ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=235072)

ابوالوليد المسلم 07-12-2020 10:33 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى الآيات
والآن مع الشرح الكامل الوافي لهذه الآيات لنزداد إن شاء الله يقيناً بما علمنا.قال: [ معنى الآيات: صح] أي: ثبت في الصحيح [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب] ما في ذلك شك [وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: ( كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ ) فأنزل الله تعالى عليه قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]] لا أمر تعذيب ولا أمر هداية [أي: فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم، أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون.قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] ملكاً وخلقاً، يتصرف كيف يشاء، ويحكم ما يريد، فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بمن أناب. هذا ما تضمنته الآيتان الأوليان. وأما الآية الثالثة فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين ] ومن قال نادى هؤلاء المنافقين فكلامه باطل، بل نادى المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال: يا أيها الذين آمنوا [ بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام، بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به ]، فقد كانوا يأكلونه والله العظيم! بل كانوا يتعاملون به كذا سنة بعد دخولهم في الإسلام، إذ ما حرم الربا إلا في المدينة بعد كذا سنة، وذلك لما تهيئوا للامتثال والطاعة، ولقوة إيمانهم بالله تعالى، ناداهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130]، قال: [ فناداهم بأن يتركوا أكل الربا، وكل تعامل به -ولو ما يؤكل- فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130]، أي: بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله، ولم يجد ما يسدد به، فيأتي إلى دائنه ويقول: أخر ديني وزد علي، وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعدما كان عشراً عشرين أو ثلاثين، وهذا معنى قوله تعالى: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].ثم أمرهم بتقواه عز وجل، وواعدهم بالفلاح -إن هم اتقوه- فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: كي تفلحوا ]، والفلاح: أن تزحزح بعيداً عن عالم الشقاء وتدخل الجنة دار السلام، هذا هو الفلاح، لا ربح تجارة ولا وظيفة ولا شاة أو بعير، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]؛ لأن تقوى الله معناها: فعل المأمور، والمأمور لما يفعله العبد بشروطه فإنه يزكي نفسه ويطيبها ويطهرها، وإذا اجتنب المنهي يبقى ذلك الطهر كما هو، بل ينمو ويزيد؛ لأن من اغتسل ثم صب على رأسه بولاً ووسخاً هل انتفع بذلك؟! لا، إذاً لا بد أن يحافظ على ذلك الطهر، وفي هذا حكم صادر عن الله عز وجل على الإنس والجن، ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: نفسه، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10] أي: نفسه، والتزكية تكون بفعل الطاعات، والتدسية تكون بفعل المحرمات، فالماء والصابون يطهران الأنجاس، والبول والعذرة يوسخان الأبدان، وهذه سنة الله عز وجل، والعجب كيف يجهل المؤمنون هذا؟! لا عجب؛ لأنهم ما سمعوا هذا الكلام أبداً، فالقرآن يقرءونه على الموتى! أما الأحياء فلا.قال: [ قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] أي: كي تفلحوا بالنجاة من العذاب، والحصول على الثواب وهو الجنة ] دار السلام، جعلنا الله من أهلها.قال: [ وفي الآية الرابعة أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين، فهي مهيأة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131] ] فمن هم الكافرون؟ أبو جهل؟ قال: [ أي: المكذبين الله ورسوله، فلذا لم يعملوا بطاعتهما؛ لأن التكذيب مانع من الطاعة ] أي: هذه النار للكافرين؛ لأنهم كذبوا فلم يعملوا بما يزكي أنفسهم، ولم يتخلوا عما يدسيها، فبُعثوا وأنفسهم خبيثة كأرواح الشياطين، وبالتالي كيف يدخلون دار السلام؟! مستحيل! قال: [ وفي الآية الأخيرة أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة ]، وقد بينا كيف نحصل على رحمة الله فقلنا: أن يعيش المسلمون على قلب رجل واحد، متعاونين متحابين متناصحين، أطهاراً أصفياء أنقياء، لا خبث ولا ظلم ولا شر، لا فساد ولا خلف للوعد، لا كذب ولا حسد ولا بغضاء، كأنهم أسرة واحدة، فأية رحمة أعظم من هذه؟! وإذا كانوا هكذا انتفى شيء اسمه عذاب بينهم أبداً، ووجدت الرحمة في الدنيا، وعزوا وسادوا وقادوا البشرية أيضاً، ثم في الآخرة بدخول الجنة دار السلام.قال: [ وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية، فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة، فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] ]، والرماة الذين أمرهم ونصبهم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الجبل كانوا خمسين رامياً، وقد أوصاهم ألا يبرحوا أماكنهم، لنا أو عليهم، وبعد لما شاهدوا الانتصار وفر المشركون، فتركوا أموالهم، والنساء مشمرات على خلاخلهن، هبطوا يجمعون المال، فرأى خالد خلو الساحة أو المركز القوي فاحتله برجاله، وصبوا على المسلمين الحِمم، فكانت الهزيمة النكراء بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصية الرسول أثرت في أصحاب الرسول، أما نحن فلا! فنعصي كثيراً ومتى ما أردنا، وبالتالي فمن أولى بالهزيمة نحن أم هم؟ نحن والله، ولهذا نحن مهزومون اليوم، فأذل الخلق اليوم المسلمون، بل والله أذل من اليهود! أبعد هذا نطلب بياناً؟! ما السبب؟ إنها معصية الله ورسوله، وهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا، فلو تابوا وأطاعوا الله والرسول، خلال أربعة وعشرين ساعة وهم أعز العالم، والدنيا تضطرب لكلمة: الله أكبر!قال: [ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: كي يرحمكم، فيتوب عليكم ويغفر لكم، ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم ].الآن استقر معنى الآيات الخمس في نفوسنا إن شاء الله، وهذا خير من خمسين كيلو غراماً من الذهب! ووالله إن الذي وعي هذه الآيات وفهمها وعمل بها لخير له من خمسين قنطاراً من الذهب! أو من بنوك أمريكا وأوروبا.
هداية الآيات
الآن مع هداية الآيات الخمس، إذ لكل آية هداية ورب الكعبة، وكل آية تهدي إلى دار السلام والبعد عن دار الشقاء والبوار، وكل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهل يعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟! ثم هذه الآية من تكلم بها؟ من أنزلها؟ من أوحى بها؟ من قالها؟ الله، إذاً الله موجود، وبالتالي كيف يُنكر أو يكذب به؟! إن هذه الآية من الله على من نزلت؟ على العجائز في القرية؟! على التجار؟! على من؟ اختار الله من البشرية كلها رجلاً واحداً، وهيأه ليوحيَ إليه بها، فمستحيل أن يكون محمداً غير رسول الله! وكيف يوحي إليه وينزل عليه كلامه ولا يكون رسولاًً؟! من ينفي هذا مجنون أو لا عقل له، إذاً كل آية تحمل هذا الهدى. قال: [ من هداية الآيات:أولاً: استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ]، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].فإن قال قائل: يا شيخ! ها نحن عندنا أمور نتصرف فيها فكيف ذلك؟ أقول: قد أذن الله لنا فيها، ولو ما أذن لنا فيها فلا يجوز، فالآن أنت تركب سيارة تسرقها؟ يجوز ذلك؟! حرام، أو تشرب شراباً محرماً، هل يجوز لك ذلك؟ لا؛ لأنه ما أذن، ولذلك نأكل أو نشرب أو ننكح أو نلبس في المأذون فيه، أما غير المأذون فيه فحرام وأهله عصاة مجرمون. [ استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه -حتى ولو كان جبريل أو محمد رسول الأولين والآخرين- تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ] بالتصرف، وهذا أخذناه من قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].[ ثانياً: الظلم ]، والظلم يا عبد الله! يا أمة الله! وضع الشيء في غير موضعه، فلو أن أحدكم نام في وسط الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للنوم، وأفظع من هذا أن يتبول في المسجد، فكذلك الذي يركع ويسجد لغير الله؛ لأن الركوع والسجود لا يستحقهما إلا الخالق الرازق، فإذا سجد لـعبد القادر وانحنى أمام إدريس فهذا ظلم، ولهذا فإن الشرك أفظع أنواع الظلم؛ لأن ظلمي لك بسبك أو شتمك أو أخذ ريالك أو الاعتداء عليك هو ظلم بيني وبينك بني الإنسان، لكن كونك تظلم الله الذي بيده كل شيء، وتأخذ حقه وتعطيه لغيره، فهذا من أبشع وأفظع أنواع الظلم، ومثاله لو أنك تختصم مع عامي عند الباب أو فقير كنَّاس فتظلمه، فهل ظلمك إياه كظلمك لأمير المدينة لو تسبه أو تشتمه؟! لا أبداً، فهذا أفظع وأبشع، فكيف بالذي يظلم الله ويأخذ حقه الذي فرضه على خلقه ويعطيه لعبيده؟! أعوذ بالله! ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. [ الظلم مستوجب للعذاب -أي: مهيئ له- ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه ]، وهذه قاعدة، أي: أن الظلم من الإنسان مستوجب لعذابه، إلا إذا تداركه الله فتاب عليه وغفر له، أما إذا تركه الله على ظلمه فلا توبة ولا مغفرة، بل والله لا بد من العذاب. [ ثالثاً: حرمة أكل الربا -مطلقاً- مضاعفاً كان أو غير مضاعف ]، أمَا قال الرسول الكريم: ( لدرهم واحد أشد من ثلاثين زنية )؟ إذ ليس عندنا شيء اسمه: ربا خفيف لأنه قليل، لا، فالكثير والقليل سواء.[ رابعاً: بيان ربا الجاهلية، إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130].خامساً: وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.سادساً: وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة ]، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).[ سابعاً: وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم للحصول على الرحمة الإلهية، وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة ].معاشر المستمعين! فهيا نتخلص من الربا، فنزور إخواننا وأعمامنا وأخوالنا وأقاربنا ونقول لهم: هيا بنا نخرج من هذه الفتنة، نتعهد ألا يرانا الله غداً أو بعده أمام بنك، ومن عنده نقود يسحبها، وتمشي هذه الروح والناس يبكون نساء ورجالاً، وفي اليوم الأول والثالث والرابع يترك العمال العمل في البنك، وإذا برؤساء البنوك قد داخوا وأصابهم الإعياء، وفي خلال أربعين يوماً يغلقونها، فننتهي من شرها، فهل تستطيعون ذلك؟ أنتم تستطيعون يا أهل النور! لكن نسبتكم إلى أهل الظلام كم؟ ولا واحد إلى ألف، إذاً لا ينفع، وهذا ما يسمى بالإضراب العام، وهو ينفع إذا أضربت الأمة كلها، وهذا هو الهجران الذي أوجبه الله ورسوله، فإذا أخونا أو عمى فسق وأبى أن يتوب قلنا: لن نتكلم معه ولن نتعامل معه، وفي خلال أربعين يوماً يتوب ويبكي.ولو تأملنا في الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، فقد أعلن الرسول هجرانهم خمسين يوماً، فكانوا يمشون بالأسواق ولا يكلمهم أحد، بل إن نساءهم لا تتكلم معهم، وإنما الواحد منهم تضع له زوجته الخبز وتسكت، وبقي هذا الحال حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فهذا هو الهجران الحقيقي، أما أن أقاطعه وأنت تصاحبه، ولا أتعامل معه وأنت تتعامل معه في كل شيء، فهل ينفع هذا؟ ونحن والحمد لله قاطعنا البنوك، فهل انتهت؟ لا؛ لأن المقاطعين لها قليل، لكن إذا الأمة كلها عرفت الطريق إلى الله، فإن هذه البنوك والله لتتحولن إلى مصارف خير وهدى ورحمة، ووالله لتدر وتغل أضعاف ما كانت تدر، وأنا أقسم بالله وإني على علم.فإن قيل: يا شيخ! هذا محال وصعب، لا يمكن، إذاً ما الذي يمكن؟ الذي يمكن أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يأخذ علماؤنا وحكامنا فيجمعوننا في بيوت الله من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، في كل قرانا ومدننا، النساء وراء، والرجال أمام، ونتلقى الكتاب والحكمة يوماً بعد يوم، والنور يعلو، والمعاني ترتفع، والتقوى تعم، وفجأة خلال سنة ونحن أولياء الله! بل لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها، ويومها لن يبقى معنىً للشح ولا البخل ولا التكالب على الدنيا ولا التلصص، وأفاض الله رحماته علينا، فهذا هو الطريق الذي نبكي حتى يتحقق أو نموت! ووالله لا طريق إلا هذا، أي: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، فنفزع إلى ربنا، ونطرح بين يديه، ونبكي كل ليلة، ونتلقى هداه ورحمته في قرانا ومدننا، وما هي إلا أيام وقد أغدق الله علينا نعمه وأفاض رحماته، وطريق غير هذا مستحيل أن يتم به شيء.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 07-12-2020 10:34 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (53)
الحلقة (194)

تفسير سورة آل عمران (58)



يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والبعد عن المعاصي، والعمل بما يوجب للعبد دخول الجنة من الأعمال الصالحة؛ كالإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، والتخلق بالأخلاق الحسنة من كظم الغيظ والعفو والإحسان.
تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هيا نكرر تلاوة الآيات مرة أخرى، والمستمعون والمستمعات يتأملون ويتدبرون لاستخراج المعاني التي تحملها هذه الآيات النورانية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، اللهم اجعلنا منهم، آمين، إذ إن لله نفحات، فإذا سمعت الداعي يدعو فقل: آمين لتشاركه في الأجر وفي الجزاء. ‏
أمر الله تعالى لعباده بالمسارعة إلى التوبة النصوح لمغفرة ذنوبهم
معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، أمر موجه إلى عباده المؤمنين الذين ناداهم في الآيات الماضية، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم قال: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فنحن مأمورون بأن نستجيب، فهيا نبادر قبل فوات الوقت، وقرئت في السبع: (سارعوا) بدون واو العطف، وقرئت بالواو: (وسارعوا)، والكل واحد.والمسارعة: المبادرة في عجلة دون توانٍ ولا انتظار ولا تأمل، والمسارعة تكون: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة: هي المبادرة إلى التوبة، وكأنما قال: عجلوا فتوبوا إلى ربكم، فأمرنا ألا نأكل الربا، وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، ووعدنا بالرحمة والفلاح، إذاً فعجلوا إلى الهدف. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة هي المسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والإقلاع والعزم ألا نعود لهذا الذنب، فهذه هي التي أُمرنا بالمسارعة إليها، أي: إلى المغفرة، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا، وذلك بالإعلان عن التوبة، وبالاستغفار والندم والإقلاع والبعد عن المعصية، سواء كانت من كبائر الذنوب أو صغائرها.ثم أيضاً إلى أين؟ قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ونسارع أيضاً إلى جنة عرضها السموات والأرض.إذاً: تقرر عندنا وعلمنا وفهمنا واقتنعنا وأصبحنا موقنين بأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الطيبون الأطهار الأصفياء فقط، ولا يدخل الجنة من عليه أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، فإن أردت يا عبد الله! الجنة دار السلام ادخل الحمام، فتطهر وتنظف واغتسل وتطيب ثم تفضل، أما أن تدخل الجنة بالعفن وبالرائحة الكريهة والله ما كان.فالذي يأكل أموال الناس يجب أن يسارع إلى التوبة ليُغفر ذنبه، بل لا يبيت الليلة إلا وقد بادر إلى التوبة؛ لأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الأطهار الأصفياء، ومن هنا دعانا ربنا تعالى رحمة بنا وشفقة علينا أن نتطهر من ذنوبنا، وبعد ذلك تفضلوا إلى الجنة التي أعدت وأحضرت -من زمان- للمتقين.وإن سأل سائل فقال: ما هي التوبة؟ فالجواب: التوبة تعني: الرجوع إلى الحق والاعتراف به، والاستغفار، والندم، والعزم ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب، فإن كان الذنب هو أخذ أموال الناس أو سفك دمائهم أو نهش أعراضهم؛ فلا توبة تصح حتى يتحلل منهم، فإن كان قادراً على سداد المال رده، وإن كان عاجزاً عن ذلك طلب منهم العفو والرجاء والانتظار، وإن كان عِرضاًً طلب العفو والمسامحة، وإن كان دماً أراقه كذلك قدَّم نفسه ليراق دمه أو يعفى عنه، وهذه حقيقة لا بد منها، أما إذا كان الذنب بينك وبين الله -كما ذكرنا- كأن تركت واجباً، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار وفعل الواجب، وإن كان الذنب ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، أو معصية من معاصي الله والرسول، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار والعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، فأولاً: التطهير، ثم بعد ذلك دخول الفردوس، أما وأنت ملوث فلا. وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، أي: وإلى جنة، عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، قال العلماء وعلى رأسهم الحبر عبد الله بن عباس: لو أخذنا السموات رقعة إلى جنب الأخرى وألصقناها بها، وفعلنا بالأرضين كذلك، فإن عرض الجنة أكثر من هذا! أما الطول فلا يعلمه إلا الله، إذ العرض في الغالب مبني على الطول، فإذا كان العرض-مثلاً-ذراعاً فالطول لا شك أنه ستة أذرع، أما لو قال: (وجنة طولها كذا)، فقد يكون الشخص طويلاً ورقيقاً كالحبل، أو سلكاً رقيقاً من المدينة إلى أمريكا، فأي عرض له؟! ما له عرض، لكن إذا ذكرت العرض، فإن الطول ضروري وهو فوق ما تتصور! كما قد عرفنا وقلنا دائماً حتى نتصور قعر عالم الشقاء: هيا نغمض أعيننا ونضع رؤؤسنا بين ركبنا ولنفكر ولنقل: نازل، نازل، نازل، إلى أين؟! كلَّ العقل واندهش، فهل فهمتم هذه أم لا؟ إن عالم الشقاء المعبر عنه بالنار-دار البوار-أعلمَ تعالى أنه أسفل: قال تعالى: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، فهذا السفل فكر فيه، أما الجنة دار السلام فهي فوق السماء السابعة، وسقفها هو عرش الرحمن، وسيأتي يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، يوم يطوي السماء كطي السجل للكتب، عند ذلك فقد انتهت السموات وانتهت الأرضون، وبقي العالمان: عالم السعادة العلوي، وعالم الشقاء السفلي، وسعة هذا العالم لا يحده عقلك، فقل: آمنت بالله. وقد علمنا أيضاً: أن آخر من يدخل الجنة من أهل الذنوب الذين كانوا في النار أحقاباً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب مرتين، وقلنا: إن هذه الكواكب لا تعد ولا يحصي عددها إلا الله، فلو وزعنا هذه الكواكب على أهل الجنة، فأخذ كل واحد كوكباً أو عشرة كواكب، فإنه سيبقي الكثير منها! فلا إله إلا الله! أين نحن؟ أتدرون أين نحن؟ نحن في رحم الدنيا، أتعرفون رحم المرأة الذي خرجتم منه أم لا؟ رحم المرأة عرضه أو طوله ستة سنتيمتر، فلو يمكنك أن تتصل بالجنين في الشهر التاسع -عندما يتخلق- وقلت له: ويحك يا هذا! إنك في رحم ضيق منتن، اخرج إلى سعة، فإنه سيضحك، وسيقول: هذا الذي يخاطبني مجنون! أين يوجد هذا العالم الذي تعنيه؟ فلا تستطيع أن تقنعه أبداً إلا إذا آمن كما آمنا نحن بالغيب، فهو لا يفهم أن وراء هذا الرحم شيء واسع جداً، وإن قلت له مرة أخرى -وهو محفوظ في تلك الدماء-: إنك في رحم ووسط بطن أمك في ذراع طول وعرض، ووراء هذا البطن غرفة أو حجرة، ووراء هذا البطن كذا وكذا، فإنه سيزداد كفراً وتكذيباً، وكذلك هذه هي الحياة كلها، فالآن حياتنا هذه والله لأقل من الرحم، والآن الملاحدة والكفار لا يؤمنون إلا بهذا فقط، أي: بالمشاهدات، أما وراء هذا العالم عوالم فلا، فهي خرافات، وبالتالي فالملاحدة لا يؤمنون بعالم السعادة وعالم الشقاء، لا يؤمنون بعرش الرحمن وكرسي السموات، وإنما لا يؤمنون إلا بهذا المحيط الذي يحيط بهم، فهم محصورون فيه، وهي أضيق من الرحم! إذاً: قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]؛ لأنه يريد تعالى رحمة بعباده أن يعلمهم، أن يعرفهم؛ حتى يعرفوا ويفهموا ويعلموا.
المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق
قال تعالى: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، أي: هيئت وأحضرت، والإعداد شيء خاص، كإعداد الضيافة للضيف. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لبني هاشم؟! لبني إسرائيل؟! لبني تميم؟! كل ذلك لا، إنما أعدت للمتقين، فلا يدخل الفاجر، والأمر واضح. إذاً: فعلموا البشرية أن الجنة دار السلام تورث، لكن لا بالنسب ولا بالمصاهرة ولا بالولاء لغير الله تعالى -الإرث أسبابه ثلاثة: إما نسب، وإما صهر، وإما ولاء- وإنما ورثتها معروفون، قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وعرف هذا إبراهيم عليه السلام، وسمعناه في ضراعته وبكائه يقول: ربـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، فالجنة تورث وسبب إرثها التقوى، فاتق الله يا عبد الله، وحافظ على تقواك حتى تلقى مولاك، فأنت من الورثة للجنة، فإن فجرت يا عبد الله فقد خرجت عن طريق الله، وحرمت من هذا الإرث أحببت أم كرهت. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لو قال: لأهل البيت، لبني هاشم، لبني فلان أو علان لتململ البشر، إذ المتقي ليس بيض الوجوه أو سمرها أو حمرها أو سودها، أو قصار الأبدان أو طولها، أو أغنياء الناس أو فقرائهم، اترك هذا كله ولا تلتفت إليه، وإنما فقط: هل هو تقي أو فاجر؟ والسر في أن التقوى هي التي تورث الجنة: أن التقوى تزكي النفس وتطهرها، والله قد أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: طيبها وطهرها، وكيفية ذلك أن التقوى حقيقتها خوف من الله تعالى يحمل الخائف على أن يمتثل أوامر الله، فيفعل ما يفعل ويعتقد ما يعتقد ويقول ما يقول، فهذه هي التي تزكي النفس، أيضاً خاف من الله فترك معاصيه، فلم يقارف الذنوب التي تلطخ النفس وتعفنها، وإن زلت قدمه يوماً تاب وصقلها وصفاها وحافظ على ذلك، وعند ذلك أصبح الوارث بحق.وبالتالي فالمتقي عبد خاف من عذاب الله وغضبه وسخطه فأطاعه، وفعل ما أمره أن يفعله، وقال ما أمر أن يقوله، واعتقد ما أراد أن يعتقده، وذلك الاعتقاد والقول والفعل هي والله بمثابة الماء والصابون لتزكية النفس وتطهيرها، فإذا أضاف إلى ذلك اجتناب ما حرم الله من اعتقاد وقول وعمل، فقد احتفظ إذاً بالطهارة والزكاة، أما إذا صلى وسرق، صام وزنا، فهو يوجد له زكاة ثم يلطخها، فلو مات قبل التوبة هلك، إذ إن فعل المأمورات عبارة عن أدوات تزكية وتطهير، واجتناب المنهيات والبعد عنها معناه المحافظة على تلك الزكاة والطهر والصفاء حتى لا يلوث ويفسد.

يتبع


ابوالوليد المسلم 07-12-2020 10:35 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء...)
قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، والسَّرَّاءِ -بالسين والراء مهموز-: حالة السرور، أي: ما يدخل السرور والفرح على النفس، وَالضَّرَّاءِ: ما يدخل الضرر على النفس، ولكل منها صور، فمن السراء: الغنى، ومن الضراء: الفقر، ومن السراء: العافية، ومن الضراء: البلوى، حتى قال بعضهم: السراء: الفرح أو العرس، والضراء: الحبس، وعلى كلٍ كلُ ما يدخل السرور على النفس البشرية فهو سراء، وكل ما يدخل الضر أو الأذى على النفس فهو ضراء، لكن قوله عز وجل: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال الغنى وفي حال الفقر، وهذه الطبقة ممتازة، فهم ينفقون على كل حال، سواء كان المال متوفراً أو كان غير متوفر، فإذا دعا الداعي ووجبت النفقة ينفق بقدر الحاجة والمستطاع، وهذه يا معاشر المستمعين! نعوت وصفات الوارثين للجنة من المتقين، إذ إن قوله: (للمتقين) مجملة، فتأملوا هذه الصفات:أولاً: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: الإنفاق في حال السراء والضراء، وهذه أمكم والله تصدقت يوماً بحبة عنب، هذا العنب الذي ترمونه في المزابل، إذ إنه كان قوتها يوم ذاك، فأخذت الحبة وقالت لخادمها: أعطها لهذا السائل.إذاً: فذو الألف ينفق من ألفه بحسبها، وذوا الريال ينفق بحسب رياله، وهذا شأن المتقين الخائفين، فهم ينفقون في السراء والضراء.ثانياً: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، والكظم: الحبس، يقال: كظم يكظم، إذا حبس الماء في القربة أو أغلقها، والغيظ: ما يغيظك ويؤلمك، فالمؤمن المتقي الوارث إذا ناله من أخيه شيء آلمه، كأن سبه أو شتمه أو عيره أو أهانه أو تكبر عليه أو لطمه، فإنه لقوة إيمانه وصلته بربه يكظم ذلك الغيظ ولا يظهر منه شيئاً، فيبقيه كله في قلبه، فلا يرد السب بأخرى، ولا الشتم بشتم، ولا يظهر بوجه متغير، بل ما يظهر ذلك الغيظ أبداً، وإنما يكظمه ويحبسه كأنما ربط الماء في القربة أو حبسها بالخيط أو بالعصام، فهل نجرب ذلك؟ امش واركض برجلك أحد إخوانك، وتأمل في وجهه ستجد أنه تغير، بل قد يقول لك: مالك، هل أنت أعمى؟! آه! إن هذه النعوت الكمالية لن نصل إليها إلا بالتربية الحقيقة، فكظم الغيظ ألا يُظهر كلمة تؤذي أو تسيء إلى من آذه، بل وألا ظهر ذلك حتى على وجهه.ثالثاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وأما العفو شيء آخر، فإذا آذاه بأن ضربه أو أخذ ماله، فإنه يعفو عنه ولا يؤاخذه، ولفظ: (الناس) يشمل حتى الكفار؛ لأنه ما قال: (والعافين عن المؤمنين)، فهو لكماله ولقوة صلته بربه، ولشعوره بأنه وارث دار السلام، إذا آذاه مؤمن أو غيره فإنه يعفو عنه ويصفح ويتجاوز.وقد يقول قائل: إن شباب أو أبناء حينا يستهزئون بلحانا ويسخرون منا، وآباؤهم وإخوانهم واقفون كالجبال، ولا يتألمون لذلك، بل ولا يؤدبون أبنائهم وإخوانهم؛ لأنه ليس في قلوبهم روح الإيمان، فأقول: وهذا من العفو إن عفيتم عنهم. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فلأنهم محسنون أحبهم الله، وفوق ذلك هذه صفة أخرى، فيا أهل الإحسان! اعلموا أن الله يحب المحسنين فأبشروا، و(الإحسان) لفظ عام يتناول الإحسان إلى إخوانك فلا إساءة، ويتناول تجويد وإتقان العمل الذي تقوم به، فإن كنت خياطاً للثياب أحسن الخياطة، وإن كنت طاهياً للطعام أحسن طهي الطعام، وإن كنت نجاراً أحسن نجارتك، فكيف إذا كنت تعبد الله وتسيء إلى هذه العبادة وتفقدها نورها وما تنتجه من الصلاح للنفس والطهر؟! فإذا توضأت فأحسن الوضوء، وإذا صليت فأحسن الصلاة، وإذا حجيت أو اعتمرت فكذلك، وحسبنا أن يعلمنا ربنا أنه يحب المحسنين، إذ ما ليس هناك جملة ترغبنا في الطاعة كهذه، فهل تريد أن يحبك الله؟ أحسن فإن الله يحب المحسنين، أحسن إلى الفقراء والمساكين والجيران والإخوان والأباعد والأقارب، أحسن صنعتك ومهنتك وعملك، أحسن قبل ذلك عبادتك حتى تولِّد لك الطاقة الكافية والنور الذي يزكي نفسك ويطهرها. وهذه التعاليم كان لها أثر في أصحاب رسول الله، فما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أكمل ولا أرحم ولا أصفى ولا أتقى من تلك الأمة، أعني: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، فهل كان ذلك نتيجة الفلسفات الكاذبة؟! الحضارة المادية؟! إنها نتيجة هذه التعاليم الإلهية، فقد آمنوا وعملوا.وحتى لا يقول قائل: وهذه ماذا تفعل الآن؟ من يعمل بها؟ ما تنتج شيئاً؟ لا، فما زلنا نقول: لو أن أهل البيت، لو أن أهل القرية، لو أن أهل المدينة يجتمعون بصدق كل ليلة لتعلم الحكمة والكتاب، والله لظهرت آثار هذه الأنوار القرآنية، ولتجلى ذلك في نسائهم وأطفالهم ورجالهم، ووالله ما سخروا من لحيتك، ولكنهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم...)
قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ما زال السياق يوضح الطريق أيها السالكون، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، والفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح، إذ الفحش معناه: القبح الزائد، ولا بأس أن نفهم فهماً عاماً:فأول فاحشة هي: اللواط، إذ قال تعالى عن قوم لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29].والفاحشة الثانية: الزنا، إذ قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].ثم كل خصلة قبيحة فاحشة، فلو الآن يقوم أحدكم وينفعل، ويأخذ يسب الشيخ ويلعنه، فهذه فاحشة قبيحة، لو فعلها في الشارع فقبحها أقل، لكن بين المؤمنين في مجلس العلم فاحشة قبيحة، إذاً فكل خصلة قبيحة فاحشة، إلا أن أفحش الفواحش: جريمة اللواط وجريمة الزنا، وبعد ذلك الذي يسب أمه أو أباه من أقبح الفواحش، وهل تذكرون ما سمعتموه؟ وهو أن العرب في ديارهم هذه ما كانوا يسمعون بفاحشة اللواط، ولا يخطر ببالهم هذا، كما تشاهدون الحيوانات، هل الذكر ينزو على الذكر من الحيوانات؟ لا، ولذا كانت أول فاحشة لواط وقعت على عهد عمر أو أبي بكر في البحرين، وذلك أن أعجمياً فعل الفاحشة بأعجمي، ورفعت القضية إلى الوالي واحتاروا في تطبيق الحكم، فقال علي رضي الله عنه-هو من أعلم أصحاب رسول الله-: يُرمى من أعلى جبل ثم يتبع بالحجارة، أي: نعمل به كما عمل الله بقوم لوط، ثم بعد ذلك أفتى العلماء بقتله، سواء بالحجارة أو غيرها.والشاهد: أن الخليفة عبد الملك بن مروان قام خطيباً في الناس فقال: أقسم بالله على أنه لولا أن الله تعالى أخبرنا في كتابه عن قوم لوط، ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر!لكن لما هبطت هذه الأمة هبط كل شيء، والحمد لله نسبة هذه الفاحشة في بلاد المسلمين أقل بكثير، وتوجد أندية للواط في باريس، في أوروبا، فإذا فعل عبد الله فاحشة-هذا الوارث للجنة-أو خصلة قبيحة، أو ظلم نفسه بأن ترك واجباً، فإنه على الفور يعلن استغفاره وتوبته، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، فأولاً: ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] بقلوبهم، ولما يذكرون الله ربهم وهو مطلع عليهم، ويذكرون أمره ونهيه، يفزعون إلى الاستغفار فيستغفرون الله، وهذه هي التوبة، أي: أن يقلع العبد فوراً عن الذنب، وأن يعلن عن توبته بكلمة: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويواصل الاستغفار وكله عزم على ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، فإذا حلبت من الشاة لبناً، فهل يمكنك أن ترجعه إلى الضرع؟! لا ينفع ولو بإبرة، فكذلك توبة العبد الصالح إذا زلت القدم وخرَّ على المعصية، ثم استفاق فذكر الله وتاب، لن يعود إلى ذلك الذنب ولو صُلب أو حُرِّق أو قُتِل، وتلكم هي التوبة النصوح.قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135]، الذي أمر ونهى، الذي رغب وحبب، الذي نهى وخوف وهدد، فهذا الذكر هو الذي يبعث: كيف أعصي ربي؟ ثم بعد ذكر الله يستغفر الله، قال تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، التي قارفوها، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، فهل هناك أحد يستطيع أن يطلع على نفسك ويزيل عنها الأثر؟ وهل يمكنك أن تلمس روحك أو تعطيها للطبيب ليلمسها أو ترى الظلم فيها وتمسحه منها؟ لا، إذاً فالذي يغفر الذنوب هو الله فقط، ولذا فليستغفر العبد ربه، وليطرح بين يديه، وليبكى بين يديه؛ حتى يعفو ويصفح ويزيل الأثر من النفس ويطهرها. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135]، وهذه صفة كمال أيضاً، وهي عدم الإصرار على الذنب، ومن هذا حاله فإنه قريب سيصل إلى الجنة، فإن تعثر أو وقع فلا يحزن ولا يغتم، وإنما يواصل طريقه إلى الجنة، ومثله من أراد مكة أو غيرها من البلدان، فمشى إليها تسع ليال أو عشر، وقارب الوصول، ثم سقط ووقع، كأن انكسرت رجله، فلا شك أنه سيواصل الطريق حتى يصل إلى هدفه.إذاً: إذا زلت قدم العبد فقال قولاً سيئاً أو فعل جريمة فلا يصر، وإنما على الفور يعلن عن توبته بالاستغفار والندم ويواصل حتى يصل إلى دار السلام، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أن الإصرار معوِّق، وهم يعلمون أن التوبة واجبة، وأنها تمحو الذنب وتزيل الأثر.
تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار ...)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فمن مدح هذا الخير؟ إنه الله، ونعم الأجر الجنة، أجر العاملين لا الكسالى والبطالين، العاملين من صيام بالنهار، وقيام بليل، ورباط في الثغور، وجهاد وصراع في بلاد الكفار المجرمين. أُوْلَئِكَ [آل عمران:136] أي: السامون الأعلون، جزاؤهم -أولاً- مَغْفِرَةٌ من ربهم؛ لأنه لن تدخل الجنة إلا إذا طِبت وطهُرت، ولم يبق عليك ذنب أبداً.ثانياً من الجزاء لهم: وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:136]، كم الجنات؟ أقل ما يعطى أحدكم معاشر المؤمنين! مثل الدنيا عشر مرات، والجنة سميت جنة لأن من دخل تحت أشجارها غطته وجنته، وهذه الجنة قد وصفها خالقها، ووصفها الرائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به والله إلى الجنة دار السلام، ومن كذب فقد كفر، والله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13]، أي: جبريل، نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، أي: مرة أخرى، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18]، أي: الجنة، كما أنه رأى حوراء لـعمر بن الخطاب ، وخاف من غضب عمر فلم يلتفت إليها وغض بصره، وذكر ذلك لـعمر ، فقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( علمت غيرتك يا عمر )، فاللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.


ابوالوليد المسلم 07-12-2020 10:39 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (54)
الحلقة (195)

تفسير سورة آل عمران (59)


إن العبد المؤمن منتهى ما يؤمله وجل ما تهفو إليه نفسه أن يدخل في رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وأن يستحق جنته ورضوانه، وقد دل الله عز وجل عباده المؤمنين على الطريق الموصلة إلى ذلك، ألا وهي تقوى الله عز وجل، والتي تحصل بفعل ما أمر الله به والتزامه، وترك ما نهى الله عنه، والمسارعة إلى التوبة عند الوقوع في شيء منها.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم يا ولينا حقق رجاءنا إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع الآيات الخمس التي تدارسنها بالأمس، نعيد تلاوتها تذكيراً للناسين، ثم نأخذ في شرحها مرة أخرى كما هو في كتاب التفسير، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ شرح الكلمات:قوله: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، المسارعة إلى الشيء: المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ. إِلَى مَغْفِرَةٍ [آل عمران:133]، المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها] أي: تغطيتها [والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب وكثرة الاستغفار، وفي الحديث: ( ما من رجل -أو امرأة- يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له ) ]. فقوله: (ما من رجل)، والمرأة كالرجل، وإنما الشارع الحكيم لا يعرض بذكر النساء بين الفحول، وإلا فالحكم واحد. [ وقوله: وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، الجنة دار النعيم فوق السموات -السبع- والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات ]، وهي اعتقادات وأقوال وأفعال.[ قوله: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]: هيئت وأحضرت، فهي موجودة الآن مهيأة ]، وحسبنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها منذ ألف وأربعمائة سنة، حيث وطئ الجنة بقدميه الشريفتين، ورأى حورها وقصورها وأنهارها، فرأى نهره الكوثر عليه الصلاة والسلام، ووصفه بأن ريحه أذكى من المسك الأذفر، وماءه أبرد من مائنا المثلج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، كما رأى أو شاهد في الجنة حوراء لـعمر فغض بصره وذكر غيرة عمر، فاعتذر عمر وقال: أعنك أغار يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!ثم إنه بمجرد ما تخرج الروح يُعرج بها إلى الملكوت الأعلى، إلى الجنة، ويدون اسمها في كتاب عليين، ثم تعود للفتنة والامتحان في القبر، وتنجح وتعود إلى دار السلام، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، ثم إذا جاء البعث الآخر، وخلق الله الأجسام، تُرسل تلك الأرواح فتدخل كل روح في جسمها، ولا يمكن أن يشتبه عليها أبداً. [ قوله: لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]: المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فوراً.وقوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، السراء: الحال المسرة، وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر ]، والمرض والبلاء.[ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبٍ أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام ]، وهذه الصفة ممتازة وأشرف الصفات، فاللهم اجعلنا منهم، فاصدقوه يجعلكم منهم.[ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، العفو: عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك]، أما إذا كنت عاجزاً عن مؤاخذته وما آخذته فلست من أهل هذه الصفة، كأن حكم له القاضي بكذا فتنازل عنه، وهو يقدر على أن يرد الكلمة بأبشع منها، أو الضربة بأخرى، لكن يقول: عفونا لله مع قدرتنا على ذلك.[ قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، المحسنون: هم الذين يُبرون ولا يسيئون في قول أو عمل ]، أي: وصْفهم البرور ولا يسيئون في قول ولا عمل.[ قوله: فَاحِشَةً [آل عمران:135]، الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا وكبائر الذنوب.وقوله: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك، فكان هذا ظلماً لها.وقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا [آل عمران:135]، أي: يسارعون إلى التوبة؛ لأن الإِصرار هو الشد على الشيء والربط عليه، مأخوذ من الصر، والصرة معروفة. وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم ]، فهم يعلمون أنها مخالفة أو معصية وذنب.[ قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] الذي هو الجنة ] دار السلام. فهذه هي مفردات الآيات، وقد فهمنا هذا بالأمس، ولكن ما تكرر ازداد يقيناً عند صاحبه.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:
ترك المعاصي والذنوب سبب لحصول رحمة الله في الدنيا والآخرة
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا، آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله؛ كي يُرحموا في دنياهم وأخراهم ]، وهذا قد تقدم في الآيات السابقة وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم هنا ناداهم بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] الآية.قال: [ أمرهم بالمسارعة إلى شيئين: الأول: مغفرة ذنوبهم، وذلك بالتوبة النصوح ]، والتوبة النصوح: هي التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع، فإذا حلبنا من شاتنا أو بقرتنا أو ناقتنا لبناً فهل في الإمكان أن نرده إلى ضرعها؟! مستحيل، فكذلك التوبة النصوح، فإذا تاب عبد الله أو أمة الله من كبيرة من كبائر الذنوب لن يعود إليها أبداً، والله هو الذي انتدبنا لهذا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] فوصف التوبة بالنصح. [ والثاني: دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أي: أحضرت وهيئت للمتقين، والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها، وهي الإيمان والعمل الصالح، إذ بهما تزكو الروح وتطيب فتكون أهلاً لدخول الجنة ].إذاً: ندبنا الله للمسارعة إلى شيئين: الأول: التوبة النصوح، والثاني: دخول الجنة؛ لأن من تاب بقيت نفسه طاهرة زكية مشرقة، فإذا لفظ ألفاظه الأخيرة خرجت نفسه والله إلى الجنة دار السلام، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. ].مرة أخرى: قال ربنا عز وجل وهو يخاطبنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، الذين صفاتهم كذا وكذا، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا بالتوبة النصوح، ومتى تبنا غُفرت ذنوبنا، ثم المسارعة إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، إذ هما سلم الرقي إلى دار السلام، فمن آمن وعمل صالحاً زكت نفسه وطابت طهرت، وبالتالي من يردها أو يصدها عن دخول الجنة؟! [ هذا ما تضمنته الآية الأولى ].

يتبع

ابوالوليد المسلم 07-12-2020 10:40 PM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام
قال: [ وأما الآيتان الثانية والثالثة فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام ]، أي: تضمنت الآيتان بعد الأولى صفات المتقين الوارثين لدار السلام، إذ الجنة لها ورثة هم المتقون، فلا يحل أن تقول: بنو فلان أو بنو فلان، أو أصحاب كذا أو كذا، بل كلمة واحدة ما ننساها وهي: إن ورثة الجنة هم المتقون، والمحرومون هم الفاجرون، إذ لا حق ولا نصيب لهم فيها أبداً؛ لأن الجنة موروثة وورثتها المتقون، وتذكرون إبراهيم لما سأل الله فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، وقال تعالى في آية أخرى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].إذاً: المتقون هم الوارثون للجنة، لا لأنهم بيض أو سود أو أغنياء أو فقراء أو عاصروا الأنبياء والمرسلين، وإنما هم قوم زكت نفوسهم بفعل المأمورات والمحافظة على زكاتها بترك المحرمات، فيأتي ملك الموت وأعوانه والروح مشرقة طيبة طاهرة، غير ملوثة بالشرك ولا بالكفر ولا بكبائر الذنوب، فتدخل هذه الروح الزكية الطاهرة الجنة دار السلام. قال: [ فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام، فقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله ]، لا في سبيل الوطن، ولا رياءً، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا مفاخرة، ولكن في سبيل الله، وسبيل الله كل ما يوصلك إلى رضا الله، إذ كل ما يصل بك إلى رضا الله ليرضى عنك فهو سبيل الله، وبالتالي فالإنفاق على الفقراء، على المساكين، على المحتاجين، على اللاجئين، للإعداد، للجهاد، كله في سبيل الله. قال: [ هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنىً وفقر وعسر ويسر ]، ما هو في وقت معين فقط، بل في الصيف والشتاء والربيع والخريف، في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في أي الأحوال فهذا شأنهم دائماً. [ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، وصف لهم بالحلم والكرم النفسي ]، والحليم لا يرد السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، فإن شتمه أو سبه أحد فلا يرد السب بالسب، وإنما يقول: عفا الله عنك، سامحناك، جزاك الله خيراً. [ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر، ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ]، ولفظ (الإحسان) عام، وإن كان هنا إحسان إلى إخوانهم بعدم الإساءة إليهم، والإحسان أيضاً هو إتقان العمل وتجويده والإتيان به على الوجه المطلوب، وذلك من شأنه أن يزكي النفس ويطهرها، فإذا زكت النفس وطهرت أحبها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، أما الخبث فلا يحبه الله. [ كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل ]. فقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، إعلان عن حب الله لهم، وفي هذا تشجيع للناس على أن يواصلوا الإحسان ولا يتخلوا عنه أبداً. [ وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] ]، أي: ذكروا الله أنه حرم هذا، أو أبغض هذا، أو منع هذا، أو توعد بهذا، فذكروا أمر ونهيه، وعلى الفور -بالفاء- فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].قال: [ وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة -ذنباً كبيراً- أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى، ونهيه عما فعلوا، فبادروا إلى التوبة -فقال في بيانها مذكراً للناسين- وهي الإقلاع عن الذنب، والندم عن الفعل، والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه ]، إذاً: التوبة: الإقلاع، أتعرفون معنى قولنا: أقلعت السفينة؟ فكذلك أقلع عن الذنب، أي: انفصل عنه وتركه، كأن يكون في يده السيجارة فيرميها إلى الأرض، أو في يده خاتم ذهب فيرمي به كما فعل أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله: (والندم على الفعل)، وذلك أن العبد المقصر يقول يوم القيامة: آه! يا ليتني لم أمش في هذا الطريق، ولا جالست فلاناً، ولا فعلت كذا وكذا مع فلان.وقوله: (والعزم -الباطن- على عدم العودة إليه) كيف ما كانت الأحوال، فهذه هي التوبة، وأما الاستغفار ما ننساه، وأذكركم بأن هناك من عباد الله من أهل التوبة يستغفرون الله كلما ذكروا ذنباً قارفوه ولو من سبعين سنة، إذ قال تعالى في سورة ق مخاطباً أهل الجنة: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:32-35]. فقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]، الأواب: الرجاع، كلما زلت قدمه رجع إلى ربه، فلا يبيت ولا يقضي ساعة ولا دقيقة على ذنب، والحفيظ الذي لا ينسى ذنبه أبداً، فيذكر أنه فعل ذنباً عام كذا، ما أن يذكره حتى يقول: أستغفر الله، وقد تذرف عيناه الدموع، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، قلبه دائماً يرجع إلى الله، فلا يغفل لحظة أبداً.وقوله: (واستغفار الله تعالى منه)، أي: يقولون: أستغفر الله، أستغفر الله، غفرانك اللهم، رب اغفر لي، كل هذه الصيغ متلونة، فمرة يقول: أستغفر الله، ومرة يقول: غفرانك، ومرة يقول: رب اغفر لي، وقد كان الصحابة يعدون لرسول الله في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة، فهذا عبد الله بن عمر -الذكي- يقول: ( كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا ويعلمنا ويقص علينا، ولكن من اللحظة إلى اللحظة يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فنعد له هذا القول مائة مرة )، وأنتم على الأقل قولوه مائة مرة في أربع وعشرين ساعة، أو فيه صعوبة؟! قال: [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ]، أي: علموا أن من تاب تاب الله عليه، وهذه من عقائدنا وأخلاقنا وآدابنا، ونحن موقنون بذلك ولا نتردد فيه، فقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: من قبل أن من تاب تاب الله عليه، إذ كيف يصر إذاً؟! لو كانوا لا يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، فإن العاصي سيقول: ما دمت أني هالك إذاً أبقى في ذنوبي ومعاصيَّ، لكن لعلمهم السابق أن من تاب تاب الله عليه، هذه الحال تجعلهم يتوبون ولا يترددون في ذلك أبداً، وهكذا روي عن مجاهد، ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد أيضاً: ( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة )، إذاً: الاستغفار وهو كلمة: أستغفر الله وأتوب إليه، لو فرضنا أن شخصاً كلما استغفر وسكت أذنب ذنباً، ثم زاد فاستغفر ولو سبعين مرة، ما ضره ذلك، وهذا من باب الفرض، وإلا لا يعقل أن يوجد من يذنب في اليوم سبعين مرة ويتوب سبعين مرة! لكن إن فرضنا هذا.والشاهد في قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]: أن من تاب تاب الله عليه، وهذا الذي جعلهم يتوبون ولا يصرون أبداً، أما لو كانوا لا يعلمون أن من يتوب يتوب الله عليه، عند ذلك يقولون: إذاً هلكنا، ولنواصل ذنوبنا، لكن علمهم بأن من تاب تاب الله عليه جعلهم لا يصرون على الذنب أبداً، وإنما يتركونه ويتخلون عنه بمجرد أن يذكروا. [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو عن فعلهم لحرام.
بيان جزاء من آمن واتقى
وأما الآية الرابعة فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وعلى تقواهم وعلى ما اتصفوا به من كمالات نفسية وطهارة روحية، ألا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومدح المنان -وهو الله؛ إذ من صفات الله وأسمائه المنان- ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم، فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] ]، أي: ونعم ذلك الأجر مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، لا الكسالى ولا البطالين الذين لا يعملون، فسبحان الله! قال: أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فانتبه واعمل يا عبد الله ويا أمة الله الليل والنهار، فالدار دار عمل، ولا تسألن الأجر والجزاء اليوم، فإنك إن عُمِّرت يا عبد الله أو يا أمة الله سبعين سنة، تعاني الفقر والمرض والآلام، وأنت تصوم وتقوم الليل وتذكر الله ليلاً ونهاراً، فإن جزاء صلاتك وصيامك وصبرك أمامك في الدار الآخرة، وفي المقابل تجد الرجل فاجراً ساخطاً فاسقاً، وهو صحيح البنية، قوي الذات، الأكل والطعام متوفر لديه، فأين جزاء كفره وظلمه؟ الجزاء هناك، وهل هناك آية تدل على هذا؟ نعم، يقول تعالى في خاتمة هذه السورة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هل هناك من يعترض أو يعقب أو يقول: إلا نفس فرعون، إلا نفس لينين زعيم الاشتراكية؟! الكل ماتوا، فهل هناك من ينقض هذا الحكم؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى: توفون أجوركم؟ أي: مقابل أعمالكم، فيا أيتها النفس اعملي ولا تطالبي بالأجر اليوم؛ لأن هذه الدار دار عمل لا جزاء، فهل يستطيع العمال أن يشتغلوا ساعتين أو سبعة أيام من الشهر ثم يقولون: تركنا العمل، أعطنا أجر عملنا يا رب العمل؟! هل يعطيهم أجورهم أو يقول لهم: نهاية الشهر؟ نهاية الشهر، وكذلك إذا كانت معاومة، أي: أن استلام الأجر يكون في نهاية العام، وهذه طبيعة البشر، فكذلك البشرية كلها تعمل هنا والجزاء هناك في الدار الآخرة، وقد بين تعالى ذلك فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. ولا ننسى أن العاملين للصالحات ينالهم حسن وبركة أعمالهم الصالحة، لكن والله ما هو الجزاء، وأن أهل الفجور والظلم والشر ينالهم شؤم معاصيهم، لكن والله ما هو الجزاء، إذ الدار هذه ليست دار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (55)
الحلقة (196)

تفسير سورة آل عمران (6)


الدنيا يهبها الله لمن يحب ولمن لا يحب، وما هي إلا متاع زائل عما قليل يتركه العبد وينتقل إلى الحياة الأبدية في الآخرة، التي أعد الله فيها لعباده المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وأحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، فيتحقق لهم بذلك النعيم الذي ليس فوقه نعيم.
تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن يحقق الله تعالى لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:15-17].وهذه الآيات من سورة آل عمران، فهل تعرفون عن هذه السورة شيئاً؟الجواب: عرفنا أنها مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، وعلمنا أن المكيات تعالج العقيدة، تؤهل العبد الصالح لأن يتحمل رسالة الله ويرقى بها إلى الملكوت الأعلى، والمدنيات تحمل الشرائع والأحكام والآداب والعبادات، وكلها أنوار الله.أيضاً: هذه السورة نزلت في وفد نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجادلوه في شأن عيسى عليه السلام، وفيهم نزلت نيف وثمانون آية. أيضاً: من عجيب هذه السورة: أن آخرها نزل قبل أولها بكذا سنة.قال الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] هنا أذكركم بكلمة عمر رضي الله عنه -وتعرفون والحمد لله من هو عمر بن الخطاب - لما نزلت الآية التي درسناها فيما مضى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، قال عمر : الآن يا رب. ما دمت زينتها لنا الآن. فنزل بعد ذلك كالجواب عليه قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] أي: قل: يا رسولنا: هل أدلكم على خير من ذلكم وهو كذا.. وكذا.. وكذا! وكلمة (خير) بمعنى: أخير، وهو اسم تفضيل، وحذفت الهمزة لكثرته اختصاراً، والعرب إذا تكرر اللفظ في لسانهم يعدلون عن القوانين. وفي هذا إشارة لا بأس بها -وإن لم نقف عليها- وهي: أن هذه المزينات من الحرث والأنعام فيها خير متى استخدمت في طلب رضوان الله عز وجل ورضاه ورحمته؛ فإن استعملت ضد ذلك فكلها شر، ووالله لا خير فيها. فمثلاً: حب الشهوات من المشتهيات من الطعام والشراب، والنكاح، والإركاب، هذه إذا كان المحب لها يستعملها وينتفع بها وهو طالب رضا الله ففيها خير، ولكنها لا تساوي خير دار السلام! أيضاً: البنين.. الأولاد، إذا سأل العبد ربه الولد بنية أن يعبد الله عز وجل ويكون في عداد الصالحين، وتزوج لذلك وربى الولد ونماه على ذلك ففي هذا الولد قطعاً خير، ولكنه لا يعادل خير دار السلام، وإن هو أهمله وأضاعه وطلبه فقط ليشتد ساعده به فيطغى على الناس ويأكل أموالهم ويعتز عليهم، فوالله ما فيه خير أبداً.أيضاً: القناطير المقنطرة من الذهب أو الفضة وكثرة المال إذا أخذ عبد الله أو أمته يجمعه لله، وبسم الله، ومن أجل أن يتقرب به إلى الله، فيتصدق به على الفقراء والمساكين والمحاويج، ويبني به المساجد ويعبد به الطرق، ويقدمه للمجاهدين عتاداً حربياً، ففي هذه الحال فيه خير، ولكنه إذا اكتسبه من الحرام، وهو ينفقه في الحرام، وحمله على الكبر والتعالي على البشر، ومنع الحقوق منه، فوالله إنه لشر كله، وليس فيه خير أبداً.أيضاً: الخيل المسومة، إذا اشتراها عبد الله بنية الجهاد عليها والركوب عليها في الغزو والفتح، لنشر: (لا إله إلا الله) ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العلف الذي يعلفه لها والله محسوب له بحبة الشعير، وإذا كان يمتلك الفرس للمباهاة والخيلاء والفخر بها ولا يغزو عليها ولا يجاهد، فوالله إنها لحمل حطب إلى جنهم، ولا خير فيها بالمرة.أيضاً: الأنعام من الإبل والبقر والغنم - الضأن والماعز- إن أنت اكتسبتها واقتنيتها من أجل أن تسد حاجتك، ومن أجل أن تقضي متطلبات حياتك من كساء أو منزل أو زواج أو كذا وربيتها ونميتها وأديت زكاتها، وتصدقت بشيء من الألبان والزبد، فهذا فيها خير، وإن اشتريتها للمباهاة والعلو والفخر والطغيان، ومنعت حق الله فيها لا زكاة ولا صدقة ولا.. ولا، فهي والله لا خير فيها.أيضاً: الحرث، وهو كل عمل ينتج، فنحن حارثون، والحرث: كل ما تكتسبه من طريق العمل؛ زراعة، صناعة، تربية مواشي، العمل وإن كان يتناول البر والشعير، والذرة وأنواع الحبوب، فهذه مزينة من قبل الخالق لها، زينها للفطرة البشرية، فما من إنسان عاقل إلا ويرغب في الحصول على هذه المذكورات الخمس: حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، ثم يأتي التعقيب فيقول تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، هذا الذي سمعتم يتمتع به في هذه الدار فقط، لا ينتقل منه إلى الدار الآخرة شيء، فهذه الدار محدودة الزمان، معدودة الوقت، نموت بآجالنا، لا نتقدم ولا نتأخر، ولكن مآلنا الفناء والزوال والرحيل منها إلى الدار الآخرة.هذه الشهوات مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] فافهموا هذا، فلا يحملنكم هذا المتاع على أن تنسوا الحياة الأبدية الخالدة، فإن كانت دار النعيم فلا تسأل عن أنواع النعيم؛ فإنك تعجز عن تقديره بل وتصوره، وإن كانت دار الشقاء.. دار البوار والهلاك.. النار عالم الشقاء، فلا تسأل عن ذلك الشقاء والبلاء والعذاب الأليم.هذه الآيات الكريمة، يقول تعالى في الختام وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، يعلمنا أن عنده حسن المرجع، فيأيها الراجعون! أيها العائدون! إن ربكم عنده حسن المرجع والمآب، فاطلبوه منه، واقرعوا باب الله، سلوه! ‏
معنى قوله تعالى: (للذين اتقوا)
قال تعالى: قُلْ أي: الآن قل يا رسولنا والمبلغ عنا أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم، إي والله خير: (بخير من ذلكم) ولكن لبني هاشم؟ للأشراف؟ للأبطال؟ للسادات؟ لمن؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]. أنبئكم بخير مما سمعتم، ولكنه: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] كذا الشرط؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] من هم الذين اتقوا؟ لا يحصرون في إقليم ولا في جيل، ولا في منطقة، بل كل رجل أو امرأة اتقى عذاب الله عز وجل وجعل بينه وبين عذاب الله وقاية كالحصون والأسوار العالية، وهذه الوقاية لن تكون بالجيوش الجرارة، ولا بالمليارات من الدولارات، ولا بالأنساب والأصحاب، والله لا تكون إلا بطاعة الله ورسوله فقط.إذا أمرك سيدك ومولاك فقل: سمعاً ربي وطاعة، وأقبل على العمل وحاول، فإن عجزت واطرحت، فقل: ربّ إنك لا تكلف نفساً إلا وسعها وقد عجزت عن القيام بهذا الواجب! فمثلاً: مريض يتألم، ما طاق الصوم يرفع حاجته إلى ربه ويضع بين يديه عذره، ويقول: ربّ لقد أحببت ولا أحب لي من الصيام، ولكن كما تراني قد عجزت فاغفر ربّ وارحم وتجاوز عما تعلم!وإذا نهاك سيدك عن عقيدة فاسدة.. عن النظر إلى باطل.. عن قول خاسر، عن عمل سيء فابتعد عنه ما استطعت، اهرب من المنطقة كلها، بل من الإقليم كله حتى تتمكن من طاعة ربك عز وجل! وأما طاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهي من طاعة الله، إذ ما أمر رسول الله بغير ما يأمر الله به، ولا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ما نهى الله عنه، وهؤلاء المتقون الذين اتقوا سخط الله وغضبه وبالتالي اتقوا عذابه، اتقوه بطاعته وطاعة رسوله. وهنا لطيفة! أذكر بها من لم يبلغهم هذا: والله إن طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا تعدو كونها تؤهلك وتعدك للسعادة والكمال في الدنيا والآخرة، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً إذ كان ولم يكن شيء غيره، فلا تفهم أن طاعة الله وطاعة الرسول ضريبة من الضرائب أمرت بها. والله ما في ذلك شيء، فما هي إلا سلم بدرج ترقى بها إلى سعادتك وكمالك، فمن عصى الله ورسوله هبط إلى أن يتمزق.. إلى أن يتلاشى.. إلى أن يصبح من أهل الخسران الأبدي! ومن باب الترغيب وتحريك الضمائر والنفوس تأتي هذه الأساليب القرآنية وإلا فطاعة الله وطاعة رسوله لن تسعد يا ابن آدم ولن تكمل إلا على هذه الطاعة أحببت أم كرهت. ماذا تقولون في طبيب أمامه مريض يقنن له لقمة الطعام بأوقات محددة وكمية لا تزيد ولا تنقص، فيمنعه من كذا وكذا وكذا، ويأمره بأن يفعل كذا وكذا، لأجل ماذا؟ لأجل برئه وشفائه.إذاً: هل هناك من يتهم الطبيب ويقول: لا، هذا يريد أن يضر به. قال: ما تأكل بقلاوة الليلة، ما تشرب العصير، والله له المثل الأعلى: فقط أحببت أن يفهم المؤمن الواعي والمؤمن البصير أن أوامر الله وأوامر رسوله ما هي إلا سلم للكمال والسعادة: أعرضت عن هذه الطاعة هبطت وتمزقت والله العظيم. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم من قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14] الآية: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]، اتقوا ماذا؟ اتقوا عذاب الله وسخطه. بماذا يتقونه؟ بالإيمان والعمل الصالح، بترك الشرك والمعاصي، والكلمة الجامعة: بطاعة الله وطاعة رسوله. هل يتقى الله بغير هذا؟ لا والله، فلا سور ولا قبيلة تدفع، ولا حيلة تنفع. اتقوا من؟ اتقوا ربهم. من هو ربهم؟ خالقهم. هل يوجد مخلوق بدون خالق؟ مستحيل! فالذي خلق وصور وأوجد في الأرحام وأخرج من ظلماتها إلى نور هذه الحياة، وأوجد اللبن في ثدي الأم بعد كان دماً قانئاً فأصبح لبناً أبيض مشرقاً وحفظ عليه سمعه وبصره وعقله وبدنه، هذا ربه، هذا سيده، هذا خالقه.
وعد الله للذين اتقوا بجنات تجري من تحتها الأنهار
هؤلاء الذين تقوا ربهم ما لهم؟ وما هو هذا الذي سينبئهم به الرسول وهو خير لهم مما ذكر من الشهوات؟ الجواب: لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]، الجنات جمع جنة.. بستان، لكن ما كل بستان يقال فيه جنة، فالجنة والجنان إذا كانت أشجاره قد التفت وأصبحت ملتفة ببعضها البعض، أما شجرة هنا وأخرى هناك والشمس تحرق فليس بجنة هذا. وعدد الجنات لا يحصى، ونحن نعرف عنها واحدة.. الفردوس، فأين توجد هذه الجنات؟ في السماء.فإذا قال قائل: كيف لا تسقط، تبقى النخلة في السماء لا تسقط.. القصور لا تسقط؟ فالجواب: إذا خطر ببالك هذا فقل له: يا عدوي، ارفع رأسك إلى هذا الكوكب النهاري.. إلى الشمس، لِم لا تسقط؟ أحكمته يد أمك هناك؟ لم ما سقط وهو أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة؟ أو ما في شمس؟ الكواكب تعد حصى الأودية ولا تعدها فوقنا، فكيف ثبتت؟ بأمر من يقول للشيء كن فيكون.نحن أتباع نبي صلى الله عليه وسلم ارتاد الجنة ووطئها بقدميه الشريفتين، ورآها رأي العين، رأى أنهارها، قصورها، حورها، وتجاوزها، والذي يشك في هذا ميت لا قيمة له.لما قلنا: ما وصلوا القمر، لا الأمريكاني الكذاب، ولا الروسي الساحر، فهذا كذب، ماجت الدنيا وضاقت كيف تقول هذا؟ قلنا لهم: هل آمنوا برائد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتحل من مكة إلى فلسطين في لحظات، ومنها اخترق السبع الطباق إلى الجنة؟ لِم لا يؤمنون ونحن نجري وراءهم ونصفق: وصلوا القمر؟ أي قمر هذا؟ ما قيمته؟والحمد لله، ما مضى نصف قرن حتى كذبوا أنفسهم، فيخرج رائد أمريكي فيقول: والله أكاذيب، ما وصلنا القمر وأنى لنا ذلك، فخافوا وسكتوا، لأنه فضحهم منذ سنة أو سنتين فقط. وأما الجنة فارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، واسمعوا الله الجبار يحلف: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ [النجم:1-5] جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً [النجم:6-13] مرة أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].عجزت الإنس والجن على أن ينقضوا آية من هذا القرآن، فتاهوا في الأرض حيارى وما استطاعوا. وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13] أي: محمد رأى جبريل، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18] هذا كلام الرحمن الرحيم، هذا الذي حوله العدو إلى المقابر والمآتم يقرأ على الموتى.إذاً: أبواب الجنة ثمانية وأما الجنات والله لا يحصيها إلا الله، والدليل أن أقل واحد له جنتان: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. إذاً: الجنات لا يحصي عددها إلا خالقها، لكن أبواب الجنة ثمانية، لما تدخل تجد قصورك أنت وجناتك، وهل تعرفون أن أهل الجنة ينظر أحدهم إلى قصر أخيه كالكوكب الغابر في السماء يتراءون منازلهم في العلو كما نتراءى الكواكب في السماء، قولوا: آمنا بالله.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
أوصاف أنهار الجنة
قال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]. كم عدد الأنهار؟ اسمعوا الآية المبينة، قال تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم والمعروفة أيضاً بـ(القتال): مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] كم نهر؟ أربعة أنهار: أنهار كاملة من اللبن، وليس لبن أمي ولا غنمتي، بل لبن دار السلام. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ [محمد:15] الآن الكيلو بمائة ريال، وهناك أنهار تجري من العسل، فأية نحلة أنتجت هذا؟ لا تسأل! لا يحتاج إلى نحل فهذا يتم بأمر (كن فيكون). وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، أظنكم تعرفون الخمر، ومواد تركيبها، هذه الخمر حرمها الله تعالى على هذه الأمة؛لأنها أمة الرسالة، أمة الهداية، أمة الريادة، فلم يسمح لهم أن يتجمعوا على كئوب وكئوس الخمر يشربونها؛ فتذهب عقولهم، ويقولون الباطل، وينطقون بالسوء والهجر والكفر! أئمة البشرية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا حرمها عليهم تحريماً باتاً، والمدمن لها المواظب عليها ليل نهاراً لن يشربها في دار السلام، والله لن يذوقها، مدمن الخمر لا يذوقها في الجنة أبداً.وإن قلت: علل يا شيخ؟ كيف ذلك؟ فأقول: ما أدمن عليها وواظب عليها أربعين أو خمسين عاماً إلا لأنه ما آمن، إيمانه ليس بسليم ولا صحيح، والله لو آمن ما استطاع أن يعاودها أكثر من ثلاث مرات. وإن شئت أن ترقى رقياً آخر فقل: إذا أدخله الله الجنة يصرف قلبه عن الخمر، فلا يسمع بها ولا يراها ولا يحبها، يصرفه عنها صرفاً كاملاً إذ لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، فلا يشتهيها ولا يشربها.
الوضوء مفتاح أبواب الجنة
عندنا جائزة: أبواب الجنة الآن موجودة والله، وهناك كلمات تشبه السحر إذا قلتها تنفتح أبواب الجنة لك الآن وأنت في الأرض، اسمعوا أبا القاسم يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه وسلم، يقول: ( من توضأ فأحسن الوضوء ) كما شرعه الله في كتابه وبينه رسوله لأمته (ثم رفع طرفه إلى السماء) والطرف: العين، ومنه: أشارت بطرف العين.. ( وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتفتحت له أبواب الجنة الثمانية ). كيف تتفتح؟ ليس هناك في فرق بيننا وبينها، آلياً، أبواب المطارات تفتح لك وأنت مازلت بعيداً.. أبواب السيارات في يده آلة يضغط عليها فينفتح باب السيارة.. هذا مثال يقرب المعنى إلينا . إذاً: بمجرد يا عبد الله! يا ولي الله، يا أمة الله المؤمنة تتوضئين وتحسنين الوضوء وترفعين رأسك إلى السماء وأنت المؤمنة وتشهدين شهادة الحق وتسألين الله الطهر والصفاء.. بمجر ذلك تتفتح أبواب الجنة، ولو كنت أمامها والله لدخلت، لكن بيننا وبينها قرون، وسيأتي ذلك اليوم إن شاء الله!
معنى قوله تعالى: (خالدين فيها)
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:15]، فلا يخرجون منها أبداً، لا موت ولا تحول أبداً، فأهل الجنة لا يرغبون أن يتحولون عنها أبداً.عندنا لطيفة! نكررها للزائرين: الذين يقرءون سورة الكهف يوم الجمعة لهم جائزة، يقول تعالى في آخرها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]، أي: لا يطلبون التحول منها أبداً؛ وذلك لوافر نعيمها.وقلنا: الآن سمعنا الذي يسكن في القاهرة المعزية يقول: آه لو زرت باريس، والذي يسكن باريس يقول: آه لو زرت دمشق.. آه لو زرت موسكو وهكذا.. إلا المؤمنون المتقون المهاجرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، المؤمن الصادق الإيمان، العارف بربه إذا نزل المدينة ونبت فيها وترعرع والله لو يعرض عليه أن يحكم البلد الفلاني والتاج على رأسه لا يخرج من المدينة؛ لأن بها قطعة من الجنة. تعرفون أين هذه القطعة؟ إنها الروضة؛ لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، لهذا الجزء في المدينة المؤمنون الصادقون لا يبغون التحول عنها أبداً. يعرض على المؤمن من أهل المدينة: تعال نجعلك أميراً في الرياض، فيقول: لا.. لا. نسند إليك مهام جدة والمواني كلها. فيقول: لا.. لا، لا نخرج من المدينة إلا إذا كان لأمر صدر رغم أنوفنا، كأمر أمير المؤمنين الجهاد فيجاهد ويرجع.اسمعوا! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدعو الله وبنته أم المؤمنين حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تسمعه فيقول: (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك). فتقول: يا أبتاه! كيف هذا؟ الجهاد وراء نهر السند وبالأندلس، وأنت تطلب الموت في المدينة والشهادة؟ كيف تجمع بين الشرق والغرب يعني؟ فيقول لها: اسكتي، فضل الله واسع، ليس شأنك يا حفصة ! واستجاب الله لـعمر، واستشهد في محراب رسول الله، جاء مجوسي منتن عفن مبعوث من قبل الحزب الوطني الإيراني- ليدمر الإسلام وبخاصة عمر نقمة عليه، فهو الذي مزق تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن مالك بن جعشم - أعطوه التعاليم: أن يقتل عمر وهو يصلي بالمؤمنين، فما إن ركع رضي الله عنه حتى طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه.والعجيب: لما أغمي عليه رضي الله عنه والدماء تسيل أخذوه فسأل: من القاتل؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي. فقال: الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله.تحقق طلبه، وجمع الله له بين متباعدات؛ إنه على كل شيء قدير، فكان موته رضي الله عنه شهادة في سبيل الله وموت في بلد رسوله. استجاب الله دعاءه.
المدينة حرام من عائر إلى ثور
عرفتم المدينة أم لا؟ إنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واسمعوا! بياناً رسمياً هذه الليلة وفكروا وسترحلون منها، لا حق لكم في البقاء، اسمعوا! يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور )، عائر جبل كالحمار؛ لأن العير هو الحمار في لغة العرب. وثور: جبيل صغير رابض وراء أحد من الشمال، أحد في الحرم وجبل في مكة اسمه ثور أيضاً، والعرب يسمونه لأنه كهيئة الثور.
معنى الإحداث في المدينة
يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ). من يتحمل هذه؟ نشرح لكم أم أنكم عالمون؟الذي يؤسس بنكاً ربوياً ويأخذ ويعطي هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يفتح أستوديو للتصوير في مدينة رسول الله أحدث حدث شر وسوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعن الله المصورين ). ويقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون )! الذي يفتح صالون حلاقة كأنه في لندن أو باريس فيحلق وجوه الرجال ويخنثهم، أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يورد في الخفاء وبالهمسات الكوكائين والأفيون والحشيشة ويروجها في الخفاء والظلام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! ولا يخرج من هذه اللعنة بل هو أول مستحق لها.والذي يورد السجائر على اختلافها وتنوعها ليشم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائحة الكريهة في مدينته، مدينة الملائكة والنور ويبيع ويوقع المسلمين الغافلين الجهلة في هذه الفتنة العظيمة أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله!والذي يأتي ببدعة أو خرافة ينشرها في الخفاء وفي البيوت من البدع التي تتنافى مع السنة والكتاب ويروجها في الخفاء كالطرق الصوفية وما إليها هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! أحدث أبشع حدث يفسد على المؤمنين قلوبهم ويدسي أرواحهم.الذي عند بداية العطلة السنوية يوزع مناشير أيها الأبناء تعالوا إلى المكتب أربعين يوماً في لندن تتخرجون علماء باللغة الإنجليزية فيجمع الشبيبة الغافلة ويرمي بها في أحضان الكفر والمسيحية ويتعلمون الرقص والخنا، وشرب الخمر والباطل ويأتي بهم كالمجانين يكرهوننا في زينا وفي لبسنا، هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! فأي حدث أعظم من هذا؟أشار إلي أحد الصالحين: أن الذي يستورد هذه الدشوش أو الصحون الهوائية وينصبه على بيته ليتفرج بكامل أحاسيسه ومشاعره الساعة والساعتين والأكثر فيشاهد مناظر العهر والباطل والخنا والشر والفساد ويسمع أصوات العواهر والمغنين في مدينة الرسول قد أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! آه! لو كان الرسول حياً، يلعنه لعناً يتمزق فيه ويتشتت.إذاً: (من أحدث فيها حدثاً) ما كان موجوداً عندنا في كتابنا ولا في هدي رسولنا بل أحدثه (أو آوى محدثاً) ساعده وناصره وقواه على أن ينشر هذه البدعة أو ينشر هذا الباطل (فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً)، لا فرضاً ولا نفلاً، فالفرائض مردودة والنوافل مردودة.معشر المستمعين والمستمعات! إن شاء الله عرفنا الطريق، فلا نسمع في بيوتنا إلا كلام ربنا، نتملق إلى ربنا، وعندنا إذاعة ربانية لا نظير لها في دنيا البشر، إذاعة القرآن الكريم هذه الإذاعة افتح أبواب أبواقها طول النهار والليل، فلا تسمع امرأة تتكلم ولا تغني، ولا رجلاً يعزف، ولا باطلاً، لا تسمع إلا قال الله.. قال رسوله.. العلم.. الحكمة.. الآداب.. المعرفة.. السياسة السامية الرفيعة. أعرض عن هذه وآتي بإذاعة تغني فيها عاهرة في بيتي؟ أدياثة هذه أم ماذا؟سيقول قائل: يا شيخ لا تلمهم؛ لأنهم ما علموا. إي نعم، لو علموا ما علمتم ما فعلوا، لكن من صرفهم عن العلم؟ لِم لا يحضرون مجالس العلم وهي بالعشرات في الحرمين الشريفين؟ لِم لا يسألون أهل العلم؟ الجواب: لما أصيبوا بما أصيبوا به، ولكن نسأل الله أن يتوب عليهم. اللهم تب عليهم وارحمهم، واغفر لهم يا رب العالمين.
معنى قوله تعالى: (وأزواج مطهرة)
قال تعالى: وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15]. الأزواج: جمع زوجة. والزوجة تجمع على زوجات، وهي الزوج. فكيف يكون الرجل زوج المرأة زوج؟ لأن الزوج ضد الواحد، لما تكون أنت يا عبد الله وحدك فلست بزوج، فلما نأتيك بالفتاة إلى جنبك تصبحان زوج، ومن أجل التنزل مع العوام حتى لا يتضايقوا نزيد التاء؛ لأن التاء تؤنث الذكر، عرفتم: زوجة، لكن القرآن لغته راقية. وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من دم الحيض والنفاس، فنساء الجنة والله لا يلدن ولا يحضن فالحيض دم منتن عفن، فنساء الجنة مطهرات من البول والغائط.وأما الطعام الذي أكلته والماء الذي شربته فيتحول الطعام إلى جشاء والماء إلى عرق والله لأطيب من أطيب مسك في دنيا البشر.وهنا أقص عليكم قصة ألطف بها جوكم؛ لأنكم متألمون من طول الدرس: ركب مسيحي لبناني في سيارة أو قطار مع مسلم سني، فأخذ المسيحي يسخر من السني، فيقول: يقولون: أنتم تؤمنون بالجنة، ونحن نؤمن بها، ولكن الجنة أرواح فقط ليس فيها أبدان -هذا معتقد النصارى الهابطين- وتقولون: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تصبح بطونهم؟ مراحيض يعني؟ فألهم الله السني المؤمن وهو ليس بعالم -ولكن وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]- فقال له: يا هذا! الغلام عندما يبلغ السادس من الشهور يتغذى أو لا؟ فقال: من الشهر الرابع ونصفه وهو يتغذى وينمو على الغذاء. فقال له: وهل بطن أمه أصبح مرحاضاً؟ أين بول هذا الولد وأين غائطه؟ فألقمه حجر وأسكته. فالغلام بمجرد ما يخرج من بطن أمه يبول، فلم ما بال بالأمس في بطن أمه؟ قولوا: آمنا بالله.إذاً: مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من كل ما هو أذى، بول أو غائط أو مخاط.
رضوان الله على عباده أكبر من أي نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15] هذا أكبر! رضا الله أكبر من النعيم كله، وعندنا مثل حي: يا أبا جميل لو تنزل في دار أحد الصالحين، ويقول: ابق عندنا كل واشرب والبس، وهو دائماً غضبان عليك، لا يكلمك ولا ينظر إليك، يتقزز منك، أسألك بالله: ذاك الطعام والشراب يروق لك؟ هل ستشرب بسعادة؟ والله تخرج، تصبر شهرين أو ثلاثة وتقول: مادام يكرهني لا أنزل عنده أبداً.فلهذا نعيم الجنة كله لو فقد رضا الله ما كان شيئاً، ولهذا قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، نعم لأن يرضى علي سيدي ولو حرمني الطعام والشراب المهم أن يكون راضياً عني، أما إذا كان ساخطاً ما قيمة الأكل والشرب واللباس؟!
معنى قوله تعالى: (والله بصير بالعباد)
قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]، بصير عليم خيبر بالعباد. لم هذه الجملة(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )؟ هذا النعيم المقيم لمحمد ورجاله، أم لأهل نجران من النصارى الصليبيين الذين يتبجحون ويقولون: هذا ابن الله ونحن.. ونحن، وغير ذلك من الهراء. إن الله بصير بالعباد، فينزل منازل الأبرار في دار السلام من هم متأهلون لها، ويطرد الآخرين ويرمي بهم في أتون الجحيم. ما هي بالسحر والتدجيل والباطل، تقولون هكذا جزافاً: نحن أولياء الله، فهذا لا ينفع؛ لأن الآيات في وفد نجران وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الذين هم أهل لهذا النعيم المقيم والذين ليسوا له بأهل فمأواهم الجحيم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم.

تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا...)

قال الله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. الَّذِينَ يستحقون هذا النعيم يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، هذه صفة الذين يقولون ربنا إننا آمنا بك وبلقائك وبرسولك وكتابك ووعدك ووعيدك، وبكل ما أخبرتنا به وأمرتنا بالإيمان به. ‏
التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح
إذاً: نتوسل إليك بإيماننا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذه أنفع الوسائل. إننا آمنا يا ربنا فاغفر لنا، توسلوا إلى الله ليغفر ذنوبهم بماذا؟ بجاه فلان أو سيدي فلان؟ آه، ماذا فعل الثالوث الأسود؟ حرموا هذه الأمة يا أبنائي قروناً إلا من شذ وندر؛ حرموهم من التوسل إلى ربهم وأعطوهم فقط وسيلتين منتنتين لا خير فيهما، ولا تنفعان لا في الدنيا والآخرة: اللهم إني أسألك بحق فلان وجاه فلان، تدخل قرية الصعيد بكاملها فلا تجد أحدهم يتوسل إلا بسيدي فلان، لا يوجد منهم من يفهم أنه يقوم في الليلة الباردة يغتسل ويصلي ويبكي ويسأل الله حاجته! لا يتوسل إلى الله وبطنه يؤلمه من الجوع لما يقف جائع عند الباب فيحرم نفسه ليواصل الجوع طول الليل ويطعم ذلك المسكين ويسأل الله بذلك. لا، فهم لا يتوسلون إلابـ: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.بم توسل هؤلاء المؤمنون من أهل الجنة؟ بإيمانهم بربهم، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك فكفر سيئاتنا، أو أذهب هذا الهم والغم عنا، اشف مرضانا.
مجالس العلم هي طريق المعرفة والرقي
الناس اليوم لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لماذا لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لأنهم طردوا من ساحات النور الإلهي، أبعدوا عن مجالس العلم، والعلم يطلب ولا ينزل عليك وحياً، وإنما العلم بالتعلم. وهذا ابن عباس رضي الله عنه كان يحصل له إشكال في آية أو في حديث أو حادثة ورسول الله قد مات، وأبو بكر مات، فيأتي إلى باب الصحابي في المدينة ويجلس عند الباب، يستحي أن يقرع الباب، فيبقى ينتظر الساعتين والثلاث حتى يخرج الصحابي! ما الذي يحصل؟ المدينة غبار ليس فيها بلاط ولا إسمنت، والغبار يأتي عليه وعلى وجهه، وهو صابر حتى يخرج عمر أو علي أو عبد الرحمن فيقول: يا ابن عباس كيف هذا؟ يقول: أمرنا بالتأدب معكم. بهذا ورثنا العلم وعلمنا وأصبحنا علماء، أما نحن إن نسأل فنسأل بسخرية واستهزاء -جربنا العوام- أو لا نسأل. لماذا لا نسأل؟ كيف نعرف الله حتى نحبه؟ كيف نعرف الله حتى نخافه؟ الشيء الذي لا تعرفه تحبه؟ لا تحبه أبداً. إذاً: هيا نعود، يجب على المسلمين في قراهم، في جبالهم، في تلالهم، في سواحلهم، في أوديتهم، حيثما كانوا، عرباً أو عجماً أن يراجعوا الطريق الذي سلكه رسول الله وأصحابه وأحفادهم، فليس بصعب هذا ولا مستحيل، فلا نكلفك يا بني سوى أن تطرح قلبك لله ووجهك وأن تسلم وجهك لله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فقط أهل القرية يتعاهدون على أنه لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا، ونوسع المسجد، إذا ضاق نوسعه، وبلغنا: أن ناساً أخذوا بهذه الدعوة وقالوا: ضاق المسجد علينا ونحن نوسع أعينونا، فأعانهم الصالحون، وقال: ما أصبحنا نرى بعد غروب الشمس رجل ولا امرأة في القرية، كلهم في بيت الرب يصلون المغرب ويجلسون هذه الجلسة ومكبرات الصوت متوفرة منة من الله عز وجل، نساءنا وراءنا ورجالنا أمامنا والستار بيننا، وأطفالنا بين أيدينا، ونتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام فلا تمضي عدة أعوم إلا أهل القرية كلهم أولياء الله، انتفى بينهم الحسد والبخل والغش، والخداع والنفاق والباطل والشرك؛ انمحى بأنوار الكتاب والسنة. هل هذا فيه صعوبة؟! مستحيل هذا؟! اليهود والنصارى الذين نجري وراءهم ونهتم بهم ونقتدي بهم ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا دقت عندهم الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل كله وذهبوا إلى المقاهي والملاهي، وإلى المراقص والمقاصف ودور السينما يروحون -كما يزعمون- على أنفسهم، ونحن أهل الإيمان، أهل السماء والأرض أين نذهب؟ في الأباطيل والتراهات والكلام السيئ.. وهكذا. كيف نتعلم؟ دلوني؟ والله لا طريقة إلى إنقاذنا إلا هذا أحببنا أم كرهنا، مع أنه لا يكلف شيئاً، والله إن أعمالنا النهارية الدنيوية لتقوى وتصبح أعظم، إذ يوجد عزم وصدق وربانية فلا غش ولا خداع ولا باطل، فنشتغل ثمان ساعات أكثر من أربعين ساعة عند اليهود والنصارى. ماذا أضعنا؟ كل ما في الأمر أنها ساعتان من غروب الشمس تغلق الدكاكين والمقاهي والعمل، نغلق كل شيء ونتطهر ونأتي بأزواجنا وأولادنا إلى بيت ربنا فنتعلم في صدق الكتاب والحكمة، ولا نزال نسمو ونرتفع حتى نصبح كالكواكب في السماء، ولا تسأل عما يفتح الله به علينا بعد ذلك.إذاً: صفات أهل الجنة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16]، يعترفون بذنوبهم أولا، ويطلبون من سيدهم المغفرة، ويتوسلون إليه بإيمانهم وأن يقيهم عذاب النار، خائفين، أي نعم.ومنهم أيضاً: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] وهذا نأتي عليه في درس آخر إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:49 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (56)
الحلقة (197)

تفسير سورة آل عمران (60)


يحث الله عز وجل عباده على المسارعة إلى التوبة وعدم التسويف فيها، إذ المسارعة إلى التوبة دليل التقوى وحياة القلب، ولا يزال العبد بخير ما أحدث توبة بعد الذنب، وأقبل على الأعمال الصالحة من إنفاق في سبيل الله، ومعاملة لعباد الله بالإحسان، فإن ذلك يسد الخلل ويجبر التقصير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
مراجعة لما سبق تفسيره من سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وصح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى هذا المسجد -يشير إلى هذا المسجد النبوي- لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )،وقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا صلى -أحدنا- العبد الفريضة، وجلس في المسجد ينتظر الأخرى؛ فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يفرغ من الصلاة ويخرج من المسجد )، فلو دفعنا أرواحنا لأن نظفر بهذا الخير ما اتسعت لذلك، ولو خرجنا مما نملك على أن نظفر بهذا الخير ما يكون ذلك كافياً، ولكن فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].أعود فأقول: أسألكم بالله من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟! قطعاً يذكرنا بخير، ويباهي بنا ملائكته.وأخرى أيضاً: من نحن وما نحن حتى تصلي علينا ملائكة الله فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، طيلة ما نحن في بيت الله ننتظر الصلاة؟ إنه لا يسعنا ألا أن أقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إذ ملايين البشر والله محرومون من هذا، ولا يُعطونَه ولا يظفرون به، ونحن هيأنا الله بفضل منه وإحسان، وأهلنا لهذا الخير، فهيا نحمد الله فنقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.معاشر المستمعين والمستمعات! بالأمس ظننا الوقت قد انصرم وما ذكرنا ما في هذه الآيات من هدايات، فنعود إليها الآن إن شاء الله بعد أن نتلوا الآيات تذكيراً لكم بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هذه الآيات الخمس لها هدايات؛ إذ كل آية تحمل هداية، وأُذكركم أن بالقرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل رباً وإلهاً، عليماً حكيماً، قوياً قديراً، وتدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته، وبيان ذلك: هل يوجد كلامٌ بدون متكلم؟ مستحيل، وبالتالي فهذه الآية تكلم بها الله وأوحاها إلى من أوحاها إليه وأنزلها عليه، فهي تدل دالة دلالة قطعية على وجود الله، ووجود الله عز وجل -كما علمتم- لابد من علم أحاط بكل شيء، ولابد من قدرة لا يعجزها شيء، ولابد من رحمة لا يخلو منها شيء، ولابد من حكمة لا يخلو منها شيء في الكون، فالله عز وجل القوي، القدير، العليم، لحكيم، الرحيم، لا إله إلا هو ولا رب سواه.والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أين هو؟ هناك قبره الشريف وإلى جنبه صاحبيه أبي بكر وعمر، وتلك الحجرة حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، وهذا مسجده وتلك روضته، وقد عاش آباؤنا أباً عن أب إليه صلى الله عليه وسلم، فنحن موقنون بوجود رسولنا في بيته في حجرته أكثر من يقيننا بوجودنا الآن في مسجده، فهذا النبي العربي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد الأربعين سنة يتفوق بحيث والله الذي لا إله غيره ما وصل ولن يصل إلى مستواه العلمي كائناً من كان، وهذا القرآن الكريم تحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، على أن يأتوا بسورة فقط فعجزوا، وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، قال العلماء: هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقدر على قولها إلا الله، ووجه ذلك: لو أن اليابان الصناع اخترعوا آلة صناعية من نوع الآلات المستعملة في هذه الحياة، فهل تستطيع اليابان أن تقول: نتحدى البشر لمدة سبعين سنة أن يوجدوا نظير هذه القطعة أو هذه الآلة؟ والله لا يقولون، كذلك روسيا البلشفية الحمراء الملحدة التي تفوقت على الصين واليابان، هل تستطيع أن توجد قطعة من قطع الآلات وتقول: نتحدى البشرية أن توجد مثلها؟ الجواب: لا.فلهذا قول الله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقول هذا إلا الله؛ لأنه بيده ملكوت كل شيء، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه وعلمه وقدرته، فهو يعلم أنه لا يوجد أبداً ولن يوجد من يأتي بسورة من مثل هذا القرآن فضلاً عن الإتيان بمثله، ومن ثم طأطأت البشرية والجن رءوسهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من أميٍ مثل محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الهداية والنور للبشرية إلى اليوم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ...) وما بعدها من كتاب
أيسر التفاسير
يتبع‏


ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:50 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] ]، والمسارعة: المبادرة بدون توانٍ، وقد علمنا معشر المؤمنين والمؤمنات! ما أجمع عليه أهل هذه الملة وهو: أن التوبة تجب على الفور، ولا يحل لمؤمن أن يقارف ذنباً ويؤخر التوبة ساعة أو أسبوعاً أو يوماً أو أياماً أو أعواماً، بل إذا زلت القدم وسقط عبد الله في الذنب قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولينفض الغبار عنه وليواصل سيره وطريقه إلى ربه، ولا يقول: سأتوب بعد كذا أو يوم كذا أو عندما يوجد كذا، فإن هذا حرام بالإجماع، إذ لا يحل تأخير التوبة أبداً، نعم قد تعترض العبد أو الأمة وهو في طريقه إلى الله شيء من العقبات أو الهواجس أو الوساوس فيقع، فيلزمه أن يعجل بالتوبة على الفور، وليواصل سيره إلى دار السلام، أما أن يؤخر التوبة فإنه لا يدري هل يعيش ساعة أو لا يعيشها؟ من يضمن له أن يعيش كذا عاماً أو يوماً أو ساعة؟والقرآن الكريم هداية الله تعالى، فنذكر ما قد علمتم وفهمتم وزادكم الله علماً، فيا أهل القرآن! إذ قال تعالى من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، هذه الصيغة تفهمون منها أن الله أوجب على نفسه هذا الحق، ولا يوجب على الله أحد، ولكن هو يتفضل ويوجب على نفسه ليطمئننا أن هذا حق لنا على الله، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، والسوء يا أهل العلم! كل ما يسيء إلى النفس بالظلمة أو النتن والعفن، كل ما يؤثر على النفس فيفقدها النور والصفاء. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وليس معنى (بِجَهَالَةٍ): فقط الذي يعرف أن الله حرم هذا أو أوجب هذا معرفة يقينية ثم يسخر أو يستهزئ أو يرفع كتفيه أو يخرج لسانه ساخراً، فإن مثل هذا لا يتوب الله عليه؛ لأنه أذنب متحدياً لله خارجاً عن طاعته، إذ الذي يتوب ويقبل الله توبته من يعمل السوء بجهالة، أي: نوع من الجهالة، كأن لا يعرف الحكم، أو أن يقول: إن شاء الله سيتوب الله عليّ، أو يقول: لو كان هذا يُغضب الله قلمَ فعله الشيخ الفلاني؟! فلابد من نوع من الظلمة حتى يقوى ويقدر على فعل هذه المعصية، لا أنه كإبليس يتحدى الله ويتكبر عن عبادته، وهذه لطيفة دل عليها قوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17].وأما الثانية: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب هنا نسبي، فنحن لا ندري نسبة هذه القرب، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تكون على الفور، فإذا زلت القدم فقلت كلمة السوء، أو نظرت النظرة المحرمة، أو ألقيت بلقمة محرمة في فيك، فعلى الفور الفظها وألقها بعيداً عنك، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فعجلوا قبل فوات الوقت، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وتكون بالتوبة النصوح، وإلى جنة: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، وذلك بزكاة النفس وطهارتها.إذاً: [ وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها ]، فكم إنسان يقول: سأتوب حتى أتزوج! حتى أتوظف! حتى يجيء والدي! حتى نحصد! وفجأة يأتيه الموت فيموت، ولذا فالدين النصيحة، فيا عبد الله! اسأل الله أن يحفظك أن لا تقع في ذنب، وإذا قُدِّر ووقعتَ فعجل بالتوبة، والتوبة ليست أثقالاً ولا أحمالاً لا تطاق، إنما التوبة أولاً: اللهج الصادق بقول العبد: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر لله، مع ندم يَمَضُّ في قلبك ويؤلمك، والبعد عن هذه السيئة، اللهم إلا إذا كان الذنب يتعلق بأخيك، كأن قذفته، أو أكلت ماله، أو نهشت عرضه، فعند ذلك لابد وأن تطلب منه العفو والصفح والمسامحة، أو تعطيه وتمكنه من نفسك ليقتص.فإن قال قائل: كيف أمكنه من نفسي؟! فأقول: تذكرون حادثة بلال رضي الله عنه عندما عيَّره أبو ذر الغفاري بأمه وقال له: يا ابن السوداء -وهو في الحقيقة ابن امرأة سوداء- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تعير أخاك وتقول له: يا ابن السوداء، إنك امرؤ فيك جاهلية )، فماذا فعل أبو ذر الغفاري؟ جاء فطرح رأسه على الأرض وقال: لا أرفع هذا العنق من الأرض حتى تطأه برجلك يا بلال! فهذا هو جزائي، ولذا فمن الجائز أن تأتي إلى أخيك وتقول: أنا أخذت مالك، أو فعلت كذا وكذا في حقك، وأنا الآن بين يديك، فخذ حقك، أما إذا كان الذنب بترك واجب أو بفعل محرم مما حرم الله، فالتوبة هنا هي الاستغفار والندم والإقلاع الفوري والعزم ألا عودة إلى هذا الذنب بحال من الأحوال.إذاً: هداية وَسَارِعُوا دلت على وجوب التوبة على الفور. [ ثانياً: سعة الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ]، فالذي دلنا على أن الجنة موجودة الآن ولم توجد بعد هو الله؛ لأن الذي خلقنا هو خالقها وموجدها، وقد أخبرنا فقال: (أُعِدَّتْ)، أي: هيئت وأحضرت للمتقين، فهي محضرة معدة موجودة والله العظيم. [ ثالثاً: المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق ]، ودل على هذا الحكم قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فمن أعدها؟ الله، وهل يستطيع غير الله أن يعدها؟ لو تجتمع البشرية كلها على أن توجد فقط كوكب القمر أو كوكب الشمس لا تستطيع.إذاً: تلك الجنة التي وصفها خالقها بما لا مزيد عليه في كتابه، وقبل وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم رفعه إليها، ومشى فيها، فشاهد أنوارها وقصورها وأنهارها، ومشى بقدميه على تربتها، وكان أول رائد عرفته البشرية، ولم يبق في ذلك مجال للريب أو الشك، أو يقال: إن الجنة مجرد خيالات.إن هذه الجنة موروثة وورثتها هم المتقون، إذ قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، والسبب والعلة والحكمة في ذلك: أن المتقين طهروا أرواحهم وزكوها بالعمل الصالح والبعد عن العمل الفاسد، فأرواحهم زكية طاهرة، وهذه الأرواح الطاهرة هي التي يرفعها الله إليه ويدخلها دار السلام في جواره، أما الأرواح الخبيثة العفنة المنتنة من أوضار الشرك والذنوب والآثام فليست متأهلة للجنة دار السلام.وبعد أن عرفنا ذلك فهيا نتق الله عز وجل، فلا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله، وإن زلت القدم وأعمانا العدو -إبليس- وغرر بنا فعلى الفور -وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه- نستغفر الله، ونعزم على عدم العودة إلى ذلك الذنب، فيبقى ذلك الطهر وذلك الصفاء كما هو؛ لأن المتقي اتقى عذاب الله بفعل طاعته بما أمر وترك ما نهى، إذ المأمور به يزكي النفس والمنهي عنه لا يلوثها، بل يبقيها على طهارتها وصفائها. وهذا بيت من الشعر نستطيع أن ننظر إلى حقيقته من خلال هذه الآيات: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسفيا عبد الله! ترجو النجاة من ماذا؟ من الماء أو لا؟ إن السفينة لا تجري على الرمل والتراب، إنما تجري على الماء، وبالتالي كيف ترجو النجاة يا عبد الله! ولم تسلك مسالكها؟! إن مسالك النجاة هي التقوى، الإيمان والعمل الصالح والبعد عن الشرك والكفر والمعاصي، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، فهل أنت تريد هذا أو لا؟ هل سلكت مسالك الجنة فمحوت ذنوبك واستغفرت الله منها وعملت الصالحات؟ [ رابعاً: فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله ولو بالقليل ]، إذ الاستمرار والمداومة على النفقة في سبيل الله ولو بالقليل كحبة عنب أو شق تمرة، خيرٌ من العمل الكثير المنقطع، إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، والآن من يشق التمرة نصفين فيأخذ نصفها والنصف الآخر لغيره؟! هل هذا موجود؟ لقد كان أحدهم يتغذى والله بشق تمرة يوماً كاملاً، وتبقى النواة في فمه يمصها ويتلَّهى بها اليوم واليومين، فهيا نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة علينا، فإن رأيت أخاك في حاجة إلى شق تمرة فأعطه، وتكون بذلك قد اتقيت عذاب الله بشق تمرة، ومعنى هذا: اتقوا النار يا عباد الله! بالحسنات، كبيرة كانت أو صغيرة، قليلة أو كثيرة، المهم أن تقي نفسك من عذابه، فإذا ما وجدت إلا نصف تمرة شققتها بينك وبين أخيك وأعطيته نصفها.قال: [ فضل استمرار الإنفاق في سبيل ولو بالقليل ]، ودل على ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال اليسر وفي حال العسر وفي حال الحبس، إذ إنهم دائماً ينفقون، سواء القليل بالقليل والكثير بالكثير، وهذه المواصلة هي التي رفعتهم إلى هذا العنان من الكمال، والآية ترغبنا في النفقة طول الحياة، وليست من رمضان إلى رمضان، لكن في حدود الطاقة، فالذي عنده حفنة يعطي منها، والذي عنده تمرة واحدة يقسمها أيضاً بينه وبين أخيه ولا يقول: هذا الشيء قليل، وعند ذلك أمة هكذا لا يوجد فيها فقر أو احتياج، بل في هذه الظروف بالذات لو أقبلت أمة الإسلام في كل ديارها على الله في صدق لتجلى الكمال في ديارها بصورة لم تحلم به البشرية، لكن مع الأسف سحرونا وأبعدونا عن الله ونحن تائهون في المتاهات. [ خامساً: فضيلة خُلة ] والخُلَّة -بضم الخاء-: الصفة، والخَلَّة -بفتح الحاء-: الضعف والحاجة [فضيلة خُلَّة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام ]، إذ قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . فقوله: ( ليس الشديد بالصُّرَعة )، أتعرفون الصُّرَعة؟ ذاك الملاكم الذي ما لاكمه أحد إلا صرعه، فهذا هو الصرعة، وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة فغلبه. إذاً: ليس الشديد والقوي بالصرعة الذي يصرع الناس، ولكن القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإذا غضب لم ينطق بسوء، ولم يظهر منه أو عنه شيء اسمه: سوء، وهذا أمر عظيم، فبدل أن يسب أو يشتم أو يتناول شيئاً بيده ليضرب به، فإنه يكظم غيظه، ولا يظهر ذلك عنه أبداً، وكأنك مدحته وأثنيت عليه، وقد قلنا لكم:جربوا هذا فيما بينكم حتى تكتسبوا هذه الصفة، فإذا أغضبك أخاك بكلمة أو بيده أو بأية حركة، فهل أنت ممن يصبر فيكظم غيظه ويحبسه ولا يظهر عنك شيء لا باللسان فينطق ولا بيدك بأن تأخذ وتضرب؟وللأسف الشديد أن المتزوجين قد تأتي الزوجة بأدنى حركة فيطلقها زوجها، فإن سئل: لمَ طلقتها؟ قال: أغضبتني! أو قال: يا أم فلان! عجِّلي بالإفطار، فردت عليه فقالت: انتظر قليلاً، فقال: كيف ننتظر قليلاً؟ أنتِ طالق، أو يقول لها: أما تستحين؟ أنتِ حيوان، أنتِ كذا وكذا، وهي تغضب أيضاً، فلا هو يكظم غيظها ولا هي تكظم غيظه، وبالتالي الطلاق والفراق، وأنا أقول لهم والحمد لله -وهذا من فضل الله علينا-: قد عاشرنا المرأة ستين أو ثمانية وخمسين سنة والله ما قلنا كلمة سوء ولا قالت هي كلمة سوء، ومن ثَمَّ لا غضب ولا سخط ولا طلاق ولا شيء من هذا. ثم كيف أعيش معكم في القرية أو في المدينة العام والأعوام لا أوذي مؤمناً في الطريق لا بسب ولا شتم ولا أذى، وأوذي أختي في بيتي وهي محبوسة من أجلي؟! فسروا لي هذه الظاهرة، فأنا لا أعرف كيف تُفسر؟! أنت يا عبد الله! تعيش مع أناس طول العام في الشارع في العمل أو في أي مكان، فهل قد آذيت مؤمناً؟ لا تسمح لنفسك بذلك، إذاً فلمَ تؤذي هذه المحبوسة في بيتك بكلمة سوء؟! أعود فأقول: إننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا ولا هذبنا أنفسنا، فهذا هو السر، وإلا فالذين يتربون في هذه الحلقة الآن والله تجلت عنهم هذه الكمالات وظهرت فيهم، والذين حبسوا أنفسهم ليتعلموا هذا العلم، والذي ما يعلم هذا ولا يحضره أنى له أن يعرف؟ إذاً لا بد من العلم. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، فهل تعرف كيف تكظم القربة إذا فاض الماء حتى ما يخرج منها؟ كذلك لما تصون نفسك ويريد اللسان أن ينطق، والعين أن تحمر، والوجه أن يتبدل، فتملك ذلك وتقول: أستغفر الله، أو الحمد لله، أو سامحني يا رب. [ سادساً: فضل العفو عن الناس مطلقاً، مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم ]، العفو عن الناس أو البشر، كبارهم كصغارهم، وأشرافهم كضعافهم، مؤمنوهم ككافريهم، فمن أراد أن يظفر بهذا الكمال ويفوز بهذا الوصف فيقوى على أن يعفو عمن ظلمه، وهو قادر على أن يضربه ويأخذ حقه، ولكن يريد أن يعلو فلا يبال بمن آذاه، ويعفو ويصفح ويتجاوز عنه، وكأنني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الصدقات، وإذا بأحد الأجلاف الغلاظ -غفر الله لنا وله- يأخذ أو يُلبِّب رسول الله بردائه ويقول: ( اعدل فينا يا رسول الله! )، ومع ذلك يتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ويتركه ولا يؤاخذه، وأنا أسألكم بالله! لو وقع هذا معكم فكيف سيكون حالكم؟ وقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر، ويقول له: ويحك إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟ )، وهو كذلك، فهل عرفتم العفو كيف يكون؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يضربه أو يؤذيه، بل لو قال فقط لرجاله: اضربوه، لضربوه ضرباً شديداً، ولكنه العفو النبوي والكمال المحمدي، ولذا فاعفوا على الأقل على أولادكم وعلى نسائكم وعلى إخوانكم إن لم تعفوا على الظالمين والكافرين، مع أن العفو يشمل حتى الكافر، لأنها صفة جلال وكمال يريد صاحبها أن يسمو ويعلو ويرتفع.قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه )، أي: لا يؤاخذه، فلا يرد السب بسبة، ولا الشتم بشتمة، ولا اللطم بأخرى، وإنما ليعف عمن ظلمه، قال: ( ويعطي من حرمه )، أي: من حرمه من شيء فلا يقابل ذلك بأن يحرمه، بل يعطيه، فلو أن أحدنا جاء إلى آخر فقال: أعطنا بعض التمر، فرد عليه فقال: لا أعطيك شيئاً، ثم في اليوم الثاني جاء يطلبه تمراً والتمر بين يديه، فهل يقول له: لا؛ لأنك حرمتني وما أعطيتني يوم أمس؟ الجواب: لا، بل يعطي من حرمه، وذاك الذي حرمني هو الذي أعطيه، وأتغلب على الطبيعة وعلو فوق الفطرة، وأبحث عمن يحرمني فأعطيه؛ لأني أُريد أن يشرُف ويعلو بنائي، وترتفع درجاتي يوم القيامة، قال: ( ويصل من قطعه )، أي: ذاك الذي قطعني وما أصبح يسلم عليّ ولا يزورني ولا يجلس إلى جنبي أنا أصله، فأجلس إليه وأسلم عليه وأزوره، ولا أقطعه مقابل مقاطعته لي؛ لأني أريد أن أتفوق عليه.ومرة أخرى يا أهل المعرفة! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه )، وإن شاء الله سنجرب كل هذه، فإذا ظلمني ظالم أعفو عنه وأتركه لله، مع قدرتي على أن أنال منه، وإذا حرمني شخص من شيء طلبته منه فلا أحرمه من شيء طلبه مني، وإن قطعني من قطعني من إخواني أو جيراني فأنا أصلهم، وذلك من أجل أن أتفوق، وأن يشرُف بنياني، وأن تُرفع وتُعلا درجاتي.ويقول أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث أقسم عليهن )، أي: ثلاث خصال أو ثلاث مسائل أقسم عليهن، وهي: ( ما نقص مال من صدقة )، فلو عندك كوم من المال فتصدقت منه بحفنة أو أقل أو أكثر فالرسول يحلف أن مالك ما نقص أبداً.والثانية: ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يؤذى فيعفو وهو قادر على أن ينتقم ما زاده الله بذلك إلا عزاً وإكراماً.والثالثة: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله رفعه، ولم يهبطه إلى الأرض مع الهابطين. [ سابعاً: فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ]: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].قال: [ ولحديث: ( ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ) ]، وأخصر من هذا: ( لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار )، أي: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة من صغائر الذنوب مع الإصرار، فإذا أصر العبد على الصغيرة فإنها تتحول إلى كبيرة وينتقل إليها، وإذا استغفر من الكبيرة وتاب منها فلا تعتبر كبيرة أبداً، فلهذا معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليكن منهجنا في الحياة أننا نستغفر الله من كل ذنب، وكلنا عزم على ألا نعود إلى الذنب ولو تكرر منا لعجز البشر ولضعفنا، إذ الاستغفار وعدم الإصرار هو الطريق إلى النجاة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:51 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (57)
الحلقة (198)

تفسير سورة آل عمران (61)


لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين في أحد بسبب عدم الصبر، وعدم طاعة القائد، أنزل الله آيات بينات يذكر المؤمنين فيها بالسنن المتحققة في الأمم التي سبقتهم، وإرسال الرسل لهم، وتكذيبهم إياهم، وتحقيق سننه فيهم بإهلاك الظالمين المكذبين، ونصر المؤمنين الموحدين، ثم يعزي سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ويبشرهم بالعلو على أعدائهم بعدما أصابهم في أحد من البلاء والقرح.
تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل يومنا هذا من ليلتنا هذه ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهت بنا الدراسة إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].بعد ذلك الاعتراف العظيم الجليل عاد السياق إلى غزوة أحد، فتأملوا الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141]، وهذا تدبير الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن)
قوله جلت قدرته: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، هذا إخبار بالواقع، وذلك أنه قد مضت قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمم تجلت فيهم سنن الله تعالى، فأهلك الله المكذبين والمشركين والمؤذين لأوليائه وصالح عباده، فإن شاءوا وقفوا على تلك المعالم، فعاد في الجنوب، وثمود في الشمال، وفرعون وقوم لوط في الغرب، فهكذا يعظهم ربهم فيقول لهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].إذاً: فنجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، وأنتم -أيها المؤمنون- هذا صنيعه معكم، فينجيكم ويهلك أعداءكم الكافرين، وقد تم هذا كاملاً غير منقوص.
معنى قوله تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
ثم قال لهم تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، ومن سورة اليقطين يقول تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:133-138]، فتجار هذه الديار يذهبون إلى الشام ومصر فيمرون بقوم لوط وديارهم سدوم وعمُّورة، فيرونها قد أصبحت بحراً ميتاً أو بحيرة منتة. فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، أي: المكذبين لله ورسله، المكذبين بشرع الله وسننه وقضائه وقدره.
تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، أي: هذا الذي سمعتموه ويتلوه الله علينا من الآيات بيان للناس، وبالتالي فمن أراد أن يتبين الحق من الباطل، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، والسعادة من الشقاء، والكمال من النقصان، فالآيات القرآنية موضحة ومبينة ومفصلة لذلك، وفي نفس الوقت هي هدىً وموعظة للمتقين، أما الفجَّار فلا يجدون فيها هداية ولا موعظة، وذلك لأن قلوبهم منتكسة، فلا يعون ولا يفهمون، ولكن المتقون أولوا القلوب الحية والنفوس الزكية، وأولوا البصائر والنهى، ما من آية في الكون -حتى طلوع الشمس أو غروبها- إلا ويجدون فيها ما يدلهم على علم الله تعالى وقدرته، ووجوب عبادته وطاعته.
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: يقول الله تعالى لهؤلاء الذين شهدوا معركة أحد: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا، ولا تقفوا عن أداء رسالتكم وهي نشر دعوة الله والجهاد بها. ثم يقول الله تعالى لهم: وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139]، أي: ولا تحزنوا على ما فاتكم أو ما أصابكم، واذكروا ذلك الانتصار الذي تم في أول النهار، وإذا بالمشركين -وهم ملوك- يفرون هاربين تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، ثم لما زلت القدم وخرج الرماة عن منهج القيادة الذي وضعته، ابتلاهم ربهم في آخر النهار، فأصيبوا بنكبة وبكرب وحزن ما عرفوه في تاريخهم.وها هو ذا الرحمن الرحيم يلاطفهم ويهون من شدة كربهم وحزنهم فيقول لهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، حقاً والله لهمُ الأعلون، أما الهابطون والأسفلون فهم الكافرون والمشركون، وإن حصلت تلك الهزيمة المرة فتلك لا تهبط بهم أبداً، إذ إنهم هم المؤمنون، ولهذا قيده بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فالمؤمنون دائماً والله هم الأعلون، فلا يهونون ولا ينزلون ولا يذلون، لكن إذا خرجوا عن سنن الله في الكون وعموا عنها وما أبصروها، وعدلوا عن التمسك بها، فإنه ينزل بهم ما ينزل بغيرهم؛ لأن الله لا يحابي أحداً، إذ إن الله تعالى وضع سنناً في هذا الكون، فمن سلكها في إيمان ويقين فاز ونجا ونجح، ومن تنكبها وبعد عنها أو تعامى عنها ولم ينظر إليها لا بد وأن يصاب بالهون والدون والذل والصغار والحقار. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: أعلى كل الخلق، فلو أن مؤمناً واحداً من المؤمنين الصادقين وضع في كفة ميزان، ووضعت البشرية كلها من أهل الكفر والشرك في كفة أخرى، والله لرجحت كفة المؤمن، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله عز وجل لا يرضى بأن يؤذى مؤمناً من المؤمنين وأن يَسْلَم كل الكافرين، بل يرضى بأن يؤذى كل الخلق من الكافرين دون ذلك المؤمن، والسر أن هذا المؤمن عرف ربه وعبده وأحبه وخافه ورهبه، بل كل حياته له، بينما أولئك الكفرة الضلال المشركون كفروا بخالقهم، وجهلوه وما تعرفوا عليه، وما سألوا عنه، وما سألوا عن محابه، ما أطاعوه، وبالتالي كيف تكون لهم منزلة عند الله تعالى؟! إن منزلتهم عند الله أحط من منزلة القردة والخنازير والكلاب والحيات، فهل عرف البشر هذا؟! المؤمنون عرفوا؛ لأن المؤمن الحق يرضى أن يقتل أو يقطع أو يصلب ولا يرضى أن يكفر بالله عز وجل، فهذا خباب بن الأرت لما وضعوه على المشنقة خارج الحرم ليقتلوه، جاءه أبو سفيان ممثل قريش يعرض عليه المساومة، فقال له: هل ترضى الآن أن تذكر آلهتنا بخير وتذكر محمداً بسوء ونطلقك فتعود إلى أهلك؟ والمشركون مجتمعون نساء ورجالاً ينتظرون هذا الحفل لقتل هذا الرجل، فقال حالفاً بالله: والله لا أرضى أن يُشاك محمد بشوكة وأعود أنا إلى أهلي!ولكي تعرفوا هبوط البشر عندما يكفرون بالله ولقائه، وأنهم أحط من القردة والخنازير، اقرءوا آية من سورة البينة من قصار المفصل نسمعها في أغلب الأوقات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر بمعنى: أشر، والبريئة: الخليقة كلها.فقول ربنا لأصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ [آل عمران:139]، أي: والحال أنكم أنتم الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، وهذا القيد قول نوراني، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: هذا الكمال الذي ظفرتم به وحصلتم عليه إنما هو لإيمانكم بالله عز وجل، أما الكافر فوسخ لا قيمة له عند الله، ومن شك في ذلك فليرجع إلى أخبار الله التي تقضي وتحكم بأن الكافر يعيش مليارات السنين في عالم الشقاء فلا تمسح له دمعة أبداً، وليست سنة ولا ألفاً ولا عشرة، بل مليارات السنين بلا نهاية أبداً، وسر ذلك: أن الله خلقهم ورزقهم، وخلق كل شيء من أجلهم، ولم يطلب منهم أكثر من الاعتراف به عز وجل، ثم طاعته فيما يهيؤهم لكمالهم وسعادتهم، وينجيهم من خسرانهم وشقائهم، فيرفضون ذلك ويأخذون في الافتراء والكذب والتضليل، لا لشيء، وإنما فقط حتى لا يؤمنوا بالله عز وجل.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:51 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله...)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]. ‏
البلاء الذي يصيب المؤمنين يصيب أعداءهم أيضاً
ويقول لهم أيضاً: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، أي: كما قد قُتِل منكم سبعون يوم أحد، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، فقد قُتِل منهم سبعون وأسر منهم سبعون في بدر، وغنمتم غنائمهم كلها. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، والقَرح والقُرح كالضَعف والضُعف: آلام الجراحات بالسهام أو بالسيوف.
من سنة الله تعالى أن الأيام دول
قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسيأتينا أنه لما انتهت المعركة جاء أبو سفيان يلاحق ويتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء حتى قارب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أفيكم ابن أبي كبشة؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فقال له عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: الحرب سجال، يوم بيوم، يعني: أصبتم منا في بدر فأصبنا منكم اليوم، فلا تحزنوا ولا تأسفوا، فقال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: قد خسرنا إذاً، وهو كذلك. والشاهد عندنا في قول ربنا لهم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسميت الدولة دولة من المداولة؛ لأنها تدول من شخص إلى آخر، والأيام دول، فأيام رخاء وأيام غلاء، أيام سعادة وأيام شقاء، أيام أمن وأيام خوف، وهذا كله ماض حسب سنة الله عز وجل، فهو الذي يؤمن من يشاء ويخوف من يشاء، ولكن يؤمن ويخوف بسنن لا تتخلف.
معنى قوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا)
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، أي: فعل الله تعالى هذا ليُظهر علمه الغيبي إلى العلن والمشاهدة، ولتظهر حكمته وسنته في خلقه، وليعلم الذين آمنوا من الذين كفروا، إذ إنه رجع مع ابن أبي ثلاثمائة مقاتل جلهم منافقون كافرون، ولولا هذا الامتحان لم يظهروا، ولو ما جاء الله بالمشركين إلى المدينة ليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوفق الرسول للخروج إليهم، فكيف يتميز الكافر من المؤمن؟!
معنى قول الله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وقد اتخذ منهم سبعين شهيداً، وهذا بالنسبة إلى من قُتِل في سبيل الله في الدنيا، وأما يوم القيامة فنشهد أيها المؤمنون على أمم قد سبقت، فيؤتى بنوح فيقال له: هل بلغت يا نوح؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بنا فنشهد أن نوحاً قد بلغ أمته، وذلك أننا قد قرأنا في كتاب الله فعرفنا قصة نوح وقومه -في جميع السور- وأنه قد بلغ رسالته، وبالتالي فيتخذ منا شهداء بمعنى: يُستشهدون في المعركة فيدخلون الجنة، وشهداء على الأمم السابقة واللاحقة، وهذه مرتبة عالية وفضيلة لا تعادلها فضيلة.
معنى قوله تعالى: (والله لا يحب الظالمين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، قد عرفنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم وهو ظالم، فالذين عبدوا غير الله وضعوا هذه العبادة في غير موضعها، وبذلك يكونون قد ظلموا وهلكوا، فالرماة الذين نزلوا من الجبل وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا المركز خالياً فاحتله المشركون، هؤلاء قد ظلموا؛ لأن الرسول وضعهم في هذا الموضع وهم وضعوا أنفسهم خارجه يطلبون الدنيا والمال.وكلمة: (الظلم) عامة، وأفظعها ظلم الله تعالى، وذلك بأن تأخذ حق الله وتعطيه لغيره، وبعض طلبة العلم ترددوا في هذا التعبير، فقالوا: كيف نقول: ظلموا الله؟! فنقول: إذا كانت هذه العبادة شرعها الله له، ثم عبدنا بها غيره فقد ظلمنا ربنا وأخذنا حقه، ووضعنا شيئاً في غير موضعه، ومن الظلم أيضاً: ظلم الناس في أعراضهم، في أموالهم، في أبدانهم، في كل ما يؤذيهم، ومن الظلم كذلك أن تغني في هذا الحلقة العلمية؛ لأن الموضع ليس موضع غناء، وهكذا يقول تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، والتمحيص: تمحص الشيء حتى يذهب كل ما كان فيه من دخن ودخل، وذلك ليبقى فقط العنصر الصافي الكريم، كما تمحص الجواهر والذهب وغيرها، وهؤلاء قد ابتلاهم الله بهذه المعركة وساقهم إليها، وكتب ما كتب، والعلة: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].وهذه الآيات غداً لو ندخل في الإسلام دخولاً جديداً ونواجه نفس المعركة ونتلوا الآيات وكأنها نزلت علينا في يومنا هذا؛ لأنه كتاب خالد بخلود هذه الحياة، ولا يرفعه الله من صدور العباد إلا في نهاية هذه الحياة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر ] أي: ما صبروا كما أمرهم قائدهم [ والطاعة اللازمة للقيادة، ذكر تعالى تلك الأحداث -التي تمت في أحد- مقرونة بفقهها لتبقى هدىً وموعظة للمتقين من المؤمنين ]؛ لأن غير المؤمنين لا يستفيدون [ وبدأها بقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم، فأمضى تعالى سنته فيهم، فأهلك المكذبين ونجا المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين، وستمضي سنته اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم، وإن ارتبتم -في الأمر- فسيروا في الأرض، وقفوا على آثار الهالكين، وانظروا كيف كانت عاقبتهم.ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات هو بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وهو هدىً يهتدون به إلى سبل السلام، وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ، فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون، هذا ما تضمنته الآيتان: الأولى والثانية.وأما الآيتان: الثالثة والرابعة فقد تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين ] بمعنى: أنه يحملهم على الصبر [ تضمنت تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلاً، بشرط إيمانكم وتقواكم، واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموتٍ أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم، قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد؛ فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال، يوم لكم ويوم عليكم، وهي سنة من سنن ربكم في الحياة، هذا معنى قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل والسر فيه وقال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ] أي: ما كانت هذه المعركة لغير حكمة، وإنما كانت مقصودة لهذا البيان [ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين، وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي ابن سلول -عليه لعائن الله- والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم، فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء ]، ولولا الهزيمة لم يكن بيننا شهيد أبداً، إنها حكمة الله تعالى، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].قال: [ واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، ثم عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ثم عثمان بن شماس [ وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير ]، وقبره الآن موجود بجوار قبر حمزة، ومصعب هذا كان شاباً لأبوين لم ينجبا سواه، وقد كانوا يكسونه الحرير وأفضل الملابس، ولما أن دخل في الإسلام وآمن بالله وبلقائه وبرسوله تغير حاله، قال أحد الصحابة: لقد رأيته يرتدي جلد شاة في مكة، وقد استشهد في أحد فما وجد الرسول ما يكفنه به إلا ثوباً واحداً غليظاً من جلد، إن غطَّى به رأسه انكشف نصفه الأسفل، وإن غطَّى أسفله انكشف رأسه، فجيء بالعشب والنبات ووضعوه على رجليه، وما إن هاجر إلى المدينة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وطاف بهذه الديار حتى دخل الإيمان إلى كل دار من دور الأنصار، وصبر ففاز رضي الله عنه وأرضاه، ونحن ما يمسنا من هذا شيء ومع ذلك نُعرض عن ذكر الله والعياذ بالله!قال: [ والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، أي: أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصاً للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيراً لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم ]. وهذا تدبير العليم الحكيم، والآن لمَ هبط المسلمون واستعمرتهم أوروبا والغرب؟! لمَ فعل الله هذا؟! ليمحص الله الذين آمنوا، إذ لا يحدث حادث في الكون إلا بعلم الله وعلى وفق سننه سبحانه وتعالى.قال: [ إن هذا الدرس نفعَ المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، أي: أن هذه الهزيمة التي كانت في أحد كان لها أثرها الطيب في موالاة الجهاد والانتصارات، وبيان ذلك: أن العلماء قالوا: لو أنهم اغتروا بكون النبي بينهم، وبكونهم مؤمنين يقاتلون في سبيل الله، وأنهم لن ينهزموا، سواء تسلحوا أو رموا بالسلاح، أخذوا بالحيطة أو لم يأخذوا بها، لو قالوا هذا ما انتصروا في المستقبل في أي معركة من المعارك، لكن علمهم الله أنهم رغم أنهم مع نبيهم، ويقاتلون في سبيل الله تعالى، وهم المؤمنون الصادقون، إذا خرجوا عن سنته في الانتصار وتعرضوا للهزيمة هزمهم وأذلهم.وقد ذكرت لكم أيضاً رؤيا منامية ذكرها الشيخ رشيد رضا -تغمده الله برحمته- في المنار فقال: رأى شيخنا محمد عبده -رحمة الله عليه- النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو راجع من أحد إلى المدينة على بغلته، والمؤمنون وراءه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة على النصر! وهو والله كذلك، إذ لو اغتر المؤمنون بإيمانهم، وأنهم أولياء الله تعالى، حملهم ذلك على الإعراض عن سنن الله، وعدم الأخذ بما وضع الله من السنن في هذا الكون، لا بد وأن ينكسروا ويتحطموا، إذ الإيمان يلزم أصحابه بألا يتركوا سنة من سننه الله تعالى، فكيف يتركون سنناً واجبة في النصر ثم يطلبون الانتصار؟! فهذا درس للمسلمين، وقد استفاد من ذلك أصحاب رسول الله وأولادهم في خلال خمسة وعشرين سنة فقط، حيث قد تم لهم النصر في العالم كله، من إندونيسيا إلى ما وراء نهر السند؛ لأنهم تربوا على هذه التربية الإلهية.قال: [ إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، إذ ما مات صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ]، فهيا نتدبر هذه الآيات، فنسمعكموها مرة أخرى ونذكر الهداية وتأملوا من أين استنبطت وأخذت؟ قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال ]، أي: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسران والبوار وإلى يوم القيامة. قال: [ ثانياً: في آيات القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى ]، أما الذين ما آمنوا وما اتقوا فهم عميان، وأعظم من ذلك أنهم أموات، أو أحياء يمشون في الظلام، وبالتالي كيف يهتدون؟! إما أن نقول: أموات لأن القرآن روح، وهم قد فقدوا الروح فماتوا، فهم يعيشون حياة البهائم، والنور هو القرآن الذي أعرضوا عنه وكفروا به، فهم يمشون في الظلام فكيف يهتدون؟! ومن أراد دليلاً على ذلك فلينظر إلى العالم الإسلامي وهبوطه تتجلى له هذه الحقيقة، إذ العالم الإسلامي لا يحيا حياة حقيقية، واليهود يسخرون منه.قال: [ ثالثاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة ]، أي: أهل الإيمان الحق، وكلمة المؤمن معناه: المتأصل في إيمانه العريق فيه، لا مجرد نسبة أو يقول: أنا مؤمن.إذاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هم الأعلون بشهادة الله تعالى، وفي الآخرة هم في الجنات والكفار في السفلى من الدركات والعياذ بالله.قال: [ رابعاً: الحياة دول وتارات، فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر ]، أي: إن كانت رخاءً وأمناً وعافية فليقابلها المؤمن بشكر الله تعالى ليلاً ونهاراً، وذلك بلسانه وبجوارحه وبقلبه، وإن جاءت البلوى والعذاب والفقر والخوف والألم فليقابلها المؤمن بالصبر، وهو فائز في كلا الحالتين.فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساء فيه ويوم نسروالحرب سجال والدنيا دول وتارات، يعني: مرات، فيجب أن يقابلها المؤمن بالشكر والصبر، فإن كان الموقف موقف سعادة فليكثر من شكر الله عز وجل، وإن كان موقف شقاء فليصبر ولا يخرج عن طاعة الله تعالى وذكره وعبادته حتى يفرج الله ما به. قال: [ خامساً: الفتن تمحص الرجال ]، والفتنة هي التي يُفتن بها الناس في أموالهم وفي أبدانهم وفي عقائدهم، ومن شأن هذه الفتن أنها تمحص الرجال الصادقين فتظهر كمالاتهم، وتودي وتهلك العاجزين الجزعين، ولذا قال المؤلف: [ وتودي بحياة العاجزين الجزعين ]، فهذه هداية الله عز وجل من هذه الآيات. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:52 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (58)
الحلقة (199)

تفسير سورة آل عمران (62)


أنكر الله على عباده المؤمنين ظنهم أنهم سيدخلون الجنة بمجرد الإيمان ودون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد، بل لابد لهم من الابتلاء تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكافرين فيها، وإظهاراً للصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، ثم عاب الله عليهم قلة صبرهم وانهزامهم في معركة أحد، مذكراً لهم بتمنيات من لم يحضروا بدراً للقتال حتى يحوزوا ما حازه من سبقهم، وانكشافهم عند وقوع القتال في أحد.
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:142-145].قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمران:142]، أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم التي سقفها عرش الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، و(أل) هنا في (الجنة) للعهد، وهذا الحسبان باطل، والاستفهام هنا إنكاري. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وعلم الله تعالى هنا علم ظهور وانكشاف، أما العلم الأزلي القديم فقد علم الله أهل الجنة وأهل النار، ولهم خلق الجنة والنار. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران:142]، وخاضوا المعارك في بدر وفي أحد، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، على إيمانهم وتقواهم وجهادهم وحبهم لرسولهم، وبالتالي ففرض الله الجهاد عليكم من أجل أن يكشف النقاب ويزيح الستار عن الواقع.إذاً: فلا بد من الابتلاء والامتحان والاختبار، إذ قد فرض الله الجهاد وقدَّره على عباده ليظهر صدق إيمانهم وصبرهم، أو يظهر العكس، أي: يظهر نفاقهم وكفرهم وعدم ثباتهم.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه...)
قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143].قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، وهذا يخص الذين تأسفوا عن عدم حضورهم غزوة بدر، إذ قد علمنا يقيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن التعبئة العامة في بدر، وإنما ذكر هذا الخبر: أن عيراً لقريش قد خرجت من الشام، فهيا بنا نخرج لعل الله تعالى يرزقنا إياها، فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج، فالذين خرجوا فازوا أولاً بذلكم اللقب الذي لا يُنسى: ( وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وفازوا بالغنائم، وفازوا بشفاء صدورهم من أعدائهم، إذ قتلوهم وأسروهم، وهناك من المؤمنين من لم يخرج إلى بدر، فتأسف وتحسر وتألم، وتمنى أن لو يأتي غزو آخر لكان أول من يخرج، وأول من يستشهد إن شاء الله تعالى، وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، أي: في المعركة، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فلِمَ تهربون؟ ولمَ تفرون؟ ولمَ تحجمون؟ ولمَ تقولون وتقولون وقد كنتم تمنيتم ذلك وأراكم الله فقال: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]؟ وهذا بعد وقوع الهزيمة؛ إذ قد علما أن النصر في أول النهار كان للرسول والمؤمنين؛ لأن القيادة حكيمة، والترتيب كان عجيباً، لكن لما عصى الرماة أمر رسول الله وهبطوا من الجبل، واحتل خالد رضي الله عنه مراكزهم الدفاعية ووقع المسلمون بين فكي مقراظ فكانت الهزيمة، وشاهدوا الموت بأعينهم، فقال تعالى مصوراً ذلك: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فليس من حقكم أن تفروا وتنهزموا وقد كنتم تطلبون الشهادة وتتمنونها، وقد ثبت من ثبت، واستشهد من استشهد.
تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...)
قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، وذلك أن ابن قمئة -أقمأه الله- ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بحجر فشج وجهه وكسر رباعيته، وصاح: قتلت محمداً، والشيطان -عليه لعائن الله- استغل هذه الفرصة وصاح: محمد قد قتل، وانتشر الخبر في الصفوف المصابة بالهزيمة، فوقع الذي وقع، فمنهم من قال: هيا بنا إلى ابن أبي يأخذ لنا عهوداً ومواثيق مع أبي سفيان ونعود إلى ديننا، ومنهم من قال: إذا مات محمد فرب محمد لا يموت، فلمَ الهزيمة والرضا بالكفر بعد الإيمان؟! وعلى كل حال كانت الواقعة ذات حسرة عظيمة، وحسبنا أن يقول الله تعالى لنا ولهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، أي: قد ماتت الرسل قبله ومضت، وهو أيضاً والله سيموت ويمضي. أَفَإِينْ مَاتَ [آل عمران:144]، أي: موتة حسب سنة الله، أو قتل في المعركة، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، مرتدين كافرين، وهذا هو الذي أصاب ضعاف الإيمان، وأصاب المنافقين الطابور الخامس.ثم قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ [آل عمران:144]، منتكساً مرتداً، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، إي والله لن يضر الله شيئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، على صبرهم وشكرهم، ومن باب أولى سيجزي الكافرين بمر العذاب وأشده وأليمه، والكافر ضد الشاكر.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].ثم قال تعالى مقرراً هذه الحقيقة: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145]، أي: يستحيل أن تموت نفس بدون إذن الله تعالى، وإن شئتم حلفنا لكم بالله، أبعد إخبار الله تعالى إخبار؟! وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ [آل عمران:145]، أي: ما من الأنفس، أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] بموتها، إذ هو الذي حدد موعدها وقرره وسجله في كتاب المقادير، فوالله لا تتأخر بلحظة ولا تتقدم بأخرى أبداً، فلو ما كان هذا افلآن يموت منا خمسين أو ستين، فهل نملك نحن ألا نموت؟ الآن في هذه اللحظة يموت أناس، فيتململ الرجل وتخرج نفسه، لكن ما دامت الأرواح والأنفس قد قُدِّر لها مواعيد لموتها، فيستحيل على البشر والجن والملائكة أن يقدموا أو يؤخروا، ومن أجل ذلك انتظمت الحياة ومشت إلى نهايتها، إذ لو كان الموت يأتي فجأة بدون تقدير ولا تقرير ولا قضاء ولا قدر، فإن الحياة لا تنتظم ولا ساعة واحدة. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، أي: بأجل معين ووقت محدد باللحظة والساعة والدقيقة، وقد كشفت الأيام عن هذه الحقيقة، فقد حاول بعض المبطلين إحياء زعمائهم فما استطاعوا ولا ساعة واحدة، فانكشف عوارهم وآمنوا بأن النفس البشرية لا تموت إلا إذا أذن الله بموتها؛ فحدد الله الزمان والمكان، ووضع الأسباب أيضاً والآلات التي تموت بها، وهذه حقيقة تبقى في نفوسنا لا تتغير، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].ثم قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: من ثواب الدنيا، وهذا أيضاً موقوف على سنة الله عز وجل في طلب الدنيا، فأنت تريد الدنيا وتتمناها، وأنت صعلوك مثلي لا تقوم ولا تقعد، ولا تبيع ولا تشتري، فكيف تريدها إذاً يا أخي؟! كذلك ثواب الآخرة، فأنت تريد الجنة والحور العين بدون صلاة ولا رباط ولا جهاد! إن ذلك لا يتحقق، ولذلك فافهموا هذا، فإذا أراد العبد الدنيا وعمل بسنن الله تعالى للحصول عليها، فإنه يُعطى منها بقدر ما كتب له، وإن أراد الآخرة ورغب فيها وأحبها فإن الله يعطيه ثوابها، والحمد لله فقد قال تعالى: (ثواب)، والثواب الجزاء على العمل، وليس مجرد أمنية. وهناك آية في سورة هود فاصلة في هذه القضية، وهي قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فكونك فرعون أو طاغية أو كافراً أو مجرماً فهذا لا يجعل الله تعالى يخيبك في زراعتك أو في صناعتك أو في تجارتك أو في شيء آخر. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فلا تفهم أن الله يحرم الكافر نتاج مزرعته أو مصنعه لأنه كافر، وإنما يعطيه جزاء عمله إذا كان يسهر الليالي، ويربط الحزام على بطنه، ويواصل العمل، وأما إذا كان فاشلاً غير عامل فلا يعطيه إلا على قدر عمله، كذلك حتى لا تقول: كيف أن الله يغني الكفار؟ كيف أن الله ينبت زرعهم؟ إن هذا سؤال باطل، إذ إن الله عز وجل يعطيهم جزاء أعمالهم وإن كانوا صعاليك وأحداثاً وفقراء يشحتون، وقد رأيناهم، ففي فرنسا الصعاليك يشحتون ولا يعملون، لا لأنهم كفروا فأفقرهم، وإنما لأنهم لم يعملوا، ولو عملوا وسهروا وأداروا المصانع لأعطاهم على قدر أعمالهم بدون زيادة. فكذلك الآية هنا: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: أراد ثواب الدنيا بعمله، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ [آل عمران:145]، أي: جزاء عمله في الدار الآخرة، نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] جزاء آخر. فهيا نكن من الشاكرين، ولنبدأ من هذه الليلة، فإذا أكلت أو شربت أو مشيت أو قعدت أو نمت أو استيقظت، فأنت دائماً: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فهو سبحانه قد أعطاك صحة في بدنك، في عقلك، في فهمك، في علمك، وأعطاك أيضاً قوتاً زائداً أو مالاً كثيراً، فاشكر الله تعالى، وأنفق من ذلك الذي أعطاك لله تعالى، تكن بذلك قطعاً من الشاكرين، وسيكون جزاؤك فوق الثواب المعد لك، إذ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ولم يقتل؛ لأن الله أنزل عليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فقبل نزول هذه الآية كان على باب حجرة الرسول حرس ليس كحرسنا اليوم بالراتب، وإنما كان كل مؤمن يقول: نمشي نحرس نبينا ساعة، فيتناوبون في الحراسة، ولا تراهم إلا راكعين ساجدين حول الحجرة والرسول يعلم بذلك؛ لأن أعداءه من اليهود والمنافقين والمشركين يضمرون له شراً عليه الصلاة والسلام. فلما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال للحرس: عودوا إلى دياركم، فقد أغناني الله عنكم، لكن قد يقول قائل: وكيف إذاً انزعج الناس لما سمعوا أن محمداً قد قتل؟ والجواب: انزعجوا لأنها الفتنة، ولأن القائل بهذا منافقون وضعفاء فتتخلخل نفوس السامعين.قال: توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً، أي: أن يوم دخوله كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك ضحىً حين اشتد الحر، ودفن يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء. قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أي: ما إن نفضنا أيدينا من التراب من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا، أو ليست هي القلوب التي كانت أمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنتم يا أهل الدرس اتركوا الدرس وتخلوا عنه وانظروا إلى قلوبكم إذا كنتم حذاقاً، والله لتجدنها تبدلت؛ لأن الحياة مع الله كالحياة مع رسول الله، حياة خلاف الحياة مع غير الله ورسوله، مع الفسقة والماجنين، ومع الدنيا وطلابها.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:52 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه: [ معنى الآيات: ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد، فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد؛ تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، فقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ]. وهذا الحسبان باطل؛ لأنه لابد من الابتلاء وإظهار الغطاء [ ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وعلى انهزامهم في المعركة، مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة، بأنهم إذا قدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن، فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين، فقال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143] ]. وكان منهم من وفى بما وعد فقاتل حتى استشهد، وهو أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد انكشفوا قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وِجد به أكثر من ثمانين طعنة برمح وضربة بسيف، ولم يستطع أحد أن يعرفه إلا أخته، فقد عرفته بعلامة في أصبعه. [ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، أي: فلمَ انهزمتم، وما وفيتم ما وعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية.وأما الآية الثالث فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة، وحمي وطيسها، واستحرَّ القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم، وضرب ابن قمئة -أقمأه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً، فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم: لمَ نقاتل وقد مات رسول الله؟! وقال بعض المنافقين: نبعث إلى ابن أبي يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ونعود إلى دين قومنا! فقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله، فلمَ ينكر موته أو يندهش له إذاً؟! بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته والعياذ بالله في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فعاتبهم منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجزيهم دنيا وأخرى بأعظم الأجر وأحسن المثوبات، هذا ما تضمنته الآية الثالثة.أما الآية الرابعة فقد تضمنت حقيقتين علميتين: الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه؛ فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك، فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشيء آخر: وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص ] وهو كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ [ فليس من الممكن أن يتقدم أجل الإنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] ] أي: مؤقتاً ليس بمبهم.قال: [ والثانية ] أي: الحقيقة الثانية التي يجب أن نعلمها وقد علمناها [ أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله، فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤته من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له، ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] ]. وهنا تعليق قال: رثت صفية بنت عبد المطلب -والرثاء: البكاء على الميت- عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات من الشعر دلت على مدى ما أصاب المؤمنون من حزن وألم بفراق نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر -على جلالته- قال على المنبر والسيف بيده: محمد ما مات ولن يموت، وكيف يموت والمنافقون ما زال منهم فلان وفلان؟! وكان أبو بكر في العوالي فجاء فدخل الحجرة فوجد الرسول مسجى في كفنه، فكشف عنه وقبله بين عينيه وقال: ( طبت يا رسول الله حياً وميتاً )، ثم خرج فوجد عمر هائجاً فقال له: اهدأ يا عمر، ثم صعد المنبر وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهدأ الموقف تماماً، فكان رضي الله عنه حكيماً وأهله الله لخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم.ونعود إلى الأبيات التي قالتها صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت رضي الله عنها: أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاوياً تخاطب فاطمة بنت الرسول، فهي تشاركها في حزنها وألمها. فدىً لرسول الله أمي وخالي وعمي وآبائي ونفسي ومالي عرفتم بمَ فدت رسول الله؟ ما تركت شيئاً حتى نفسها. فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ولكن أمر الله قد كان ماضياً هذه هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ هداية الآيات ] هذه الآيات الأربع فيها هدايات، إذ والله لا تخلو آية من هداية، تهدي إلى أين؟ إلى ملاعب الكرة؟! إلى المقاهي والمراقص؟! إنها تهدي أصحابها إلى رضا الله وحبه والنعيم المقيم في جواره بالاستقامة عقيدة وقولاً وعملاً، وهذا هو الصراط المفضي بالسالكين إلى دار السلام. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان ]، ولا تفهم أبداً أنك تؤمن وتخالف ربك؛ لأن بعض الغافلين ممن يدخلون في الإسلام يبقى على الخمر والزنا والباطل، وهذا لا ينفع، إذ لابد من الابتلاء، وأول شيء أن تغتسل بالماء البارد إذا ما عندك ساخن، وأن تناجي ربك خمس مرات في اليوم والليلة، فتأتيه إلى بيته أو إلى مكان طاهر وتناجيه، ثم بعد ذلك تؤمن بكل ما أمرك بالإيمان به، أطاقه عقلك أو عجز عنه، ثم بعد ذلك تحل ما أحل، وتحرم ما حرم، وتواصل ذلك إلى أن تلقى الله عز وجل، أما أن تقول: أنا آمنت فقط، ثم تمرح كما يحلو لك، والله لا يصح هذا الإيمان أبداً، فهذه هي الهداية الأولى، وقد قال تعالى وقوله الحق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]. [ ثانياً: تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ]، فقد قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، أي: تقرير للرسالة، إذ إنه ليس بتاجر، ولا بساحر، وإنما قال: رسول فقط، قال: [ وبشريته المفضلة ] أي: أنه بشر قد يموت وقد يقتل كما يقتل البشر ويموتون، ولكنها بشرية مفضلة على كل بشرية، قال: [ وموتته المؤلمة لكل مؤمن ]. [ ثالثاً: الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضاً ]؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]. [ رابعاً: ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم ]، أي: أن الثواب على الأعمال متوقف على النية وحسن القصد، فمن جاهد للمال فإنه يثاب بالجنة على جهاده فيعطى المال، ومن جاهد لأجل إعلاء كلمة الله فإنه يعطى كذلك الجنة، وبالتالي فثواب الأعمال كلها موقوف على النية وحسن القصد، حتى لو أن أناساً في المسجد إذا لم يريدوا بعملهم المشروع وجه الله وثواب الله فلا يعطون تعطى إلا ثواب الدنيا فقط. لكن قد يقول بعض الناس: نحن الآن موظفون نأخذ الراتب، وبالتالي ما لنا أجر، فكيف ذلك؟! فأقول: إذا لم يكن عندكم نية والله لا أجر لكم، إذ إنكم قد أخذتم أجركم، وإن كنتم قد وقفتم حياتكم لله من أول اليوم، فكل أعمالكم لله، واقرءوا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فالمؤمن كما علمتم يتزوج لوجه الله، ويطلق والله لأجل الله، ويبيع ويشتري والله من أجل الله، ويطلب وظيفة ويعمل بالليل أو بالنهار والله من أجل الله، وبالتالي فحياته كلها وقف لله تعالى؛ لأنه إذا عمل ليوفر طعاماً أو شراباً فهو من أجل أن يعبد الله؛ لأنه إذا لم يأكل أو يشرب فقد يموت، وكذلك إذا طلب كسوة يتقي بها الحر أو البرد فهي من أجل الله، وهكذا حياة المؤمن كلها وقف على الله تعالى، فتراه يبني في جدار لله تعالى، وآخر يهدم في جدار لأجل الله حتى لا يؤذي مؤمناً. [ خامساً: فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي ]، وسنجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا مالك الملك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك لإخواننا المؤمنين في ألبانيا وفي البوسنة والهرسك وفي غيرها من تلك الديار التي يضايقون فيها ويقتلون ويعذبون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم تولهم يا رب ولا تتركهم، اللهم أنزل بأعدائهم البلاء والشقاء والفتنة يا رب العالمين، اللهم اصرفهم عن عبادك المؤمنين، واجعل كيدهم ومكرهم فيهم وبينهم، وانصر إخواننا يا رب العالمين بما تشاء أن تنصرهم به، وإن كنا مقصرين وإن كنا مضيعين وإن كنا مهملين فلا تنظر إلى أعمالنا يا ربنا، فإننا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك فانصر يا ربنا إخواننا المؤمنين، اللهم انصرهم وأعزهم وسلط على أعدائهم من يؤذيهم، وسلط عليهم من يهزمهم يا رب العالمين، واشف اللهم مرضى إخواننا، فإننا لنا مرضى في البيوت وفي المشافي وفيما بيننا فاشفنا يا ربنا إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:54 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (59)
الحلقة (200)

تفسير سورة آل عمران (63)


بعد أن عاتب الله عز وجل المؤمنين المنهزمين في أحد، ذكر لهم أن التاريخ حافل بالأنبياء الذين قاتلوا أهل الباطل، وقاتلهم معهم أتباعهم المؤمنون، حتى قتل منهم من قتل، فما وهنوا لمصابهم في أنفسهم، وما استكانوا لعدوهم من أهل الكفر، بل صبروا وصابروا ورابطوا، وهذا هو الواجب في حق حملة العقيدة وأهل الإيمان.
تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات ثم نتدارسها رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، والله إنها لنازلة، فهل من ضجيج؟ فهل من صياح؟ فهل من صخب؟ فهل من لغط؟ فهل من ظلم؟ فهل هناك من اعتدى؟ أسألكم بالله، أليست هذه هي السكينة؟ ( وغشيتهم الرحمة )، إي والله، ( وحفتهم الملائكة )، والله إن الملائكة لتطوف بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، من نحن معشر الإخوان حتى يذكرنا الله ويتحدث عنا في الملكوت الأعلى؟! إننا لو أردنا أن نحصل على هذه الجوائز بدون هذا المجلس والله ما نحصل على ذلك، حتى لو بذلنا أرواحنا وأموالنا ووجودنا كله، ولكنها منة الله وعطيته، فهو يهب ما يشاء لمن يشاء، فالحمد لله رب العالمين، فهيا بنا إلى تلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، وفي قراءة سبعية: (وكأين من نبي قُتِلَ معه ربيون كثير)، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148]، فمن أراد أن يحبه الله فليتحلى بحلية الصبر، ومن أراد حب الله فليحسن النية والعمل، إذ الله يحب الصابرين والمحسنين، فاللهم ارزقنا حبك وحب كل من يحبك، وحب كل عمل يقربنا من حبك يا رب العالمين. إن هذه الآيات خبر من أخبار العليم الخبير، وأخبار العليم الخبير لا تحتمل الصدق والكذب كأخبار الناس، إذ إن أخبار الله كلها صدق؛ لأنه ليس في حاجة إلى أن يكذب، إذ إنه غني غنىً مطلقاً، فبيده ملكوت كل شيء، فأي حاجة له إلى الكذب؟! فهو سبحانه منزه عن الكذب لاستغنائه عن الخلق مطلقاً، وهذا الخبر ذو شأن وعبر. يقول تعالى: وَكَأَيِّنْ [آل عمران:146]، أي: وكم، مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، بل وصبروا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، فلمَ لا تكونون مثلهم يا أهل أحد، إذ الآيات في عتاب أهل أحد، وما زال السياق معهم، إنها معركة يعجز المرء عن وصفها، معركة يشج فيها وجه رسول الله، وتكسر رباعيته، ويقتل فيها عمه.
شؤم المعصية وأثرها على حياة الإنسان
إنها وقعة من أعظم الوقائع، وسببها معصية واحدة! فكم هي معاصي المسلمين اليوم؟! لا يحصيها إلا الله، فكيف إذاً نريد أن نعز ونكمل ونسود وننتصر؟! إن معصية واحدة يصاب بسببها أصحاب رسول الله بنكبة ومصيبة لا نضير لها، لأمر عظيم ومخوف، ونحن والله غارقون في الذنوب والمعاصي، والشرك والكفر، والضلال والجهل، وكبائر الذنوب كالربا والزنا وقتل النفس، ثم بعد ذلك نريد أن نسود ونعز وننتصر! إن هذا محال، ولذا فإنه لن يفارقنا الذل والهون والدون حتى نعود إلى الطريق السوي.إن إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان ينكل بهم، فيذبحون، وتنتهك أعراض نسائهم، ويقتل أطفالهم، ثم ندعو الله عز وجل، فهل يستجاب لنا ونحن ملطخون بأوضار الذنوب والآثام؟! هل نريد أن نبدل سنن الله تعالى؟! إن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير أبداً، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] . أصحاب رسول الله وهم أفضل الخلق على الإطلاق من يومهم ذاك إلى يوم القيامة، يرتكبون مخالفة واحدة فينهزمون أمام العدو، وذلك لما انهزم العدو أمامهم، وأصبح فاراً بين أيديهم، تاركاً ما لديه وما معه من سلاح ومال، فيُقبل أصحاب رسول الله على التقاط المال وجمعه، وينزلون من الجبل -جبل الرماة- الذي وضعهم فيه الرسول القائد وقال: ( لا تبرحوا أماكنكم كيفما كانت الحال والظروف ) ، فلما نزلوا من الجبل لجمع الغنائم احتل قائد قريش خالد بن الوليد رضي الله عنه الجبل، ووضع عليه الرماة، فصبوا على المسلمين البلاء، وعاد المشركون بعد الفرار، وإذا بالمسلمين بين فكي مقراظ. وهذه كانت نتيجة مخالفة واحدة، فكيف إذا كانت عشرات المخالفات؟! ومع هذا اسمع إلى الله وهو يعاتبهم فيقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146] أي: وكم من نبي من أنبياء الله الذين مضوا، قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، والربي معناه: الرباني المنسوب إلى الرب، إذ كل حياته موقوفة على الله عز وجل، وهم علماء وصلحاء وهداة ودعاة، قاتلوا مع النبيين وقتلوا أيضاً.
معنى قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله)
قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، وإخواننا رضوان الله عليهم منهم من قال: تعالوا إلى ابن أبي ليفاوض أبا سفيان فنعود إلى دين آبائنا وأجدادنا! وصاح إبليس فيهم: مات محمد، قتل محمد، فيسمع الرسول ذلك فيقول: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، حتى رجع من رجع، والتفوا حول رسول الله. فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل وغير ذلك، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، لا في سبيل دنيا يريدونها، ولا سلطة يريدون أن ينالوها، ولا غير ذلك من ملذات هذه الحياة الدنيا، ولكن في سبيل الله فقط، من أجل أن يُعبد الله وحده، وأن يُعزَّ أولياؤه وينصر دينه ودعوته.
معنى قوله تعالى: (وما ضعفوا وما استكانوا)
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، أي: ما استذلوا وما هانوا، بل بقوا كالجبال والصخور ثابتة، فهكذا يعلم الله المؤمنين بألا يضعفوا وألا يستكينوا، وقد استفادوا وتعلموا، وما أصابهم ما أصابهم في أحد إلا لحكمة وأمر عظيم أراده الله عز وجل، وقد ذكرت لكم رؤيا الشيخ محمد عبده، إذ إن بعض السامعين يقول: لماذا الشيخ يقول: كانت الهزيمة أفضل لهم من النصر؟! قلنا: رأى الشيخ محمد عبده النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو عائد من أحد ورجاله معه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة ؛ لأنهم لو انتصروا مع معصية رسول الله فإنهم يألفون المعصية، ويكفيهم أن يقولوا: نحن مسلمون، ونحن نقاتل في سبيل الله، وبالتالي فلا يضرنا شيء، ويصبحون يغنون ويشربون الخمر في المعارك، ومن ثم ينتهي أمرهم نهائياً، لكنه درسٌ من أقسى الدروس، وللأسف فقد غفل المسلمون عن هذا منذ قرون، إذ لم يتنبهوا للفرق بين المعصية والطاعة. وأقول: دلوني على بلد -باستثناء هذه البقعة- أُمر فيها بإقامة الصلاة إجباراً، هيا فليقم أحدكم ويقول: نعم، دولتنا الفلانية الصلاة فيها إلزامية للمدنيين والعسكريين، للرجال والنساء؛ لأن الصلاة عمدة الدين وعموده، ولا دين بدون صلاة! فأي معصية أكبر من ترك الصلاة، فمن شاء فليصل ومن شاء لم يصل؟! ثم هل هذا بلد إسلامي؟! وهل هذه أمة مسلمة؟! إن هذا مثال فقط لتعرفوا زلتنا، وقد قلت لكم -وإني إن شاء الله على علم-: إن لم يتدارك الله أمة الإسلام في هذه الأيام بتوبة نصوح ورجعة صادقة فقد ينزل بهم البلاء، وليس بلاء الاستعمار أبداً، بل والله لأشد من ذلك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتخلف، والله يمهل فقط ولكن لا يهمل، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على هذا المنبر قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، أي: المدن والحواضر والعواصم، وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، أي: والحال أنها ظالمة لأنفسها، إذ أعرضت عن ذكر ربها، إن أخذه أليم شديد [هود:102]، ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ). وفعلاً فقد أمهل الله الظالمين من المسلمين زمناً طويلاً، ثم سلط عليهم الغرب والشرق فنالوا منهم وأذلوهم وأخزوهم وداسوا كرامتهم، وليس هذا حباً في النصارى، وإنما والله تأديباً لهؤلاء المسلمين، وشاء الله أن يمتحنهم فقام العلماء والدعاة وطالبوا بالاستقلال والحرية، واستجاب الله لنا فتحررنا من اندونيسيا إلى موريتانيا، واستقلينا عن الغرب والشرق، لكن أبينا أن نعبد الله تعالى، إذ إننا فرحنا بالاستقلال، فأقمنا حفلات الاستقلال تم فيها شرب الخمر، وقول الباطل والزور، وكأننا لا نؤمن بالله ولا بلقائه، والآن نحن أذل من اليهود، فماذا بعد هذا الذل من ذل؟! إن أصحاب رسول الله -والرسول بينهم- يصابون بمصيبة عظيمة فيستشهد منهم سبعون رجلاً، ويجرح نبيهم ويكلم بسبب معصية واحدة ارتكبوها، وذلك تربية لهم حتى لا يعصوه مرة أخرى، وها هو عتاب الله لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، كما وهنتم أنتم لما أصابهم، وما ضعفوا ولا رموا بالسلاح وهربوا وقالوا: نلتحق بـأبي سفيان، وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، والاستكانة: السكون والذل والوقوف.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-12-2020 03:55 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (والله يحب الصابرين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، ويكره الجازعين الساقطين، وفعلاً فقد صبروا مع أنبيائهم على ما أصابهم، فما استكانوا وما ضعفوا، وما ذلوا وما هانوا، فأحبهم الله تعالى.فهيا نبدأ فنتعلم بأن نصبر، إذ لنا سنوات ونحن نصرخ بذلك فما استطعنا، وما طالبنا المسلمين أبداً بأن يحملوا السلاح ويقاتلوا، فقط عرفنا زلتنا وسقوطنا وهبوطنا، وأن لذلك سبباً عظيماً وقوياً وهو الغفلة والإعراض عن ذكر الله الناشئة عن الجهل بالله ومحابه ومساخطه، فقلنا في رسائل وكتابات: هيا يا معاشر المسلمين! نتب إلى الله تعالى ونرجع إليه، إذ إن تلك التوبة وتلك الرجعة لا تكلفنا ريالاً واحداً، بل ولا قطرة دم واحدة أبداً، وإنما فقط نوقن كما أيقن أولوا البصائر والنهى أن مصيبتنا هي الجهل بربنا ومحابه ومساخطه، ولذلك فسقنا عن أمره وخرجنا عن طاعته، وما زلت أردد -والواقع يشهد-: أروني عالماً بالله عارفاً به يتعاطى الربا والزنا وسفك الدماء، ويمزق اللحوم والأعراض، ويهمل عبادة الله، ويعرض عن ذكره، لا يوجد؛ لأنه علم، وحسبنا أن يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أيكذب الله عز وجل؟! معاذ الله!ولذلك أي قرية أنت فيها أعلمكم بالله والله لأتقاكم لله، وهذا كله من أجل أن نقرر حقيقة وهي أن الفسق والفجور والهبوط كله ناتج عن الجهل بالله، إذ ما عرفوا الله ولا محابه ولا مساخطه، ولا ما عنده لأوليائه ولا ما لديه لأعدائه، وبالتالي سهل عليهم أن يفسقوا عن أمره، ويخرجوا عن طاعته، ومن ثم انتشر الفسق والظلم والشر والفساد والبخل والشح والعناد. وقد قلت غير ما مرة: لو يخرج عمر في أي بلد إسلامي فلن يستطيع أن يهديهم إلا من طريق التعليم والعلم، إذ العصا لا تنفع، بل لابد للمسلمين أن يقادوا باسم الله إلى حيث يحب الله، إذ أمة هابطة معرضة كيف تقودها وتوجد فيها حكومة إسلامية؟! أنت واهم وتتخبط. إذاً: قد عرفنا ذنبنا، وعرفنا حالنا وضعفنا، فهيا بنا إلى العلاج والخروج من هذا المأزق، وذلك إذا مالت الشمس إلى الغروب عند الساعة السادسة يقف دولاب العمل، ولم يبق دكان مفتوح الباب، ولا مصنع فيه صانع وشغال، ولا مكتب فيه كاتب ولا عامل، وإنما الأمة في القرية أو في الحي تتوضأ وتلبس أحسن ثيابها، وتأتي بنسائها وأطفالها إلى بيت ربها، فيجلس النساء وراء الستارة، ويجلس الأبناء كالملائكة بين الرجال والنساء، وذلك بعد صلاة المغرب مباشرة كما نفعل الآن، ويجلس لهم عالم رباني من الربيين يعلمهم كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ليلة واحدة يأخذون آية يترنمون بها حتى يحفظوها رجالاً وأطفالاً ونساء، ثم يشرحها لهم ويبين مراد الله منها، ويضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة عقدوها فلن تنحل إلى يوم القيامة، وإن كان واجباً عرفوه وصمموا على أن يقوموا به، وإن كان نهياً عن عمل أو قول عرفوه وعزموا ألا يأتوا ما كره الله وما حرمه، وإن كان أدباً في الأكل أو في المشي أو في العطاء أو في الأخذ أو في السلوك عرفوه وتحلوا به على الفور، وهكذا فيأخذون في العلم والعمل والتطبيق والحفظ يوماً بعد يوم، ولا تمضي والله سنة واحدة إلا وأهل القرية كأنهم أصحاب رسول الله، فلا كذب ولا رياء ولا خيانة ولا نفاق ولا أي شيء من هذه القاذورات؛ لأنهم أصبحوا أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والنتيجة والله أنه لا يبقى في القرية من يجوع ويتألم لجوعه، ولا عار يتألم لعريه، ولا مظلوم مهضوم الحق بين إخوانه، وإنما يصبحون أولياء الله تعالى، وهذا لن يتحقق بالمدفع ولا بالهيدروجين ولا بالسحر ولا بالاشتراكية ولا بالمبادئ ولا بالعلمانية، وإنما يتحقق على هداية الله تعالى فقط. معاشر المستمعين! كم سنة وشيخكم يصرخ: أين العلماء؟ أين العارفون؟ أين الربانيون؟ هل بلغوا حكامنا بهذا؟ هل بينوا لهم الطريق؟ هل جمعوا أممهم؟ والجواب: لا، وظاهر واقعنا هكذا، إذ ما زلنا ننتظر محناً أخرى لا قدرة ولا طاقة لنا بها إلا من رحم الله، وكتاب: المسجد وبيت المسلم قد درسناه لمدة سنة كاملة، وهو نموذج لثلاثمائة وستين آية وحديث، وذلك بمعدل يوم آية ويوم حديث، فلو أن أهل قرية فقط اجتمعوا عليه سنة وقالوا: تعالوا زورونا لتشاهدوا أنوار الإيمان والعلم فينا، والله لزرناهم. فهل فعلنا هذا؟ بعضهم يقول: ندرسه بعد صلاة العصر مع عشرة شيوخ، أما إقبال أمة صادقة بنسائها وأطفالها في وقت فراغها وانتهاء عملها اليومي من المغرب إلى العشاء، فإن هذا ما وقع، وقد أخبرنا شخص في غرب الدنيا أنه وقع، لكن لا ندري أصدق أم لم يصدق؟ وقلنا: قد اقتدينا بالغرب في شتى الأمور، إذ إننا قد عشنا في أوروبا وفي الشرق وفي الغرب، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، ورموا بالآلات، ولبسوا أحسن ثيابهم، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم إلى المراقص ودور السينما ليروحوا على أنفسهم، فيبقون الساعات الثلاث والأربع والخمس وهم يشاهدون الباطل ويرقصون للكفر، ونحن قد اقتدينا بهم في شتى الأمور إلا في هذا الأمر، إذ إننا لم نستطع أن نغلق الدكان أو نغلق المقهى أو نوقف المطعم عند المغرب! معاشر المؤمنين! هل فيكم من ينكر هذا الكلام؟ إذاً ما الأمر؟ هل ننتظر فقط بلية من الله تعالى؟ إن الله يقول لأصحاب رسول الله مؤدباً ومربياً ومعلماً ومعاتباً: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل، وما ضعفوا أمام أعدائهم، ولا رموا بالسلاح، ولا طالبوا بالانضمام إلى المشركين، وما استكانوا ولا ذلوا ولا ضعفوا، بل صبروا فأحبهم الله والله يحب الصابرين، ونحن ما نستطيع أن نصبر ساعة ونصف في المسجد نتعلم علم الله وهداه! وبالتالي كيف يحبنا الله تعالى؟
تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا إن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147]، أي: ما كان قولهم عند المصيبة والمحنة والبلاء والامتحان والاختبار إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وهنا يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة التي قد حفظناها وأخذنا ندعو الله تعالى بها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة فيقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي )، فالرسول يعترف بأن له خطيئة وجهلاً، ويسأل الله أن يغفر له خطيئته وجهله، والسطحيون من أمثالنا لا يبالون بهذا، ووالله لو نتأمل ساعة فقط لرأينا أنفسنا غارقين في الخطايا وليس في خطيئة واحدة، ولو فكرنا لعرفنا جهلنا ولو أخذنا الشهادات العالية والرفيعة وقال الناس فينا: علماء وعالمون، والله إنا لجاهلون. إذ لو عرفنا فقط ربنا لأصبحت فرائصنا ترتعد عند ذكره، ولا يخطر ببالنا الخروج عن طاعته، لكن لأننا جهال ما عرفنا، والرسول يقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ) أي: في حياتي كلها، فهل فارقنا الإسراف عند الأكل والشرب والنوم والقعود والبناء والسيارة وعند أحوالنا كلها؟ لا يفارقها الإسراف لو كنا نشعر ونعلم ذلك. وهؤلاء الصلحاء الربانيون من قبل نبينا قالوا: وإسرافنا في أمرنا، فهل نحن نأكل أو نشرب أو ننام أو نجلس مع الناس على مقدارٍ أحبه الله تعالى؟ وهل نحن نعمل بمقادير محددة حتى تخلو من الإسراف؟ من يستطيع أن يقول: نعم؟ فلهذا نفزع إلى الله ونقول: وإسرافنا في أمرنا.وأخيراً: ( وما أنت أعلم به منا )، أي: وذنباً أنت أعلم به منا، إذ إن لنا ذنوباً الله أعلم بها منا، ولا يظهر لنا ذلك ولا نعرفه، وهي خطايا يعلمها الله العليم الحكيم. فهيا نكررها حتى نحفظها:( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، وقد وقف رسول الله بهذا الدعاء موقفاً للتواضع لم يقفه غيره، فأي تواضع أعظم من هذا؟ يقول: ( ربي اغفر لي خطيئتي ) وهو المعصوم! ( وجهلي ) وهو الذي يتلقى المعارف من الله وحياً! ( وإسرافي في أمري )، ما إسراف رسول الله؟ في طعامه؟ في شرابه؟ لا إسراف بالمرة، ولكن بموقفه وبعبوديته دون الله يخاف الله، ويخاف أن يكون قد أسرف، ( وما أنت أعلم به مني ).والآن لو يأتيني واحد فيقول: يا شيخ! والله لا تقوم من مكانك حتى نحفظ هذا الدعاء، فهل أنتم لستم في حاجة إلى هذا الدعاء؟! أقول: لو أن عبداً من عباد الله عرف وانفتح له باب المعرفة، وسمع هذا الدعاء وقال: والله لا يبرح الشيخ حتى نحفظ هذا الدعاء، فندعو به الليل والنهار، إذ إن هذه الدعوة قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها، فيعترف بخطيئته وجهله وإسرافه وبأمور أخرى لا يعرفها إلا الله، لكان ذلك خير له في دينه ودنياه. ( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني ) ، فهذا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأين نحن من ذلك؟ إنها ليست خطيئة واحدة ولا جهلاً واحداً ولا إسرافاً في باب واحد، وبالتالي فنحن أحق بهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيام الشبيبة مع الشبيبة قلنا لهم: يا شبيبة! الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً المغرب بسورة المرسلات، وصلت وراءه أم عبد الله بن عباس، فقالت: حفظتها لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعطيك مليوناً إذا حفظتها كما هي، بل قد قرأناها في الألواح وكتبناها وما حفظناها! ولذلك تعجبون عندما يسمع أحدهم أغنية لفريد الأطرش أو للعاهرة الفلانية، فيحفظها الشاب بنفس اللهجة والصوت! إنه مظهر من مظاهر الهبوط، ونفسر لهم فنقول: لأن أصحاب رسول الله كانت هممهم عالية لا يعجزهم شيء، ونحن هابطون لا يقف دوننا شيء في هبوطنا. ( ربي اغفر لي خطيئتي ) فنعترف بأن لنا جهلاً، وللأسف غيرنا لا يعترف بذلك حتى يسأل الله أن يغفر له جهله! ( وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ).
تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة...)
قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [آل عمران:148]، أي: لما دعوا وتضرعوا وثبتوا أعطاهم الله ثواب الدنيا من النصر والعزة والسيادة والطهر والصفاء والسعادة، وثواب الآخرة ألا وهو الجنة دار الأبرار دار النعيم المقيم.ثم ختم العتاب بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، فمن أراد أن يمسي من أحباب الله فليحسن أولاً في عقيدته، ثم في نياته وأغراضه ونوازع نفسه، فيوجهها التوجيه الذي يرضى الله به، ويحسن في أعماله ومشيته وتناوله للطعام فضلاً عن صلاته ووقوفه في ميادين الجهاد، فيؤدي العمل بالإتقان والجودة والإحسان، فلا عبث ولا لهو لا باطل، وهؤلاء يحبهم الله، وكل هذا يعود إلى أن أعمالهم التي أحسنوها أنتجت لهم الطاقة وأوجدت لهم النور، فزكت أرواحهم، وطابت نفوسهم، فأحبهم الله لطهارة أرواحهم، إذ الله طيب لا يقبل إلا طيباً. والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما درسنا ونسمع، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 04:57 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (60)
الحلقة (201)

تفسير سورة آل عمران (64)


عاتب الله عباده المؤمنين على انهزامهم يوم أحد وانكشافهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسط المعركة، وذكر لهم سبحانه حال أتباع الأنبياء السابقين من العلماء والصالحين الذين صبروا على القتال مع أنبيائهم وما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا لعدوهم، ثم بين لهم سبحانه ما كان يجب عليهم من التضرع إلى ربهم وطلب مغفرة ذنوبهم ونصرهم على عدوهم،
كما فعل من كان قبلهم من أتباع الأنبياء.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله أن أهلنا لذلك وجعلنا من أهله.معاشر المستمعين والمستمعات! الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس ما استوفينا دراستها من الكتاب، فهيا نعيد تلاوتها أولاً ثم ندرسها كما هي في الشرح، ثم نذكر فوائدها أو هداياتها التي رزقنا الله عز وجل، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد ] أي: ما زال سياق القرآن في الحديث عن أحداث غزوة أحد، وقد عايشناها [ فذكر الله تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة، عتابه لهم عن عدم صبرهم وعن انهزامهم وعن تخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، فثاب إليه رجال ] أي: فرجع إليه رجال بعد فرارهم وتشتت جمعهم. [ فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146]، أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جمهور كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين، فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، أي: ما ضعفوا ولا ذلوا لعدوهم، ولا خضعوا له كما همَّ بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القتال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح، فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين ] أي: صبروا فأحبهم الله تعالى؛ لأنه تعالى يحب الصابرين. [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، ونصها: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]. وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربانيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى، فقال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147] ] أي: الذي قالوه، قال: [ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147] ] وهذا الذي كان يجب على أصحاب رسول الله أن يقولوه كما قاله أصحاب الأنبياء من قبل، ولكنهم فتنوا، فهو يعلمنا كيف نقول إذا وقعنا فيما وقع فيه إخواننا مرة أخرى. [ ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين: لمَ لا تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة، وهي الضراعة لله بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة، والتي كثيراً ما تكون سبباً للهزائم وللانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون، فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، فسألوا الله تعالى مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا، والنصر على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم، فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوه، وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين، وحسن ثواب الآخرة وهي رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار، هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148] ].
الإحسان ثلث الدين الإسلامي
والإحسان ثلث الدين الإسلامي، إذ الدين الإسلامي بعقائده وعباداته وقضائه وأحكامه وشرائعه وآدابه وأخلاقه ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الإيمان، والثاني: الإسلام، والثالث: الإحسان، ففي حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة العلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ فجعل الإحسان ثلث هذا الدين، وشيء آخر نعلمه وهو أن الإيمان والإسلام إذا فقدا الإحسان فليس لهما قيمة. ويدلك بوضوح على ذلك أنه إذا توضأ أحدنا ولم يحسن وضوءه فإن وضوءه باطل وصلاته باطلة، أو صلى ولم يحسن صلاته فيقول له الفقيه: صلاتك باطلة، أو حج أو اعتمر ولم يحسن أداء حجه أو عمرته فيقول له الفقيه: حجك باطل وعمرتك باطلة، إذاً ما الإحسان؟ العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب إجابة لا يرقى إليها سواه، إذ قال له جبريل: ( أخبرني عن الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت )، إذاً فالإحسان أن تعبد الله، فالمتوضئ يعبد الله بالوضوء، والمصلي يعبد الله بالصلاة، والصائم يعبد الله بالصيام، والمتصدق يعبد الله بالصدقة، وتالي القرآن يعبد الله بتلاوته، وبالتالي فكل هذه العبادات لا يستطيع المرء أن يحسن أداءها إلا إذا كان يراقب الله تعالى عندها، فإذا راقب الله تعالى عند وضوئه وكأنه بين يدي الله، أو صلى وكأنه أمام الله، أو جاهد أو رابط في سبيل الله، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، وهو كأنه بين يدي الله، فإن مثل هذا لا يخطئ ولا ينقص من العبادة ولا يزيد فيها، وبذلك يكون قد أحسن أداءها؛ فإذا أحسن أداءها أنتجت له النور المطلوب، أي: الحسنات المطهرة للنفس والمزكية لها، فإن عجز على أن يكون في صلاته أو في عبادته كأنه ينظر إلى الله وهو بين يديه، فعلى الأقل ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي أن يؤدي العبادة وهو يعلم أن الله ينظر إليه.إذاً: هما درجتان: دنيا، وعليا، فالعليا: أن تعبد الله بما تعبده به وكأنك تراه، وفي هذه الحال لا يمكن أن يسيء عبادته أبداً، فإن عجز عن هذه المرتبة العليا ينزل إلى الدنيا وهي: أن يعلم أن الله ينظر إليه وهو يتوضأ أو يصلي أو يزكي أو يصوم أو يحج، فإذا كان عبد الله أو أمته بهذه الحال والله سيحسن عبادته، وسيتقنها ويجودها، حتى تثمر له ثمرتها، وذلكم هو النور الذي يطهر النفس ويزكيها.إذاً: إذا لم يحسن العبد في إيمانه ما أفاده، وإذا لم يحسن في إسلامه ما ينتفع به، ولهذا الإحسان هو الجزء الثالث من أجزاء الدين الإسلامي، والجزءان قبله مفتقران إليه، فلا ينفعان إذا لم يكن معهما إحسان، وفوق ذلك: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، وقد عرفنا من قبل لم يحب الله المحسنين؟ لا تفهمن من الإحسان ذاك الذي يوزع الريالات، أو آصع التمر أو الدقيق، إن ذاك محسن عند العامة، أما المحسن الذي يحبه الله فذاك الذي يحسن في عبادة الله، ويؤديها أداء سليماً صحيحاً موافقاً لما شرع وبين، وبذلك ينتج له النور، فتطهر نفسه وتزكو والله يحب الطاهرين، وهذا هو السر في محبة الله تعالى للمحسنين، إذ إن هو الإحسان تجويد العبادة وإتقانها، وأداؤها على الوجه المطلوب حتى تنتج زكاة النفس وطهارتها، فمن زكت نفسه وطابت وطهرت والله ليحبه الله، وهو المحبوب لله.أما أصحاب الأرواح الخبيثة والأنفس المنتنة العفنة فهؤلاء قد حكم تعالى بخسرانهم، ولن يرضى أبداً أن يجاوروه أو ينزلوا بجنات النعيم في جواره، قال تعالى حاكماً في ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذا حكم الله تعالى ولا معقب بعده، إذ نفى تعالى إذا حكم أن يعقب على حكمه أحد، قال تعالى من سورة الرعد من خاتمتها: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-12-2020 04:58 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
طاعة الله ورسوله ضمان لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة
ولهذا على من يرغب في جوار الله ومواكبة المواكب الأربعة، فليطع الله والرسول فقط، قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، يعني: محمداً، فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فمن أراد أن يكون مع هذه المواكب النورانية فليطع الله والرسول فقط، ولم يقل: يخرج من ماله كله، ولا أن يطلق امرأته، ولذلك قال: (ومن)، و(من) هي من ألفاظ العموم، فيدخل فيه الذكر والأنثى، والأبيض والأسود، والفقير والغني، في الأولين والآخرين، بل قل ما شئت، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مع من؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بماذا أنعم عليهم؟ برضوانه وبحبه وبجواره، مِنَ النَّبِيِّينَ ، وهذا هو الموكب الأول، وَالصِّدِّيقِينَ ، الموكب الثاني، وَالشُّهَدَاءِ ، الموكب الثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، الموكب الرابع.وبالتالي فيمكننا أن نكون من المواكب الثلاثة الأخيرة، فلنفرح ولنستبشر، فأولاً: في إمكاننا أن نكون من الصديقين، وأنا أرجو -ورجائي كبير- أنني منهم، ولا تقولوا: الشيخ يمدح نفسه، لا، أنا أشجعكم فقط، فإن قيل كيف ذلك؟ أقول: ذلك سهل، كونك طول حياتك لم تكذب كذبة واحدة، أرجو أن تكون من الصديقين، فإن قلت: أنا إلى الآن قد كذبت أكثر من ألف كذبة! فكيف الخلاص من ذلك؟ أقول لك: من الآن ابدأ حياتك بالصدق، اختم حياتك بالصدق تسجل في الصديقين؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ويربي: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموه، ثم قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة )، إي والله، ( ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، فأي مانع من أن نصبح صديقين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: يا شيخ! لقد استفدنا من الكذب؟! إنه لا فائدة أبداً من الكذب، وإنما هو خزي وذل وعار وفتنة في النفس.إذاً: هيا نستجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموا الصدق يا عباد الله، لمَ يا رسول الله؟ قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر )، أي: يقود إلى البر، ( وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء )، رجلاً كان أو امرأة، ( يصدق ويتحرى الصدق ) أي: يطلب الصدق ويتحراه في كل أعماله وأقواله وأحاديثه، بل ونياته ظاهراً وباطناً، ( حتى يكتب عند الله صديقاً ) أي: يُعلن أن فلاناً ابن فلان قد تحرى الصدق عشرين عاماً أو ثلاث سنوات أو كذا من السنين، وقد سُجِّل اسمه في ديوان الصديقين، وأصبح من جماعة أبي بكر الصديق.وكما قلت لكم: إذا فات من العمر كذا سنة، وما انتبهنا أو ما وجدنا من يعلمنا ذلك، فمن الليلة لا نكذب أبداً، لا مع المرأة ولا مع الولد، لا مع الظالم ولا مع الحليم، وإنما نتحرى الصدق في كل أحوالنا. ثانياً: في إمكاننا أيضاً أن نكون مع الشهداء، وليس معنى ذلك أن نمشي إلى البوسنة والهرسك أو إلى غيرها من البلدان التي احتلها العدو؛ لأن شيخنا ما قال: هذا جهاد، إذ أين الإمام الذي نجاهد تحت رايته؟ لقد عجزنا عن بيعة إمام فكيف نستطيع أن نقاتل وننتصر؟! إن كل قتال في الإسلام لم يكن تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ببيعة إمام صالح، نصبح معه إذا قال: قولوا: الله أكبر، قلناها لا خلاف بيننا، لا يُعتبر جهاداً وأهله ما هم بالشهداء، وهذا الكلام إذا سمعه المتحمسون -الذين يقولون: الحكام كفار فلنخرج عليهم- ينكرون ذلك أشد الإنكار، وهم في الحقيقة ينتحرون كالمساكين، ودماؤهم تسيل في الشرق والغرب، بل وما ظهروا في بلد إلا أطفئوا نور الله فيه والعياذ بالله؛ لأنهم ما ذاقوا طعم لا إله إلا الله ولا عرفوا معناها.وهذا مثال محسوس على ذلك: جهادنا في الأفغان، عشر سنوات والشيخ على هذا الكرسي يدعوكم إلى أنه يجب ألا يراك الله يا عبد الله في غير هذا الجهاد، إما بنفسك إن قدرت، أو بمالك إن كان لك مال، أو بدعوة إخوانك ليجاهدوا، أو بدعائك للمجاهدين، ومع هذا نقول: إنه جهاد وفيه دخن، فيغضب الذين لا بصيرة ولا نور لهم، ويقولون: كيف يقول: إن فيه دخناً؟! والجواب: لأنهم ما اجتمعوا تحت راية واحدة، ما استطاعوا أن يبايعوا واحداً منهم، إذ إن كلاً منهم يريد الرياسة، فتقاتلنا ونحن أحزاب وجماعات، فهل تتخلف سنة الله من أجل بكائنا أو بكاء نسائنا أو صدقاتهم؟كما قد ذكرت لكم أنه يأتيني كيساً من اليمن كله فضة لصالح الجهاد الأفغاني، وأم أولادي رحمة الله عليها تخلع ذهبها مرتين وتتصدق به على الجهاد في الأفغان، فنشتريه منها ونرده لها، بل شاركت أمة الإسلام كلها وخاصة هذه الديار في ذلك الجهاد، فهل ارتفعت راية لا إله إلا الله؟! وهل أقيم شرع الله؟! وهل تلاقى أولياء الله وتحابوا وتعانقوا؟! لا، إذاً ما هو السر؟ أو ليس عندنا بصيرة؟ بالله الذي لا إله غيره، إن سر هذا الانكسار والهبوط هو أنهم ما قاتلوا تحت راية واحدة يحملها إمام رباني بايعوه في الشرق والغرب، إذ كل قتال من هذا النوع مآله الخسران، ولله سنناً لن تتخلف ولن تتبدل أبداً، فإخواننا في البوسنة والهرسك يقتلون ويذبحون ويشردون من ديارهم، ولو كنا مؤمنين لاجتمع حكامنا في الروضة بعد صلاة الجمعة وبايعوا إماماً للمسلمين، وتحولت تلك الدويلات الإسلامية إلى ولايات ربانية، فيطبق فيها شرع الله كاملاً، وحينئذٍ إذا قال الإمام: الله أكبر، حيِّ على الجهاد، انقادت الأمة لذلك، فإذا غزونا وفتحنا فإنها تُرفع راية لا إله إلا الله، ويُعبد الله عز وجل.أما قتال من أجل الوطنية والتراب والطين فلا ينفع أبداً، وفي أيام الاستعمار -وإن كنتم تغضبون- كان الإسلام في مستعمرات فرنسا وبريطانيا أحسن مليون مرة منه اليوم، ولذا يا أبنائي أنتم أحداث ما عرفتم هذا، ووالله لأيام الاستعمار كان الإسلام فيها أرفع منه اليوم، بل وأظهر وأكثر، والسر والعلة في ذلك: أننا ما قاتلنا باسم الله، ومن أجل إقامة دين الله، وإنما قاتلنا لتحرير البلاد، لتحرير الوطن، فلما تحرر أعرضنا عن الله، وما استطاع إقليم واحد من المتحررين -من باكستان إلى المغرب- أن يقيموا الصلاة فقط، بمعنى: أن يلزموا المسلمين بإقام الصلاة، إذ إنها أول فريضة فرضت في الإسلام، فإذا أُهملت ولم يلتفت إليها فمستحيل أن يوجد طهر وصفاء، بل لا بد من الخبث والظلم والشر والفساد. كذلك إخواننا في فلسطين، كم نتحسر ونتألم عليهم، إذ لو ألهمهم الله فبايعوا إماماً منهم منذ خمسة وأربعين سنة، والتفوا حول رايته وعبدوا الله، وأعطوا قلوبهم لله، وتجمعوا في مكان ما، وخاضوا المعركة باسم الله، والله الذي لا إله غيره لنصرهم الله، ولأقاموا دولة الإسلام في فلسطين، ولنشروا ظلها في باقي البلاد العربية التي لا تطبق شرع الله، ولن يتخلف وعد الله، أما بدون هذه النية وهذا القصد وهذه المعرفة فلا ينصرنا الله أبداً.ولو أن العرب انتصروا على اليهود في تلك الحروب التي شنوها لهبط الإسلام إلى أسفل الأرض، ولا ما بقي من يجرؤ أن يقول: الإسلام والمسلمون، لكن رحمة الله وولايته لأوليائه ما نصرنا ونحن فسقة فجرة، ظلمة بعيدين عن رحمة الله، إذ لو نصر الله العروبة عندما كانت تصول وتجول، لأصبح لا مجال لأن يقال: باسم الله، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله؛ لأنهم انتصروا بقوتهم، فقد كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ويتبجحون في كل مكان، لكن من لطف الله، ومن تدبير العزيز الحكيم أنه أذلهم لحفنة من اليهود، وذلك لتتجلى حكمة الله عز وجل، ويفتح باب التوبة، ولكن ما تابوا وما عرفوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وقد قلتها أمس: يا عباد الله! إننا تحت النظارة، إن ربنا لبالمرصاد، فإما أن نستقيم كما أراد الله لنا ذلك على منهج الحق فنعبد الله عز وجل بمحابه فعلاً وبمكارهه تركاً، وإما أننا فقط ننتظر ساعة ينزل فيها البلاء علينا جميعاً، أحب من أحب، وكره من كره، والصالحون ينزل بهم ما ينزل بإخوانهم من العذاب والبلاء، لكن لا يحرمهم الله أجر إيمانهم وصالح أعمالهم، فيرفع الله درجاتهم يوم القيامة.ومن قال: كيف تقول هذا يا شيخ مع وجود هذه الصحوة فينا؟ قلنا: أيام تسلطت علينا فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولدنا وبريطانيا، لم يكن المسلمون أسوأ حالاً من مثل هذه، فلم يكن فيهم فسق وفجور بهذه الطريقة، والتكالب على الدنيا وأوساخها، بل كان فيهم حياء وشهامة وكرامة وإيمان، مع ما فيهم من الضلال والجهل والفساد، فسلط الله عليهم الأعداء ليؤدبهم، والآن أوضاع المسلمين مع ما آتاهم الله من هذه الاتصالات وهذه الخيرات وهذا العلم الحديث، المفروض أن يتبدلوا في أربعة وعشرين ساعة، فيصبحون كلهم أولياء الله، وكلمتهم واحدة، وعند ذلك اتحدت البلاد والأصوات، وما أصبحت انقسامات ولا تباعدات.فهم تحت النظارة، وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، فهو يمهل ولا يهمل، قالها أبو القاسم على منبره كما سمعتموها البارحة: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، فهيا عجلوا بالتوبة، وخفوا من الذنوب والآثام.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: الترغيب في الائتساء بالصالحين ] وقد رغبنا الله في هذه الآيات بأن نتأسى ونقتدي بالصالحين، ونحاول أن نكون مثلهم [ الترغيب في الائتساء بالصالحين، في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم ] أيضاً، وأُخِذت هذه الهداية من قول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147]، وكأن الله قال: كونوا كهؤلاء الربانيين أيها المسلمون! فقد كانوا هكذا مع أنبيائهم، فلمَ لا تتأسوا وتقتدوا بهم؟!ونحن قد جعل الله لنا رسولنا أسوتنا فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فيجب أن نتأسى برسولنا عليه الصلاة والسلام، فإذا جعنا فلا نسرق ولا نكذب ولا نخون، وإنما نربط الحجارة على بطوننا ونشدها بإزار كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سببنا أو شتمنا أو عيّرنا أو هزئ بنا أو سخر منا، فلنصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قاتلونا نقاتل، وإن جرحنا وإن قتلنا نصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الدماء -في إحدى المعارك- كانت تسيل من وجهه وهو يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).كما نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدق، إذ والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وأيضاً نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الشورى، فقد استشار رجاله وأخذ برأي الأكثرية في غزوة أحد، ثم إنهم خافوا وارتعدت فرائصهم، وقالوا: حملنا الرسول على هذا، فقال تلك المقولة المشهورة: ( ما كان لنبي أن يضع لأمته عن رأسه حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ).كذلك نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في النوم، كيف كان ينام؟ هل ينام وعاهرة تغني عند رأسه؟! كيف كان يأكل؟ كيف كان يشرب؟ ولذا يجب أن يكون صورة حية أمام أعيننا نتأسى بها ونقتدي، ومن لم يعرف يسأل: يا شيخ! كيف كان ينام الرسول؟ يا شيخ! كيف كان يتوضأ الرسول؟ كيف كان يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم طعامه؟ بم يبدأ؟ كيف ينهي طعامه؟ إذا أراد أن يركب على دابته كيف كان يركب؟ قال: [ ثانياً: فضيلة الصبر والإحسان، وذلك لحب الله تعالى الصابرين والمحسنين ] والصبر: حبس النفس وهي كارهة -وقد يأكلها العويل والصياح- على طاعة الله، ولا يسمح لها أبداً أن تفرط في ذلك، فيبعدها كل البعد عن المعاصي والذنوب والآثام، فإذا أصابها الله بمرض أو بعذاب فإنها تلجأ إلى الله تعالى، ولا يسمع منها إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا قضاء الله وحكمه، والحمد الله على كل حال، ولا تتململ أو تتضجر أو تسخط، وهذه مواطن الصبر الثلاثة، أي: حبسها على الطاعة حتى لا تفارقها، وحبسها بعيدة عن المعاصي حتى لا ترتكبها، وحبسها على قضاء الله وقدره، فإذا سئلت وأنت مريض: كيف حالك؟ فقل: الحمد لله، ولا تتضجر ولا تسخط ولا تتململ، وكذلك إن كنت جائعاً.وقد ذكرت لكم قصة لأحد الإخوان، إذ إنه كان يقول: أنا أعرف متى يكون عبد الرحمن مختار لم يتغد أو لم يتعش، فقالوا له: كيف ذلك؟ قال: نسأله: كيف حالك؟ فيجيب: إني في خير، إني في نعمة، الحمد لله، وهو والله ما تغدى ولا تعشى! ويُعرف إذا كان مبتلى أو مصاباً والألم في نفسه، إذ إنه يفزع إلى الله تعالى فيقول: الحمد لله، الحمد لله، هذا إفضال الله وإحسانه إلينا، إننا في خير، إننا في نعمة! وهذا هو شأن الصابرين، ولا يقول: نحن لم نأكل، نحن في بلاء، نحن في شقاء! وأعطيكم صورة من الواقع: جماعتنا في المملكة إذا درس أحدهم وتخرج من الجامعة وما وجد وظيفة، فإنه يأخذ في سب وشتم وبغض الحكومة؛ لأنه لم يجد عملاً، وآخر ما قبل ولده في الجامعة أو في المدرسة، فبدل أن يقول: قضاء الله وقدره، يأخذ في السبب والشتم والبغض لهذه الجامعة أو المدرسة! فكون ما نجحت تجارتك أو ما أفلحت في تعلمك تأخذ في السب والشتم والصياح والضجيج، فهل هذا هو الإيمان والصبر؟! إذا كنت في المعركة والدماء تسيل هل تكون كالربانيين؟ والله ما تكون مثلهم، الذين قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].والحقيقة هي أننا ما ربينا في حجور الصالحين، وأحلف لكم بالله، الذي ما يتربى منذ طفولته في حجر صالح وصالحة لا ينمو على الطهر والصفاء، وإنما يكبر ويتعلم وهو هائج، وأدنى شيء أن ينكشف كل عواره.فهيا نربي أولادنا على الكتاب والسنة، ولا نتركهم للتلفاز واللعب واللهو فيشبون على الانحراف والبعد عن الله تعالى.[ ثالثاً: فضيلة الاشتغال بالذكر والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشرٌ من ذلك: التسخط والتضجر والبكاء والعويل ] فعندما ترى أخاك يكثر من ذكر الله ويدعو فاعرف أنه مصاب، إذ إن الذكر والدعاء يكون عند المصائب والشدائد، وذلك بدل: آه! ما هذا؟ كيف هذه الحياة؟ ماذا نصنع؟ هذه البلاد كذا! هذه الأمة كذا! فهل هذا يليق بالمؤمن؟ بمن عرف الله ولقاءه؟ لا لوم؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، إذ الذين تربوا في حجور الصالحين إذا مرضوا أو جاعوا أو تعبوا، لا يفزعون إلا إلى الله، فلا تصدر منهم كلمة سوء، ولا نظرة باطلة، ولا حركة غير معقولة ولا غير مقبولة.[ رابعاً: كرم الله تعالى المتجلي الظاهر في استجابة دعاء عباده الصالحين الصابرين المحسنين ]، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [آل عمران:148]، أي: تثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم، وهذا في الدنيا، وأما في الدار الآخرة فلا تسأل، إذ إنها جنات النعيم، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148].معاشر المؤمنين! استفدنا من دعاء الربانيين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، بحديث مسلم: ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، فعندما نتأمل هذه الدعوة نجد أنها أحاطت بكل الذنوب فلم تترك شيئاً.فـ(اللهم) معناها: يا الله، وحذفت ياء النداء لأن الله قريب، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وحذفت ياء النداء وعوض عنها بالميم العظيمة، فبدل أن تقول: يا الله، قل: اللهم، وهذا خاص بالله عز وجل، ولا يعرف إلا مع الله عز وجل.ولفظ: (الخطيئة) في الحديث تشمل كل معصية وكل زلة تزلها أقدامنا، وقوله: (وجهلي)، لو قرأت سبعين سنة فإياك أن تفهم أنك قد علمت، فهذا موسى الكليم عليه الصلاة والسلام يخطب في جمع من بني إسرائيل، فانبهر الناس واندهشوا، فقام شاب من شبيبتهم فقال: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، إن عبداً لنا يقال له: الخضر هو أعلم منك، فما كان من موسى الرسول النبي الكريم إلا أن أصبح تلميذاً، وترك الولاية والحكم والدولة وأخذ يتعلم -واقرءوا سورة الكهف- فقال لربه: يا رب! دلني عليه حتى أتعلم منه، فقال الله له: خذ طعامك وشرابك، وخذ تلميذك أو مولاك يوشع بن نون واطلبوه في المكان الفلاني، فمشوا ثم وجدوه، فقال له موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وما قال: أنا موسى، أنا ملك ورسول بني إسرائيل فعلمني! لا، وإنما قال له: من فضلك، هل تسمح لي أن أتعلم منك؟ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، قال: وكيف لا أصبر وأنا أريد أن أتعلم؟! فمشى معه ليالي وأياماً، وفي أثنائها ركبوا البحار وانتقلوا إلى بلاد أخرى طلباً للعلم. ورسولنا أيضاً عوتب مرة ثانية، وذلك لما سألوه عن شيء فقال: غداً أجيبكم، ولم يقل: إن شاء الله، فعاتبه الله بانقطاع الوحي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، أي: إلا أن تقول: إن شاء الله، فما تركها حتى مات صلى الله عليه وسلم، إذ كل شيء في المستقبل لا بد أن تقول: إن شاء الله، والعوام عندنا قد أخذوا بهذا حتى في الماضي، فيقال لأحدهم: هل تغديت أم لا؟ فيقول: إن شاء الله، هل صليتم المغرب؟ فيقول: إن شاء الله، فكيف تقول: إن شاء الله وقد صليناها؟! لكن هو أحسن من طلبة العلم ومن العلماء الذين لا يقولون: إن شاء الله، إذ إنه يقول: إن شاء الله دائماً في المستقبل وفي الماضي، والذي يدعي العلم ما يقول: إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 04:59 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (61)
الحلقة (202)

تفسير سورة آل عمران (65)


حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من طاعة الذين كفروا؛ لأن مآل طاعتهم الردة عن دين الله، وتنكب طريق الحق، وفي ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وإنما الواجب مجاهدتهم وقتالهم، وقد وعد الله عباده المؤمنين حينذاك بنصرهم على عدوهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، لإعراضهم عن الله، وكفرهم به، ومحاربتهم لأوليائه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات عدة مرات ثم نتدارسها؛ رجاء أن نعلم ما أراده الله منا أن نعلمه، وأن نعمل بما أراده الله منا أن نعمله؛ لنظفر إن شاء الله بجائزة العلم والعمل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:149-151].
الحكمة من مناداة الله لعباده المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا النداء الإلهي الكريم موجه إلى المؤمنين؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:149]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وقد علم الأبناء والإخوان أن الله ينادي المؤمنين لأنهم أحياء يسمعون ويعون، يفهمون ويفقهون، أما الأموات فلا يناديهم؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا ينادي ميتاً، وإنما الذي يُنادى حي يسمع النداء ويجيب الدعاء.كما قد علمتم -زادكم الله علماً- أن الله تعالى نادى المؤمنين في كتابه القرآن الكريم تسعين نداءً، فيناديهم ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم إن هم عملوا به، أو يناديهم لينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم إن هم لم يستجيبوا، أو يناديهم ليبشرهم فتنشرح صدورهم وتطمئن قلوبهم وينطلقون في ميادين الخير والعمل، أو يناديهم ليحذرهم من عواقب الانحراف والخلاف والخروج عن منهج الحق؛ حتى لا يخسروا وينهزموا، أو يناديهم ليعلمهم ما ينفعهم أو ما به كمالهم وسعادتهم.فهذه خمس رحمات ربانية أوصاها لعباده المؤمنين، فلا يناديهم إلا لواحد من هذه الخمسة؛ لأنه وليهم، والولي لا يهمل أولياءه أبداً.
نهي الله للمؤمنين عن طاعة الكافرين
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، فهو ينهاهم عن طاعة الكافرين حتى لا يخسروا دنياهم وأخراهم، وذلك لأنه وليهم ومولاهم.معشر المستمعين والمستمعات! ما زال السياق في معركة أحد، وفي التأنيب والعتاب والتأديب والتوجيه لأولئك المؤمنين الربانيين، حيث أصابتهم مصيبة، فها هو تعالى يقول لهم: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهم المنافقون الذين كانوا معهم، والكافرون الذين كانوا مع ابن أبي ابن سلول وأبا سفيان في المعركة؛ لأنهم قالوا: هيا بنا نعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، وننتهي من هذه الإحن والمحن! وقالوا: من يذهب إلى ابن أبي فيتوسط لنا عند أبي سفيان ونعود إلى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا.المهم اقتراحات قدمت لهم وسمعت، فأنقذ الله أولياءه على الفور، وأنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الجاهلية الأولى، وتتجرعون غصصها، وتذوقون خسرانها في الدنيا والآخرة.إذاً: حذرهم ونهاهم أن يسمعوا أقوال المبطلين من الكافرين، ولنعلم يقيناً أن هذا التوجيه الإلهي، وهذا الإرشاد الرباني، وهذا التعليم الرحماني، ليس خاصاً بوقعة أحد وبأصحابها، وإنما هذا التوجيه إلى أن تطلع الشمس من مغربها، إلى أن يغلق باب التوبة ويستقر الوضع، فالمؤمن مؤمن والكافر كافر، والسعيد سعيد، والشقي شقي، فعلى الأفراد والجماعات والحكومات والمسئولين من المسلمين ألا يطيعوا الكافرين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو بوذيين أو علمانيين أو شيوعيين أو مجوسيين، إذ إن طاعتهم تتنافى مع طاعة الرحمن.وأزيدكم بياناً: والله إن الأعداء ما يريدون سعادتنا ولا عزنا ولا كمالنا ولا غنانا ولا علونا أبداً؛ لأن خالق قلوبهم وطبائعهم قد أخبرنا بهذا، وإن شئت فاخل بواحد منهم وقل له: اصدقني القول، هل تريدون للمسلمين أن تعلو رايتهم، وترتفع كلمتهم وسلطانهم، وأن ينتصروا في دينهم ودنياهم؟ يقول لك: والله ما نريد ذلك أبداً؛ لحسدهم وبغيهم، فهم يعرفون أن الإسلام مفتاح دار السعادة، والذي منعهم من أن يدخلوا فيه وينعموا برحمة الله فيه أنهم يريدون أن يحافظوا على مراكزهم ومناصبهم وسيادتهم وما إلى ذلك، فهذا هرقل يعلنها فيقول: لو علمت أنني أخلص إلى محمد لغسلت ما تحت قدميه؛ لأنه عرف أنه النبي المنتظر، وأن هؤلاء هم المؤمنون أهل الجنة، وما منعه أن ينزل من على سرير ملكه إلا حبه للملك والسلطان.إذاً: إياك أن تطلب النصح أو الإرشاد من كافر، سواء كان ابن عمك أو أباك أو أخاك، أبيضاً أو أسود؛ لأن الكافر ميت، فكيف تسترشد بميت؟! ثم إن الكافر ضد المؤمن ضداً كاملاً، فكيف ينصح لك وتقبل نصيحته، وقد تقدم نداء آخر وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، أي: أحبوا ما يشقيكم ويرديكم، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].يؤتى بنصراني من الحيرة ليكون كاتباً لـعمر فيرفضه، والكفار اليوم هم الذين يوجهون ويرشدون ويبينون الطريق خمسين سنة! فهل عز المسلمون وسادوا؟! وهل استغنوا وارتفعوا؟! وهل نفعت استشاراتهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم؟! والجواب: لا، إذ إن العالم الإسلامي الآن يعيش في ذلة ومسكنة وضعف أيضاً، والحفنة من اليهود تسود العالم الإسلامي وتتسلط، سواء علناً أو سراً.وعلى كل حال نحن لسنا مع اليهود ولا مع النصارى في ديارنا الطاهرة، لكن إخواننا الموجودون في مصر والشام وأوروبا والبلاد التي فيها كفار ننصح لهم ألا يستشيروا كافراً، بل لهم أن يستشيروا زوجاتهم أو إخوانهم من المؤمنين، أما أن تستشير الكافرين فلن ينصحوا لك أبداً، ولن يوجهوك إلا إلى ما فيه الشقاوة والتعاسة لك، فاستغن بالله تعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ثم هل انعدم الصلحاء والربانيون بيننا؟ والجواب: لا، إذ يوجد بيننا ربانيون وعلماء وصلحاء وأتقياء ذووا بصيرة وعلم ومعرفة، فإذا احتجنا إلى الاستشارة فهم الذين يُستشارون، وإذا وجهونا فهم الذين نطيعهم ونقبل توجيهاتهم، أما الكافر الذي يكرهني ويكره حتى وجودي في هذه الحياة فكيف نستشيره؟!إذاً: هذه رحمة الله وقد نصحنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهذا أعظم من النهي: لا تطيعوا، والسبب أنه قد بين لنا الحقيقة كما هي فقال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، أي: جحدوا ألوهية الله عز وجل ولقائه ورسالة نبيه، وما أنزل من الشرع والأحكام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قلت: يهود ونصارى وبوذيين ومجوس، كلهم جنس واحد كافر.
معنى قوله تعالى: (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الشرك والضلالة، وتعودون مثلهم كفاراً، فتنقلبون وترجعون بعد هذه الرحلة الطويلة في مسار الكمال والطهر والصفاء خاسرين ذليلين، وما استفدتم شيئاً من إيمانكم وجهادكم وصبركم القرون الطويلة أو الأيام والأعوام العديدة.
تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)
قال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150].ثم قال تعالى: بَلِ اللَّهُ [آل عمران:150]، وقرئت قراءة سبعية: (بل اللهَ) بفتح لفظ الجلالة، أي: أطيعوا الله، فهو الذي يجب أن تطيعوه لا الكفار.ثم قال: مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، أي: أن الله مولانا، فهو الذي خلقنا ورزقنا وحفظ علينا حياتنا وتولى كل شئوننا وأمورنا، فكيف لا يكون مولانا؟! إنه مولانا وسيدنا ونحن عبيده، قال: اركعوا فنركع، قال: اسجدوا فنسجد، قال: صوموا فنصوم، قال: اكشفوا عن رؤوسكم وهرولوا بين جبلين، أجبنا وهرولنا؛ لأننا عبيده، قال: لا تشربوا مسكراً، والله ما نشربه، قال: لا تقولوا الباطل، والله ما نقوله، قال: لا تكذبوا ولا تنطقوا بغير الحق، والله ما نكذب ولا ننطق بغير الحق؛ لأننا عبيده ومصيرنا بيده، إن شاء أسعد وإن شاء أشقى، وفوق ذلك أننا نحبه ويحبنا، فكيف إذاً نخرج عن طاعته ونعصيه ونحب من يكرهه ويبغضه ويعصيه؟!ثم قال تعالى: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، أي: وإن طلبتم النصر على المشركين والكافرين، وعلى من تحاربون ويحاربونكم، فهو جل جلاله وعظم سلطانه خير الناصرين، فلا تطلبوا النصر من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا، وإنما اطلبوه من الله، إذ إنه والله خير الناصرين، فهو الذي يملك، وهو الذي بيده قدرة كل ذي قدرة، إن شاء عز وإن شاء ذل، إن شاء هزم وإن شاء نصر، وهذا هو الذي ينبغي أن نطلب منه، ولا نطلب النصر على أعدائنا بمعصيته كما حصل وتم وتذوقنا مرارته وتجرعنا غصصه في حربنا مع اليهود منذ أن دخلوا فلسطين، وأعلنوا عن دولتهم، ونحن في حماس وحرب بعد أخرى وما انتصرنا أبداً.وسر ذلك يا ربانيون! يا علماء! أننا ما قاتلناهم من أجل أن نقيم دين الله، وإنما قاتلناهم من أجل أن نجليهم عن أرضنا ووطننا، فكان هذا هو القصد، وإن قلت: لا يا شيخ، فأقول لك: عندما قاتلتم اليهود، هل كنتم تقيمون دين الله في دياركم؟! وهل أحللتم ما أحل وحرمت ما حرم؟ وهل أقمتم حدوده عليكم وعلى غيركم؟ وهل دعوتم إليه ورفعتم أصواتكم بـلا إله إلا الله وألا يعبد إلا الله؟! الجواب: لا، باستثناء هذه الدويلة، وباقي الدول العربية من المغرب الأقصى إلى الشرق هل كانوا يعبدون الله بما شرع، ويقيمون شرعه ودينه وهم أولياؤه حتى ينصرهم؟! والجواب: لا، إذاً كيف ينصرهم الله؟! ولذلك كانت هزيمتنا أمام اليهود فيها خير كبير، وقبل ذلك هزيمة المؤمنين مع رسول الله في أحد كان لها خير كبير، إذ لو انتصروا مع عصيانهم لقائدهم صلى الله عليه وسلم لكانوا لا يطيعون الله والرسول، ويقولون: نحن مسلمون، والنصر إلى جانبنا، والله معنا، ولا نبالي بالمعاصي إذا ارتكبناها، ومن ثم يخسرون كل شيء، فعلمهم أنهم لما عصوا رسول الله قائد المعركة هزمهم الله وسلط عليهم المشركين، ولذلك لو أن العرب انتصروا على إسرائيل وهم على ما هم عليه من عدم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والخرافات والضلالات، لقالوا: انتصرنا بقوتنا، ولم يبق مجال لأن يُعبد الله، وكذلك لو انتصر الاشتراكيون في بلاد العالم، وكثر خيرهم وبركاتهم، وعمهم الغنى، لوقع في هذا الفخ اليهودي كل المسلمين إلا من شاء الله، ولكن الله ما أغناهم، فقد تبجحوا وتحطموا، وذلوا وهانوا وافتقروا.وهذا كله ثمرة ولايتنا لله تعالى، إذ الله ولي المؤمنين، فلا يسمح لهم أن يذوبوا في الكفر وينمسخوا ويهبطوا ويصبحوا لا إيمان ولا إسلام ولا إحسان.إذاً: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، فحققوا الولاية وشدوا بأيديكم، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، إن كنتم ترون أن هناك من ينصر فالله خير الناصرين، فاطلبوا النصر منه، ونطلب نصر الله لا بالدعاء فقط، بل نطلبه بطاعته وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن أوامره كلها عوامل النصر والفوز، ونواهيه كلها عوامل السقوط والهبوط، فإذا أطعناه فيما أمر وفيما نهى فقد سدنا وانتصرنا وفزنا بسعادة الدارين.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-12-2020 04:59 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب...)
قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].ثم قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وقد ألقى وقد فعل، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، وأقسم بالله لو أن المسلمين في أي مكان أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأطاعوا وحملوا راية لا إله إلا الله، وقاتلوا المشركين في أي مكان، والله ليلقين الله الرعب في قلوب المشركين فينهزمون، إذ إنه في خمسة وعشرين سنة فقط وراية لا إله إلا الله من وراء نهر السند إلى اندونيسيا وإلى الأندلس، وهذا الرسول الكريم يقول: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وذلك لما حاول ملك الروم أن يغزو النبي محمداً وآله وقومه، فأعد العدة، وجمع ثلاثمائة ألف مقاتل في ديار الشام، وعزم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على قتاله، فأعلن التعبئة العامة، فجهز اثنا عشر ألفاً من المجاهدين، ولما بلغ الروم عزم رسول الله وخروجه باثني عشرة ألفاً انهزموا وعادوا إلى ديارهم، وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك عشرين يوماً، ثم عاد إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وقال: ( نصرت بالرعب ).وإن قلت: هذا رسول الله! فنقول: وهذا عبد الله بن رواحة، وهذا جعفر بن أبي طالب، وهذا زيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم قادوا ثلاثة آلاف مقاتل، وخرجوا إلى ديار الشام، واستقبلهم مائتي ألف مقاتل من الروم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين، وبعد استشهاد القادة الثلاثة الأول فالأول، تولى قيادة الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه، فاستخلص واستل ذلك العدد من مائتي ألف مقاتل كاستلال الشعرة من العجين، إذاً فمن دبر هذا؟ إنه الله عز وجل، وهذا وعده إذ قال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، ومن مظاهر النصر أن الله يلقي الخوف والهزيمة في قلوب المشركين، فيتزعزعون ويتخلخلون، ويتساقطون ويخرون، وهذا ليس خاصاً بمعركة ولا ألف معركة، بل ما زال إلى الآن، وفي البارحة وجهت -وأنا آسف لأني أقول ما لا أعرف، وليس هنا من يقبل قولي ولا يرضاه- وقلت: والله لو أن إخواننا الفلسطينيين تجمعوا في طرف المملكة أو في طرف سوريا أو في طرف مصر أو في أي مكان من بلاد العرب، وبايعوا إماماً ربانياً عرف الله معرفة يقينية، قد ملئ قلبه حبه وخشيته، فرباهم سنتين أو ثلاث سنوات، وهم ينمون بأبدانهم وأرواحهم وعقولهم، لأصبحوا أولياء الله، بل إذا سألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها، وتجلت فيهم ولاية الله تعالى، فظهر فيهم الصدق والطهر والصفاء والخشوع والإنابة والتقوى، ثم قادهم باسم الله لأن يُعبد الله وحده في أرض القدس والطهر، وقال: الله أكبر، والله لنصرهم الله تعالى، وفر اليهود هاربين، بل ومنهم من سيقع في البحر، ومنهم من سيذعن وينقاد ويستسلم، إذ الله يقول: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وعد الصدق، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.وقد رأينا هذا في التاريخ الطويل، فمتى ما وجِد المسلمون الربانيون بقيادة ربانية وبقصد سليم ونية حقة أن يعبد الله وحده في الأرض إلا نصرهم الله عز وجل، وبدون هذا فلا نصر ولا فوز، وقد عرفنا هذا في جهادنا في أفغانستان، إذ نحن قد ساهمنا وشاركنا فيه، وشيخكم هذا قد لبس البدلة للجهاد وطلعنا الجبل أيام زيارتنا لنخبرهم: بأنكم لا يقاتلون فقط روسيا، وإنما تقاتلون الكفار كلهم، ولن يتم لكم نصر حق إلا إذا أخذتم بمبادئ الإسلام وتعاليمه، فبايعوا إماماً واحداً، وزرنا إخواننا في مخيماتهم، وقال لي أحدهم: معسكر فلان مصيدة فقط للفلوس وليس قتالاً حقيقياً! والعجيب أنهم قادة يقودون أمة لعزة الإسلام ونصرته! وقلنا لهم: بايعوا إماماً واحداً، واستجيبوا لأمر الله تعالى، فأنتم لا تقاتلون روسيا فقط، وإنما تقاتلون من على الأرض من أهل الكفر، فلا بد وأن يكون الله معكم، فإن لم يكن الله معكم فلا نصر أبداً، وللأسف ما استجابوا لذلك، فعاشوا يقاتلون متفرقين، وما إن انهزمت روسيا بأمر الله ودعاء الصالحين حتى عادوا على بعضهم البعض، وهم الآن في فتنة إلى هذه الساعة، ولن تنتهي هذه الفتنة؛ لأنهم ما بايعوا إماماً واحداً ليعبدوا الله تحت رايته.والآن توجد جماعات في بلاد العرب تنادي بالجهاد، وأن الحكومات كافرة، فيجب أن نجاهد وأن نقاتل الكفر! ونحن نقول: يا أبناءنا! ما هكذا تورد الإبل يا سعد، لا يحل قتال بعضكم بعضاً، من أفتاكم بهذا ؟ من أجاز لكم هذا؟ ثم أنتم تقاتلون جماعات وأحزاباً، فهل أذن الله في هذا القتال؟ من إمامكم؟ من بايعتم أنتم وأمتكم، وصليتم وراءه وقادكم خطوة بعد خطوة ليعدكم للجهاد والقتال؟ إنكم تقاتلون أحزاباً ومنظمات وجماعات، وسوف تنتهي بقتال بعضكم بعضاً، وقد قلت هذا وما زلت أقول: إما أن تنتصر الحكومة التي يقاتلونها، وإذا انتصرت فسوف تنتهي هذه الأنوار وتنطفئ، ويصبح إخوانكم وأمهاتكم وأبناؤكم يتملقون الحاكم الفاجر بالفسق والفجور؛ لأننا عرفنا طبيعة البشر، وإما أن تنتصروا أنتم وهذا من باب البعيد بعد السماء عن الأرض، ثم تقتتلون فيقتل بعضكم بعضاً، ولن تقوم للإسلام دولة على مثلكم؛ لأنكم ما عرفتم الله، ولا ملأ حبه قلوبكم، ولا خوفه من نفوسكم، فأين يُذهب بعقولكم؟ وكيف ينصركم الله تعالى؟! أوجدوا أولاً أمة إذا قلتم: الله أكبر رددوها خلفكم. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، بسبب ماذا؟ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151]، والباء هنا للسببية، والميم مصدرية، أي: بإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ قد أشركوا في عبادة الله تعالى وفي ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته من لا يستحقون ذلك؛ لأنه تعالى ما أمر بعبادتهم ولا بطاعتهم، بل وما أنزل الله به من سلطان.إذاً: العلة في هزيمة الله للكفار والمشركين والمنافقين: أنهم أشركوا بالله تعالى، فعبدوا الأحجار والأصنام والشهوات والبطون والفروج والأهواء، وهذه العبادة -عبادة غير الله- ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان أبداً في أي زمان من أزمنة الحياة، إذ كيف يُعبد من لا يخلق ولا يرزق؟! كيف يُطاع ويُذعن له ويتابع من لم يؤمن بالله ولا بلقائه؟! وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [آل عمران:151]، أي: أن النار مأواهم الذي يأوون إليه، ومصيرهم الذي ينتهون إليه كل المشركين والكافرين.إذاً: أين هذه النار؟ عندنا مثل نكرره للعاقلين، فنقول: غداً إن شاء الله في رابعة النهار في وقت الساعة العاشرة انظر إلى الشمس، هذا الكوكب المضيء النهاري، إذ قال فيه العلماء: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة! وهذا الكوكب كله نار، والذي أوجده هو الله، ولم تجمع الإنس والجن الفحم والحطب وأشعلوا هناك ناراً، ثم إن هذا الكوكب يسير بانتظام في فلكه لتنتظم عليه هذه الحياة، فلو يهبط بأقل هبوط لاحترق الكون، ولو ارتفع بأكثر ارتفاع لمات الناس بالبرد والجليد، ولا ندري كم سنة وهو في دائرته؟ فهذا هو عالم النار فوقنا، فكيف تسأل عن عالم النار؟! وسوف يأتي لهم هذه الكائنات الموجودات العلوية والتي نشاهدها وكلها تصبح سديماً وبخاراً، وعالم السعادة فوق وعالم الشقاء أسفل.وقد قلت لك حتى تتصور قعر النار: ضع رأسك بين ركبتيك وفكر، وقل: هابط، هابط، هابط، حتى تتعب وتكل، فإلى أين تريد أن تصل؟ لقد وقف عقلك، وبالتالي لا يسعك إن كنت العاقل إلا أن تأخذ بلحيتك وتقول: آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله، وهذه الصور النيرة قد حفظناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان على كرسيه يعلم إخوانه الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفجأة يقول: ( آمنت به، آمنت به )، قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: ( أتاني جبريل فقال لي: إن رجلاً ممن كان قبلكم يركب على بقرة، فرفعت البقرة رأسها وقالت له: ما لهذا خلقت يا رجل! )، أي: ما خلقت ليركب عليها، ولكن لتحلب ويحرث بها، فالرسول تعجب من بقرة تنطق وتفصح بلغة الرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: ( آمنت به )، وأمسك بلحيته، ثم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وهما غائبان عن المجلس وليسا فيه، لكن يقين الرسول في إيمانهم وثقته في معتقدهم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ).فهذا هو شأن أهل اليقين، فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله بأمر ما فلا مجال للعقل والتفكير فيه، وإنما قل فقط: آمنت به، آمنت بالله. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151]، أي: وبئس المصير يصيرون إليه، إذ النار مصير سيء وأقبح مصير، وحسبنا أن نذكر ما ثبت عن رسول الله: ( ما بين منكبي الكافر كما بين مكة وقُديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، فهذا العرض فكيف بالطول؟ قال: ( وضرسه كجبل أحد )، فكم مدة لتأكله النار؟ وكم قرناً ليفنى؟ وإن تعجبت فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سنن أبي داود : ( أُذن لي )، أي: ما نستطيع أن نتكلم بدون إذن؛ خشية أن الناس لا يفقهون ولا يعقلون، إذ الواجب أن نحدث الناس بما يفهمون، ( أذن لي أن أحدث عن ملك رأسه ملوية تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة )، فكم سيكون طوله؟ وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( وتجلى لي جبريل عليه السلام في السماء على صورته التي خلقه الله عليها فسد الأفق كله )، فقد كان معه في الغار وضمه إلى صدره كالأم الرحيمة ثلاث مرات وعلمه، ثم فارقه وظهر في صورته التي خلقه الله عليها بستمائة جناح، فسد الأفق كله.إذاً: عالم الشقاء بئس المصير يصير إليه الآدمي، من الطعام الزقوم، والشراب الحميم، وقعرها وبعدها، فوالله لا يعرف فيها أحداً، لا أماً ولا أباً ولا أخاً ولا عماً، ولهذا قال تعالى: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات:أولاً: تحريم طاعة الكافرين في حال الاختيار ]، أما في حال الاضطرار والعصا والقدوم والمنشار في يده فأطعه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( أعطهم يا عمار )، ونزل في ذلك قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فإذا ما أطقت التعذيب، وطلب منك سب الله وسب رسوله، فقل بلسانك وقلبك بريء من ذلك. [ ثانياً: بيان السر في تحريم طاعة الكافرين، وهو أنه يترتب عليه الردة والعياذ بالله ] والله لو نطيع الكفار الآن كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، ونأخذ بتوجيهاتهم، ما هي إلا دقائق ونحن مرتدون والعياذ بالله.[ ثالثاً: بيان قاعدة: من طلب النصر من غير الله أذله الله ] وقد عرفنا هذا وجربناه، إذ إن من طلب النصر من غير الله أذله الله ولم ينتصر.[ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ همَّ أبو سفيان بالعودة إلى المدينة ] وذلك لما خرجوا بعيداً قالوا: ماذا فعلنا؟ لماذا رجعنا؟ ما زال محمد وأبو بكر وعمر أحياء، فهيا نقضي عليهم جميعاً، ولكن الله جاء بـمعبد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه وقال: هيا إلى مكة، وصدق الله إذ يقول: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151] وقد فعل. [ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال، كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى ] وذهب إلى مكة. [ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان ] كل دعوة سياسية أو دينية أو دنيوية لا تقوم على الحجة والسلطان فلا قيمة لها، والدعاوى باطلة إلا إذا قامت على البراهين الصادعة، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151].[ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية، إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها ].وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:00 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (62)
الحلقة (203)

تفسير سورة آل عمران (66)


يذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بما حصل منهم يوم أحد من عصيان بعضهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعهم بمتاع الدنيا من الغنائم وفرحهم بها بعد أن أظفرهم الله بعدوهم، ثم فشلهم بعد ذلك وتفرقهم من حول نبي الله لما أن دارت الدائرة عليهم، ثم يمتن الله على عباده المؤمنين بعفوه عنهم وتفضله عليهم سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وهانحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].هما آيتان اثنتان، فهيا نكرر تلاوتهما ونتأمل معانيهما وما تحملانه من هدى ونور: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، هذا إخبار من الله تعالى، والمخاطبون بهذا الخطاب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة أحد وخاضوا معركتها، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم صبيحة السبت بألف مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع ابن أبي رئيس المنافقين بثلاثمائة منهم، فبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل من الأنصار والمهاجرين، وقد عسكروا بوادي أحد، وهمَّ رجال من بني حارثة وبني سلمة بالعودة أيضاً ولكن الله سلَّم، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، ثم بدأت المعركة واشتعلت نارها. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، أي: بالنصر. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، والحس: القتل والقطع. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: حتى إذا فشلتم عن قتال المشركين، ووجه الفشل هو أن الرماة -وعلى رأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه- الذين وضعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل المعروف الآن، وقال لهم: ( لا تبرحوا أماكنكم، انتصرنا أو انتصروا )، لما شاهدوا هزيمة الكفار، وأخذ المجاهدون يجمعون الغنائم، ما ثبتوا، بل اختلفوا ونزلوا من أماكنهم، ولم يبق إلا عبد الله بن جبير ومجموعة معه، ولما خلا الجبل من الرماة احتله خالد بن الوليد قائد خيل المشركين، فوقع المسلمون بين فكي المقراظ، ورجع المشركون لما شاهدوا الهزيمة قد نزلت بالمسلمين، وأن الرماة قد نزلوا من أماكنهم، وأن خالداً قد احتل الجبل، وأصبحت السهام والرماح تأتي على المسلمين من كل جانب، وهذا يدل عليه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: في القتال.ثم قال تعالى: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، من هم الذين تنازعوا؟ الرماة، منهم من قال: إن المعركة قد انتهت، والمشركون قد انهزموا، فهيا بنا ننزل لجمع الغنائم، ومنهم من قال: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا ألا نبرح أماكننا كيف ما كانت الحال انتصاراً أو انهزاماً، وكان هذا هو التنازع في الأمر. وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، وهذا عائد إلى الرماة حيث عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا للمادة. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فالذين هبطوا من الجبل يريدون الدينار والدرهم والغنائم، والذين ثبتوا على الجبل ولم ينزلوا يريدون الآخرة. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمران:152]، أي: عن المشركين. لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، أي: ليختبر إيمانكم وصدقكم وثباتكم أو هزيمتكم. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، أي: لولا عفوه لما ترك المشركون منكم أحداً، لكن الله صرف المشركين عنكم، ولو واصلوا قتالكم لانتهيتم، ولكنها منة الله تعالى عليكم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152]، من أصحاب رسول الله، ومن أهل معركة أحد، بل وعلى كل المؤمنين إلى يوم القيامة، وإنه لذو فضل علينا أيها المستمعون والمستمعات! إن كنا مؤمنين، والله ذو فضل عظيم على المؤمنين، ولولا فضله أن من زلت به قدمه وعصى ربه أنزل به المحنة والكارثة ما بقي أحد، لكن فضله لا ينقضي على المؤمنين أبداً، وهو واضح وبيِّن.
تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم...)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153].اذكروا إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، يقال: أصعد في الأرض، إذا ذهب هارباً في الصعيد لا يلتفت إلى أحد.ثم قال تعالى: وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، أي: ليس هناك من يلتفت إلى الوراء أبداً، بل إذا حصلت الهزيمة فالهروب في تلك الصحراء. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [آل عمران:153]، أي: يقول: إليّ عباد الله، وذلك لما انهزموا وفروا؛ لأن إبليس صاح فيهم: لقد قتل محمد، وأشاعها المنافقون بين المسلمين، حتى قال من قال: هيا نلحق بـأبي سفيان ونعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، ومنهم من قال: توسطوا بـابن أبي ليأخذ لكم عهداً عند أبي سفيان، فكانت محنة ما مثلها محنة، وسببها معصية واحدة لا ثاني لها، ونحن غارقون في معصية الله والرسول! فهذه معصية واحدة فكيف بمن يعصي الله ليل نهار؟! وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، وأنتم شاردون هاربون في الصعيد. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]،، فالغم الأول: الهزيمة، والغم الثاني: فقد الغنيمة، ولنا أن نقول: الغم الثاني: الهزيمة وفقد الغنيمة، والغم الثاني: سماعكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فأصابكم كرب لا حد له، وغم أعظم من ذلك الغم، وأعظم من فوت الغنيمة أو وجود جراحات أو قتلى بينهم. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، لعلة: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من الغنائم، وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من القتل والجرح، وهذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فآمنا بالله وحده، فهو الذي سلط ابن قمئة -أقمأه الله- بأن جرح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سقوطه في حفرة من الحفر، فكسرت رباعيته، وسالت دماؤه، ثم صاح: قتلنا محمداً، إن هذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، فأعمالنا الباطنة كالظاهرة، والسرية كالعلنية، إذ كلها مكشوفة لله، فهو يعلمها أكثر مما نعلمها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، والملكوت كله بين يديه.

يتبع


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:00 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق ] أي: سياق الكلام الإلهي، [ في أحداث أحد ] أي: هذا الجبل الذي وراءنا، هذا الجبل الذي كان إذا لاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد خفَّ وأسرع، وقال: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، ومن تدبير الله أنه اشتق له اسم من اسمه، فقال: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهل تعرفون ماذا فعل أحد؟ قد يقول قائل: يا شيخ! لا تقل: فعل أحد، فأحد ليس عاقلاً حتى يفعل! فنقول لك: ما الفرق بينك وبين هذه الصخرة؟ إنها تنطق وتتكلم وتعبد الله مثلك، وكونك نطقت بالنسبة إليه وباقي المخلوقات كلها تعبد الله وتسبحه، فهو سبحانه الذي جعل عينيك في وجهك، ولسانك في فيك من أجل أن تنطق وتتكلم، وكل المخلوقات تسبح الله وتعبده.ولما انتهت المعركة في آخر النهار زحف أبو القاسم مع بعض رجاله إلى الجبل وارتقوا فوقه، وليس في قمته وإنما في سفحه، ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد، ماد واضطرب الجبل من الفرح، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اسكن أحد، فإن عليك نبي )، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ( وصديق )، وهو أبو بكر الصديق، ( وشهيدان )، وهما: عمر وعثمان. لا إله إلا الله! أبو بكر الصديق استشهد أو قتل في معركة تخلى عنها مع رسول الله؟! والله ما تخلى عن معركة قط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفيه وسام الصديقية، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا بكر لن يُستشهد في القتال، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف المؤمنون أبا بكر، وقاد الأمة سنتين ونصف، ثم توفي بمرض أصابه.وقوله: ( وشهيدان )، من أخبر رسول الله أن عمر وعثمان سيستشهدان؟ الله، فلا إله إلا الله! هل شهيدان في معارك فارس والروم؟ أم في معارك أفريقيا والأندلس؟ إنهما شهيدان في بيتهما، فلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهذا عمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب ابنته أمنا حفصة رضي الله عنها وتقول: أيا أبتاه! كيف تجمع بين هذين: الشهادة في بلاد فارس والروم، والموت في المدينة؟! فيقول لها: اسكتي يا حفصة! إن الله على كل شيء قدير، وفعلاً استشهد في مدينة رسول الله وهو يصلي في ذاك المحراب الطاهر، فقد كان أبو لؤلؤة المجوسي يتربص به الدوائر، إذ إنه مبعوث من الحزب الوطني الفارسي المجوسي لينتقم من عمر الذي حول تلك الظلمة إلى نور، وأطفأ تلك النار التي كانت تُعبد مع العزيز الجبار، فتكوَّن حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من العرب والمسلمين وعلى رأسهم عمر، وأبو لؤلؤة المجوسي هذا كان مملوكاً لأحد أصحاب رسول الله وهو المغيرة بن شعبة، فكان يتربص بـعمر يوماً بعد يوم حتى أتيحت له الفرصة، فصلى يوماً وراء عمر، ولما سجد أو ركع أخرج رمحه وضربه، فصاح عمر فالتفت المؤمنون وهرب القاتل فألقوا القبض عليه، فأدى مهمته ولم يكن خائفاً من الموت، إنما المهم أن يموت عمر وينطفئ نور الإسلام.هذا الحزب الوطني المجوسي إلى الآن ما زال يعمل على إطفاء نور الله عز وجل، وإقامة الدولة المجوسية الساسانية، فأيام كان الشاه على رأس الحكم أقام الشاه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على سقوط دولة الساسانيين، واحتفل بالذكرى كل السفارات والقنصليات، وشارك في ذلك العرب والمسلمون، وهم كالأغبياء ما يشعرون، فهل يُعقل أو يُقبل أن المسلمين يحتفلون بذكرى دولة المجوس؟! أسألكم بالله، لو أن جماعة في مكة قالوا: نحيي ذكرى موت عمرو بن هشام بطل بني مخزوم! فإنك ستقول: هل هؤلاء مسلمون؟! فكيف بهؤلاء الذين يحتفلون بذكرى مجوسي كافر؟! آه! ما زلنا في غفلتنا سائرون.كتبت مرة كلمة في جريدة البلاغ الكويتية محذراً ومنبهاً ومذكراً ولكنا ميتون، وقلت: يا عرب الجزيرة! إنكم والله بين فكي مقراظ، اليهود من الغرب، والمجوس من الشرق، وما هي إلا سنوات توالت وإذا بحملة الشاه آية الله، أو الجمهورية الإسلامية الشرسة على المسلمين، ولولا أن الله أوقفها بالبعث العراقي لما اجتمعنا الليلة هنا، فهل هذه سياسة أو علم؟ ماذا تقولون؟ الغافلون يقولون: سياسة، فاتركنا من هذه السياسة.والشاهد عندنا في استشهاد عمر رضي الله عنه: أن الله تعالى حقق له طلبه ورجاءه، فجمع له بين الموت في المدينة والشهادة في سبيل الله عز وجل.وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه شهيد، فقد أخبر بشهادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علم من الله ليس بالهوى، وقد استشهد رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين- في بيته قريباً من مسجد رسول الله، والمصحف بين يديه حتى تلطخ بدمائه رضي الله عنه، والذي قتله هو الثالوث الأسود.
دور الثالوث الأسود في الكيد لأمة الإسلام
لعل أهل الحلقة قد ملوا من كلمة: الثالوث الأسود، لكن نسمعها من لا يعي هذا ولا يفهمه، وإن كانوا ساسة يقودون الناس، فنقول: إن الثالوث الأسود مركب من ثعابين سود: الأول: المجوس، والثاني: اليهود، والثالث: الصليبيون.وبداية التكوين لهذا الثالوث هم المجوس، وذلك لما سقط عرش كسرى وانهارت المجوسية وانطفأت نارها على أيدي عمر، إذ أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم، وذلك في حادثة تاريخية مشهورة وهي: لما صدر حكم قريش بالإجماع على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ويسَّر الله الهرب لرسوله فهرب مع الصديق، فأعلنت قريش عن جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي برأس محمد رسول الله، فأخذ سراقة بن جعشم رضي الله عنه البطل الفارس الخريت الذي يعرف الأرض في البحث، وقال: قد أتيحت لنا الفرصة، وأخذ يتتبع الآثار حتى عرف الطريق الذي سلكه خريت أبي بكر الصديق؛ إذ اتخذوا خريتاً خاصاً يمشي أمامهم ليتجنبوا طرق العرب، ولما وصل سراقة بن جعشم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذا بالفرس تغوص رجلاه في الأرض، فيتعجب سراقة بن جعشم من ذلك، إذ إن الأرض صلبة فكيف يحصل هذا؟! ويقفز من على الفرس فيمشي على رجليه فيسقط، فلا إله إلا الله! فالتفت إليه رسول الله وهو يبتسم فقال له: يا سراقة! كيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟! فأين كسرى؟ وأين تاج كسرى؟ والرسول هارب من مكة والإعدام قد صدر عليه، فكيف هذا؟! وأي حلم وأي منام هذا؟! فرجع سراقة وأسلم، ثم تمضي الأعوام ويفتح عمر برجاله ديار فارس، فيأخذ التاج ويضعه على رأس سراقة بن جعشم تحقيقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: الثالوث الأسود بدأ بالحزب الوطني الذي يعمل في الظلام إلى اليوم، وقد انضم إلى ذلك اليهود، هؤلاء اليهود الذين أجلاهم عمر تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة )، والنفي هنا في الحديث أبلغ من النهي، فلا يجتمع دينان في الجزيرة؛ لأن الجزيرة قبة الإسلام وبيضته، ووراءها الدنيا والعالم، لكن هذه القبة لا تُظلل رايتين، ولا يمكن أن يوجد فيها دينان، ولذلك أجلاهم عمر، فاغتاظوا وكربوا وحزنوا، ففكروا وبحثوا عمن يتعاونون معهم ضد الإسلام والمسلمين، فوجدوا الحزب الوطني المجوسي فتعانقوا.ولما انتشرت الفتوحات على يد عثمان وتجاوزت أفريقيا ووصلوا إلى غرب أوروبا في الأندلس، اضطربت نفوس النصارى وفزعوا، وقالوا: إن هذا النور سوف يقضي علينا، فبحثوا عمن يتعاونون معهم، ومن يعينهم ضد الإسلام والمسلمين، فعثروا على المجوس واليهود فتعانقوا، وإلى الآن والله هم متعاونون، فلا يريدون أبداً أن يسعد المسلمون ويشقون هم، إذ إنهم عرفوا أن الإسلام هو الحق، وأن أهله هم السعداء أهل دار السلام، فكيف نسمح لهم بهذا ونحرم نحن؟ فذهبوا إلى مصر وعلى رأسهم ذاك اليهودي الصنعاني اليمني عبد الله بن سبأ، فهيج المصريين، وشاع بأن هذا الخليفة الثالث ينفق الأموال على أقربائه، وأن الوظائف يوزعها على أهله وأقربائه من بني أمية، كما هو عادة الهابطين إلى الآن وإلى بعد الآن، ثم ذهب إلى الشرق ففعل مثل ذلك، فجاءت خيولهم للقضاء على خليفة المسلمين، وما كان من أصحاب رسول الله إلا أن بكوا، كيف يريقون ويسيلون الدماء في عاصمة الإسلام؟! فحاولوا دفع ذلك الشر وما استطاعوا، فهذا علي وضع أبناءه على باب عثمان لحمايته، لكن ينفذ أمر الله فيُقتل عثمان رضي الله عنه، ومن ثم أصابت العالم الإسلامي زلزلة عظيمة، واضطربت النفوس وبدأت الفتنة إلى الآن ولم تنته بعد.

محاولات أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن القرآن الكريم

حاول الثالوث الأسود أن يدخل في حروب مع الخلافة الإسلامية، فما أثاروا حرباً إلا فشلوا وتمزقوا فيها، ففكروا في سبب قوة المسلمين، وبعد الدراسة والتأمل والتطلع وجدوا أن هذه القوة عائدة إلى القرآن الكريم، فإن استطعتم أن تبعدوهم عن القرآن فقد نجحتم، فعقدوا اجتماعات على أن يحذفوا كلمة: (قل) فقط من القرآن: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فما استطاعوا، فوقفت هذه الكلمة حجر عثرة في الطريق، ولولاها لقالوا: هذا كلام محمد فاضت به روحه، أو صهرته الصحارى والحرارة ففاض بهذه العلوم والمعارف، وليس هذا بكتاب الله ولا بوحيه، إذ كيف يقول المؤلف: قل، من يخاطب حتى يقول: قل؟ إنه ليس معقولاً أبداً أن تتكلم وتقول: قل كذا.إذاً: فشلوا في هذا، وبالتالي فماذا يصنعون؟ قالوا: هناك حيلة واحدة وهي أن نصرفهم عن تلاوة القرآن ودراسته وتدبره فقط، ثم بعد ذلك يموتون، فوضعوا قاعدة للتفسير فقالوا -من أراد أن يقرأها فعليه بحاشية الحطاب على شرح خليل بن إسحاق-: تفسير القرآن خطأ، وخطؤه كفر، وبالتالي ألجموا المسلمين، فلا يوجد من يقول: قال الله، وإذا مروا بك تفسر آية فإنهم يغلقون آذانهم ويمشون مسرعين خشية أن تسقط عليهم صواعق، ويقولون: تفسير القرآن خطأ وإثم وذنب عظيم، وهذا صوابه، ففسره مصيباً غير مخطئ، وإن أخطأ فقد كفر، وبالتالي فصوابه خطأ وخطأه كفر، إذاً ماذا يصنع المسلمون بالقرآن؟ قالوا: يُقرأ على الموتى في المقابر، فتدخل المقبرة وتجلس وأنت طالب قرآن فتأتيك العجوز: هذا ولدي اقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتضع في جيبك عشرة ريالات، وآخر يأتي ويقول: هذا قبر أبي فاقرأ عليه شيئاً من القرآن، ويعطيك مالاً مقابل ذلك، وهذا في المقابر، وإلا فالأصل في المنازل وفي البيوت، فإذا مات الميت فلا بد من عشاء يسمونه: عشاء الميت، فيجمعون عشرة أو خمسة عشر من أهل القرآن، حسب طاقتهم وقدرتهم غنىً وفقراً، ويقرءون القرآن وهم يضحكون والميت بين أيديهم! وأنا قد رأيت هذا بعيني، ويأكلون بعد ذلك الرز وغيره ثلاثة أيام إذا كانت حالته فقيرة، وإن كانت حالته واسعة فسبعة أيام أو واحداً وعشرين يوماً؛ وذلك ليدخلوه الجنة بقراءة القرآن!بل إذا ماتت البغية في دار البغاء، فيؤتى بطلبة القرآن وأهل القرآن فيقرءون القرآن على البغية الزانية في دار البغاء، فإن قلت: كيف هذا؟! جوابنا: هل حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا أو لا؟ هل استعمرونا أو لا؟ لقد أذلونا وأهانونا، ولو كنا أحياء فأنى لهم ذلك؟ بعدما متنا استُعمرت دياركم من إندونيسيا إلى بريطانيا، باستثناء هذه البقعة فقط؛ لأن الله أراد حمايتها كرامة لبلد رسوله وبلده.كما قد بلغنا في بلد كبير من بلاد المسلمين أن هناك نقابة عملها أنه إذا توفي لك شخص اتصلت بها، فقالوا لك: مرحباً فلان، هل توفي والدك أو توفي عمك؟ هل تريد من فئة مائة ليرة أو خمسين؟ فإن كان الميت غنياً يقول: من فئة المائة، فيبعث له عشرين طالباً يأخذون مائة ليرة في الليلة، وإن كان الميت فقيراً يقول: من فئة الخمسين فقط أو عشرين ليرة، فحوِّل القرآن إلى الموتى، وما بقي من يعي ويفهم ويتدبر ويتأمل، وماتت أمة القرآن. وأما السنة النبوية فمن أجل الحفاظ على المذاهب، يسأل أحدهم: أنت حنبلي؟ فيغضب، وأنت؟ أنا مالكي، وأنت؟ حنفي، وهذا شافعي، ونفخوا في هذه الفتنة فأصبح أهل السنة والجماعة -دعنا من الخوارج والروافض والهابطين-كأنهم أعداء إلى عهد قريب، وفي بداية وجودي هنا كان يأتيني الحاج فيقول لي: أنا شافعي، وقد غطيت رأسي أو فعلت كذا، فما يلزمني؟ فأقول له: لا تقل: أنا شافعي، بل قل: أنا مسلم، كذلك يأتيني أخ فيقول لي: أنا حنفي، فماذا أصنع وقد أحرمت من كذا وكذا؟ فأقول له: قل: أنا مسلم، وخص ذلك الأمر لأمور أرادها الله تعالى، وإلا أصبح المسلمون أعداء وخصوماً لبعضهم البعض، وتم هذا على يد الثالوث الأسود.كما أن السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والضعيف والصحيح، وهؤلاء يقولون: دعنا من السنة، يكفينا كتب الفقه، هذه المصنفات قد مضى عليها أكثر من ثمانمائة سنة، فلو تقدم إليهم منهاج المسلم الذي تعرفونه والله ما يقرؤه أحد، وإنما يتصفحه أحدهم فيقول: أنا شافعي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله المالكي فيقول: أنا مالكي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله الحنبلي فيقول: هذا ليس بمذهبنا، وكذلك الحنفي فيحطه على الرف، ولا يستفيد منه شيئاً، لكن الحمد لله شاء الله أن تتقارب أمة الإسلام، وأصبحت القضية ليست قضية مذهب، وإنما قضية كيف يحبنا الله وينزلنا بجواره؟فنعبد الله بما شرع وبين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شافعية ولا حنبلية تمنعنا من أن نعبد الله عز وجل.وللأسف أن السنة في ديارنا الجزائرية يجتمعون لها في رمضان حول المحراب، ويحضر علماء يقرءون كتاب البخاري للبركة فقط، وقد مضت سنون عل ذلك، وهاجرنا ووجدنا هذا والله في المدينة في الروضة، إذ يجتمع جماعة من أعيان البلاد وأفاضلهم فيقرءون كتاب البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً بالحلال أو الحرام، وهذا كله من فعل الثالوث الأسود، إذ إنه يريد منا أن نبقى تحت أقدامهم، وأن نرضخ تحت أوامرهم، وكلما فررنا من جهة أصابونا بأخرى، فجاءوا لنا بالفيديو والتلفاز والدش والأغاني، فهبطوا ببيوت المسلمين وأظلموها، وطردوا الملائكة منها، وتركوا الشياطين تغني فيها، فقست القلوب وظهرت الفاحشة وما زالوا يوقدون نارها، فإذا تخلصنا منها يأتون بأخرى، فإما أن نكون يقظين ربانيين كلما كادوا كيداً دسناه بنعالنا حتى يفشلوا وينهزموا، وإما فسيظلون يطفئون نور الإيمان في قلوبنا ليسودوا ويحكموا ويقودوا، فاذكروا هذا ولا تنسوه معاشر المسلمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:01 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (63)
الحلقة (204)

تفسير سورة آل عمران (67)


ذكر الله عز وجل من حال الرماة يوم أحد أنهم لما رأوا غلبة المسلمين ورجحان كفتهم على أعدائهم من المشركين، أرادت طائفة منهم النزول إلى ميدان المعركة لجمع الغنائم مع إخوانهم، وهذه الطائفة التي ذكر الله عنها أنها تريد الدنيا وإدراك الغنيمة، أما الطائفة الأخرى فرأت أن من واجبها التزام أمر رسول الله بالمكث على الجبل حتى يأتيهم أمر من رسول الله بالنزول، وهذه الطائفة هي التي أخبر الله عنها أنها تريد الآخرة، فنزل من نزل وبقي من بقي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، من ابتلاء المسلمين وتسلط عدوهم عليهم.
حكم التدخين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.قبل أن نشرع في إكمال تفسير الآيتين اللتين أخذناهما يوم أمس، أقدم هذه المقدمة فأقول: معشر المستمعين! قد تكرر القول: بأن التدخين حرام ومن كبائر الذنوب والآثام، وأن التدخين عادة سيئة انتقلت إلينا من أوروبا الهابطة، وما كان المسلمون يعرفون التدخين بأي صورة من صوره، لكن لما حكمونا وسادونا ودخلوا ديارنا وقادونا تركوا فينا هذه الرذيلة الخبيثة؛ لجهلهم وعدم بصيرتهم، وقد ذكرنا والكل يذكر ولا ينسى: أن جميع الشرائع الإلهية السماوية جاءت بالمحافظة على خمس كليات: العقل والعرض والدين والمال والبدن، وبالتالي فكل ما يؤذي واحدة من هذه فهو حرام، ولا تبحث عن الدليل لا من الكتاب ولا من السنة، إذ كل ما يضر بعرض الآدمي أو ببدنه أو بماله أو بدينه أو بعقله فهو حرام، والتدخين بجميع صوره يضر بهذه الخمس كلها.فأولاً: ضرره بالبدن، فقد عقدت ندوات ومؤتمرات طبية في أوروبا بشأن التدخين، وتوصلوا إلى أن نسبة الذين يموتون متأثرين بالسرطان الرئوي نتيجة التدخين خمسة وسبعون بالمائة، فإذا كان خمسة وسبعون بالمائة يهلكون بسبب التدخين، فهل يبقى من يقول: يجوز التدخين؟! وقلنا: لو كانت هناك مائة رحلة بالطائرة من القاهرة إلى المدينة، وخمسة وسبعون رحلة تسقط، وخمسة عشرون تنجو، فهل ستجدون من يفتي بجواز ركوب الطائرة؟ والله لا يوجد أبداً، بينما خمسة وسبعون بالمائة يموتون بالسرطان الرئوي شيء عادي!.ثانياً: ضرره بالعقل، إذ هو الجوهرة التي يحافظ عليها الآدمي، فإذا فقدت أصبح حيواناً لا خير فيه، ولذلك يجب على الإنسان أن يحافظ عليه من كل ما يضر به، كالسحر والكذب والشعوذة والدجل والمسكرات والمخدرات؛ لأن العقل هو ميزة هذا الآدمي، فإذا مُسَّ بسوء هبط الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك: أن الموظف المدمن على التدخين، تدخل عليه في نهار رمضان لحاجتك فتراه شبه نائم ويقول: دعني، انتظر قليلاً؛ لأنه صائم ولم يدخن.ثالثاً: ضرره بالدين، فالمسلم يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق ولا يفسد دينه، إذ هو سُلم صعوده إلى السماء، وبالتالي فكل ما يمس بالدين ويضر به ليفسده فهو حرام. كما قد ذكرت لكم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاعوا في غزوة من الغزوات، فكبوا على بستان أو مزرعة فيها البصل والثوم، فأكلوا الثوم والبصل لسد الجوعة، فلما وصلوا إلى المدينة أعلن القائد صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا )، وعلل -وهو الحكيم- فقال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، والإنسان يتأذى من رائحة التدخين ويكرهها ولا يقبلها، وكذلك الملائكة وخاصة الكرام الكاتبين الذين وكلهم الله بتسجيل وكتابة حسناتك وسيئاتك، فهذا عن يمينك وهذا عن شمالك، والرسول يقول: ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق بين يديه أو تحت قدمه )، لا عن شماله ولا عن يمينه، فانظر للذي يدخن يقول: أف في وجه ملك، فكيف تكون حال هذا الملك؟ لو يدعو الله عليه لاحترق.وكل هذا قد جهله المسلمون ولم يلتفتوا إليه، والحمد لله فقد أفاق المؤمنون والمؤمنات، ففي المدينة والله كان النساء يدخن والعياذ بالله، والآن هذه الإفاقة وهذه العودة نشاهدها، وقد كنا إذا جلسنا في مأدبة فإن صاحب المأدبة يضع علباً أو طفايات، فتنظر إلى الجالسين من إخوانك فتجد ثلاثة أرباع الحاضرين يدخنون، والذي لا يدخن ربعهم، والآن ما أصبحت توضع الطفايات، وما أصبح أحد يجرؤ أن يدخن، فإذا اضطر فإنه يدخل للمرحاض ويدخن.وهذه بشرى أزفها إليكم، وهي أن المسئولين -جزاهم الله خيراً- قد وضعوا في باب المجيدي أو باب السلام المصحات لعلاج التدخين، وذلك في خلال خمسة أيام فقط، فتنسى التدخين نهائياً، فمن استطاع أن يتخلى عن التدخين من الآن فليرمي بالسيجارة أو العلبة ويدوسها برجله، ومن عجز لما اعتاده فليأت هذه المصحات ليُعالج عندهم مجاناً، سواء كان مقيماً أو مهاجراً أو وطنياً، ويُشفى بإذن الله تعالى ويصبح يكره التدخين، وحتى في المستشفيات والمصحات توجد هذه العيادة.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه... )
والآن نعود إلى الآيتين الكريمتين لاستيفاء دراستهما؛ لأننا ما أكملنا دراستها يوم أمس، فهيا بنا نستمع إلى تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، والمقصود بهم الرماة الذين كانوا على الجبل، أي: عبد الله بن جبير ومن معه، إذ لما شاهدوا هزيمة المشركين وفرارهم، وشاهدوا نساء المشركين مشمرات عن سوقهن هاربات قالوا: الآن ما بقي لنا حاجة أن نبقى على الجبل، فهبطوا من أجل أن يجمعوا الغنيمة، فأرادوا الدنيا ومتاعها، بينما الذين قالوا: لا نهبط من الجبل، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلزم أماكننا، سواء كان النصر أو كانت الهزيمة، فهؤلاء أرادوا الدار الآخرة.قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، ولو آخذهم لسلط عليهم المشركين فأنهوهم ولم يبقوا منهم أحداً، ولكن الله ما آخذهم بذلك.قوله: غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: أصابهم غم الحزن والهزيمة، وأعظم من ذلك لما سمعوا أن محمداً قد قتل، فكان أعظم الغم.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:02 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ...) من كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين أجمعين: [ ما زال السياق في أحداث أحد ] أي: معركة أحد[ فقد تقدم في السياق قريباً نهي الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم ]، وهذا باق إلى اليوم وإلى يوم القيامة، إذ لا يحل أبداً أن نأخذ التوجيهات والنصائح من الكافرين، فإنهم يمكرون بنا ويخدعوننا، فهذا عمر لما قُدِّم له نصراني يجيد الحساب رده، وقال: كيف نأمنهم وقد خونهم الله عز وجل؟! نعم قد نضطر في بعض الظروف، لكن لا نعول على الكافرين والمشركين.قال: [ نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم، ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد، حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم ] وذلك لما رحل أبو سفيان بجيشه وتجاوزوا الروحاء، فكروا وقالوا: ما حققنا شيئاً، ما زال محمد وأصحابه عمر وأبو بكر وفلان وفلان أحياء، فهيا نعود نستأصلهم نهائياً، فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا إلى مكة، وجاء بـمعبد وقال له الرسول: قل كذا وكذا، فعاد إلى أبي سفيان فهزمهم، ولكنه فعل الله عز وجل.قال: [ فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب، فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية وذهبوا إلى مكة، ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه ] وتذكرون كيف خرجوا إلى حمراء الأسد، فقد كان الرجل الجريح يحمل رجلاً جريحاً، وذلك لأنه أخوه، وقبل ذلك ما إن وصل الرسول إلى المدينة مساء حتى أعلن الخروج غداً لمتابعة وملاحقة أبي سفيان، ونزل قول الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:171-174]، أي: من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174]، إنها صور للكمال البشري، فلو هناك من يقتدي ويتأسى.قال: [ وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] ]، والحس: قطع الحس بالقتل والتدمير.قال: [ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم وكانوا ثلاثين رامياً، وجعل عليهم عبد الله بن جبير، أمرهم بألا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو، فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده، ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء، هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين، والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقائنا هنا والناس يغنمون، فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم ] فتأولوا أمر الرسول فقالوا: أمرنا الرسول بالثبات من أجل الانتصار وقد انتصرنا، فلم يبق معنىً للبقاء في الجبل، وهذا هو التأويل الذي يتخبط فيه المسلمون دائماً وأبداً، فيصابون بالنكسات والانتكاسات، وهو والله باطل، إذ المفروض أن يبقوا على الجبل على أي حال، حتى يأذن لهم بالنزول، فليذكر طلبة العلم هذا، إذ ليس كل تأويل ينفع.قال: [ فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا ] أي: أنهم قالوا: إنما حثنا الرسول على ألا ننزل من الجبل لأجل أن نحفظ سير المعركة، لكن لما انتصرنا وانهزم المشركون وهربوا فما هناك حاجة إلى البقاء على الجبل، وبالتالي تأولوا ما وصاهم به رسول الله.قال: [فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد ] رضي الله عنه، ويومها كان مشركاً كافراً. قال: [ فلما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم، ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهائجين، فوقعت الكارثة، فقتل سبعون من المؤمنين ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجرح رسول الله في وجهه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم، وذكرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا، وهو معنى قوله تعالى: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152]، وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها.وقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم، فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع.وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسولهم فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يبقوا منهم أحداً، إذ تمكنوا منهم تماماً، ولكن الله سلم. هذا معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152] ] ونحن أيضاً معهم، وذاك الذي حققه الله لهم والله نلناه، إذ لولا انهزموا وماتوا فلن تقم للإسلام قائمة، بل مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر مصيبة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، وما دفع الله عن رسوله يعتبر أيضاً نعمة لكل المؤمنين والمؤمنات.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة، فيقول تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ [آل عمران:153]، أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم مصعدين في الأودية هاربين من المعركة، والرسول يدعوكم من ورائكم: إليَّ عباد الله، ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه.وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة الحال.وقوله: بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: على غم، وسبب الغم الأول: فوات النصر والغنيمة، والثاني: القتل والجراحات، وخاصة جراحات نبيهم ] صلى الله عليه وسلم.قال: [ وإذاعة قتله ] بينهم عليه الصلاة والسلام.قال: [ وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات، فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة ] فقط؛ لأن غم المؤمن بقتل النبي وجراحاته أعظم من أن يفوته نصر أو غنيمة.قال: [ وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده، وانهزامهم وحزنهم، خبير مطلع عليه، عليم به، وسيجزي به المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يعفو عنه والله عفو كريم ].ومرة أخرى اسمعوا إلى هاتين الآيتين، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]، فإن شاء الله نكون قد فهمنا هاتين الآيتين فهماً صحيحاً سليماً، والحمد لله.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة ] وإلى يوم القيامة، ومعنى هذا أيها المؤمنون! أنكم إذا كنتم في الجهاد والقائد رشيد فإياكم أن تتنازعوا، بل ردوا الأمر إلى القائد الرشيد، فإن تنازعكم في حال الحرب والله سبب في حصول الهزيمة، وليس المقصود بالقيادة: الرئيس فقط ولجنته المكونة من المستشارين، بل أي مخالفة لأي قيادة تسبب الهزيمة دائماً وأبداً. [ ثانياً: معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان ] وهذا هو الذي حصل للعالم الإسلامي، إذ أمرنا الله فما فعلنا، ونهانا فلم ننته، وحصلت الاختلافات بين أفراد الأمة من مذهبية وطائفية وحزبية، وآثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب دولة المسلمين وسلطانهم، فاستعمرتهم بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا، وكل ذلك بسبب معصية الله ورسوله والاختلافات، فكيف أمة تقاتل عدواً وهي مختلفة فيما بينها، هذا مذهبه كذا، وهذا طريقه كذا؟! أما عقوبة الآخرة فلا تسأل.[ ثالثاً: ما من مصيبة تصيب العبد ] أو الأمة، قال: [ إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ] أي: ما من مؤمن ولا مؤمنة يصاب بمصيبة بسبب ذنبه، ولا تفهم أن الله يصيبك بدون سبب؛ فليحمد الله ولا يحزن ولا يجزع ولا يتسخط، ولا يشكو الله إلى الناس، بل ليصبر وليعلم أن هناك مصيبة أعظم من هذه، إذ لو شاء الله لأصابك بمصيبة أعظم، فلو سمعت أن فلاناً قد احترقت سيارته، وبدأ يسخط ويضجر ويسب الله والعياذ بالله، فأنت تحمد الله، إذ لو شاء الله لاحترقت أنت وسيارتك، وهذا مثال فقط. إذاً: ما من مصيبة تصيب المؤمن أو المؤمنة بسبب بذنبه إلا وهناك ما هو أعظم من هذه المصيبة، فليحمد لله وليشكره وليستغفره، وليسأل الله العفو والعافية، ويحمده على أنه ما أصابه بأعظم من هذا، بينما الحمقى -كما تعرفون- بمجرد ما يصاب بمصيبة أو بلية فإنه يسب الله والعياذ بالله؛ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين،، ما جلسوا في مثل هذا المجلس قط، ولا سمعوا عن الله ورسوله، وبالتالي فلا يلاموا على ذلك، وهذا عامة العالم الإسلامي، واجلسوا في المقاهي واسمعوا ماذا يقولون؟. [ ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ]، وأخذنا هذه الفائدة من قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، وقلنا: لو ما عفا عنهم المعصية لسلط عليهم المشركين فاكتسحوهم ولم يبقوا منهم أحداً.[ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة، وباطنها النعمة ]، أي: أن هزيمة أصحاب رسول الله في أحد ظاهرها النقمة؛ لأنهم مالوا إلى الدنيا وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في باطن الهزيمة النعمة، فكيف ذلك؟ لعلكم تذكرون رؤيا الشيخ محمد عبده في تفسير المنار، إذ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من غزوة أحد على بغلته والأمة وراءه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع المعصية فإنهم سيصبحون لا يبالون بها، وهم مقبلون على قتال الأبيض والأسود، وسيقولون: عصينا وما أصابنا شيء، فيعصون الله لأنهم مسلمون، ولأنهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، وبالتالي فكيف يهزمهم الله أو يسلط عليهم الكافرين؟! ومن ثم يصبحون مهزومين إلى يوم القيامة، فمن أجل هذا أصابهم الله ليكون هذا درساً لهم في المستقبل وإلى اليوم، فعلمهم أنهم يقاتلون في سبيل الله ومع رسول الله، ولما عصوا مضت فيهم سنة الله فانهزموا.وللأسف فقد انهزمت جيوشنا في كل مكان، وذلك لأنهم يعيشون على معصية الله والرسول، وبالتالي كيف ينصرهم الله؟! وقد بينت لكم فقلت: والله لو انتصرت الاشتراكية التي عمت العالم العربي والإسلامي إلا قليلاً، بأن عاش الاشتراكيون في نعيم ورخاء وكثرة أموال، لكفر المسلمون، ولأصبحوا كلهم اشتراكيين، لكن من حماية الله بالإسلام وأهله ما استفادوا منها إلا الذل والعار والفقر، وذلك لما كانوا يتبجحون ويقولون: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها.إذاً: لو انتصر الاشتراكيون واستغنى مواطنيهم وترفهوا وكثرت أموالهم، لمال الناس كلهم عن الإسلام وتركوه، لكن لطف الله عز وجل ورحمته ما نالهم إلا الخزي والفقر.وأخرى: لو انتصر العرب -لا المسلمون- في قتالهم مع اليهود، لم يبق الإسلام فينا أبداً إلا عند بعض العجائز أو الضعفاء، لكن الله أبى ذلك حتى يبقى هذا النور، وتبقى هذه العقيدة وهذا الإسلام، وذلك ليوم ما ينتفعون به، فسلط عليهم حفنة من اليهود كلما قاتلوهم أذلوهم وهزموهم، مع أنهم كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ولا يذكرون الله أبداً، وبالتالي انهزم العرب في فلسطين، وكان هذا في الظاهر نقمة، وهو في الباطن نعمة.وليس معنى هذا أن الشيخ فرحان بهزيمة العرب، فأنا أقول: لو انتصر العرب الذين كانوا يتبجحون ولا يذكرون اسم الله، لم يبق مجال للإسلام بينهم، ولقالوا: اسكت يا رجعي، يا منتن، لكن أبى الله إلا الهزيمة، وكانت في الظاهر نقمة، وفي الباطن نعمة؛ ليبقى الإسلام ويبقى نوره.قال: [ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك: أن عَلِمَ المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها ] أبداً، إذ قد عرفوا أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها، وهذه السنن هي الوحدة، وطاعة القيادة، والمشي في طاعة الله ورسوله، وكل ذلك يجلب النصر، والخروج عن هذا يسبب الهزيمة إلى يوم القيامة.قال: [ خامساً: بيان حقيقة كبرى -وعظمى- وهي: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف إذاً بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين؟! ]، وهؤلاء هم العالم الإسلامي إلا من رحم الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله.


ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:03 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (64)
الحلقة (205)

تفسير سورة آل عمران (68)


امتن الله على عباده المؤمنين أنه بعد الغم الذي أصابهم يوم أحد أنزل عليهم النعاس مما في قلوبهم من اليقين، حتى إن أحدهم لينام فيسقط السيف من يده ثم يتناوله، أما أهل النفاق والشك فقد حرمهم الله هذه الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على قلوبهم، وهم يظنون بالله غير الحق، وأن الإسلام سينهزم، وأن أهل الإسلام سينتهون، ولكن الله عز وجل يكبتهم وينصر عباده المؤمنين الصادقين.
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة من إفضالات الله علينا وإنعامه: ( أن المؤمن إذا صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء، فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث -أي: ينتقض وضوئه- تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف من المسجد )، وهذا الإنعام والإفضال قد رُزِقناه وحرمه الملايين، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].وها نحن ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام وخاصة مع أحداث أحد، وها نحن مع هاتين الآتين الكريمتين، فهيا نتلوا هاتين الآيتين ونتدبرهما ونتأملهما، ثم نأخذ في الشرح لزيادة البيان واليقين، وتلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنهما آيتان عظيمتان، فهيا نعد تلاوتهما، والأجر للجميع، والمستمع كالتالي، والحرف بعشر حسنات، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنه بيان إجمالي من الله عز وجل، فلنشارك سوياً في فهم هاتين الآيتين، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، فالقائل هو الله، والمخاطبون هم أصحاب رسول الله من أهل وقعة أحد. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمران:154]، وقد تقدم أنه أصابهم غماً بغم، وعرفنا أن الغم كرب عظيم يصيب النفس.
معنى قوله تعالى: (من بعد الغم أمنة نعاساً..)
يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، والأمنة كالأمن، إلا أن الأمنة تكون حال الخوف، والأمن مطلق، أي: في حال الخوف وغيره، وقد فسر الأمنة بالنعاس، يقول طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما: لما أنزل الله علينا النعاس في المعركة كان السيف يسقط من يدي ثم أتناوله، ثم يأخذني النعاس فيسقط السيف من يدي مرة أخرى، والنعاس: مقدمة النوم، لكن يصاب الجسم بالفتور فيذهل العقل.قال: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154]، وهم الصلحاء الصادقون الموحدون، لا المرتابون الشاكون والمنافقون.
معنى قوله تعالى: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم...)
قال تعالى: وَطَائِفَةٌ [آل عمران:154] أخرى، قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154]، أي: لا هم لهم إلا النجاة.قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وهؤلاء منهم ضعاف الإيمان، وأكثرهم منافقون.قال: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا [آل عمران:154]، أي: ما لنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ [آل عمران:154]، أي: قل لهم يا رسولنا: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ليس لغيره، إذ إنهم كانوا يقولون: لو كان الأمر لنا ما نأتي لنقاتل المشركين في هذا الوادي، بل سنبقى في المدينة ونقاتلهم فيها، وكان هذا رأي ابن أبي، وقد سبقه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ابن أبي صرح به، ونفث هذه الروح في المنافقين، فالذين رجعوا معه رجعوا، والذي ما رجعوا فهذا النوع منهم.
معنى قوله تعالى: (قل إن الأمر كله لله ...)
قال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: ما لا يظهرون يا رسول الله، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لهم: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، أي: في داخل المدينة، لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: ليصرعوا هناك؛ لأن هذا قد كتبه الله في كتاب المقادير أزلاً، فمن كُتب أنه سيموت في هذا اليوم فإنه سيموت في هذا اليوم، ومن كتب أنه سيصرع في هذا المكان فإنه سيصرع فيه، فالخروج وعدمه ليس بشيء أبداً، فالذين كتب الله مصارعهم في أحد سوف يخرجون، بل لو بقوا في منازلهم وما خرجوا للجهاد فإنهم سيصرعون، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليلقوا مصيرهم هناك.قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:154]، أي: لو شاء الله لأخذ الأصحاب برأي رسول الله وما خرجوا لقتال المشركين، وتركهم يدخلون المدينة ويقاتلونهم بالنساء والأطفال والرجال، ولكن كيف يمحص ويبتلي؟قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154]، وحسبنا أن ابن أبي عليه لعائن الله رجع بثلاثمائة من الطريق، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بتسعمائة ألف إلا مائة، فلو ما أمر الله بالخروج وكتبه فكيف سيظهر هذا النفاق؟
تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذا يشمل طائفتين، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، إذ هموا بالرجوع ولكن الله سلم.قال: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155]، أي: أراد أن يوقعهم في هذه الزلة.قال: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، ولنسكت عن هذا الذنب الخفي إن قلنا: إن المراد منه جماعة بنو حارثة وبنو سلمة، وإن قلنا: هم الرماة الذين نزلوا من فوق الجبل، فالذي كسبوا هو معصيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم، ونزولهم لأخذ الغنيمة والمال.قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع المشركين، والظاهر أنهم الرماة أصحاب الجبل.قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، والحمد لله، إِنَّ اللَّهَ غَفُ ورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذه بشرى لهم.

يتبع

ابوالوليد المسلم 16-12-2020 05:03 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد، فأخبر تعالى في الآية الأولى عن أمور عظام ] وهي خمسة [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين ]، وهو الهزيمة وفقد الغنيمة، ثم الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإعلان عن وفاته وموته عليه الصلاة والسلام، وهذا الغم أعظم من الأول.قال: [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين، أنزل على أهل اليقين ] لا أهل الشك والشرك [ أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً، فذهب الخوف عنهم، حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ]. فمن يقوى على أن ينزل هذا الأمن وهذا النعاس في المعركة والدماء تسيل، ومع هذا ينام أحدهم حتى يستريح؟! إنه الله تعالى. قال: [ حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله ]، قال طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى أن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.قال: [ قال تعالى -في بيان هذا-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ]، أي: ينزل عليهم ويغطيهم، كالملائكة التي تغشى حلقتنا هذه وتغطيها.قال: [ والثاني: أن أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على نفوسهم، وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، كيف ينجون من الموت؟ وهم المعنيون بقوله تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154].والثالث -من الأمور العظام-: أن الله تعالى قد كشف الغطاء عن سرائرهم، فقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] ]، فيجب أن يظن بالله ظن الحق كأهل اليقين، لا أن يظن به الباطل والسوء كأهل الجهل والشرك. قال: [ والمراد من ظنهم بالله غير الحق: ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل، وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون، وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه ]، فهذه هي الظنون الباطلة، وهذا هو ظن أبي سفيان والمشركين، بل هو ظن ابن أبي والمنافقين. [ والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154]، هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه: ليس لنا من الأمر من شيء، ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا، فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم يا رسولنا بقولك: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك ]، وهذا شأن المنافقين وضعاف الإيمان في كل زمان ومكان. [ والخامس: لما تحدث المنافقون في سرهم وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين؛ لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولقتلوا مع من قتل في أحد، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، بالمدينة، لَبَرَزَ [آل عمران:154]، أي: ظهر، الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وصرعوا فيها وماتوا؛ لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع القدر ]، وليس معناه أننا نترك الحذر ونقول: القدر ماضٍ، إذ إن الله تعالى يقول: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، لكن لنعلم أن الله إذا قدر شيئاً فلا ينفع الحذر، وبالتالي لا نفهم من قوله: لا حذر مع القدر، أنه لا حاجة لنا الآن إلى طلب الحذر، إذ القدر نافذ، لا، بل اطلب الحذر واحذر، والله قد أمرك بذلك، فاحذر من عدوك، لكن ما قدره الله لا ينفع فيه الحذر، بل لابد وأن يقع، ومن فوائد الحذر:أولاً: أن تكون نفسك مطمئنة، فلا تكن مرتاباً ولا خائفاً؛ لأنك قد قمت بالسبب.ثانياً: إذا أصابك شيء بعد أن حذرت وأطعت الله، فإنه سينشرح صدرك، وتطيب نفسك، وترضى بقضاء الله وقدره عليك، بخلاف إهمال الحذر أو الاستعداد أو الأخذ بالأسباب، ولهذا قررنا مرات أن ترك الأسباب التي وضعها الله للوصول إلى غاية من الغايات فسق وفجور، وردٌ لأمر الله ورسوله، والاعتماد على الأسباب وأنها هي الفاعلة، شرك وكفر بالله، فاعرف هذا يا عبد الله، ومعنى هذا: خذ بالأسباب التي أمر الله بها ورسوله، وهي طاعة تثاب عليها وتؤجر، أما أن تعتمد على الأسباب وتقول: قواتنا، إرادتنا، سنفعل كذا، بدون الاعتماد على الله، فهذا شرك وكفر بالله، فقول أهل العلم: لا حذر مع القدر، يعني: إذا حذرت وما نفع الحذر؛ لأن الله كاتب هذه البلية أو هذه المصيبة، فليس معناه: أن نترك الحذر.قال: [ ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن، ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم، فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة؛ ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون ]، أي: ما كان مكتوماً في المدينة فقد أظهره الله في أحد، فعلمه الرسول والمؤمنون.قال: [ وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور، هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] -في أحد- وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] ]، فالعلم الذي كان غيباً قد أظهره الله لنا، فعرفنا المنافق من المؤمن الموقن.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى. أما الآية الثانية فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم -حقيقة واحدة ينبغي أن يعلمها المؤمنون والمؤمنات- وهي أن الذين فروا -هربوا- من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال -تقدم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]-بسبب بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب وأول الزلة، فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة ]، لكن لحلمه ورحمته يمكن عباده، فيمهلهم حتى يتوبوا ليتوب عليهم ويغفر لهم.قال: [ هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمران:155]، أي: عن القتال، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ [آل عمران:155]، فلم يؤاخذهم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] ].هذا هو معنى هاتين الآيتين الكريمتين، وقد نقلنا لكم أحداث أحد مع رسول الله وأصحابه والمنافقين، وشهدنا هذه الأحداث وكأننا ننظر إليها رأي العين، وتم هذا بفضل الله في كتابه العزيز القرآن الكريم.وهناك سؤال يقول: ما الفرق بين الصدور والقلوب؟ والجواب: أن الصدر هو الجوف الذي فيه القلب، وفيه أشياء تكون في الصدر، كوسواس وهواجس، وأخرى تتركز في القلب، وما في القلب أصعب، وكتمانه سهل، أما في الصدر فيخرج على اللسان، إذ ليس مضبوطاً.
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيتين، إذ لا توجد آية لا تحمل الهداية إلى الإسعاد والكمال، وإلى معرفة الطريق، فإذا سلك العارف الطريق نجا وكمل وسعد، فهذا هو معنى الهداية، وكل آية في كتاب الله لها هدايتها الخاصة، فهيا نتأمل في هدايات هاتين الآيتين. قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: إكرام الله تعالى لأوليائه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم ]، وهذه كرامة من الله تعالى لأوليائه، وأنا قد قلت لكم: إنه في أثناء الحرب والمعركة دائرة، أنزل الله عليهم النعاس فهدأت نفوسهم وارتاحت أجسامهم، وكأنهم في المستشفى، بل أفضل من ذلك، فمن يقوى على هذا غير الله؟ والله ما يقدر عليها أحد إلا الله، وهذه طائفة أهل اليقين لا أهل الشك.فيا عباد الله! قد تبتلى في يوم من الأيام بما يزلزل أقدامك ويفزعك، فينزل الله تعالى عليك أمنة كهذه، فلا تبالي عند ذلك، وهذه الهداية مأخوذة من الآية الأولى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، وقرئ: (أمْنَة) بالسكون أيضاً، والنعاس: مقدمات النوم، وهذه الأمنة التي حصل لكم بها الأمن سببها النعاس.قال: [ ثانياً: إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد ]، وقد ظهر هذا واضحاً جلياً، إذ إنهم كانوا كلهم في أحد في ذلك الوادي والمعركة دائرة، فأولياء الله أكرمهم بإنزال النعاس والأمنة، بينما الآخرون حرموا من ذلك، فقلوب تتمزق من الخوف والكرب والهم، وأهل اليقين نائمون لا يزعجهم شيء. وبالتالي لابد وأن تحصل هذا الكرامات لأولياء الله، وثقوا في هذا، فلا يمضي عليك زمان إلا وتحصل لك، إذ إن الله عز وجل يحب أولياءه ويكرمهم.وهنا سؤال يقول: من هم أولياء الله؟ والجواب: يقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:63]، الإيمان الصحيح الحق، وَكَانُوا [يونس:63] طول حياتهم، يَتَّقُونَ [يونس:63] مساخط الله بفعل ما أمر، وبترك ما نهى وزجر.سؤال آخر: هل للثالوث الأسود في باب الولاية شيء؟ نعم، فقد حوَّلوا القرآن ليُقرأ على الموتى، وجعلوا السنة تُقرأ للبركة لا للتعلم وأخذ الهداية، وقصروا أولياء الله في الموتى، فلو أنك قبل ستة قرون دخلت القاهرة المعزية، أو دمشق الشامية، أو بغداد، أو كراتشي، أو إندونيسيا، أو مراكش، أو الخرطوم في السودان، ثم قابلت أول شخص لقيته، فقلت له: يا أخي! لقد جئت من بلاد بعيدة، وأريد منك أن تدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله لا يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في الخرطوم أو في القاهرة ولياً في الصفوف الأولى في المسجد، وهذه قبل سبعين سنة تقريباً، وأقسم لكم بالله لقد عاشت هذه الأمة قروناً لا تعرف ولاية الله إلا في الموتى، والذي فعل بها هذا هو الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، فقد تعانقوا جميعاً لإطفاء نور الله تعالى، إذ إنهم عجوزا في الحروب فاحتالوا بالحيل، وعرفوا أن القرآن روح لا حياة كاملة بدونه، فعملوا على تحويله ليقرأ على الموتى، سواء في العواصم أو في البادية، وكذلك السنة لا تُقرأ إلا للبركة، فيجتمعون يقرءون كتاب البخاري أو الموطأ للبركة، لا لاستنباط الأحكام ومعرفة الهداية.إذاً: الولاية حرموا منها الأحياء، وذلك من أجل أن يزنيَ بعضهم بنساء بعض، وأن يسب ويشتم بعضهم بعضاً، وأن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً، ووالله العظيم لو كنت تعرف أن هذا السيد ولي لله فإنك لا تستطيع أن تسبه أو تشتمه، بل لا تستطيع أن تفكر بالزنا بامرأته، وقد عرفناهم، إذ إن أحدهم إذا مر بقبر ولي فإنه يرتعد، ولذلك فالعدو الثالوث لكي يبيح الزنا والجرائم، ولكي يفسد المسلمين قالوا: الولاية محصورة في أهل المقابر فقط، في سيدي عبد القادر الجيلاني، ومولاي إدريس، والعيدروس، والبدوي، والجيلاني، أما ولي يمشي على الأرض فلا.والبرهنة على ما أقول: إن الزنا موجود في العالم الإسلامي، إذ إن المسلمين يزنون بنساء وببنات بعضهم البعض! وكذلك وجود الإجرام والتلصص والسرقة والسلب بين المسلمين، ولو كانوا يعتقدون أنهم أولياء لله ما استطاعوا أن يؤذوهم، لكن الأعداء مسحوا هذه القضية نهائياً، وتركوا الأمة كلها أعداء لبعضها البعض، والحمد لله أن عرفنا ذلك، وقد ذكرت لكم حادثة من ملايين الحوادث وهي: أني عندما كنت صبياً وجالساً مع شيوخ كبار حول المسجد، حدث أحدهم فقال: إذا زنا فلان فلا يمر بالشارع الفلاني وهو جنباً؛ احتراماً لسيدي علي! وهو ولي في القرية، فانظر كيف يزني بامرأة مؤمن من إخوانه، ثم يخاف أن يمر على قبر سيدي فلان وهو جنباً؟! فهل عرفتم ما فعل الثالوث الأسود؟ إي عرفنا، فهيا نغير وضعنا، فمن منكم يقول: يا شيخ كيف نغير هذا الوضع؟ هل يقوم زعيم فيقول: بالخلافة! متى توجد الخلافة؟! وآخر قد يقول: بالمال؟! ما عندنا أموال، إذ إن هذا يحتاج إلى بنوك أمريكا كلها، إذاً نغير هذا الوضع بأن نقبل على الله في صدق، نساء ورجالاً وأطفالاً، فنجلس في بيوت الله كجلستنا هذه، أهل القرية وأهل الحي، وذلك أنه إذا دقت الساعة السادسة فنتوضأ ونتطهر، ونلبس أحسن الثياب، ونحمل أطفالنا ونسائنا إلى بيوت الله تعالى، فنصلي المغرب كما صلينا، ونجتمع هكذا، النساء وراءنا دونهن ستاراً، والأطفال بين الرجال والنساء صفوف كالملائكة، فنتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله، على أن يكون المربي عليماً حكيماً، ويأخذون في هذا النمو والكمال العقلي والطهارة الروحية والآداب العالية، وفي خلال أربعين يوماً فقط أو سنة، لا يبق في القرية أو الحي من يسب أخاه المؤمن، ولا يبق من يمد يده لسلب مال أخيه المؤمن، ولا يبق من يفكر بأن يفجر ببنت أو بابن أو بامرأة أخيه المؤمن، ولا يبق من يتلوى من الجوع وإخوانه شباع، ولا يمشي عارياً وهم مكسوون، ولا يبق من يظلم ويسكت عن ظلمه، بل يؤدب ويهذب، وتصبح القرية أو الحي كأنها في عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.فما الذي يضير العالم الإسلامي لو أقبل على الله بهذه الطريقة؟ ما الذي يصيبهم؟ هل تتوقف الأعمال؟ لا والله ما تتوقف، إن اليهود والنصارى في العالم بأسره إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو اليابان، إذ إنهم اشتغلوا من طلوع الشمس إلى غروبها فيكفي، ثم يذهبون إلى دور السينما والمعازف ليروحوا على أنفسهم خمس أو أربع ساعات، ويعودون كالبهائم إلى بيوتهم، فهل نحن مثلهم؟ نحن إذا ذهبنا إلى بيوت ربنا نتلقى الكتاب والحكمة، تزكو قلوبنا وعقولنا وفهومنا وأرواحنا، ونعود في أسعد حال إلى بيوتنا. وأنا أعرف أن علماءنا لا يقبلون هذا في العالم الإسلامي، إذ إنهم سيستصعبون هذا الأمر! فأقول: هل نسلب الناس أموالهم ونطالبهم بأن يغتالوا ويقتلوا ويثيروا الفتن؟! ما الذي يكون؟ فقط أن نرجع إلى الله فنبكي بين يديه، ونطرح أمامه ليرفع ما بنا، وينزل الخير والرحمة علينا، ومع هذا كم سنة ونحن نبكي؟ إنه لا حل لنا إلا أن نتوب إلى الله. [ ثالثاً: تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كُتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه ]، فكم من إنسان في المدينة يريد أن يموت في المدينة فيموت في أمريكا، وكم من إنسان من إندونيسيا يموت في المدينة، ولذلك من كتب أن يموت في مكان ما فلن يموت إلا فيه، وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وهو دليل ومنطق القضاء والقدر، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليموتوا هناك.[ رابعاً: أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية، فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه ]، سواء كانت نصراً أو هزيمة، غنى أو فقراً، ذلاً أو عزاً، إذ ما تم ذلك والله إلا لحكمة عالية؛ لأن الله حكيم عليم، وقد ضربت لكم مثلاً عل ذلك وهو استعمار الغرب لنا، إذ إنه تم بتدبير الله تعالى، وذنوبنا هي التي أوقعتنا في ذلك حتى نفيق ولا نرجع مرة ثانية إلى الذل والهوان. إذاً: فنحن ننتظر، فوالله إن لم يتدارك الله المسلمين في الشرق والغرب بتوبة صادقة لنزل بهم بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، إذ إنهم يبيحون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فهم معرضون عن الله تماماً، وكأن الله لا وجود له، وسوف ينزل البلاء على من لم يتب إلى الله ويرجع إليه، ولو عرفوا هذا لبكوا الليل وصرخوا.[ خامساً: الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة، فلذا وجبت التوبة من الذنب على الفور ]، وهذه سنة الله تعالى، فإذا أذنبت ذنباً أو فعلت سيئة ولم تبادر إلى محوه فوالله لتذنب مرة أخرى، وهذه سنة الله تعالى، إذ إن السيئة تولد السيئة، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، أي: ذنباً ولد ذنباً، وسيئة ولدت سيئة، فلهذا واجبنا أننا إذا أذنبنا نتوب على الفور، أما إذا لم نتب فسوف تتوالى السيئات حتى نغرق فيها والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.


ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (65)
الحلقة (206)

تفسير سورة آل عمران (69)


ينادي الله عز وجل في هذه الآيات عباده المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فيناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، الذين يقولون لإخوانهم في الكفر الذين يخرجون للتجارة أو الغزو ثم مات أحدهم أو قتل: لو أطاعونا ما ماتوا ولا قتلوا، وهذه النفسية يتولد عندهم من جرائها غم وحسرات، وما درى أولئك الجهال أن الله يحيي ويميت، ثم يبشر الله عباده المؤمنين بأن من قتل منهم في سبيل الله أو مات فإن مرجعه إلى الله الغفور الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رغبة فيما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].هيا نكرر تلاوة هذه الآيات الثلاث متأملين متدبرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158]، (مِتم)، و(مُتم) قراءتان سبعيتان، فبالكسرة حجازية، وبالضم كوفية.
نهي الله للمؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، هذا النداء موجه من الله لعباده المؤمنين، فهذا كلامه وهذا كتابه، ونحن أولياؤه وعبيده، فإذا ناداهم ربهم عز وجل فإنما يناديهم لواحدة من أربعة، وهنا ناداهم لينهاهم عما يسيء إليهم ويضر بهم، عما يؤذيهم ويشقيهم، وقد ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأن الإيمان بمثابة الطاقة، بل بمثابة الروح الذي لا حياة بدونه، أو لا حياة حق بدون إيمان حق. ثم نهانا بقوله فقال: لا تَكُونُوا [آل عمران:156]، وهنا اللام ناهية، كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، من المنافقين واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين والشيوعيين، لكن هنا لا زال السياق عن غزوة أحد وما ترتب عليها من تعاليم وهدايات، وبالتالي فالذين كفروا هنا هم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، فكشف الله الغطاء عنهم، وأعلمهم أنهم كافرون، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا، إذ إنه ينبغي أن نتباين مع الكافرين وألا نكون مثلهم، لا في الرأي ولا في التفكير ولا في الزي ولا في أي شيء آخر، وإنما الفصال الكامل؛ لأنهم أنجاس ونحن أطهار؛ لأنهم أموات ونحن أحياء، لأنهم يقادون ونحن قادة، لأنهم يهتدون ونحن مهتدون وهادون، ففرق كبير بين هذا وذاك، وبالتالي كيف تريد أن تكون مثل إنسان ميت؟!
لطيفة في النهي عن التشبه بالكافرين
لطيفة: أرى أطفالنا في المدينة النبوية يلبسون أزياء كلها كأزياء أولاد الكفار، ولا أدري ما هو السبب؟! فقد كان أولادنا كالملائكة يلبسون الثوب الإيماني الرباني الأبيض، فاستبدلوه بثياب النصارى والمشركين والمجوس، فهل سألوا وأفتوهم بالجواز؟! كذلك الزي العسكري، فقد بكينا وصرخنا وندبنا وقلنا: يجب أن يتميز الجندي الرباني عن الجندي الشيطاني، وقد رأيت في هذه القضية رؤيا نبوية، وذلك لما أمر الزعيم عبد الناصر بتوحيد الجيوش العربية من أجل أن يقاتلوا اليهود، ونحن الآن في المملكة قد اضطررنا، إذ كيف نبقى مخالفين لجيوش العرب؟ فهيا نلبس لباسها من أجل الانتصار! والله لا انتصار، وهذه الأحداث منذ أربعين سنة أو ثلاثة وأربعين سنة، وقد رأيتني أمام باب السلام الموجود الآن، وبيني وبين الباب حفرة طويلة عريضة عند نهاية عتبة الباب، والأخرى بين يدي، وفي وسطها نعشان أو جنازتان، فخطر ببالي أن أحد النعشين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني لـأحمد الزهراني، وأحمد الزهراني كان شرطياً، فجلس على السرير فقلت: ما دام الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، وفجأة انطمست الحفرة والرسول واقف، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي، يا رسول الله! استغفر لي، وأنا في حالة انفعالية لا أستطيع تصورها، فقال لي بصوت خافت: أرجو، أي: أنا، أو قال لي: اُرجُ هو، فإذا قال: اُرجُ هو، أي: أنه يرجو الاستغفار، وإذا قال لي: أنا أرجو، أي: أرجو أنا، ولحظة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي من حجر إلى باب السلام من الجهة الشرقية، وكأنه البدر، وبينما أنا واقف إذا بطفل كعبد الله يلبس بدلة كبدلة نجيب، ونجيب هو الذي قام بالثورة ضد الملك فاروق، وقد احتضنه عبد الناصر، ثم بعد ذلك أبعدوه، وبدلة نجيب عبارة عن بدلة عسكرية من يطنان فرنسي.والمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك الموقف أشار بيده الطاهرة هكذا وقال بالحرف الواحد: أبمثل هذا يبتغون العزة؟! وفعلاً ما أعزهم الله إلى الآن، إذ نحن أذلاء لليهود.وقد نفع الله بتلك الرؤيا -فقد كان الدرس بداخل المسجد- فقد حججنا ونزلنا المدينة في صفر، ثم جاء العيد ورجالات المدينة من الأعيان يلبسون أطفالهم تلك البدلة، ويأتون بهم إلى الحجرة الشريفة ليسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن رأيت هذا حتى كدت أن أتمزق؛ لأننا كنا في بلد مستعمرة نرى أن من يلبس لبسة الكفار كافر، وما كان يخطر ببالي أن مؤمناً يتزيا بزي الكافر، فكيف يتحدون رسول الله ويأتون بأطفالهم ليغضبوه؟! وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا؟ والله ما يرضى، والحمد لله فقد كان هناك خياط مختص يخيط مثل هذه الملابس، ثم أغلق محله وانتهت بعد فترة وجيزة.وأنا قلت هذا لأننا نسمع نداء من السماء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، لبيك ربنا لبيك، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، قال أهل العلم: في كل شيء إلا ما لابد منه، فلا نأكل أكلهم من الخنزير والميتة، ولا نشرب كشربهم، ولا نتناول الشراب بأيدينا كما يتناولون، ولا ندخل نعالنا في أرجلنا كما يفعلون، إنها مباينة كاملة ومفاصلة تامة؛ لأنهم أموات أنجاس، ونحن أطهار أحياء، فلا عجب ولا غرابة.إذاً: إن شاء الله من هذه الليلة على الآباء أن يلبسوا أولادهم اللباس الأبيض كلباس الملائكة، ولا يلبسونهم هذه البرنيطة وهذا السروال كسروال المجوس، فهل هذا حتى نعلمهم العبث والتمرغ في التراب؟ لا؛ لأنه لما يكون الثوب نظيفاً فلا تسمح له أمه ولا أبوه أن يتمرغ به في التراب، لكن ما دام أنه سروال أسود كاليهودي فيعبث به كيفما شاء.وقد قلت من قبل: على المسلمين أن يحتفظوا بزيهم الإسلامي، فإذا انعقد مؤتمر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فإن المسلم يدخل بزيه الإسلامي، والبرانيط والأزياء الكافرة على الآخرين، فيراه البلجيكي أو البريطاني أو اليوناني فيقول: من هذا؟ فيردون عليه فيقولون: هذا مسلم، تريد أن تعرف اسأله، أو اذهب إلى الفندق واسأله، فتكون دعوة باللباس الإسلامي، لكن إن دخلوا كلهم بزي اليهود والنصارى، فمن يعرف هذا من هذا؟! بل لا تكون دعوة إلى الله تعالى، ولعلكم تذوقون هذه المرارة، وذلك لما يدخلوا هذه المؤتمرات أو غيرها فيجدون شخصيات متميزة، فيسألون عنهم فيعرفون أنهم مسلمون، فيضطرهم إلى أن يسألوا عن الإسلام، فيأتي فيتعلم الإسلام وتبين له الطريق الحق، ومن الجائز أن يهديه الله فيدخل في الإسلام، فكونك في زي إسلامي هذا أوجب عليك وألزم لك؛ لأنك لست مثلهم أبداً، إذ أنت حي وهم أموات، أنت طاهر وهم أنجاس، أنت صادق وهم كذبة، أنت شجاع وهم جبناء، وبوصفك المسلم الكامل الإسلام، وما هي دعاوى نقولها، بل المسلم الحق.وكذلك المؤمنات إذا تزيت إحداهن بزي كذا أو كذا، فأقول لهن: القاعدة عندنا: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ولن تنحل هذه القاعدة أبداً، فلو يأتي علماء النفس من أجل أن يحلوها، أو ليجدوا أن الرسول ما وفق فيها وما أصاب، ما استطاعوا أبداً، بل والله لو اجتمعوا كلهم ما نقضوها؛ لأن (تشبه) على وزن تفعل، أي: أراد أن يكون مثل هذا، فلن يكون إلا مثله، تشبه أن يكون كـعنترة بن شداد، سوف يعمل ما استطاع من التمرين على الشجاعة حتى يكون مثله، أو رأى هابطاً مخنثاً وأراد أن يكون مثله، فيأخذ يمشي كمشيته، ويلبس كلبسه، وينطق كمنطقه، وفترة وإذا هو مثله، وإذا رأت المرأة عاهرة في مجلة أو جريدة أو شاهدتها في تلفاز وأرادت أن تتزيا بزيها، فلا تلبث أن تكون مثلها، فتفسد عقيدتها، ويمرض قلبها، وتصبح هابطة مثلها، إذ لو كانت تريد أن تتتشبه بـفاطمة أو بـعائشة أو بأمهات المؤمنين فإنها ستكون مثلهن، لكن ما دامت أنها أرادت أن تكون كهذه العاهرة في لباسها أو زيها، فلا تزال تتشبه بها حتى يموت قلبها، وتصبح من الساقطات والعياذ بالله، فهل فيكم من يرد عليّ في هذا؟ إننا لن نقول هذا على غير علم أبداً.إذاً: فهيا نتشبه بالصالحين فنكون مثلهم، فلا نحلق لحية، ولا ندخن عند باب المسجد، ولا نكذب، ولا نفجر، ولا نخلف الوعود، وعند ذلك نصبح صالحين، إذ ما معنى قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:47 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
معنى قوله تعالى: (إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، في كل شيء، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ [آل عمران:156]، ليس من الأم والأب، ولا من الأسرة أو القبيلة، وإنما إخوانهم في الدين والعقيدة الكافرة، إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:156]، أي: خرجوا مسافرين للتجارة، أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، جمع غازٍ، أي: غزاة، ثم إذا مات المسافر في سفره، ومات الغازي في غزوه، فماذا يقول إخوانهم؟ آه! لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا [آل عمران:156]، أي: ما سافروا في سبيل الله ولا غزوا في سبل الله، مَا مَاتُوا [آل عمران:156]، وهذه عقيدة من لا يؤمن بالقضاء والقدر، عقيدة كافر بقضاء الله وقدره، عقيدة هابط لاصق بالأرض، وهذه العقيدة تورثهم الهم والحزن والكرب والبلاء الباطني النفسي، إذ إنهم يقولون: لو ما سافر ولدي ما مات! ما ونسوا قول الله تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: الذين كتب الله عليهم القتل في هذا اليوم، إذ إنهم سيأتون إلى هذا المكان ولو كانوا في بيوتهم، وذلك لينفذ حكم الله تعالى، ويمضي قضاؤه وقدره فيهم، إذ الحياة ليست فوضى كلٌ يدبر برأسه ونفسه، إن الحياة بيد الله عز وجل، فهو الذي يدبرها، فلا يعز من يعز، ولا يذل من يذل إلا بتدبير الله وقضائه وحكمه، ولا يفتقر من يفتقر، ولا يستغني من يستغني، ولا يصح ولا يمرض إلا بتدبير الله عز وجل، وقد مضى هذا في كتاب المقادير باللحظة؛ فلا يقع في الكون شيء إلا بعلم الله وقضائه وقدره. قوله تعالى: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، والموت يكون في السفر، والضرب يكون في الأرض، والقتل يكون في الجهاد أو في الحرب والقتال.
معنى قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم)
ثم علل تعالى لهذه النفسية فقال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، وهذا له وجهان -إذ القرآن حمال الوجوه- فالوجه الأول الظاهر من الآية: تأوههم وتململهم، إذ إنهم يقولون: لو كان كذا لكان كذا، فيكسبهم الهم والحزن والحسرة في أنفسهم، ووالله إنه لألم وحسرة وكرب عظيم في النفس، فلا يرتاح أبداً، فلهذا، قال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، والحسرة ألم نفسي تضيق به النفس.ثانياً: عندما لا نكون مثلهم في إيماننا وفي قدراتنا وفي طاقاتنا وفي صبرنا وفي جهادنا، فإنه لما نعلو ونسمو ونعز يكون ذلك هماً وكرباً وحزناً لهم، فهذان وجهان مشرقان في الآية يتحققان بها.
معنى قوله تعالى: (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156] لا سواه، وَاللَّهُ جل جلاله وعظم سلطانه، يُحْيِي من يحيي، وَيُمِيتُ من يميت، وبالتالي فلا محيي ولا مميت إلا الله عز وجل. ثم ختم الله الآية فقال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، يا أيها المؤمنون! يا من دعيتم إلى ألا تكونوا كالذين كفروا في أزيائهم، في معتقداتهم، في آمالهم، في حياتهم كلها، اعلموا أن الله بما تعملون بصير، وهذا وعيد ووعد من الله تعالى، فإن استجبتم لما دعاكم إليه فأنتم في خير حال وأحسنه، وإن رفضتم فسوف ينزل بكم البلاء والشقاء؛ لأنه: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: مطلع عليكم، فهكذا يربينا الله عز وجل، وقد تربينا أيام كنا نقرأ القرآن ونتدبره، لكن لما حولناه ليُقرأ على الموتى متنا كالأموات، وما عاد أحد منا يتدبر كلام الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون)
قال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:157]، وعزتنا وجلالنا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمران:157]، أو (مِتم) بالكسر، وهما قراءتان سبعيتان ولغتان فصيحتان، لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون) قراءة سبعية، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: خير مما يجمع المشركون والكافرون، وفي هذا ترغيب في الجهاد في سبيل الله، فارتفعوا أيها المؤمنون إلى مستواكم اللائق بكم، وعزتنا وجلالنا لئن قتلتم في سبيل الله أو مِتم في الطريق -لأن القتل يكون بالسيف والرمح، وقد يموت بدون ذلك وهو في طريقه- لَمَغْفِرَةٌ جواب: لئن، أي: مغفرة من الله تزيل كل أثر من نفوسكم، وَرَحْمَةٌ تغمركم وتدخلكم دار السلام خير مما يجمع الكفار من المليارات، بل ومن البنوك كلها.فهيا نموت في سبيل الله أو نقتل، فأما الموت في سبيل الله فممكن، إذ الحجاج والعمار لبيت الله قد يموتون في الطريق، أما الغزو فليس بعد حتى يعلنها صريحة إمام المسلمين، وحينئذ نتسابق إلى الجهاد، أما بدون إذن إمام المسلمين فلا؛ لأن الظروف غير ملائمة للقتال، فهناك معاهدات واتفاقيات بين الدول، كما أنه ليس هناك إعداد كامل لغزو بريطانيا أو اليونان؛ لأن الجهاد لا يكون إلا في ديار الكفار، أما الذين يطالبون بالجهاد في داخل بلاد المسلمين، وينادون: اقتلوا الحكام وعسكرهم! فهذه نظرية فاسدة وباطلة وخاطئة ومنكرة لا تحل، بل لا يوجد لها أثر في الإسلام، إذ إن الجهاد إما أن يغزونا جيش كافر الصلبان في أعناقهم، أو يدخل العدو ديارنا، وعند ذلك يعلن إمام المسلمين التعبئة العامة للنفير، وذلك حتى نجليه ونبعده عن ديارنا، وإما أننا قد تهيأنا واستعدينا وأصبحنا قادرين على غزو تلك البلاد، وحينئذ ترسو سفننا في سواحلها أو يصل الإعلان منا إلى تلك الدولة المجاورة لنا، فنخاطبهم بما علمنا الله ورسوله: يا أهل هذه الديار ادخلوا في الإسلام، ادخلوا في رحمة الله فتسعدوا وتكملوا، وتطيبوا وتطهروا، وتنتهي عندكم مظاهر الفقر والشقاء والعذاب، والخبث والخسران؛ لأن هذا الذي نخوفكم به نحن تنزهنا عنه، وما أصبح بيننا خبث ولا ظلم ولا فقر ولا شقاء، إذ طبقنا الإسلام فرحمنا الله به، فإن قالوا: لن ندخل في دينكم، قلنا لهم: إذاً اسمحوا لنا أن ندخل بلادكم فنعلم أفرادكم ونوجههم ونرشدهم وابقوا أنتم على دينكم، فإن قالوا: لا بأس، فهيا نعقد معاهدة مع أهل الذمة يكون بموجبها أن نحميهم، وأن نموت دونهم، وأن نقيم العدل والرحمة فيهم، وأن يدخل إخواننا بلادهم كالملائكة، فلا خيانة، ولا كذب، ولا أي مظاهر من مظاهر الباطل، وإنما يكون منا الصدق والعدل والرحمة والطهر والصفاء، وما هي إلا ليالٍ أو أيام وانجذب الناس إلى الإسلام ودخلوا فيه؛ لما يشاهدوا من آثار الكمال، وإن قالوا: لا، قلنا لهم: إذاً الحرب بيننا، فيستنفر الإمام المسلمين، ويعلن خوض المعركة، وعند ذلك ينصرنا الله عليهم، ودليل هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، بهذه الآية اتسعت رقعة الإسلام في خمسة وعشرين عاماً، فوصل الإسلام إلى الأندلس وإلى ما وراء نهر السند.فهل كان أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم من هذا النوع الذي نحن عليه؟ مستحيل، إذ كيف سينشرون الإسلام؟! والآن الكفار يضحكون ويتقززون من إسلامنا، ويلمزوننا بالأصوليين والمتطرفين، فقتلونا وذبحونا وحرقونا، وقد وجدوا فرصة في ذلك، وأنا خائف أن أوروبا تغضب غضبة ويزداد هذا التطرف بين بلاد المسلمين، فيقولون: يا إخواننا ما نريد أن نبقي هذا النوع عندنا، فيبعدون كل المؤمنين، وبعد ذلك هل أقمنا الدولة الإسلامية؟! لا والله، إذاً على الأقل الآن الإسلام ينتشر في أوروبا وأمريكا بواسطة الدعاة والكلمة الطيبة، وليس بالرصاصة والمسدس، فأين الوعي؟ وأين الإدراك؟ وأين الفهم؟ إن الجهاد في الإسلام يفتقر ضرورة إلى إمام المسلمين، فهو الذي يقود الحملات وينظم الجهاد والفيالق ليغزو الأعداء، لا أن يغزو ويقتل المسلمين، إذ إن هذا هو مذهب الخوارج والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله )، فكيف تقتل كافراً ذمياً تحت رايتك؟ وهل يجيز الإسلام هذا؟ قال: لأنه خائن! أأنت الحاكم حتى تصدر حكمك بأنه خائن، لقد فهموا الإسلام بفهم باطل وفاتن.وبالتالي فلا تلمهم يا هذا؛ لأنهم ما جلسوا في حجور الصالحين ولا تربوا فيها، ولذلك لابد وأن نتربى في حجور الصالحين من صبانا أو صغرنا حتى نصبح أهلاً لقيادة البشر، ولإنقاذهم مما يزيغ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون)، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: هم، فيطهرك ويدخلك الجنة، إذ إن المغفرة معناها: محو الذنب، فإذا طهرت فسينزلك الجنة دار السلام، وقد تقدم قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فاغسل نفسك من الآن حتى تدخل الجنة بسلام، وتطهر من الآن فإنك إن مت طاهراً فلا يحول بينك وبين الجنة حائل أبداً، أما وأنت نجس فلا تدخل الجنة.
تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
قال تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، سواء مات في الصحراء أو في البحر أو انتهى أمره كيف ما كان، فلابد وأن يحشر ويجمع بين يدي الله لفصل القضاء ولإدخاله الجنة أو النار، لكن قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158] مطلقاً، أي: لا في سبيل الله ولا في غيره، إذ من مات أو قتل ليس معناه أنه ضاع وتلاشى في الحياة وما بقي له وجود، والله ليحشره الله حياً يسمع ويبصر ويتلقى الجزاء، فاطمئنوا إلى هذه، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، وتُجمعون بين يديه ليحكم ويفصل، فيدخل المحسنين الجنة، ويدخل المسيئين النار، وهذا عالم الشقاء، وهذا عالم النعيم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ووعد الله تعالى ووعيده، يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، ومن ذلك: قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذا هم ضربوا في الأرض للتجارة أو لغزو فمات من مات منهم، أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، يقولون: لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تؤدي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، وقوله تعالى في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية، وفيه وعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إلا أن يعفو شراً.أما الآية الثانية فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم؛ وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا، ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله، فقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].وفي الآية الثالثة والأخيرة يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158]، في سبيلنا لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158] حتماً، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوار ربنا الكريم ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً ]؛ لأن النص القرآني بدأ بقوله: لا تكونوا.[ ثانياً: الندم يولد الحسرات، والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر، فلا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا ]، وهذا مبين في سورة الحديد، إذ قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ [الحديد:21]، إلى أن يقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]، فلا تحزن على ما فات، ولا تفرح وتبطر بما آتاك الله، وهذه ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر.قال: [ ثالثاً: موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:49 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (66)
الحلقة (207)

تفسير سورة آل عمران (7)


وعد الله عباده المتقين بجنات النعيم، خالدين فيها أبداً، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وقد بين الله صفات هؤلاء المتقين الذين استحقوا هذا الجزاء العظيم والنعيم المقيم، فذكر أنهم لا يفترون عن دعاء ربهم والتضرع إليه بصالح أعمالهم، ويلزمون الصبر والصدق، وينفقون في سبيل الله، ويلازمون الاستغفار بالأسحار.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير؛ إنه على كل شيء قدير.ما زلنا مع صفات الوارثين لدار السلام، وهنا أسأل الأبناء والإخوان والمؤمنات: هل للجنة ورثة؟ سبحان الله! إي والله للجنة ورثة. من هم ورثة الجنة؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! بنو قينقاع؟! بنو من؟! البيض؟! السود؟! لا والله، فورثة الجنة هم المتقون. من مات حتى يرثوه؟ كل من دخل النار من الإنس والجن ترك مكانه في الجنة. ‏
الوارثون لدار السلام
إن المتقين هم الوارثون؛ لأن الجبار العزيز الغفار جل جلاله وعظم سلطانه أعد منازل الجنة ومنازل النار على قدر من يخلق من الإنس والجن، كل شيء عنده بمقدار، فأهل النار يرثون أهل الجنة في منازلهم في النار، وأهل الجنة يرثون أهل النار في منازلهم في الجنة دار الأبرار. ومن قال: من أين لك هذا يا شيخ، ما سمعنا بهذا الكلام، أقول له: هيا نقرأ جميعاً ونسمع إبراهيم وهو رافع كفيه ضارعاً بين يدي ربه يسأله قائلاً: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، والله تعالى يقول في سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم:63] بعدما وصفها الوصف اللائق بها قال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، تلك الجنة التي وصفت لكم، هذه نورثها من عبادنا مَنْ كَانَ تَقِيًّا لا شريفاً ثرياً ولا أبيض نقياً ولا ولا، بل من كان تقياً فقط وإن كان حبشياً أسوداً.
سر كون المتقين هم وحدهم ورثة دار السلام
ما السر؟ لم فقط التقي هو الوارث وغيره محروم؟ من يجيب يا معشر المؤمنين والمؤمنات؟ الجواب: وهو عند الأبناء على ظهر قلب؛ لأنهم أهل كتاب الله، وأما المحرومون من هذه المجالس فأنى لهم أن يعلموا ؟ المتقون هم أطهار النفوس، وأزكياء الأرواح؛ لأن التقي هو ذاك الذي يعمل بأوامر الله فتزكو نفسه وتطيب وتطهر، ويتقي مساخط الله ومحارم الله فيبتعد عما يدسي نفسه ويخبثها، فإذا مات على تلك الحال كان والله من الوارثين؛ لأن روحه زكية طاهرة شبيهة بأرواح الملائكة في صفائها وطهرها! هؤلاء الأطهار هم الذين ينزلهم الجبار بجواره في دار السلام، واسمعوا خبره: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]. لم يا رب؟ الأبرار لبرورهم والفجار لفجورهم. ما البرور؟ إنها طاعة الله ورسوله التي أنتجت زكاة الروح وطهارة النفس. وما الفجور؟ إنه فجور الفاجرين وخروجهم عن منهج الحق؛ فنفوسهم خبثت وتعفنت أصبحت أهلاً لأن تنزل الدركات السفلى! سبحان الله هذا في القرآن؟! إي نعم، كنا نعرف هذا أيام كنا نقرأ ونعمل به، أما عندما أصبح القرآن على الموتى أصبحنا لا نعرف هذا أبداً!
الفلاح والخسران مناط بتزكية النفس أو تدسيتها
هناك حكم إلهي صدر على البشرية (95%) من العالم الإسلامي ما عرف هذا الحكم و(1%) فقط هم الذين يعرفونه، إي ورب الكعبة، صدر حكم الله على البشرية جمعاء أن من زكى نفسه وطيبها وطهرها أفلح وفاز، ومن خبثها ودساها وعفنها خاب وخسر. وهذا الحكم ما رأينا الله عز وجل حلف أيمان متكررة بهذه السورة كما حلف على هذا الحكم، فلماذا يحلف الله؟ من أجلك يا ابن آدم؛ لتتلقى الخبر ونفسك مطمئنة، ومشاعرك وأحاسيسك هادئة، خبر عظيم يحتاج إلى أيمان عظيمة، يحلف من أجلنا؟ اسمعوا اليمين وتعلموا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذه واحدة وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] الثانية وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3] الثالثة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:4-10]، انتهى الكلام. عرفتم أن الله يحلف أو لا؟ لم يحلف؟ من أجلنا؛ لأن طبعنا.. غرائزنا.. فطرنا إذا سمعنا الخبر وكان فوق قدرتنا لا نصدق، فيضطر من يخبرنا بأن يحلف ويؤكد الحلف حتى تهدأ النفوس. هل عرفتم هذه؟ والله إنها خير من خمسين ألف ريال، أقسم بالله لمن عرفها موقناً وفهمها خير له من أن يوضع في جيبه خمسون ألف ريال، ونحن ظفرنا بها مجاناً والحمد لله. وإن قلت: أفلح، ما معنى أفلح؟ صار فلاحاً أم كيف؟ الفلاح سمي فلاحاً لأنه يفلح الأرض، ويشقها ويدفن فيها البذور، هذا الفلاح، ومن أفلح هو ذاك الذي شق طريقه في صفوف أهل الموقف إلى دار السلام، فما عاقه عائق ولا وقف في وجهه واقف، وعلم حينئذ أنه فاز. هل فاز فلان ابن فلان بجائزة نوبل؟ لا لا. فاز بأن نجا من عالم الشقاء.. النار، وفاز وظفر بالجنة دار السلام.
حقيقة الفوز في الحياة الدنيا والآخرة
إليكم هذا البيان الإلهي من سورة آل عمران، قال تعالى واسمع: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، حكم علينا بالموت وحكم الله لا يتخلف أبداً، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] لا يتخلف، لم؟ لكمال قدرته. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أيتها الشغيلة يا معشر العاملين! واصلوا العمل ولا تطالبوا بالجزاء هنا، إذ هذه الدار دار عمل، وليست دار جزاء: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ كاملة يَوْمَ الْقِيَامَةِ . يا فاسق يا فاجر يا كافر! واصل، وقد تعيش سعيداً آمناً شبع البطن مستور الجسم فلا تفهم أن هذا جزاء كفرك وفسقك وفجورك، فالجزاء ليس هنا، الجزاء يوم القيامة، وكم من بر تقي صالح رباني مريض طول عمره، فقير طول حياته، مكروب حزين دائماً وأبداً، فيقول القائل: أين آثار صيامه وصلاته ورباطه وجهاده؟ فنقول: الجزاء ليس هنا، الجزاء هناك، اسمع الحكم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أجورنا مقابل أعمالنا. لطيفة أخرى يفوز بها المتأهلون: قد يوجد كافر فاجر شقي من تعاسة إلى تعاسة، السجون، الآلام، الكروب.. وهو كافر رقم واحد، أو فاسق ممتاز، فهل هذا العذاب الدنيوي.. عذاب المرض والسجن والجوع والخوف هو جزاؤه؟ لا والله، وإنما هذا من شؤم المعصية، يظهر هذا البلاء من شؤم المعصية، كما أنك تجد البر التقي شبعان ريان آمناً، سعيداً طاهراً، فهل هذا جزاء جهاده وصيامه؟ لا، بل هذا من يمن وبركة العمل الصالح، للحسنات بركتها ويمنها، وللسيئات شؤمها ونحاستها، أما الجزاء هنا والله ما كان. كيف وقد أخبر تعالى بنفسه فقال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَة واسمع بيان الفلاح فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] فالفوز ليس ربحك شاة أو بعيراً، ولا امرأة جميلة وولداً صالحاً ولا وظيفة شريفة، ولا.. ولا ولا، ما هذا بالفوز؟ الفوز أن تبعد عن عالم الشقاء وتعلم عالم السعادة لتخلد أبداً، وهو كائن لا محالة، فهيا مع الوارثين لدار السلام الجنة.
نعيم أهل الجنة
قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، خير من ذلكم الذي سمعتموه في الآيات قبل وهي: الأنعام والحرث والذهب والفضة والنساء والأولاد.. مظاهر الحياة الدنيا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] هل يوجد ما هو خير من هذا؟ نهم، الجنة دار السلام؛ لأنها خالدة باقية، وليس فيها منغصات، لا حزن ولا موت ولا مرض ولا كبر ولا هم ولا.. ولا ولا، بل سعادة دائمة، أما سعادتك في الدنيا فيعقبها الكرب والحزن، وآخرها الموت. إذاً: قال تعالى: قُل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: أَؤُنَبِّئُكُمْ أؤنبئكم بنبأ عظيم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ الذي سمعتم، وهو أن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15]، هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا . لماذا قال: خَالِدِينَ فِيهَا ؟ لأنهم إذا كانوا يعرفون أنهم سيرحلون ما يسعدون، أما هذه الحال فتساوي الدنيا وما فيها: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مطهرة من دماء الحيض والنفاس والبول والنخامة والنخاعة تمام الطهارة. هكذا خلقهم. قد عرفنا بالأمس أن أهل الجنة لا يبولون، أين يذهب الشراب ذو الألوان.. الخمر والعسل واللبن والماء العذب؟ يتحول إلى عرق فقط. قد يقول قائل: يا شيخ كيف يتحول إلى عرق؟ فأقول له: وأنت قل لي: كيف تعرق؟ عرقتك أمك؟ كيف يخرج العرق منك؟ أنت دلكته بيديك؟ يتحول الشراب كله إلى عرق، ورائحته أطيب من المسك الأذفر مليون مرة. وإذا كان الماء والشراب يتحول إلى عرق أمر معقول لأنه سائل، فما بال الزبدة واللحم ولحم الطير المشوي والفواكه، كيف تتحول هذه؟ هذه تتحول إلى جشاء يتجشاها - والعامة يقولون: يتقرع- كل الطعام يتحول إلى جشاء أبد الآبدين. هذه هي الجنة دار السلام، هذه دار الأبرار، هذه دار الأتقياء بنص هذا الحكم الإلهي: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ماذا؟ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ .
رضوان الله عن العبد نعيم لا يعدله نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّه بالأمس.. أبا جميل قلنا له: لو أنك تنزل قصراً من قصور الملوك والرؤساء والحكام ويخدمك النساء والرجال، وأنت في القصر، وكلما دخل صاحب القصر تراه غضبان، لا يكلمك، ولا ينظر إليك، دائماً بل كل ساعة تقول: الآن يقتلني أو يخرجني، فلا تسعد أبداً، فتجد رضاه خير من ذلك الطعام والشراب، لما يرضى عنك أنت آمن، لكنه إذا كان غاضباً فأنت خائف، وهذا هو معنى قول الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72] في آية التوبة، وهنا قال: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ على الحقيقة، يعرف التقي البر والفاجر الفاسق، سواء كنا مجتمعين مع وفد نصارى نجران أو مع اليهود معنا والمشركين والمؤمنين فالله بصير بالعباد، وإذا كان بصيراً بالعباد فكيف يكون الحكم والجزاء؟ بحسب علمه، فلا تفهم أنك تدخل مع أهل الجنة وتختبئ وأنت مسيحي، والله لا تدخلها، أو تكون مشركاً فتقول: أنا أدخل مع الموحدين. هذا لا ينفع؛ لأن الله بصير بالعباد، كيف لا وهو يخلقهم ويرزقهم. إلى هنا انتهى بنا الدرس أمس، والآن مع بقية الصفات.قال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16].
صفات أهل التقوى
لو قلت يا سيد: من هم هؤلاء المتقون؟ نريد وصفاً لازماً لهم، أو صفات تكشف عن حقيقتهم؟ هل نحن منهم أم لا؟ فالله تعالى يجيبنا ولا يتركنا حيارى نتطلع للمعرفة، فلابد من وصف شافٍ وعرض سليم، فعدد صفاتهم في هذه الآية والتي بعدها فقال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16-17].

يتبع

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:49 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
الصفة الأولى: أنهم يدعون ربهم ويتضرعون إليه بإيمانهم وصالح أعمالهم
قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذا وصف لازم لهم طول حياتهم. إذاً: أول صفة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا بك وبرسولك وبكتابك ولقائك وبما أمرتنا أن نؤمن به فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا مقابل هذا الإيمان. وهنا عرفتم الوسيلة الشرعية التي تتوصلون بها إلى قضاء حوائجكم عند ربكم، وهي أن تكون إيماناً أو عملاً صالحاً، أما وسيلة بسيدي فلان وحق فلان وجاه فلان فوالله ما تصل بك إلى قضاء حاجتك لا بمغفرة ذنوبك ولا بوقايتك من عذاب ربك. ألا يوجد بين المستمعين -وهم وافدون على مسجد رسول الله- من يرد علينا هذه القضية؟ لا وسيلة تتوسل بها لتصل إلى غرضك وحاجتك عند الله إلا الإيمان الحق والعمل الصالح والتنزه عن الشرك والباطل من المعاصي والذنوب، أما قولك: اللهم إني أسألك بحق فلان.. بجاه فلان.. بـفاطمة الزهراء .. بـالحسن والحسين .. برسول الله.. كل هذا هراء وكلام باطل ودخان قاتل! فإن قلتم: بين لنا يا شيخ كيف هذا فكلنا لا نعرف إلا: (اللهم إني أسألك بحق فلان.. وجاه فلان)؟ الجواب وتأمل: لك على أخيك دين هو حقك، وتقول له: أعطني من حق فلان عليك؟ هل يرضى بهذا الكلام؟ إن لم تعطني فأعطني بحق فلان عليك! يقول الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وهو ممن أدرك بعض الصحابة، يقول: هذا السؤال صاحبه يكفر؛ لأنه في موقف كأنما يقول: إن لم تعطني من فضلك يا رب فأعطني بحق فلان عليك. فمن هو هذا الذي له حق على الله بالقوة؟! هل يوجد عاقل يقول هذا الكلام؟ مخلوق مربوب بين يدي الله يصبح له حق يأخذه على الله بدون رضا الله؟!وهنا قد يقول قائل: الحقيقة أن هذا الكلام كفر يا شيخ، ولكن ما علمونا وما بينوا لنا، بل رموا بنا في ظلام هذه الحياة الدنيا، فلم تلومنا؟ فأقول له: الآن عرفنا، والله ما نسأل الله بحق فلان لو متنا جوعاً وعذبنا حتى الموت، فلا نكفر ونحن مؤمنون، أما أسألك بجاه نبيك.. بجاه فلان بجاه فلان، فهذه حيلة من حيل الشيطان إبليس! هذه الحيلة أرادها لنا أعداؤنا حتى لا يستجيب الله لنا فيعذبوننا ويستعمروننا ويفرقوننا ويعملون العجب ونحن ندعو وندعو فلا إجابة.قالوا: لنحرمهم من إجابة دعائهم بتقرير هذه الفكرة بينهم، فنحرمهم من أن يتوسلوا إلى الله بصيام أو صلاة أو صدقة أو جهاد أو رباط أو صلة رحم أو فعل خير، أو عكوف في مسجد، أو ذكر الله، أو تلاوة كتاب الله، كل هذا نحرمهم منه فلا يتوسلون به؛ لأنهم إذا توسلوا به نفع، واستجاب الله لهم. قال أعداؤنا: إذاً: نعطيهم فقط وسيلة لا تنفع: أسألك بجاه سيدي فلان، أعطني بجاه فلان. من فعل بنا هذا؟ إنه العدو، الثالوث الأسود المكون من ثلاث طوام: المجوس، اليهود، النصارى. لم تكون هذا الثالوث من هؤلاء؟ ما السبب؟ سلوا رجال السياسة عندكم، والله ما يعرفون كيف تكون هذا؟ والجواب: أما المجوس فما إن دخلت خيل الله ديارهم وسقط عرش كسرى وأخذ التاج ووضع على رأس سراقة بن جعشم وسراقة عفريت من عفاريت قريش قبل إسلامه، لما أعلنت قريش عن جائزة عظيمة لمن يرد لها محمداً حياً أو ميتاً بعد ما صدر الحكم عليه بالإعدام وفشلوا في تطبيقه وهاجر صلى الله عليه وسلم مع الصديق ، أعلنت قريش عن جائزة مائة بعير لمن يأتي برأس محمد أو يأتي به حي، فهذا البطل رضوان الله عليه قال: الآن أصبح أهل البلاد، فحمل سلاحه وركب فرسه وأخذ يركض ويتتبع الآثار حتى صار على بعد يومين أو ثلاثة -لأن المسافة عشرة أيام- فرأى رسول الله وأبا بكر والخريت -الدليل- الذي يقودهم في الطريق، فقال: الآن وصلت، فدفع بالفرس، فلما بقيت مسافة قريبة ساخت رجلا الفرس في الأرض وسقط، فقام وأخرج فرسه ومشى في الرمل أو في الحجارة فوقع -ثلاث مرات- فقال: الآن أتوب إلى الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فكيف بك يا سراقة إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟ ) الله أكبر! الرسول هذا مطارد من قومه ويعلن عن هذا الإعلان! أعظم دولة يومئذ هي فارس والروم الدولتان العظميان، وسراقة يبشر بأنه سيلبس تاج كسرى! أحلام هذه أم ماذا؟ وأسلم سراقة ومات رسول الله ومات الصديق وتولى عمر وقاد جحافل الجيش، فدخل بلاد كسرى وجيء بتاج كسرى إلى عمر فدعا سراقة وألبسه التاج وفاء بوعد رسول الله له، ودخلت كسرى في الإسلام وعمها النور الإلهي وانطفأت نور المجوس؛ لأن المجوس يعبدون النار، لا يعبدونها لذاتها وإنما لتشفع لهم عند خالقها.. عند الله وكذلك الخرافيون عندنا يعبدون سيدي عبد القادر لا لذاته وإنما ليشفع لهم.. وهكذا، وأصحاب قريش كانوا يعبدون الأصنام ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].إذاً: يوم ما سقط عرش كسرى ولاحت أنوار الإسلام تكون حزب يعمل في الظلام، حزب وطني كأيام الاستعمار، حزب وطني لضرب هذا الإسلام والقضاء عليه، وعودة الدولة الساسانية، وتمضي ألف وثلاثمائة وحوالي خمسة وتسعين سنة والمجوس يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية، آمنا بالله! بعيني هاتين قرأت في جريدة المغرب أيام كنا ندعو هناك في الصيف، وإذا إعلان: أن الشاه سلطان إيران، يعلن عن قيام ذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية في القناصل والسفارات في العالم، وحضر رجالكم أيها المسلمون للاحتفالات. الاحتفال بماذا؟ بذكر أبي جهل ؟! أعوذ بالله! لو يحتفل المؤمنون بذكرى أبي جهل كفروا، يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية!وأول رصاصة أطلقها ذلك الحزب المظلم كانت في محراب رسول الله، كانت في جسم عمر رضي الله عنه، عندما قتله أبو لؤلؤة المجوسي وقد أوعز إليه ودفعه وبعثه إليه هذا الحزب المظلم. هذا الحزب يعمل في خفاء؛ لأن النور غشي تلك البلاد وظهر فيها الصلاح والصالحون والصالحات، لكنه يعمل على إحياء هذه الدولة، وإلى الآن يعملون. واليهود ما إن صدر أمر الله بإجلائهم من الجزيرة: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) وصية من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، حتى بدءوا يكيدون لهذا الدين، بنو قريظة ماتوا هنا في آخر المسجد ودفنوا في بئر وحفرة؛ لأنهم نقضوا العهد وتعاونوا مع الأحزاب، وبنو النير أجلوا وطردوا، بنو قينقاع من قبلهم التحقوا بأذرعان بالشام، ومن ثم بحث اليهود عمن يتعاونون معهم على ذبح الإسلام فوجدوا الحزب المجوسي، فتعانقوا مع بعضهم البعض، وكان همزة الوصل بينهم -وهم الآن ينفون هذا- كما قال أهل العلم: عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني اليهودي ، هو الذي ربط بين المجوس واليهود.وأما النصارى فما إن لاحت الأنوار ودخل الإسلام في الشام وتحول نحو الغرب واتجه نحو مصر وأفريقيا قالوا: هذه هي الطامة ولن نفلح بعد، ماذا نصنع؟ فبحثوا عمن يتعاونون معه فوجدوا المجوس واليهود، فكونوا شركة لضرب الإسلام، ومن ثم هم يعملون متعاونين إلى الآن في الخفاء.إذاً: فلما فشلوا في حروبهم وما استطاعوا وانهزموا، قالوا: لابد إذاً من العمل النافذ والمجدي، وهو أن نبحث عن سر صفاء أرواح هذه الأمة وطهارتها وقوتها وسلطانها وعدلها، ما هو؟ فقالوا: إنه القرآن، إي والله أصابوا القرآن؛ لأن القرآن بمثابة الروح للحياة، والله قرر ذلك في ثلاث آيات من كتابه؛ في التوبة وفي غافر، وفي الشورى فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. ما هذا الروح الذي أوحاه؟ القرآن والله، فبه تصفو الحياة مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، قالوا: العرب حيوا بالقرآن واهتدوا بالقرآن، فهيا نبعدهم، وحينئذ نركب على ظهورهم كالبغال والحمير، ونجحوا، فالقرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي الموت قروناً، وقد كانت أمي رحمة الله عليها تقول: يا رب اجعل ولدي -وأنا يتيم- إما حافظاً للقرآن وإما جزاراً، فالجزار يجيب لها اللحم؛ لأن اللحم كان عندنا من العام إلى العام، من الموسم إلى الموسم، وإذا كان يحفظ القرآن يقرأ على الميت ويجيب اللحمة ملفوفة في المنديل ويعطيها له؛ لأن اللحم يقسمونه قطعة قطعة، فالذي عنده زوجته وأمه تحب اللحم يجعلها في منديل ويأتي بها إلى أمه، ولكنها والحمد لله ماتت على التوحيد الخالص.والشاهد عندنا في هذا: أن القرآن روح لا حياة بدونه، ونور والله لا هداية بدونه، فالماشي في الظلام لا يهتدي إلى أغراضه وحاجاته، فكذلك الذي فقد الروح لا يحيا ولا يكمل ولا يسعد. وما زالت آثار هؤلاء الأعداء إلى الآن، ولكن خف الضغط، لكنهم الآن يحتالون ويبحثون من أين يدخلون، وهذا الدرس لو سمعه اليهود لو أمكنهم أن يشتروا بمليار دولار لاشتروه، ولا يسمع العرب والمسلمين هذا، لكن الله أبعدهم، اسمعوا ولا تبيعوه لليهود هاه، ولا تغركم الريالات!إذاً: قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران:16]، متوسلين إلى الله بإيمانهم، فالإيمان ليس برخيص ولا هين، يدلك لذلك ملايين العلماء في أوروبا ما آمنوا، حللوا الذرة وعرفوا الكونيات كاملة وما آمنوا؛ لأن الإيمان هبة الله وعطيته. أغلى شيء في الحياة هو الإيمان -ومرة ثانية- ويدلك على ذلك: أن علماء فطاحلة في الكون.. في الحياة.. في كذا.. محرومون كفرة، لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وبرابرة جهال عوام يشهدون أن لا إله إلا الله ويموتون عليها، فالإيمان عطية الرحمن، هبة الله، فمن آمن فله الحق أن يتوسل بإيمانه، رب لقد آمنت بك وبرسولك، فاقض حاجتي هذه الليلة، ويفرح الجبار بكلامك، ولا تفهم أنه يغضب.واسمع إليهم يحكي عنهم: قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا وغيرنا ما آمن يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ واستجاب لهم الرحمن فهم في دار السلام. هذه صفة.
الصفة الثانية: ملازمة الصبر
قال أيضاً في بيان صفات المتقين الذين ورثوا دار السلام: الصَّابِرِينَ [آل عمران:17]. أهل الجنة جزعون أو صابرون؟ صابرون، وصفهم ربهم فقال: الصَّابِرِينَ وهذه الصيغة كلمة (أل) تدل على مكانة الوصف وعراقته، ففرق كبير بين (مؤمن) و(المؤمن) وبين (كافر) و(الكافر) بين (سارق) و(السارق) فرق كبير في لغة العرب، فـ(أل) تدل على عراقة الوصف ومكانته، فهم الصابرين بحق. والصبر: حبس النفس وهي كارهة في ثلاثة مواطن، هي: الأول: حبسها على طاعة الله ورسوله، لا تتخلف أبداً متى دريت.الموطن الثاني: حبس النفس بعيداً عن كل ما يلوثها من الشرك وضروب الذنوب والآثام والمعاصي، يحبسها بعيداً حتى لا تتلوث أبداً ولا تتلطخ.الموطن الثالث: حبسها عن المكاره، عند الابتلاء والامتحان بموت الولد والزوجة، بالمرض، بالرحلة والفراق، بأي شيء مما يختبر الله به أوليائه، فلا جزع ولا سخط، ولكن حمد الله والثناء عليه، والصبر الكامل، وكأنه لم يصب.وقد رأينا أحد الصالحين ولقبناه بأيوب الثاني، يدفن أولاده ونحن على القبر نبكي وهو يضحك يبتسم! صبر عجيب! لا جزع ولا سخط أبداً، رضي بقضاء الله وحكمه. إذاً: هذه الثلاثة المواطن حاول يا عبد الله أن تنجح فيها:الأول: أن تلتزم عبادة الله فلا تتخلى حتى عن ركعة الوتر، ولا تفارق العبادة. الثاني: أن تبتعد عن الزنا والربا والقمار والخيانة والغش والخداع وبغض المسلمين والكذب والنفاق، فهذه الأوساخ تبتعد عنها فقط. الموطن الثالث: إذا ابتلاك الله لا بأس أن تبذل دموعك وتريقها على وجهك، والرسول يضرب المثل وقد قدم له ولده إبراهيم وهو يموت في سكرات الموت، وحيده صلى الله عليه وسلم، فسالت الدموع من عينيه وقال: ( العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب )، إذ ما ابتلاك الله به إما ليرفعك درجات ما كنت لتصل إليها بأعمالك الأخرى، أو ليكفر عنك ذنوباً ما كانت تكفر لك، أو ليرفعك أو يطهرك. اللهم ارزقنا الصبر، واجعلنا من الصابرين.
الصفة الثالثة: ملازمة الصدق
ثالثاً: الصادقين. من منا الصادق؟ هذا الصادق، كلنا صادق، لكن الصدق وصف لازم لهم لا ينفك عنهم في كافة الظروف والأحوال، وهو غني كما هو فقير، هو صحيح كما هو مريض، هو خائف كما هو آمن، دائماً يصدق لا يعرف الكذب أبداً، ولو يخرج ما في جيبه أو ما في بطنه لا يكذب. من يقوى على هذه الصفة؟ إنهم الصادقون. من يرغب فيكم أن يفوز بها؟ ألسنا في حاجة إليها؟! يا من يرغب أن يصبح من الصادقين اسمع رسول الله يقول: ( عليكم بالصدق -أي: الزموه- فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة -إي والله- ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ). أبشر بالجائزة العظمى، ستصبح مع أبي بكر الصديق بالطلب.. بجهاد النفس، فاصدق إذا قلت، وإذا علمت، وإذا فكرت، لا يفارقك الصدق أبداً، واطلبه وتحراه واقصده، ولا تزال كذلك حتى تكتب في ديوان الصالحين صديقاً، فما فوق الصديقية درجة إلا النبوة، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] منهم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]، بعد النبيين مباشرة، والشهداء بعدهم، والصالحين بعد الكل ثم الصادقين.إذاً: الصادقين أقل درجة من الصديقين، فتلك تحتاج إلى الليالي الطوال، أما كونك صادقاً إذا قلت.. إذا علمت.. إذا أعطيت.. إذا سئلت.. إذا علمت. الصدق من السهولة بمكان لكن لازمه حتى يكون لك وصفاً فيقال: فلان من الصادقين.
الصفة الرابعة: القنوت والخضوع لله
رابعاً: وَالْقَانِتِينَ [آل عمران:17]. من هم القانتون؟ حتى النساء قانتات، فالقانت عبد يدعو الله عز وجل. والقنوت هو الدعاء، فالعبد إذا قام بين يدي الله في الصلاة يدعو ولا يذكر كلمة خارجة عن الصلاة، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل منع ذلك في هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت هو: الخضوع والخشوع لله عز وجل، والدعاء والضراعة بين يديه، أصحاب هذه الصفة هم أهل الجنة القانتين.
الصفة الخامسة: الإنفاق في سبيل الله
خامساً: وَالْمُنْفِقِينَ [آل عمران:17]. ينفقون ماذا؟ أوقاتهم في مشاهدة التلفاز والفيديو وألعاب الكرة والأضاحيك ومجالس الباطل وقصائد المشايخ.. هكذا؟لا والله، بل المنفقون لأموالهم في سبيل الله، فابدأ بنفسك ثم بزوجتك، ثم بولدك، ثم بمن تعول، وما فاض فاحمله إلى غير ذلك، فالمنفقون الإنفاق وصف لازم لهم لا يبرحون في حدود طاقتهم وما يقدرون عليه.
الصفة السادسة: الاستغفار بالأسحار
أخيراً: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، الأسحار جمع سحر، والسحور أكلة السحر تسمى السحور، والسحور ثلث الليل الآخر، في هذا الوقت بالذات هؤلاء يستغفرون الله عز وجل: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118]، نستغفر الله ونتوب إليه.. نستغفر الله ونتوب إليه، رب اغفر لي وتب علينا إنك التواب الرحيم.. ثلث ليل وهم يستغفرون في الصلاة وخارجها، فهذا الوصف لا زم لهم، في هذا الوقت الذي ينام فيه أصحاب البطالة ويسهرون حتى الثانية عشر أمام التلفاز والحكايات وقراءة المجلات والصحف ثم يصرعون ولا يستيقظون إلا مع طلوع الشمس، في هذا الوقت هؤلاء يلهجون بالاستغفار.واسمعوا إلى هذه الجائزة العظيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا مضى ثلث الليل الأول نزل الرب جل جلاله وعظم سلطانه إلى سماء الدنيا ونادى: أنا الملك.. أنا الملك، هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك حتى يطلع الفجر )، فيا ويح النائمين يومئذ، أو ساعئذ.والاستغفار من ألفاظه: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. ومن الاستغفار: رب ظلمتُ نفسي وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين. ومن الاستغفار: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. استغفروا الله يغفر لكم، وصلى الله على نبينا محمد.


ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:50 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (67)
الحلقة (208)

تفسير سورة آل عمران (70)



لقد وهب الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الكمال الأخلاقي الذي هو قوام الأمر، فأنعم على عباده من المهاجرين والأنصار بالرحمة التي جعلها في قلب نبيه لهم، وهذه الرحمة تحمله صلى الله عليه وسلم على العفو عن مسيئهم، والاستغفار لهم، ومشاورتهم في كل أمر ذي بال، فلا ينفرون من حوله، ولا يهجرون مجلسه صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:159-160].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، فالقائل هو الله عز وجل، ووصلتنا كلماته من طريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأوحى إليه هذا القرآن من كلمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، إلى آخر آية نزولاً: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، ودامت مدة الوحي ثلاثة وعشرين سنة، فختم الله هذا الكتاب وأكمل هذا الدين.وها نحن في بيت الله وفي مسجد رسول الله نتلو كتاب الله عز وجل، ونسمع كلام الله ونتدبره ونهتدي به إلى ما يكملنا ويسعدنا، وهذه نعمة في حد ذاتها، إذ إن بلايين البشر لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يعرفون كلام الله تعالى، ولا يسلكون مسالك أولياء الله وأنبيائه، فمن نحن وما نحن لولا فضل الله علينا؟! فالحمد لله على نعمة الإسلام.
لين النبي مع المؤمنين برحمة رب العالمين
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159]، وأصل الكلام: فبرحمة من الله، وزيدت هذه الميم لتقوية الكلام والمعنى، تقول العرب: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، والتنكير هنا يدل على التعظيم، أي: رحمة عظيمة مصدرها من الله تعالى. لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: لنت لهم يا رسولنا ولم تتشدد، وعفوت ولم تؤاخذ، وأصفحت ولم تؤنب، وهذه رحمة الله رحم بها أولئك الأصحاب الذين فروا منهزمين يوم أحد، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم شديداً قاسي القلب، لا عطف ولا لين عنده، لأنبهم ولقسا عليهم، فهربوا وشردوا وعادوا إلى الكفر والعياذ بالله، وبذلك يخسرون خسراناً أبدياً، لكنها الرحمة التي ألقاها في رسوله صلى الله عليه وسلم فغمره وغشاها بها، فلا شدة ولا غضاضة ولا غضب، ولا تألم ولا تحسر أمامهم، وكل هذا غرسه الله في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أجل أوليائه وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكونهم زلت أقدامهم وهربوا خائفين شاردين من الموت، فإن هذا لا يسلبهم إيمانهم ولا حبهم لله تعالى، ولا جهادهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
الغلظة والقسوة سبب لنفور المدعوين
وَلَوْ كُنْتَ [آل عمران:159]، يا رسولنا فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران:159]، والفظ هو: الخشن في معاملاته، السيئ في أخلاقه، وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك، بل كان رقيقاً في معاملته، فيعامل أصحابه بالرفق والعطف واللين. لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: انصرفوا وتركوك وحدك، وهذا ممكن؛ لأن الذي أخبر بذلك هو الله عز وجل، إذ لو أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن غضبه كما نغضب، وأخذ في الشتم كما هو حالنا، فإنه لن يبق واحد إلا من شاء الله، ويلتحقون بـأبي سفيان، لكن الله أضفى على رسوله هذا الكمال الخلقي فما استطاعوا أن يبعدوا من ساحته، وهذا تدبير من الله عز وجل، وهذا رحمة بأوليائه المؤمنين وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.
عفو النبي عن أصحابه واستغفاره لهم ومشاورتهم في المسائل الهامة
إذاً: فبناء على هذا: فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران:159]، أي: لا تؤاخذ أحداً منهم، فقد أكسبناك هذا اللين وهذا العطف وهذه الشفقة وهذه الرحمة من أجلهم. ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: استغفر لهم الله عز وجل؛ ليغفر لهم زلة فرارهم وانهزامهم أيضاً. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: لا تستهن ولا تبال بهم، وتقول: هؤلاء فروا منهزمين، هؤلاء عصوني، لا، وإنما اتخذ من أعيانهم ورجالاتهم وأولي الحل والعقد من تستشيرهم في أمور دنياك، وذلك كالجهاد ومتطلباته وما إلى ذلك. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: أمر ذو أهمية كالجهاد، وخوض المعارك، والإعداد لها، والمشي إليها فيما هو مهم.
معنى قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)
فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: بعد الشورى، وسماع آراء العقلاء، والعزم على أن تفعل فافعل، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، وامض ولا تفكر لا في هزيمة ولا في نصر، ولا خوف ولا جبن ولا خور ولا ضعف، وإنما لاحت في الأفق أن السير في هذا الطريق هو الحق فامض. فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: على القيام بأمر من أمور هذه الدعوة، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، أي: فوض أمرك إليه، فهو الذي يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد، وما عليك إلا أن تعمل على تحقيق رضاه. ثم بين ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، وهذه عامة لنا أيضاً فنحن معهم، إذ إن من توكل على الله، فأمره الله بأمر ولاح في الأفق ما يخيف أو يرهب أو يكرب ويحزن، فمضى عبد متوكلاً عليه في حصول النتائج المرغوبة والمطلوبة، فإن الله يحبه، والذي أمره الله أو نهاه وأراد أن يفعل، فلاح له في الأفق ما يوعده وما يخوفه، فيقول: قد لا يقع هذا، قد ننكسر، قد ننهزم، ثم فشل، فهذا لا يحبه الله تعالى؛ لأنه ما توكل على الله تعالى، ولذلك فالمتوكل على الله هو ذاك الذي إذا أمره مولاه فإنه يمضي أمره وينفذه غير مبالٍ بما يترتب على ذلك من انكسار أو انتصار، وإنما همه أن يطيع ربه عز وجل، فيفوض أمره إلى الله، أي: أمر الانتصار أو الانكسار، ويفعل ما أمر به، وهذا العبد أو هذه الأمة يحبه الله عز وجل، وحبه ظاهر مادام أنه امتثل أمر الله، وذاك الامتثال أوجد له الطهر في النفس والزكاة في الروح، والله يحب الطيبين والطاهرين.
تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم...)
قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]يقول تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، أي: إن ينصركم الله أيها المؤمنون وبينكم رسولكم، والخطاب عام، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فإن قيل: قد غلبونا اليهود؟ فالجواب: ما نصرنا الله، إذ لو نصرنا الله فلا يغلبنا اليهود ولا الصرب ولا روسيا ولا أمريكا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أي: لا يوجد غالب يغلبكم أبداً، وإنما يوجد الغالب الذي يغلب المؤمنين إذا تخلى الله عنهم ولم ينصرهم، وذلك عندما لا يأخذون ببيانه وهدايته، وما وضع لهم من منهج وطريق، فأعرضوا عنه والتفتوا إلى غيره، ورغبوا بشهواتهم ودنياهم، وعند ذلك لا يحبهم الله وينصرهم. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، في أي ميدان من ميادين الحياة، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ومعنى هذا: عليكم بالله، فالتفوا حول كتابه، والتفوا حول بيانه وشرف هدايته، ولا تخافوا الأبيض ولا الأسود، ولا المشركين ولا الكافرين، فإن من يتوكل على الله ينصره، ومن نصره الله والله لا يغلبه غالب أبداً. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160]، أي: الله، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]؟ لا عبد القادر ولا سيدي البدوي.وقد شكا إلي أحد الأبناء فقال: بين للناس الجهل الذي يقع حول الحجرة الشريفة، إذ إنهم لا يحسنون الزيارة ولا السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: ماذا نصنع؟ قد بينا وقلنا: من أراد أن يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت متطهراً ويصلي ركعتين في مسجده، ثم يقف على باب حجرته ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك وذرياتك أجمعين، أو السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم يسلم على الشيخين ويمشي. لكن الأمة جاهلة، فهل كلمتي هذه بلغتهم ونفذوها؟ إننا نحتاج إلى تربية وتعليم في بيوتنا وفي بيوت ربنا، في قرانا ومدارسنا وأحيائنا، وذلك العام والعامين والثلاثة والعشرة حتى نفقه ونفهم ونعلم، ولا تكفي كلمة واحدة أبداً، ثم لو كنا بصراء فهانحن نسلم على رسول الله والله في كل صلاة، ونحن في أمريكا أو في اليابان أو في أي مكان، فإذا جلسنا بين يدي الله في الصلاة نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهل هناك سلام أعظم من هذا؟ هذا الذي علمنا رسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف معرفة يقينية أنه يسمعنا إذا سلمنا عليه، لكن الآن نحن موقنون بذلك، فإذا كنت متطهراً بين يدي الله تصلي الفريضة أو النافلة، وقلت: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والله لبلغته وسمعها عليه الصلاة والسلام.أما الذين يتمسحون ويتبركون ويقولون الباطل حول الحجرة الشريفة فكلهم جهال، ويزال جهلهم هذا بالعلم والتربية، وبالجلوس في مثل هذه المجالس النبوية.ولولا أن الله عز وجل أوجد هذه الحكومة الإسلامية -قد يغضب بعض الإخوان ويقول: الشيخ يمدح الحكومة-لرأيتم العجب حول هذه الحجرة من أنواع الشرك والباطل، ومع هذا يوجد عسكر وهيئة ويشكون من جهل الناس. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أيها المجاهدون، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160] لمعصيته والخروج عن طاعته، وعدم الأخذ بأسباب النصر، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ [آل عمران:160] من أهل الأرض؟ والله لا أحد، وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، ليعتمدوا على الله، وليفوضوا الأمر إليه، وليفعلوا ما أمر ويتركوا ما نهى، وليترتب على ذلك ما يترتب من ذل أو هون أو فقر أو نصر أو عزة أو سيادة أو غنى، إذ إن هذا يترك لله فقط، والمسلم يطبق أمره ويفوض أمر النجاح إليه سبحانه وتعالى. وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره، لا على سواه، فَلْيَتَوَكَّلِ [آل عمران:160]، واللام للأمر، الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، و(ال) في (المؤمنون) تدل على عراقة الوصف ومتانته، ولم يقل: (فليتوكل مؤمنون)، وإنما قال: الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، أي: البالغون الكمال في إيمانهم، علماً ومعرفة واعتقاداً ويقيناً.فهيا أعيد عليكم قراءة هاتين الآيتين قبل أن نأخذ في الشرح من الكتاب، يقول تعالى واسمع: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:159-160]، وهذا بلاغ ثانٍ، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].

يتبع

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:50 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق -سياق الحديث والكلام في طريق واحد- في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد، ففي هذه الآية يخبر تعالى عما وهب رسوله وأعطاه من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ] إذ وهبه الله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر، ولولا أخلاقه التي وهبه الله إياها لهرب الناس من حوله وما جالسوه ولا أخذوا عنه، ومعنى هذا أيها المربي اسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن تتعنتر وتنتقد وتطعن، فإن ذلك لا ينفع.قال: [فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة ]؛ لأن الميم مزيدة، ونظير هذه الميم ما جاء في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40]، إذ أصلها: عن قليل، وزيدت الميم لتقوية الكلام والمعنى بعد ذلك، وقوله تعالى: جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ [ص:11]، أي: جندٌ هنالك مهزومون، والقاعدة عند العرب تقول: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، وهذا كلام العرب الذي علمهم الله إياه وأنطقهم به وأنزل به كتابه.قال: [ يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ]، إذ الأخلاق الفاضلة هي قوام الأمر، فإذا كانت أخلاق المرء سيئة في البيت، أو سيئة مع إخوانه، أو سيئة في السوق، فلا ينتظم الحال ولا يسعدون، إذ الخلق الكامل والأخلاق الكاملة هي التي تجمع ولا تفرق، وتوجد الحب والمودة، فهيا نتعلم الأخلاق الفاضلة.قال: [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها، لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] ]، أي: لولا رحمتنا التي أضفيناها على عبيدنا من الأنصار والمهاجرين ما لنت لهم، وحينئذ يفرون عنك ويعودون إلى الكفر ويخسرون الدنيا والآخرة.قال: [ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا [آل عمران:159]، أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظه، لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: تفرقوا عنك -وعادوا إلى دين آبائهم وأجدادهم- وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف عن مسيئهم الذي أساء، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، وهذه تعاليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ الله يكلم رسوله بهذا الكلام ويعلمه هذا التعليم، فآمنا بالله وحده، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة لا يقرأ ولا يكتب، فهو أمي كما وصفه في التوراة والإنجيل، والأمي هو الذي ما فارق حجره أمه حتى يتعلم.قال: [ وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة ] بعد الاستشارة، [ فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، ومن أحبه الله لم يخزه ويذله ويشقه، بل والله يكرمه ويعزه ويعلي شأنه.قال: [ والتوكل: هو الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له، وعدم التفكير فيما يترتب عليه ] أي: فيما يترتب على فعل هذا الأمر الذي أقدمت عليه، وأعددت الأسباب المطلوبة له.قال: [ بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى ] فإذا أمرنا بالجهاد، فأعددنا عدتنا وخرجنا نحمل سلاحنا غير مفكرين بالنصر أو الهزيمة، ولا يخطر ذلك ببالنا أبداً، فقط نريد أن نطيع ربنا فيما أمرنا به، فإن النتائج إليه تعالى.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخِذلان كذلك، فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل ]، فالذين لا يؤمنون بالله، ولا يعرفون هداه كيف يطبقون هذا ويعرفونه؟ إذاً لابد من المعرفة والعلم أولاً، قال تعالى مبيناً ذلك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].قال: [ وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له ]، أي: أن طلب النصر من الله يتم بإنفاذ الأمر الذي أمر به، وذلك بعد إعداد الأسباب اللازمة لذلك، قال تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، فلا يخرجون بأيديهم فقط، بل لابد من السلاح والطعام، والذين ما استطاعوا رجعوا، فلابد من الأسباب للنصر، فيؤتى بالسبب بإذن الله وطاعة له تعالى.قال: [ وطلب نصره وإنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه حتى يكون بطاعته والتوكل عليه، هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160] ].ما بال المسلمين لا يقاتلون الصرب؟ هل سمعتم بقوات تحركت من العالم الإسلامي؟ إذاً: كيف ينصرنا الله؟! قد علمنا أن النصر بيده، وأن الخذلان بيده، وأن نصره يطلب منه بإعداد العدة وأخذ الأسباب، لكن للأسف سكتنا وتركنا الأمر لأمريكا والأمم المتحدة، فهل سينتصر إخواننا؟ وهل عندما يخرجون عن سنة الله ينتصرون؟ سوف تسمعون الهزائم المرة، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ينصرنا الله إذا أقبلنا عليه بعد الإيمان واليقين بأنه الناصر، واجتمعت كلمتنا، وحملنا راية لا إله إلا الله، وقادنا إمام المسلمين، ولا نخرج عن طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإن فسقنا يصيبنا ما أصاب رسول الله وأصحابه في أحد، فهذا هو النظام الإلهي، وهذه هي السنن التي لا تتبدل إلى يوم القيامة، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، أنها سنن لن تتبدل أبداً.إذاً: فسنة الله في النصر لعباده هو أن يطيعوه فيما أمر، ويعدوا العدة لما يطلب منهم، وعند ذلك يقاتلون فينتصرون، والواقع شاهد على ذلك.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقي ] وقد دلت على ذلك الآية الأولى، والذي كمله هو الله القائل: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4]، فسبحان الله! إذا استعظم الله الشيء فمن يقدره؟ إذا كان العظيم الذي يقول للشيء: كن فيكون، ويقبض السموات السبع بيده، يستعظم الشيء، فكيف يكون هذا الشيء؟! والله لا أعظم من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقد تجلت أخلاقه هنا في لينه وشفقته وعطفه ورحمته، وعدم قوله كلمة سوء لأصحابه، مع أنه قد كسرت رباعيته، وشج وجهه، ودخل المغفر في رأسه، ومات عمه، وبعد هذا لم يشتم أحداً ولم يسبه، ونحن تربينا على السب والشتم والتقبيح والتعيير! بل وجد منا من يطعن في العلماء ويتلذذون بذلك.أخي المسلم! لا يحل لك أن تطعن في مؤمن كناس أو فلاح أو دلال أو أعمى أو أعرج أو مريض أو مؤمن رائحته منتنة، كما لا يحل لك أن تقول في مؤمن آخر كلمة سوء، ونحن للأسف نتغنى بالأباطيل، فأين أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرسول يُؤذى ويُرجم، ويعرف من فعل به ذلك، ومع ذلك يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، وما واجه واحداً منهم وقال له: أنت خذلتنا، أنت الشر، أنت السبب، أنت المحنة كلها، إذ لو واجه الناس بهذا لانفضوا من حوله وانصرفوا، فهيا نتخلق بأخلاق أبي القاسم، واستنبطنا هذا الكمال من قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فيكم من آذاه مؤمن وقال: اللهم اغفر له؟ أعطوني واحداً، قد يوجد بعضاً، لكن واحداً إلى مليون لا ينفع. [ ثانياً: فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فالله يأمر قائده ورسوله بأن يشاور أصحابه، وهذا يدل على فضلهم، ولذلك إذا ذكر أصحاب رسول الله فيجب أن نذكرهم باحترام وإجلال وإكبار، وألا نذكر سوءاً فيهم ولا بينهم، إذ هؤلاء قد رفعهم الله تعالى، وأمر رسوله أن يستغفر لهم، وأن يعفو عنهم، وأن يشاورهم في الأمر، ونحن للأسف نسبهم وندعي أنهم قد أخطئوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا من مظاهر الجهل، ومن ألف سنة وأمتنا هابطة، فهيا نخرج من هذه الفتنة، وذلك بالعودة إلى الكتاب والسنة، وأن نؤمن إيماناً يقيناً، وأن نلزم بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا من المغرب إلى العشاء، في كل قرانا ومدننا، فنتلقى الكتاب والحكمة طول الحياة، فذاك هو التعلم الحقيقي، أما التعليم في المدارس فقد فضحنا الله، إذ إننا لا نتعلم إلا للوظيفة! والذي لا يوظف يسب الحاكم والحكومة! ولذلك الذي ما يتعلم العلم ليحبه الله كيف يستفيد من هذا العلم؟ لا نعيبهم، بل نتركهم، فالفلاح في مزرعته، والتاجر في متجره، والعامل في مصنعه، فقط الوقت الذي أوروبا التي نجري وراءها ولعابنا يسيل، ونجتهد أن نكون مثلهم، إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص واللهو إلى نصف الليل، ونحن ما نستطيع أن نذهب إلى بيت ربنا لنزكي أنفسنا ونطهر أرواحنا ونخرج من ظلمة الجهل الذي خيم علينا، فكيف نستطيع أن نخترق السماء وتنزل الجنة مع الأبرار؟! ومع هذا نسمع من يطعن وينتقد ويقول: ما هذا؟ كيف هذا؟ ماذا نقول؟ نكذب عليكم، والله لا طريق إلا هذا، والجهل معوق لصاحبه، إذ يفقده الإيمان بالله والثقة به، وإن كنا واهمين فاذكروا، لو يحصى الزنا والفجور في العالم الإسلامي لقلتم: خمت الدنيا وخبثت، وهذا يحصل من أهل الإيمان واليقين! أما الغش والخداع والكذب والسب والشتم والتعيير فلا تسأل، وسبب هذا كله الجهل بالله تعالى ومحابه ومساخطه. [ ثالثاً: تقرير مبدأ الشورى بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة ] يقول ابن عطية في تفسيره رحمه الله: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وقد قيل: ما ندم من استشار، ومن أُعجب برأيه ضل، ورسول يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، ولا عال من اقتصد )، وهذا الحديث يزن الدنيا كلها، إذ ما ندم أبداً من استشار، ولا خاب من استخار ربه، ولا عال وافتقر من اقتصد فيما أعطاه ربه. [ رابعاً: فضل العزيمة الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى ] أي: العزيمة الصادقة عند تنفيذ الأمر، ومع التوكل على الله بتفويض الأمر إليه، والذي يحصل بأمر الله مرحباً به لا خوف ولا تردد. [ خامساً: طلب النصر من غير الله خِذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل ].فاللهم انصر عبادك المؤمنين الذين آمنوا بك وبلقائك وبذلوا ما استطاعوا أن يبذلوه من أجل نصرة دينك وعبادك المؤمنين، اللهم إن وِجدوا فانصرهم وكن لهم ولياً ونصيراً، آمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:51 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (68)
الحلقة (209)

تفسير سورة آل عمران (71)


حرم الله سبحانه وتعالى الغلول، وهو أخذ شيء من الغنائم قبل تقسيمها، وذكر تعالى أن ذلك محرم على الأنبياء، ومفهوم ذلك أنه محرم على أتباعهم من المؤمنين، ومن غل شيئاً من الغنيمة يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا تظلم نفس شيئاً، لأن الله تبارك وتعالى غني عن ظلم عباده.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا يا ولينا ومتولي الصالحين.فما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام.. ونحن الآن مع أربع آيات، فهيا نتلو هذه الآيات تلاوة متدبر متفكر متأمل؛ عسى الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، وأن يرزقنا العلم الذي يرضيه عنا. آمين.قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل) قراءة سبعية، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:161-164]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ما الغُل؟ ما الإغلال؟ ما الغلول؟ فهذه مأخوذة من: غَلّه يغُلُّ إذا وضع الغُلَّ في عنقه، وشد يديه مع عقنه، ومنه الأغلال التي في الأعناق.والمراد هنا أن يأخذ من الغنيمة شيئاً خفية، بحيث لا يطلع عليه المجاهدون، ويأخذه لنفسه دونهم.
سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
لا شك أن بعض المنافقين أشاعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ شيئاً من الغنيمة بدون إطلاع أصحابه المجاهدين، وسواء كان هذا شملة تمت في بدر أو في خيبر أو في أي مكان آخر، أو أن الذين هبطوا من جبل الرماة خافوا أن يكون الرسول يستأثر ببعض الغنيمة دونهم.فعلى كل حال أبطل الله هذا الزعم، وهذا الافتراء وهذا الظن، فحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغل، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ [آل عمران:161] من الأنبياء أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، فكيف بسيد الأنبياء وخاتمهم؟! وهذه الصيغة صيغة النفي التي لا يمكن أن يكون أبداً، فليس من شأن نبي من أنبياء الله أن يغل، فكيف بخاتمهم وسيدهم وإمامهم؟!!
دلالة الآية على حرمة الغلول
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أيما شخص مع نبي من الأنبياء يجاهد، ثم لما وجدت الغنائم أخفى منها شيئاً، ولو خاتماً من حديد، ولو شملة، ولو شراك نعل، ولو.. ولو..، فلا يحل أبداً للمجاهدين أن يخفي أحدهم شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها، ولهذا الإغلال أو الغُل أو الغَل من الغنيمة من كبائر الذنوب بالإجماع، إلا أنه لا تقطع يده كسارق، وأما الإثم فإنه عظيم، وحسبنا أن نسمع أن من غل يأتي يوم القيامة بما غل؛ فلو أغل شاة وأخفاها فوالله! ليبعث والشاة على ظهره ولها ثغاء ليفضح في العالمين، والذي أغل بعيراً يؤتى يوم القيامة البعير على عنقه وهو يصرخ والبعير له رغاء فضيحة له. وهكذا كل من غل شيئاً أخفاه وسرقه من الغنيمة يبعث يوم القيامة بهذه الفضيحة.كما صح أيضاً أن الغادر الذي يغدر ويخون يفضح يوم القيامة وتوضع راية على ظهره واسته؛ فضيحة له، ( يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء غدر به )، فلهذا المسلمون لا يغدرون ولا يسرقون ولا يخفون من الغنائم شيئاً.وأجمع أهل العلم أيضاً أن الوالي الذي يمثل إمام المسلمين إذا أخذ من ذلك المال -أي الغنائم- خفيةً يفضح به يوم القيامة.وقد صح: أن أحد العمال ذهب وجاء بمال بيت المال، فلما وصل إلى المدينة، قال: هذا لكم وهذا لي، أهداه إلي أهل البلاد، فوبخه الرسول صلى الله عليه وسلم شر توبيخ، وقال: هلا بقيت في بيتك أو في بستانك أو مع أهلك وجاءك هذا المال؟ ، ولهذا الهدايا إلى العمال لا تصح، لا تقدم هدية لوالٍ ومسئول عن أي عمل، وهو إن أخذه أخذه كما يؤخذ من الغلول.إذاً: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ [آل عمران:161] من نبي وغيره: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، وقد سمعتم أنه يؤتى به على رءوس الناس يشاهدوا فضيحته، سواء كانت ناقة أو كانت عنزة أو كانت ثوب أو كانت غير ذلك.ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، أي: يوفي الله تعالى يوم القيامة كل نفس ما كسبته من خير أو شر، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]؛ لأن الحاكم جل جلاله وعظم سلطانه ما هو في حاجة إلى أن يظلم أحداً، الملك كله له، والجنة جنته والنار ناره يدخل من يشاء في رحمته، فلا معنى لتصور الظلم أبداً يوم القيامة.فهذه الآية قررت حرمة الغلول في الإسلام، وهو أخذ شيء من الغنيمة خفية ليستأثر به دون إخوانه المجاهدين، ولا يحل لقائد المعركة ولا للأمير ولا للمجاهدين أن يخفوا شيئاً، كذلك ما يعطاه العمال أو الأولياء أو المسئولون بوصفه هدية وهو رشوة للحصول على أمرٍ ما فحكمه حكم الغلول بلا خلاف بين أهل الإسلام.
تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخطٍ من الله...)
وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، فهذه تزيد ذلك المعنى توضيحاً. فمن الذي يتبع رضوان الله ويتبع الأسباب التي توجب له رضوان الله؟ أي: ذاك العبد الذي يستقيم على طاعة الله وطاعة رسوله، فيؤدي الواجبات ويبتعد كل البعد عن المحرمات، هذا هو طالب رضوان الله.هل يستوي مع من يطلب سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والكذب.. وما إلى ذلك؟ والله! ما يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ [آل عمران:162] ورجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [آل عمران:162] أيضاً، سخط الله والمصير جنهم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] أي: جنهم، لا أسوأ مصير من جنهم يصير إليها العبد، ومعنى هذا: لا غدر، ولا خيانة ولا سرقة ولا.. ولا، يا من يريدون رضا الله ورضوانه.صورتان واضحتان: هذا أراد الله رضا الله فطلبه بإيمانه وتقواه، وبإيمانه وصالح أعماله، وبإيمانه وتجنبه ما يكره الله ويسخط الله، هذا طلب رضوان الله فساد به، والثاني طلب سخط الله بالغدر والكذب والشرك والمعاصي، فلا يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، إياه.
تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون)
ثم قال تعالى موضحاً المصير: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، هم أهل الموقف السعداء كالأشقياء، طالبوا رضوان الله، كطالبو سخط الله، الكل في درجات متفاوتة، درجات أهل الجنة حسبنا أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنهم يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب الغابرة في السماء )، وأهل النار دركات وعبر عنها بالدرجات للمناسبة، وإلا الهبوط دركات والصعود درجات دائماً وأبداً، وأما دركات أهل النار فقد قال تعالى في المنافقين: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].إذاً: يا طالبي رضوان الله بالإيمان وصالح الأعمال، والبعد عن الشرك والذنوب والآثام، إن درجاتكم متفاوتة تفاوتاً عظيماً، ويا طالبي سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والشرك والمعاصي، اعلموا أيضاً أن دركاتكم متفاوتة بحسب كثرة الذنوب وقلتها. فهذا حكم الله.
تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم)
ثم قال تعالى لعباده المؤمنين -ولعل هذا السياق حرك ضمائرهم-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] فلله الحمد والمنة، و(مَنَّ) هنا ليس من المنِّ، هذا من المن بمعنى العطاء والإفضال والإحسان، والله له أن يمُنَّ علينا أليس كذلك، لكن مَنَّ الإنسان على الإنسان لا يصح، فيه أذى له، لكن الله إذا مَنَّ عليك؛ أعطيتك سمعك، بصرك، عقلك، أعطيتك كذا كذا، هذا الامتنان عظيم، والله أهله، لكن بالنسبة إلينا إذا أعطيت لأخيك شيئاً لا تمنه، فإنه يتأذى ويتألم، هنا المن بمعنى: الإفضال والإنعام والإحسان: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] كيف؟ قال: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربي ومن جنسهم، إذ لو كان الرسول أعجمياً لما ارتاح العرب في قبول الدعوة، ولا نشطوا لها ولا نهضوا بها، لكن لما كانت لغتهم وكان النبي من جنسهم، ومن أشرفهم، ومن أعلاهم منزلة، ومن أفضلهم وأكرمهم بيتاً.. هذه كلها ساعدت على قبول الدعوة وحملها. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران:164] عظيماً جليلاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، ويصح أن تقول: من أنفسهم أي من جنسهم البشري ولا حرج، لكن السياق والامتنان، يدل على أنه من جنسهم العربي وهو عام، رسول الله من جنس البشر وليس من عالم الملائكة ولا عالم الجن، لكن هذا الامتنان هو الذي ساعدهم على النهوض بهذه الرسالة وحمل هذه الدعوة إلى العالم، شعروا بأنهم مسئولون.قال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران:164]، من صفاته أنه يتلو عليهم آياته، آيات من؟ آيات الله الذي مَنّ عليهم بإرساله، هذا أولاً. وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] ثانياً، أي: يطهر أنفسهم وقلوبهم، ويطهر مشاعرهم وآدابهم وأخلاقهم ونفسياتهم، وكذلك فعل.كثيراً ما نقول: والله! ما اكتحلت عين الوجود بأفضل من أصحاب رسول الله في آدابهم وأخلاقهم وكمالاتهم؛ وذلك نتيجة تزكية الرسول لهم؛ زكاهم وطيبهم وطهرهم في أخلاقهم وآدابهم وكل سلوكهم، يشاهد ويقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا )، وما زال كذلك حتى قبض وأصحابه من خيرة البشر كمالاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فهذه المنة الكبيرة، يعلمهم الكتاب الذي هو القرآن، والحكمة التي هي السنة النبوية، وهي مبينة للقرآن شارحة ومفسرة له، وهذه الحكمة عامة تناولت الأكل والشرب واللباس والركوب والنزول والحرب والسلم.. وكل شئون الحياة؛ ما خلت منها حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.فما طلبت السنة في ميدان من ميادين الحياة إلا وجدت.وأخيراً قال: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ [آل عمران:164] نعم، وقد كانوا من قبل: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، أي: قبل البعثة النبوية كيف كان العرب؟ كانوا وثنيين، منهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار، وكانوا.. وكانوا كغيرهم، لكن الواقع أنهم كانوا في ضلال واضح بين لا يشك فيه عاقل، فأنقذهم الله عز وجل من هذا الضلال ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله عليه من الكتاب والهدى، وما وفقه له وأعانه عليه من تعليمهم وتزكيتهم وتربيتهم حتى نموا وكملوا وأصبحوا أكمل الخلق.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هذه الآيات الأربع نتأملها! وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ليس من شأن نبي يغل، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، لِم يأتي به؟ لينتفع به، يأتي به ليفضح به، والله يأتي الرجل وعليه البعير، يقول: يا رسول الله أعني، فيقول: لا، لقد بينت لك يا فلان.فهذا الذي طهر المجتمع، وأصبح مجتمع أمن كامل ليس فيه خيانة ولا غدر، ولولا هذا التعليم كيف يصبح هذا المجتمع أفضل مكان في العالم؟ بهذه التعاليم: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:161-162].الجواب: لا، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163] بحسب جهادهم وصبرهم وصيامهم و.. و..، ما هم في مستوى واحد، درجات أو لا؟ درجة أبي بكر أعلى من درجات بقية الصحابة، مثلاً: دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].فيجزيهم بحسب عملهم؛ لأن الله مطلع عليه، عليم به، كيف لا وهو خالقه وموجده. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فلهذا الذين يجلسون للمعلمين يجب أن يقولوا لهم: زكوا أنفسنا، لا تعلمونا فقط، حلقة ثانية بعد التعليم، وهي تزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وتصحيح الآداب: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].

يتبع


ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:52 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: الغل والغلول والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه، ففي الآية الأولى ينفي تعالى أن يكون من شأن الأنبياء، أو مما يتأتى صدوره عنهم: الإغلال، وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، إذا كان النبي لا يغل، فأتباعه لا يغلون، ولذا قرئ في السبع (أن يُغَل) بضم الياء وفتح الغين، يُغَل: أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً، يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما بُين ذلك في الحديث، قال: جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم -أي: لا أجد أحدكم- يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! أعني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغتك... )] ثم ذكر الفرس أيضاً والشاة والنرس والرقاع.. وهكذا. [ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فأخبرهم تعالى: أن من أغل شيئاً يأتي به يوم القيامة يحمله، حتى البقرة والشاة، كما بُين ذلك في الحديث، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تبارك وتعالى عن الظلم ولعدله تعالى، فهذا مضمون الآية الأولى.أما الثانية: قال: ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات، فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم، هذا معنى قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] ثم ذكر تعالى: أن كلاً من أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفاً، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163]، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وهذا ما دلت عليه هذه الآية. أما قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب والسنة.وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم.وهذا معنى قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] ].
هداية الآيات
هذه الآيات الأربع نسأل الله أن نكون قد فهمناها وتهيأنا للعمل بما فيها، فلها هدايات.قال: [من هداية الآيات: أولاً: تحريم الغلول، وأنه من كبائر الذنوب]. من أين أخذنا هذه الهداية؟ أنا أقول في السوق.. في البيت، الغلول حرام، لا يحل لمؤمن أن يغل، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أصبحنا عالمين. [ثانياً: طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بماذا؟ ] فطلب رضوان الله بالدعاء وبالإيمان وصالح الأعمال، وتجنب سخط الله يكون بترك الشرك والمعاصي، من طلب رضوان الله وأراده، فباب الله مفتوح، يؤمن ويعمل الصالحات التي هي فعل الأوامر وترك المناهي، ويجتنب الشرك ويترك المعاصي ويتركهما. [ثالثاً: الإسلام أكبر نعمة]؛ لأن الله امتن على الناس به: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، [فالإسلام أكبر نعمة، وأجلها على المسلمين، فيجب شكرها بالعمل بالإسلام، والتقيد بشرائعه وأحكامه] فإن لم نعمل بالإسلام، ولم نتقيد بشرائعه، فكأننا ما شكرنا وكفرنا النعمة. [رابعاً: فضل العلم بالكتاب والسنة]؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].
الاجتماع على الكتاب والسنة سبب للعزة
معاشر المستمعين والمستمعات! فقد ارتفع شأن العرب وعلا، وسادوا وقادوا باجتماعهم بين يدي رسول الله، وتعلمهم الكتاب والحكمة، وتزكية أنفسهم، فإذا أراد العالم الإسلامي الآن في أي مكان كيف يصلون إلى ذلك المستوى الطاهر؟والله لا طريق إلا هذا.. أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، وأن المربي أو المعلم يعمل على تزكية نفوسهم وتهذيب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم، والدليل والبرهنة واضحة من يوم أن أعرض العالم الإسلامي، وعلى رأسه العرب بالذات، أهل الأمانة وأصحاب هذه الرسالة وأهل هذه المنة، منذ أن أعرضوا هبطوا، فمن يرفعهم؟ فحاولوا وجاءوا بالاشتراكية لترفعهم، فلم ترفعهم، ثم حاولوا وجاءوا بالديمقراطية وتبجحوا بها فلم ترفعهم أيضاً. ثم أيضاً حاولوا وجاءوا بالوطنية والإقليمية، العروبة، فهل رفعتهم؟ والله! ما رفعتهم، فما الذي يرفع من هبط إلى أن يعود إلى علياء الكمال إلا الكتاب والسنة، وهذا ما نقوله دائماً، أهل القرية يلتزمون باجتماعهم، بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة في بيت ربهم، من المغرب إلى العشاء، وطول العام، أهل المدن كل حي من أحياء المدينة قليلة أو كثيرة يجتمعون اجتماعنا هذا، النساء وراء الستارة، والأطفال دونهم، والفحول أمامهم، والمعلم يعلم الكتاب والحكمة، هل هناك طريق سوى هذا؟ والله! ما وجدوا، أقسم بالله.فهذا هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفوس، فإذا تهذبت النفوس قل، بل انتهى الغل والغش والحسد والسرقة، والخيانة والإسراف، والكبر والكذب، وكل مظاهر الهبوط تنتهي، أو ما تنتهي؟ والله لتنتهين، هذه سنة الله، الطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق، واتباع الكتاب والسنة لا تهذب ولا تزكي ولا تؤدب؟! فهذا مستحيل.فعلى العلماء أن ينهضوا بهذا الواجب، يأتون إلى القرى ويصيحون في أهليها بمكبرات الصوت: تعالوا إلى المسجد، هاتوا أطفالكم ونساءكم يسمعن وهن وراء الستارة، ويلزموا القرية الشهرين والثلاثة والسنة، حتى يجتمع أهلها.. وهكذا فجأة وإذا بذلك الإقليم في العالم الإسلامي أصبح كأنه في عهد النبوة، الطهر والصفاء والنقاء والكمال، بأتم معناه، وهذه سنة الله التي لا تتخلف.هذا والله تعالى أسأل أن يوفق علماءنا للنهوض بهذا الواجب.

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:53 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (69)
الحلقة (210)

تفسير سورة آل عمران (72)


يوم بدر أعز الله عباده المؤمنين وشفى صدورهم بالنيل من عدوهم، فقتلوا سبعين من المشركين وأسروا مثلهم، فلم يتعرض المسلمون عندئذ للبلاء والامتحان، فلما كان يوم أحد قتل من المسلمين سبعون كما حصل لأعدائهم من قبل، ليبتليهم الله عز وجل ويتخذ منهم شهداء، وليبين لهم أن ما يصيبهم من الهزيمة والفشل إنما هو من عند أنفسهم، وما النصر إلا من عند الله، وليميز الله بذلك بين أهل الصدق والإيمان، وأهل الكفر والنفاق.
تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! هل تشاهدون السكينة؟ واضحة، فلو كنا في مقهى أو في منتدى أو في سوق أو في منزل فهل سنشاهد هذه السكينة؟ والله! ما توجد، الرحمة غشتنا وغطتنا، هل تشاهدون عذاباً ينال أحدنا؟ لا، الملائكة يحفون بالحلقة، ولكننا لا نشاهدهم؛ لضعف أبصارنا عن قوة أجسامهم فقط، وذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى.إذاً: أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا كما أخبر -الحمد لله-، وهل تذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه، أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )؟ فزتم بهذه أو لا؟ وأعظم: ( أن من صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء في بيت الله الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث ).كيف نظفر بهذا الكمال لولا إفضال الله وإنعامه علينا، الحمد لله.وكم.. وكم من محرومين، ولا لشيء سوى أن العدو يصرف عباد الله عن ولاية الله؛ لأنه العدو الأول، وربنا قال لنا: اسمعوا هذا البيان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، كيف نتخذ الشيطان عدواً؟ لا نستجيب لندائه، ولا نقبل على طلبه، ولا نعطي ما يطلب ويسأل، بل نقف معه موقف العدو مع عدوه، فلا سمع ولا طاعة ولا حب، ولا ولاء ولا شيء آخر، فهيا نطبق إن شاء الله. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت.
إنكار الله تعالى على المؤمنين تضجرهم مما أصابهم يوم أحد
قال تعالى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] كيف نصاب، وكيف نُقتل، وكيف ننهزم ونحن مؤمنون ونجاهد في سبيل الله، ومعنا رسول الله، فكيف هذا؟! تركهم الله ولم يجبهم عن سؤالهم، وقال لرسوله أجبهم أنت: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، تساءلوا: كيف هذا؟ كيف ننهزم، كيف نقتل، كيف وكيف، ونحن المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمر تعاليه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم، فقال له: قُلْ [آل عمران:165] أي: يا رسولنا، (هو) أي: الذي أصابكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، لا من عند الله، كيف من عند أنفسهم؟ هم الذين تركوا أنفسهم للعدو يذبحهم ويقتلهم؟الجواب: لأنكم عصيتم رسول الله، وخرجتم عن طاعته مغترين بإيمانكم وكونكم تجاهدون في سبيل الله، ونسيتم أن لله سنناً لا تتبدل، الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم لما أعد عدته وصفف رجاله، ووضع الرماة على جبل الرماة نصح لهم: ( لا تنزلوا من على الجبل )، ترون منا ما ترون من نصر أو هزيمة، لكن الشيطان زين لهم، وأن المشركين انهزموا ونساؤهم هاربات في الأودية، والمجاهدون يغنمون: انزلوا، فنزلوا، فخلا جبل الرماة، فاحتله قائد المشركين خالد بن الوليد ، وصب عليهم البلاء، ووقعوا بين فكي مقراض، السهام من هنا والسيوف من هنا، فكانت الهزيمة.إذاً: قل لهم يا رسولنا: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، والمسلمون اليوم لماذا لا يفكرون بهذا التفكير؟ هل الذي أصاب المسلمين من الفرقة والضعف والعجز كان نتيجة ذنوبهم أو كان قدراً مقدوراً؟الجواب: بذنوبهم، فما أطاعوا الله ورسوله، وهم متعرضون لبلاء لا يعلمه إلا الله، إلا أن يتداركهم الله بتوبة عاجلة، والتوبة في هذه الأيام أيسر ما تكون، فقد تقارب الزمان والمكان ويستطيع العالم الإسلامي أن يعقد مؤتمراً في المدينة في أقل من عشر ساعات، أما الزمان الأول كيف يأتي الولاة من أقصى الشرق والغرب؟ فقد كانوا يحتاجون إلى ستة أشهر، وكانوا يجتمعون مرة في الحج، فالآن الكلمة واحدة، إذا قال إمام المسلمين: الله أكبر، سمعها النساء والرجال في الشرق والغرب.والشاهد عندنا: يا عباد الله! يا إماء الله! احذروا الذنوب والمعاصي فإنها تجلب الخزي والعار، وتجلب الذل والدمار، وتجلب الفقر والبلاء، فلا يكفي أن تقولوا: يكفي أننا مؤمنون. فلا أنتم بأفضل من أصحاب رسول الله.قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، أي: على فعل كل شيء يريد قدير، ومن فعله أنه ربط الأسباب بمسبباتها، فلما رفضتم هذا السبب وألغيتموه أصابكم الذي أصابكم.
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ...)
وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166]، يذكرهم.. الجمعان: هو جمع الكفر وجمع الإيمان، فالتقى الجمعان في سفح جبل أحد، جمع المؤمنين وجمع المشركين، المؤمنون قائدهم رسول الله، والمشركون قائدهم أبو سفيان .وما أصابكم يوم التقى الجمعان من الجراحات والقتل والهروب فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166]، فما تم بغير إرادة الله وتعليمه وإذنه تم وفق سنن الله عز وجل. قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]، فهذا علم ظهور، أما علم الغيب فهو قد كتبه وعلمه قبل أن يخلق الكون، لكن ليظهر ذلك للعيان؛ ليعلم المؤمنين بحق وصدق، (ويعلم) أيضاً الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وأبطنوا الكفر في قلوبهم، وهم جماعة ابن أبي ، وقد عادوا من الطريق وهم ثلاثمائة، فلولا هذه الحرب كيف يعرف المنافقون من المؤمنين؟ فالمؤمنون قبل الفتنة أيضاً لا علم بحالهم، فلو يبتلينا الله ببلية لا قدر الله، يظهر المؤمن الصادق من غير المؤمن الصادق، لكن أراد الله تطهير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوا رسالة الحق إلى العالم أجمع، أما نحن فلا وزن لنا ولا قيمة.
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ...)
قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] أي: ادفعوا المعرة عن أزواجكم وأولادكم وأموالكم، والقائل هو عبد الله بن حرام شهيد أحد والد جابر بن عبد الله ، فلما أدبر المنافقون عائدين على رأس ابن أبي قال لهم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]، وإن لم تقاتلوا في سبيل الله لنفاق أو لمرض قلوبكم ادفعوا عن أنفسكم وعن أولادكم وأزواجكم هذا الجيش العرمرم. فإذا انهزم المؤمنون في أحد فسوف يدخل المشركين المدينة ويفعلون الأعاجيب. فهذه كلمة حكيم، ولهذا دونها الله وسجلها، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.قال تعالى: أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، فهذه كلمة رئيس المنافقين ومن معه، وهذا المنطق يوجد في كل زمان ومكان: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، لكن ليس هناك قتالاً، فلستم أهلاً لأن تقاتلوا.قلنا لكم: ابقوا في المدينة وقاتلوا فيها، وأبيتم وخرجتم تريدون القتال لن تستطيعوا، العدو أكثر منكم ولا تقاتلوا، فلهذا لا نخرج نحن، نعود.لكن لو كان مؤمناً يقول هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم!قال تعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] أي: يقع بالفعل لخرجنا، ولكن ليس هناك قتالاً.قال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله! القائلون هذا القول وعلى رأسهم ابن أبي : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله!قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون ويجحدون، يظنون أن الله غير مطلع على قلوبهم، فيتبجحون بالكلام الفارغ، والله مطلع على ما في القلوب.
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ...)
قال تعالى في بيان حال المنافقين: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168]، قالوا لإخوانهم: لا تخرجوا، اتركوه يموت هو وأصحابه، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فهذا الكلام في ديارهم وفي مجالسهم في المدينة وفي يوم المعركة، فلان وفلان مات، قلنا له: ما تخرج، لا تقاتل، فأبى إلا أن يقاتل، إذاً فمات. لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].فالله تعالى يقول لرسوله قل لهم -لا يرد الله عليهم هو وما هم أهل لذلك-: قُلْ [آل عمران:168] يا رسولنا: فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت لو كنتم صادقين، لكنهم كاذبون.فهذا المستوى الهابط سببه ضعف الإيمان وظلمة النفاق التي تغطي على القلب وتغطي على الحواس -نعوذ بالله من النفاق-، وهذا درس عجيب يقرأ على أهل المدينة، صالحيهم وفاسديهم، ويخلد هذا الذكر إلى يوم القيامة.

يتبع

ابوالوليد المسلم 19-12-2020 04:53 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نسمع بعد أن علمنا الآن.قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] مصيبة عظيمة في الحقيقة قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] كيف؟ قتلوا سبعين وأسروا سبعين في بدر، منذ سنتين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: كيف نصاب وكيف وكيف؟ الله ما يرد عليهم، قال لرسوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] الذي أصابكم من الخزي والانكسار والقتل من أنفسكم، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166] أين التقى الجمعان؟ في أحد؟ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] أولاً: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]؛ ليكشف الستار عن الغموض والخفايا؛ لأنه يربي أولياءه.قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] أي: لخرجنا معكم إلى المعركة في أحد، لكن ما نعلم أن هناك قتالاً، فهم يكذبون، وإلا عزم الرسول وتصميمه لا يمكن أن يخرج ويعود ولا يقاتل، لكن النفاق والمرض: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167] سبحان الله! وهذا كائن بين الناس، يتكلم بلسانه ويقول وفي قلبه غير الذي يقول، وكل إنسان يستطيع هذا، فالذين قالوا: لا نقاتل في هذا الوقت هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان.قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] أي: قالوا لإخوانهم في النفاق، (وقعدوا)، ما خرجوا، ماذا قال لهم؟ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، هذا الكلام تم في بيوتهم، وهم يتعشون ويتغدون، لو أطعنا فلان وفلان ما يقتل، لكن ما أطاعنا، خرج منا ومشى مع هذا الرجل.إذاً: قال تعالى لرسوله: قل لهم: ادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، هل يستطيعون؟ إذا دقت الساعة وحل الأجل، في من يمنع الموت؟ مستحيل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد.ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة، ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟فقال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] بأحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] ببدر؛ لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً]، وبينت لكم أن الأسير في حكم الميت، الآسر إن شاء قتل من أسره.قال: [وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]؛ وذلك بمعصيتكم لرسول الله؛ حيث خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال]، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153].[وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] إشعار إعلام بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه، هذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]، يخبر تعالى المؤمنين: أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة، وأنهم صادقون في إيمانهم؛ ولذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]؛ علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور، هذا أولاً.وثانياً: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة والرابعة: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ].فـعبد الله بن حرام والد جابر -هذا كم يوم أو سنة؟- جاء السيل في وادي أحد فجرفه فوجدوه ودمه يسيل كأنه الآن استشهد، الله أكبر، هذا عبد الله بن حرام .قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] ].يتهمون الرسول بأنه ما يقاتل! تعلموا ما تسمعون من إخوانكم من عبارات من هذا النوع، هذا النوع الآن عام في البشرية، إلا من رحم الله، كيف تتم هذه الرحمة؟ تتم للذين تربوا في حجور الصالحين، لازموا بيوت الله في الليل والنهار، يتلقون الكتاب والحكمة، أما هذا الجهل العام لا ينتج عنه إلا الأباطيل والتراهات والأقاويل، وحسبكم أن تسمعوا إذاعات العالم، وتقرءوا صحف الدنيا.ماذا تسمعون؟! مجالسنا هذا كذا، هذا كذا، هذا به كذا، لو قال كذا، لا إله إلا الله! ولا لوم.قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء وطمع ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا في صفوفنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167].فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ]، في ذاك الموقف لما قالوا هذه الكلمة هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان، إذ لا يقول هذا إلا من هو كالكافر.قال: [ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون حتى من أنفسهم، يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد، وقالوا لإخوانهم في النفاق لا في القرابة والنسب وهم في مجالسهم الخاصة، قالوا: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قائلاً: فَادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168] إذا حضر أجلكم: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا].سبحان الله العظيم! ما يرد الله على الهابطين، يوكل الرسول قل لهم، ما هم أهل لأن يعلمهم الله، لكن لو كانوا مع أولياء الله، الله يتولاهم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: المصائب ثمرة الذنوب ]. ما من عبد أو أمة يذنب ذنباً إلا وسوف يلقى ثمرة، سواء ألم في نفسه أو مرض في جسمه، حاجة تصيبه، فهذه سنة الله عز وجل، فالرجل في المجلس يصفع أخاه صفعة ادفع وينظر، وتحصل الثمرة اللذيذة على الفور، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].كان الصالحون في الزمان الأول يقول أحدهم: إذا عثرت دابتي التي أركبها، أعرف أن هناك ذنباً فأبحث ماذا فعلت، وفيم قصرت؟ فلابد من ذنب، فأبحث وأفكر فأجد الذنب، ما الذنب هذا؟ ما يؤخذ به المرء ويعاقب، مأخوذ من ذنب الفرس، من ذنب الحمار، إذا هرب أمامك حمار من أين تأخذه، من ذنبه أو لا؟ والذنب ما يؤاخذ به المرء، فالذنوب هي معصية الله والرسول، فإذا أمرك سيدك ولويت رأسك وما فعلت أذنبت فانتظر الجزاء، وإذا نهاك سيدك أن لا تقل أو لا تفعل فأبيت إلا أن تقول أو تفعل أذنبت أيضاً، فانتظر الجزاء.. وهكذا.وفي الحديث: ( ما من مصيبة إلا بذنب )، فنستدل على هذه القاعدة بغزوة أحد، رجال ربانيون مؤمنون، على رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي و.. و.. ، يصابون بكارثة وهزيمة ما شاهدوها، رسولهم يشج رأسه، وتكسر رباعيته، والدماء تسيل؛ بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن هنا: لِم استعمر العالم الإسلامي وأذل وأهين؟ لمعصيتهم.لماذا ذل المؤمنون في فلسطين، وهزموا أمام حفنة من اليهود؟ بمعاصيهم.لماذا المؤمنون في البوسنة والهرسك وغيرها يذوقون أشد العذاب وآلامه وأفظع الفظائع؟ فذنوبنا سببت لهم ذلك، وذنوبهم قبل ذنوبنا، ما ننسى هذه القاعدة ونقول: ما هي صحيحة، المصائب ثمرة الذنوب، فالذنب كالشجرة تغرسها ولابد وأن تأكل ثمرتها، إلا أن تعاجل بالتوبة قبل أن تنبت الشجرة لا تسقها بذنب آخر.[ ثانياً قال: كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله ]، لا يوجد حدث في الكون، ولو اقتلاع شجرة أو قطع أصبع، أو صفعة إنسان في خده، لا يوجد حادث في العالم إلا وقد سبق علم الله به، وهو الذي قدره، وهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر. فالمؤمنون بالقضاء والقدر حقاً هم الذين لا يحجمون ولا يجبنون ولا يتخلفون لعملهم أن ما كتبه الله سوف يكون، والذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، أو آمنوا به وهم لا يعرفونه هم الذين يجبنون، فلا يستطيع أن يتصدق مخافة الفقر، ولا يستطيع أن يجاهد مخافة الموت، ولا يستطيع أن يقول كلمة حق خشية أن يصفع، ونسي أن ما كتبه الله سوف يكون.واستغل هذا أعداء الإسلام من غلاة اليهودية والنصرانية، وقالوا: مسلمون أخرهم إيمانهم بالقضاء القدر، وتبجحوا بها وكتبوا، فالإيمان بالقضاء والقدر هو الذي يكسب أهله الشجاعة والإقدام؛ لعلمهم أنه إن كتب الله موته الآن سوف يموت، لِم يتأخر إذاً عن المعركة وخوضها؟ فكل الأحداث التي تتم في العالم بكامله سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه، وقد بينا أن الذي يوسوس له الشيطان في قضية القضاء والقدر وما يعرف، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كان الله ولم يكن شيء قبله، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، فكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن )، فكل ما كان ويكون قد سبق أن كتب، ووالله لن يتأخر أبداً، ولن يتقدم، ولن يتأخر لا في الصفة ولا في الجسم، ولا في الكمية، ولا في.. فيقع كما هو.بيانها: قلنا لهم: إن المهندس المعماري يجلس على كرسيه، والطاولة بين يديه، وتقول له: أريد إن شاء فلة أو عمارة كذا، فيرسمها لك على ورقة، نوافذها لا تتغير، المفاتيح.. أسلاك الكهرباء.. كل ما فيها بين يديك في ورقة، فإن كنت قادراً على تنفيذ ذلك، يتم ذلك الذي كتبه في الورقة كما هو في الورقة.إذاً -ولله المثل الأعلى- فالله لما أراد أن يخلق الخلق كتب ما أراده على تلك الورقة ذلكم اللوح المحفوظ، ذلكم كتاب المقادير...في البقيع قالوا: إذاً ما فائدة العمل؟ قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، إن خلقك الله للجنة فسوف يوجد في نفسك الرغبة في طلبها والسعي للحصول عليها، وييسر لك أمر طلبها والحصول عليها.لطيفة! ورد: ( من سره -أي: أفرحه وأثلج صدره- أن ينسأ في أجله ويوسع في رزقه فليصل رحمه ).الجاهل والغافل يقول: كيف ينتقض ما كتب الله وقدر؟والجواب: معشر المستمعين والمستمعات! لما أراد أن يكتب كتب أن عمرك يا عبد الله سبعون سنة، ولكن سوف تبر بوالديك، وتصل أرحامك فزيدوه عشرين سنة وخلوها تسعين. يكتب هكذا: رزقك كان خمسين قنطاراً بيض، خمسين قنطار لحم، خمسين قنطار فول أو بصل، مدة العمر، وسوف يبر هذا بوالديه ويصل رحمه خلوها سبعين.. سبعين.. وهكذا.( من سره أن ينسأ له في أجله ويوسع له في رزقه، فليصل رحمه )، فإذا رأيتك تواصل الصلة علمت أنك زيد في عمرك وزيد في رزقك.قال: [ كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه ].ولطيفة أخرى.. والله لولا هذا النظام العجيب ما تبقى الحياة سنة واحدة، ويرتطم بعضها ببعض، لكن بدقة التنظيم ماضية.. آلاف السنين.فلو جمعت البشرية كلها كل إنسان له صورته الخاصة به وميزة يتميز بها، فأي علم أعظم من هذا، وأي حكمة أكثر؟ [ ثالثاً: قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر ]، من أين أخذنا هذا؟ قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة الكفر، وهذا دل عليه قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، لما قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، ففي هذه الحال هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.إذاً: قد يقول المرء كلمة يصبح فيها أقرب -والله- إلى الكفر منه إلى الإيمان، وهذا مشاهد. [رابعاً: الحذر لا يدفع القدر]؛ لقوله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، حذرتم أن لا تموتوا؟ والله تموتوا، ولكن كما تقدم أن الحذر لابد منه، أمر الله به، احذر عبد الله واستعمل سنن الله، واعلم أن ما قدره الله سوف يكون، فترتاح نفسك وتطيب، وتقدم ولا تحرج، ولا تخاف ولا تجبن.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

ابوالوليد المسلم 05-01-2021 05:51 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (70)
الحلقة (211)

تفسير سورة آل عمران (73)


يبشر الله سبحانه وتعالى رسوله ومن معه من المؤمنين بجزاء من قتل في سبيل الله في أحد وغيرها، وأنهم شهداء، والشهيد حي عند ربه يتنعم بطيب الرزق ولذيذ العيش، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة، ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش، وهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بأنهم إن لحقوا بهم فلن يخافوا ولن يحزنوا، لما ينتظرهم من النعيم والكرامة عند رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ...)
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله على إنعامه، والحمد لله على إفضاله.اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وهانحن مع هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا نتغنى بهذه الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة اعتقدناها، وما كان واجباً عزمنا على النهوض به، وما كان محرماً عزمنا على تركه والبعد عنه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان خلقاً تخلقنا به، وهذه حصيلة الدرس وفائدة كتاب الله.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].هذا الخطاب معاشر المستمعين والمستمعات! وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، قائل هذا الكلام الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، ورزقنا، ووهبنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا، وخلق كل شيء في دنيانا من أجلنا، فكيف لا نعرفه وكيف لا نحمده ولا نشكره؟!فالحمد لله على أننا عرفناه وآمنا به، وهانحن نسمع كلامه عز وجل ونتدبره، وبلايين من الإنس والجن ما آمنوا به ولا سمعوا كلامه، ولا عرفوا مراده عز وجل من خلق البشر وحياتهم، فأولئك هم شر الخليقة.فالمخلوقات من الكلاب والقردة والحيات والثعابين خيرٌ من الذين كفروا بالله ولقائه؛ لقوله تعالى في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، (البريئة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: شر الخليقة. فلو أن إنسان مريضاً في بيتك وكاد أن يموت ثم داويته وشفي، وتطعمه وتسقيه، وتكلأه وتخدمه، وتضع بين يديه كلما يحتاج إليه وهو لا يملك شيئاً، ثم لا يعترف بوجودك ولا يذكرك بخير، ولا يطيع لك أمراً، فستنظر إليه على أنه أشر من الخنازير، ولا تود أن تنظر إليه ولا تسمعه أبداً.والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين الذين خلقهم الله ورزقهم وخلق الحياة من أجلهم، ثم يكفرون به ولا يذكرونه، ولا يحبونه ولا يطيعون له أمراً، وهؤلاء هم شر الخليقة، والذي ينكر هذا فلا عقل له.وهذا بيان الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6] أي: كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله ورسوله، وكفروا بالله وكتابه، فهؤلاء مصيرهم: فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ [البينة:6] البعداء هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية، والبريئة بمعنى واحد، فشر الخليقة الكافر بالله واليوم الآخر، فكيف تحبه؟ إذاً: الله جل جلاله وليسمح لنا أن نتكلم عنه، فلسنا أهل لأن نتكلم عن الله، فلولا منته وإحسانه ورحمته بنا ما ذكرنا حتى اسمه.بينا هذه القضية والغافلون غافلون، فقد عرفنا عجائز.. عجوز تكره أخرى لا تسمح لها أن تذكر اسمها، فإذا أبغض شخصاً شخصٌ آخر يقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكر اسمي أنت، والله عز وجل أذن لنا في ذكره، فاذكروا الله ذكراً كثيراً، ونتحدث عنه، قال وأمر وأوجد، ونحن لا شيء، فجبريل عليه السلام رسول الوحي له ستمائة جناح، لما تجلى في الأفق سده، والرسول صلى الله عليه وسلم يشاهد.فهناك الملك الذي أخذ سدوم وعمورة من الأرض وقلبها وهي مدن، ونحن لا شيء، ومع هذا نعص الله ونكفر به والعياذ بالله! يقول تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وأمة الرسول تابعة له، فيا أيها المؤمن! لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، فليسوا بأموات، وحرام أن تقول: أموات، فقد جاء في سورة البقرة قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، قل: شهيد ولا تقل: ميت.
السبيل الموصل إلى الله
وهذه الآية آخر ما نزل في حادثة أحد، فلما استشهد من استشهد وهم سبعون، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، قال تعالى لرسوله ولأصحابه المؤمنين: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فالبحث هنا: ما هي سبيل الله التي ماتوا فيها؟ وما الطريق الذي يوصل إلى رضا الله فماتوا فيه؟الجواب: أنهم قاتلوا المشركين من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل أن تسود شريعته، ويعلو سلطانه وينفذ حكمه، ومن أجل إصلاح البشرية وإسعادها، لا أن الله في حاجة إلى هذا، (في سبيل الله) الطريق الموصل إلى رضا الله، ومن رضيه الله أدخله الجنة وأسكنه بجواره.هنا نتكلم بكلمة سياسية -والجمع كثير-، وبعض الإخوان قالوا: لا. فالسياسة المحرمة هي القول الذي يسبب أذى إمام المسلمين، أو يسبب سقوط حكومته، أو يسبب إثارة فتنة بين مواطنيه أو محكوميه وهذا المحرم الممنوع، فالسياسية الممنوعة المحرمة هي التي تؤدي إلى إثارة فتنة ضد إمام المسلمين، أو ضد أمته ومن يسود من القوم، أو توجد بلاء ومرض وسوء، هذا حرام أن يقوله المؤمن، لا في المسجد ولا في بيته ولا حتى في الحمام.والآن والحمد لله أكثر من أربعين سنة ونحن نقول: اسمع يا عبد الله! الكلمة التي لا تستطيع أن تقولها في المسجد لا تقولها في البيت، والتي لا تقولها في البيت لا تقولها في غير البيت، ومعنى هذا: أننا نتكلم بما فيه رضا الله، وما كان فيه سخط وغضب الله لا ننطق به، ولو كنا مع أنفسنا وليس عندنا أحد.والمنطلق الذي انطلقنا منه هو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، أستاذ الحكمة ومعلمها: ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فكلمة (سوء) تحدث المساءة في نفس إنسان فقط وليس في أمة، فحرام أن تقال؛ لأنه محرم علينا الأذى، فلا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بنظرة شزراً، ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )، وهانحن نرى كيف تنهش الأعراض والسب والتعيير والشتم، وكيف.. وكيف..، وسببه: ما عرفوا، وما علموا، وما تربوا في حجور الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون بدون ما تربية؟!أقول للجماعات الثائرة في البلاد الإسلامية التي تطالب بالحكم والجهاد: إياهم أن يفهموا أن ثورة على حاكم تتسبب في القتل والدماء أنه جهاد في سبيل الله، فهذا -والله- ما هو بجهاد في سبيل الله، فالجهاد عند أهل العلم هو القتال بين المسلمين والكافرين.فلا يفهم أن الجهاد يتم بين فئتين من المسلمين، فالجهاد الذي هو سبيل الله يتم بين المسلمين والكافرين، إما المسلمون يدعون الكافرين لإنقاذهم وإسعادهم، وإما الكافرون اعتدوا وظلموا وأرادوا تمزيق المسلمين وإسقاط وجودهم، وبدون هذا المفهوم فلا جهاد في سبيل الله.فلا يكون جهاد في سبيل الله إلا إذا كان تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لإنقاذ البشرية من الكفر والضلال وما يسببه الهمج من الشر والخبث والفساد، أي: من أجل أن يعبد الله عز وجل، وهذا جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة عشر سنوات ضد الكفار، فجهاد أصحابه صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من الجزيرة بعدما فتحت، وارتفعت راية لا إله إلا الله، قاتلوا الكفار والمشركين من المجوس.فالذين يموتون في المعركة الدائرة بين المسلمين والكفار فهؤلاء يسمون بالشهداء، ولا يقال عنهم: موتى، ولا أموات، ويدفنون في ثيابهم، ولا يغسلون ولا يصلى عليهم، ومن جرح في المعركة وما مات فيها يجري عليه ما يجري على باقي المسلمين، لكن الذين يسقطون في الميدان، أولاً: يجب أن تقول شهداء، وحرام أن تحسبهم أمواتاً، بل هم أحياء، ولا يغسلون ولا يكفنون، ويدفنون بثيابهم ودمائهم، فهؤلاء المجاهدون هم الذين سقطوا في معركة دائرة بين المسلمين وبين الكافرين، ما عدا ذلك لا يوجد شيء اسمه جهاد في سبيل الله.فعلْموا الذين يطالبون بالحكم والحاكمية وهم يورطون أنفسهم ويورطون المسلمين، بأن هذا المسلك باطل وحرام، وإن أرادوا الفوز بالجهاد فليبايعوا إماماً في إقليم ما ويرفع راية لا إله إلا الله، ويقيم دين الله، وإن شئتم زوروا بلاده، تتجلى أنوار الإسلام والإيمان، العدل والإخاء، والمودة والحب والولاء، والطهر والصفاء، فهذا الإمام إذا حمل الراية وقال: نزحف إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، فإذا تجاوزناها نزحف إلى بلغاريا.. وهكذا، فليس من جهاد في الإسلام إلا هذا.ومن تململ وقال: كيف نُحكم بغير الشريعة؟ نقول له: هل هناك حاكماً ألزمك بأن تسب الله والرسول، فهل ستسبه؟ وهل هناك حاكماً قال لك: لو أراك تصلي لذبحتك؟أو لو رآك صائماً لسقاك السم حتى تفطر.. وإذا وجدك في بيتك أخرجك أنت وامرأتك، اخرجا لا نرى الإسلام ولا الحجاب، فهل حصل هذا؟! إذاً: فأين يجب الجهاد؟!فكيف تريدون الجهاد وأخلاق الأمة هابطة، فهناك التلصص والخيانة والكذب، والزنا الفجور، والربا والسفور، وأنتم تفكرون بالجهاد! وفي قدرتكم أن تطهروا وتعالجوا وتصححوا، فمثلاً: تأتي إلى أخيك وتضمه إلى صدرك وتقول له: أسألك بالله! ألا تقول هذه الكلمة مرة وأنت مسلم، أسألك بالله! ألا تقف غداً هذا الموقف في معصية كهذه، وهذا هو الطريق حتى نكون على علم.قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، فسبيل الله هو الطريق الموصلة إلى رضا الله، والطريق الموصلة إلى رضا الله هو أن يعبد الله بما شرع، إذ هذه العبادة سرها تزكية النفس وتطهيرها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت لا يليق به العالم السفلي، ولكن العالم العلوي وهو الجنة دار السلام.

يتبع

ابوالوليد المسلم 05-01-2021 05:51 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
فضل الشهداء
قال تعالى: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] أي: يأكلون ويشربون. فقد روى أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ) وورد: ( في حواصل طير خضر ) والحواصل: الجيوب جمع حصيلة أو حوصلة. ( ترد أنهار الجنة -أي: لتشرب- وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل: وَلا تَحْسَبَنَّ ... [آل عمران:169] الآية ).فالشهداء في أحد لما وجدوا الحياة السعيدة والطعام والشراب والأنوار والنعيم، قالوا: آه! من يبلغ عنا إخواننا في الدنيا أننا ما متنا، إننا أحياء نرزق في هذا النعيم المقيم، فقال الله: أنا أبلغ إخوانكم، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].قال: [مما ورد في فضل الشهداء: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين]، فهل الشهداء هم الذين سقطوا في مصر أو في الجزائر أو في العراق أو في الشام الذين يطالبون بالحاكمية؟! فالشهيد من وقع في معركة دائرة بين المسلمين والكافرين فقط، أما بين المسلمين فيما بينهم، فهذه الفتن وهذا البغي والعدوان والظلم والشر والفساد؛ نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه.فالشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فأيما حق لإنسان عليك إن سقطت شهيداً فإنه لا يغفر لك، يطالب صاحبه يوم القيامة ويأخذ من حسناتك أو يضع من سيئاته عليك، فالدين يضاف إليه كل حق من حقوق المسلمين، فمثلاً: هذا صفعته، وهذا أخذت ماله، وهذا شتمته، فهذه الحقوق لا تغفر؛ لأن هؤلاء أولياء الله فكيف يتنازل الله عن أذى أوليائه وأنت واحد منهم؟ فلا بد وأن يأخذ كل ذي حق حقه، أما الذنوب دون الدين والحقوق ممحوة من أول دفعة.قال: [روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة )] من دمه يخرج. ثانياً: [ ( ويرى مقعده من الجنة ) ] بمجرد ما تخرج روحه يشاهد مقعده من الجنة في قبره.ثالثاً: [ ( يجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر -يوم القيامة-، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه )]، فالذين ماتوا في فلسطين وفي كذا وكذا لا يأخذون شيئاً من هذا. فالآن إخواننا أيضاً ينتحرون، يلبس أحدهم حزام من متفجرات ويموت في سبيل الله!! فهل هذا سبيل الله؟! فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو أن يعبد الرحمن وحده ولا يعبد سواه، وأن تسود شريعته بين عباده لتزكو البشرية وتطيب وتطهر.فما زلت إلى الآن والله! أطالب إخواننا الفلسطينيين.. بما أن العرب تخلوا عنهم والمسلمون، لو بايعوا إماماً لهم صالحاً وانحازوا إلى مكان ما وأخذوا يتجمعون ويعبدون الله ويتربون على حب الله وطاعته عاماً بعد عام، وإذا بهم أولياء الله، لا غش ولا حسد، ولا كبر ولا جهل، ولا شرك ولا ظلم، ولا باطل، سبع سنين أصبحوا أولياء الله، وحملوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله من أجل أن يعبد الله وحده، وأن يتابع رسول الله وحده دون سواه، وقالوا: الله أكبر، والله! لهرب اليهود وشردوا، يحولهم الله إلى بهائم ويعبدون الله عز وجل، وستتسع دائرة البلاد وينشرون الهدى والرحمة والخير، وجهاد متواصل لإدخال البشرية في رحمة الله. وهذا هو الجهاد. فلو قال قائل: يا شيخ! بالغت، ما ندري كيف نفهم هذا؟ نقول له: انظر إلى الشاشة أمامك تشاهد، كم إقليم استقل لنا ومات فيه رجالنا ونساؤنا؟! نيف وأربعون من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلو كانوا -كما نعلم الآن- وعرفوا الله وأرادوا أن يعبد، فلما تستقل البلاد تلوح أنوار الهداية الإلهية في البلاد، تقام الصلاة، تجبى الزكاة، يؤمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يطبق شرع الله كما هو، لكن لما ما أرادوا هذا، أرادوا السلطة والحكم والمال فقط، والله ما أقيمت الصلاة في بلد، فهل هذا جهاد؟ وما هي ثماره ونتائجه؟ فهل عُبِدَ الله؟ الجواب: لا، فقد عدنا من حيث بدأنا، فلا بد للجهاد من أن يكون من أجل أن يعبد الله وحده.إذاً قال: [الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين ألا يغسل ولا يصلى عليه؛ لحديث البخاري : ( وادفنوهم بدمائهم ) يعني شهداء أحد ولم يغسلهم، والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم -تأتي- يوم القيامة - أزكى من الطيب وأطيب من ريح المسك-].إذاً: قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فهذا إخبار الله عن شهداء أحد لما دخلوا الجنة وقالوا: ( آه! من يخبر عنا إخواننا بأننا في هذا النعيم المقيم حتى يواصلوا الجهاد والصبر ولا يكلوا ولا يملوا ولا يكبحوا جماح القتال، قال تعالى: أنا أبلغ إخوانكم )، واستجاب وفعل، وهذا هو البلاغ.
تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله...)
قال تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ [آل عمران:170]، آه! لو يلحق بنا أبناؤنا وإخواننا من المؤمنين، بمعنى: يصبروا على جهاد الكفار حتى يستشهدوا ويلحقوا بنا.قال: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170] إي نعم.
تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل...)
قال تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ [آل عمران:171] مرة ثانية بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:171] فأي نعمة أعظم من رضاه والجنة وما فيها؟ وأي فضل أعظم من ذاك النعيم المقيم؟أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنان وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، وهكذا إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة والأجساد نبتت كالبقل في الأرض واكتمل الجسد ترسل الأرواح وتنزل، وكل روح لا تخطئ جسدها، وينفخ إسرافيل وإذا هم قيام ينظرون. وهنا يروي مالك بشرى وهي: ( أن نسمة المؤمن ) غير المجاهد..، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -والموطأ قبل البخاري ومسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، كيف لا وهو يروي عن أولاد الصحابة-: ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة ) أرواحنا أيها المؤمنون! لما تتم محنة القبر وفتنته ترفع إلى دار السلام وتبقى هناك في الجنة، تعلق في طير من الطيور يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.إذاً: أرواح الشهداء أجل وأعظم من أرواحنا، وأرواحنا أيها المؤمنون نعم في هذه القناديل في شكل الطير وترعى وتعلق في أشجار الجنة، وتبقى هكذا حتى يبعثنا الله، أي: الأبدان، وتنزل الأرواح فتدخل في أجسادها.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما نسمة المؤمن ) فالنسمة هي الروح، ولهذا إذا قال المؤذن: الصلاة على رجل وما عرفت هل الميت رجل أو امرأة، فماذا تقول؟ الجواب: تقول: اللهم إنها نسمتك بنت نسمتك، أنت خلقتها وأنت رزقتها.. إلى آخره، لا تسأل: هل هي ذكر أو أنثى، يكفي أن تقول: إنها نسمتك، ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة يأكل منه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثون )، متى البعث هذا؟ لما تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على النهاية.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ [آل عمران:169] أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها.إن الشهداء جميعاً مستبشرون، فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم، وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ] الحمد لله أننا معهم.وأخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( ما من عبد يسأل الله الشهادة في سبيل الله في صدق إلا وألحقه الله بالشهداء أو أنزله منازل الشهداء ولو مات على فراشه ).وأخرى: عمر بن الخطاب في الروضة في الحجرة، فوالله! إنه بها، فـعمر رضي الله عنه يدعو بدعوة تعجبت منها بنته حفصة أم المؤمنين بعد وفاة الرسول، يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب حفصة كيف يتم هذا؟ فحدود الجهاد في الأفغان، وفي الهند، وفي الأندلس، وكيف تكون الشهادة في المدينة والموت في المدينة؟! فليس معقول يا أبتاه! يقول لها: اسكتي، ما ذلك على الله بعزيز، فيسأل في صدق أن يموت في سبيل الله وفي المدينة أيضاً، عجب هذا السؤال، واستجاب الرحمن الرحيم، فقد طعن عمر في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه. إذاً: قتله كافر بين المسلمين والكافرين؛ لأن أبو لؤلؤة يمثل حزب وطني ظاهر يريد أن يسحق الإسلام وأهله، فتنقل وبيع وجاء عبد وهو يحمل هذه المهمة، ومات عمر في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )، ومعنى هذا أننا نتكلف ونعمل على أن نتحمل حتى نموت بالمدينة.والذي يريد أن يموت في المدينة فهل يغني فيها ويزمر؟ ويجلس أمام التلفاز والعواهر يرقصن أمامه وأمام بناته وامرأته، ويبيع الحشيش، ويبيع ملابس السوء، يغتاب وينمم، ويأكل الربا ويفجر، فهل هذا له رغبة في المدينة؟ فهذا المدينة تنفيه، ( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) فيا من لا تستطيع أن تطيب وتطهر في المدينة ارحل، امش إلى ينبع أو إلى جدة، فهذه مكان القدس والطهر، لا تستطيع أن تبقى هنا.اللهم اكتب لنا ولهم موتاً في سبيلك وفي مدينة رسولك.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابوالوليد المسلم 05-01-2021 05:52 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (71)
الحلقة (212)

تفسير سورة آل عمران (74)


بعد أن تمت أحداث أحد أخذ المسلمون الصابرون يلملمون جراحهم، وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن المشركين عزموا على العودة للحاق بالمسلمين واستئصالهم، فما زاده صلوات الله وسلامه عليه ومن معه إلا إيماناً وتوكلاً على الله العزيز الحكيم، ثم نادى النبي في أصحابه للخروج لملاقاة المشركين، ولا يخرج معه إلا من خرج أول اليوم، فلما بلغ ذلك أبا سفيان ومن معه دب الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وآثروا السلامة والاكتفاء بما حققوه، والعودة إلى مكة، وكفى الله المؤمنين لقاءهم.
تفسير قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، مع هذه الآيات المباركات. تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].معاشر المستمعين والمستمعات! هذا خبر من أخبار الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، فالذين استجابوا لله والرسول -نسأل الله تعالى أن نكون منهم- هم كل من امتثل أوامر الله ففعلها واجتنب نواهي الله فتركها، وامتثل أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلها، واجتنب نواهي الرسول فتركها إلا ويدخل في هذه البشرى العظيمة، إلا أن هذه الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا وقعة أحد، وهذه الاستجابة علمنا أن معركة أحد كانت يوم السبت وما كان المساء إلا ودخل الناس بيوتهم في مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن الغد صباح الأحد يؤذن المؤذن: أنْ الجهاد.. الخروج إلى قتال أبي سفيان وجيشه، فإنهم قد عزموا العودة على قتالنا، والناس مثخنون بالجراحات، أتعاب لا تقادر، آلام لا تقدر، وما إن أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج المؤمنون ومنهم الجرحى، ومنهم كبار السن ومنهم ومنهم، إلا أن اثنين من بني الأشهل أخوان جريحان يحمل أحدهما الآخر فترة، ثم ينزله ويماشيه ويحمله وكذا إلى حمراء الأسد. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمران:172] أي: أجابوا الأمر الذي طلب منهم، وهو الخروج إلى ملاحقة أبي سفيان وقتاله مع جيشه. مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] والقَرح والقُرح: الجراحات وآلامها، والكروب والأحزان ومضارها على النفس. ‏
فضل الإحسان والتقوى
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ألا وهو الجنة دار السلام، لا أجر أعظم منها، وفي نفس الوقت: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [آل عمران:172] منا أيضاً، أحسنوا عبادة الله، فأدوها على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثَمَّ زكت نفوسهم وطيبت أرواحهم، أحسنوا في سلوكهم الخاص والعام، أحسنوا إلى إخوانهم ولم يسيئوا إليهم، فلفظ الإحسان عام وهو كما علمنا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ثلث الإسلام، إذ الإسلام: الإسلام والإيمان والإحسان.وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) أي: تعتقد أنه يراك، ومعنى هذا: أن العبد إذا أخذ يتوضأ أو يغتسل، أو أخذ يصلي، أو أخذ يطوف ويسعى، أو أخذ يعبد الله ويتلو كتابه، ويذكر ربه، ويعبده وكأنه يرى الله، فإن عجز عن هذا المقام السامي فليعلم نفسه أن الله مطلع عليه وأنه يراه، وفي هذه الحال ثقوا بأنه يحسن العبادة، ويتقنها، ويجودها، ويأتي بها على أفضل وجوهها ومن ثَمَّ تكون النتيجة زكاة الروح وطهارتها.
تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ...)

فضل أصحاب رسول الله على غيرهم
ثم قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، إذ بعث أبو سفيان رجالاً وواعدهم بأن يعطيهم قناطير الزبيب على أن يأتوا إلى معسكر رسول الله ويكونوا كالطابور الخامس وينفثوا وينفخوا الهزيمة، فـأبو سفيان قد عزم على عودته إليكم وقد تأسف كيف يقاتلكم ويرجع ولم يثنيكم ولم يقتلكم، وهو برجاله في طريقه إليكم؟ أشيعت هذه في صفوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبو سفيان من عبد قيس من نفث هذه الروح الخبيثة. كيف كان موقف أصحاب رسول الله؟ كما قال الله تعالى عنهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] جمعوا رجالهم وقواتهم. لَكُمْ [آل عمران:173] أي: لتدميركم وقتالكم. فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] أي: ارهبوهم وخافوهم وانهزموا حتى لا تقتلوا. ما موقفهم؟ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] هذا الطابور الخامس بدل ما يشتت كلمتهم وصفوفهم وينهاروا ازدادوا إيماناً بأن الله معهم، وأنهم أولياؤه وهو وليهم، وأنه هازم أعدائه ومكسر قواتهم فقوي إيمانهم أكثر مما كان.
فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، (حسبنا الله ونعم الوكيل) فهذه الكلمة قالها إبراهيم الخليل عليه السلام عندما وضع في المنجنيق ودفع به إلى أتون الجحيم، قبل أن يصل عرض له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. أول من قالها في البشرية قالها إبراهيم، أما إليك فلا حاجة لي إليك، حسبي الله ونعم الوكيل.والمتصوفة الهابطون والضلال قالوا: إبراهيم قال: حالي يغني عن سؤالي، يعني ما نسأل الله، هو أعرف بي، وانتشرت هذه الكلمة الهابطة فكممت المؤمنين من الدعاء، بمعنى: لا تدعوا ربكم، والدعاء هو الدين، و( الدعاء هو العبادة )، من ترك دعاء الله كفر، مات، والله عز وجل يبتليك ليسمع دعاءك، فإذا قلت: ما أدعو لأنه يعرف حالي، كيف أدعوه؟ فهذه كلمة وضعها الشيطان، ونشرها الجهال تحت عنوان التصوف وعلم التصوف. أما إبراهيم فقد قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وبلغتنا هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أول كلمة قالها إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل )، وما إن قالها إبراهيم حتى صدر أمر الله السامي إلى النار المتأججة الملتهبة، فقال: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] قبل أن يصل إليها؛ لأن المسافة بعيدة، أججوا النار من أربعين يوماً، فما يستطيعون أن يأخذوا بيد إبراهيم ويدفعونه إليها، جعلوه في منجنيق من مسافة بعيدة، وهو في الطريق قال تعالى يخاطب ناره وهو خالقها ومالك أمرها: يَا نَارُ [الأنبياء:69] قالت: لبيك رب لبيك. كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، لو لم يقل تعالى: (وسلاماً) لمات إبراهيم من البرد، برد لا تتصور ثلج ولا غير ثلج، لكن قوله تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] والله ما أتت ولا أحرقت منه إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، وخرج وجبينه تتصفد عرقاً، وودع، وقال: إني مهاجر إلى ربي سيهدين. فهذه الكلمة قالها إبراهيم وقالها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوها أنتم: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يوكل إليه أمورنا ونتركها له هو الذي يحفظها، هو الذي يقوم بها؛ لأنه الولي الحميد.حسبنا: يكفينا الله كل ما يهمنا، ونعم الوكيل: نطرح أمورنا إليه ونوكله بها، الحمد لله.
تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء ...)
وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] (انقلبوا) هنا رجعوا، مشوا ووصلوا حمراء الأسد يومين ثلاثة ما جاء العدو قالوا: رحل، هرب أبو سفيان ورجاله، انقلبوا إلى المدينة راجعين. فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] مصحوبين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174] لا تقادر هذه النعمة ولا هذا الفضل. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] لا في أبدانهم ولا في مالهم ولا في دينهم ولا في أعراضهم، عادوا بخير وعافية، كلمة سوء نكرة لتعم كل ما يسيء. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] فأين الطابور الخامس الذي هدد؟ قال: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] اتبعوا ما يرضي الله وأطاعوا الله ورسوله، فكل طاعة لله والرسول هي طلب لرضا الله عز وجل، فكل من عصى الله والرسول طلب سخط الله -والعياذ بالله- واتبعه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...)
ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] فالشيطان يخوفكم بأوليائه، والشيطان إن كان جنياً من عالم الجن هو يوسوس للإنسان ويهزمه ويخوفه، وإن كان إنساناً فبالكلام كذاك الذي بعث به أبو سفيان . يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] أي: الشيطان يخوف أولياءه الكافرين والمشركين. فالشيطان أولياءه الكافرون ويخوف من أوليائه الكافرين، أبو سفيان وجيشه كفار، بعثوا هذا نعيم بن مسعود ، هذه القضية فيها كلام، بعثوا به ليقول لهم: إن أبا سفيان قد عزم العودة إليكم وقرر الرجوع إلى قتالكم، إذاً: الشيطان من الإنس خوف المؤمنين أولياءه أيضاً من الإنس وهم أبو سفيان ورجاله. (إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه) حذف الضمير. فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فبالفعل ما خافوا أبا سفيان ولا جيشه، بل خافوا الله عز وجل فلزموا طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. نعيد تلاوة الآيات بعد هذا التبيين: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:172-174] أي: رجعوا من حمراء الأسد، بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، أي: اتبعوا رضوان الله في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

يتبع

ابوالوليد المسلم 05-01-2021 05:53 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، وما لابسها من أمور وأحوال، والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت، وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد، وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلُموا وهزموا يوم السبت بأحد] ومعنى (كلموا): جرحوا.[ وأن يرهب أعداءه، فأمر مؤذناً يؤذن -بأعلى صوته- بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أستاذ الحكمة ومعلمها، يتلقى معارفه من رب العالمين، ونحن مأمورون بالاقتداء به والائتساء، والله لو ائتسينا به ما ذللنا.قال: [ فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره، فإذا تعب وضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد]، وحمراء الأسد تقع وراء أبيار علي، والرجلان هم من بني الأشهل وما في ذلك شك.قال: [ وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي ] وخزاعة حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ إن معبداً الخزاعي مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ] أبو سفيان سأل: كيف عسكر محمد؟ [ فأخبره أنه خرج في طلبكم، وخرج معه جيش كبير، وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك - أبا سفيان - أن ترحل. قال: فهرب برجاله ] هذا الطابور النافع، وهذا تسخير الله عز وجل [ فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة، ثم عادوا لم يمسسهم سوء، وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] يريد في أحد، واستجابوا: لبوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان . لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا ] فـ(ألو) بناتنا وأطفالنا يعرفونها، أما (ألا) لا يعرفونها؛ لأنهم ما يسمعون (ألا)، فلنصلح أحوال بيوتنا ونربي أولادنا وبناتنا على: (ألا فعلت كذا)، (ألا سمعت الله يقول كذا)؟ [ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا وهو الجنة ] جعلنا الله من أهلها [ الآية الثانية: هي قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بـأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره، فقال له أبو سفيان : أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم، وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان ، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه زادهم إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يكفينا ما أهمنا ونفوض أمرنا إلى الله. قوله: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] أي: رجعوا من حمراء الأسد؛ لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر. وَفَضْلٍ [آل عمران:174] حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] أي: أذى. وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله، وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه.وقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174] وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل على الآية الرابعة. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من الزبيب إن هو خوف المؤمنين منه، فبعثه كأنه طابور يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فنزلت الآية: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:175] الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه. فَلا تَخَافُوهُمْ [آل عمران:175] فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى، فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا؛ لأنهم المؤمنون بحق رضي الله عنهم أجمعين].
هداية الآيات
كثيراً ما نعيد القول: كل آية تحمل هداية لمن آمن بها وفهمها وعزم على أن يعمل بما فيها، والله! لتهديه إلى ما فيه خيره وسعادته وكماله، يعني: أبسط ما يقول: ما من عبد يقرؤها إلا ويعطى على كل حرف عشر حسنات، بكل يسر وسهولة، والآية تهدي إلى صراط الله المستقيم، وتهدي إلى أن يعبد الله تعالى وحده بما شرع لعباده وبتلك العبادة يسعد العابدون ويكملون وينجون في الدنيا والآخرة، فآي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تهدي.وهناك لطيفة: فالآية في لسان العرب: العلامة. فمثلاً إذا قلنا: يا عدنان! أين ولدك عبد العزيز؟ قال: في المنزل. قلت: ما آية ذلك؟ أي: ما علامة أنه في المنزل؟ فيقول: كذا وكذا. فالآية بمعنى العلامة.فكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه الآية أنزلها الله سبحانه وتعالى، فطأطأت الدنيا رأسها وسلمت بأن هذا القرآن أنزله الله عز وجل. إذاً: فالله موجود، عليم، حكيم، رحيم، أمر ألا يعبد إلا هو وأخبر ألا يوجد إله سواه، فكل آية دالة على أنه لا إله إلا الله، والذي نزلت عليه من بين الناس من دون العالم بأسره مستحيل أن لا يكون رسول الله.إذاً كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علامة على ذلك.قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير]، فضل الإحسان والتقوى، فقد قرنهما الله عز وجل مع بعضهما البعض، والإحسان أن نتقن العبادة ونحسنها حتى تزكى أنفسنا، وأن نحسن في كل عمل نقوم به، حتى الخياط يجب أن يحسن خياطته، وحتى الطاهي للطعام يجب أن يحسن طهيه، وحتى مقلم أظفاره يجب أن يحسن قلمه.فالإحسان فريضة، ومن هنا رقى العالم الإسلامي وبلغ عنان السماء وهبطت البشرية كلها من باب الإحسان، ففي الجهاد، وفي الرباط، وفي القول، وفي القضاء، وفي الحكم، وفي العمل، وفي الفلاحة، وفي الزراعة، وفي السفر، وفي كل شيء، فتفوقت أمة الإسلام ثلاثة قرون، عرف العدو هذا فأهبطها بالكذبة. فمثلاً: عند الخياط تشتري ثوب خياطة سوق، يأتي المشتري ويقال له: هذه خياطة سوق، ويبيع له الثوب بعشرين ريال، والخياط يخيط بعشرين ريال فقط، فقيمة الخياطة عشرين والكتان مجاناً، يعني: أنه يعبث بالخياطة ويغش فيها حتى يلبسها الرجل يومين أو ثلاثة وتتمزق، وهذا لا يجوز وحرام عليه، ويجب أن يحسن هذه الخياطة حتى ولو باع الثوب ليهودي أو نصراني، وكذلك يجب الإحسان حتى في بناء العمارات وفي إصلاح السيارات، وحتى في كتاب الجوابات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فسبب هبوطنا هو الجهل، أبعدونا أعدائنا عن نور الله فعشنا في الظلام أكثر من ألف سنة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.قال: [فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير].فالتقوى حال تتقي بها غضب الله وسخطه وعذابه بأن تطيعه ولا تعصيه، فغضب الله يجلب العذاب والشقاء، فكل من أطاع الله ورسوله فيما يأمران به من أمور واجبة، وينهيان عنه من منهيات محرمة قد جعل بينها وبين غضب الله وقاية أفضل من وقاية الأسوار، فهذه إذاً هي التقوى.والتقوى أيضاً هي الخطوة الثانية في تحقيق ولاية الرحمن، يا من يرغب أن يصبح ولياً لله أفضل من عبد القادر والعيدروس ! آمن حق الإيمان واتقي الله وأنت ولي الرحمن؛ لقوله تعالى في بيان الأولياء: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].[ ثانياً: فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم ]؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ... [آل عمران:172] الآية.[ ثالثاً: فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ] فهذه أربع كلمات، لكن يجوز إطلاق الكلمة على قصيدة كاملة. (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالها إبراهيم من قبل، فصلى الله عليهما وسلم أجمعين. ونحن نقولها، فكل من أصابته مصيبة أو ارتبك في شيء يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، يفوض أمره إلى الله عز وجل، ويوكل الأمر إليه، والله لن يخيبه.قال: [رابعاً: بيان أن الشيطان -عليه لعائن الرحمن- يخوف المؤمنين من أوليائه ]، فلو عزم العرب على أن يضربوا اليهود -هذا من باب المستحيل- لكن من باب الفرض والتقدير أن العرب تحركوا قالوا: إلى متى ونحن أذلاء لليهود؟ والله ليأتي الشيطان بأوليائه من الشرق والغرب ويأخذون في تخويفهم، أنتم كذا، هؤلاء يملكون الهيدروجين، يملكون الذرة، وراءهم أمريكا والعالم حتى يهزمهم، فلو حصل هذا لخوف الشيطان العرب أولياءه من الكفار، انتبهوا ترموا أنفسكم في جحيم؛ لأن الشيطان ماكر، وما زال يخوف أولياءه، أي: يخوف المؤمنين من أوليائه الكافرين الفاسقين حتى لا يقاتلوهم.[ بيان أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه -إذاً- فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم ]، فلو خافوا ربهم ما عصوه، ما عطلوا شرعه، وما أوقفوا شرائعه وعطلوها، فأين الخوف من الله؟ قال: [ فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم ] إي والله! فمن يوقظ المؤمنين ويحرك ضمائرهم، ومن يجمعهم على كلمة الحق؟!جاءني طلاب من الإمارات مساء اليوم وقالوا: ما تقول يا شيخ؟ فهذا يقول سيد قطب كذا، وهذا يقول كذا؟ قلت: هذا نسميه بأعراض المرض، فالإنسان إذا مرض يظهر المرض في جسمه إما اصفرار في عينيه أو عجز عن النطق، أو فيه ضعف عن الحركة والمشي يدل على مرض، أمة الإسلام مريضة، فلهذا هي دويلات وأحزاب ومنظمات وجماعات تتطاحن فيما بينها البين، في حين أنهم أمة الإسلام فقط، فالمسلم يجب أن يقول: أنا مسلم فقط، لا مالكي ولا زيدي ولا حنفي ولا.. ولا عربي ولا..، لكن مسلم، مرني بأمر الله أطيعه، انهني بنهي الله أنتهي، وقد سبقت طرق صوفية، فالقرية الواحدة فيها عشر طرق، فهذا يقول: أنت من إخوان سيدي فلان، وأنت من إخوان سيدي فلان، فإلى الله الشكوى.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

ابوالوليد المسلم 05-01-2021 05:53 AM

رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
 
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (72)
الحلقة (213)

تفسير سورة آل عمران (75)


ما حدث يوم أحد من إصابة المؤمنين كشف عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار له، فحصل من ذلك ألم شديد للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، فخاطبهم الله عز وجل بألا يحزنوا لمسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر؛ لأنهم بهذا لا يضرون الله عز وجل ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم بانكشاف حالهم في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً ...)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فالحمد لله على إفضاله وإنعامه.ها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث المباركات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:176-178].معاشر المستمعين والمستمعات! هذه أخبار الله عز وجل وأخباره لا تحتمل إلا الصدق.قال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176] فالمخبر هو الله، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلا يَحْزُنْكَ) قراءة سبعية، وقرأ ورش عن نافع : (يُحزنك) بضم الياء من أحزنه يحزنه، وفي كل القرآن اللهم إلا في آية واحدة قرأها كقراءة الجمهور: (يَحزنك) وهي قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103]، وقرأ في كل القرآن: (يُحزِنك) بدل (يَحزُنك) وهما فعلان أحزنه وحزنه يحزنه، والحزن ألم نفسي، وغم يصيب النفس البشرية؛ لرؤية أو سماع المرء ما يسوءه ويكرهه. فإذا رأى الإنسان ما يكره وما يسوء أصابه الحزن، هم وغم باطن، سمع خبراً فيه إساءة حزن له وأحزنه.وهنا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه يسلي نبيه صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه آلامه، وأصحاب الرسول هم أتباع له في ذلك، ونحن أيضاً وكل مؤمن نستفيد من هذا. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] وهم من المشركين كـأبي سفيان وجيشه، ومن المنافقين كـابن أبي ابن سلول وجماعته، وكاليهود المتواجدون في المدينة، الكل يسارعون في الكفر. أي: يا رسولنا! لا يحزنك هذا ولا تكرب ولا تغتم ولا تحزن؛ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: لا يضروا الله لا في ذاته، ولا في علمه، ولا في حكمته، ولا في ملكوته، ولا في خلقه، أنى لهم أن يضروا الله؟ فلو يكفرون في كل يوم سبعين مرة ما يضر الله ذلك شيئاً، فمن هنا لا تحزن يا رسولنا ولا تكرب، وأنتم أيها المؤمنون لا يضركم كفر الكافرين ولا مسارعتهم إلى الكفر ولا دعواهم إليه؛ لأنهم لن يضروا الله شيئاً، ولو كفرت البشرية كلها فلن يتأذى الله بذلك. فقد كان ولم يكن شيء معه.وهذا يتسلى به من يكرب ويحزن لما يشاهد الكفر وأهله، ويشاهد الناس يسارعون إلى الكفر، ويجرون وراء الكافرين، ويدعون إلى الكفر، ويهيئون الناس لذلك؛ أهل الإيمان كرسول الله وأصحابه نعم يحزنون، فالله عز وجل يسري عنهم ويخفف وينفس، فيخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ويقول: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] ويعلل لذلك بقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: من الضر، ومع هذا: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [آل عمران:176] أي: عرف الله إصرارهم على الكفر، وعرف أزلاً وقديماً أنهم لا يريدون إلا الكفر.فمن هنا يريد الله ألا يجعل لهم نصيباً -وإن قل- في الآخرة، أي: يريد الله أن يحرمهم من نعيم دار السلام، فلهذا تركهم على كفرهم يسارعون فيه، ويدعون إليه في الليل والنهار ويقاتلون من أجله، فيريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الدار الآخرة، وحظ الآخرة هو الجنة دار النعيم، والآخرة يوم تنطوي هذه السماوات والأرضون ويتجلى عالمان آخران علوي وهو الجنة دار السلام، وسفلي وهو النار دار البوار، فإذا الله تعالى لم يرد أن يجعل لهم حظاً في الآخرة، أي: من نعيمها أصبحوا من أهل الجحيم والبوار في النار، وبعد: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]؛ لأنهم كفروا ويسارعون بين الناس إلى إشاعة الكفر والدعوة إليه، كـابن أبي واليهود والمشركين.فالله تبارك وتعالى يخفف عن نفس رسول الله، وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]، فلا يقادر قدره. ‏
صور من عذاب الجحيم
ومن صور العذاب العظيم ما يلحق أبا جهل يوم القيامة، فقد كان يجلس في بيته ويوضع بين يديه الزبدة البيضاء وهي زبدة الغنم، وعجوة المدينة وهي من أغلى أنواع التمور، فيأخذ يأكل ويقول لأولاده وفيهم عكرمة رضي الله عنه: تعالوا نتزقم، فهذا الزقوم الذي يهددنا به محمد ويخوفنا، فنزل فيه قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:40-44] أي: المغموس في الآثام من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، لم يقل: آثم، وإنما قال: أثيم. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46]، المهل: وهو الزيت العكر الذي يغلي في آخر القدر. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47]، أي: الزبانية. وفي قراءة نافع (خذوه فاعتُلوه) بالضم. والعتل هو الدفع بقوة. إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] أي: إلى وسط الجحيم. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:48-49] أي: زيدوه عذاباً معنوياً ونفسياً، والعذاب المعنوي أشد ألماً على الكفار من العذاب المادي البدني. إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50]، أي: تشكون وتضطربون. وهذه صورة من صور العذاب العظيم، فقد كان عرض أبي جهل في النار مائة وخمسة وثلاثين كيلو؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، والمسافة ما بين مكة وقديد مائة وخمسة وثلاثين كيلو، فهذا العرض، وأما طوله، فإن ضرس أبي جهل في النار كجبل أحد؛ ( إن ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وهذا يتلاءم مع عرضه المائة والخمسة والثلاثين كيلو.وأما العذاب المعنوي، فقد كان أبو جهل يتبجح في مكة ويقول: أنا العزيز الكريم، فقالوها له -أي: الزبانية-: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]؛ ليحرقوا قلبه، فقد كان يتطاول ويتكبر في الدنيا.إذاً: عذاب عظيم يصبون فوق رءوس الكفار الحميم فيصهر به ما في بطونهم.قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، أي: كلما نضجت الجلود تأتي بعدها جلود أخرى، لا فناء ولا موت -نعوذ بالله من عذاب النار-، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في أمته ويقول لهم: ( تعوذوا من عذاب القبر وعذاب النار ).

يتبع


الساعة الآن : 01:25 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 603.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 601.30 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.29%)]