رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (121) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (25) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم)، فيه فوائد: الأولى: قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا): استعمال اسم الإشارة للبعيد لعلوِّ شأن الحجة الربانية التي يؤتيها الله -عز وجل- أنبياءه ورسله، وأولياءه مِن أهل العِلْم لنصرة التوحيد وإثبات الرسالة، وبطلان عبادة غير الله والبراءة من الشرك وأهله ومعرفة عاقبة التوحيد وعاقبة الشرك، وهي أعلى الحجج شأنًا، وهي الحجة المبنية على الوحي الذي يرشد العقل الإنساني إلى أحسن الطرق للفهم والإدراك، والمعرفة الحقيقية للحق والباطل، لا الحجج السخيفة الفلسفية والكلامية التي سَمَّاها أصحابها حججًا عقلية، وهي تؤدي دائمًا إلى أشدِّ النتائج تناقضًا، ولا يعرف بها حقٌّ مِن باطل في حقيقة الأمر، وهي مجرد كلام لا طائل منه، ولا يرشد القلب إلى صلاحه في الدنيا والآخرة، ولا يحييه بنور الإيمان. ومَن أراد أن يعرفَ الفَرْق بين حجج الله المنيرة، وبين الطرق الفلسفية والكلامية؛ فليأخذ قضية واحدة أيما ما كانت، ولتكن مثلًا: قضية القضاء والقَدَر، والعلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان وقدرته وفعله، وليقارن بين الطريقتين، وسيعلم قطعًا أن الحجج القرآنية والنبوية المتمثِّلة في الأحاديث الصحيحة هي التي تتضمَّن تَوَافق العقل والنقل، والفطرة الصحيحة، وتتضمَّن العدل الوسط بين فِرَق الجبرية والقدرية، والتي يجزم العقل السليم ببطلان هذه المذاهب كلها، وسيجزم أن ما جاء به الوحي هو الذي يتطابق تمامًا مع العقل ولا يخالفه، فاللهم لك الحمد على نعمة الوحي. وإن أردتَ المزيدَ مِن مراجعة هذه القضية؛ فارجع إلى كتاب: "كيف نؤمن بالقدر؟"، وكتاب: "شرح شفاء العليل للإمام ابن القيم"، وستجد -إن شاء الله- ما يريح القلب في هذه القضية التي حَيَّرت البشرية التائهة بعيدًا عن نور الوحي. وتأمل أثر الطرق الفلسفية والكلامية في عقيدة النصارى -بعيدًا عن الكتب المُنَزَّلة فإنها حتى بعد التحريف والتبديل ما زالت تتضمَّن مِن أدلة التوحيد، وانفراد الله بالإلهية والربوبية-؛ إذ يجزم كلُّ عاقلٍ أن ما تضمَّنه قانون الإيمان المسيحي المأخوذ من الفلسفة اليونانية يتناقض تمامًا مع ما جاءت به الرُّسُل؛ فضلًا عن أن تقارن هذا مع القرآن العظيم وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه القضية الخطيرة؛ قضية عبودية المسيح لله -عز وجل-، وعدم مشاركته لله -عز وجل- في شيء مِن الربوبية والألوهية. وستجد أيضًا: الفَرْق الهائل في الأثر في القلب بين نصوص الوحي، وبين علم الكلام والفلسفة الذي يوصل إلى النتائج المتناقضة التي لا يقبلها عقل سليم. ولتتأمل أيضًا: في قضية انفراد الرب -سبحانه- بالضر والنفع، والإحياء والإماتة، والملك وتدبير الكون، كما دَلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة، وبين خرافات الطرق الصوفية، وزبالة أفكار المبتدعين الذين وصلوا ببدعتهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وأن لا فرق بين العبد والرب! فـالـرب عـبـد والــعـبـد رب فيا ليت شعري مَن المُكَـلَّـف إن قــلـت عــبـد فــذاك رب وإن قــلـت رب أنَّى يُكــَلَّـف! قارن بين هذه النصوص وبين خرافات أهل الضلال، كقصة ذاك الشيخ الذي يبيع المخدرات على باب الجامع الأزهر ويترك الصلاة، فوقع في نَفْس الإمام ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث، شارح البخاري: كيف يكون مدعيًا للولاية، وفي نفس الوقت يبيع المخدرات؟! فاطلع الشيخ على ما في قلبه، فنزع منه الفاتحة، فوقف ليصلي فما استطاع أن يصلي! فأتاه، فقال: رُدَّ عليَّ ما أخذت مني. فقال: هل علمتَ ما فعلت؟ قال: نعم. قال: هل تريد أن ترجع إليك الفاتحة؟ قال: نعم. قال: فاجلس بجواري لكي تقطِّع الحشيش وتبيعه معي! اللهم إنا نبرأ إليك مِن الضلالة. وأفظع من ذلك: ذلك الشيخ الذي عَلَّم أحد المريدين الأوراد والطريقة التي يلتزمون بها ثم بعثه إلى أحد القرى ليرشد، فغاظ ذلك أحد مشايخ الطرق الأخرى فقبض روحه، فجاء المريدون إلى الشيخ وقالوا: أدركنا يا شيخ، لقد قبض الشيخ الميرغني روح صاحبنا، فقال: فغضبتُ غضبًا شديدًا وطرتُ أنا وأحد مساعدي، فوجدت الرجل قد كُفِّن ويستعدون للدفن، ووجدت الشيخ الميرغني ممسكًا بروحه وقد قبضها، فقلت له: كيف تقبض روح المرشد؟ فقال: أنا أفعل ما أشاء، الملك ملكي! قال: فقلت له: وأنا شريك لك في الملك. قال: أفعل ما أريد. قال: لا تفعل ما تريد، قال: فلجأت إلى الشيخ إبراهيم الدسوقي، ورفعت يدي لأضربه، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حَضَر فارتجفنا جميعًا، فرد روح المرشد إليه، فقام يمشي يمينًا وشمالًا، ولكن كان الشيخ الميرغني قد شطب رزقه، فسار الرجل فقيرًا لا رزق له، فهو يعيش على أرزاق الناس. فقلت له: اصبر، فإنك لا رزق لك؛ لأن الشيخ الميرغني قد شطب رزقك! اللهم إنا نبرأ إليك من الضلالة. قارن بين هذا وبين نصوص الوحي: لتعلم مَدَى خطر الخرافة، التي جعلت مشايخ الضلالة أربابًا يملكون الموت والحياة، ويملكون الأرزاق، وهم في ذلك يزعمون اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بالقرآن، فاللهم لك الحمد. هذا اليقين بأن الحجة القرآنية والنبوية هي أعلى الحجج، أمر يدركه كلُّ مَن عَلِم الحجة المبنية على الوحي، وحجج المقلِّدين الخرافيين، والفلاسفة المتكلِّمين. فاللهم لك الحمد. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (122) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (26) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، فيه فوائد: الثانية: قوله -تعالى-: (آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، دليل على الإيمان بالقدر وقدرة الله على قلوب عباده وعقولهم، وتقليب أفكارهم؛ فإن الله هو الذي آتى إبراهيم حجته على قومه، وليس مجرد تحصيل العبد لأدواتها فقط هو الذي يصل به إلى الحجة، بل الله هو الذي يفهم عبده الحجة ويريه دلالتها، كما قال -تعالى-: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)، فالله خص سليمان بالفهم، وأثنى عليه وعلى داود -صلى الله عليهما وسلم- بالعلم، فالله يقلب قلوب العباد حتى تفهم الحجج، ويمكن الألسنة حتى تنطق بها فتقوم الحجة على القوم الكافرين والظالمين، سواء أفهموها أم لا؛ فقد يطبع الله على عقول قوم وقلوبهم فتسمع الحجج، ولا تفهمها وتتلى عليه الآيات ولا تعيها، والبعض قد يفهمها ثم يتولى وهو معرض، كما قال -تعالى-: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)؛ رغم سلامة حاسة السمع إلا أن الله لم يسمع القلوب فلم تعقل الحجة، قال -تعالى-: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). وفائدة هذه المسألة العظيمة: أن العبد لا يجوز له أبدًا أن يغتر بعلمه وحفظه، فالله هو الذي آتاه إياهما، وليس هو الذي ثبت العلم في قلبه، وفتح له أبواب الفهم، فإياك أن تفخر بعلمك وحفظك، أو بقدرتك على الإفحام والمناظرة، والاستعراض للحجج، فإن مرض العجب من أعظم الأمراض المهلكة وهو علامة على الكبر الذي مثقال ذرة منه في القلب تمنع دخول الجنة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم)، ولو تفكر الإنسان في حقيقة عقله؛ لعلم أنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، كما قال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ فكيف يدعي لنفسه أنه مصدر الذكاء والفكر، وهو موهوب له من العدم؛ وهبه الله له من فضله، وآتاه العقل والفهم، وحواس الإدراك التي بها يحصل أدوات العلم، وحرم غيره من ذلك حين لم يكن له ولا لغيره قدرة على شيء من ذلك، ولا علم بشيء من ذلك؟! وأعظم النعم التي ينعم الله بها على عباده هي نعمة الفهم في الدين، ثم العمل والاستجابة لأمر الله -عز وجل-، وحب الإيمان والطاعة، وكراهية الكفر والفسوق والعصيان، (لَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ): فيه إثبات أن الله هو الخافض الرافع. وفيه؛ إثبات مشيئته -عز وجل- في خفض من يشاء ورفع من يشاء. وفيه: إثبات أن الرفع الحقيقي هو أن يؤتي الله عز وجل عبده حجته بآياته؛ روى مسلم وابن ماجه بإسناد صحيح: أن نافع بن عبد الحارث، لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة (أي: أميرًا عليها)، فقال: من استعملت على أهل الوادي (أي: في فترة غيابك)؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين". فبالقرآن وبالعلم وبما فيه من الفرائض يرفع الله أقوامًا كانوا قبله موضوعين ناقصين، فجبر الله كسرهم ونقصهم بالقرآن والعلم، ودرجات الآخرة في الرفعة أعظم من درجات الدنيا، (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فيه: إثبات صفة العلم وصفة الحكمة لله -سبحانه وتعالى-، وهما صفتان متلازمتان، خلافًا لمن أنكر الحكمة من الأشاعرة، وغيرهم، وزعم أنها -بجهله-: صفة نقص! ونفى أن يكون الله يفعل شيئًا لشيء، أو يقدر شيئًا لشيء، أو يشرع شيئًا لشيء، مع أن القرآن مليء بإثبات ذلك في عشرات أو مئات الآيات. ومعنى اسم الله الحكيم يشمل معنيين: معنى الإحكام: فهو المحكم -سبحانه- لكل شيء خلقه، وقد أتقنه غاية الإتقان: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88). ومن هذا أيضًا: إحكامه آياته -سبحانه وتعالى-، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1). والمعنى الثاني: معنى الحكمة فيما خلق، وفيما شرع، فالله -عز وجل- وضع كل شيء في موضعه؛ وضع الحجة العالية والهداية والمنزلة الرفيعة، والدرجات والطاعة والشكر لمن تناسبه، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53). وهو -سبحانه وتعالى- وضع الظلم والكفر والنفاق في مواضعها، وهو أعلم بالظالمين، فحكمته بعلمه؛ وعلمه بحكمته؛ فهما صفتان متلازمتان من صفات الكمال، وكذلك شرع الشرائع للحكم، وقدر مصالح العباد فيما شرعه لهم من شرائع، وله الحكمة فيما قسم من الأرزاق المادية الدنيوية والدينية الشرعية، وهو -عز وجل- خلق أرضًا طيبة وأرضًا خبيثة، ووضع البذر الطيب الذي أنبت الشجر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث الذي أنبت الشجر الخبيث في الأرض الخبيثة؛ بعلمه وحكمته. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (123) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (27) كتبه/ ياسر برهامي فقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 84-90). فيها فوائد: الأولى: لما فارق إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قومه هو وسارة؛ أبدله الله ذرية طيبة على الكبر، عاشوا مع إبراهيم وسارة على الإيمان والتوحيد؛ فهي خير الصحبة. وأبدله الله أرضًا طيبة مباركة هي مِن خير الأرض؛ أرض بيت المقدس بدلًا من وطنه الأول الذي أبى قومه الإيمان رغم رؤيتهم الآيات والحجج، وأعطاه الله رزقًا واسعًا؛ حتى ذبح عجلًا سمينًا لعددٍ محدودٍ من الأضياف الذين لم يأكلوا منه شيئًا إذ كانوا من الملائكة وهو لا يدري؛ فدل ذلك على أن العبد إذا ترك شيئًا لله فإن الله يخلفه خيرًا منه وأفضل منه، وأكثر بركة، وأحسن صحبة، وأعظم أجرًا عنده في الآخرة، وقد جعل الله إسحاق ويعقوب ذرية مهتدية، قرة عين أبيهم وجدهم. الثانية: ذكر الله نوح -عليه الصلاة والسلام- في مقام الثناء على إبراهيم -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم-، وإبراهيم ومَن بعده هم مِن ذرية نوح؛ تشريفًا لنوح -عليه السلام- وقد اختلف العلماء في الضمير في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)؛ هل يعود على نوح أم يعود على إبراهيم؟ والصحيح: أن الضمير في قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يعود على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن سياق الآيات كلها في ذكر فضائله، وإن كان لوط -عليه السلام- ليس من ذريته، ولكنه ابن أخيه، وعم الرجل صنو أبيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) (رواه مسلم)، كما أن إيمان لوط -عليه السلام- كان بإبراهيم كما قال -تعالى-: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت: 26)، فكانت أبوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للوط -عليه السلام- مع كونه عمه؛ أبوة الإيمان وولادة الروح به، كما قال -تعالى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي: "وهو أب لهم"، والله أعلم. وبعض أهل العلم رَجَّح أن الضمير يعود إلى نوح، فقالوا: إن جميع المذكورين من ذرية نوح، وهو معنى صحيح، لكن السياق يرجِّح أنه مدح لإبراهيم، وبيان ثوابه في الدنيا والآخرة، والله أعلم. الفائدة الثالثة: ذَكَر الله هدايته واجتبائه لجميع هؤلاء الأنبياء، ومَن اجتباه واختاره لهُدَاه مِن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم اجتباء نبوة لبعض هؤلاء الذرية والآباء، والأبناء والإخوة، أو اجتباء الصلاح والهداية، وكله اجتباء كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78). وهذا الوصف الذي ذَكَره الله للأنبياء: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ هو الوصف المشترك الذي يجمع بين الأنبياء وأتباعهم، ووصف الهداية والصلاح والإحسان هو الذي حَفَّز أهلَ الإيمان مِن عباد الله الصالحين على الاقتداء والاتباع للأنبياء؛ لأن بينهم وبينهم قَدْر مشترك، هو: الإحسان والصلاح، والاجتباء والهداية؛ فهي زمرة مباركة صالحة، وهي نعم الرفيق في الدنيا والآخرة. الفائدة الرابعة: وفي الآيات إثبات هداية الله لمَن يُشَار مِن عباده، وهي هداية التوفيق والإسعاد والمَنِّ والفضل، وخلق الهدى في قلوب المؤمنين من عباده، وفي هذا: إثبات القدر، وإثبات قدرة الله ومشيئته لأفعال العباد الاختيارية: الظاهرة والباطنة؛ خلافًا للمعتزلة النافين لذلك، المثبتين قدرة الله ومشيئته على الذوات دون الأفعال، مع نفي خلق أفعال العباد! وكل ذلك باطل يردُّه صريح القرآن. الفائدة الخامسة: دين الأنبياء واحد، هو الصراط المستقيم الذي هو العِلْم بالحق والعمل به، بالقلب واللسان والجوارح؛ الذي بُنِي على توحيد الله واتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فهو طريق توحيد المعبود -سبحانه-، وطريق المتبوع -صلوات الله وسلامه على الرسل أجمعين-. الفائدة السادسة: قوله -تعالى- (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 88)، دليل على أن الشرك محبط للعمل، كما دَلَّت عليه آيات القرآن؛ قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65-66)، وقال -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود: 15-16)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (متفق عليه). وهذا يدل على أنه مهما تحمَّل الإنسان من جهد في العبادة أو الزهد، أو حرمان نفسه من ملاذ الحياة، أو عذَّب نفسه بالرهبانية؛ لا يقبل الله ذلك منه إذا أشرك بالله، أو ادَّعى له صاحبة أو ولدًا، أو كَذَّب ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، كما قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ". المسألة السابعة: قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) دليل على أن شرع الأنبياء قبلنا الذي ثبت بشرعنا كتاب وسنة، شرع لنا ما لم يَرِد شرعنا بخلافه؛ فالأصل عدم النسخ في هذه الشرائع الثابتة بما قَصَّ الله علينا في كتابه، أو أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، ولكن يجب الانتباه إلى أن حكايات أهل الكتاب من كتبهم وعن أنبيائهم لا يعتد بها؛ لما علمنا بنصِّ القرآن من تحريفهم الكلم عن مواضعه، ونسيان ما ذُكِّروا به؛ فقد زادوا وأنقصوا، وحرَّفوا وبدَّلوا في الوحي المنزَّل إليهم؛ فلا يعتد لذلك بكلامهم، فالعبرة في هذه المسألة على ما ثَبَت بشرعنا أنه كان شريعة لأنبياء الله ورسله، ولم يأتِ شرعنا بخلافه، فإن أَتَى شرعنا بخلافه؛ فهو منسوخ. المسألة الثامنة: الرسل لا يأخذون أجرًا على دعوتهم وتعليمهم للناس، وكذلك أتباعهم الصادقون من أئمة الأمة، لم يأخذوا أجرًا، ولا يأخذون أجرًا على الدعوة وتعليم العِلْم، ونشر السُّنن؛ فهؤلاء أئمة الأمة: كالأئمة الأربعة، وشيوخهم، وتلامذتهم، ما أخذوا درهمًا واحدًا على ما عَلَّموا الأمة، وهؤلاء علماء الحديث الذين رَحَلوا في البلاد كلها: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم؛ ممَّن بَذَلوا أعمارهم في جمع السنة: هل أخذوا درهمًا واحدًا على تعليم العِلْم؟! نسال الله أن يجعلنا من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادقين. المسألة التاسعة: قوله -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ): فيه إثبات عالمية الإسلام منذ العهد الأول، ومنذ كان الإسلام محاصرًا في مكة، ومع ذلك فقد استقر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به أن هذا الدِّين ليس خاصًّا بالعرب، ولا بأهل مكة، ولا بقوم دون قوم، بل القرآن ذِكْر للعالم كله، يجب على الإنس والجن الإيمان به واتباعه، والعمل به، ويجب على المؤمنين نَشْر هذا القرآن والدعوة إليه، والدعوة به في أرجاء العالم كله؛ لا يختص بذلك بلد دون بلد، ولا جنس دون جنس، ولا لسان دون لسان، بل يُترجَم إلى الألسنة إلى أن يتعلَّم أهل الألسنة الأخرى لغة العرب؛ ليحسنوا تلاوة القرآن، فيحسنوا التذكر به. نسال الله أن يَمُنَّ علينا بالذكرى، والحمد لله رب العالمين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (124) دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هو الحنيفية المسلمة، وهو دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (28) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لما ذَمَّ الله -عز وجل- الذين فَرَّقوا دينهم -وقُرئ: "فارقوا دينهم"- وكانوا شيعًا؛ بَيَّن -سبحانه وتعالى- الدِّين الحق الذي بَعَث الله به أنبياءه ورسله، وبَعَث به إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأرسل به رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليجدد دين الأنبياء ويتم تفصيل ما بدأوه، ويخالف الذين فارقوا دين التوحيد والحنيفية والإسلام من أهل الكتاب، ومن أهل الأوثان، وهم الذين فارقوا دينهم وفرَّقوه كذلك، فإنهم تمسكوا ببعض ما كان منه وتركوا أعظم ما أُمِروا به، وهو الحنيفية، وهي التوحيد والميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه؛ فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: إن الله هداه إلى هذا الدِّين، وهو الحنيفية المسلمة. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يقول الله -تعالى- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- سيدَ المرسلين أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، دينًا قِيَمًا، أي: قائمًا ثابتًا، (مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: 130)، وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). وليس يلزم مِن كونه -عليه السلام- أُمِر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه -عليه السلام- قام بها قيامًا عظيمًا، وأُكملِت له إكمالًا تامًّا لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال؛ ولهذا كان خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرهب إليه الخلق حتى الخليل -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال ابن مردويه سنده عن ابن أبزى، عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح قال: (أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّة الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الشيخ الألباني). وقال أحمد أيضًا بسنده: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذقني على منكبه؛ لأنظر إلى زفن الحبشة (قلتُ: لعبهم ورقصهم بالحراب)، حتى كنت التي مللتُ، فانصرفتُ عنه. قال عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ: (لِتَعْلَمَ يَهودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنيفيَّة سَمْحَة)؛ أصل الحديث مخرج في الصحيحين، والزيادة لها شواهد من طرق عِدَّة (وحسنه الشيخ الألباني)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرف). وفي قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي)، فوائد: الفائدة الأولى: أن هداية الله -عز وجل- هي سبب الخير الذي هُدِي إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاء به، وهدينا نحن بذلك؛ فلا بد من شهود فضل الله -سبحانه وتعالى- بالهداية كما بَيَّن الله -عز وجل- في مواطن مِن كتابه، وأن هذه حال أهل الجنة جميعًا؛ إذا دخلوا الجنة فهم يشهدون نعمة الله عليهم بالهداية، وقالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وفي هذا إثبات الإيمان بالقَدَر كما تضمنته سورة الأنعام مبينًا في مواضع كثيرة، وباقي سور القرآن. الفائدة الثانية: في قوله: (هَدَانِي رَبِّي) ذِكْرُ اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد؛ فيه شهود إصلاح الله -عز وجل- الخاص للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ عبدٍ يجب عليه أن يشهد مِنَّة الله -عز وجل- عليه، وكل مؤمن يرى أن إصلاح الله -عز وجل- له في أمر الدِّين هو أعظم إصلاح وأعظم نعمة، وإرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدِّين، هو أعظم نعمة. قال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)؛ ولذلك كان الإسلام الذي بُعِث به النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الدين؛ قد جَمَع الله -عز وجل- فيه ما يصلح البشرية؛ أفرادًا وجماعات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حين أُمِر أن يخاطب قومه بذلك، كان هو -عليه الصلاة والسلام- في أعظم نعمة من الله في وسط الجاهلية الظلماء الظالمة، التي لا نور فيها؛ فناسب ذلك أن يذكر اسم الربوبية "الرب"، وهو بمعنى المصلح لشأن عباده، مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: "رَبِّي"، ليكون ذلك شاهدًا على نعمة الله -عز وجل- العظيمة التي هي أعظم نعمة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن تبع لها؛ قال الله -عز وجل-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). الفائدة الثالثة: الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام، وهو الدِّين القّيِّم -وقرأ: "قَيِّمًا وقِيَمًا"، وهما بمعنى واحد، وهما قراءتان متواترتان، بأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب- مبنيٌّ على العلم النافع والعمل الصالح؛ على صحة الاعتقاد والتصور والفهم، وعلى صحة الإرادة والقصد والعمل؛ خلافًا لصراط المغضوب عليهم، الذين فَقَدوا الإرادة الصحيحة والعمل الصالح رغم معرفتهم بالحق، وغير صراط المغضوب عليهم الذين جَهِلوا الحق بإعراضهم عنه، فلم يعلموه ولم يعملوا به؛ أما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد بُعِث بالصراط المستقيم وهدي إليه، كما قال -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم: 1-2)؛ فكمَّل الله له كمال الهداية والفهم والعقيدة بنفي الضلال عنه، وكمَّل الله له كمال الإرادة والقصد والعمل بنفي الغواية عنه. الفائدة الرابعة: الدِّين القَيِّم والدِّين القِيَم، هو المستقيم القائم بالحق، الثابت الذي لا اعوجاج فيه، فالله -عز وجل- أنزل على عبدة الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا قَيِّمًا، وهي نعمة الله على عباده المؤمنين؛ أن دينهم لا اعوجاج فيه كسائر الملل المنحرفة عن دين الله -سبحانه وتعالى-، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الحنيف المائل إلى الله، المُعْرِض عن غير الله. الفائدة الخامسة: بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن دِين إبراهيم ودين محمد -صلى الله عليهما وسلم- هو الحنيفية، وكذلك بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه بُعِث بذلك، وذكر أنه بعثت بالحنيفية السمحة، وذلك هو الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها، كما قال -عز وجل-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، والحنيفية قائمة على توحيد الله -عز وجل- وإفراده بالربوبية والربوبية، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وحقوقه على العباد، وحبه -عز وجل- والميل إليه وإرادته، وأما ذِكْر السماحة في الحديث الحسن؛ فهو إشارة إلى الأخلاق السهلة، والسهولة التي في التشريعات، فالله -عز وجل- لم يجعل علينا في الدِّين من حَرَج، وشرع لنا أنواعَ التيسير؛ بما في ذلك الإذن باللهو واللعب المباح في أيام العيد، وأيام التشريق، ونحو ذلك. الفائدة السادسة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 79)، فيه تأكيد البراءة من الشرك، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مشركًا، ولا يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين، والبراءة من الشرك أساس ثبوت لا إله إلا الله؛ وإلا فمَن لم يتبرأ من المشركين، بل عَدَّ الشرك كالإسلام، وسَوَّى بين الملل الكافرة وبين ملة الإسلام؛ فهو لم يعرف ملة الإسلام، وقد قَدَح ذلك فيها، ففي هذا هدم لما يسمونه: "الدين الإبراهيمي الجديد"؛ القائم على مساواة الملل؛ خاصة اليهودية والنصرانية، ثم يتوسَّعون بعد ذلك في البوذية والهندوسية، وغير ذلك، وهي بدعة شركية ضلالة في النار، لا يقول بها مسلمٌ. والحمد لله على هدايته لعباده المؤمنين، نسأل الله أن يجعلنا منهم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (125) عقوبة الله -عز وجل- لقوم إبراهيم لما كَذَّبوه كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة: 70). لم يذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه عقوبة قوم إبراهيم لما كَذَّبوه؛ إلا في هذا الموضع، والله أعلم. والله -عز وجل- قد ذكر عقوبة المكذبين إجمالًا في مواضع متعددة من كتابه، وأما إهلاك قوم إبراهيم فلم يذكره تفصيلًا، وذكره هنا في هذا الموضع إجمالًا، وأكثر المفسرين يذكرون إهلاك الملك النمروذ -الذي حَاجَّ إبراهيم في ربِّه-؛ بعضهم ذكر ذلك بالبعوضة التي دخلت في أنفه حتى دخلت في دماغه، فظل يُضرب بالمطارق حتى هلك مِن شدة الألم، وبعضهم يذكر هلاكه دون تفصيل، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة خبر ينبئنا عن كيفية هلاك النمرود. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- واعظًا لهؤلاء المنافقين المكذِّبين للرسل: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: ألم تخبروا خبر مَن كان قبلكم مِن الأمم المكذبة للرسل؛ قوم نوح وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض؛ إلا مَن آمن بعبده ورسوله نوح -عليه السلام-. وعاد كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذَّبوا هودًا -عليه السلام-، وثمود كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحًا -عليه السلام- وعقروا الناقة، وقوم إبراهيم كيف نصره الله عليهم وأيَّده بالمعجزات الظاهرة عليهم، وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني -لعنه الله-، وأصحاب مدين -وهم قوم شعيب عليه السلام- وكيف أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة. (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ): قوم لوط، وقد كانوا يسكنون في مدائن -(قلتُ: أي: كانوا ثلاث قريات، وبذلك جمعت)-، وقال في الآية الأخرى: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (النجم: 53) أي: الأمة المؤتفكة. وقيل: أم قراهم، وهي "سدوم". والغرض: أن الله -تعالى- أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطًا -عليه السلام-، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين. وقوله: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالحجج والدلائل القاطعات، فما كان الله ليظلمهم، أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي: بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار" (انتهى من تفسير ابن كثير). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: قد جعل الله -عز وجل- عاقبة تكذيب الرسل، العذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ قال الله -عز وجل-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . ?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-125)، وقال -عز وجل-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55)، وقال -عز وجل-: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة: 101). وكل هذه الأدلة تدل على عذاب أهل الكفر والنفاق، والتكذيب للرسل، ومهما رأى الناس مِن نعيمهم الدنيوي، وكثرة أموالهم وسلطانهم ولذاتهم؛ فهم لا يدرون حقيقة تعاستهم؛ ولذا قال -سبحانه وتعالى- في جواب أهل العلم والإيمان للمغرورين مِن قومهم في قصة قارون؛ قال -تعالى-: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (القصص: 79-81). وما يراه الناس في واقع الحياة اليوم مِن كثرة مُتَع أهل الكفر في الغرب وفي الشرق؛ مما يطلب الناس لأجله الفرار والهجرة إليهم، مع أن ذلك يغلب عليه ضياع الدِّين؛ إما لهؤلاء لمهاجرين، وإما لذرياتهم مِن بعدهم، وما ذلك إلا للغرور الذي يحصل لهم بسبب اللذات الوهمية التي يرونها، مع أن هذه اللذات فيها مِن النكد والغم، وما يعقبها مِن أنواع الآلام؛ بسبب الأمراض، أو بسبب المصائب أو بسبب الاكتئاب الفظيع الذي أدَّى بكثيرٍ منهم إلى الانتحار؛ ما لا يراه الراغبون في مخالطة هؤلاء والهجرة إليهم؛ فليحذر المؤمن على نفسه من مخالطة هؤلاء المعذبين في دنياهم قبل أخراهم. الفائدة الثانية: الله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة، قال -سبحانه-: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فالله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وهذا من مقتضى عدله وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا بَيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا يظلم الناس، وهي: الفائدة الثالثة: قوله -سبحانه-: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فالله -عز وجل- مُنَزَّه في كمال عدله عن الظلم، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40)، وقال -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) (رواه مسلم). والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس كما يقول البعض من المتكلمين: أنه التَّصَرُّف في غير ملكه؛ ولذا جعلوا الظلم مستحيلًا بذاته في حق الله -سبحانه وتعالى-، وظاهر الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) أنه مُنَزَّه -سبحانه وتعالى- عن فعله مع قدرته عليه، ولكنه لا يفعله؛ لأن كمال عدله ينافي أن يظلم؛ ولذا فإنه -سبحانه وتعالى- لا يعذِّب الناس إلا على أعمالهم، كما في هذا الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)، فلا يُعَذَّب أحدٌ إلا بذنبٍ عمله بإرادته وقدرته التي خلقها الله له، ولا يجوز في حقه -سبحانه وتعالى- أن يعذب الأنبياء والملائكة والطائعين، وينعِّم الكفار والزنادقة والملحدين، والفاسقين والظالمين؛ بحجة أنه يتصرف في ملكه كما يقول الأشاعرة! بل هو -سبحانه وتعالى- لا يفعل ذلك؛ لكمال حكمته -سبحانه-. والحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، لا يعني أن الله يمكن أن يعذِّبَ المطيعين على طاعتهم؛ خاصة الأنبياء والملائكة الذين عصمهم الله مِن معصيته، وهم لو عصوا على مذهب مَن يُجَوِّز الصغائر عليهم؛ فإنهم يتوبون إلى الله، ولا يصرون عليها على قول جميع العلماء، وهذا لا يعذِّب الله -عز وجل- به، وإنما معنى الحديث: أن الله لو أراد أن يعذبهم لجعلهم يفعلون ما يستحقون به العذاب، فيعذبهم وهو غير ظالم لهم، كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)، وقال -عز وجل-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 73-75). فالله لا يعذِّب أحدًا إلا بعمل، أو قول، أو اعتقاد عمله بقدرته وإرادته التي خلقها الله له؛ ولذا قال الله -عز وجل-: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)؛ فهم لا يعذَّبون إلا على ظلمهم لأنفسهم، وليس على مجرد إرادة الله أن يعذبهم دون عملٍ منهم، فإن هذا لا يكون، ولا يقع؛ لأن الله -تعالى- لا يريد ذلك؛ لكمال علمه وكمال عدله، وكمال حكمته. والله أعلم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (126) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). إن قضيةَ الاستغفار والتَّرَحُّم على الكفار بعد موتهم؛ خاصة إذا كانوا أقارب، أو ممَّن قدَّم شيئًا لخدمة الإسلام أو الأوطان، أو حتى لمجرد المجاملة؛ مِن أهم قضايا الولاء والبراء التي شغلتِ الصحابة قديمًا، ولا تزال تشغل المجتمعات، والجماعات الإسلامية، ومراكز الفتوى حديثًا؛ خصوصًا مع اختلاط المفاهيم، وتداخل مسائل المعاملة بالبرِّ والقسط مع مسائل الولاء والبراء والاعتقاد، بل قد صارتْ مسألة مساواة الأديان، بل وحدتها مما يعتقده كثيرٌ مِن الناس، وكثير منهم ينتسِب إلى الإسلام اسمًا، وكثر الجهل وعظمت البدع الكفرية؛ فضلًا عما دونها في هذا الباب حتى اختلط الأمر على كثيرٍ مِن الناس، فلم يدروا ما الحق مِن الباطل في هذه القضية! والقرآن دائمًا فيه الحياة للقلوب من موتها بالجهل والكفر، وشفاؤها من أمراضها، ونورها من ظلمات الكفر والظلم والجهل. وفيه: بيان الأسوة الحسنة للمؤمنين في أنبياء الله -سبحانه وصلواته عليه وسلامه أجمعين-، وخاصة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ أبو الأنبياء مِن بعده، وأكثرهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا لقضية البراءة من الشرك، فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي الواجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين مِن حرمة الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربًا، ثم بيان شبهة البعض لاستغفار إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبيه. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "روى الإمام أحمد: عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: (أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ بِهَا لَكَ عِنْدَ اللهِ)، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! قَالَ: فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص: 56). أخرجاه -أي: البخاري ومسلم في الصحيحين-. وروى الإمام أحمد بسنده عن علي -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: أَيَسْتَغْفِرُ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) إِلَى قَوْلِهِ: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) (التوبة: 113 - 114)، قَالَ: (لَمَّا مَاتَ). فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث: (لَمَّا مَاتَ). قلتُ: هذا ثابت عن مجاهد أنه قال: لمَّا مَات. وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ؟ قَالَ: (إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ لِتُذَكِّرَكُمْ زيارتُها خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فِي الْأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِي أَيِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا). وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا: يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت. قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ (قلتُ: الظاهر أنه يقصد لما كان في طريق قدومه لمكة؛ لأن آمنة بنت وهب ماتت بين مكة والمدينة). وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ فقلنا: بكينا لبكائك. قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي. ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبًا منه، وفيه: "وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل عليَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)، فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة". حديث آخر في معناه: رواه الطبراني بسنده، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثَنِيَّةِ عُسْفان أمر أصحابه: أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر أمه، فناجى ربه طويلًا، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا: ما بكى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا: لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه. قال: لا وقد كان بعضه، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا؛ فرفع عنهم اثنتين، وأَبَى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وألا يلبسهم شيعًا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج. وإنما عدل إلى قبر أمه؛ لأنها كانت مدفونة تحت كَدَاء وكانت عُسْفان لهم. قال: وهذا حديث غريب وسياق عجيب (قلتُ: حديث ضعيف منكر، لا يصح). وأغرب منه وأشد نكارة: ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب: "السابق واللاحق" بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة: أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت. وكذلك ما رواه السهيلي في "الروض" بسندٍ فيه جماعة مجهولون: أن الله أحيا له أباه وأمه؛ فآمنا به! وقد قال الحافظ ابن دحية: "هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع؛ قال الله -تعالى-: (وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (النساء: 18)". وقال أبو عبد الله القرطبي: إن مقتضى هذا الحديث... ورد على ابن دحية في هذا الاستدلال بما حاصله: أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عليٌّ العصر، قال الطحاوي: وهو حديث ثابت، يعني: حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما يمتنع عقلًا ولا شرعًا، قال: وقد سمعتُ أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به. قلتُ: وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح؛ فلا مانع منه. والله أعلم" (انتهى من تفسير ابن كثير). ولا شك في بطلان الأحاديث الواردة في إحياء والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبطل منها عمه؛ فهذا لا يصح ولا يثبت، بل ثبت النهي عن الاستغفار ولم يثبت خلافه، وثبت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي سأله: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم). ووجه ذلك: أنهم قد بلغتهم رسالة من رسالات الأنبياء، ودعوة التوحيد والحنيفية؛ فقد بلغتهم دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ودعوة موسى، ودعوة عيسى على التوحيد؛ فلم يكونوا معذورين. والله أعلى وأعلم. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (127) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: إن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه، فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) الآية. (قلتُ: إسناده ضعيف عن ابن عباس، وفيه غرابة؛ إذ فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي استدل باستغفار إبراهيم لأبيه ليستغفر لأمه، بل نكارة). وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية. (قلتُ: وهذا هو الصحيح في المسألة؛ جواز الاستغفار للأحياء من الكفار إذا كان لهم إحسان إلى مسلم، أو هناك مصلحة في هدايتهم للإسلام؛ لأن معنى الاستغفار للكافر وهو حي؛ أن يتوب الله -عز وجل- عليه فيسلم، وهذا الذي فعله إبراهيم حتى مات أبوه على الكفر، فهنا تبرأ منه). وقال قتادة في هذه الآية: ذُكِر لنا أن رجالًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا نبي الله، إن مِن آبائنا مَن كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه. فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) حتى بلغ قوله: (الْجَحِيمِ)، ثم عذر الله تعالى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية. قال: وذُكِر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قد أوحى الله إليَّ كلمات، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي؛ أمرتُ ألا أستغفر لمن مات مشركًا، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له، ومَن أمسك فهو شر له، ولا يلوم الله على كفافٍ. (قلتُ: إسناده ضعيف، والحديث مرسل). وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذُكِر ذلك لابن عباس فقال: فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا، فإذا مات وَكَلَه إلى شأنه ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) لم يَدْعُ. ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال: لما مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره ولا تحدثن شيئًا حتى تأتيني، فذكر تمام الحديث. (قلتُ: حديث حسن، وهذا يدل على الإحسان إليه حال حياته، والدعاء له بالصلاح، فإذا مات ولم يوجد غيره يدفنه في غير مقابر المسلمين وجب عليه دفنه؛ لأن دفن الآدمي واجب أيًّا مَن كان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى قتلى المشركين في بدر في قليب، وطمره عليهم، فمواراة الأدمي من شريعة آدم -عليه الصلاة والسلام- كما دَلَّت عليه قصة الغراب، فالميت سوأة ولا بد أن يُوارَى ولو كان مشركًا، وأما إن كان على أهل ملته مَن يقوم بمواراته ودفنه، فلا يشهد المسلم الجنازة، ويتركه وشأنه كما قال ابن عباس). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّت به جنازة عمه أبي طالب قال: وصلتك رحم يا عمِّ. وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحدٍ من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حُبْلَى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). وروى ابن جرير، عن ابن وكيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلًا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت: ولأبيه؟ قال: لا. قال: إن أبي مات مشركًا. وقوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ): قال ابن عباس: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله. وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله. وقال عبيد بن عمير، وسعيد بن جبير: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة (قلتُ: أي: تغير في الوجه، وغبار أسود)، فيقول: يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول: أي ربي، ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي: قد مسخ ضَبْعًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار. (قلتُ: والحديث في الصحيح، ومعنى متلطخ أي: بعذرته وفضلاته؛ لكي لا يتألم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من منظر أبيه الذي يعرفه معذبًا). وقوله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ): قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الأواه: الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود. (قلتُ: الدَّعَّاء: كثير الدعاء، الخاشع المتضرع لله -عز وجل-، وهذا ثابت عن ابن مسعود -رضي الله عنه-). وروى ابن جرير بسنده عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، قال رجل: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: المتضرع، قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (قلتُ: مرسل، وشهر بن حوشب ضعيف). ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بهرام، به، قال: الأواه: المتضرع: الدَّعَّاء. (قلتُ: معناه ثابت موقوفًا؛ لأن الدعاء هو بالتضرع، كما قال الله -عز وجل-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) (الأعراف: 55)، فالثابت موقوفًا يغني عن هذا الضعيف المرفوع، وربما يُقَال: يقويه بعض التقوية). وقال الثوري عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال: هو الرحيم. وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحسن البصري، وقتادة: أنه الرحيم، أي: بعباد الله. وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الأواه: المُوقِن بلسان الحبشة (قلتُ: أي: مما اشترك فيه اللسان العربي واللسان الحبشي)، وكذا قال العوفي، عن ابن عباس: أنه الموقن. وكذا قال مجاهد، والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس: الأواه: المؤمن. زاد علي بن أبي طلحة عنه: والمؤمن التَّوَّاب. وقال العوفي عنه: هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج: هو المؤمن بلسان الحبشة) (انتهى من تفسير ابن كثير). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (128) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال أحمد عن عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يُقَال له: "ذو البِجادين": إنه أواه"، وذلك أنه رجل كثير الذِّكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء. رواه ابن جرير. (قلتُ: إسناده ضعيف). وقال سعيد بن جبير، والشعبي: الأواه: المسبِّح. وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لا يحافظ على سُبْحة الضحى إلا أواه. وقال شفي بن ماتع، عن أيوب: الأواه: الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وعن مجاهد: الأواه: الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرًّا، ثم يتوب منه سرًّا. ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم -رحمه الله-. وروى ابن جرير: عن الحسن بن مسلم بن يَنَاق: أن رجلًا كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنه أواه". (قلتُ: إسناده ضعيف). وروى أيضًا بسنده عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن ميتًا، فقال: "رحمك الله إن كنت لأواهًا" يعني: تلاءً للقرآن (قلتُ: وفيه حجاج بن أرطأة مدلس وقد عنعنه، فالإسناد ضعيف). وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلًا بمكة -وكان أصله روميًّا، وكان قاصًّا- يحدث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: "أوه أوه"، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه أواه"، قال: فخرجتُ ذات ليلة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدفن ذلك الرجل ليلًا ومعه المصباح. هذا حديث غريب رواه ابن جرير. (قلتُ: هذا حديث ضعيف لجهالة هذا الرجل، ولا يشرع أن يقول الإنسان أوه أوه من غير ذكر آخر. والله أعلى وأعلم). وروي عن كعب الأحبار أنه قال: سمعتُ إن إبراهيم لأواه، قال: كان إذا ذكر النار قال: "أوه من النار". وقال ابن جريج عن ابن عباس: إن إبراهيم لأواه، قال: فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير: وأولى الأقوال قول مَن قال: إنه الدَّعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله -تعالى- لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليمًا عمن ظلمه وأناله مكروهًا؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46، 47)، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا واستغفر؛ ولهذا قال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)". (قلتُ: مع أن ابن جرير -رحمه الله- رجَّح أنه الدَّعَّاء كثير الدعاء؛ إلا أنه ذكر في لوازم ترجيحه ما يجمع الأقوال المختلفة، فالظاهر جمع هذه الأقوال؛ قال ابن جرير -رحمه الله-: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زِرٌ أنه الدعاء، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله ذَكَر ذلك ووصف به إبراهيم خليله -صلوات الله عليه- بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وَتَرَكَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِبْرَاهِيمَ لَدَعَّاءٌ رَبَّهُ، شَاكٍ لَهُ، حَلِيمٌ عَمَّنْ سَبَّهُ وَنَالَهُ بِالْمَكْرُوهٍ، وذلك أنه -صلوات الله عليه- وَعَد أباه بالاستغفار له ودعاء الله له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم -يقصد الرجم؛ لأنه رجَّح أنَّ (لَأَرْجُمَنَّكَ) هي لأشتمنك- بعد ما رَدَّ عليه نصيحته في الله، وقوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم: 46)، فقال له -صلوات الله عليه-: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 48)، فوفَّى لأبيه بالاستغفار له حتى تبيَّن له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دعاء لربه حليم عمن سفه عليه. وأصله من التأوه وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق. وذكر حديث عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يقال له ذو البجادين: "إنه أواه!"، وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ويرفع صوته؛ ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لِمَ تتأوه؟ كما قال الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ: إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ ضَرُوحٌ مَرُوحٌ تَتْبَعُ الْوُرْقَ بَعْدَ مَا يُعَرِّسْنَ تَشْكُو آهَةً وَتَذَمُّرَا فَأَوَّهْ مِنَ الذِّكْرَى إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ ولو جاء فعل منه على الأصل لكان: آهَ يَئُوهُ أَوَّهَا؛ ولأن معنى ذلك: توجع وتحزن وتضرع؛ اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال مَن قال معناه الرحمة: أن ذلك كان مِن إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس. وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة الله وتواضعه له. وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل أحد الذي أُنزِل عليه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر ربه. وكل ذلك عائد إلى ما قلتُ، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض؛ لأن الحزين المتضرع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وَجَّه المفسِّرون إليها تأويل قول الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)" (انتهى كلام ابن جرير). قلتُ: وهذا يدل على أنه رَجَّح التلازم بين المعاني المذكورة، وأن الدَّعَّاء في الحقيقة لا بد أن يكون مؤمنًا موقنًا رحيمًا ذاكرًا متضرعًا لله -سبحانه وتعالى-، وكثير الذكر، وكذا كثير التسبيح، فكل هذه المعاني ثابتة متلازمة؛ فهذا ترجيح ابن جرير، والله أعلى أعلم. وفي الآيات فوائد نذكرها في المقال القادم -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (129) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (4) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). في الآيات فوائد: الأولى: إن من أعظم معاني البراء من الكفار تكفيرهم، واعتقاد هلاكهم وخلودهم في النار أبد الآبدين، طالما ماتوا على الشرك بعد بلوغ الحجة الرسالية، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72). والآيات في هذا أكثر مِن أن نحصيها في هذا الموضع، وهذا الاعتقاد يستلزم قطعًا عدم الاستغفار لهم والترحم عليهم، وهذه المسألة قطعية مجمع عليها، لا نزاع فيها بين أهل العلم، وإنما خالف في ذلك مبتدعة زماننا، وبعضهم بدعته مكفِّرة؛ إذ يعتقدون الإيمان لأهل الكتاب ودخولهم الجنة، ووصفهم بالشهادة، وبعضهم يزعم أنهم ممَّن أحيا الله -عز وجل- بهم الدِّين! وبعضهم يعتقد ذلك في غيرهم مِن: الهندوس، والبوذيين، حتى الملاحدة؛ رغم معرفتهم بتكذيبهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-! وهذا قادح في أصل الشهادتين؛ إذ إن تجويز عبادة غير الله: كالمسيح وأمه، أو عزير؛ فضلًا عن بوذا، أو براهما، أو البقرة، أو الأوثان، أو الإلحاد، أو عبادة الشيطان؛ فذلك كله قدح في شهادة: "أن لا إله إلا الله"، وتجويز وتصحيح ملة مَن كَذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قادح في شهادة: "أن محمدًا رسول الله"، وهما أعظم انتشارًا والعلم بهما حاصل للمسلمين والكفار، فلا حاجة لإقامة الحجة على الشهادتين إذ هما أصل الدِّين، وانتشارهما أعظم من انتشار الآيات، وبفقدهما يُفقَد أصل الإيمان بلا نزاع بين المسلمين، بل حتى لو كان معذورًا في كونه لم تبلغة الحجة الرسالية فلم يشهد: "أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"؛ فليس معه أصل الدِّين، بل يكون ممتحنًا يوم القيامة، أما أن تبلغه الحجة الرسالية ويبلغه لا إله إلا الله، وتبلغه بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيكذِّب أو يشك أو يأبى؛ فإن ذلك متفقٌّ على كفره بين المسلمين، لا نزاع بينهم في ذلك، بل المُنَازِع في ذلك ليس بمسلم. وأما مَن يجوِّز الترحم أو الاستغفار دون أن يحكم بإيمانهم، ولكن إما مجاملة ومداهنة في الدِّين، وقد قال -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (لقلم: 9)، وإما بدعوى شمول الرحمة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- للعالمين، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وهذا والله العجب! فالله أرسله رحمة للعالمين بلا شك، فمَن قَبِل هذه الرحمة رُحِم، وأما مَن رَدَّها وكَذَّب بها وأبى أن يقبلها؛ فكيف يكون مرحومًا؟! أما قوله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156-157) وقد بَيَّن الله -سبحانه وتعالى- لمَن يكتب رحمته في الآخرة؛ فكيف يُكتَم نصف الآية ويُستدَل بنصفها الأول دون استكمالها؟! فهذا أشبه بمَن يقول: إن المصلين معذبون محتجًا بقوله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون: 4)، ولا يقرأ: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 5-7). وقد قرأتُ عجبًا لبعضهم؛ يجوز الترحم، ويمنع من الاستغفار، وهو مِن أعظم الجهل؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، وهي ستر الذنب وعدم المعاقبة عليه، فإذا مُنِع من الاستغفار فالمنع من الرحمة أشد؛ لأنها تُثبِت حصول الخير والنعيم، وليس فقط عدم العقوبة. قال النووي -رحمه الله- في كتاب "الأذكار": "يحرمُ أن يُدعى بالمغفرة ونحوها لمَن مات كافرًا، قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، وقد جاء الحديث بمعناهُ، والمسلمون مجموعون عليه". وقال أيضًا في كتاب المجموع شرح المهذب (5 /144): "وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، فحرام بنصِّ القرآن والإجماع". وقال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله-: "وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع؛ فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم، مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهًا، فلا شفيع أعظم من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ثم الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال -تعالى- عنه: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 41)، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه؛ فأنزل الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، ثم ذَكَر الله عذر إبراهيم -عليه السلام- فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ . وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التوبة: 114-115) (قلتُ: الظاهر من الأدلة: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استغفر لعمه أبي طالب؛ لأنه قال: (أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) (متفق عليه)، ونزول آية النهي متأخر عن وفاة أبي طالب بسنوات، فإن آية النهي عن الاستغفار مدنية في سورة التوبة، وهي من آخر ما نزل بالمدينة، وأبو طالب مات بمكة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، بعد أن ذكر حديث أبي هريرة في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ... ) الحديث، وقد مضى ذكره-، قال: فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عِظَم جاهه وقَدْرِه، وقد قال -تعالى- للمؤمنين: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5)؛ فقد أمر الله -تعالى- المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومَن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وكذلك سيد الشفعاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لِي)" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا شيخ الإسلام: "فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع" (مجموع الفتاوى). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (130) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (5) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الثانية: قال القرافي في حكم مَن يطلب المغفرة للكافر: "اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله -تعالى- له حكم باعتبار ذاته، من حيث هو طلب من الله -تعالى-، وهو الندب؛ لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه، وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه؛ فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه أو يحرِّمه، والتحريم قد ينتهي للكفر، وقد لا ينتهي: فالذي ينتهي للكفر أربعة أقسام: القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دَلَّ السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته، وله أمثلة: الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب مَن كفر بك، أو اغفر له! وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممَّن مات كافرًا بالله -تعالى-؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء: 48)، وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرًا؛ لأنه طلب لتكذيب الله -تعالى- فيما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر" (انتهى من الفروق). وقال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107): "وأصح القولين أنه على عمومه، وفيه على هذا التقدير وجهان: أحدهما: أن عمومَ العالمينَ حصل لهم النفعُ برسالتِه؛ أما أتباعُه فنالوا بها كرامةَ الدنيا والآخرة. وأما أعداؤُه المحاربون له، عُجِّل قتْلُهم، وموتُهم خيرٌ لهم من حياتهم؛ لأن حياتَهم زيادةٌ لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كُتِب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خيرٌ لهم من طُولِ أعمارهم في الكفر. وأما المعاهِدُون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرًّا بذلك العهْد من المحاربين له. وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقنُ دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث، وغيره. وأما الأمم النائية عنه؛ فإن الله -سبحانه- رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته. الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها؛ فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض" (انتهى من جلاء الأفهام). وقال عقيل بن عطية القضاعي في بيان تحريم الدعاء للكافر بالرحمة والمغفرة: "وأما إذا مات الكافر على كفره فلا يجوز الاستغفار له، فإنه لا يغفر له أصلًا؛ لأنه قد سَدَّ على نفسه بالكفر باب الرحمة الموجبة للمغفرة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ? وقال -تعالى- في مَن يُسِر الكفر: (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (المنافقون: 6)، وقال -تعالى-: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38)، فعلَّق المغفرة للكفار بالانتهاء عن الكفر، ولا يكون الانتهاء عن الكفر إلا بالإيمان ولا بد، فرجعت المغفرة إلى أصلها الذي قررناه في أهل الإيمان" (انتهى من كتابه: تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلَّفين في العقبى والمآل). وأما تقييدنا في عذاب الكفار ببلوغ الحجة الرسالية؛ فقد بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع من كتابه؛ لقول الله -عز وجل-: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165)، وقوله -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19). وقد نقل ابن حزم عقيدةَ أهل السنة في عُذْر مَن لم تبلغة الحجة الرسالية. وقد بيَّن الغزالي في الاقتصاد مثل هذا المعنى، في الباب الرابع في بيان مَن يجب تكفيرة مِن الفِرَق، فقال: "والأصل المقطوع به: أن كلَّ مَن كذَّب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر، أي: مُخلَّدٌ في النار بعد الموت، ومستباحُ الدم والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب: الرتبة الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان، وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب، ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل، وما عداه كالملحق به... وقال: بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان -أي في زمانه- تشملُهم الرحمة -إن شاء الله -تعالى-؛ أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول: لم يبلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، فهم معذورون. الصنف الثاني: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار المُخلَّدُون. وصِنْفٌ ثالث بين الدرجتين: بلغهم اسم مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبلُغهُم مبعثُه، ولا صفته، بل سَمِعوا منذ الصبا أن كذابًا ملبِّسًا اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له: المقنع تحدَّى بالنبوة كاذبًا؛ فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا صفته سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرِّك داعية النظر والطلب" (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة). قال ابن حجر الهيتمي: "فانظر كلامَهُ تجده إنما عَذَرَهم لعدم بلوغ دعوته -صلى الله عليه وسلم- لهم. (الإعلام بقواطع الإسلام). قلتُ: (هذا الكلام إنما هو فيمَن لم تبلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى لا إله إلا الله، وأنه رسول الله؛ فأما مَن بلغته: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإنه بنصِّ الحديث معذَّب؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). ثم إن كلام الغزالي -غفر الله له- في أنهم مرحومون مطلقًا ليس بصحيح، فإن الأحاديث ثبتت بوجوب اختبارهم يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ؛ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونَنِي بِالْبَعَرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا) (رواه أحمد، وابن حبان، وصححه الألباني)، وهذا الحديث يدل على أن بعضهم يُرحَم إذا استجاب يوم القيامة وبعضهم يعذَّب؛ لأنه أَبَى أن يمتثل أمر الرسول الذي أرسل إليه في عرصات القيامة فيسحب إلى النار -والعياذ بالله-. وهذه المسألة حدثت بسببها أنواع من الاضطراب عند المعاصرين لجعلهم أهل أوروبا وأمريكا، والشرق والغرب، ممَّن لم تبلغهم الدعوة، وظنوا أن التفصيل في بلوغ رسالة الإسلام ومحاسنه ومعجزات النبوة كاملة، لا بد أن تصل إليهم حتى يكونوا معذَّبين، وليس الأمر كذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قاتلوا الأمم بمجرد أن يدعوهم إلى شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ومَن سأل عن الحجة بُيِّنت له، وأما من أبى وأعرض وقلَّد سادته وكبراءه في الكفر والتكذيب بعد أن بلغته المسألتان العظيمتان: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فهو معذَّب بلا شك مات كافرًا، وهؤلاء هم "الطبقة السابعة عشرة" من مقلدي الكفار الذين ذكرهم ابن القيم في طبقات المكلفين في "طريق الهجرتين"، وفي "حادي الأرواح". وقد قال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105). فالمُقَلِّدون في الكفر، المُعرِضون عن البحث عن الحجج بعد بلوغ "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" كفار معذبون مخلدون في النار، ولا تلتفت إلى سقطات بعض المعاصرين في ذلك مهما كانت منزلتهم وفضلهم؛ فإن المسألة لا نزاع فيها). |
الساعة الآن : 03:57 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour