خطبة الجليس الصالح
الحمد لله رب المشارق والمغارب خلق الإنسان من طين لازب.ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب خلق منهُ زوجهُ وجعل منهما الأبناء والأقارب تلطف به فنوع له المطاعم والمشارب.وحمله في البر على الدواب وفى البحر على القوارب.نحمده حمد الطامع في المزيد والطالب ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر العواقب وندعوه دعاء المستغفر الوجِل التائب.أن يحفظنا من كل شرِ حاضر أو غائب. ونشهد أن لا إله إلا الله القوى الغالب.شهادة متيقن أن الوحدانية لله أمر لازم وواجب.سبحانك يا رب.أرأيت الأرض في دورانها كيف تمسكت بكل ثابت وسائب أرأيت الشموس في أفلاكها.كيف تعلقت بنجم ثاقب. أرأيت الأرزاق كيف دُبرت وهل في الطيور زارعُ أو كاسب. سبحانك يا رب أرأيت النمل كيف خَزَنَ طعامه وهل للنمل كاتب أو حاسب أرأيت الفَرخ كيف نَقر بيضه.وخرج في الوقت المناسب أرأيت الوليد كيف التقم ثدي الأُمِ دون علم سابقِ أو تجارب. إذا رأيت ذلك كله فاخشع فلا نجاة لهارب فسبحانك يا رب المشارق والمغارب.ونشهدُ أن بينا محمدًا عبد الله ورسول الملك الواهب ما من عاقل إلا وعلم أن الإيمان به حقُ واجب...في دبر هذا الزمان في أمس الحاجة إلى الأصحاب والإخوان والخلان الذين بلينا بكثرتهم،وامتحنا بقلة النافع منهم،نحن بأمس الحاجة في هذا الزمان إلى تحقيق العلاقات،وتمحيص الصداقات،وتدقيق المودات،كل واحد منا لو أمسك أوراقاً،وليست ورقة ليعد كم من الأصدقاء عرفهم،وكم من الخلان اتصل بهم، لوجد أنه عرف الكثير الكثير منهم،ولكن إذا اشتدت الأمور،واستحكمت الأزمات،لن يجد إلا ما هو أقل من عدد أصابع يد واحدة يستطيع أن يفزع إليهم بعد الله ويثق في نخوتهم،ويوقن بنجدتهم،بل وهو مطمئنٌ أن يفشي سره عندهم،وأن يفضي بحاجته إليهم،أولئك نزر قليلٌ من الإخوان والخلان والأصدقاء، ومن أجل ذلك كان واجباً أن نختار الأصدقاء، وأن نحدد العلاقات.يقول النبيالمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل وقوله هذا معيارٌ دقيقٌ في تعديد شخصية المرء بمعرفة جليسه، فأنت تستطيع أن تحكم على هذا الرجل، أو ذاك الرجل، تستطيع أن تحكم عليه بالشجاعة،أو القوة، أو الأمانة، أو الديانة والاستقامة إذا عرفت من هم جلساؤه و أصدقاؤه وخلطاؤه، لأن الإنسان على دين وملة وطريقة خليله، فلينظر أحدكم من يخالل كي لا ينسب لنفسه ديناً وملةً خبيثةً وسمعةً سيئةً، والعياذ بالله. وإذا جئنا لنتأمل الحديث وهو قوله تشبيهاً للجليس الصالح بحامل المسلك، فحامل المسك إما أن يحذيك، أو يطيبك، أو يهديك نصيحةأو يعرفك بعيب من عيوبك،أو يعلمك أمراً تجهله،أو يرشدك في أمر قد ضل عنك، أو يحذرك من أمر كدت أن تقع فيه، وإما أن تبتاع منه، والمبايعة بما جيء بها في المثل إشارة إلى ما يتعلق بالمعاطاة من الأخلاق، وأنه تمنحه وداً صادقاً،وهو يعطيك علماً نافعاً،أنت تمنحه ثقةً طيبةً، وهو يمنحك أخلاقاً رفيعةً عاليةً،وإما أن تجد منه ريحاً طيبةً، فالجليس الصالح لولم يكن لك منه إلا ريحه، ذكره، سمعته بين الناس، لقيل حسبك بفلان أنه من مجالسي أئمة المساجد حسبكم بفلان أنه من الذين يجالسون أهل الإيمان والذين يحرصون على حلقات الذكر في المساجد وما جالسه إلا لطيبه.إذاً هذه هي الرائحة الطيبة التي تنتقل إليك بمجالسة الجلساء الطيبين.أما الجليس السوء، فهو الذي يحرق ثيابك، يحرق سمعتك، ويخبث ذكرك بين الناس، لا سيما إذا رؤي معك على صورة مريبة، أو حالةٍ تدعو إلى العجب والدهشة، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة، وهذه الريح هي ما لا يسلم منه الإنسان، لأن هذه الريح بمثابة غبار دخاني ينطلق بأجواء السماء، فلا يلبث أن يصل إلى جوفك، فتستنشقه وأنت لا تدري، وأعني بهذه الريح في المثال هي ريح اكتساب الطباع الخبيثة والأخلاق السيئة، ومن هنا قال جملة من علماء الأخلاق والسلوك المرء من جليسه، والطبع استراقالطبع استراق الإنسان يسرق الطباع وهو لا يشعر،وإن الإنسان يكون في أخطر مراحل سرقة الطبع إذا كان في مراحل صغره، وفي مراحل بداية نموه، ومن هنا نلاحظ أن الأطفال الصغار جداً يسرقون طباع والديهم،ونلاحظ أن من كبر قليلاً يسرق طباع المدرسين، ونلاحظ أن من كبر أيضاً يسترق وهو لا يدري طباع أهل حيه وجيرانه،وطباع الذين يعيشون من حولهوأذكر لكم قصةً تدلل على أن الإنسان يتأثر وهو لا يشعر،قيل لأحد الوزراء،وكان حاجباً وجليساً عند ملك من الملوك أن يحضر ليتسلم هديةً أهديت إلى الملك، فجاء الوزير واستلم الهدية،ما هي؟ حصان، فأخذ هذه الهدية،ودخل بها في إسطبل الملك،ثم جاء مع الملك،وأخذ يتأمل هذا الحصان فترةً بعد أخرى، فقال له الملك ما تقول في هذا الحصان؟، قال هذا حصان جيد،ومن سلالة عريقة،لكن هذا الحصان قد ربي مع بقر،فعجب الملك من ذلك عجباً شديداً وسكت. وبعد مدة أهدي إلى الملك صقر-طير من الطيور طير جارح- فدعا وزيره، وقال تعال -أيها الوزير- وانظر إلى ما أهدي إلينا اليوم، فتأمله مراراً مرةً بعد أخرى، فقال هذا طير جيد، لكنه قد ربي مع دجاج، فعجب الملك من ذلك عجباً شديداً، ثم سأل كيف تقول إن الحصان الذي أهدي إليَّ قد تربى مع البقر؟ وكيف تقول: إن هذا الصقر قد تربى مع الدجاج؟ قال إني تأملت هذا الحصان فوجدته ينظف نفسه بلسانه،ولا ينظف نفسه بلسانه إلا البقر، أنتم تلاحظون البقرة، هي التي تتنظف بهذه الطريقة، فكون هذا الحصان قد تربى في حظيرة مع جملة من الأبقار،ولو كان حصاناً،فإنه سرق طباعها،وهو أعجميٌ بهيم لا عقل له،فما بالكم بالإنسان وهو يملك السمع والبصر والفؤاد، ألا يتأثر ممن حوله؟ إذا كانت هذه البهيمة تأثرت، وهي لا عقل لها ولا لب، فإن الإنسان يتأثر وهو لا يشعر. قال حسناً هذا الحصان عرفنا شأنه، فما بال هذا الطير؟، قال إني تأملت هذا الصقر الذي أهدي إليك، فنظرته مطأطئ الرأس ومنقاره إلى الأرض يلتقط الحب كما تلتقط الدجاج الحب، وهذه خصلة لا توجد إلا في الدجاج، أما الصقور،فهي لا تنظر إلى الأرض أبداً، بل دائماً تحلق بأبصارها إلى السماء، فإذا رأت فريسةً، انقضت عليها في علوها،ثم نزلت بها إلى الأرض،وما تعودت الصقور أن تأكل مما في الأرض، فهذا الصقر حينما تربى في صغره مع الدجاج، اكتسب طباع الدجاج، وهو أنه يأكل من الحب.أقول هذه القصة لإخواني الشباب ولأبنائي الصغار لكي يعرفوا كيف يتأثر الإنسان وهو لا يدري،إذا كان الحصان والصقر قد تأثروهو ليس له عقلٌ وفؤادٌ وقلبٌ يتأمل ويبصر به ويعقل به، فما بالكم بالإنسان لا شك أنه سوف يتأثر. إذاً فعلينا أن ننتبه فيمن نخالطهم،وأن ندقق فيمن نجالسهم حتى لا نقع فريسةً لتصرفاتهم وسلوكهم وعادتهم السيئة والخبيثة. أنتم تلاحظون الذين يجالسون العلماء، يحبون أن يلبسوا مثل لباسهم،يحبون أن يتهيئوا بمثل هيئاتهم،والذين يجالسون الفساق يحبون أن يقلدوهم في تكسرهم،أو في عباراتهم،أو في أسلوب حياتهم،أو في طريقة معاملاتهم،إذاً فالإنسان يسرق الطباع وهو لا يدري،الإنسان يسترق الأخلاق سيئها وخبيثها وعنيدها وطيبها وهو لا يدري كلٌ بحسب جليسه. إذاً -أيها الإخوة- ينبغي أن ننتبه لهذا الأمر انتباهاً مهماً.
|