ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:33 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
التحذير من سلوك مسلك اليهود

هذه الأفكار يستنتجها، ويولدها، ويلقيها لليهود أحبارهم ورؤساؤهم الذين هم مسيطرون على العوام ليستغلوهم، فيستعبدوهم.وهذه الفتنة -أيضاً- كانت في النصارى، فرجال الكنيسة يشوهون الإسلام للعوام من النصارى حتى لا يدخلوا فيه، ويفعلون معهم الأفاعيل، وبلغنا أنهم يشترون منهم صكوك الغفران، فإذا عندك مليار .. ملياران من الدولارات، يستطيع رئيس الكنيسة يعطيك صكاً بأنه مغفور لك، وضع هذا المال للكنيسة -فقط- لنشر المسيحية.والرسول الكريم -اسمع ما يقول، واحفظ ما يقول- يقول لنا: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فهو يخبر بالواقع، ويتلقى الوحي من الله، قال: لتتبعن أي: أيها المسلمون طرق من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.وقد وجد -أيضاً- في المسلمين رؤساء أديان في المذاهب المختلفة يشوهون الإسلام ويصرفون عنه أهله بالأباطيل والتراهات من أجل أن يستغلوا أولئك العوام والجهال ليقدسوهم، ويكرموهم، ويعبدوهم، فيحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ولو نفتح صفحة لهذه الأحداث لرأيتم العجب.إن وجود مذاهب في الإسلام، وطرق مختلفة لا يرضى به الإسلام، فالقرآن يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ولقد بلغ عدد المذاهب في العالم الإسلامي أكثر من سبعين مذهباً، وسببها أن الرؤساء يريدون أن يستغلوا أتباعهم، فهناك مذاهب قليلة -كما يقولون: حفنة من الناس- لِم لا يدخلون مع أهل السنة والجماعة، فهم جماعة تعدادهم خمسة إلى مائة بالنسبة إلى المسلمين، وقد رضوا بأن يعيشوا مستقلين يقولون: مذهبنا، قد سيطر عليهم رؤساء الدين، وأئمة المذهب العارفون به، حتى يبقى لهم مركزهم ومكانتهم بين إخوانهم، فلا يسمحون لهم أبداً أن يدخلوا في جماعة المسلمين، وإن شئتم حلفت لكم بالله.وهؤلاء لو كانوا مجردين من الهوى، والدنيا وأطماعها، وحب الرئاسة والسيطرة أو الملك والحكم، والله ما رضوا أبداً ولا أربعين يوماً أن يعيشوا منقسمين على المسلمين، بل لوجدتهم يتباحثون معهم يقولون لهم: بينوا لنا الطريق؟ هذا ما عندنا فسددونا وصوبونا، وأنتم أكثرية ونحن أقلية، وهل هذه الأقلية هي التي على الحق ونحن على الباطل؟ للأسف لا يسمح لهم بهذا أبداً، والكتب تؤلف في ذلك وتدرس، وكل كتاب يدعو إلى استقلال تلك الجماعة، وأن لا تتصل بالجماعات الأخرى، وأحياناً يكفرون بعضهم بعضاً، وينسبونهم إلى الكفر، والزيغ، والخروج من الإسلام.فهذا واقع قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد وأن يقع: ( لتتبعن سنن من قبلكم -أي: طرائق من قبلكم- شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).وهنا أضحككم وأنفس عليكم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفس على أصحابه: يذكر أن أحد العلماء كان يخطب في مسجد، ففسر هذا جحر ضب بالبنطلون! أي: السراويل الطويلة، وهذه السراويل ما كان المسلم يلبسها قط، حتى الجيوش الإسلامية -والله- ما كانت تلبسها، وآخر جيش إسلامي في الخلافة العثمانية كان يلبسون السراويل الواسعة والعريضة، وقد شاهدناهم، ولا يمكن أن تكون السراويل -كما هي الآن- مضغوطة، فتظهر إلية الرجل، فقال هذا الخطيب: هذا البنطلون هو جحر الضب، فالكفار قد دخلوا فيه، ونحن دخلنا فيه بعدهم، وهو كذلك! لأن جحر الضب لا يمكن أن يدخل فيه إنسان، ولو دخلوا لدخلنا مثلهم، مع أن هذا البنطلون ضيق تبرز فيه إلية المؤمن، وقد كان الحياء يمنع المسلمين من هذا، لكن لما لبسه الغرب وتجملوا به تبعناهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .فكان اليهود مُستغَلين لرؤسائهم، فقد كفروهم .. مسخوهم .. منعوهم من دار السلام.وجاء النصارى كذلك، فرجال الكنيسة -والله العظيم- إلى الآن يصرفون الناس عن الإسلام، مع علمهم أن الإسلام هو سبيل الله .. وأن فيه النجاة، ويدلك على هذا أنك تجد مع الوقت أن من رؤساء الكنائس من يؤمن، وإذا عرف الحق فإنه يبكي، ويشكو لك هذا، وما كان منا للأسف إلا أن اتبعناهم.أما في داخل أهل السنة والجماعة فتجد الطرق: هذا قادري، هذا رحماني، هذا عيساوي، هذا زيدوني .. هذا نقشبندي .. هذا عيدروسي، هذا كذا، وفي أيام الغفلة والجهل كل جماعة وطريقة كأنهم هم المسلمون، وغيرهم لا، فلا ولاء، ولا حب ولا .. إلا قولهم: هؤلاء من إخواننا.وجاءت أيضاً الأحزاب والجمعيات، وكل حزب يطعن في الحزب الثاني، من قبل رؤسائهم، حتى تبقى لهم المجموعة، وتحت أيديهم.لا إله إلا الله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع )، وكان ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا حب الدنيا والشهوات والجري وراءها، من الفروج، والأموال، واللباس، والمنصب، وكل هذا يعمي الإنسان ويصمه، ويجعله لا يرى إلا شهوته، فيكذب، ويحلف بالباطل، ويخون ويفجر، حتى يحقق هذا الهدف الهابط؛ الساقط، وهذا شأن اليهود، ونحن مشينا وراءهم.

نزول جبريل عليه السلام بالقرآن مصدقاً للكتب السابقة

يقول تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أي: أن القرآن العظيم جاء به جبريل، ونزله على قلب سيد المرسلين. فالقرآن يلقى من طريق الوحي .. بواسطة الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيفهم، ويعي، ويحفظ، ويقول، وينطق.قال: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، لا أن جبريل باختياره استغل الموقف وجاء بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو بأمر الله عز وجل، فهو الذي أرسله، ونزل القرآن على قلبه.قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97] من هو المصدق لما بين يديه؟ القرآن. وما الذي بين يديه؟ الكتب السابقة، فلو تأتي إلى التوراة أو الإنجيل أو الزبور فتحذف منها الأباطيل والتراهات، والزيادات، والشروح فسيبقى النور الإلهي، وهو أولاً نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، فهي والله لموجودة إلى الآن، وهم يهمشون ويشرحون بأن هذا ما وجد بعد، وأنه سيوجد فيما بعد، وأن هذا وصفه يختلف مع هذا، ويؤولون ذلك للناس.وقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: في أصول الدين من الإيمان بالله، والبعث الآخر .. دار السلام .. دار البوار والعذاب .. إحقاق الحق .. إهباط الباطل .. العدل .. فكل الكمالات التي في تلك الكتب يصدقها القرآن، ولا يرد منها شيئاً، ولا يكذبها، بل يقويها ويدعمها، فكيف لا يكون كلام الله ووحيه.ولو تنافى مع ما عندكم من التوراة والإنجيل لقلنا: هذه أباطيل أو خرافات، لكننا وجدناه يصدقها، ويوقع على ما فيها من أصول الدين: من التوحيد، وعبادة الرحمن، والإيمان بالله، ولقائه، وكتبه، ورسله.

القرآن كتاب هداية وبشرى للمؤمنين

ثم قال: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن يستطع أن يقول: لا يوجد هدى في القرآن؟ والله لا يقولها ذو عقل، ولا ذو دين ومروءة، والله ما أخذ عبد بالقرآن في عقيدته وآدابه وأخلاقه وعباداته وضل أبداً.ما من إنسي ولا جني يأخذ بما في هذا الكتاب كما هو إلا وكمل، وسعد، ونجا، ووصل إلى رضا الله عز وجل ورضوانه، على شرط أن يفهم كلام الله ومراده، وهنا يحتاج إلى رسول الله المبين .. المفسر .. الشارح، ولا تقل: أنا أستغني عن الرسول بالقرآن؛ لأن الله قال: (فيه هدى) فهذه غلطة منكرة وفاحشة، فهل يستطيع أي إنسان بدون أن يقرأ سنة الرسول وبيان الرسول أن يفهم عن الله كل كلامه؟!وهذا هو سر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا بد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدى والله لفي هذا الكتاب، وما أخذ به عبد أبيض ولا أسود وضل أبداً، ومن لم يأخذ به لا يهتدي ولن يهتدي، إذ الهدى هو العلامات التي تصل بك إلى هدفك، فأنت مثلاً إذا كنت ذاهباً إلى بيت فلان، فالهداية تكون بالعلامات المؤدية إليه من الشارع الفلاني، والباب الفلاني، والطريق الفلاني.فالكتاب يحمل هداية، تهدي العبد السائر إلى رضوان الله حتى يدخل الجنة.قال تعالى: وَبُشْرَى [البقرة:97] هل البشرى للمغنين .. لأصحاب الأموال .. للكافرين؟ لا، لا! بل: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، بشرى بسعادة الدنيا والآخرة، وأعظمها الزحزحة عن النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [البقرة:25] إلى آخر الآيات. فبشرهم يا رسولنا.والقرآن يحمل البشرى بالسعادة والكمال للمؤمنين؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، فلما نودوا إلى الله أجابوا، وسلكوا الطريقة، فرضيهم الله وأرضاهم، أما الكافر فميت، فكيف تكون له بشرى وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يعتمر، ولا يرابط، ولا يجاهد، ولا يتقي سيئة من السيئات، ولا يتجنب باطلاً من الأباطيل.نعم القرآن هو بشرى للمؤمنين الكمّل في إيمانهم .. الصادقين فيه .. الموقنين: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].

تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ...)

قال تعالى الآن رداً على ابن صوريا الأعور وجماعته الذين قالوا: نعتذر، فما دام يأتيك جبريل نحن لا نستطيع، فهذا عدو بني إسرائيل، ولو كان ينزل عليك ميكائيل فنحن معك؛ لأنه يأتي بالمطر والرحمة .. وما إلى ذلك، أما هذا الذي يأتي بالدماء والحروب فلا، لا. والذي زين لهم هذا هو الشيطان.وهذه فرية؛ حتى يستطيعوا أن يردوا على الرسول، ويعتذروا أنهم ما قبلوا دينه لهذا الغرض. فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فأسكتهم وقطع أنفاسهم.قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هل يوجد عدو لله؟ وكيف هذه العداوة؟أصل العداوة مأخوذة من عدوة الوادي، فالوادي في الوسط، وهناك الطرف الآخر الذي يسمى عدوة، فالذي لا يلتقي مع الله والفاصل بينهما عدو لله، فالله يأمر بالخير، والرحمة، والهدى، والطهر، والصفاء، واليقين، وذاك يأمر بالشر والخبث، والفساد، فلا يلتقيان، كل عدو للآخر، فالله يأمر بالخير، وهو يأمر بالشر .. الله يأمر بالصدق، وهو يأمر بالكذب .. الله يأمر بالطهر، وهو يأمر بالخبث. فيصبح عدواً لله.قال: وَمَلائِكَتِهِ وما داموا يقولون: جبرائيل عدونا، فعدو الملائكة عدو لله، وهذا ملك ربنا، ينزله على من يشاء من عباده بالوحي الإلهي وأنت تقول: هذا عدو، ومن يقول: إن جبريل عدو لنا يكون قد كفر بالله.قال: وَرُسُلِهِ وهم كذلك، يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، فعيسى رسول الله حاولوا قتله وصلبه، وقالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا فيه الأعاجيب، وكل هذا لأن عيسى جاء ليؤدبهم .. ليحل الحلال، ويحرم الحرام. واليهود هم أرباب الدنيا، والمال، والشهوات قالوا: هذا سينغص علينا حياتنا، ويفسد وجودنا، فلا تصدقوه، وقد قال عيسى: ( بعثت إلى خراف بني إسرائيل )، فلما تاهوا بعثه الله إليهم لهدايتهم وهو منهم، فأمه مريم الإسرائيلية، فحاولوا قتله وطاردوه، وطردوا أتباعه؛ لأنهم فقط ضد الشهوات والأهواء والأطماع وحب الدنيا.فكفروا برسل الله، ومن كفر برسول واحد فقد كفر بعامة الرسل، ومن كفر بكتاب واحد من كتب الله فإنه يعتبر كافراً بكل الكتب، ومن كفر بملك واحد من ملائكة الله فقد كفر بملائكته.وعندنا نحن أكثر من أربعين ألف آية، ومن كذب بآية واحدة فقد كفر، وليس بكتاب كامل كالتوراة أو الإنجيل، فمن قال: لا أومن بآية واحدة من القرآن، فوالله لقد أجمع المسلمون على كفره، وهو ليس بمؤمن. فكيف إذاً بالذي يكذّب بالكثير.فإن قيل: ولِم خص جبرائيل وميكائيل وأفردهما بالذكر، وهم يدخلان في الملائكة؟الجواب: لأن المحنة دارت عليهما.وجبريل فيه لغات أفصحها: جبريل وجبرائيل وجبرين بالنون، وكذلك في ميكائيل لغات أفصحها: ميكائيل وميكال وميكئل.وجبريل معناه: عبد الله، وميكائيل معناه: عبيد الله، وكل ما فيه إيل: إسرافيل .. عزرائيل فهو كعبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، إذ الكل عباد الله، ولهذا (إيل) الأخيرة معناها: الله، كما نقول: عبد الله، عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الحكيم.قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] أي: فقد كفر، والله عدو للكافرين، فدخل ضمن من يعادي الله عز وجل، والعياذ بالله!وهل يوجد كافر ليس عدواً لله؟! هذا غير ممكن؛ لأن معنى العداوة أن الله يحب كذا، والكافر يحب غيره، والله يكره كذا وهو يحب غيره، فهذه هي العداوة، فصديقك هو الذي يوافقك فيما تحب وفيما تكره، فإن كنت أنت تحب كذا وهو يحب شيئاً آخر، فما يمضي عليكما يومان .. ثلاثة أيام حتى تتضاربا، ولا تتفقا أبداً.إذاً: فالكافر عدو الله؛ لأنه يحب ما يكره الله، فالله يكره الزنا، والكافر يحبه .. الله يكره الظلم، والبغي، والعدوان، والكافر يحب الظلم، والبغي، والعدوان، ويريده، إذاً: فقل ما شئت: إن الكافر عدو الله بلا خلاف.

كيف تكون ولياً لله

لكن من هو الذي يكون ولياً لله لا عدواً لله؟ هو الذي يوافق الله في محابه ومكارهه.وهذه الفائدة أعطيناها للسامعين -من فضل الله- من سنين، فمن منكم أيها المستمعون يرغب في أن يكون ولياً الله فيأخذها.إذاً من أراد أن يكون ولياً لله، راغباً في ولاية الله، فإليه الطريق إلى ولاية الله: إذا وافقت الله فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، فقط جاهد نفسك، وروضها، وأدبها حتى تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكره الله، فقط وافقه تكن وليه، فإن عاكسته وخالفته كنت عدواً لله، فالموافقة هي الولاية.فإن قال قائل: يا شيخ! في ماذا نوافقه؟ في حب البقلاوة والدجاج المشوي أو في ماذا؟الجواب: يا بني! موافقة الله تكون في ما يحب وفي ما يكره، وأقسم بالله: إن الله ليحب أشياء ويكره أخرى، والقرآن شاهد، فكوني أريد أن أكون وليه فأوافقه على ما يحب وعلى ما يكره، يجب عليّ أن أسأل أهل العلم أو أقرأ القرآن لأعرف ما يحب الله وما يكره، فما عرفت أنه يحبه أحببته، وإن كان عدواً لي قد ذبح أبي، وما عرفت أنه يكرهه كرهته، ولو كان الدينار والدرهم.فلابد -إذاً- من أن نعرف يوماً بعد يوم جميع ما يحب الله، ونعرف كذلك جميع ما يكره الله، ونحن كلما علمنا أن الله يحب شيئاً أحببناه، وجاهدنا أنفسنا حتى نحبه، وكلما عرفنا أن الله يكره شيئاً كرهناه؛ لأننا نريد ولاية الله.وهنا: لابد من طلب العلم، فما هناك حيلة أبداً، لابد وأن نسأل ما يحب الله من الاعتقادات .. من الأقوال والكلمات .. من الأفعال والحركات .. من الصفات والذوات.على سبيل المثال: لو أن أباك ارتد وكفر، فإن هذا الرجل يكرهه الله، ويجب عليك أنت أن تكره أباك، فليس أبوك، وقد خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال آبائهم؛ لأنهم كانوا على الكفر فكرهوهم.فإذا عرفت أن الله يكره فلاناً فيجب أن تكرهه ولو كان ابنك، وإذا عرفت أن الله يحب فلاناً فيجب أن تحبه وتُكرِه نفسك على أن تحبه، ولو كان أعمش، أعمى، والدماء تسيل والقيوح، وقل ما شئت من العيوب الخلقية، فما دمت قد علمت أن الله يحبه فيجب أن تحبه، فبهذا تتحقق ولاية الله للعبد، وهي أن يوافقه في محابه ومساخطه، فنحب ما يحب، ونكره ما يكره في حدود ما نعلم.بلغنا أن الله يحب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فنقولها في الليل والنهار؛ لأن ربنا يحبها.بلغنا أن الله يكره صوت المغنية، وصوت النائحة، فلا نجد أغنية أبداً تنشرح لها صدورنا، أو تميل إليها نفوسنا إلا ونبغضها؛ لأن الله يبغض هذا الصوت.وهكذا معاشر الأبناء والإخوان: ولاية الله تكون في موافقة الله؛ بدليل قوله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:63] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فإذا آمنت فهنيئاً لك، وبقي أن نتقي أن نكره ما يحبه الله، أو أن نحب ما يكره الله، وبذلك تتم الولاية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فيتقون ما يكره الله فلا يعتقدونه، ولا يقولون به، ولا يعملونه، ويتقون أن يسخطوا الله بترك ما يحب من الطاعات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:35 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)




تفسير سورة البقرة (41)

الفسق، الكفر، نقض العهود، مخالفة الشرع.. وغيرها كثير من الصفات التي يتمتع بها اليهود، وبيّنها القرآن، فهم يرون الآيات واضحات جليات كالشمس، ثم يعمهون عنها، ويعاهدون ثم ينقضون، أما الكتب السماوية المنزلة فتراهم يضعونها وراء ظهورهم، معرضين عنها، مخالفين لها، وكأنهم لا يعلمون شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .. [البقرة:99-102] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كتاب الله، وهذه كلمة الله جل جلاله وعظم سلطانه، والواسطة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليه أنزل هذا الكتاب الكريم، ولنستمع إلى هذه الكلمات الإلهية.

المراد بالآيات البينات

يقول تعالى وهو يخاطب رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] حقاً حقاً، فالله هو الذي أنزل على رسوله آيات بينات، وهي آيات القرآن الكريم، إذ لفظ الآية قد يطلق ويراد به المعجزة الدالة على صدق النبي، والمقررة لنبوته ورسالته، وقد يكون بمعنى الآيات التي تحوي الهدى، وتحمل الشرائع والأحكام.والمراد من الآيات هنا آيات القرآن العظيم، وهي ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فكل آية كأنما تصرخ: يا عباد الله! إنه لا إله إلا الله الذي أنزلني وأن محمداً عبده ورسوله إذ أنزلني عليه، والآية هي العلامة الهادية إلى الشيء، فالآية أنزلها الله، وهو موجود، عليم، حكيم، قوي، قدير، فلا يعبد إلا هو، فهي تقول: لا إله إلا الله. والذي أنزلت عليه لن يكون إلا رسول الله. فتقول: محمداً رسول الله.ولهذا كل الشرائع والأحكام والعبادات تدخل ضمن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أراد أن يدخل في رحمة الله فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يغتسل ويصلي، وهو مستعد لتحمل أعباء هذه الملة، فإن كانت جهاداً جاهد، وإن كانت صياماً صام، وإن كانت زكاة زكى .. وهكذا؛ لأنه عرف عن علم وشهد شهادة عالم أنه لا إله إلا الله، فلم يعبد إلا الله، وليعبد الله بما يريد الله أن يعبد به.إذاً: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] واضحة فيما تدل عليه، فلا غموض، ولا خفاء، ولا لبس، ولا إشكال، ولا .. فهي بينة كالشمس، فالقرآن لا توجد فيه آية غامضة أبداً، بل آياته واضحة وضوح الليل والنهار.

معنى قوله تعالى: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)

قال: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، أي: وما يجحد بتلك الآيات البينات ويغطيها، ويسترها، ويتجاهلها إلا القوم الفاسقون.فإن قيل: ما السر؟ ما العلة؟ ما الحكمة؟ أيها المناطقة! لِم لا يكفر بها إلا الفاسقون؟الجواب أيها الأحباب: لأن الفاسقين غرقوا في الأهواء، والشهوات، والأطماع، والأموال، والدنيا، فإذا جاءت الآية تريد أن تمنعهم من شرب الكأس يكفرون بها .. جاءت الآية تريد أن تصرفهم عن اللهو، والباطل، والعبث، لا يقبلون .. جاءت الآية تأمرهم بالعدل وهم ظلمة لا يقبلونها .. جاءت الآية تأمرهم بالاستقامة فلا يريدونها؛ لأنهم ألفوا الاعوجاج والحياة عليه.فقوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99] أي: وما يجحدها ويتنكر لها بعد أن عرفها، وعرف ما تدعو إليه، وتهدي إليه: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. والفاسقون: جمع فاسق.فإن قيل: لِم ما قال: (والفاسقات)؟الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله. أكرمنا الله، فعرف أننا ذوو غيرة، فلا نقبل أن يتحدث الناس عن نسائنا، أو يتكلم عن حلائلنا، أبداً، ومن إكرام الله لهذه الأمة أن لا يدخل النساء في كل كلام.وقد سمعنا ما جاء في تلك الورقة التي يقول فيها أحدهم: صوت النساء عورة! خرافة.فإن قيل له: لِم يا عم خرافة؟الجواب: لأنه يريد للمرأة أن تحاضر، وتخطب، وتتكلم في المذياع والتلفاز بصوتها الرفيع، وهي تلوي رأسها بعد أن تحسن حالها وشعرها، وتجعل الأحمر في خديها، فلهذا الغرض فقط!! فما قالوا: ليس بعورة إلا لهذا! فهم يريدونها أن تعهر وتفجر، وتخرج من دائرة كمالها وحشمتها واحترامها إلى أن تصبح صعلوكة من صعاليك النساء، تجادل وتخاصم، وتحاضر، فكشفهم الله، وعرفنا خباياهم.ونحن نقول: من منع المرأة أن تتكلم للضرورة .. تتكلم للحاجة الماسة التي لابد منها، وإذا تكلمت في حدود المصلحة، ولو تزيد كلمة فإنها تكون قد عصت ربها، وفسقت عن أمره.وكثيراً ما بينا هذا، وعرفه الصالحات، فإذا قرع أحد بابها فإنها تقول: من، ولا تقل: (مِـيِين) وهذه الإمالة لا وجود لها في لسان العرب، فهذا الحرف لا يمال، إنما يمال: موسى .. عيسى، أما أن تقول: (مِـيين) هكذا بالإمالة فلا، بل تقول: (مَنْ) قاسية هكذا. فإن قيل لها: أين زوجك؟ فإن كانت تعرف تقول: في البيت .. في السوق .. في المسجد. ولا تزيد على الجار والمجرور حرفاً واحداً أبداً، فإن زادت كلمة أخرى فهي آثمة، كأن تقول: عفواً قد يكون الآن في السوق .. مع الأسف في مثل هذا الوقت لا يكون في السوق.. إذاً ممكن الآن في طريقه إلى كذا. فهذا الكلام حرام.فإن قيل: من أين لك يا هذا يا شيخ؟ فإنك تدعي هذه الدعاوى الباطلة، فدلل وبرهن من قال الله .. وقال رسوله؟الجواب: نعم، أما قال الله تعالى للأميرات أزواج محمد وبناته: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، ومعنى قوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: ما فيه الحاجة، أما أن تسترسل في الكلام مع الأجنبي فقد فتحت له باب المحنة.ويغالطوننا ويقولون: ماذا هناك؟ ونحن نعرف أن الفحل إذا سمع صوت الأنثى فإنه يهتز وتتحرك أعطافه.ومع ذلك يقول: لا.. لا، هذا ليس بمعقول.نقول: هؤلاء يخادعون ويغالطون من؟! فهذه الغرائز غرزها الله .. هذه الطبائع طبعها الله، فمن يبدل خلقة الله، ويقول: ماذ هناك إذا تكلمت معها أو ضاحكتها أو صافحتها؟نعم، إذا كان هذا الفحل لا يرى طاعة لله .. لا يرى فسقاً عن دين الله، لا يرى غيرة .. فسيقول: ماذا هناك؟أما إذا كان يحافظ على زكاة نفسه حتى لا تتحول إلى خبث، وإلى زكاة نفس تلك المؤمنة حتى لا يحولها إلى خبث، فهو يحاول أن يقلل ما استطاع من كلمه وحديثه مع هذه المؤمنة.والشاهد غرقوا في الفسق.ومعنى الفاسق: خارج عن الطاعة. مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها على أهل البيت، وتريد أن توقد عليهم النار، أو تأكل عجينهم.فمن فسق عن أمر الله أي: عدل عنه وخرج عنه فقد فسق، ولا يزال المرء يفسق يوماً بعد يوم حتى يطبع على قلبه، فلا يسمع نداء، ولا يعرف إجابة إلى هدى، فقد انتهى أمره لمغالاته في الفسق، وهذه الحقيقة واضحة.

الإسلام يحذر من الاستمرار في المعصية ويدعو إلى التوبة الفورية

الذي يألف شيئاً ويعتاده زمناً طويلاً يتعذر عليه أن يتركه، وقلّ من يستطيع أن يترك عادة تعودها وأشربها في دمه ولحمه، فلهذا الإسلام يحذر من الاستمرار على المعصية، ففرض التوبة وشرعها وأوجبها، وأوجب أيضاً الفورية فيها، لا تقل: سأتوب بعد يوم أو عام، أو بعد شهر أو كذا كذا، كل هذا باطل، فإذا زلت القدم وسقطت، وفعلت المعصية، فمن ثم وأنت تصرخ: لا إله إلا الله قل: أستغفر الله، وأتوب إليه، وكلك عزم على أن لا تعود إليها، ولو صلبت، وذبحت، وقتلت، وهذه هي التوبة على الفور.أما أن تقول: سأتوب فهذا حرام، فمن يحييك غداً حتى تتوب.وكلنا يعرف آية سورة النساء فهي محفوظة لدى المؤمنين والمؤمنات، وفيها بيان كافٍ شافٍ، إذ قال تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] فالله هو الذي تكرم وامتن وأنعم، فجعل التوبة عليه واجبة، وأوجبها على نفسه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وتعهد بذلك لأوليائه وعباده فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].ولنتأمل هذا الهدى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فأثبتها وأوجبها على نفسه تفضلاً منه وامتناناً، ولا يوجب على الله مخلوق من المخلوقات شيئاً، بل هو الذي أوجب على نفسه بنفسه بهذه الصيغة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ والسوء هو ما يسيء إلى نفسك، كأن يقع عليها مثل الدخان، فتسود وتظلم، ثم تعفن وتنتن وأنت لا تشعر، لكن لما تتلطخ النفس وتخبث يظهر ذلك حتى في البهائم، ولا يبقى سراً مكتوماً، فيظهر أثر ذلك في سلوكك .. في منطقك .. في مشيتك .. في معاملاتك .. في حياتك كلها، كالمرض يظهر في سلوك المريض، فيصبح لا يقوى على الكلام .. لا يقدر على الأكل .. لا يستطيع النوم .. لا يقوى على المشي، فأعراض المرض قد ظهرت فيه، فإذا مرضت النفس والله ليظهرن ذلك في سلوك هذا المسكين، كما يظهر المرض في جسمه سواء بسواء.إذاً: ما يسيء هو السيئة وهو السوء.قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أي: ما يسيء إلى نفسه.وعلى سبيل المثال: فإن الكذب.. السب والشتم .. الخيانة .. الغش .. السرقة .. الكبر .. العجب، كل هذه تسيء، وغيرها من سائر الذنوب والمعاصي وتحدث أثراً سيئاً على النفس البشرية التي هي السلطان في الجسم.ثم قال: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فهو يعمل المعصية وهو لا يريد أن يتحدى الله، أما الطغاة والجبابرة الذين يعلمون ويريدون أن يتحدوا الله قائلين: افعل ما تشاء فأنا ضدك، فهذا لن يتوب الله عليه، ولا توبة له.وإنما المقصود بأهل التوبة من يعملها مع نوع من الجهل، وقد فسرنا ذلك غير ما مرة، فتجده يقوله: ها هو الشيخ الفلاني يفعل كذا، وأنا مثله؟ وآخر يقول: لو كان هذا حراماً فكيف تأذن به الحكومة؟ وآخر يقول: إن شاء الله إذا تزوجنا نترك هذه المعصية، وآخر يقول: إذا توظفت إن شاء الله كذا، فهذه أنواع الجهالة، لا أنه يتحدى الله فيقول: أمرتني وأنا لا أفعل، وافعل ما تشاء. فذاك صاحبه لا توبة له، فلهذا تأمل هذا القيد: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]. وقد تجد من يقول: ممكن هذا غير حرام، فها هو فلان يفعله، فيسهل عليه أن يفعل هذا. هذا هو نوع الجهالة.ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب نسبي، فمن الجائز أن المرء قد يقارف ذنباً عشر سنوات ويمكن أن يتوب منه، ومن الجائز أن يقارفه مرة ولن يتوب، ففي ليلة واحدة فقط يسهر في مخمرة ومزناة ثم يخرج لا يعرف الله.فما دامت أن القضية بهذه الصورة فلا ينفعك إلا الفورية في التوبة، والإسراع على الفور، فأنت لا تضمن أنك تعيش عشر سنوات أو عشرين سنة، ولا تضمن أنك تتوب أو لا تتوب، ولا تضمن شيئاً أبداً، لأنك في قبضة الله، ولست في قبضة نفسك، والله قد أرشدك إلى أن تتوب على الفور.ولهذا بالإجماع أن التوبة لا تؤجل حتى الحج .. حتى رمضان. فإذا زلت القدم، ووقعت على الأرض فقل: أستغفر الله وأتوب إليه.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:35 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
المراد بقوله تعالى: (الفاسقون)

قول ربنا: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99]، فما قال: إلا اليهود أو إلا النصارى .. إلا المشركون .. إلا الأغنياء .. إلا الفقراء. إنما قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، والسر في هذا أن الذي يتوغل ويمشي في طريق الضلال دهراً طويلاً يتعذر عليه أن يعود، فلا يستطيع؛ فلهذا الذي يفسق ويفسق في: الزنا .. الربا .. قتل النفس .. الخيانة .. الكذب .. ألـ .. ألـ، يصبح غير قابل للتوبة، فيكفر بالقرآن قائلاً: دعنا من هذا، أنا لا أؤمن بهذه الكلمات التي تمنعنا، وتحول دون رقينا وسعادتنا، وكل هذا نشاهده ونسمعه.أما الإنسان النقي الطاهر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فإنه إذا سمع آيات الله تتلى، وفهم ما تدل عليه، وتهدي إليه، فإنه يقبلها، ويرغب فيها ويحبها، وليس هناك موانع.أما من كانت لديه موانع كحال رؤساء الكنائس والبيع اليهودية، وحال رؤساء مشايخ الطرق، وكذلك هو حال رؤساء الشعوب، فهم لا يريدون أن تخرج الشعوب من أيديهم؛ لأنهم استغلوهم، وتحكموا فيهم، فلا يقبلون هدى الله لذلك.والمراد في قوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] هم فساق اليهود، فما كل اليهود يرفضون آيات الله، ولكن فيهم أمثال ابن صوريا الأعور وفلان وفلان الذين لهم سلطة يتحكمون بها في الشعب اليهودي فيرفضون الآيات، ويكفرون بها؛ لأنها تحول بينهم وبين مرادهم، وهذا ما هو ببعيد أبداً، فإنك تجده بيننا، والذي توغل في أية معصية لا يستطيع أن يتخلى عن المعصية، ولا يؤمن بالآيات.
تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ...)

سجية اليهود وطبيعتهم في نقض العهود

قال تعالى: أيفعلون .. أيقولون .. كذا.. كذا أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ [البقرة:100]، هذه شهادة الله على بني إسرائيل، فهم كلما عاهدوا عهداً جاءت جماعة أخرى ونقضته: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، سواء كان فريقاً كبيراً أو صغيراً. ومن هنا لا تثق في أي معاهدة يهودية أبداً، وإن اضطررت إلى أن تعقد معاهدة فعاهد، واكتب، وأشهد، لكن إياك أن تطمئن فتقول: بيننا وبينهم عهد، والله إن احتاجوا إليك وقدروا عليك ما تركوك لأجل العهد؛ لأنهم طبعوا على نقض العهد، ولقد كان الله يخاطبهم والجبل فوقهم، ومع ذلك نقضوا العهد، فكيف -إذاً- تطمئن إلى عهودهم.هذا الموضوع تكلمنا فيه بحمد لله، وقلنا للعرب: يا عرب! توبوا وأسلموا، وحدوا دولتكم، وحدوا قوانينكم، فأمتكم أمة واحدة، ودينكم دين واحد، فلا مذهبية، ولا فرقة، ولا وطنية، ولا نعرات خارجة عن دائرة الحق، بل أمة واحدة، وما عليكم إلا أن تجتمعوا، وسوف يهرب اليهود منكم، فوالله ما إن يسمعوا بوحدة المسلمين الحقة فلن يبقى يهودي يطالب بإسرائيل، ولا يبقون فيها، بل يرحلون.فإن قالوا: ما زلنا غير مستعدين للإسلام والوحدة و.. و.نقول: لا مانع من التدريج. وبإمكانكم أن تعاهدوا اليهود، وتعقدوا بينكم وبينهم معاهدات سلم وعدم اعتداء حتى يخف الألم على إخوانكم الفلسطينيين، وتزول همومهم، ومخاوفهم، فأمنوهم على الأقل، ولا تقولوا: إذا عاهدناهم لا نستطيع أن ننقض العهد، وهذا معناه أننا أعطيناهم فلسطين للأبد، نقول: هذا الكلام باطل؛ لأنهم هم الذين سينقضون العهد، وليس أنتم، فهذا طبعهم، وهذه غرائزهم، وهكذا عاش أسلافهم إلى اليوم.وقلنا: إن شككتم فانظروا إلى حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل المدينة مهاجراً وتقدمه فحول هاجروا إليها قبله، وأصبح الإيمان في كل بيت، فعقد الاتفاقيات والمعاهدات على السلم وعدم الاعتداء، فهل أنتم أعلم من رسول الله الذي معه الله والملائكة، ولله جند السماوات والأرض، ومع هذا كان من الحكمة والرشد والعقل والمعرفة عقد اتفاقية مع اليهود من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، ونصوصها موجودة، ولو تقرأها تجد فيها العجب، ولا تستطيع أمة الآن تقوم بهذا.

نقض يهود بني قينقاع للعهد

وأول من نقض العهد هم بنو قينقاع، فقد كان لديهم صائغ، نسميه قين أو حداد بلغتنا الدارجة، فهذا الصائغ وهو يصوغ جاءته امرأة مؤمنة تريد أن تشتري وتصنع، فكانت جالسة محتشمة، وعليها حجابها وملاءتها، فجاء هذا اليهودي الخبيث يضحك من خمارها على وجهها يقول: لِم أنت مغطية وجهك؟ لم أنت كذا؟وهذا الكلام يقوله الآن الذين ينتسبون إلى الله والإسلام.يقول اليهودي: لِم أنت هكذا؟ ما هذا التجمد والتحجر؟ كأنه يعيش اليوم؛ فاغتاظ كيف تحجب نفسها، وكيف تغطي جمالها ووجهها. فأبت أن تلتفت إليه أو تتكلم معه، فجاء من الوراء، وأخذ ملاءتها وربطها مع غطاء رأسها، فلما قامت انكشفت عورتها، وصعقت على الأرض تصرخ: واإسلاماه، فشعر بها أهل السوق من المؤمنين، فجاءوا فرفسوه على الأرض، ومن ثم جاء رجال بني قينقاع ودارت فتنة ما هدأها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن نقض يهود بني قينقاع للعهد، وأراد أن يقيم حكم الله فيهم، فشفع لهم أحد رجالات الأنصار، فأعطاه الرسول إياهم، فأجلاهم من المدينة لنقضهم العهد، فما قتل أحداً، ولا سلب مال أحد، فأخرجوا، ونزلوا بالشام بأرض تسمى أذرعات.

نقض يهود بني النضير للعهد

أما بنو النضير فقد دامت المعاهدة معهم أكثر من أربع سنوات، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم مع رجال له كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يطالب بموجب الاتفاقية أن يعطوه مالاً ليسدد دية مقتول، والاتفاقية تقول: أننا نتعاون حتى على تسديد الديات، فإذا لزمت اليهود دية فالرسول يساهم فيها، وهم كذلك، فلما حصل أن مسلماً قتل شخصاً ظنه كافراً وهو مسلم من بني عامر، فجاء يطالب بالمساهمة في الدية.فقالوا: تفضل يا أبا القاسم اجلس، ففرشوا له الفراش وأجلسوه تحت جدار مع أصحابه، وأخذوا يتآمرون: هذه فرصة، وهذا اليوم يوم السعد، واليوم ننهي هذه المشكلة، فقالوا: ائتوا بمطحنة -رحى، معروفة عندنا- وألقوها على رأسه من السطح، فإن قيل لنا في ذلك قلنا: لقد سقطت. وما زالوا كذلك وهم يبحثون كيف يرفعون المطحنة كيف يرسلونها في داخل البيت، فنزل الوحي: قم يا رسول الله. وأخذ رداءه وخرج هو ورجاله؛ فوصل الرسول إلى المدينة، وأعلن الحرب عليهم، فقد نقضوا العهد، وهل هناك نقض أكثر من أن يريدوا أن يقتلوا رئيس الدولة؟!فأجلب الرسول على بني النضير برجاله، وطوق المنطقة واستسلموا وانقادوا، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:1-2].لكن أين أولو الأبصار؟؟يا رب! لا يوجد أحد، فما اعتبر العرب ولا المسلمون، وهذه الآيات ما تقرأ إلا على الموتى.نعم لقد نقضوا المعاهدة بأيديهم فطوقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا، وما قال: اقتلوهم ولا مرغوهم في التراب، ولا أذلوهم، لا، إنما هي عدالة السماء، ونور الله، وما كان منه إلا أن قال لهم: ( اخرجوا واحملوا معكم ما تستطيعون حمله )؛ فأخذوا كل شيء من الفرش والأسرة، والعيدان، وآلات الطبخ .. وحملوا كل ما يستطيعون، حتى إن بعضهم أخذ شباك النافذة فينزعه ويأخذه معه، وبعضهم لديه خشب ممتاز فيهدم البيت ويأخذ الخشب على البعير: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ .

نقض يهود بني قريظة للعهد

أما بنو قريظة في جنوب المدينة فقد استسلموا وانقادوا وعرفوا ما جرى لإخوانهم من بني قينقاع وبني النضير، فثبتوا يتحينون الفرصة لينتقموا ويشفوا صدورهم، ثم جاءت محنة الأحزاب المؤامرة الكبرى، التي ما بلغنا مؤامرة في التاريخ تشبهها إلا مؤامرة الخليج، وإن كان الناس لا يعرفون هذا، فلا نظير لتلك المؤامرة؛ لإنهاء الإسلام وإطفائه.فهذا الزعيم حيي بن أخطب النضري عليه لعائن الله، ما إن خرج مع بني عمه ونزلوا في خيبر في فدك في تبوك في الطريق إلى الشام، قال: والله لأبيتن لكم، ولأنهين هذا الدين وهذا الرسول، وأخذ يركض بين قبائل العرب في الشرق .. في الجنوب .. في الغرب .. في مكة: هيا بنا ننهي المشكلة، فحزب الأحزاب وجمع القوات من الشرق والغرب، وطوقوا المدينة تطويقاً كاملاً، وحشر الرسول ورجاله في جبل سلع خمسة وعشرين يوماً، فلما شاهد بنو قريظة الحصار انضموا إلى المؤامرة ودخلوا مع الأحزاب بوسائط معروفة، وأصبحوا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفوا النقاب عن وجوههم، وشاء الله عز وجل أن يطرد الأحزاب شر طردة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ليس معنى من فوق: من السماء، وليس معنى من أسفل: من تحت الماء، وإنما ذلك بالنسبة للمدينة من جهة الفوقية والسفلية. وهكذا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، وما هي إلا خمسة وعشرون ليلة وإذا بريح الصبا لا الدبور، قال صلى الله عليه وسلم: ( هلكت عاد بالدبور، ونصرت بالصبا )، ريح شمالية شرقية، وهذه الريح لو شاهدتموها لا تسألوا، ففي أول الأيام والليالي برد لا حد له، كأنكم في أوروبا حيث الناس يرتعدون أيام الشتاء، وإذا بهذه الريح -والله- تقتلع الخيم وتضربها، وتقلب القدور التي فيها طعام الجيش، فما كان منهم إلا أن أعلن رئيس المؤامرة -رضي الله عنه الآن- أبو سفيان الرحيل، ونادى المنادي بالرحيل في الليل، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، أي: من الآن نحن الذين نغزوهم، وليس هم الذين يغزوننا.أما بنو قريظة فلم يذهبوا مع الأحزاب، لأنهم مقيمون في المدينة، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، وإذا بجبريل على فرس الحيزوم: ( يا رسول الله وضعت السلاح؟! أما نحن فما وضعنا السلاح، انطلق إلى بني قريظة، وأذن مؤذن في داخل المسجد: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فلبسوا دروعهم وحملوا سلاحهم إلى بني قريظة، وحاصرهم رسول الله، وما سمعوا كلمة إلا واحدة: يا إخوان القردة والخنازير فقط، وفاوضهم وفاوضوه، واتفقوا على تحكيم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، ويسبى النساء والأطفال؛ لأنهم رضوا بحكمه ووافقوا، فلما حكم سعد قال الرسول: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ).فجمع الرجال مكبلين، مسلسلين هنا في المناخة في طرف المسجد، وحفرت لهم حفرة، والسيف يقطع الرءوس، فلا إهانة، لا سب، لا شتم، لا.. لا.. تطهير فقط، وكانوا قرابة السبعمائة رجل، والنساء والأطفال وزعوا على المؤمنين، وما هي إلا أيام حتى دخلوا في رحمة الله وأصبحوا مسلمين.فهل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوه أبداً.إلى الآن في غضب: كيف تتم مفاوضات، وكيف يرضى بهذا؟ تفضلوا، لا نستطيع.عجائب التاريخ! قلنا لهم: يا هؤلاء! ليست القضية قضية تراب، وأرض، وفلسطين، القضية أن يدخل البشر في دين الله، ونحن مطالبون بأن نغزو أوروبا وأمريكا والصين واليابان، وندخل الناس في رحمة الله، وليست القضية قضية أرض لا نعطيها لليهود!! وأي قيمة للأرض والتراب والطين؟ولكن هذا الكلام لا يفهمونه، وما عرفوه بعد، فهل جلسوا هذا المجلس وتعلموا؟فهم لا يعرفون.الشاهد عندنا في قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فاحذر يا عبد الله الفسق، واحذري يا أمة الله الفسق، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك الواجب وفعل الحرام، فمن أخذ يترك الواجبات، ويتخلى عنها واحداً بعد واحد، وأخذ ينغمس في المعاصي، ويرتكبها معصية معصية، فسيأتي يوم يكفر بالله ولقائه، لا بآياته فقط.وما قال: إلا اليهود .. إلا بنو فلان.. لا، قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ ليحذر من الفسق ويبين نتائجه، فإن الفاسق يوماً بعد يوم يعمى البصيرة، ولا يصبح يعرف شيئاً، ويكذب الله ورسوله وبآياته.ثم قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فما يجمعون على نقضه، ولابد فريق ينقض ويسكتون، وهذا الذي يحصل.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ...)

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:101]، أي: ولما جاءهم رسول عظيم الشأن .. رسول جليل القدر .. رسول فوق الرسل .. رسول إمام الرسل، ليس رسولاً عادياً قد لا يبالون به أو لا يصدقونه. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وهذا التنكير في لغة العرب يدل على التعظيم.وهذا الرسول ليس يحيى، بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.وقد جاءهم بالفعل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]؛ فهو إلى اليهود والنصارى، والبوذيين، والمشركين، والمجوس، وكل الملل والنحل، فهو رسول الله إليهم.وتريدون دليلاً أو برهنة؟من يوم أن توفي الرسول من قبل حوالي أربعة عشر قرناً، ما جاء رسول أو نبي في الأرض كلها؛ لأن الله أعلم أنه ختم النبوات بهذه النبوة، وختم الرسالات بهذه الرسالة، فلهذا ما جاء رسول، وهذه وحدها تجعل العاقل يشهد أن محمداً رسول الله، فما كانت البشرية تمضي عليها السنون وعشرات الأعوام وليس فيها نبي ولا رسول، فلابد من نبي ينبئها ويخبرها؛ لأنها خلقت لتعبد الله، وتذكره، وتشكره، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].قال: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] ما الذي حصل؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، وكتاب الله هنا التوراة .. الإنجيل، إذ فيهما نعوت الرسول وصفاته واضحة كالشمس، حتى المكان الذي يخرج منه: بين جبال فاران .. مدينة طيبة .. بلد تسمى يثرب .. أرض سبخة فيها كذا، ففيها نعوت كل من يفتح عينيه يرى الرسول. ومع هذا عموا عمى كاملاً، وأنكروا نكراناً كاملاً.ثم هذا الرسول مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فلو جاء بدين يتناقض مع دينهم لقالوا: لا نقبل هذا، هذا جاء يحرم علينا ما أحل الله، أو يحل لنا ما حرم الله، أو يأمرنا بما لا نطيق، فهذا ليس بدين الله، وقد يكونون معذورين، لكنه والله جاءهم بما عندهم، فكل الأديان قامت على لا إله إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وبين رسوله الذي أرسله، وكل الأديان مجمعة على هذا، وكل الأديان تعرف أنه لابد من لقاء لله عز وجل، وأنه لابد من الجزاء على الكسب الدنيوي، وأنه إما عالم شقاء أو عالم سعادة فلابد منهما، وأن الظلم حرام، والخبث حرام، والسرقة حرام، والربا حرام .. و.. و.. وكل المحرمات عندنا محرمة في الكتب؛ لأنها ضارة بالناس، فلا يحرم الله إلا ما يضر بالناس.إذاً: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فليس هناك تناقض ولا منافاة ولا مضادة، فلم لا يقبلونه؟ قال: (نبذه) النبذ: الرمي، فلا تلتفت إلى ما يقوله هذا الرسول فارمه وراء ظهرك، (نبذه فريق) كبير منهم، وهذا الفريق هم الرؤساء المستغلون للشعب اليهودي، الذين يعيشون على حسابه فهم الذي يرفضون الحق.وبعض البهاليل يقولون لـأبي عبد الله وأبي سالم : كيف تجعلون القرآن وراء ظهوركم؟ فيأتون يشتكون إلي يقولون: الله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، فكيف يجعل هؤلاء القرآن وراء ظهرهم؟فقلنا لهم: معنى جعله وراء ظهره أي: ما عمل به؛ لأنهم وضعوه وراء ظهورهم، فما الفائدة أن يضعوه وراء ظهورهم، فلا يلتفتون إليه ولا يقبلون عليه، وإخواننا هؤلاء مضطرين لكبر سنهم يتكئون على العمود، والمصاحف خلفهم في الدولاب. لكنهم أصروا وقالوا: لا تعطه ظهرك، فالله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ !وهذا سوء فهم؛ فقوله: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ معناه: ما عملوا به، ولا قرءوه، ولا فتحوه، ولا ولا؛ لأنه جاء ضد أهدافهم وأغراضهم.ثم قال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]، أي: لا يعلمون شيئاً، لا صفة الرسول ولا نعته ولا صفة الإسلام ولا أمة الإسلام ولا.. ولا، فهذه النعوت حتى للأمة موجودة.وماذا فعلوا؟تركوا التوراة؛ لأنها تتفق مع القرآن وتمشي معه، ولجئوا إلى السحر والباطل، فالشياطين كتبت كتاباً؛ شياطين الإنس مع شياطين الجن على عهد سليمان، ودسوه تحت السرير بواسطة آصف ، فلما مات سليمان أخرجوا الكتاب وصاحوا في الأمة: انظروا لقد كان سليمان يحكمكم بهذا الكتاب الذي فيه السحر، فسليمان ليس بنبي ولا برسول بل هو ساحر، ولهذا استخدم الإنس والجن، وتحكم في العالمين بالسحر، وهذا الكلام سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:37 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (73)
الحلقة (80)




تفسير سورة البقرة (43)

كان اليهود يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: (راعنا) وكان المسلمون يقولون هذه الكلمة، فنهاهم الله عنها، وأبدلها بكلمة: (انظرنا) لما في تلك الكلمة من معنى الرعونة، وكان هذا خبثاً وسوء أدب من اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب تعظيمه وتوقيره، ولهذا وجه القرآن الصحابة إلى جملة آداب في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا السباقين في ذلك.

بعض طرق علاج السحر

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:104-106].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.أعود بالأبناء والإخوان إلى الدرس الماضي، إذ فاتني أن أذكر لهم فائدة يعالج بها السحر، نجانا الله وإياكم منه، فقد ذكر السلف أن من أصيب بالسحر يأتي بسبع ورقات خضر من شجر السدر، وهو موجود في بلاد العالم، ويدقها بين حجرين، ثم يضعها في ماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ومن الخير أن تكون القراءة ثلاث مرات أو سبع مرات كعهدنا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأحياناً ثلاثاً وأحياناً سبعاً، ثم يحسو منها ثلاث حسيات، وما بقي يغسل به جسمه، مع تعلق قلبه بالرب عز وجل، إذ لا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه، فهو الذي خلق الداء والدواء، فلابد من تعلق القلب بالله، وما هذا العلاج إلا سبب عرفه السلف وأذنوا فيه، فيعمله المؤمن رجاء أن يشفيه الله من هذا الألم الطارئ عليه بواسطة السحرة عليهم لعائن الله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ...)


واجب المسلم مع الآيات التي يتصدرها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
هنا نداء إلهي جليل عظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فالمفروض أن نقول بألسنتنا وبقلوبنا: لبيك اللهم لبيك، فقد نادانا بعنوان الإيمان، والمؤمن حي يسمع ويبصر، يعقل، ويفهم، ويقوى على العمل، ويقدر على الترك؛ لوجود الحياة الكاملة، وقد اكتسب هذه الحياة من الإيمان بالله، ومن معرفة الله، فأصبح حياً متهيئاً لأن تأمره فيأتمر، ولأن تنهاه فينتهي؛ لكمال حياته.أما الكافر فهو ميت، لا يسمع نداء المعروف والخير، ولا ينهض بعمل استحبه الله أو ندب إليه، أو أوجبه على عباده، ولا يتخلى أيضاً عن فعل كرهه الله وأبغضه وأبغض أهله، وذلك لفقدانه الحياة.ومن تساءل يريد برهنة أو تدليلاً، فالجواب: أن أهل الذمة الذين يعيشون في ديارنا الإسلامية من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم لا نكلفهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام؛ لأنهم أموات، أفتكلف ميتاً؟! أفتأمر ميتاً وتنهاه؟! هذا من غير المعقول.لكن يوم أن تنفخ فيه الروح، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن تلك الساعة إذا قلت له: اغتسل، فإنه يغتسل من جناباته .. قلت له: طهر ثيابك فإنه يطهرها .. قلت له: اشهد صلاة ربك في بيته، فإنه يشهدها، فأصبح قادراً على أن يعمل، قلت له: غداً الصيام فيصبح صائماً؛ وذلك لدخول الحياة فيه، إذ الإيمان روح، فإذا سرت الروح في الجسم أصبحت العين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق إلى غير ذلك.
نهي المؤمنين عن قول: (راعنا) للرسول صلى الله عليه وسلم واستبدالها بـ(انظرنا)
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نادانا لأي شيء؟ هل ينادينا لغير شيء؟ تعالى الله عن اللهو واللعب، ينادينا إما ليأمرنا أو لينهانا أو ليبشرنا أو لينذرنا أو ليعلمنا .. فحاشاه أن ينادي أولياءه وعباده المؤمنين لا لغرض سامٍ وشريف.وبعد هذا النداء قال: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] وهذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين رجاله، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.ولم نهاهم عن هذه الكلمة وهي: رَاعِنَا واستبدلها بأخرى بمعناها وهي: انظُرْنَا ؟سبب هذا أن اليهود استغلوا فرصة سنحت لهم يتمكنون بواسطتها من أذية رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدة مكرة، وهذه الفرصة أنهم سمعوا بعض المؤمنين يقولون: راعنا يا رسول الله، فلما يكلمهم ويلقي الحكمة أو الحكم بينهم، كان بعضهم يسهو ويغفل، ثم يطالب الرسول أن يتمهل في إلقاء كلامه حتى يسمع ويفهم، فيقول: راعنا -يا رسول الله- في كلامك حتى نحفظ ونفهم. وراعنا باللغة العبرية فيها معنى الازدراء والتهكم والسخرية، إذ هي من الرعونة، فتراهم -عليهم لعائن الله- وهم في المجلس قد يتغامزون ويتضاحكون، ويقولون: راعنا يا رسول الله، وأنتم تعرفون، واعرفوا من الآن أن السخرية برسول الله كفرٌ بواح، ولا حظ في الإسلام لمن يسخر من رسول الله أو يستهزئ به، أو يقول له كلمة سوء؛ لأن مقام النبوة مقام سامٍ، وشريف، وعالٍ، وسنستعرض بإذن الله الآيات الآمرة لنا بالتأدب مع رسول الله.فلما كانت هذه الكلمة تدل في لغتهم وعرفهم وما هم عليه في بيوتهم على الاستهزاء والسخرية أصبحوا يتبجحون: راعنا يا محمد. فنادى الله عز وجل أولياءه من عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا لرسولنا لنبينا: رَاعِنَا وهذه الكلمة من الآن لا يقولها مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقُولُوا انظُرْنَا ومعناها: أمهلنا وأنظرنا حتى نسمع: وَاسْمَعُوا لأن بعض الغافلين من أمثالنا قد يكون جالساً في حلقة العلم وإذا به يسرح بخاطره هنا وهناك، فلما تفوته الكلمة يقول: أنظرني، وهذا لا يحل أبداً، فيجب أن تسمع، ولا تنصرف بذهنك، ولا بقلبك، ولا بسمعك، وبعد ذلك تراجع وتقول: أنظرني أو أمهلني، فقوله: وَاسْمَعُوا أي: ما يقول لكم رسول الله؛ إذ لا يقول إلا حقاً، ولا يقول إلا آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، أو ناشراً للآداب والأخلاق فيكم، فكل كلمة ينبغي أن لا تضيع؛ لأنها الحكمة.وإياك أن تفهم أنك تستطيع أن تأخذ كلمة من كلام الرسول لا فائدة فيها، والله ما كان، أليس هو الذي قال الله فيه: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].وبالفعل ما بقي من أولئك الأصحاب من يقول: راعنا يا رسول الله، ولا من يقول: أنظرنا بعد أن يسرح بذهنه وقلبه، ويفوت الفرصة عليه، ثم يريد أن يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بشر، وأكثرهم ما تعلموا، فهذا دخل في الإسلام من أسبوع، وهذا من ستة أشهر، ومن هنا كان الله عز وجل يؤدبهم ويعلمهم.والأصل في الإنسان الواعي البصير أن سؤالاً واحداً يلقى في حلقة علم يدل على حكمة .. أو على معنىً سامٍ فيكفيه أن يقول: أنا سأحفظ هذا السؤال وجوابه، وأعلمه، وأعمل به، ولا أريد أكثر من ذلك.لكن العلة أننا فارغون، ولسنا مستعدين لأن نعلم فنعمل ونعلِّم، ولو كنا نشعر بهذه المسئولية فالجدير بي أن أقول: لا تزدني كلمة أخرى، فأنا ما أقدر، وحسبي هذه القضية -الآن قد فهمتها- تبقى في نفسي أراجعها، وأخرج من المسجد ألقيها في أرض تنبت لنا البقل والزرع فألقيها إلى امرأتي .. إلى ابني .. إلى جاري حتى تستقر، وهكذا ننمو ننمو حتى نبلغ الكمال.
أدب المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم

أولئك الصحابة أدبهم الله تعالى فاسمع إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12].فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي: إذا أردتم أن تخلوا به، وتتكلموا معه، ومن الطبيعي أن كل واحد يريد أن يخلو مع رسول الله، لكن هذا الرسول كم يكون؟ وكيف سيقسم الوقت؟نعم، أنتم تحبون رسول الله، وتريدون أن تدخلوه في أحشائكم وقلوبكم ولكنه إنسان؛ بشر، ولا يمكن أن يوجد في كل مكان، وأنتم تعرفون رغبة الطلاب مع علمائهم، كل واحد يريد خمس دقائق، فكيف بالصحابة مع رسول الله، فأدبهم الله تعالى وقال لهم: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] أي: إذا عزمت على المناجاة فقدم بين يدي مناجاتك صدقة، فأولاً ألق ريالاً في يد الفقير وتعال، أو ضع عرجوناً في المسجد من التمر وتعال تكلم مع الرسول.فما إن بلغهم هذا الخبر حتى جفلوا، ولو استعملناها عندنا، لا يبقى أحد يسأل.إذاً: فلما تأدبوا وعرف الله عز وجل -وهو العليم الحكيم- أدبهم واستقامتهم نسخ هذا الحكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: هذا العمل خير وأطهر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] لأنهم كَلَّوا وشحوا، فرفع الله عنهم ذلك القيد، ونسخه إلى غير شيء، وأصبحوا يشتاقون إلى رؤية من يأتي من البادية أو من مكان بعيد ليسأل حتى يستفيدوا.ومن ذلك أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام وهم في حلقتهم في تلك الروضة النورانية، والرسول بين أيديهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بهذا الرجل من طرف الحلقة يشق الصفوف، حتى ينتهى إلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلس بين يدي رسول الله، ( وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فأعطى كله للرسول .. قلبه .. مشاعره .. وجهه .. جسمه، وهكذا حتى ما يقوى على الالتفات، ووضع يديه على فخذيه صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم صورة مثالية لتعلم العلم وتلقيه، وأخذ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله -أولاً- عن الإسلام، فأجابه، وقال: صدقت. وسأله عن الإيمان فأجابه وقال: صدقت. وسأله عن الإحسان فأجابه، وقال: صدقت، قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) فهذا معناه أنه عالم بما يقول، وهو كذلك، فلما سأله عن الساعة قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ ) فالمسئول هو الرسول والسائل هو جبريل، فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) وما قال: ما أنا بأعلم منك يا رسول الله؛ لأنه كان متنكراً.ثم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن أماراتها وعلاماتها ) وأنتم تقولون: أنا سأذهب الآن إلى الأمارة، وهذا خطأ، والصواب: إلى الإمارة، وكذلك عندنا (الإمارات) البعض يسميها الأمارات، والأصح: الإمارات.وجبريل هنا قال: ( أخبرني عن أماراتها ) والأمارات: جمع أمارة، وهي العلامة، وبالفعل أخبره عن أمارة، والله لقد وقعت، وهي مشاهدة وموجودة في أوروبا، وفي الشرق، وفي الغرب، وفي المدينة.ما هذه الأمارة؟قال: ( أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) فما كانوا قبل يعرفون التطاول في البنيان هذا، وكان أكبر طابق عندهم علوي وسفلي فقط، والمدن كلها كالفلل، ليس هناك بيت أعلى من الثاني، والآن العمارات تجد فيها عشرة طوابق، وأخرى عشرين طابقاً، وهذا هو التطاول في البنيان الذي قد وقع.فالحفاة، العراة، رعاء الإبل أو الشاء أو البقر في العالم أصبحوا يتطاولون في البنيان، وهذه علامة من علامات الساعة وقعت كالشمس من أكثر من مائة سنة تقريباً.فلما خرج السائل قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من هذا؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ) فعلمهم كيف تكون الأسئلة، وكيف يكون الجلوس، وكيف يكون التلقي. هذا الأدب الأول.



يتبع

ابوالوليد المسلم 04-09-2020 02:38 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
أدب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله

هنا أدب ثان كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] فهنا منعهم من أن يقدم أحدهم رأيه أو ما يراه والرسول موجود.فقوله: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: لا تقدموا آراءكم وما تعلمون وما تفهمون، فإذا أمر الله فافعلوا، وإذا نهى الله فاتركوا، وإذا أمر رسول الله فافعلوا، وإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا، وهذا الأدب والحكم يستمر إلى يوم القيامة، فليس من حق إنسان مهما ارتفع أن يقدم على آي القرآن رأياً أو يقدم على أحاديث الرسول رأيه، بل هو دائماً وراءه، فإن عدمنا القرآن والسنة فحينئذ ننظر في أقوال أهل البصائر والنهى والعقول الذين يعملون على الإصلاح لا الإفساد .. يعملون على تزكية النفوس لا تخبيثها، ولهم أن يجتهدوا، ويوفقهم الله عز وجل.وهذا حديث معاذ إذ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، فسأله: ( بم تحكم يا معاذ ؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ -أي: في كتاب الله- قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ) فهو -أولاً- قد أحاط وألم بكتاب الله؛ القرآن، ثم أحاط وألم بالسنة، فأصبح ذا نور، فعرف مقاصد الشرع وأهداف الشريعة وما تدعو وتهدف إليه، وهو الإصلاح للفرد والجماعة .. للأبدان والأرواح، فما وجد ما يحقق هذا فهو مما أمر الله به أو أمر به رسوله، فإن وجد ما ينقض هذا فهو باطل، من وحي الشيطان.

أدب عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم

هنا أدب ثالث أدب الله تعالى فيه صحابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فمنعهم منعاً باتاً أن يتكلم أحدهم مع رسول الله، ويكون سؤاله أعلى من صوت رسول الله.فقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فأنت عندما تتكلم مع الرسول تسأله أو تريد أن تأخذ أو تعطي يجب أن يكون صوتك أخفض من صوت الرسول، مع أن صوت الرسول ما هو كصوت عامة الناس، بل كله أدب وخلق فاضل.ثم قال: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] وأيضاً صوتك يجب أن يكون دون صوت الرسول، فلما تتكلم مع الرسول لا تتكلم معه كما تتكلم مع عمر أو خالد أو فلان، فتستطيع أن تتبجح، وتعلي صوتك، وتلتفت، أما مع الرسول فلا.اسمع ماذا قال بعد ذلك: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] فتبطل كلها وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فخافوا هذا الموقف مخافة أن تحبط أعمالكم، وحبوط العمل بطلانه، فلا ثواب عليه ولا جزاء فيه.

أدب عدم مناداة الرسول كمناداة غيره

هنا أدب آخر أدبهم الله به، فقال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فإذا ناديت أخاك أو أباك فقل: يا عمر! يا خالد! يا عثمان! أما الرسول فتناديه بـ يا أحمد؟ فلا والله -واسمه أحمد ورد في سورة الصف وفي الإنجيل- لأنك تكون قد سويته بسائر الناس، ولا تقل: يا محمد، لا لا أبداً.ولما ناداه الله عدة نداءات، هل ناداه بـ يا محمد؟هذا القرآن بين أيديكم، ما ناداه إلا بعنواني: النبوة والرسالة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، والله ما ناداه إلا بعنوان النبوة والرسالة، وكان بعض الأعراب يأتي وينادي: يا محمد! وهذا معناه أنك سلبته النبوة، وإن سلبته النبوة كفرت، وإذا تنكرت للرسالة وما قلت: يا رسول الله، فمعنى هذا أنك كافر، إلا أنه لا يكفَّر؛ لأنه لا يدري.إذاً: نحن نهينا عن مناداة الرسول كمناداة لغيرنا من الناس، لأن معنى ذلك أنني ما اعترفت بنبوته فتقول: يا فلان: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].وهذه الآداب يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفها ويعيش عليها.

أدب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره

الآن لو نقف أمام الحجرة الشريفة ونشاهد إخواننا كيف يسلمون على الرسول، لو كنا بصراء، عقلاء، لو كنا معلمين كيف يكون السلام؟وهنا أريكم صورة: الذين يدخلون على الملوك والرؤساء، كيف يأتي الزوار يسلمون عليهم، الملك أو الرئيس جالس والزوار كل واحد يقول: السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، فيسلم الألف في لحظات، وفي دقائق، مع احترام، وتبجيل، وإكبار.أما كيف يسلم الناس الآن على رسول الله؟ كتل متضاربة، فهذا يسلم، وهذا يقرأ، وهذا كذا، وهذا يدعو، وكل ذلك لأنهم ما عرفوا.أما كان أصحاب رسول الله يسلمون عليه؟ وهل بلغكم أن أحدهم لما كان يأتي من مكة بعد الفتح أو من مكان آخر يقول: السلام عليك يا رسول الله ويأخذ في الدعاء، والله ما حصل، فكيف يحصل الآن، ولا فرق بين حياة الرسول وموته؟ والأدب الذي يكون له أيام حياته يجب أن يكون له أيام موته، وهل هذا هو الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟المفروض كما قلنا: ليس هناك جماعات واقفة، بل الناس في صفوف تجيء المرأة، ويجيء الرجل يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ويمشي إلى بيته أو إلى المسجد فيلف من جهة ثانية، ولا توجد هذه التكتلات، والتجمعات، والأدعية، والكتب و.. و.. لأن كل هذا من سوء الأدب مع رسول الله.قد يقول قائل: هذا حبي، وهذا كذا.نقول: لا ينفع، فقد سبقك من هم أحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مليون مرة، وما كانوا يفعلون.ولم يثبت في السنن -ومصادرها معروفة- وفي الصحاح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الحجرة ويسلمون على الرسول، إلا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكان إذا سافر وعاد يأتي الحجرة ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف ما السر في هذا؟ حتى فتح الله علينا أجمعين وعرفنا.وأحد المؤمنين يصلي كل صلاة صبح عند الباب، ويحمل سجادته بعد السلام، ويمشي ليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم. وهذا ليس عنده علم، زادكم الله علماً.وقد فتح الله علينا وبينا للناس، فنحن نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه، كفاحاً كلما نصلي ركعتين، وقد نسلم على الرسول خمسين مرة في اليوم، فأنت لما تصلي الركعتين في الفريضة تجلس بين كل ركعتين تقول: التحيات لله، فأنت بين يدي الله تعالى وتحييه في تلك الجلسة، والتحيات جمع تحية، ولا توجد تحية عرفتها البشرية إلا لله.وسبحان الله! الصلاة هذه لم يعطاها سواكم، وجميع أجزاء الصلاة تحيات، والواقع يشهد، فالقومة المعتدلة يقفها العسكري تحية أمام الجنرال، وإذا وقف بشكل غير صحيح أو تمايل صفعه الجنرال.وقال تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] ولهذا لا يحصل لمن يقول: الله أكبر في الصلاة، وهو مطأطئ رأسه، فوجهك هكذا، وهذه تحية.ونحن نحيي ربنا بكلتي يدينا، إلا إذا كان مشلولاً أو مقطوع اليد، فترفع يديك استسلاماً، وخضوعاً، وانقياداً لربك عز وجل، وهي تشابه التحية الفرنسية.كذلك الركوع بامتداد الصلب، واستواء الظهر، وأنت بين يديه ممدود، هذه تحية، وحيا بها البشر عظماءهم.أما السجود فهو أفظعها وأعظمها، فيضع وجهه على التراب، وكفيه، وركبتيه خضوعاً لله عز وجل، وهذه تحية.وأما التشهد فهو رمز للوحدانية، فأنت تتشهد وأنت تقول هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المؤمنين اليمنيين جاء يطوف وهو يعمل هكذا بيديه الاثنتين، فقال الرسول: ( وحد وحد ) يعني: إصبع واحدة فقط؛ لأنها تشير إلى الوحدانية: لا إله إلا الله، فهذا في التشهد بمجرد ما تبدأ وأنت هكذا وتؤكد كلامك: ( التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي )، وكان يحركها يدعو بها أي: يؤكد بها دعاءه.إذاً: نحن حيينا ربنا.ونبدأ بعد ذلك برسول الله، إذ لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبعد التحيات والصلوات والطيبات نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فوالله العظيم إنها لتصله فوراً.فإن قال قائل: يا شيخ! لا يحتاج إلى الحلف.أقول: الآن وأنت في بيت الله تستطيع أن تتكلم مع اليابان والصين، فقبل هذه الصناعات نعم كان المؤمن فقط هو من يصدق، أما الآن فلا تشك في هذا، أليس عندك عقل؟ وأمواج الأثير من خلقها؟ ومن ينقلها؟ونحن عندنا في الأحاديث أنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فإنها تأخذ تتموج وتتموج حتى تملأ الجو كله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، قلنا: كيف تملأ هذه؟ أنت تقولها: سبحان الله والحمد لله فتأخذ تتموج في الهواء حتى تملأ الفراغ ما بين السماء والأرض، وتعطى الأجر كاملاً.إذاً: عرفتم السر، وصار ليس هناك حاجة إلى أن تذهب إلى القبر وتسلم أبدا، فإذا جئت من بعيد، وأنت مشتاق تريد أن تقف أمام قبر رسول الله فنعم، لكن أن تكون في المسجد كل يوم، وكل ساعة فهذا قد كرهه مالك لأهل المدينة، فلا ينبغي هذا.لكن الآن عرفنا، لسنا نحن في حاجة، فقط كن واعياً، وكم من مصلٍ لا يشعر أبداً أنه تكلم مع الرسول، والله أحياناً أعيدها مرة ثانية، وقلت لكم لما أقول: السلام عليك أيها النبي وأنا غافل أرجع مرة ثانية وأقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وجهاً لوجه.وأقص عليكم رؤيا؛ لأن هذا الموقف للتعليم، فقد كنت أشعر في أيام مضت لماذا لما أسلم على الرسول في قبره كل يوم إلى أن أسافر فأشعر بألم نفسي، فرأيت الحجرة النبوية في بيتنا، وأنا أقول: سبحان الله! الحجرة بين يدي وأنا في هذا الشوق، كيف هذا؟! فعرفت أننا إذا سلمنا عليه في صلاتنا فنحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقط كن شاعراً، حاساً، واعياً، فاهماً أنك تسلم على رسول الله وهو يسمع كلامك، وقد قال: ( صلوا علي وسلموا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) وهذه قالها في حياته، ولا فرق بين من هو في الصين أو في أمريكا أو في كندا، ولو وعى المؤمنون هذا لا يتزاحمون، لكن لا علم، وما تعلموا.وها نحن مع هذه الآداب النبوية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] حتى لا يفوتكم الكلام وتقولوا: راعنا أو أنظرنا. وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104] هذا حكم الله، وللكافرين بالله ورسوله، وكتابه، وشرائعه لهم عذاب أليم، وهذه ضربة على رءوس اليهود الذين يمكرون ذلك المكر.

تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ...)

قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] لما نزلت هذه الآية اغتاظ اليهود؛ لأنهم صفعوا صفعة عنيفة، فالله أخبرنا بواقع، أنه -والله- لا يود بريطاني، ولا فرنسي، ولا ياباني، ولا صيني، ولا روسي، ولا عربي، ولا أعجمي من غير المؤمنين، لا يودون أن ينزل علينا خير من ربنا، لا مطر، ولا وقرآن، ولا شيء اسمه خير.وإياك أن تفهم أن مجوسياً أو صابئاً أو يهودياً أو نصرانياً يحب لك الخير، وأن يحفك الله به، والله ما كان. والتجارب واقعة.إذاً: فلم نحبهم نحن؟!هذه آيات الله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] فالقرآن، والأحكام، والشرائع، والرحمات، والبركات، والخيرات تنزل من عند الله، وهي كلها خير، حتى الصحة والأمن لا يريدون، عيشوا مرضى فقراء حتى يستغلونا أو يستعبدونا. ثم قال: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] فافزعوا إلى الله وارفعوا أكفكم إليه، وعلقوا قلوبكم به، ولا يضركم حسد اليهود، ولا النصارى، ولا المشركين، ولا البوذيين؛ فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] والفضل ما زاد عن حاجتك وأصبحت لست في حاجة إليه، كثوب قديم أو ريال زائد، والله عز وجل لو يعطينا ما بين السماء والأرض ما هو إلا فضل، لأنه غني غنىً مطلقاً، وليس في حاجة إلى إبل ولا غنم ولا ذهب ولا فضة، فكل هذه المخلوقات هو في غنى عنها، وأصبحت كلها فضل: ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يؤتي من يشاء من فضله، وهو ذو الفضل العظيم.معاشر المستمعين! استفدنا شيئاً ممكن نعمل به، ونعلمه، ونصبح عظماء في السماء؟روى مالك في موطئه: أن من علم وعمل بما علم وعلَّمه -أي: الناس- دعي في السماء عظيماً. فمن هم عظماء الرجال والنساء؟!كنا نقول: إن أفلاطون ونابليون هؤلاء من عظماء الرجال الذين درسنا عنهم في الكليات.الله أكبر! مَن عظماء الرجال والنساء؟هم الذين يتعلمون العلم الإلهي، ويعملون به، ويعلمونه، فيدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء.وهذه الكلمة ما فهمها الناس، ولا واحد من مليون مسلم، فلهذا قلَّ من يتعلم مسألة في مجلس كهذا، ويعمل بها فوراً، ويعلمها على الفور، مؤمناً بهذه التعاليم وهذه الآيات، ولا لوم؛ لأننا ما جلسنا في حجور الصالحين.والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (74)
الحلقة (81)




تفسير سورة البقرة (44)


يعتبر النسخ من القضايا المهمة التي بحثها علماء الإسلام، حيث نص القرآن على وجوده، ومن خلال هذا النص قسَّم العلماء النسخ إلى عدة أقسام منها: النسخ إلى بدل أثقل كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ إلى بدل أخف كنسخ وجوب قتال المسلم لعشرة إلى قتال اثنين، ونسخ إلى بدل مساوٍ كنسخ استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، والأمر كله لله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.وهذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:106-108].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زالت الآيات في تقريع وتأديب بني عمنا بني إسرائيل؛ اليهود، وبنو عمنا هم أولاد إسحاق، ونحن أولاد إسماعيل، وما حسدونا إلا لأنهم بنو عمنا، وقالوا: كيف ينتقل الوحي والرسالة والنبوة إلى أولاد إسماعيل ويحرم منها بنو إسرائيل؟ومن تدبير الله عز وجل أن القرآن لما كان ينزل في هذه الديار كان اليهود موجودين بالمدينة وفي الحجاز، ليتم ما أراد الله من فضح وكشف سرائرهم، وبيان مكرهم وخداعهم.أرأيتم لو كانوا غير موجودين في المدينة والقرآن ينزل؟! فسبحان الله العظيم! والله إنه لتدبير العليم الحكيم.

الرد على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في شرائع الله

قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] نمحها من قلب رسولنا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]. وقالت اليهود: لا وجود للنسخ في شرائع الله، ومن أين يأتي هذا النبي بما يقول؟ولهم في ذلك مكر وخداع، فهم لا يريدون أن يكمل الله هذه الأمة، ويتدرج بها من حال إلى حال؛ لتسعد وتكمل، وهم في هذا -والله- لكاذبون وماكرون.وهم يقولون في افترائهم: كيف يشرع الله عز وجل حكماً وبعد ذلك ينسخه؟ أما كان يعلم صلاحه من فساده؟فقال لهم علماء هذه الملة المباركة:أولاً: كم سنة كان آدم عليه السلام وهو يزوج بناته بأولاده، وكيف تناسلنا؟ وكيف تواجدنا على سطح الأرض؟كان آدم يزوج بنته من هذا البطن مع ابنه من البطن الثاني فترة من الزمن، ثم نسخ الله ذلك، وحرم نكاح الأخوات بالإجماع، أليس هذا نسخاً واضحاً كالشمس.ثانياً: في عهد نوح عليه السلام حدث الطوفان على الأرض فما نجا منه إلا أصحاب السفينة، فكل من على سطح هذه الأرض من أبيض وأسود وأصفر غرقوا إلا أصحاب السفينة، وهم نيف وثمانون رجلاً وامرأة فقط، ولهذا يعتبر نوح أبا البشرية الثاني، فآدم تناسل مع حواء، وكان نوح مع تلك الزمرة المعدودة المحدودة في سفينة، فأذن الله تعالى له ولمن معه أن يأكلوا سائر الحيوانات، فلما رست السفينة، وانتهى الطوفان، وهبطوا إلى الأرض كانوا مضطرين أن يأكلوا كل ما يحصلون عليه، ونسخ الله عز وجل ما شاء من تلك الحيوانات، وأبقى ما شاء.ثالثاً: وكذلك إبراهيم عليه السلام نسخ الله أمره، إذ قال له وقوله الحق من سورة الصافات أو اليقطين: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فيقول إبراهيم الخليل عليه السلام لغلامه وطفله الصغير، وهو في الثامنة أو التاسعة من عمره: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، ورؤيا الأنبياء المنامية حكمها حكم الوحي سواءً بسواء، فيوحي الله إلى الرسول وهو يقظان، ويوحي إليه وهو نومان، ولا فرق، إذ الإلقاء يكون في القلب النقي الطاهر فيتلقى سواء كان صاحبه نائماً أو كان يقظاناً.قال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يا إسماعيل.فأجاب ذاك الطفل النوراني ابن هاجر القبطية المصرية: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] ما قال: افعل ما تريد .. افعل ما تحب، لا. قال: افعل ما تؤمر به، فإذا أمرك سيدك بذبحي فاذبحني، وإذا أمر سيدك بإبعادي فأبعدني: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] فهذا هو الغلام الذكي الطاهر النقي؛ لأنه من شجرة مباركة هي هاجر .وقد حفظنا لها كلمة، لو نجمع جامعيات نساء العالم -والله- ما وقفن هذا الموقف. فإن قال قائل: لم الشيخ ينكت على الجامعيات؟أقول: لأننا ذقنا المرارة، وما زلنا نتجرع الألم من خروج النساء وسفورهن في وظائفهن، واختلاطهن بالفحول، فخمت الدنيا، وتعفنت بالفجور.فإن قال قائل: ما هذه الكلمة؟أقول: لما أمر إبراهيم عليه السلام بأن ينقل هاجر وطفلها إسماعيل من القدس إلى مكة بأمر الله، والعلة في ذلك أن سارة عليها السلام امرأة إبراهيم وبنت عمه كانت لا تلد، فهي عاقر أو عقيم، فلما تسرى إبراهيم هاجر التي وهبته إياها، فـسارة كان لها هاجر وقد أعطاها إياها ملك مصر، وذلك لما شاهد الآيات الإلهية فما كان منه إلا أن أكرمها، ومن جملة ما أكرمها به أن أعطاها خادمة تخدمها، وكانت هاجر أم إسماعيل، فوهبتها له يتسراها.والتسري أن يكون للفحل جارية خادمة، رقيقة؛ مستعبدة، سواء أخذها من نصيبه في الغزو والفتح أو اشتراها أو ورثها، وهذه الجارية الخادمة من لطف الله .. من رحمة الله .. من إحسان الله إلى عباده أن أذن لمن يملكها أن يحسن فراشها وثيابها، ويقلل من خدمتها، ويطأها عسى أن تلد له ولداً، فتصبح أم ولد، ومن يعرف هذا الكمال وهذا التشريع سوى الله؟!فأهدتها إبراهيم فتسراها فأنجبت له إسماعيل، وبدأت الغَيرة في النساء فأخذت الغيرة سارة قالت: كيف هي الحرة .. هي امرأة النبي .. ما تلد؟ وقلبها متمزق على الولد، وهذه ابنة أمس تلد؟فما أطاقت أن ترى هذا الولد ولا أمه، فألهم إبراهيم أو أوحي إليه أن انقل هاجر إلى جبال فاران، إلى الوادي الأمين، فأخذها وطفلها، وكانت هاجر تعفي الأثر حتى لا تعرف سارة إلى أين ذهبوا، ودخل وادي مكة، وما به عريب ولا أنيس، جبال فقط، ووضعها وطفلها، ومعها زاد لا يكفي لأكثر من ثلاثة أيام: جراب فيه خبز، وآنية فيها ماء وتركهم.وتركهما في حجر إسماعيل، وقفل راجعاً، فلما تجاوز مسافة عشر خطوات .. عشرين نادته وقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم، فتتركني وطفلي في هذا الوادي لا أنيس ولا عريب؟ قال: نعم. قالت: إذاً فاذهب، فإنه لا يضيعنا.أعطوني مؤمناً من هذا النوع يقول: اذهب فإنه لا يضيعنا، فهذه هي هاجر أم إسماعيل، فهل نملك هذا المعتقد، وهذا النور في قلوبنا؟إن أحدنا إذا أرشد إلى ترك معصية تجده يقول: مع الأسف إن الظروف والأحوال والعيش والحياة تغيرت فكيف نترك هذا؟أقول: أين التوكل على الله؟فإن قال قائل: يا شيخ! لا تلمنا إننا ما عرفنا الله، من حدثنا عنه؟ من عرفنا به؟ نجلس عشرين .. ثلاثين سنة في المقاهي، والملاهي، ومجالس الكلام لا نتحدث يوماً عن الله، فكيف نعرف الله؟أقول: إذاً أستغفر الله لي ولكم، هو هذا.ونعود إلى النسخ؛ إذ قال إبراهيم للغلام الصغير: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك، فقال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] سبحان الله! إبراهيم النبي الرسول يؤمر؟ فلا يستطيع أن يفعل برأيه أبداً، وهل يستطيع أحد منا لو كنا مسلمين أن يعمل شيئاً برأيه؟ والله لا يستطيع، فلا بد من أمر الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله، في جل أفعالنا، فلا نقول، ولا نتكلم، ولا ننام، ولا نأكل، ولا نشرب، ولا نبيع، ولا نشتري، ولا نتزوج، ولا نطلق إلا بأوامر.لعلي واهم! والله كما تعلمون. هل تستطيع أن تأكل بدون إذن الله؟! فإن استطعت فكل الخنزير والجيفة.هل تستطيع أن تبني بدون ما تكون هناك حاجة إلى البناء؟ والله ما كان.وهكذا: هل تستطيع أن تتزوج بدون حاجة .. أن تطلق بدون ضرورة؟إذاً ما عندنا عمل يصدر عن غير تعليم من الله ورسوله.وشاء الله وخرج به من بيت هاجر يمشي معه وودع أمه: نستودعكم الله إلى منى حيث يراق الدم، وجملته وحسنته؛ هذا لله، وانتهى به إلى منى، واعترضه العدو الألد الخصم المبين إبليس في جمرة العقبة الجمرة الكبرى، وقال: أي إبراهيم! ماذا تفعل بهذا الغلام؟ تذبح فلذة كبدك؟ الله يأمر بهذا؟ ارجع بابنك خيراً لك. فعرفه ورماه بسبع حصيات، وبقيت لنا إلى اليوم، ثم مشى فاعترضه عند الجمرة الوسطى: أي إبراهيم! يا خليل الرحمن! ربك في غنى عن هذا الغلام فكيف تذبحه؟ فطرده حتى الجمرة الأخيرة ثلاث مرات، وإبراهيم ثابت موقن أن الله أمره وعرف العدو من هو، وانتهى إلى مكان الذبح عند مسجد الخيف وهناك: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أي: صرعه على جبينه، والمدية في يده: باسم الله، فوضعها فوقفت وتحول الحديد إلى حطب.قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104] فالتفت وإذا بجبريل معه كبش سمين جميل ذبيح: خذ هذا، واترك هذا وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:107-110] لا المسيئين في أعمالهم وأقوالهم وحياتهم.وهذا نسخ، فقد أمره أن يذبح، وخرج لأداء أمر الله ثم شاء الله أن ينسخ لما امتحن؟ وبرز إبراهيم وظهر؛ لأنه يتهيأ للإمامة الكبرى قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].وهل ينسى هذا اليهود؟ كلا، والله إنهم ليعرفونه، إلا أنهم يتبجحون ويقولون: الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، وهذا عناد ومكابرة، فإسحاق ما وجد بعد.إذاً: هذا نسخ فكيف يجهله اليهود؟لا يجهلون يا شيخ، إنهم يعاندون ويريدون إطفاء نور الله لزعزعة القلوب والإيمان فيها بين المؤمنين، وهذا لأنهم كانوا يتكلمون بلسان العرب ويعيشون معهم، والآن إذا لم تخالطهم وتتكلم بلسانهم قد لا تعرف عنهم شيئاً، لكن الصفات والنعوت التي نعتها الله موجودة فيهم بالحرف الواحد، ظاهرة لمن خالطهم ومارس الحياة معهم.إذاً: بطل ما ادعاه اليهود وافتروه وكذبوه، وثبت أن لله أن ينسخ ما يشاء، وهاهو ذا تعالى قد أنزل هذه الآيات في الرد عليهم، وقال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] أي: نمحها من قلب نبينا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] مصلحة وفائدة وكمال ورقي للأمة، أو بخير منها.



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:16 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
أقسام النسخ

عندنا في أقسام النسخ وأنواعه ما يلي:أولاً: هناك النسخ من أصعب إلى أسهل وأيسر؛ لأن الدين ما نزل في وعاء واحد وفي يوم واحد، فهو دين التربية والرقي بالإنسان والكمال، وشرع الله عز وجل في خلال ثلاثة وعشرين سنة وهو ينزل.ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله للمؤمنين من الإذن لهم بالقتال بعد أن لم يأذن لهم سنوات، فلما تواجدوا وتكاملوا، وقويت شوكتهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] وكان القتال ممنوعاً.وكذلك نزل قول الله تعالى من سورة الأنفال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] فانظر هذه النسبة: الواحد بعشرة، فيجب أن يثبت الواحد منا أمام عشرة، والمائة منا أيها المؤمنون لا يحل لهم أن يفروا أو ينهزموا أمام ألف من الكفار مهما كان شأوهم، وكل هذا لأن المسلمين كانوا أقلية، وكان الإيمان يغير مجرى الحياة، وكانوا أقوياء، ولكن الله علم أنه سيأتي بعد الصحابة وبعد أولادهم وأحفادهم من لا يقاتل اثنين بل يهرب؛ لأن هذا التشريع ليس شرعاً خاصاً بالصحابة، بل هو شرع عام للبشرية كلها في كل أزمنتها وديارها، فنسخ الله ذلك الحكم بأن نكتفي بواحد مع اثنين، وعشرة مع عشرين، ومائة مع مائتين، وألف مع ألفين، وعندك الآيات حيث قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] ثم قال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا نسخ من أصعب وشاق إلى أهون وأيسر، وهذه رحمة الله بالمؤمنين. وأنتم لا تشعرون بأن الذي ينهزم أمام يهودي أو نصراني أو مشرك معناه: أنه ذاب وتمزق وخسر حياته.وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:15] لبيك اللهم لبيك إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. وهذه الآية والله ليست بمنسوخة.فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: زاحفين وجهاً لوجه فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: لا تعطوهم ظهوركم وتهربون، صورة بشعة، وسبحان الله! ما قال: فلا تعطوهم ظهوركم، إنما قال: أدباركم. وصاحب اللسان يذوق هذا المعنى، فما قال: فلا تولوهم ظهوركم، وإنما: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ، ودبر الإنسان مؤخره، فلا تعطوهم أدباركم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ساعة الزحف دُبُرَهُ اللهم إلا في حالين:في حال أن يتحيز إلى جماعة من إخوانه يقاتلون لينضم إليهم؛ لأن من معه هلكوا واستشهدوا، فلا يبقى وحده، بل ينضم إليهم.أو في حال أن يتحيز إلى فئة وهي التي فيها القيادة كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن ينوب منابه.وإذا لم يكن هكذا فالجزاء: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].وعندي صورة أحفظها قديماً ففي أيام إخواننا العثمانيين الأتراك، في بداية الخلافة عندما فتحوا شرق أوروبا وروعوا العالم، كان الجندي إذا كان في يده المدفع فإنه يربط نفسه بالسلسلة في المدفع ويقاتل، فيرمي، ويرمي، ويرمي حتى ينفد سلاحه من الرصاص والقنابل، ويبقى كالأسد حتى يصل إليه العدو ويقتله هكذا، ولا يولي الدبر؛ لأن الذي يعطي العدو دبره ويهرب حسبه ما حكم الله به عليه، فقد رجع بغضب إلى بيته الذي هرب إليه، ومأواه جهنم وبئس المصير.وهذه الشجاعة أعطيها المؤمنون بإيمانهم، وبعلمهم، ومعرفتهم، والله علمهم، ورباهم، وهداهم.ثانياً: ويكون النسخ أيضاً من السهل إلى الصعب، ولله أن يفعل ما يشاء، ولكنه العليم الحكيم. مثاله: في بداية الأمر فرض الله الصيام على المؤمنين أن يصوموا يوم عاشوراء فقط، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ دار الهجرة فوجد فيها اليهود يصومون يوم عاشوراء بنسائهم وأطفالهم، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر، فقال: نحن أولى بموسى منكم ). لأنهم كفروا بموسى، وعبثوا، وفسدوا، وفعلوا، فنحن أولى بهذا منكم، فصام وأمر المؤمنين بالصيام؛ النساء والرجال والأطفال.وبعد ذلك نسخ الله هذا بصيام شهر رمضان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] إلى أن قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا ... [البقرة:185] الآيات. فهذا نسخ من السهل إلى الصعب، وهو عكس الأول، فالأول نسخ من الصعب إلى السهل لحال المسلمين وضعفهم، وهنا صيام يوم فماذا يفعل هذا اليوم في صاحبه؟ أما صيام شهر كامل فهو يهذب النفس، ويزكي الروح، ويصحح الجسم، وتتفتت الشحوم التي في البطن، فهذا الشهر له قيمته، ولكنه أصعب من يوم واحد.فهذا نسخ عكس الأول، من السهل إلى الصعب.ثالثاً: نسخ لا صعوبة فيه ولا سهولة، لا في الأول ولا في الثاني، وهذا قضاء الله وتدبيره.مثاله: كانت قبلتنا التي نصلي إليها الصلوات الخمس في المدينة النبوية إلى بيت المقدس غرباً، وبالتحديد في الشمال الغربي كانت القبلة، وخلال سنة وخمسة أشهر كان المؤمنون يصلي بهم رسول الله، ويستقبلون بيت المقدس، فاغتاظ اليهود: آه! يدعي أن ديننا باطل ومنسوخ وهو يستقبل قبلتنا. فنسخ الله هذه وهو يصلي، ولا أذكر هل نسخ هذا في الروضة أو في مسجد بني سلمة.ومنهم من يقول: كان عليه الصلاة والسلام مدعواً في وليمة في ديار بني سلمة في مسجد القبلتين، وعندما كان في الصلاة شرع الله الاستقبال إلى البيت فدار ودار الصحابة معه إلى الكعبة، فلهذا سموه مسجد القبلتين.وأما أهل قباء فكانوا يصلون الصبح فأتاهم آت يقول: يرحمكم الله! لقد تحولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا كما هم عليه بإمامهم وصفوفهم.وهنا أقول: لو تمرن المسلمين بالعصا عشرين سنة فإنهم لا يستطيعون أن يستديروا هكذا وهم في صلاتهم، ووددنا لو تم هذا فقط في رمي الجمرات، فما وجد أن يصدم بعضنا بعضاً، ونحن هائجون كالجمال، وأحياناً نصرخ: يا جماعة! ليس اليهود هنا، ولا يوجد رشاشات.من يهذبنا؟! من يربينا؟! من يعلمنا؟!تلك الزمرة المؤمنة يأتيهم المخبر: إن القبلة قد تحولت، فيستديرون كلهم بصفوفهم وبنظام حتى يتحول من كان في الشمال إلى الغرب، وهم من وراء.أقول: أيها المسلم! درب جماعتك بالعصا، وخذ طلاب المدرسة فقط فإنك لا تستطيع، ولا تأخذ الشيوخ والكبار.المهم عندنا كلمة خالدة! نحن هابطون وهم طالعون، فهل يستوي الهابط مع الطالع؟!مثال على هذا: عندنا المرأة .. الشاب .. الرجل، يسمع الإمام يقرأ بالفاتحة جهراً، والله لا يحفظها، مع أنه يصلي مع الإمام عشرين سنة، ولا يستطيع أن يحفظها كما نزلت، بل يقرأ: يكا نعبد ويكا نستعين.وهذه أم الفضل امرأة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله تقول: ( صليت وراء رسول الله المغرب فقرأ بسورة المرسلات عرفاً فحفظتها ) فأعطني مسلماً الآن يسمعها لأول مرة يحفظها فنعطيه مليار دولار، مستحيل! وهذا واقع، وعرفنا شبيبة يسمع أغنية من عاهر في شريط أو في إذاعة فيحفظها باللحن، حتى بالصيغة.ما الفرق؟كانوا طالعين ونحن هابطون.تجد الرجل يصلي وراء الإمام أربعين عاماً لا يحفظ الفاتحة، وهو يسمعها في الصباح والمساء. والعلة أنهم جهلونا وأبعدونا عن الروح الإلهي فمتنا، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، فإذا دخلت مدينة من المدن ومررت في أزقة ضيقة وسمعت القرآن فاعلم أن عندهم ميتاً، فلا يجتمعون إلا على القرآن للميت، ولن تجد من يقول لك: أي بني أو يا أُخيَّ! تعال أسمعني شيئاً من القرآن.أنا عشت سبعين سنة ما رأيت إلا واحداً فقط رحمة الله عليه، سمع هذا الكلام فصار يأتي يقول لي: يا أبا بكر! سمعني شيئاً من القرآن، فأقرأ عليه وهكذا.مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا الطريق فقال لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) وجلس وأصغى يسمع، فعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري ).هل عرفت رجلاً قال لك: تعال من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن إلا إذا كان مريضاً يريد الشفاء، أما ليتعلم الهدى فلا .. لا. فكيف إذاً لا نهبط إلى الحضيض؟!إذاً: فنسخ الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس في هذا تفاضل أو عسر وصعوبة أبداً، فاستقبل هكذا أو هكذا، فليس فيه انتقال من صعب إلى يسير أو من يسير إلى صعب.رابعاً: هناك نسخ آخر، وهو أن ترفع الآيات نهائياً فلا تبقى في كتاب الله ويبقى حكمها معمول به.وقد ثبت بالإجماع قول الله تعالى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ومن ثَمَّ نسخ اللفظ وبقي الحكم، فطبق هذا رسول الله وعمر وأصحابه، فالمحصن وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وغير المحصنين يجلدون مائة جلدة، ويغربون سنة، وهذه الآية لا يصلى بها أبداً، ولا توجد في المصحف، ولكن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً ثم نسخها الله، أما قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]؟ بلى.خامساً: النسخ من حكم إلى حكم.وقد علمتم أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يعيا ويتعب، ويأخذه النعاس، والجوع، والعطش، فليس بملك، وتعرفون ماذا يفعل حب رسول الله في النفوس، فكل مؤمن يريد أن يخلو بالرسول دقيقة، ومن هو الذي يظفر بدقيقة فقط.ولو ترك لهم الرسول الأمر فكيف سيأكل ويشرب .. وكيف سينام؟ لأن كل واحد يريد أن يجلس معه، فأدبهم الله عز وجل وأنزل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] ففهموا أن القضية ليست قضية مال، وإنما قضية إيجاد وقت للرسول صلى الله عليه وسلم ينام فيه أو يأكل فيه أو يستريح، فلما فهموا عرفوا، وما أصبح من يقدم على أن يتكلم مع الرسول سراً.ويروى أن أول من فعل هذا وهو الأول والأخير هو علي رضي الله عنه، فتصدق بصدقة، وجاء يقرع باب رسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية تنسخ هذا؛ إذ قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ... [المجادلة:13] الآية. فنسخ الله الحكم الأول بالثاني، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.هذه أمثلة وغيرها كثير.

مجمل تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)

قول ربنا تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يُنسيها الرسول سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] نعم، وإذا أراد أن يُنسي ما قرأه يفعل الله ما يشاء.قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وعلل لذلك بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ يا رسولنا! أيها العاقل يا من يسمع! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] بلى، مَن مِن المؤمنين لا يعرف هذا؟ ما يصعب على الله أبداً أو يعز عليه أن يستبدل حكماً بحكم أو سورة بسورة أو آية بآية، فهو يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.ولكن اعلم أنه لا يشرع إلا من أجل إكمال الإنسان وإسعاده، فإن كانت واجبات فلتزكية نفسه وتطهيرها، وإن كان نهياً عن موبقات وآثام فمن أجل الإبقاء على ذلك الطهر والصفاء حتى لا يتلوث، فهذا الأصل.وفي نفس الوقت ما شرع الله أمراً أمر به إلا وفيه فائدة لجسم الإنسان .. لماله .. لعقله .. لحريمه .. لحياته.والله الذي لا إله غيره! ما شرع الله شرعاً لا أمر بأمر ولا نهى عن نهي إلا لصالح الآدمي المؤمن، وتتبع ذلك تجد الآثار واضحة كالشمس.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ..)

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:107] بلى؟ فكل مملوك في السماء والأرض لله. فله أن يعطي .. يمنع .. يرفع .. يضع .. يعز .. يذل .. يقدم، فهو ملكه، أيجوز أن تعترض؟!وهذه صفعة لليهود، كيف تعترضون على الله؟وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فما دام له ملك السماوات والأرض فأنت لما تطلب امرأة تريد أن تتزوج تقول: يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا في بلدك .. أنا بين يديك، فادع الله لي، هذا لا يجوز لأن الرسول لا يملك، وآخر يقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء! أنا كذا.لا يطلب شيء من غير الله.فإن قال قائل: لم هذا يا شيخ؟قلنا: بلغنا أن كل مملوك لله، فكيف تطلب ممن ليس له ملك!وهذا يشبه من كان في أرض خربة ليس فيها أحد، وإذا به يدعو ويصيح: يا أهل الدار! أنا جائع، أنا ضمآن. وليس في الخربة واحد أبداً. فيمر به أخونا ينصحه: حرام عليك؛ طول الليل وأنت تصرخ، وليس في البيت أحد، اقصد بيتاً فيه ناس يسمعون.وهذا مثل حالتنا، تجد الرجل العالم يمر بأخيه يدعو عند الحسين أو فاطمة : يا سيدي! ويبكي، ويصرخ، ويطلب، وما يقول له: يا عبد الله! هذا لا ينفع، ولا يعطيك شيئاً أبداً، وهذا واقع من إندونيسيا إلى المغرب.فهذه الأمة هبطت؛ لأنها هجرت هذا الكتاب.وقالوا لها: القرآن الكريم إذا فسرته وأصبت فأنت مخطئ، وإذا أخطأت كفرت. فصوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحجبوا أمة الإسلام عن النور، وأبعدوها عن الحياة فماتت، وذبحوها، وسلخوها.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أقول ذلك؛ لأن خمسة ملايين يهودي قهروا ألف مليون مسلم، وأذلوهم إلى الآن .. وإلى هذه الساعة، فهذا واقع أو نحن نائمون؟لكن من فعل بنا هذا؟الجواب: الله، وإياك أن تعيش مع التائهين: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، فهذا الكلام هراء، والله لا فاعل إلا هو، فهو مالك الملك، فلما تمردنا عليه وعصيناه، وخرجنا عن طاعته، وهبطنا عن كمالاتنا أدبنا الله بأعظم آية ما عرفت في التاريخ، فأذل الخلق وأجبنهم على الإطلاق يحكمون العالم الإسلامي، وهذه آية من الآيات.. وهي أعظم آية في هذا الكون.قال تعالى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] وللأسف أن هناك من يقول: لا لا، هناك أولياء لنا، وأنصار ينصروننا.وليس من المعقول أنك تجد من دون الله ولياً ونصيراً والله يقول: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: يتولاكم وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] ينصركم أبداً، فافزعوا إلى الله، ولوذوا بجنابه، واطرحوا بين يديه، واطلبوا رضاه، واسلكوا سبيله فتكملوا، وتسعدوا، وتنجوا.قالوا: لا لا لا، خلينا مع الخرافات.فإن قلت: إذاً أذلنا الله. قال قائلهم: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أنا أقول: أسألكم بالله: ما بلغكم أن العالم الإسلامي استعمرته بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا .. فأذلوهم وقهروهم، وتم هذا لأننا هبطنا، وتخلينا عن الروح فمتنا، لا أقل ولا أكثر، تأديب الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ...)

يقول تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة:108] بل تريدون، أم بمعنى بل تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] وهذه لنا، تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل إذ قالوا له: أرنا الله جهرة، فهم يسمعون كلام الله بجبل الطور قالوا: لا، نريد أن نرى الله جهرة. فهل تريدون أنتم هكذا؟قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] أخطأ وسط الطريق المنجي، المزكي، المفلح، المسعد.فقوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: يأخذ الكفر ويعطي الإيمان، ويترك شرع الله ويأخذ قوانين الشرق والغرب، كمبادئ الاشتراكية. فَقَدْ ضَلَّ وسط الطريق، فهلك وتمزق.وما زال العالم الإسلامي نائماً، فما عرفوا، ولو فتحوا أعينهم وعرفوا -والله- لاجتمعوا في الروضة أو في الكعبة وتعاهدوا: أنت إمام المسلمين، وكل البلاد الإسلامية ولايات، والحكم واحد، والشريعة واحدة، وفي أربعة وعشرين ساعة والدنيا كلها نور، وقد دعونا إلى هذا، وكتبنا رسائل من أربعين سنة، ولكن لا التفاتة.إذاً: لعلنا مسحورون، وأنا خائف أن يكون اليهود قد سحرونا، فأصبحنا لا نقبل على الله، ولا على دينه، والسحر هو هذا، الرجل يسحر عن امرأته فيصبح يكرهها، وجائز أن اليهود سحرونا.على كل حال! نترك الأمر لله، والذي يجب علينا أن نعرف أننا عبيد الله، فلنفزع إليه حتى تنتهي هذه الفتن والإحن، والمحن، والفوضى، وكل مؤمن يقول: أنا مسلم، ويلزم الصمت، ويعبد الله عز وجل، ويكف لسانه وفرجه.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg


ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (75)
الحلقة (82)




تفسير سورة البقرة (45)


كثيراً ما نغفل عن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نحن المسلمين، وهي نعمة الإسلام، في حين عرف اليهود عظم هذه النعمة، فحسدونا عليها، وتمنوا لو نرجع مثلهم كفاراً، نصارى أو وثنيين أو أي شيء آخر، إلا أن نكون مسلمين، فتباً لهم كيف عرفوا الحق وأعرضوا عنه، ومع هذا أمرنا الله سبحانه بالعفو والصفح عنهم حتى يأتي أمره بشيء آخر، كما أمرنا بالثبات على الإسلام؛ لأن فيه الفلاح لنا، والغيظ لأولئك.

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:109-110].

كيد كثير من أهل الكتاب للمؤمنين وإرادة كفرهم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:109] هذا خبر، والمخبر هو الله جل جلاله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109] ونحن نصدق خبر الله.ومن الجائز أن يكذب غير الله والمرسلين والأنبياء، أما الله عز وجل؛ العليم الحكيم فهذا خبره، ومن شك فيه كفر.قوله: وَدَّ بمعنى: أحب ورغب فوق العادة كَثِيرٌ وهذا من الاحتراز المطلوب، ولم يقل: ود الذين كفروا من أهل الكتاب إنما قال: وَدَّ كَثِيرٌ وقد يوجد فرد وأفراد في المدينة .. في القرية .. في الإقليم .. في قرن من القرون لا يودون هذا الود الباطل الفاسد الناتج عن الحسد، لكن صيغة (كثير) دالة على أن كثيراً من أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- يودون كفرنا، وأن نخرج من إسلامناً؛ لنتساوى معهم. لا يريدوننا أن نظفر، ونفوز، ونعلو، ونسمو، ونسود، ونقود، ونحكم، ونعلم، وهم جهلة .. فسقة .. فسدة بمعنى الكلمة، فما يرضون بهذا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].أما جمعيات التنصير ورجالها فهم يعملون إلى هذه الدقيقة ليل نهار، والأموال تغدق عليهم من المنظمات والشركات والمؤسسات، ولا همّ لهم إلا أن يخرجوا المسلمين من دين الله، أما اليهود فلا تسأل، فهم أقلية وضعفة، ولكن مكرهم وكيدهم أمر عظيم، فيستطيعون أن يخرجوا المسلمين من دينهم بالابتسامة.إذاً: ماذا نفعل والواقع هو هذا؟إن الله عز وجل أراد بهذا أن يحذرنا لنحذر .. أن ينبهنا لننتبه، ولنعرف من هو العدو الذي يريد أن يسلبنا نور الله، وأن يرمي بنا في مزابل الحياة، إنهم الكثير من اليهود والنصارى.قوله: لَوْ وهذه للتمني لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ [البقرة:109] بالله ولقائه .. بالله وكتبه ورسله .. بالله وقضائه وقدره .. بالله ووعده ووعيده، إذ هذه هي الطاقات الدافعة.وكثيراً ما نقول: الإيمان الحق بمثابة الطاقة الدافعة، والقطار ذو العشرين عربة، تدفعه طاقة واحدة، والطائرة التي تحمل ستمائة نفس تدفعها الطاقة، فالإيمان بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي تحول الآدمي إلى أسد، وإذا ضعف أهان العبد، وأصبح كالهر أو دوناً من الهر، وإذا قويت هذه الطاقة في النفس صام الدهر .. خاض المعارك .. جاع .. صبر، واستطاع أن يصبر على الغريزة خمساً وعشرين سنة، وهو ينتقل من ثغر إلى آخر .. يجاهد، ولم يعرف النساء، ولم يفكر في الخروج.وصاحب هذه الطاقة إذا وضعت بين يديه أطنان الذهب والفضة، وهو يعرف أن هذا ليس له، وأنها محرمة عليه، فوالله لن يمد يده إليها، ولا التمس منها ريالاً واحداً.ونؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، فلو أخبرنا تعالى أو أخبرنا رسوله بأن هذا الجدار سيتصدع وتخرج منه دابة، قلنا: آمنا بالله، ولا نقول كيف؟ أو متى؟ أو لم؟ أو مستحيل، أو هذا غير معقول، والله ما نقول هذا، وهذا الإيمان صاحبه كأنه يشاهد الله .. كأنه يعيش مع الله، وهو كذلك، والله إننا لمع الله، ولكننا غافلون ومخدرون؛ ما نشعر، أما قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؟ بلى. فكيف -إذاً- نجرؤ على أن نقول الباطل، أو نرتكب المنكر، أو نفحش في قول أو عمل، وأنت مع الله، والله ينظر إليك؟ولا يفهمن عاقل أن هذه دعوة إلى الحلولية، معاذ الله، فالله فوق عرشه بائن من خلقه، وإنما نحن بين يديه، فهذا القمر؛ الكوكب المنير، الآن يطلع وحيثما كنت هو معك، وليس بلاصق بك أو جالس معك، إنما هو معك، والله الذي يقول عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].فهل تريد أن تفهم أنك لست مع الله؟حركاتك .. سكناتك .. خواطر قلبك ونفسك، والكل بين يدي الله.الله الله لو تغلغل هذا الإيمان في قلوب البشر، وأصبحوا يعيشون مع الله، فمن يجرؤ أن يسب مؤمناً أو أخاك؟من يقدر على أن ينظر نظرة حرمها الله، فتأمن البلاد والعباد، فلا سرقة .. ولا زنا .. ولا كذب .. ولا غش .. ولا خداع .. ولا شح .. ولا بخل .. ولا باطل .. ولا زور، سبحان الله! فأصبحنا في جنة الدنيا، وكأننا في الملكوت الأعلى، وهذا الذي من أجله أنزل الله الكتاب وبعث الرسول.إذاً: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]، والكفار: جمع كافر.والكفر لغة هو: التغطية، حتى إن الفلاح الذي يبذر البذر في الأرض ويكفره بالتراب؛ حتى لا تلتقطه الطيور، يقال فيه: كافر، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]، كمثل مطر نزل فأعجب الفلاحين نباته.فالكفر: التغطية والدس.فكيف يكفر الله يا عبد؟! هل هناك من يقدر على أن يستر الله ويغطيه؟نعم، يكفر الله فيقول: لا وجود له. يقال له: أين الله؟ يقول: غير معلوم، ولا معروف، ولا موجود، ولا ظاهر، فهذا قد كفر الله بالنسبة إليه، ولمن يعلمهم الكفر. فالكفر هو الجحود والتغطية.ويريد أعداء الإسلام من أهل الكتاب في الزمان الماضي والحالي والمقبل والمستقبل، يريدون ألا نقول: لا إله إلا الله. يريدون أن نقول: الآلهة ثلاثة أقانيم: الروح القدس، والأب، والابن.والعجب من هذه الخرافة كيف تستقر في عقول الحكماء .. الأطباء .. الطيارين .. الخبراء، وتستقر في أذهانهم: أن الله مكون من ثلاثة أقانيم، وهذا هو الإله.ولنترك هذا إذ عافانا الله منه ونجانا، ولكن فقط نذكر أعداءنا؛ لنحترس منهم، ونتحفظ منهم، ونعرف ما يحملون لنا من مكر وكيد لإطفاء هذا النور علينا ونصبح أمثالهم.فأندية اللواط الآن في أوروبا تفتح علانية، أما الإجرام، والتلصص، والخيانة، والكذب فحدث ولا حرج، أما المروءة والفحولة فقد انتهيتا، أما أما.. ومع هذا ما شعروا بالنقص أبداً، فما زالوا منتفخين؛ منتفشين؛ ولعل السر في ذلك أنهم يريدون أن يجذبونا إليهم، وأن ينقلونا إلى ساحاتهم؛ لنصبح مثلهم، إذ هذا الذي أخبر تعالى به: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].

حسد اليهود هو سبب عدائهم للمؤمنين

قال تعالى بعد ذلك: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، فذكر العلة والسبب التي من أجلها يودون كفرنا، وإخراجنا من ملة الإسلام، ألا وهو الحسد.ما هو الحسد؟الحسد معاشر المستمعين والمستمعات: داء الأمم من قبلنا، وهو داء خطير، أخطر من أدواء الجسم، من الإيدز إلى الملاريا، وهذا الداء هو الذي يتسبب في كل فتنة تقع.

أنواع الحسد

والحسد عندنا ثلاثة أنواع:النوع الأول: أن يتمنى -وأعيذك بالله يا سامعي- المرء زوال النعمة عن فلان، فلو كان فلان غنياً فإن الحاسد يود في قلبه .. في نفسه، وقد ينطق بلسانه فيقول: لو سلب الله هذا المال، وأصبح فقيراً مثلنا. هذا نوع.وأخطر منه: أن يتمنى زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له هو.ومثال النوع الأول أيضاً أن ترى رجلاً جميلاً سليماً صحيحاً فتقول: آه لو كنت مثله، وتحب من كل قلبك أن تكون هذه النعمة لك أنت دونه، وهذا النوع أخف من النوع الثاني الذي يتمنى فيه صاحبه زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له، فالمهم أن يراه فقيراً أو أعمى أو ذليلاً، ولو لم يحصل له ذلك النعيم الذي حسده من أجله.فهيا نطهر قلوبنا، فلا يبيتن أحدنا ليلة إلا وقلبه خال من هذه الأمنيات الكاذبة الفاسدة.فإذا أعطى الله فلاناً! فهذا ربه الذي أعطاه وليس أنت، فوهبه علماً .. مالاً .. شرفاً .. صحة بدنية، ووهبه ما شاء، فاسأل الله أن يعطيك مثله، فأنت عبده وهو عبده، أما أن تعترض على الله وتقول: لم أعطاه وأنا ما أعطاني، فهذا الموقف لا يقفه ذو إيمان؛ لأنه سفَّه الله عز وجل، وادعى أنه ظلم ولم يعدل، فكيف يعطي فلاناً ولا يعطيني؟ وهذا الموقف لا يقفه مؤمن بحق.أما النوع الثاني: فيتمنى زوال هذه النعمة ولو لم تحصل له، فالمهم ألا يراه يركب هذه السيارة أو هذه البغلة أو الدابة.وهناك نوع ثالث أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الحسد، وهو في الحقيقة غبطة وليس بحسد، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين )، الأولى: أن ترى رجلاً ذا علم يعمل بعلمه ويعلمه، فتتمنى على الله أن لو تكون مثله، فأنت تعلم وتعمل بعلمك وتعلمه الليل والنهار، قال: ( رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ليل نهاراً )، فهذا الاغتباط محمود.أو ترى رجلاً غنياً؛ ثرياً؛ كثير المال، ينفقه ليل نهار، ويده سحاء الليل والنهار، فتسأل الله أن لو يكون لك مال فتفعل مثلما يفعل هذا الرجل السخي الكريم، الذي يطعم الفقراء والمساكين، وهذا التمني محمود، وإن سماه الرسول حسداً؛ لأن فيه معنى الحسد؛ لنظره إلى نعمة الغير، لكن ما نظر إليها ليسلبها صاحبها أو يتمنى سلبها، وإنما ود أن لو كان مثله ليفعل ما يفعل، فذاك أعطاه الله القرآن، والعلم، والحكمة، فهو يعلم، ويعمل، ويهدي الناس، وطبعاً كل ذي رغبة في الكمال يود لو كان مثله. والثاني: يرى ثرياً من أثرياء الناس، وهو ينفق ماله الليل والنهار، فيود لو كان له مثل هذا المال، ليفعل مثلما فعل هذا المؤمن، فهذا الحسد المحمود.

ظهور الحق لليهود وإعراضهم عنه

قال تعالى بعد ذلك ذاكراً علة أخرى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقد عرفتم أن اليهود كانوا يتطلعون إلى النبوة المحمدية، فنزحوا من الشام إلى المدينة من أجلها، إذ بشارات عيسى وموسى عليهما السلام موجودة في الإنجيل والتوراة، فنزحوا إلى هذه البلاد، وسكنوا المدينة مهاجر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتظاراً للبعثة المحمدية، ليؤمنوا به، ويقاتلوا العرب والعجم دونه، ويستردوا ملكهم، وشرفهم، وكمالهم.وكانوا يتطلعون لاسيما لما بعث الرسول، فقضى ثلاث عشرة سنة في مكة وهم بالمدينة يتحسسون الأخبار، ويترصدون الأنباء بصورة عجيبة، وينتظرون، فما إن نزل المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وشاء الله أن تتم وقعة بدر، وينتصر فيها، فاسودت وجوههم، وتغيرت قلوبهم، وانتكسوا، وأعلنوا عن عدائهم، فالأمل الذي كانوا يأملونه ضاع، وعرفوا أنه ليس لهم، فتواصوا ألا يدخل أحد في دينه، ونافق من نافق، ودخل نفاقاً فقط لإفساد الملة، وإحباطاً لهذه الدعوة، وكان خيارهم .. أفاضلهم -بالنسبة إليهم- في الصباح يأتون إلى المسجد ويشهدون شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويظلون مع الرسول، وفي الليل يكفرون للفتنة، آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، فيوجدون الفتنة والبلبلة في نفوس الناس: فلان دخل الإسلام فكيف خرج؟ هل وجده لا شيء؟ فينشرون مجموعة من الخرافات أو الضلالات فقط، وهذا هو الطابور الخامس للفتنة أو الشائعات الباطلة، إلى هذا الحد.ولا عجب في قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ [البقرة:109]، أنه أي: الإسلام ورسوله وكتابه هو الحق، الذي ما وراءه إلا الباطل، فهذا الذي حملهم وجمع قلوبهم على العداء للإسلام والمسلمين: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، أما قبل أن يعرفوه فكانوا مترددين أو متحفظين، لكن بعدما ظهر أنه هو الذي يرفع، ويعز، ويكرم، ويعلي شأن العبد عرفوا هذا، فناصبوه العداء، وأعلنوا الحرب عليه.



يتبع

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:17 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)

قال تعالى في خطابنا أيها المؤمنون: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، والعفو معناه: عدم المؤاخذة، والصفح معناه: الإعراض، أي: أن تعطي عدوك صفحة وجهك، فتعرض عنه، لا تسب، ولا تشتم، ولا تعير، ولا تقبح.قوله: فَاعْفُوا أي: أيها المؤمنون! لأن ساعة الجهاد ما حلت .. ما دقت، ولا سب، ولا شتم، ولا كذب، ولا تصفعه، ولا ترفع يديك عليه، بل أعرض عنه، وأعطه صفحة وجهك، وامش.قوله: وَاصْفَحُوا أي: عمن يؤذيكم، ويريد إلقاءكم في الفتنة، وإيقاد النار بينكم، ففي هذا الظرف بالذات ليس لكم قدرة على القتال، ولا عدة ولا عتاد، فما عليكم إلا العفو والصفح.وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى متى؟ قال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ متى؟ الله أعلم، أي: حتى تتحد الكلمة، وتكون لكم عدة وعتاد، فحينئذٍ بسم الله.وأمر الله آت لا يعجزه شيء، وهذا الأمر هو أن يؤهلكم لحمل السلاح والقتال وإعلان الحرب، وما دمتم ضعفة .. عجزة .. مشتتين، فخمسة هنا وعشرة هناك، لا يشكلون مدينة واحدة، فما أذن ربكم في القتال؛ لأنه لا يريد إهلاككم وتدميركم.قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .دعونا ندخل في السياسة قليلاً، فالآن قلوب المؤمنين تقطر دماً مما يصيب إخواننا في فلسطين، فأنواع العذاب تصب عليهم، ونحن نبكي فقط، ولو كنا صادقين لأقبلنا على الله عز وجل فتبنا إليه، وأقبلنا في صدق عليه، فحرمنا ما حرم، وأحللنا ما أحل، وعمرنا بيوته بالبكاء والدموع، وتآخينا، وتواددنا، وتحاببنا، وتقوينا، وأصبحنا ذوي قدرة وقوة، فيأذن الله لنا بالقتال، وينصرنا؛ لأنه وعد.والذي آلمنا وأحزننا وأكربنا أننا نجد إخواننا يعذبون، ونحن نشجعهم، ونسمي تلك الحال الانتفاضة، الانتفاضة! ونحن مطوقون إسرائيل تطويقاً كاملاً: من الجنوب .. من الشمال .. من الشرق.. من الغرب، ونحن نملك من العتاد والسلاح ما لا تملكه، ونقول للعزل المساكين الذين هم تحت الحصار ووراء الأسوار: قاتلوا بالسب، والشتم، والحجارة والبطاطس و.. و.. وهذا المظهر كم من مرة نحلف ونقول: والله لو كان رسول الله بيننا ما سمح لهم بهذا أبداً، ولا يطلب إليهم أن يعلنوا عداهم لليهود أعداءهم حتى يفرج الله ما بهم، ونأخذ هذا من قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].فالمسلمون الآن مع الضعف والعجز، المفروض أن يسلكوا هذا المسلك الرباني، إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقد كنت أود من إذاعاتنا الإسلامية وكتابنا أن يقولوا لإخواننا: اصبروا، املئوا بيوت الله بالبكاء، والصلاة، والدعاء، وتحابوا، وتوادوا، وأظهروا الإسلام حتى يفرج الله عز وجل، ولا نقول لهم: اثبتوا على السب، والشتم، والتعيير، والاغتيالات، كأننا ما عرفنا كتاب الله، ولا عرفنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول كان أصحابه يعذبون في مكة بأبشع أنواع العذاب، ويغمسون في الماء حتى الموت، ويسحبون على الرمضاء والأرض الحارة، وما قال لواحد: سب ولا اشتم، بل قال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، ويشكون فيقول: اصبروا اصبروا!وجاء المدينة، فحصل الذي حصل بمكة، واسمع ما يقول لهم: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، إلى متى؟ إلى ساعة، وهي أن توجد لنا القدرة على القتال، والطاقة على الدفع، وحينئذٍ القتال كما سيأتي.لماذا لا يفهم المسلمون هذا؟لأنهم بعدوا عن القرآن، فالقرآن يقرأ على الموتى فقط، ولا يقرأ على الأحياء، وهذا الذي نقوله: دلوني على رجل يمر بأخيه يقول له: من فضلك اجلس اقرأ علي من القرآن، فأتدبر، وأتأمل فيه. هاتوا؟ لا أحد.إذاً: هذه عبر الكتاب الكريم.قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، بعدما تبين لنا، وعلمنا أن أعداءنا اليهود والنصارى، وأنهم لا يودون أن نفتقر فقط أو نذل، بل يودون أن نكفر، وما بعد مصيبة الكفر من مصيبة، ومع هذا يقول: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، لأنكم أقلية وضعفة لا تقدرون على خوض المعركة والحرب، فاصبروا حتى يتم عددكم وعتادكم، وحينئذٍ يأتي الإذن من مولى الجميع .. من رب العالمين.

استقلال المسلمين عن الاستعمار وتنكرهم للإسلام

أذن الله تعالى بالقتال كما في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:39-40] وعزة الله لينصرن الله من ينصره، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40-41].ولقد استقل المسلمون استقلالاً كاملاً من سلطة الاستعمار الغربي، من أسبانيا إلى هولندا، فما استطاع إقليم واحد أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية أن يطيعوا الله في أربع كلمات، أمسحورون أو ماذا؟!الحمد لله أننا في بعض الخير.الله عز وجل أذن لنا في القتال لما تقوينا وقدرنا، وعلمنا أن هذا القتال ضروري وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ثق بالله العظيم ما تخلف وعد الله، فما من أحد نصر الله إلا نصره الله.لكن كيف أنصر ربي؟أنصره في دينه .. في رسوله .. في أوليائه .. في شرعه. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ [الحج:40]، هل هناك قوة خرجت عن هبة الله؟ ما من قوة إلا والله واهبها، فهو على كل شيء قدير، عزيز لا يمانع في شيء، كيف -إذاً- يعد ويخلف؟ والله ما أخلف: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].اسمع.. اسمع! تكونت تلك المملكة الإسلامية من وراء نهر السند إلى وراء الأسبان في خمس وعشرين سنة فقط بأيامها ولياليها، فهذا وعد الله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:40-41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].أعود فأقول وابكوا إن شئتم أو اضحكوا: استقلت ثلاثة وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا فما أقيمت الصلاة في بلد، فقط من شاء أن يصلي ومن شاء أن يغني، وما جبيت زكاة ووزعت على فقراء المؤمنين في تلك الديار وخارجها أبداً.وما وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن منكر.ولو أن منظمة تكون في كل قرية من ثلاثة أنصار، من رجال العلم وكبار السن: أنتم مسئولون عن القرية، فإذا شاهدتم منكراً أطفئوه وأحبطوه، وغيروه وأزيلوه، وإذا شاهدتم معروفاً ترك بين إخوانكم فمروا به، وألزموا به حتى يفعله الناس.يحار العقل كيف نستقل من سلطة بريطانيا من أجل أن نقيم شرع الله ودين الله؛ لنعبد الله، ثم ننتكس ونتغير ونتنكر لدين الله، وما زالت غضبة الله ما هي ببعيدة، فلا يفرحن الغافلون.سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].وآية هذا أن الله أذلنا لليهود، وليس اليهود هم الذين أذلونا، فهم حفنة عددها خمسة ملايين، فوالله لا أذلنا إلا الله، وهو الذي سلب معارفنا، وعقولنا، وطاقاتنا، وتركنا كالبهائم.وفعل بنا هذا؛ لأنه مكننا فطردنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من ديارنا، وأصبحنا نحن السادة الحاكمون، وما علينا إلا أن نأمر الناس بعبادة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن كان قولنا: لا لا.هل فهم السامعون والسامعات أو لا؟فإن قال قائل: يا شيخ! دعنا من الماضي.

مقومات النصر والتمكين

أقول: ما المانع لأي بلد إسلامي أن يجبر المؤمنين على أن يغشوا بيوت الله، ويشهدوا الصلوات الخمس، ولا يتخلف أحد أبداً؟ما المانع أن تجبى الزكاة باسم الزكاة فريضة الله، وقاعدة الإسلام الخامسة؟ما المانع أن يوجد في كل قرية وفي كل حي مجموعة موظفون براتب، ومهمتهم أن يشاهدوا أحوال الناس، فإذا شاهدوا منكراً غيروه، فإن الرسول ألزمنا بهذا: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه )، وإذا رأوا معروفاً متروكاً أمروا الناس به ليفعلوه.فاحفظوا لنا هذه النعمة؛ حتى يبقى أمننا، ورخاؤنا، وطهرنا، وصفاؤنا، ونخشى أن نسلب هذا النعيم إذا ما سلكنا هذا السبيل؛ سبيل الله عز وجل.هل وجد هذا؟ نعم وجد من يقول: هذا تأخر ورجعية، ولكن الله أرانا آية من آياتها.وهذه الديار ديار الإيمان قبل وجود دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كيف كانت هذه البلاد؟ ما حدثكم آباؤكم؟آه، كان الحاج يسقونه الماء الحار حتى يخرج الدينار من بطنه.كانت القبور تعبد أكثر مما تعبد في دياركم، وكانت الأشجار تعبد، وكانت جاهلية عمياء.كيف تحولت؟ والله ما تستطيع أمريكا ولا روسيا الحمراء ولا أي بلد أن يفعل هذا، فيتحقق أمن تمشي من طرف المملكة إلى آخرها لا تخاف إلا الله، والله إن بيوتاً تبيت بلا أبواب، والله إن باعة الذهب لا يضعون إلا خرقة على دكاكينهم.كيف تم كل هذا؟ هل تم بالسحر .. بالمال؟أين المسلمون؟ ما لهم عموا؟ ألا يشاهدون هذا؟فقط؛ لأن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود غفر الله له ورحمه، لما حاول أن يوجد الدولة الإسلامية عزم أن يقيمها على هذه الدعائم الأربعة التي لا تقوم دولة أبداً إلا عليها، وإلا فهي دولة هاوية السلك، وسلطانها -وإن طال الزمان- إلى هلاك، فأوجد الأمر بالصلاة كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهذا وقتكم يا عباد الله قبل أن تعلن الحرب؛ لأن إقام الصلاة بالمعنى الذي يريد الله إذا قال: حي على الصلاة لم يبق باب مفتوحاً، والله لقد كان أحدهم في يده المطرقة يرفعها ليضرب الحديد فإذا سمع حي على الصلاة وضعها جانباً، وكان أحدهم الإبرة في يده يخيط بها، فإذا سمع: حي على الصلاة ما يدخلها في الكتان ويأتي الصلاة.أما نحن فما عرفنا إقامة الصلاة، وإنها -والله- لخير من كل قوى الأمن الموجودة في بلاد العالم؛ من بوليس ونظام ودقة، ومع كل ذلك فإن هناك السرقة، والتلصص، والجرائم، فما نفع البوليس، ووالله لو أقيمت الصلاة في قرية أو بلد أو عالم كما يريد الله ما احتجنا إلى شيء اسمه بوليس، وما وجدت سرقة إلا في الدهر مرة، في شاذ من الشواذ.وللأسف أن المسلمين عمي، لا يبصرون أبداً.وإلى الآن ما بلغنا أن حاكماً استفاق وقال: لم لا نؤسس دولتنا من جديد على هذه الدعائم الأربع التي شاهدنا آثارها في هذه الديار، وهل يكلف هذا شيئاً؟ والله لا يكلف شيء.وإنما هو قانون يبتدئ بقضية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل قرية وكل حي مجموعة من خمسة أشخاص أو ستة يقال لهم: أنتم الرقباء .. أنتم الحماة .. أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فلا يتخلف عن الصلاة أحد، وتدخل الأمة في بيوت الله تبكي، وينتهي كل شر وفساد.وقد قلت من أربعين سنة: تعالوا بنا نذهب إلى المحافظة .. إلى مدير الشرطة ونقول له: أعطنا بياناً بجرائم هذا الأسبوع من سرق، ومن سب أباه، ومن فعل كذا، وفعل كذا، ونقول له: والله إن وجدنا من المقيمين للصلاة أسماء مسجلة تزيد على (5%) اذبحوني، و(95%) من تاركي الصلاة ومن المصلين اللاهين، وإلى الآن ما استطاع واحد يرد، في أي بلد إسلام، حتى في المدينة، فإن وجدنا نسبة أكثر من (5%) افعلوا ما شئتم، وذلكم لأن ربي يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وليست قوى الأمن هي التي تنهى، إنما الصلاة هي التي تنهى، ومع هذا إلى الآن ما بلغنا في بلد الأمر بالصلاة أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...)

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، هذه هي التربية الربانية الإلهية، فأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعطف على ذلك فعل الخيرات؛ إذ الزكاة قد لا تكفي للسلاح، والعتاد، والجهاد، والفقراء، والأغنياء. إذاً: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:110] مطلق خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، وهذا ترغيب.

إحاطة علم الله بكل شيء

وأخيراً يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110]، وهل نحن مؤمنون بأن الله بصير بأعمالنا، مطلع عليها؟ وهل نذكر هذا؟والله ما ذكره أحد واستطاع أن يغش أو يخدع، بل بلغ بنا الحد أن الخياط يخيط ثوبين: هذا للسوق، وهذا للذمة، وثوب السوق لا يحسن خياطته، وهذا لا، موصى به أو مطالب منه، هذا مثال.ومظاهر الغش والخداع بين المسلمين يعجز القلب عن تصورها، والسر أنهم لا يراقبون الله، والمراقبة ذات أثر، وكما في الحديث: ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).وأسألكم بالله: الذي يفعل فعلاً وهو يرى أن الله يراه هل يسيء عمله ويفسده؟ لا، ولو يذكر أن الله يراه لا يستطيع أن يواصل عمله.وقد بشرنا الرسول وبين لنا هذا، فذاك الإسرائيلي الذي راود ابنة عمه عاماً كاملاً عن نفسها، وهي تتمنع لإيمانها، ولما اضطرتها الحاجة، وألجأها الفقر والخصاصة، وسلمت نفسها مكرهة لجوعها، فما إن جلس منها مجلس الرجل من امرأته وقالت له: أما تخاف الله؟ وبأي حق تفتض هذا الخاتم؟ فقام الشاب يرتعد، وترك المال، وهو يصرخ ويبكي، فهذا ذكرته فذكر؛ لأن قلبه حي، وإنما غشيته غفلة وضلالة، فما إن فطن صرخ.وإن قلنا: هذا في بني إسرائيل والعهد بينهم بعيد، فعندنا في المدينة في سوق التمار على عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، كانت هناك امرأة مؤمنة، وزوجها خرج في غزوة في الجهاد، فاضطرت إلى أن تخرج إلى السوق لتشتري تمراً لأطفالها، وقد كان أغلب قوتهم من التمر، فلما اشترت منه وهي محتجبة لا يرى منها شيئاً، وأرادت أن تخرج يدها وفيها النقود، شاهد كفها يلوح كالقمر فغشيه الشيطان وغطه، وقبّل تلك اليد، فانتزعت يدها منه، فاستفاق، والله إلى جبل أحد وهو يصرخ في الشوارع، يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينتف شعره، حتى دخل إلى المسجد النبوي وشكا إلى الرسول ما أصابه، وسلَّاه الرسول وصبره، وقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] ).

مقومات المسلم الرباني

إذاً: ولو أخذنا بهدي القرآن، وعدنا للهداية القرآنية، آية من سورة العنكبوت، يقول الله في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له، يقول له مربياً؛ معلماً؛ حتى يتخرج ربانياً، يقول له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فهذه خطوة، اقرأ يا رسولنا ما أوحاه الله إليك من الكتاب، والله إن قراءة القرآن ليست على الموتى، ولا من أجل أن يقال: حافظ، إنما قراءة القرآن تكون للتدبر، والتفكر واجتلاء العبر، وأخذ المعاني، والهدى، والنور، فهذه القراءة لا يعادلها شيء إلا ما ذكر معها، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فيقوى إيمانك .. تتم قدرتك .. ويحسن ما شئت من آدابك، وأخلاقك، وكمالاتك؛ لأنها طاقة كاملة من النور.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، يا معاشر المستمعين! سلوا الفقهاء لا يقال: أقامها وهي معوجة أو ناقصة إلا إذا أداها الأداء المشروع، بكامل شروطها، وأركانها، وسننها وآدابها حتى تتولد منها تلك الطاقة النورانية المسماة بالحسنات.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا الله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهذان اثنان، والثالث: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].أرني مؤمناً يذكر الله بقلبه ولسانه، هل يستطيع أن يسب أو يشتم وهو يذكر؟!أرني مؤمناً يذكر الله تقرباً إليه، وتزلفاً وتملقاً إليه بذكر اسمه، وهو ينظر إلى امرأة يتلذذ بالنظر إليها!أرني ذاكراً لله في قلبه ويطفف في كيله أو وزنه! يعد وهو عازم على أن يخلف! يستدين وهو عازم على ألا يقضي ولا يرد! والله ما كان، فكل الجرائم التي ترتكب سببها النسيان، فما ذكروا الله، ولا سألوا عنه، وكل الذي يحدث من الفساد والشر ناتج عن الغفلة عن الله، إما ما عرفوه أو ما عرفوه معرفة كاملة، فنسوه وتركوه، فحصل الذي حصل.والرابعة والأخيرة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وهي كقوله: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110] فحركاتك، وسكناتك، وعملك داخل البيت وخارجه هو تحت نظر الله، فانتبه إلى أنك مراقب في سلوكك، وهذا الذي يشعر بأنه مراقب لا يستطيع أن يغش أو يفسد.وأنا أود أن تدلوني على رجل رباني عرف الله وأحبه، واستقام على طاعته أنه يفسد بينكم، وكل الفساد والشر من الغافلين والجاهلين، والذين لا بصيرة لهم.

طريق الرجوع إلى الله

إذاً: كيف نرجع؟ ما الحل يا عباد الله! ننتظر حتى يأتي عمر بن الخطاب ؟ والله لا يأتي، وإذا جاء عمر يبدأ كما قلنا لكم.عندنا الآن زوار من الشرق والغرب نقول لهم: جربوا، أما عندكم قرى؟فكل قرية فيها ثلاثمائة ساكن إلى ألف، فيتعاهد أهل القرية في صدق ألا يتخلف رجل أو امرأة إلا ذو عذر، فيشهدون كلهم صلاة المغرب والعشاء في مسجد الله .. في بيت الله، فيجتمعون، ولا يبقى في البيت أحد، ولا مقهى ولا دكان، أهل القرية كلهم في المسجد، والنساء وراء حجاب أو ستار، والفحول أمامهن، والمعلم بين أيدي الجميع، ليلة آية وأخرى حديثاً طول العام، فيتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكى أنفسهم، وتطهر أخلاقهم، وتسمو آدابهم، وبعد سنة واحدة يتغير حال أهل الحي أو القرية، وتنتهي كل الإحن والمحن، والأباطيل والترهات، والخرافات والضلالات لأنها نور الله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، هذا الكتاب الكريم.أقول: لم لا نعمل هذا؟كذلك كتاب: (المسجد وبيت المسلم) موجود، فأهل البيت في بيتهم يجتمعون: الأطفال وأمهم يجتمعون بين يدي أبيهم، فيقرءون آية من كتاب الله ويتغنون بها بأنغام نبيلة طيبة؛ حتى يحفظوها، ويبين لهم مراد الله منها، والمطلوب ما هو، فإن كان عقيدة عقدوها، فلا تنحل من قلوبهم، وإن كان أدباً فمن تلك الساعة يلتزمون به ويتأدبون، وإن كان خلقاً تخلقوا به، وإن كان واجباً عرفوه، وإن كان منكراً تركوه.لم ما نفعل؟!والله لو جاء عمر لا يفعل إلا هذا، أما السيف فلا ينفع فينا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لأننا قادرون والحمد لله.الرسول صلى الله عليه وسلم في خمسة أيام بنى مسجد قباء، وفي أقل من شهر بنى هذا المسجد، فما نحتاج إلى عناء ولا مشقة، فالخشب والحطب موجود، نظلل به الناس عن الشمس والمطر، ونجتمع في بيوت الله.فإن قالوا: لا نستطيع.أقول: إذاً: ماذا تستطيعون؟ كيف تطلعون إلى السماء؟ بالسحر؟ أو ما عندكم أمل بأن تخترقوا السموات السبع؟فإن قال قائل: ما عرفنا يا شيخ!أقول: ما عرفتم؟! كيف أنتم مسلمون ولا تعرفون؟! أما قرأتم حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل قام رجل في القرية وقال: يا شيخ! أنا أريد أن أزكي نفسي، فما هي أدوات التزكية؟ ما قام أحد أبداً، ولا يسأل أحد.إذاً: كيف نعرج إلى الملكوت الأعلى ونواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟!هل بالأحلام والآمال الكاذبة أو بالأنساب الفارغة؟!إن حكم الله قد صدر: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، والفتن تنتقل من بلد إلى بلد، وهي عارمة، ولا يطفؤها إلا أن نعود إلى الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg

ابوالوليد المسلم 07-09-2020 03:18 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (76)
الحلقة (83)




تفسير سورة البقرة (46)

كان المجتمع الإنساني -ولا زال- يعج بالأديان والعقائد المختلفة، والتي منها اليهودية والنصرانية، وكان أتباع كل ديانة يدعون أن الجنة حكر عليهم دون دليل أو برهان، فردّ الله عليهم قولهم بأن الأجر الكامل والأمن والفرح إنما هو لمن أسلم وجهه لله سبحانه، محسناً في نيته وقوله وعمله، أما جدال اليهود والنصارى وغيرهم، فالله يحكم فيه بينهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:111-113]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

معنى قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، القائلون هم اليهود والنصارى.فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً. والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان صليبياً؛ نصرانياً؛ مسيحياً.ونحن نقول: لن يدخل الجنة -والله- إلا من كان مسلماً؛ حنيفياً.والآن هاتوا البرهان، فالدعاوى إذا لم تدعمها بينات دعواها باطلة، فهاتوا البرهنة على أن اليهود هم أهل الجنة وحدهم، آلله أخبر بذلك؟ وهذا كتابه.وكذلك النصارى! آلله أخبر بأنهم أهل الجنة، وسواهم محرومين منها فليتفضلوا، أين الأدلة والبراهين؟إذاً: دعوى باطلة، ولا تعدو كونها أماني كاذبة: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فقط، والأماني لا قيمة لها، بل تذهب أدراج الرياح.نعم! إذا تمنيت على الله فاسأله، وادعه، وتضرع إليه، واعمل بمقتضيات النجاح والفوز، لا مجرد أن تتمنى، ولهذا يقول: الأماني بضائع النوكى، أي: الحمقى، فالأحمق بضاعته التمني، تجده جالساً تحت الشجرة أو في ظل الجدار ويتمنى أن تأتيه القصعة مملوءة بالرز واللحم.ونحن أيضاً نتمنى على الله كذا .. فكيف تتمنى أنت؟!إذاً: ادع، وتضرع، وابك، واعمل بالأسباب التي تصل بك إلى مرادك، أما أن تعصي الله في ذلك، ولا تلتفت إلى ما قنن أو شرع أو سن من قوانين وسنن بها يصل العبد إلى أهدافه وأغراضه وتقول: أتمنى على الله. فلا.هؤلاء اليهود والنصارى أصحاب الديانة البارزة العالية في العالم، قص الله علينا خبرهم فقال: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، ليس معناه: أن النصارى واليهود هم الذين يدخلون الجنة، ولكن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، فما عليك إلا أن تتهود وادخل، ومع هذا لحسدهم لا يسمحون لأحد أن يتهود، ومن عرض عليهم أن لديه رغبة في أن يكون -والعياذ بالله- يهودياً فلن يقبلوا، وهذا فيه نوع احتكار للجنة، فلا يدخلها إلا يهودي الأصل والنسب من أولاد إسحاق وإسرائيل، فكيف يدخل الجنة من عداهم.وكذلك النصارى يرغبون في تنصير غيرهم؛ لأنهم يعرفون أنهم إلى الهاوية .. إلى جهنم، فهذا مصير لا حد له، ولهذا بودهم أن البشرية كلها تتنصر، ويبذلون الرخيص والغالي، والنفيس والخسيس من أجل أن ينصروا البشرية، وخاصة المسلمين، وأما البوذا، والهنادك، والمجوس وغيرهم من المشركين فلا يهمهم أن يتنصروا أو لا يتنصروا، لكن المسلمون أهل الجنة، الوارثون لدار السلام، هؤلاء فازوا بها، فنصرفهم عن الإسلام.والله إن عند القسس ومن يسمون برجال الدين، خططاً لتدمير الإسلام الأمر العجب.وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة:111]، فهم يؤمنون بالآخرة والقيامة والحساب والجزاء، ويؤمنون كذلك بالجنة، لكن النصارى معتقدهم في الجنة أن فيها الأرواح البشرية فقط، فلا أجسام ولا أبدان ولا ذوات، نعيم روحاني فقط، كالنائم روحه في نعيم أو في جحيم، ولا جسم في ذلك ولا بدن، وهذا كفر صراح وبواح، وصاحبه كافر؛ لأنه كذب الله، وكذب رسله، وكذب العقل وكذب وكذب .. من أجل اتباعه لمشايخ الباطل ورؤساء الضلال.والنصارى إلى الآن لا يعرفون الجنة كما نعرفها، وأن ساكنها يسكنها ببدنه، وأن الأجسام ستكمل وستتحد، وتصبح على جسم واحد، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكون أبناء ثلاث وثلاثين سنة، متساويين في هذه السن، وطول الواحد منا ستون ذراعاً، أي: ثلاثون متراً في الهواء، وهذا الذي كان لأبي البشرية آدم، فلما خلق الله آدم وصوره، ونفخ فيه من روحه كان طوله الجسماني ستون ذراعاً.قال الله تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، أي: هذا الذي يعيشون عليه، وقد قدمنا أن الأمنية والتمني إذا لم يعمل العبد على تحقيق أمنيته من طريق الوسائل المشروعة، والسنن المشروعة للوصول لهذه الأمنية، فهو أحمق، لا قيمة له، ولذا قالوا: الأماني بضائع النوكى. فالأحمق هو الذي يجلس في بيته ويتمنى أن يمتلئ حجره دراهم ودنانير.

معنى قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم ...)

قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111]، حكى قولهم ومعتقدهم وما يتبجحون به، وأخبر أن هذه مجرد أماني لا تتحقق بحال من الأحوال.ونحن قد عرفنا حكم الله الصادر على البشرية كلها أبيضها وأصفرها فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقلنا غير ما مرة: هنا تقرير المصير إلى يوم القيامة أبداً، فالآدمي هو الذي يقرر مصيره بنفسه اليوم قبل أن تتغرغر، وأن تبلغ الروح إلى الحنجرة، فإن هو آمن، وعمل صالحاً حسب ما شرع الشارع الحكيم، فلا قدّم ولا أخّر، ولا زاد ولا نقص، وراعى الزمان والآن، فإن ذلك العلم ينتج زكاة روحه، وطهارة نفسه، وأصبح شبيهاً بأهل الملكوت الأعلى، الملائكة النورانيين الروحانيين، وبذلك أصبح أهلاً للجنة.أما أن يلوثها، ويخبثها، ويدرنها بأوضار الذنوب والمعاصي، ومن أقبحها الشرك والكفر، ويرجو، ويحلم، ويتمنى أن يدخل دار السلام، فوالله ما دخلها، وما هو لها بأهل أبداً.ولقد مضى حكم الله في العالمين: إِنَّ الأَبْرَارَ [الانفطار:13] ما لهم؟ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، والله لفي نعيم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14]، من هم الأبرار؟ ومن هم الفجار؟كل الناس يعرفون البار المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، فبذلك زكت نفسه، وطابت، وطهرت.والفاجر هو الذي فجر عن القانون، وخرج عن النظام، وفسق عن طاعة الله، وأقبل على معاصيه، فسودت نفسه وخبثت، وتعفنت، وما أصبح إلا كالشياطين، والشياطين لا يدخلون الجنة دار السلام، وقد طرد منها إبليس، وأبلس!إذاً: النصارى يتبجحون بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان مسيحياً، ولو تحضر خطب القسس ومواعظهم فإنك تسمع مثل هذا الكلام، واليهود -كذلك أيضاً- في بيعهم يقولون مثل ذلك: بأن الجنة ممنوعة ومحرمة إلا على اليهود.والحمد لله نحن عندنا حكم الله فلا نقول: قال آباؤنا أو أجدادنا أو أسلافنا، بل هذا كتاب الله بين أيدينا.قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فالتقليد الأعمى لا قيمة له، فهو مذموم، وإذا قلدت غيرك لابد وأن يكون عندك دليل وبرهان تثبت به ما قلدته فيه، وهم أجيال وأمم يتبع بعضهم بعضاً على التقليد الأعمى، قالوا: الجنة لنا؛ قلنا بعدهم: الجنة لنا.قلنا لهم: ما الدليل؟ هل عندهم صك من الله عز وجل أو كتاب فيه يدرسون؟ من أين؟قال تعالى: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فهل يستطيعون أن يأتوا ببرهان أي: بحجة، ببيان، بدليل؟والله الذي لا إله غيره ما كان، ولو قدروا عليه لحاجوا به رسول الله، وطرحوه بين يديه، ولكن يطأطئون رءوسهم فيقولون: وجدنا آباءنا، وهكذا قال علماؤنا، وهذه عقيدتنا.ونحن نقول لهم: هاتوا البرهان.

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ...)

قال تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما تزعمون وتدّعون أيها المغفلون، المغرر بهم، المخدوعون، بل القضية: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فهو صاحب الجنة ومولاها وساكنها، ومن لم يسلم وجهه لله، ولم يحسن في أمر الله فهيهات هيهات أن يكون في جوار الله، وأن ينزل دار الأبرار والسلام.

معنى قوله تعالى: (أسلم وجهه لله)

ما معنى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112]؟الإسلام عرفتموه، تقول: فلان أسلمك النقود .. أسلمته البضاعة أي: أعطيته، ومنه بيع السلم.إذاً: أسلم بمعنى: أعطى، والإسلام مصدر، تقول: أسلم يسلم إسلاماً، وفلان أسلم، قد نقول: دخل في الإسلام، ولكن حقيقته أنه أعطى قلبه ووجهه لله، فأسلم وجهه لله وأعطاه لله، فأصبح لا ينظر إلا إلى الله، ولا يحب، ولا يكره ولا يعطي، ولا يأخذ، ولا يبني، ولا يهدم، ولا يزوج، ولا يطلق، ولا ولا .. إلا وهو مع الله، فهذا هو الإسلام.

إحسان العمل وأهميته

قال تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال: أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وهذه الحقيقة لا تنسوها، فقد تصلي ولا تنتج لك صلاتك جراماً أو أوقية، وقد تصوم وتخرج من صيامك بلا شيء، وقد تخوض المعارك والدماء وتخرج بلا شيء، إذ لابد من الإحسان: وهو إتقان العمل وتجويده وتحسينه، حتى ينتج الطاقة التي من شأنه أن يولدها.وهذا جبريل عليه السلام لما سأل أبا القاسم صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، سأله كذلك عن الإحسان، فمبنى هذا الدين على ثلاث دعائم: إيمان، إسلام، إحسان. وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أن هذا الدين يدور على هذه الحقائق الثلاث: إيمان، إسلام، إحسان.لكن ما هو الإحسان؟قلنا: الإحسان هو إتقان العمل، وتجويده، وتحسينه حتى ينتج.وكيف تستطيع أن تحسن عملك وتجوده حتى ينتج؟الجواب: لن تستطيع إلا إذا كنت أثناء العمل كأنك تنظر إلى الله، أو على الأقل تعلم أن الله ينظر إليك.ولا تنخدع فتقول: أنا أحسن عملي، وأتقنه، وأجوده حتى ينتج الطاقة وأنت لا تراقب الله، فلن يكون هذا.فالإحسان كما في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لضعفك- فإنه يراك )، فأنت بين الحالين، فإذا أخذت تتوضأ، تغتسل، تصلي، تجاهد، تقول، تقرأ، فإن كنت مع الله أحسنت عملك، وأديته على الوجه المطلوب، وبذلك ينتج لك الحسنات، وإن أنت أديتها غافلاً فإنها لا تنتج، وهذه محنتنا عامة، وهذه محنة الكل، إلا من أخذ الله بيديه.فإن سأل سائل: ماذا نصنع؟قلنا: هيا نربي أنفسنا، فنعودها ونروضها حتى نصبح دائماً مع الله، فقلوبنا ذاكرة، وألسنتنا ذاكرة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فإذا دخلنا في الصلاة وما شعرنا أننا مع الله، ولا كنا مع الله أبداً، فكيف تنتج هذه العبادة؟!وقد ذكر أهل العلم أن بعض المصلين ليس له من صلاته إلا عُشر، ومنهم من ليس له إلا رُبع .. إلا نصف .. إلا ثلث .. إلا ثلثان، وأكملُنا من تكتب له صلاته كلها؛ لأنه من ساعة ما قال: الله أكبر هو مع الله، فيتكلم معه ويناجيه، ويسأله، ويعظمه، فهو معه لا يلتفت إلى غيره أبداً، فهذا قد صلى، وأنتجت له صلاته النور الذي به يعرف الطريق، ويسلك سبيل الرشاد.إذاً: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وإسلام الوجه هو إعطاء القلب والوجه لله، أي: يعطي كله لربه، وكما قلنا دائماً: إن المسلم الحق لا يبني بناية بدون إذن الله، ولا يهدمها بدون إذن الله، ولا يسافر أو يقيم بدون إذن الله، ولا يتزوج أو يطلق بدون إذن الله؛ إذ هو لله، كما قال تعالى: إِنَّا لِلَّهِ [البقرة:156] أي: كلنا آباؤنا وأمهاتنا، فمن خلقنا؟ من رزقنا؟ من أوجدنا؟ أليس هو؟ فكيف نحن لغيره، بل نحن لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].فمن كان لله -إذاً- عندما يأخذ في الطاعة لابد أن يحسنها حتى تثمر .. أن يجودها .. أن يتقنها؛ لأن المقصود ليس ركوعك وسجودك، إنما المقصود أنك تقضي عشر دقائق مع الله، فتتكلم معه وتناجيه، وتعرض حاجتك، وتبكي بين يديه، وتستأنس لحظة وساعة وأنت بين يدي الله، غافل معرض عن العالم بكل ما فيه، فهذا هو الإحسان، أما الدخول في العبادة بدون إحسان فلا تنتج.والشاهد: أن بعضنا يصلي ويخرج من المسجد يقول الباطل والفجر، والآخر يقول: السلام عليكم، قد فرغنا من الصلاة فيخرج يضحك، ويسب، ويشتم، فأين صلاته؟!



يتبع


الساعة الآن : 04:08 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 202.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 202.44 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.25%)]