المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هذه عطاءات البلد الحرام : فماذا أعطيناه ؟


قرنفل
03-12-2008, 04:43 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
--------------------------
في خضمّ أحداث الحياة، وصخب الحضارة، وازدحام المشاغل، وهموم المعاش، وأكدار الدنيا من الأمراض والأتعاب وأنواع الابتلاءات هناك لحظات في حياة المسلم تسمو على ذلك كُلّه، ترتاح فيها نفُسه من أنواع الهموم والغموم، بل تصفو من آثارها، وتعلو عليها، وتحلّقُ إلى السماء، في خطاب ربّ السماء - سبحانه -؛ إنها اللحظات التي يتوجّه فيها المسلم في كل بقاع الأرض إلى البلد الحرام لأداء الصلاة خمس مَرّات في اليوم والليلة.
شاء الله - تعالى -أن يجعل التوجُّه إليه والخضوع له واللجوء إلى جنابه منوطاً بالتوجُّه إلى البلد الحرام، في الصلاة والدعاء (إذ من مُستحبّات الدعاءِ وأسباب الإجابة التوجُّهُ إلى القبلة)، وفي الحج ومناسكه، وفي كل ساعات القُرب ومجالس الشَرفِ على مَدى الحياة، بل إلى ما بعد الممات، عندما يُوّجَّهُ المسلمون في قبورهم إلى القبلة كل ذلك والمسلمون متعلّقةٌ قلوبهم بالبلد الحرام!!
- فإلى جهته: يُوحَّدُ الله - تعالى -.
- وإلى جهته: تُنْصَبُ القامات، وتذلُّ الأنوف الشامخات، وتسجد الجبهات، في الصلوات والدعوات وصنوف القُربات.
- وإلى جهته: يرفع المسلمون حاجاتهم، وتضرُّعَ دعواتهم، إلى ربهم، الذي أحبّ أن يجعل البلد الحرام جهةَ التوجُّهِ إليه.
عندها..تتحقّق الحاجات، وتنزل الرحمات، وتُحيط بالمسلم الألطاف، وتحفُّه الملائكة الأشراف.
وعندها.. يرضى الرحمن، ونتحبّبُ إلى ربّنا المنّان، وتعلو منازلنا في الجنان، ونفوز بالنجاة من النيران.
هذه العطاءات كلّها (وهي كل العطاءات، فبها تتحقّق سعادة الدنيا والآخرة) قدّرها الله - تعالى -بالتوجُّه إلى البلد الحرام!!
فلا عجب بعد ذلك أن تُصبح القلوبُ به متعلّقةً، والأفئدةُ له هاويةً، والوجوهُ إليه متوجهةً!
ولا عجب بعد ذلك أن لا يُذكر البَلَدُ الحرام في كل بقاع الأرض إلا رفرفرت قلوبُ المسلمين شوقاً إليه، وذرفت عيونهم صادق العبرات في انتظار لحظات اكتحالها برؤياه، والتنعُّم بقُرْبه والتقلُّبِ في أكنافه والبكاءِ على أعتابه والدعاءِ عند بابه.
لا عجب.. لأن بلداً ذاك هو عطاؤه بتقدير الله - تعالى - ، حتى كان لقاءُ المسلم بربّه لا يصحّ في صلاته إلا بالتوجُّه إليه سَتُطْبَعُ القلوب على محبّته، فتجري الدماءُ على ذكراه، وتذوب المشاعر على أمل لُقْياه.
فإذا حّرَك الحنينُ أقدامَ المحبّين، وانسابت خُطاهم كما تنساب حبّات الماء إلى مستقرّها، واتّبعوا نداء أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - "وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً"، ذلك النداء الذي يكاد أَصَدَاهُ أن تسمعه الآذان، بعد أن سمعتّه القلوبُ الحنيفيّةُ المسلمةُ: ملة أبينا إبراهيم - عليه السلام -(1) فحرّك فيها ذاك النداءُ المشاعر، وحَرَّق لديها الأشواق، وخرَّقَ عليها حجابَ الصبر دون ساعات اللقاء. فخرجت كالأمّ تسمع أنين رضيعها، لا تلوي على شيء، ولا تفكّر بشيء، إلا أن تلقاه. نعم.. قاصدُ البلد الحرام كالأم في شدة الوَلَهِ وغياب الوعي إلا عن ذلك النداء لرضيعها، لكنه هنا ليس هو الأم التي تعطي بل قاصد البلد الحرام في العطاء هو الابن، وأمُّه هو البلد الحرام! فَحُقَّ لهذه البلدة أن تكون (أمّ القرى)، بل أن تكون (أم القلوب)؛ لأنّها أمّ العطاءات!!!
إبراهيمُ (- عليه السلام -) يؤذّن في الناس بالحجّ من آلاف السنين، فيستقرُّ في قلوب المسلمين ذاك النداء إلى يوم القيامة. يتشوّقون لساعة الإجابة، التي ينادون فيها: لبيك اللهم لبيك!
إنها قصّة حُبّ أزليّة، هي أقدم قصة حب بين إنسان وموضع على وجه الأرض، إنه حُبّ مكّة المكرّمةّّّ!
فإذا اقتربت أقدام المحبين من الأعتاب، وأوشكت قلوبُهم أن تطرق الباب: فلا تسل عن أصوات البكاء من شوق اللقاء!! ولا تسل عن رفرفة الأرواح تكاد تخرج إلى تلك البطاح!!! فالقلوب تكابد الشوق من حين أن سمعت نداء الخليل - عليه السلام - من آلاف السنين، وتُجدِّدُ نارَ هذا الشوق في كل يوم وليلة بذاك التوجّه بالروح والجسد إليه، في أجلّ ساعات وأصفى لحظات وأهنأ أوقات.
فإذا شاء الله - تعالى -للقلوب أن تنعم باللقاء، فدخل الحُجّاج والمعتمرون والعاكفون والطائفون والركّع السجودُ البلدَ الحرام: فيا لله كيف ثبَّتَ اللهُ القلوب؟! فلو كان ما فيها بالجبال لانصدعت، إنه لقاء حُبٍّ قديم متجدِّد وشوقٍ من آلاف السنين!
قِفْ وانظر تلك الوجوه في تلك اللحظة: عبراتٌ مسفوحة، وأفراح تعجز عنها الأرواح، فترى هذا غَشْيانَ، وهذا دهشان لا يدري أهو في أرض أم سماء. وذاك يعانق البيت قبل أن يصل إليه؛ لأن روحه قد سبقته فصوّرته أنه بين يديه. والآخر عاجزٌ عن الحراك أيُّها البيتُ لمّا رآك، يخشى أن يكون ما فيه حُلمٌ سينتهي إن حاول أن يعانقك. وهناك من لا يكاد يرفع بصره إليك، واكتفى بالسجود لله - تعالى -بين يديك، هيبةً وتعظيماً. وأما هذا فلا يدري من أين يبدأ اللقاء، وكيف تكون طقوس الحب والوفاء، يحسب أنه لن تنطفئ أشواقُه إلا أن يموت هناك، وتطويه تلك البقاع في جوفها. وذاك أشرق وَجْهُهُ، ولم تعد تَطْرُفُ عينُه، لمّا اكتحل برؤياك، يخشى من النوم كما يخشى غيره الموت؛ لأنه سيمنعه من النظر إليك، ألا ترى أنه يخرج حين يخرج راجعاً القهقرى إلى ظهره، ودَّ أن يترك بصره عندك، بعد أن ترك قلبه لديك. وآخر استحضر التاريخ، فغلبه تاريخك العظيم، فرضي منه بلحظة واحدة، فتمثّل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي خلف المقام، فكادت روحه أن تزهق لجلال هذا المقام، هُنَا صَلَّى الحبيبُ المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهنا طاف، وهنا ركع وسجد، وهُنا قام ودعا، وهنا بكى وبلّلت دموعه المباركة المكان، وهنا خَطَا، وهنا نام... يا الله! آمنت أن الآجال بيد الله، وإلا لما كان للأرواح أن تصبر بعد هذا كُلّه.
مئاتُ الملايين من البشر حجّت هذا البيت الحرام، كل واحد منهم قد فاض قَلْبُه بجلال هذا الموقف، كل واحد منهم يظن نفسه وحيدَ حُبِّه وفريدَ وَلَهِه؛ لأنه يرى الأرض والسماء قد ضاقت عن مشاعره، فكيف يشاركه غيره من أهل السماء والأرض في تلك المشاعر التي ملأت السماءَ والأرض من القِدَم، فما بقي فيهما لغير مشاعره فيما يحسب- موضعٌ لغير حُبَّه هو وحده. لكن العجيب أن هذه المشاعر نفسها، قد ملأت سماء وأرض مئات ملايين البشر ممّن حجّ هذا البيت الحرام!
مئات الملايين من البشر جاؤوا إلى البلد الحرام، فوسع أفئدتهم كلّهم وضمّها إليه، فلا ضاق عن شوقٍ لقاؤه، ولا عجز عن قديم العهد وفاؤه، ولا تفلَّتَ من بين ملايين القاصدين قلبٌ لم يرُضه بلذاذة الوصال، ولا ادعى أحدٌ منهم أنه قصّر في تحقيق مالهم فيه من مُنْتهى الآمال.
هذه عطاءات البلد الحرام.
ثم بعد أن يظنّ هؤلاء المحبّون أن دهشة اللقاء الأولى قد انقضت (وسيعلمون إذا انتهت مناسكهم وأرادوا الرجوع إلى بلدانهم أنهم ما زالوا في لفيف الدهشة الأولى ما برحوها)، عظّموا الله - تعالى -بالطواف حول البيت، تطوف قلوبهم بأجسادهم لا أجسادُهم بقلوبهم، فالطواف رَمْزُ التبعيّة: من طواف ما حول نواة الذرّة بها، إلى طواف الكواكب حول شمسها، إلى طواف المجموعات في أفلاكها، إلى طواف الملائكة حول عرش ربّها - عز وجل -.
إن إقرار العبد بأنه عَبْدٌ، وفرحه بعبوديّته، وإعلانه الانقياد المطلق لربّه بالطواف حول بيته الذي نصبه رمزاً للتوجُّه إليه يدل على كمال محبّة العبد لربّه. ولا أحبَّ عَبْدٌ من استعبده إلا لكمال في هذا المستعبِد، جعل الاستعبادَ المكروهَ للنفس في العادة محبوباً لها لمّا كانت عبوديّةً لصاحب ذلك الكمال. والكمال المطلق لله - تعالى -وحده، ولذلك وَجَبَ على عبيده أن يفرحوا غاية الفرح بعبوديّتهم لله - تعالى -، وأن يحقّقوا هذه العبودية على أقصى ما يستطيعون.

وممّا زادني شــرفاً وفخـراً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريّا

وقوعي تحت قولك يا عبادي ***وأن صيرت أحمد لي نبـيّا

وهذا ما يشعر به الطائف بالبيت، تراه يطأ أرض المطاف، وهو يَشْعُرُ أنه يطأ النجوم؛ لأنه العَبْدُ التامّ العبوديّة لله العظيم الذي لا إله إلا هو وحده، فهو يحقّق هذه العبودية الشريفةَ الكريمةَ بطوافه.
فأيّ شعور أعظم من هذه الشعور؟! وأي حقيقةٍ غائبة عن الناس أهداهم إيّاها هذا البلد الحرام بالطواف حول الكعبة المشرّفة؟!
هذه عطاءات البلد الحرام.
فإذا أقبل الطائفون إلى الحجر الأسود لتقبيله، وهو من الجنّة، قبّلوا فيه أرضّ موطنهم الأول: الجنّة، التي أخرج الشيطانُ (عدوُّهم الأول) أبويهم منها. وهنا تستعر لواعج الأشواق وتحترق خوالج العُشاق إلى الموطن الأول لهذه البشرية، وهي الجنّة، فتحنّ إليها أشد ما يكون حنين الغريب الطريد من وطنه إليه، إذا ما رأى ما يذكّره به. فحُقّ أن يُقال عند تقبيل الحجر: هُنا تسكب العبرات!! (2).
وهذا الحنين إلى الجنّة، الذي أذكاه تقبيل الحجر الأسود، سيكون دافعاً إلى أن يسعى هذا الغريبُ المطرودُ إلى أن يعود إلى وطنه، بسلوك الجادّة التي وضعها ربُّه إليه، ويحذر سُبُلَ الشيطان عدوّه الأول الذي كان سبب خروجه من الجنة.
وهكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
فإذا ذهب إلى المقام ليصلي خلفه سنة الطواف، ورأى مقام إبراهيم، وهو آيةٌ بيّنةٌ على التوحيد "فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم" لأنه بقيّةُ أبي الأنبياء وباني كعبة التوحيد على وجه الأرض.
كل بقعةٍ في هذا البلد الحرام لها مع التوحيد قصةٌ قديمة وتاريخٌ عريق، حتى ذلك الحجر المسمى بمقام إبراهيم.
إنه بلدُ التوحيد، ولن تجد بلداً أولى بهذا اللقب من مكّة المكرمة، ولن تجد لقباً أولى بها منه. وإلاّ فَأَوْجِدْ لي بلداً له بإمام الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - وبإمام الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - أوثق صلة، كما لمكة!
إنه بلد التوحيد.. منه بدأ التوحيد، ومنه انتشر، وفيه آياته ورموزه.
وإذا قلنا: (التوحيد) فهو أوّل وأعظم عبادة، بل هو الذي لا عبادة إلا به. فلا رضى لربنا - عز وجل - إلا به، ولا نجاة من الخلود في النار إلا بتحقيقه.
وكان هذا (التوحيد) أحدّ عطاءات البلد الحرام... وهكذا تكون عطاءاتُه!
أمّا ماء زمزم فهو خير ماء على وجه الأرض: طعامُ طُعْمٍ، وشفاءُ سُقم.
يُقبل عليه قاصدوه بعد أن أحرقت أجوافهم آهاتُ اللقاء، وسكبوا الدموع في تلك الساحات، فما نضب عطاؤه، ولا نقِص عن رِيٍّ ماؤه. يتضلّعون منه، فهو بركةُ التوكّل، وخفقةُ مَلَكٍ، له من البشر صلةٌ بإحدى أجلّ العبادات، وهي التوكّل، وله من طُهر السماء وبركتها خَفقةٌ من جناح أحد الملائكة. فكان الماءَ المباركَ الذي ما عرفت البشريّةُ أطهر ولا أعظم بركةً ولا أروى منه!!
هل تعرفون ماءً ما اعتاده أحدٌ إلا غصَّ بماءٍ سواه، والله إنه ماء زمزم! اسألوا أهل مكّة ممن اعتاد أن لا يشرب إلا ماء زمزم، هل طاب له ماءٌ سواه بعده، وكأنّ مريئًا أهْنَاه ماءُ زمزم لن يهنأ بغيره، ولو كان ماءً من النيل أو الفرات.
الماء رمـز الطــهارة.. وماء زمـزم أطـهر مــاء
الماء سـَبَبُ الحــياة.. وماء زمزم سببٌ لأطيب حياة: حياة إيمان وعافية
الـماء إنمـا يـروي.. وماء زمزم لا ريَّ كرِيَّه، وهو طعام يُغني عن الطعام.
الماء قد يحمل الـداء.. وماء زمزم شفاءٌ -بإذن الله- من كل داء
الماء شُرْبُهُ عــادة.. وماء زمزم شربه عبادة
الماء نعمةٌ تستوجب الحمد... وماء زمزم قُرْبَةٌ يُجيب لها ربُّنا دعاء العبد: "ماء زمزم لما شُرب له".
الماء لا علامة في شربه على الإيمان.. وماء زمزم علامةٌ للإيمان، وعدم التضلّع منه علامة على النفاق "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من ماء زمزم".
فإذا ما نَعِمَ المشتاقون بوصال البيت المعظَّم، وانطفأت نيرانُ أكبادهم بماء زمزم، وسرت في دمائهم حبّاتُ قطراته، مطهّرةً مجاري الشيطان في عروقهم ببركاته. تكاد ترى قلوبهم قد خالطتها بشاشةُ التوكّل وثقتُه وعزّه المؤمنين به؛ لأنه الاعتماد على خالق الأرض والسماء وربِّ كل شيءٍ ومليكِهِ. وتكاد ترى مسحةَ المَلَكِ في نضارة جلودهم وضياء وجوههم؛ لأنهم قد غسلوا أجوافهم بماءٍ من خفقةٍ بجناح مَلَكٍ كريم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
عندها يحتاجون إلى درسٍ عميقٍ حتى يصحّ منهم التوكُّل على الله - تعالى -، فيخرجون إلى السعي بين الصفا والمروة، رَمْزُ اتّباع الأسباب والأخذ بها، الذي علّمته الأمُّ هاجَر للبشريّة، بعد أن علمتهم التوكّل بقولها لزوجها الخليل - عليه السلام -: "من أمرك أن تضعنا بأرض ليس فيها زرعٌ ولا ضرعٌ ولا أنيس ولا زاد ولا ماء، فقال - عليه السلام -: ربي أمرني، فقالت: فلن يضيّعنا"، نعم لقد قالتها بكل وضوح وسهولة؛ لأنها قالتها بكمال الإيمان وتمام التوكّل: "لن يضيعنا". ومع ذلك خرجت تسعى بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة، وتكرّر السعي بينهما، لترفع مناراً للتوكّل الصحيح، وأنه التوكل الذي لا يُغْفِل الأسباب، بل الذي يبذل الأسباب كلّها، ولا يعجز ولا ييأس من تكرار الأخذ بها حتى ينجحَ، ويحقّقَ الله ُ - تعالى - له المطلوب.
إنه درسٌ عميق للتوكّل الصحيح، ودرسٌ عميقٌ في بيان الصلة بين الدين والدنيا، وشرحٌ عمليٌّ للعبادة بمعناها الكامل الشامل، وبيانٌ واضحٌ لفهم هذه الملّة للعلاقة بين العبد وربّه. لو وَعَتْ أمّتنا هذه الدروس، ولو فقهت الحِكمة التي بذلتها لها هذه الشعائر، لما كانت يوماً إلا الأمّة القائدة الرائدة!
إنه الدرس الذي يُطبّقه القاصدون للصَّفا، والذي لا يخلو في كل خطوةٍ من خطواته من الارتباط الكامل بالرب - سبحانه -؛ ولذلك يتوجّهون إلى البيت كلّما صعدوا الصفا والمروة بالتهليل والتكبير والدعاء. وهُمْ بهذا التوجُّه إلى البيت، وهذا التوجُّه المتكرّر في خضمِّ ذلك السعي المتكرّر، يعلنون استمرار الولاء، وكأنّهم يُقسمون على حفظ العهد الذي بينهم وبين هذا البيت، وأنهم لن ينسوه في خِضِمّ (السعي)، نعم لن ينسوه في خضم حياتهم ولَهَثِم في طلب المعاش، والذي لن تجد أصدق وصفاً عليه من أنه (سَعْىٌ) في طلبه.
إنّ هذا الاستحضار للصلة بين العبد وربّه، التي لا تكون فقط في العبادة المحضة في حياة المسلمين، بل تكون فيها وفي كُلّ لحظات اليوم والنهار، وفي ساعات الانشغال بالدنيا وإعمارها هذا ما ميّزَ المسلمين عن غيرهم: ممّن فصلوا الدين عن الدنيا (كالغرب حاليّاً والأنظمة العلمانية)، وممّن جعلوا الدين بلا دنيا (كالغرب في القرون الوسطى، وكالفكر الصوفي في القرون المتأخّرة في العالم الإسلامي).
إنّ تلك الصلة الدائمة بين المسلم وربِّه، هي التي فسّرت العبادة في الإسلام بذلك التفسير الفذّ، الذي لا يعرفه الناس (كل الناس) إلا في الإسلام. إذ إن العبادة بمعناها الكامل الشامل في الإسلام هي تحقيق السعادة.. نعم.. وأنا أعني ما أقول: العبادة هي تحقيق السعادة؛ لأن الله - تعالى -الذي خلق البشر وركّبهم على ماهم عليه من العقول والرغبات والحاجات الجسديّة والنفسية، قد أنزل لهم دينه الذي لا دين له - تعالى -سواه، وهو دين الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام"، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". والمقصود من الدين أن يكون نظاماً إلهيّاً للبشرية، به تتمّ علاقاتهم على الوجه الأكمل: بينهم وبين ربّهم، وبينهم وبين أبناء جنسهم من البشر، وبينهم وبين المخلوقات جميعاً. وإذا صحّت هذه العلاقة الشاملة، وتنظّمت التنظيم الإلهيّ الدقيق، القائم على العدل والإحسان تحقّقت السعادة للبشريّة في الدنيا، فاستحقّت السعادة الأبديّة في الآخرة؛ لأنّها لم ترفض نعمة ربِّها العظمى، وهي دينّه وشريعتُه (ونظامُه)، ولم تكفرها، بل شكرت وآمنت، واتّبعت ذلك التنظيم الإلهي: الشامل للعبادات المحضَة ولكل شؤون الحياة؛ وبذلك جعل الإسلامُ حياة المسلم كلّها عبادة، وجعل القيام بهذه العبادة تحقيقاً للسعادة في الدنيا والآخرة: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
فما أجلّ هذا الدرس الذي أهداناه البلدُ الحرام، ولم يَرْضَ في توضحيه إلا أن يكون درساً عمليّاً، لنستفيده بكل وضوح!! فهل استفدناه بوضوح؟!
لكن.. هكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
وهذه هي بعض عطاءات البلد الحرام لقاصديه من غير أهله، هذه بعض عطاءاته لهم، وبقي من عطاءاته الجليلة واللطيفة، ما لا يكاد يتسع له كتاب، ولا يطيقه كاتب.
أمّا عطاءاته لأهله وقاطنية، ومَنْ حَظُوا بنعمة المجاورة فيه، الذين ما عرفوا إلا لذّة الوصال، ولا أضناهم الحنين، ولا أقلقهم الشوق، فهم في نعيم القُرب متقلّبون، وفي أعماق العناق قائمون نائمون فلا تسل عمّا أعطاهم البلد الحرام، ولكن سل: ما الذي بخل عليهم به البلدُ الحرام؟!!
"أولم نمكّن لهم حرماً ءامناً يُجبى إليه ثمراتُ كل شيء رزقاً من لدنّا" [القصص: 57].
"أولم يرو أنّا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطّف الناس من حولهم" [العنكبوت: 67].
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" [إبراهيم: 37].
فيا أهل مكّة: أنتم آمنون حين يخاف الناس، طاعمون حين يجوع الناس، أفئدة الناس إليكم مقبلة، ووجوههم إلى بلدكم آمّة. لكم حُرمة البلد الحرام، وما عرفنا البلاد إلا وأهلها يحمونها؛ إلا أنتم، فبلدكم يحميكم. وما عهدنا بلداً تأتيه ثمرات كل شيء من خارجه، مكفولةً أرزاقه؛ إلا بلدكم. ولا عَرَفَ التاريخُ بلداً يشتاق إليه غير أهله أكثر من اشتياقهم إلى بلدانهم وأوطانهم، إلا بلدكم.
يا أهل مكة: يفرُّ الناس عند الخوف إليكم، ولا تفرّون من بلدكم إلى غيره. أَمِنَ الطيرُ والوحشُ فيه، أمِنَ العُشْب والشجر.. حتى الشوك فيه آمن. أمن فيه كل شيء، فأمنت فيه القلوب، فَحُقّ له أن يُسمَّى بـ(البلد الأمين)، وأن يُقسم به ربُّنا - عز وجل - "وهذا البلد الأمين".
يا أهل مكّة: أفئدتكم في بلدكم قارّة، لا تشتاق إلى غيره. وقلوب غيركم إلى بلدكم فارّة، لا تعرف القرار إلا فيه.
يا أهل مكّة: أنتم في أحبّ البلاد إلى الله، وما أخرجكم منه أحد، فاحمدوا الله على هذه النعمة التي تأسّف عليها خير البريّة وسيّد البشريّة محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، عندما قال: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خَرْجَتُ".
يا أهل مكة: كم مَرّة أثقلت الذنوبُ كواهلكم، فجئتم مسجدكم، فحططتم عنده الأوزار، ورجعتم كحمائم البيت طُهراً وخِفّة ظهر من الآثام، حتى كادت أرواحكم بالسعادة تطيرُ معها. وكم مَرّةً تغشتكم الهموم والغموم، وقد علمتم أن جلاءها بالله عند حرمه، فما أتيتموه في أيّ ساعةٍ من ليل أو نهار، إلا وخرجتم منه وقد قويت قلوبكم على مكابدة الحياة، وفاقت عزائمُكم كُلّ عقبات الدنيا. وكم مَرّةً لفظتكم الأقاربُ، وتنكّرَ لكم الأهلُ والجيران، فما بئستم ولا يئستم؛ لأن عندكم حرمَ الله: ملاذَ الطريد، وملجأ الخائف، وحمى المستجير، وبيتَ ابنِ السبيل، وفيه طعامه وشرابه: ماء زمزم، وفيه الصلوات المضاعفات، والدعوات المستجابات.
يا أهل مكّة: الناس يصلّون وأنتم تُصلون، لكن صلاتكم بمائة ألف صلاة في غير بلدكم. والناس آمالُهم وأمانيهم تنحصر في أن يتيسّر لهم الطواف حول البيت، وقد لا تتحقِّق تلك الآمال إلا إذا شاخ أحدهم ومال، ولا يبلغ الآخر منه مُنَاهُ إلا وقد شابَ رأسُه وفؤاده. أمّا أنتم فتطوفون بالرضيع والفطيم، ويطوف منكم الصغير والكبير، وتطوفون بالناس تعلمونهم مناسكهم، ولا يمنعكم أحدٌ من حرمكم في جميع أيام عمركم. حتى إذا حَلّ من أحدكم الأجل: صُلّي عليه عند الكعبة، ودُفن بالحرم، فما غُبط أهلُ بلدٍ كما غُبطتم: في الحياة.. وبعد الممات، فهنيئاً لكم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
يا أهل مكّة: كل عطاءات البلد الحرام لغير أهله هي لكم بأوفر حظٍّ منها وأتمِّ نصيب، ولكم من عطاءاته ما لا يحصل لغيركم، والناس من غير أهل بلدكم قد أعظموا عطاءاته لهم، حتى كان له في نفوسهم من الحُبّ والشوق مَا لا يُعرف لبلد غيره، ولا يَعْرِفُه قلبٌ لبلد ولا بلدٌ من قلب. فماذا يجب أن يكون في قلوبكم لبلدكم هذا، الذي لا يُوجَدُ بلدٌ عطاؤه كعطائه، ولن يوجد؟!!
يا أهل مكّة: أنتم في خير أرض الله، وفي أحب البلاد إلى الله؛ فكونوا خيرَ عباد الله وأحبَّ عباد الله إلى الله "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات".
لئن كانت هذه بعض عطاءات البلد الحرام، فماذا أعطينا البلد الحرام؟!
سؤال يحتاج إلى جواب: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".

----------------------------------------
(1) قال سعيد بن جبير ومجاهد في قوله - تعالى -"وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً": "وقرت في قلب كل مؤمن ذكر وأُنثى". (تفسير أبن جرير: 16/515، 517).
وصحّ عن عدد من السلف: منهم ابن عباس رضي الله عنه: أن الناس كلّهم سمعوا نداء إبراهيم - عليه السلام -، حتى من هُم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله - تعالى -أن يحجّ إلى يوم القيامة: لبيِك اللهم لبيك. (تفسير الطبري: 16/514-517)، واخبار مكة للفاكهي: رقم (973-978).
(2) حديث "هنا تكسب العبرات" لا يصح، لكن صحح ابن خزيمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استلم الحجر فأضت عيناه بالبكاء، ووافقه على تصحيحه الحاكم.

المصدر / الإسلام اليوم / حاتم بن عارف العوفي

---------------------------
إحترامي وتقديري لكم
:_11:
وفقكم الله

الدنيا فناء
16-12-2008, 04:57 PM
جزاك الله الجنه وجعل كل كلمه في ميزانك كالجبال

قرنفل
16-12-2008, 06:53 PM
[quote=الدنيا فناء;621621]

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
:_11:
جزاكِ الله كل خير أختي الفاضلة
على ردكِ الطيب ومروركِ العطر
ونفعنا الله وإياكِ
.. اللهم آمين ..
:_11:
إحترامي وتقديري لشخصكِ المميز
:o
وفقكِ الله