها. ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء. ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول والفعل، لأن الله وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة، قولاً وفعلاً، ومكرمون أيضاً عند الله تعالى. ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب في الابتداء السلام، فرد عليهم إبراهيم سلاماً أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به جملة اسمية دالةً على الثبوت والاستمرار.
ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك، فوائد كثيرة. ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال: { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ولم يقل: " أنكرتكم " [وبين اللفظين من الفرق ما لا يخفى]. ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله [ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه].
ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر، إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون.
ومنها: ما منّ الله به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، وكون ذلك حاضراً عنده، وفي بيته معداً، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق أو الجيران، أو غير ذلك. ومنها: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيَّف الضيفان. ومنها: أنه قرَّبه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: " تفضلوا، أو ائتوا إليه " لأن هذا أيسر عليهم وأحسن. ومنها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصاً عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضاً لطيفاً، وقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } ولم يقل: " كلوا " ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } فينبغي للمقتدي به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق بالحال، كقوله لأضيافه: " ألا تأكلون " أو: " ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه. ومنها: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم [لما خافهم]: { لاَ تَخَفْ } وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم.
ومنها: شدة فرح سارة امرأة إبراهيم، حتى جرى منها ما جرى، من صك وجهها، وصرَّتها غير المعهودة. ومنها: ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة، من البشارة بغلام عليم.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:10 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (555)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(38)
الى الأية(46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 39 { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ }40

أي: { وَفِي مُوسَىٰ } وما أرسله الله به إلى فرعون وملئِه بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين، فتولى فرعون { بِرُكْنِهِ } أي: أعرض بجانبه عن الحق ولم يلتفت إليه، وقدح فيه أعظم القدح، فقالوا: { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي: إن موسى، لا يخلو إما أن يكون ساحراً وما أتى به شعبذة ليس من الحق في شيء، وإما أن يكون مجنوناً لا يؤخذ بما صدر منه لعدم عقله. هذا، وقد علموا، خصوصاً فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى:{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْ هَآ أَنفُسُهُمْ [ظُلْماً وَعُلُوّاً] } [النمل: 14] وقال موسى لفرعون:{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ [بَصَآئِرَ } الآية] [الإسراء: 102]، { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: مذنب طاغ، عات على الله، فأخذه عزيز مقتدر.
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } 41 { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ }42

أي { وَفِي عَادٍ } القبيلة المعروفة آية عظيمة { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } أي: التي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هوداً عليه السلام، { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } أي: كالرميم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم، دليل على [كمال] قوته واقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ } 43 { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } 44 { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ }45

أي { وَفِي ثَمُودَ } [آية عظيمة]، حين أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، فكذبوه وعاندوه، وبعث الله له الناقة آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً. فقيل { لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } أي: الصيحة العظيمة المهلكة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } إلى عقوبتهم بأعينهم، { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ } ينجون به من العذاب، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } لأنفسهم.
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }46

أي: وكذلك ما فعل الله بقوم نوح، حين كذبوا نوحاً عليه السلام وفسقوا عن أمر الله، فأرسل الله عليهم السماء والأرض بالماء المنهمر، فأغرقهم الله تعالى [عن آخرهم]، ولم يبق من الكافرين دياراً، وهذه عادة الله وسنته، فيمن عصاه.




ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:12 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (556)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(47)
الى الأية(60)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } 47 { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } 48 { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 49 { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 50 { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }51


يقول تعالى مبيناً لقدرته العظيمة: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا } أي: خلقناها وأتقنَّاها، وجعلناها سقفاً للأرض وما عليها.
{ بِأَييْدٍ } أي: بقوة وقدرة عظيمة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون [أيضاً] على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك الله دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي، إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها. فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات، { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي: جعلناها فراشاً للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من مساكن، وغراس وزرع وحرث وجلوس، وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم، ولما كان الفراش قد يكون صالحاً للانتفاع من كل وجه، وقد يكون من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك، فقال: { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته]، رحمته وإحسانه، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [أي: صنفين]، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [لنعم الله التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع. فلما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فراراً، لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن، [والسرور] والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلاّ الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف والرجاء والدعاء والإنابة.
{ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 52 { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }53


يقول الله مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله، المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه الأقوال ما زالت دأباً وعادة للمجرمين المكذبين للرسل، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون. يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم - الأولين والآخرين - هل هي أقوال تواصوا بها، ولقن بعضهم بعضاً بها؟ فلا يستغرب - بسبب ذلك - اتفاقهم عليها: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى:{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه، بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم وتوقيرهم وخطابهم بالخطاب اللائق بهم.
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } 54 { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }55


يقول تعالى آمراً رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك.
فليس عليك لوم في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلّغت ما أرسلت به. { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر والعقول، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل ما أمر به ونهى من الشرع، فإنه من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيُذكَّرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطاً وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع الموعظة منهم موقعها، كما قال تعالى:
{ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَ ا ٱلأَشْقَى } [الأعلى: 9-11] وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئاً، وهؤلاء الصنف، لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } 56 { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } 57 { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }58


هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ } أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، { ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين.

{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } 59 { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ }60


أي: وإن للذين ظلموا وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من العذاب والنكال { ذَنُوباً } أي: نصيباً وقسطاً، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب. { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة، فقال: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والسلاسل والأغلال، فلا مغيث لهم، ولا منقذ من عذاب الله تعالى [نعوذ بالله منه].


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:13 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (557)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)
الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور

{ وَٱلطُّورِ } 1 { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } 2 { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } 3 { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } 4 { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } 5 { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } 6 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } 7 { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } 8 { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } 9 { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } 10 { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 11 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } 12 { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } 13 { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } 14 { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } 15 { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }16


يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة، المشتملة على الحكم الجليلة، على البعث والجزاء للمتقين والمكذبين، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام، وفي ذلك من المنّة عليه وعلى أمته، ما هو من آيات الله العظيمة، ونعمه التي لا يقدر العباد لها على عدٍّ ولا ثمن.
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي كتب الله به كل شيء، ويحتمل أن المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل كتاب، أنزله الله محتوياً على نبأ الأولين والآخرين، وعلوم السابقين واللاحقين.
وقوله: { فِي رَقٍّ } أي: ورقٍّ { مَّنْشُورٍ } أي: مكتوب مسطر، ظاهر غير خفي، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير. { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل: إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام، المعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت، وبالوفود إليه بالحج والعمرة. كما أقسم الله به في قوله:
{ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 3] وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض، الذي قصده بالحج والعمرة، أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، التي لا يتم إلا بها، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، وجعله الله مثابة للناس وأمناً، أن يقسم الله به، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته. { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } أي: السماء، التي جعلها الله سقفاً للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، ويقتدى بعلاماتها ومنارها، وينزل الله منها المطر والرحمة وأنواع الرزق. { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان وقيل: إن المراد بالمسجور، الموقد الذي يوقد [ناراً] يوم القيامة، فيصير ناراً تلظى، ممتلئاً على عظمته وسعته من أصناف العذاب. هذه الأشياء التي أقسم الله بها، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة توحيده، وبراهين قدرته، وبعثه الأموات، ولهذا قال: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أي: لا بد أن يقع، ولا يخلف الله وعده وقيله. { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } يدفعه، ولا مانع يمنعه، لأن قدرة الله تعالى لا يغالبها مغالب، ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم، الذي يقع فيه العذاب، فقال: { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون، { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟ { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } والويل: كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف، ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل، فقال: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي: خوض في الباطل ولعب به.
فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق، والتصديق بالباطل، وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } أي: يوم يدفعون إليها دفعاً، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، ويجرون على وجوههم، ويقال لهم توبيخاً ولوماً: { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره، ولا يوصف أمره.
{ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع: " أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون " أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين: أما كونه سحراً، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجليَّة.
ويحتمل أن الإشارة [بقوله: { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحرٌ أم عدم بصيرة بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق، وأن حجة الله قامت عليهم. { ٱصْلَوْهَا } أي: ادخلوا النار على وجه تحيط بكم، وتستوعب جميع أبدانكم، وتطلع على أفئدتكم. { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئاً، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها.
وإنما فعل بهم ذلك، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، [ولهذا قال] { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:14 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (558)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)
الى الأية(28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } 17 { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 18 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 19 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }20


لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
{ فِي جَنَّاتٍ } أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة، والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة، { وَنَعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن، { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله، وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
{ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة، { هَنِيئَاً } أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور.
{ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.
ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها، واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض، فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، من المآكل والمشارب [اللذيذة]، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن، فذكر الله أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافاً وخلقاً وأخلاقاً، ولهذا قال: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطيش شوقاً إليهن، ورغبة في وصالهن، والعِين: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } 21 { وَأَمْدَدْنَاهُ م بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 22 { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } 23 { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } 24 { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } 25 { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } 26 { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } 27 { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }28


وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاءً لآبائهم، وزيادةً في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحداً إلا بذنب، ولهذا قال: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور. وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُ م } أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، { بِفَاكِهَةٍ } من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون، { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأسٍ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم [ومحبته لهم].
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي: خدم شباب { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه، وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها.
{ قَالُوۤاْ } في [ذكر] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي: في دار الدنيا { فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
{ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } بالهداية والتوفيق، { وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أي: العذاب الحار الشديد حره.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات، وندعوه في سائر الأوقات، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } فمن برّه بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.


ابوالوليد المسلم 17-08-2020 05:15 AM

رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
 
الحلقة (559)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(29)
الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور
{ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } 29 { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } 30 { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } 31 { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } 32 { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } 33 { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } 34 { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } 35 { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } 36 { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } 37 { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } 39 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 40 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 41 { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } 42 { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }43


يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به، فقال: { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي: مَنِّه ولطفه، { بِكَاهِنٍ } أي: له رَئِيٌّ من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة، { وَلاَ مَجْنُونٍ } فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلاً، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقاً، وأجلهم وأكملهم، وتارة { يَقُولُونَ } فيه: إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر، والذي جاء به شعر، والله يقول:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أي: ننتظر به الموت، فسيبطل أمره، [ونستريح منه]، { قُلْ } لهم جواباً لهذا الكلام السخيف: { تَرَبَّصُواْ } أي: انتظروا بي الموت، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: أهذا التكذيب لك، والأقوال التي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟ فبئس العقول والأحلام، التي أثرت ما أثرت، وصدر منها ما صدر. فإن عقولاً جعلت أكمل الخلق عقلاً مجنوناً، وأصدق الصدق وأحق الحق كذباً وباطلاً، لَهِيَ العقول التي ينزه المجانين عنها، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع، فالطغيان ليس له حد يقف عليه، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه. { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي: تقول محمد القرآن، وقاله من تلقاء نفسه؟ { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.
{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنه تقوله، فإنكم العرب الفصحاء، والفحول البلغاء، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه، وأنكم لو اجتمعتم، أنتم والإنس والجن، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين: إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.
وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمور لا يخلو من أحد ثلاثة أمور: إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد، وهذا عين المحال.
أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضاً محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم.
فإذا بطل [هذان] الأمران، وبان استحالتهما، تعين [القسم الثالث] أن الله الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.
وقوله: { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي: ما خلقوا السماوات والأرض، فيكونوا شركاء لله، وهذا أمر واضح جداً.
ولكن المكذبين { لاَّ يُوقِنُونَ } أي: ليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك، فيعطون من يشاؤون ويمنعون من يريدون؟ أي: فلذلك حجروا على الله أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا نشور.
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32].
{ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء، { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي: ألهم اطلاع على الغيب، واستماع له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } المدعي لذلك { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه [أحداً] إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو المخبر بما أخبر به، من توحيد الله، ووعده، ووعيده، وغير ذلك من أخباره الصادقة، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد، فأيُّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصاً والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين على ما أخبر به، ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل الصدق، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة، فضلاً عن إقامة حجة. وقوله: { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ } كما زعمتم { وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟ { أَمْ تَسْأَلُهُمْ } يا أيها الرسول { أَجْراً } على تبليغ الرسالة، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعاً من غير شيء، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة [لأمرك و] دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم]. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم الأمة الأمية، الجهال الضالون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يُطْلِعْ عليه أحداً من الخلق، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض، وقوله: { أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْداً } يبطلون به دينك، ويفسدون به أمرك؟ { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك - ولله الحمد - فلم يُبْقِ الكفار من مقدورهم من المكر شيئاً إلا فعلوه، فنصر الله نبيه ودينه عليهم، وخذلهم وانتصر منهم.

{ أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟ { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويُصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعزّ الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.



الساعة الآن : 08:04 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 1,018.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 1,016.43 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.17%)]