|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (1) كتبه/ ياسر برهامي فهذه الآية الكريمة التي تنظـِّم أخطر شيء في حياة الإنسان "الحياة"، والتي لو فهمناها وتعلمناها والتزمنا بها جميعًا حُلَّت مَشاكِلُنا، ومُنِعت الفتن التي تحدث بيننا؛ أفرادًا وجماعات، ومجتمعات ودولاً، وحُكّامًا ومحكومين، وقُضاةً ومُتَّهَمين، وأمراء ومأمورين، وقادةً ومُتَّبِعين. ولقد تكررت الآية الكريمة في مواضع مِن القرآن: - ففي سورة "الأنعام" في الوصايا العَشْر، قال الله -تعالى-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151). وفي الآيات المُحْكَمات مِن سورة "الإسراء" التي قال الله -تعالى- عنها -مُبَيِّنًا عظيمَ فضلِها-: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (الإسراء:39)، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء:33). - وقال -سبحانه- في سورة "الفرقان" في صفة عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان:68-69). ولقد وردت السُّنة كذلك بتغليظ تحريم قتل النفس التي حَرَّم اللهُ إلا بالحق؛ سواء كانت نفسًا مُسْلِمة أو نفسًا كافرة؛ فإنه لا تَلازُم بيْن وصف الكفر وبيْن جواز القتل؛ فقد يكون الإنسان كافرًا ومع ذلك يكون معصوم الدم والمال، وهي المسألة التي اختلطت على الكثيرين. - فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ) (متفق عليه). - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) (متفق عليه). - وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال ابن عمر: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ" (رواه البخاري). ويُلاحظ أن هذه الأحاديث ورد فيها التحذير مِن قتل النفس -كما ورد في القرآن- لم يَخُصّها بالمؤمن؛ لأنه -كما ذكرنا- هناك أنواع مِن الكفار قد ثبتتْ لهم عصمة الدماء بأنواعٍ مِن العهود. وقد ورد التغليظ في قتل المؤمن: - عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ) (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني). - وعن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَطاع منكُمْ أنْ لا يحولَ بيْنَه وبيْن الجَنَّةِ ملءُ كفٍّ مِنْ دمِ امْرئٍ مسلم أن يُهرِيقه كما يَذْبَحُ به دجاجَةً، كلَّما تَعرَّضَ لِبابٍ مِنْ أبوابِ الجنَّةِ حالَ الله بينَهُ وبينَه، ومَنِ اسْتَطاع منكم أنْ لا يَجْعلَ في بُطْنِه إلا طَيِّباً؛ فلْيَفْعَلْ؛ فإنَّ أوَّل ما يُنْتِنُ مِنَ الإنْسانِ بطْنُهُ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني، وقد رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا). - وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوِ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني). - وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَجيءُ المقْتولُ آخِذاً قاتِلَهُ وأوْداجُه تَشْخَبُ دماً عند ذي العِزَّةِ، فيقولُ: يا ربِّ! سَلْ هذا فيمَ قَتَلني؟ فيقولُ: فيمَ قتَلْتَهُ؟ قال: قَتَلْتُه لِتكُونَ العِزَّةُ لِفْلانٍ. قيلَ: هِيَ لله) (رواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وفي رواية: (فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ, وُيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ). - وعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ, فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ؟ فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَهُ، فَقَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّهُ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ) (رواه الحاكم وابن حبان، وصححه الألباني). - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري). وقد أخرج العلماء هذه الأحاديث في النهي عن قتل المُعَاهدين، وفي بعضها بلفظ العهد مطلقًا، وهو الذي في البخاري في أبواب الترهيب مِن قتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، كما رتبها المنذري -رحمه الله- في "الترغيب والترهيب". وهو يدل على فهم أهل العلم للآية الكريمة وللأحاديث، بأنها شاملة لنفس المؤمن، ونفس الكافر المُعَاهد بأي نوعٍ مِن أنواع العهود -كما سيأتي إن شاء الله-. وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- في تفسير سورة "الأنعام" هذا الحديث أيضًا؛ حديث: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ) في تفسير قوله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ فدَلَّ ذلك على ما ذَكَرْنا مِن فهم العلماء أن الآية تضمنت الوعيد الشديد، والنهي عن قتل جميع الأنفس التي حَرَّمَ اللهُ؛ سواء كانت بأصل الإسلام أو كانت بالعهد، أو بنوعٍ آخر مِن النهي. نحتاج في تَعَلُّم هذه الأدلة مِن الكتاب والسُّنة إلى معرفة أنواع النفس التي حَرَّم الله قتلَها إلا بالحق، ثم معرفة الحق الذي أَذِنَ اللهُ في قَتْلِها فيه، وأي خلل في فهم هذين الأصلين يترتب عليه سفك الدماء الذي حَذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه. فلذلك ينبغي أن نتناول هذين الأمرين بشيءٍ مِن التفصيل، في مقالٍ قادِمٍ -إن شاء الله-.
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (2) الأنفس التي حَرَّم اللهُ قتلَها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق شدة الحاجة إلى تَعَلُّم هذه الآية، ومعرفة أنواع النفس التي حَرَّمَ الله قتلها، ثم معرفة الحق الذي أذِن الله في قتلها فيه؛ لأن أي خلل في فهم هذين الأمرين يترتب عليه مِن سفك الدماء الذي حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد تحذير القرآن العظيم؛ فلنتناول هذين الأمرين بشيءٍ مِن التفصيل الذي لا يستغني عنه طالب علم. أنواع النفوس التي نهى الشرع عن قتلها: 1- نفس المُسْلِم. 2- نفس الكافر المُعَاهد. 3- بعض أنفس الكافرين المُحَارِبين الذين نهى الشرع عن قتلهم. أولاً: نفس المسلم: فأما نفس المسلم: فعصمة الدم ثابتة له بالإسلام الذي يثبت بالنطق بالشهادتين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) (متفق عليه). وكما ثبت الإسلام بالنطق بالشهادتين، يثبت -كذلك- بالولادة لأبوين مسلمين أو أحدهما، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ) (رواه مسلم). ويثبت أيضًا بالصلاة -على الصحيح مِن أقوال العلماء-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) (رواه مسلم). وأما الثلاث المذكورة: فأولها: "الزنا بعد الإحصان": ولابد أن يثبت الزنا بالاعتراف أو بالبينة، وهي أربعة شهودٍ عُدُولٍ يشهدون أنهم رأوا الفرج في الفرج، ويثبت أنه قد أحصن بالوطء في زواجٍ شرعي صحيح، وبغير ذلك لا يثبت وجوب إقامة حد الرجم على رجل أو امرأة ثبت إسلامهما. ونحن ننبه على أن إقامة الحد إنما يتولاها الإمام أو مَن يقوم مقامه. أما الأمر الثاني: فهو "النفس بالنفس": فلابد أن يثبت فيها العمد المحض بأن يقتل بما يقتل غالبًا، مع ظهور قصد القتل؛ بخلاف الخطأ وشبه العمد الذي يقتل بما لا يقتل غالبًا، ويكون المقصود الضرب ونحوه؛ فإن هذا لا قصاص فيه بإجماع العلماء الذين يقسِّمون أنواع القتل إلى ثلاثة كما دلَّ عليه الحديث. وثبوت القتل العمد أيضًا لا يكون إلا بالاعتراف أو البينة، وهي شاهدا عدل يشهدان بواقعة القتل. ويُراعى في هذا الباب عدم التأويل؛ فقتال أهل القِبْلَة -مِن قتال البُغَاة، وقتال الخوارج، ومانعي الزكاة، ومَن شابههم مِن الطوائف الممتنعة، وقُطّاع الطرق- يحدث فيه قتل لهم ومنهم، ثم إذا قُدِر على الواحد منهم لم يتَحَتَّم قتلُه إلا بضوابط وشروط في بعض الأحوال دون كلها، وأهل العلم أكثرهم على أن أسير البغاة لا يُقتَل مطلقًا، وذهبت طائفة مِن أهل العلم إلى أنه يجوز قتله إذا كان لهم فئة يتحيزون إليها، وأما إذا انتهى القتال ووقع الصلح فلا يُلتفت إلى ما وقع مِن قتال في الفتنة، كما مضت السُنَّةُ عن الصحابة -رضي الله عنهم- بإهدار ما وقع مِن دماء في قتال الفتن، والقتال على المُلْكِ يقع فيه قَتلٌ بيْن الطرفين، ولا يتم القصاص فيه؛ لدرء الفتنة. ويُشترط في القصاص بعد ثبوت القتل العمد: اجتماع أولياء المقتول -وهم ورثة القتيل- على القصاص؛ فإن قَبِلَ واحدٌ منهم الدِّيَة أو عَفَا؛ سقط القصاص بالإجماع، ومَن كان صغيرًا انتُظِر حتى يبلُغ ويُنظَر رأيُه "حتى يُنظَر في أمره ببلوغ الصغير"، ومَن زعم القصاص دون هذه الضوابط فقد انحرف انحرافًا كبيرًا. وأما الأمر الثالث: فهو "الرِّدَّة": ولابد في ثبوتها مِن اعتراف بالرِّدَّة بعد الإسلام، أو ارتكاب كُفرٍ أكبر ناقلٍ عن المِلَّة "قَوْلِيٍّ أو عَمَلِيٍّ"؛ لأن أعمال القلوب وإن كان فيها كُفرٌ أكبر إلا أنه لا يُعامَل المرء إلا بما أظهَرَه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) (متفق عليه). ثم لابُدّ مِن التفريق بيْن النوع والعين، باستيفاء الشروط الثمانية وهي: "البلوغ، والعقل، واليقظة، والقصد، والتذكر، والاختيار، وبلوغ الحجة، وعدم التأويل" وكذا انتفاء الموانع الثمانية، وهي: "الصِّغَر، وزوال العقل، والنوم، والخطأ، والنسيان، والإكراه، والجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والتأويل المانع مِن التكفير". ولا شك أن كل واحدة مِن هذه لابُدّ أن يحكم فيها قاضٍ أو حاكم عالم بحدود الشرع في كل واحدةٍ منها. وفي هذا الباب يلزم التنبيه على أمور خطيرة، وقع بسببهما جرأة على التكفير ثم على القتل في غير محله، وهي: الأول: باب الحكم بغير ما أنزل الله، فإن هذه المسألة قد صارت في زماننا مِن أكبر المسائل التي يُكَفَّر بها الحُكَّام والمحكومون، والجنود والضباط في الشرطة والجيش، بل والمجتمعات كلها عند بعض الجماعات، بل وكثير مِن مؤسسات الدولة عند طوائف أخرى. فلابُدّ هنا مِن التفريق بيْن الكفر الأكبر والكفر الأصغر الذي لا يُخرِج مِن الملة، ويُراجَع في ذلك كتاب "المنة"، وفيه فتوى الشيخ "محمد بن إبراهيم" -رحمه الله-. ثم بعد ذلك إذا ثبت ارتكاب أحد أنواع الكفر الأكبر؛ فلابُدّ مِن استيفاء الشروط وانتفاء الموانع السابق ذكرها، وعامة مَن يُكَفِّرون ثم يَقتُلون لا يعرفون شيئًا عن هذه الشروط والموانع، بل وأكثرهم يُبْطِل اعتبارها أصلاً. ثم لابُدَّ أن يتولى التأكد مِن الشروط والموانع -وما يُعتَبَر منها في واقع الشخص المُعَيَّن وما لا يعتبر- هيئةٌ قضائيةٌ "شرعية أو علمية" مِن العلماء المُعتَبَرين المُجتَهِدين، الذين يجلسون مع الشخص المُتَّهَم ويناقشونه ويزيلون شبهته، ثم يستتيبونه. ثم لا يُنَفِّذ الحُكمَ في حالة ثبوته آحاد الناس؛ فإن في تخليتهم في تنفيذ الأحكام مِن الفوضى والفتن والمِحَن ما نشاهده في أرجاء بلاد المسلمين، بل يتولى ذلك الإمام، ومَن يقوم مقامَه؛ فإن أصل هذا الباب مِن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولابُدَّ فيه مِن مراعاة المصالح والمفاسد، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والأصل في هذا الباب أن تُقَام الحدود والحقوق على أحسن الوجوه، فما أمكن مِن إقامتها مِن أميرٍ لم يُحتَج إلى اثنين، وما أمكن إقامته بعَدَدٍ ومِن غير سلطان أُقيمَت، ما لم يكن في إقامتها فسادٌ يزيد على إضاعتها؛ فإن كان فيها مِن فساد الراعي والرعية ما يزيد على إضاعتها؛ لم يُدْفَع فسادٌ بأفسد منه" (انتهى كلامه). وقد ثبت نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قطع الأيدي في الغزو، فعن بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الغَزْوِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وهو حديث حسن، احتج به جماهير أهل العلم في منع إقامة حدِّ السرقة في أعضاء الجيش الغازي؛ وذلك لما يُخشى مِن فسادِ لُحُوق بعض أفراد الجيش بالعَدُوّ، وهذا الباب لابُدَّ مِن مراعاته في جميع الأمور. وواقع المسلمين اليوم لا يَخفى على أحدٍ، ومقدار الفساد في انفراد الناس بتنفيذ ما يرونه مِن أحكامٍ، بعضُها إنما هو مِن تصوراتهم وأفهامهم المريضة، وربما أجمع العلماء على خلافهم، ومع ذلك فهم يبادرون إلى القتل وإلى التكفير! نسأل الله العفو والعافية. ونستكمل -إن شاء الله- في مقال آخر.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (3) كتبه/ ياسر برهامي فقد تكلمنا في المقال السابق في باب "الكفر بعد الإيمان" الذي بَيَّنَه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يباح به سفك دم امرئ مسلم، وذكرنا أنه قد وقع في هذا الباب خللٌ كبير بسبب أمور خطيرة، انتشر الكلام فيها بغير علم؛ سبَّبَ ذلك الجرأة على التكفير، ثم على القتل في غير محلِّه. وكان الأمر الأول مِن هذه الأمور: "باب الحكم بغير ما أنزل الله". وأما الأمر الثاني -الذي نتكلم عنه في مقالنا هذا- فهو: "باب الولاء والبراء"، وهذه المسألة مِن أعظم أصول الدين، بيّنها كتابُ الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف:26-28). وكلمة التوحيد تعني نفي الألوهية عن غير الله، وهذه قضية البراء. وإثبات الألوهية الحَقّة لله وحده لا شريك له هذا أصل الولاء. وقال -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة:4)، وقال -عز وجل-: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:55-56). ومع كون هذه المسألة مِن أعظم مسائل الدين فقد وقع في فهمها خللٌ كبيرٌ قديمٌ مِن جماعات الخوارج؛ استعملوا نصوص الكتاب والسُّنة في التكفير في غير موضعه، ثم في القتل بغير حق، وقد تضاعف استعماله في هذا الزمان مع انتشار الجهل وقِلَّة العلم، مع عدم ضبط كثير مِن المُصَنِّفين وأصحاب الرسائل العلمية أو الدعوية للحدود الفاصلة بيْن ما هو داخل في هذا الباب وما ليس منه. وفي هذا نتكلم عن نقاط: النقطة الأولى: أنه لا بد مِن معرفة معاني الولاء والبراء تفصيلاً، والتمييز بينها وبيْن ما هو مِن أمور التعامل الجائز مع الكفار والمنافقين، والظَّلَمَة والفَسَقة، كالبِرِّ والقسط، قال الله -عز وجل-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8-9)؛ فبَيَّن -سبحانه- أن ما أُمِروا به مِن البِرِّ والإقساط غيرَ ما نُهوا عنه مِن المحبة والموالاة. وكذلك أمور البيع والشراء، والشركة والمُضَارَبَة، والمُزَارَعَة والمُسَاقَاة، وأمور المعاملات المادية والتجارية التي تَعامل بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فقد باع -صلى الله عليه وسلم- مِن المشركين واشترى، بل ومِن أهل الحرب، كما بَوَّبَ عليه البُخَاريّ -رحمه الله- في صحيحه، وشَارَك وضَارَب، وأَذِنَ في ذلك بيْن المسلمين وبيْن الكافرين، وزَارَع وسَاقَى يهودَ خيبر -وهم على كفرهم-. فضلاً عن أمور -أوسع بكثير- صار البعض يُكَفِّر بها: كالجلوس معهم، والقيام والوقوف والحديث، مع القطع بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فعل ذلك! وقد قال -عز وجل-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء:140)؛ فلم يحكم -سبحانه وتعالى- على مَن جَلَس مع الكافرين والمُنافقين بأنه مثلهم إلا إذا كانوا يخوضون في آيات الله، يستهزئون بها ويكفرون بها، وأجاز الجلوس معهم في حال عدم خوضهم في ذلك، وإنما يخوضون في حديث آخر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يجلسون مع المشركين يدعونهم إلى الله، كما كانوا يجلسون معهم في أمور البيع والشراء والمعاملات، وتوصيل الرسائل، وغير ذلك مِن أمور الدنيا التي لا تتضمن استهزاءً بآيات الله ولا كُفرًا بها. ولو تأملتَ بعض "فيديوهات" الجماعات التكفيرية؛ لوجدتهم يَستدِلّون على ما يقولون -مِن تكفير بعض الناس ووجوب قتلهم- بمجرد صورة جمعتهم مع قوم كُفّار، أو جلوسهم معهم في مواقف، أو حديث معهم، ثم هذا الخلل يترتب عليه مِن سفك الدماء بادّعاء أن هذه المسألة تدل على المُوالاة والعَمَالة، والنِّفاق والكُفر، ما لا يعلمه إلا الله. ثم النقطة الثانية في هذا الباب هي: لزوم التفريق بيْن ما هو كُفرٌ وبيْن ما هو معصيةٌ في أمور الولاء والبراء؛ فليس كُلّ وَلاءٍ يُعتَبَر شِركًا، كما أن ليس كُلّ بَرَاءٍ ومُعادَاةٍ لمُسْلِمٍ أو جماعةٍ مُسْلِمَةٍ أو تَيّار إسلامي تكون بَرَاءَةً مِن الإسلام وكُفرًا به، وحدود الفرق بيْن الشرك وبيْن ما دون ذلك في غاية الأهمية في ضبط مسائل هذا الباب. وقد قال -سبحانه وتعالى- في الجاسوس المسلم الذي تجسس على النبي -صلى الله عليه وسلم- لصالح المشركين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1). وقد دَلَّت قصة حاطب بن أبي بلتعة -التي نزلت بشأنها الآيات الكريمات مِن سورة الممتحنة- أن ما فَعَلَه حاطب -رضي الله عنه- من تجَسُّسٍ لصالح المشركين كان مُوالاةً مُحَرَّمَةً للكافرين، ومِن الضلال عن سواء السبيل، ودَلَّت دلالة مِن أوضح الدلالات على أنه ما زال مُؤمِنًا، وأن عَمَله لم يحبط، ولو كان شِرْكًا لَحَبِطَ عَمَلُه -ولو كان شَهِدَ بَدْرًا-، فقد قال الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65)؛ فإذا كان مَن أَشْرَكَ قد حَبِطَ عَمَله ولو كان نَبِيَّا -وهو أمر مستحيل الوقوع، وإنَّما ضُرِب مِثالاً-؛ فبالأولى ما كان دون الأنبياء، وحاطب قد ناداه الله -عز وجل- بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعُمَر -وقد استأذنه في قتله-: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) (متفق عليه). وهذه المسألة -للأسف- يتناولها الكثيرون بطريقةٍ دعوية أو بطريقة علمية يُهمِلُ فيها الفرق بيْن ما هو كُفْرٌ وبيْن ما هو مِن المُحَرَّمات، والبعض قد يُهمِلُه سهوًا والبعض قد يُهمِلُه عَمْدًا؛ فيقرأ كثيرٌ مِن الناشِئَة الصِّغار سُفَهاء الأحلام هذا الكلام بدون ضوابط، فينتشرون في الأرض يُكَفِّرون الناس بناءً على فهمهم السقيم، ويمكنك أن تُراجِع في ذلك كتابي: "المنة" و"فضل الغني الحميد". ونقطة أخرى نُحِبُّ أن نُبَيِّنها، وهي: الانتباه إلى ضوابط تكفير المُعَيَّن لمَن يقرأ نواقض الإسلام التي أَلَّفَها بعضُ أهل العلم ثم صارت موضوعَ دراساتٍ عُليا في كثير مِن الجامعات، وكثيرٌ منها لم يُنَبِّه على الضوابط والشروط والموانع، والفرق بيْن النوع والعَيْن، وبيْن الأقسام المختلفة التي تدخل تحت هذا الباب وإن لم تدخل في حدود الرِّدَّة؛ فيتسبب ذلك في نسبة السوء إلى أهل العلم، وهم منه براء! ونستكمل في مقال قادم -إن شاء الله-.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (4) كتبه/ ياسر برهامي فمِن أخطر المسائل التي تتعلق بالتكفير في مسائل المُوالاة -وبالتالي استباحة قتل النفوس-: "مسألة النُّصْرَة". وهذه المسألة مِن أخطر مسائل المُوالاة، قد ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه فقال -عز وجل-: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا . وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء:88-89). وروى ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية قال: "ذلك أن قومًا كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يُظاهِرون المشركين، فخرجوا مِن مكة يطلبون حاجةً لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد -صلى الله عليه وسلم- فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أُخبِروا أنهم قد خرجوا مِن مكة، قالت فئة مِن المؤمنين: اركَبوا إلى الخُبَثاء فاقتلوهم، فإنهم يُظاهِرون عليكم عَدُوَّكم. وقالت فئة أخرى مِن المؤمنين: سبحان الله -أو كما قالوا- أتَقتُلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟! أمن أجل أنهم لم يُهاجِروا ويتركوا ديارهم تُستحل دماؤهم وأموالهم لذلك؟! فكانوا كذلك فئتين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- عندهم لا ينهى واحدًا مِن الفريقين عن شيء، فنَزَلت: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الآية" (تفسير الطبري). والشاهد منها: قول المؤمنين: "فاقتُلُوهم، فإنهم يُظاهِرون عليكم عَدُوَّكم"، ونزلتْ في ذلك الآيات المُوافَقة لهذه الطائفة مِن المؤمنين، لقوله -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). قال السُدِّيّ -رحمه الله-: "إذا أظهَروا كُفرَهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم". وهذا أقرب ما قيل في تفسير هذه الآية، مُوافِقًا لسياقها، كما قال ابن جرير -رحمه الله- بعد ذكر الاختلاف فيمن هم المقصودون بهذه الآية. ولا بد أن نفرِّق هنا بيْن مَن خرج مُحارِبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللإسلام والمسلمين، تحت راية الكُفْرِ المُعْلَنَة، وبيْن مَن حَكَمَت بعضُ الطوائف -أو حتى بعضُ أهل العلم- بكُفْرِه، وهو ما زال ينتسب إلى الإسلام؛ فالدخول في طاعة الأوَّلين تنطبق عليه الآية الكريمة، بخلاف طاعة مَن انتسب للإسلام؛ فإن عدم معرفة حقيقته وارِدٌ على أكثر المسلمين أو -على الأقل- كثيرٍ منهم، فلا يمكن الحكم على مَن ناصَرَهم بأنه يحارب الإسلام، وأنه عدو للإسلام، وبالتالي تُستَحَلّ منه الدماء والأموال. قال ابن حزم -رحمه الله-: "مَن لحق بدار الكفر والحرب مُختارًا مُحارِبًا لمَن يليه مِن المسلمين، فهو بهذا الفعل مُرْتَدٌّ، له أحكام المرتد كلها، مِن وجوب القتل عليه متى قُدِرَ عليه، وإباحة ماله، وفساخ نكاحه، وغير ذلك... قال: وكذلك مَن سَكَن بأرض الهند، والسند، والصين، والترك، والسودان، والروم مِن المسلمين -أي وقتما كانت تحارب الإسلام والمسلمين- فإن كان لا يقدر على الخروج مِن هنالك لثِقَلِ ظَهْرٍ أو لقِلَّةِ مالٍ أو لضَعْفِ جِسْمٍ أو لامتِنَاعِ طَريقٍ فهو معذور، فإن كان هنالك مُحارِبًا للمسلمين مُعِينًا للكفار بخِدْمَةٍ أو بكِتَابَةٍ فهو كافر، وإن كان إنما كان يقيم هنالك لدنيا يصيبُها وهو كالذِّمِّيّ لهم وهو قادِرٌ على اللحاق بجَمهَرَة المسلمين وأرضِهم فما يَبْعُدُ عن الكُفْر، وما نرى له عُذرًا، ونسأل الله العافية". والمقصود بهذا مَن كان عاجِزًا عن إقامة الدين في بلاد الكُفَّار دون أن يكون مُشَارِكًا بالقتال، ولم يَحْكُم بكُفْرِه -رحمه الله-؛ لأنه قال إنه اقترب مِن الكفر، ولكن لم يدخل فيه، قال: "فما يَبْعُدُ عن الكفر"، وعدم العذر ليس في التكفير، ولكن في الإثم واستحقاق العقوبة، لأنه عاجِزٌ عن إقامة الدين كما بَيَّنَ أهلُ العلم. ثم قال -رحمه الله-: "وليس كذلك مَن سَكَنَ في طاعة أهل الكفر مِن الغَالِيَة -يَقصد بذلك "الباطنية" الذين عُرِفوا في التاريخ باسم "الفاطميين" الذين كانوا يحكمون مصر والقيروان وسائر إفريقيا، بل والحرمين والشام كذلك- ومَن جرى مجراهم: كأهل مصر، والقيروان، وغيرهما، فالإسلام هو الظاهر، ووُلَاتُهم على ذلك لا يُجاهِرون بالبراة مِن الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا". وقال أيضًا: "وأما مَن سَكَنَ في بلدٍ تظهر فيه بعض الأهواء المُخرِجَة إلى الكفر فهو ليس بكافر؛ لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال، مِن التوحيد، والإقرار برسالة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، والبراءة مِن كل دينٍ غير الإسلام، وإقامة الصلاة، وصيام رمضان، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان، والحمد لله رب العالمين" (انتهى مِن المُحَلَّى). فلا بد مِن التنبُّه هنا للفرق المهم بيْن طاعةِ ونُصْرَةِ مَن يُصَرِّحون بالكفر وبيْن طاعة مَن ينتسبون إلى الإسلام وهم في حقيقة أمرهم كُفّارٌ؛ فأمر الطائفة الأخيرة يحتاج إلى نظرٍ واجتهادٍ، وليس معلومًا قطعيًّا مِن الدين كالأَوَّلين، وموالاتُهم وطاعتُهم وإن كانت مُحَرَّمَةً إلا أنها ليست كُفرًا يَنقِل عن الملة، مراعاةً لهذا الفارق المُهِمّ "ما لم يعلم كفرهم"، فتنبَّه لذلك. ومما يؤكد خطأ ما ذهب إليه بعض أهل العلم مِن أن الديارَ التي تغلب عليها الطوائفُ الخارجةُ عن الإسلامِ -وإن كانت منتسبةً للإسلام- ديار كُفْرٍ ورِدَّةٍ: ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) (متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) (متفق عليه)، وقال: (إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا) (رواه مسلم)، -(يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ): أي المسجد الحرام والمسجد النبوي- وكلها أحاديث في الصحيح تدل على أن مكة والمدينة لا تتحول إلى دار حرب إلى يوم القيامة، إلى أن يزول مَن يقول في الأرض: "الله، الله"، والدجال لا يدخل مكة ولا المدينة؛ فبحَمْدِ الله لا تتحول أبدًا إلى دار كفر وردة، وقد غَلَب الباطنية الفاطميون والقرامطة على مكة والمدينة، وكان يُخطَب للحاكم بأمر الله الفاطمي على منابر مكة والمدينة في الحرمين الشريفين -ومعلوم زندقته ونفاقه، وادعاؤه الألوهية سِرًّا-؛ فدَلَّ ذلك على ما ذكرنا مِن التفرقة الهامة، وعدم مساواة مَن يُظْهِرُ الإسلام بمن يُظْهِرُ الكفر؛ فضلاً عن أن تكون الطائفة ليست حقيقتها الكفر، بل هي في الجملة تُقِرُّ بالإسلام ظاهرًا وباطنًا، ويُعرف ذلك مِن أحوالهم. وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم بعد عصور الاحتلال، وعجزِ كثيرٍ مِن البلاد المُستقلة عن أن تعود إلى ما كانت عليه قبْل عصور الاحتلال مِن إقامة الشرع، وإن كانت أكثر دساتيرها تنص على مرجعية الشريعة، لكن كثيرٌ مِن الحكام قد لا يَهتم وقد لا يحرص، وقد لا يجتهد في إقامة المُمْكِن مِن الشريعة، فيكون آثما بما قَصَّرَ فيه، لكن لا يكون كافِرًا؛ لأنه يؤصل تحكيم الشرع؛ فلا يصلح أبدًا أن يُعَمَّم الحكمُ بتكفيرِ مَن أطاعَه أو نَصَرَه كما تفعل جماعات التكفير! ثم لا بد أن نفرِّق بيْن أمر مُحارَبَة الإسلام وبيْن مُحارَبَة جماعة منتمية إلى العمل الإسلامي، فإن هذا مِن أخطر مسائل الانحراف؛ فكثيرٌ مِن الجماعات تجعلُ مَن يُقاتِلها أو يُخَالِفها أو يُحارِبها مُحَارِبًا للإسلام، وتُعَامِلُه على ذلك مُعامَلَة الكفار والمشركين المرتدين، وهذا مِن أخطر الأمور؛ فإنه ليس كل مَن خالَفَ طائفةً مِن المسلمين مُحارِبًا للإسلام، ولو كان مِن شَرِّ أهلِ البدع، حتى يأتي مِن ذلك أمرًا لا مَرَدَّ له، والله المستعان. ومِن هنا تعلم: أن قول الجماعات التكفيرية -التي تُقاتِل الجيوش العربية والإسلامية في معظم الدول العربية- مِن أن كل مَن انتمى إلى هذه الجيوش ولَبِسَ الملابس العسكرية، أو الشرطة، أو المصالح الحكومية الحاكِمَة، فإنه قد خرج مِن المِلَّة وارتد عن الإسلام، بفهمهم الخاطِئ لقضية المُوالاة والنُّصْرَة - أن هذا القولَ خارِجٌ عن عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وأنه غُلُوٌ في التكفير دون تَثَبُّتٍ. وقد دَلَّ القرآن العظيم على أن وجود الإنسان في طائفةٍ غير مُسْلِمَةٍ لا يَلْزَمُ مِن ذلك كُفْره، قال الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:92)؛ فدَلَّت الآية على أن مجرد الانتماء إلى طائفةٍ كافِرَةٍ لا يَلْزَمُ منه أن يكون الشخص كافِرًا. وكذلك تَرْكُ نُصْرَةِ طائفةٍ مُسْلِمَةٍ في مواجهتها لطائفةٍ كافرةٍ جَعَلَه كثيرٌ مِن الجماعات المُنحَرِفَة سببًا لتكفير مَن لم ينصرهم، وهذا خللٌ كبيرٌ، وخلافُ نَصِّ كتابِ اللهِ -عز وجَل-، وخلافُ ما كان مِن سُنَّةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال:72-73). ومع أن هذه الآية صريحة في أمر المُوالاة، وأن أيَّ طائفةٍ مُسْلِمَةٍ تستنصر بطائفةٍ مُسْلِمَةٍ أخرى في قتالها مع طائفةٍ كافرة يلزمهم النصر -إذا كان القتال على الدين- وتلزم النُّصْرَة في الدين، لكن إذا كان هناك بيْن الطائفة المؤمنة أو الدولة المسلمة وبيْن الطائفة المُحَاِربة لطائفةٍ أخرى عهدٌ وميثاقٌ، وصُلْحٌ وهُدْنَةٌ؛ فلا يجوز أن ينقضوا عَهدَهم بمُناصَرَة الطائفةِ المُسْلِمَةِ التي تقاتِل هذه الطائفةَ الكافِرَة؛ فوصف الحَرْبِيَّة وصفٌ نسبيٌ، وقد يكون وصفًا لطائفةٍ كافِرَةٍ مع طائفة مُسْلِمَةٍ، ولا يكون هذا الوصف هو ذاته نفس الوصف مع طائفةٍ أخرى؛ إذ يمكن أن يكون هؤلاء الكفار مُعَاهدين مع طائفةٍ، ومُحَارِبين لطائفةٍ. وقد كان "أبو بصير" داخل حدود المدينة مُلْزَمًا بعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قريش، ولذلك رَدَّهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين كما اشترط المشركون في الحديبية، فلما خرج -رضي الله عنه- إلى خارج حدود المدينة صار المشركون حربيين بالنسبة له، وتمَكَّنَ مِن قتلِ واحدٍ منهم، وهم يريدون أَسْرَه وتعذيبَه وفتنتَه عن الإسلام، ولما ابتعد عن حدود دولة المدينة جازَ له ما لم يَجُز للمسلمين مِن قريش بحُكم العهد الذي بيْن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينهم، ولم يكن ذلك مع "أبي بصير" وطائفته. ودَلَّ ذلك على أنه لا يَلزم لكلِّ دولةٍ مُسْلِمَةٍ أن تَنصُرَ دولةً أخرى وقَعَتْ في مواجهةٍ عسكريةٍ مع دولةٍ أو جماعة كافِرَةٍ، أن تقوم بنُصْرَتِها عسكريًّا إذا كان بينها وبيْن الدولةِ أو الطائفةِ المُحَارِبَةِ للمسلمين عهدٌ يَلزم الوفاء به. والله أعلى وأعلم. ونستكمل في مقالٍ قادم -إن شاء الله-.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (5) كتبه/ ياسر برهامي فالنوع الثاني مِن النفوس التي حَرَّمَ الله -عز وجل- قتلَها، هي: نفوس الكُفَّار المُعاهدين مِن أهل الكتاب، ومِن غيرهم. وقد غلَّظ النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفك دماء المُعاهدين؛ فروى البُخاريُّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، والاختلاف في قدر ريحها على اختلاف أنواع الجنان. ولَفْظُ الذِمَّة صار عُرْفًا عند أهل العلم في نوعٍ خاصٍ مِن العهود، وإن كان مُستَعمَلًا -شَرعًا ولُغَةً- بمعنى العهد -مُطلَقًا- بأنواعه المختلفة، بل استُعمِلَ في المسلم أيضًا؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) (رواه البخاري). ودراسة أنواع العهود التي طَبَّقَها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعَمِلَ بها في حياته، وعَمِلَ بها المسلمون مِن بعده، أَمْرٌ في غاية الأهمية لمعرفة الدائرةَ الواسِعَة التي يصح لهم التعامل بها مع مَن حَولَهم مِن الكفار، في واقعهم المختلف، المتفاوِت في بلادٍ وأحوالٍ مُختَلِفَةٍ في أَزْمِنَةٍ مُختَلِفَةٍ. وقد وَرَدَ في الكتاب والسُنَّة "أربعة أنواع" مِن العهود بيْن المسلمين وبيْن الكفار، كلُّ واحدٍ منها يثبت به للكافر عصمة الدم والمال والعِرْض. الأول: "عقد الذمة": وهو عقدٌ مُؤَبَّد، لازِمٌ للمسلمين ما التَزَم به الكُفَّارُ، أَصلُه قولُ الله -عزَّ وجلَّ-: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)، والحديث الذي رواه مُسْلِم في صحيحه في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لِقَادَةِ جيوشِه، قال فيه: (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ) ثم ذَكَر الإسلامَ والهِجْرَةَ، ثم ذَكَر الإسلامَ والبَقَاءَ في بلادِهم يجري عليهم حُكْمُ الله، ثم قال: (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ). وهذا العقد يتضمن أمرين: أداء الجِزْيَة، والتزام أحكام الإسلام. وهو العهد الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- لِنَصارَى نَجْران، ولِمَجُوس هَجَر، وهو الذي عَقَدَه أميرُ المؤمنين عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه- لِنَصارَى بيتِ المَقْدِس والشام عند فتحها، والذي تُمَثِّلُه الوثيقة العُمَريَّة المشهورة. ويقع كثيرٌ مِن الناس في خطأٍ كبيرٍ في هذا الباب: إذا وجد أن الكفار في معظم بلاد المسلمين لا يؤدون الجِزْيَة، ولا يُلزمون بأحكام الإسلام -إذ لا يوجد مَن يُلْزِمهم بها؛ إذ هي غير مُطَبَّقَةٍ بيْن المسلمين أصلاً- فيظن أن ذلك يجعلهم حَربِيّين؛ فيستبيح دماءَهم وأموالَهم وأَعراضَهم بهذا الظن! وهذا خللٌ كبيرٌ؛ إذ أن انتفاء عقد الذِمَّة لا ينفي وجود أنواع أخرى مِن العهود وَرَد الشرع بجواز عَقدِها مع الكفار حسب المصلحة، سيأتي بيانها. وعَقدُ الذِمَّة إذا طَلَبَه الكُفَّارُ وَجَب إجابتهم إلى ذلك؛ كما دَلَّ عليه الحديث الذي ذكرناه في صحيح مُسْلِم، ولا يجوز أن يَرْفُضَ المسلمون هذا العقد إذا بَذَلَه الكفار. ويستمر هذا العقد مَشروعًا إلى زمن المسيح -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي ينتهي معه هذا النوع مِن العهود؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ) (متفق عليه). أي: لا يَقْبَلها. والشروط التي أَخَذَها عُمَر -رضي الله عنه- على أهلِ الذِمَّة هي عند أكثرِ أهلِ العلم لازِمَة في مثل هذا النوع مِن العهود، وبعضُ أهلِ العلم يرى أن بعضَ الشروط هي مقتضى العهد وليست لازِمَة للمسلمين في جميع العهود؛ وهذا الأمر يحتاج إلى تَأَمُّلٍ واجتهاد، حسب ما يراه الإمامُ وأَهْلُ العلم. النوع الثاني مِن العهود: هو العهد المُطْلَق، وهو عَقْدٌ جائِزٌ، بغير تحديد مُدَّةٍ ولا دَفْعِ جِزْيَة، وأَصلُهُ قولُ الله -تعالى-: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (التوبة:1-2)، والآية وإن تضَمَّنَت إنهاءَ هذه العُقود التي بيْن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين فإنها تضَمَّنَت إثباتَ مشروعيتها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عَقَدَها قبْلَ ذلك، بل هي كانت أكثر عُهودِه -عليه الصلاة والسلام- مع طوائف المشركين، وإنهاؤها لمصالح وظروف وَقَعَت لا يُلْغِي مشروعيتها، ولا يكون ناسِخًا لها بمعنى النسخ الاصطلاحي، فإن الأصل الجمع بيْن الأدلة ما أَمْكَن، والجمعُ مُمْكِنٌ باختلاف الأحوال، ولذلك قال طوائف مِن أهل العلم بجواز هذا النوع مِن العقود مع الكفار حسب مصلحة المسلمين، وقوتهم وضعفهم، وقدرتهم وعجزهم. وهو العَهد الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع يهود المدينة عند قدومه إليها، ويُعرَف باسم: "وثيقة المدينة"، وقد سَبَق شرحُ بُنودِه في عدة مقالاتٍ سابقةٍ فلتُراجَع للأهمية "وثيقة المدينة... معالم وملامح". وهذا النوع مِن العُهودِ تثبت به عِصْمَة الدم والمال للكُفَّار، ويكون لهم حقوق حسب العهد، والصحيح أنه ليس منسوخًا -كما ذكرنا-، بل يَجُوز عَقْدُه حسبَ المصلحة. ومعظم الدساتير المُعَاصِرَة والمُعاهَدات الدولية بيْن الدول أشبه بهذا النوع مِن العُهود، سواء كان الكُفَّار داخل الدولة الإسلامية -كَيَهُودِ المدينة-، أو كانوا في إقليمٍ منها كنوعٍ مِن الحُكْمِ الذَاتِيّ، أو كانوا في دَولة مُستَقِلَّة مثل مُعَاهَدَة السلام أو مُعَاهَدَة الهُدْنَة بيْن العرب وإسرائيل. النوع الثالث: عَقد الهُدْنَة المُؤَقَّتَةِ بِمُدَّةٍ، وهو المَذكور في قوله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى? مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4). وهو العَهدُ الذي عَقَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمُشْرِكي قُرَيش ومَن دَخَل معهم في عهدهم في الحُدَيبية، وهو عقد لازم إلى المُدَّة ما لم يَنْقُضه المشركون. ويُلاحَظ في مسألة نَقْضِ العَهْدِ أن الذي يُقَرِّر نقضَ العَهد هو الإمام، وليس آحاد الناس؛ فقد تكون المَصلَحة التي يراها الإمام في إمضاء العقد حتى لو نَقَضَ بعضُ المشركين هذا العهد وتَمَكَّن المسلمون منه؛ فقد رَوَى مُسْلِم في صحيحه عن سَلَمة -رضي الله عنه- قال: "قَدِمْنا الحُدَيْبِيَةَ... إلى قوله: فلما اصْطَلَحْنا نحن وأهل مَكَّة فجَعَلوا يَقَعون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبغضتهم؛ فتَحَوَّلْتُ إلى شَجَرَةٍ أُخرى، وعَلَّقوا سِلَاحَهُم واضطجَعوا، فبينما هم كذلك إذ نَادَى مُنادٍ مِن أسفل الوادي: "يا لَلمُهاجِرين؛ قُتِلَ ابنُ زُنَيْم" قال: فاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئك الأربعة وهُم رُقودٌ، فأَخَذْتُ سِلاحَهُم فجَعَلْتُه ضِغْثًا في يدي، قال: ثم قُلْتُ "والَّذي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- لا يَرْفَعُ أَحَدٌ منكم رَأسَه إِلّا ضَرَبْتُ الذي فيه عيناه" قال: ثم جِئْتُ بهم أسُوقُهُم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء عَمّي عامر بِرَجُلٍ من العَبَلَات يُقالُ له "مِكْرَز" يَقودُه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فَرَسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين مِن المشركين؛ فنَظَر إليهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "دَعُوهُم يَكُن لهم بدء الفُجُور وثناه" فعَفَا عنهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأَنْزَلَ الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الفتح:24). والشروط التي تَضَمَّنَها صُلْحُ الحُدَيْبِيَة تُبَيِّنُ لنا دائرةً واسِعَةً في هذا النوع مِن العُهود؛ فقد قَبِل النبي -صلى الله عليه وسلم- شُروطًا مُجْحِفَة بالمسلمين مِن أجل إتمام هذا الصلح. وفِقْهُ الحُدَيْبِيَة يحتاج إلى تفصيل لعَلَّنا نَذْكُرُه في مقالٍ قادمٍ -إن شاء الله-.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (6) كتبه/ ياسر برهامي النوع الثاني مِن نفوس الذين حَرَّم الله قتلهم -طالما بقوا موفين بعهدهم-: الكفار المعاهدون عهدًا مُقَيَّدًا بمدةٍ، وهي تشبه الهُدنة مُحَدَّدَة المدة بيْن الدول المتحاربة في زماننا المعاصر. هذا العقد يلزم الوفاء به ما لم ينقضه الكفار، ولا يجوز نقضه حتى تنتهي المدة، وأَصْلُه قوله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى? مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4)، وقوله -عز وجل--: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7). وقد عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع قريش، ومَن دخل في عهدهم مِن القبائل العربية حول مكة، وكانت مدة الصلح عشر سنين، وقد اختلف أهل العلم في جواز الزيادة على هذه المدة بعد أن قال عامَّتُهم بجوازها عشر سنين، فمنهم مَن منع الزيادة على عشر وهو المشهور عند الشافعية ومَن وافقهم، ومِن أهل العلم مَن أجاز الزيادة على عَشرٍ إذا كانت مصلحة المسلمين في ذلك، وهو قول المالكية، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم. وقصة الحديبية أصل عظيم في السياسة الشرعية، وما يجوز فيها، ولنا فيها وقفات في فوائدها وحِكَمها؛ فلنذكر رواية البخاري لهذه القصة، روى البخاريُ في بَاب الشُّرُوطِ في الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً؛ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ). فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ. وَسَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ؛ فَقَالُوا: خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ)، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا). ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ. قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ). فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ؛ فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: "امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟!" فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟! وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ("أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ). ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَيْنَيْهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ؛ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ؛ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هَذَا فُلاَنٌ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ). فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "(هَذَا مِكْرَزٌ، وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ)، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ). قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا؛ فَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ). ثُمَّ قَالَ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ). فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ). قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: (لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ)، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ!)، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَجِزْهُ لِي). قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ. قَالَ: (بَلَى، فَافْعَلْ). قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا! أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟! وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: (بَلَى). قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (بَلَى). قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟! قَالَ: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِي). قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: (بَلَى؛ فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟)، قَالَ: قُلْتُ لاَ. قَالَ: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ). قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهْوَ نَاصِرُهُ؛ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا)، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) حَتَّى بَلَغَ: (بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) (الممتحنة:10)؛ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ -رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ- وَهْوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا. فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا. فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ. فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُ: (لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا). فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَيْلُ أُمِّهِ، مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ). فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حَتَّى بَلَغَ: (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح:24-26)، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: "مَعَرَّةٌ: العُرُّ: الجَرَبُ. تَزَيَّلُوا: تَمَيَّزُوا، وَحَمَيْتُ القَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً، وَأَحْمَيْتُ الحِمَى: جَعَلْتُهُ حِمًى لاَ يُدْخَلُ، وَأَحْمَيْتُ الحَدِيدَ وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً" (صحيح البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 2731).
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (7) بعض الحِكَم التي تضمنها "صلح الحديبية" كتبه/ ياسر برهامي سبق وأن ذكرنا النوع الثاني مِن الكفار الذين لا يجوز قتلهم، وتثبت لهم عصمة الدم بالعهد الذي يكون بيْن المسلمين وبينهم، وهو العهد المقيَّد بالمدة، وهو الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في "الحديبية"، وقد سبق أن ذكرنا حديثها. ونذكر جملة مِن الحِكَم التي تضمنتها هذه الهدنة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله-: "وهي أكبرُ وأجَلُّ مِن أن يُحيط بها إلا اللهُ الذي أحكم أسبابهَا، فوقعت الغايةُ على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمدُه. فمنها: أنها كانت مُقَدِّمةً بيْن يدي الفتح الأعظم الذي أعزَّ اللهُ بهِ رسولَه وجندَه، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهُدنة بابًا له، ومفتاحًا، ومؤذِنًا بيْن يديه، وهذه عادةُ الله -سبحانه- في الأُمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا، أن يُوطِّئَ لها بيْن يديها مقدمات وتوطئات، تُؤذِنُ بها، وتدُلُّ عليها. ومنها: أن هذه الهُدنة كانت مِن أعظم الفُتوح، فإن الناسَ أمِنَ بعضُهم بعضًا، واختلطَ المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القُرآن، وناظرُوهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهر مَن كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مُدة الهُدنة مَن شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله "فَتْحًا مُّبِينًا". قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاءً عظيمًا، وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحُديبية. وحقيقة الأمر: أن الفتح في اللُّغة فتحُ المغلَق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مُغلقًا حتى فتحه الله، وكان مِن أسباب فتحه صدُّ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِهِ عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن عزًّا وفتحًا ونصرًا، وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى ما وراءَهُ مِن الفتح العظيم والعزِّ والنصرِ مِن وراء ستر رقيق، وكان يُعطي المشركين كلَّ ما سألوه مِن الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورءُوسهم، وهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم ما في ضمن هذا المكروه مِن محبوب: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة:216). وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلى مـَحْبوبِهَا سَبـَبًا مَا مِثْلُه سَبـَـبُ ومنها: ما سبَّبه -سبحانه- للمؤمنين مِن زيادة الإيمان والإذعانِ، والانقيادِ على ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك مِن الرضا بقضاء الله، وتصديقِ موعوده، وانتظارِ ما وُعِدُوا به، وشهودِ مِنَّة الله ونِعْمتهِ عليهم بالسَّكِينةِ التي أنزلها في قُلوبهم، أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تُزَعْزَعُ لها الجبالُ، فأنزل الله عليهم مِن سكينته ما اطمأنت به قلوبُهم، وقويت به نفُوسُهم، وازدادوا به إيمانًا. ومنها: أنه -سبحانه- جعل هذا الحكم الذي حكم به لِرسوله وللمؤمنين سببًا لما ذكره مِن المغفرة لرسوله ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، ولإتمام نِعمتهِ عليه، ولهدايته الصراطَ المستقيم، ونصرِهِ النصر العزيز، ورضاه به، ودخولهِ تحته، وانشراحِ صدره به مع ما فيه مِن الضيم، وإعطاءِ ما سألوه، كان مِن الأسباب التي نال بها الرسولُ وأصحابُه ذلك، ولهذا ذكره الله -سبحانه- جَزَاءً وغاية، وإنما يكون ذلك على فِعلٍ قام بالرسول والمؤمنين عند حكمِهِ -تعالى- وفتحِهِ. وتأمل كيف وصفَ -سبحانه- النصرَ بأنه عزيزٌ في هذا الموطن، ثم ذكر إنزالَ السكينة في قلوبِ المؤمنين في هذا الموطنِ الذي اضطربت فيهِ القلوبُ، وقَلِقَتْ أشدَّ القلق، فهي أحوجُ ما كانت إلى السكينةِ، فازدادوا بها إيمانًا إلى إيمانهم، ثم ذكر -سبحانه- بَيْعتَهم لِرسوله، وأكَّدها بكونها بَيْعةً له -سبحانه-، وأن يَده -تعالى- كانت فوقَ أيديهم؛ إذ كانت يدُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك، وهو رسولُه ونبيُّه، فالعقدُ معه عقدٌ مع مُرْسِلِهِ، وبَيْعته بيعته، فمَن بايعه، فكأنما بايع الله، ويدُ الله فوقَ يده، وإذا كان الحجرُ الأسودُ يمينَ الله في الأرض، فمَن صافحه وقبَّله، فكأنما صافح الله، وقبَّل يمينه، فيدُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بهذا مِن الحَجَر الأسود، ثم أخبر أن ناكِثَ هذه البيعة إنما يعود نكثُه على نفسه، وأن للمُوَفِّي بها أجرًا عظيمًا، فَكُلُّ مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بَيْعة على الإسلام وحقوقه، فناكِث ومُوفٍ. ثم ذكرَ حالَ مَن تخلَّفَ عنه مِن الأعراب، وظنهم أسوأ الظَّنِّ باللهِ أنَّهُ يخذُل رسولَه وأولياءَه وجندَه، ويُظْفِرُ بهم عَدُوَّهم، فلن ينقلبوا إلى أهليهم، وذلك مِن جهلهم بالله وأسمائِهِ وصِفاتِه، وما يليق به، وجهلهم برسوله وما هُوَ أهل أن يُعامِلَه به ربُّه ومولاه. ثم أخبر -سبحانه- عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البَيْعة لرسوله، وأنه -سبحانه- عَلِم ما في قلوبهم حينئذٍ مِن الصدق والوفاء، وكمال الانقياد، والطاعة، وإيثار الله ورسولِهِ على ما سواهُ، فأنزل الله السكينةَ والطمأنينة، والرضا في قلوبهم، وأثابهم على الرضا بحُكمه، والصبرِ لأمره فتحًا قريبًا، ومغانِمَ كثيرة يأخذونها، وكان أولُ الفتح والمغانم فتحَ خَيْبَرَ ومغانمها، ثم استمرت الفتوحُ والمغانمُ إلى انقضاء الدهر. ووعدهم -سبحانه- مغانِمَ كثيرة يأخذونها، وأخبرهم أنه عجَّل لهم هذه الغنيمة، وفيها قولان: أحدهما: أنه الصلحُ الذي جرى بينهم وبيْن عدوهم. والثاني: أنها فتحُ خيبر وغنائمُها، ثم قال: (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) (الفتح:20)، فقيل: أيدي أهلِ مكة أن يقاتلوهم، وقيل: أيدي اليهود حين همُّوا بأن يغتالُوا مَنْ بالمدينة بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمَن معه مِن الصحابة منها، وقيل: هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم مِن أسَد وغطفان. والصحيح تناول الآية للجميع. وقوله: (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (الفتح:20)، قيل: هذه الفعلة التي فعلها بكم، وهي كفُّ أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم، فإنَّهُم حينئذٍ كان أهل مكة ومَن حولها، وأهلُ خيبر ومَنْ حولها، وأسَدٌ وغَطَفَان، وجمهورُ قبائل العرب أعداء لهم، وهم بينَهم كالشَّامَةِ، فلم يَصِلُوا إليهم بسوءٍ، فمِن آياتِ الله -سبحانه- كفُّ أيدي أعدائهم عنهم، فلم يصلوا إليهم بسوءٍ مع كثرتهم، وشدةِ عداوتهم، وتولي حراستهم، وحفظهم في مشهدهم ومغيبِهم. وقيل: هي فتح خيبر، جعلها آية لعباده المؤمنين، وعلامة على ما بعدها مِن الفتوح، فإن اللهَ -سبحانه- وعدهم مغانِم كثيرة، وفتوحًا عظيمة، فعجَّل لهم فتحَ خيبر، وجعلها آية لما بعدها، وجزاءً لِصبرهم ورضَاهم يومَ الحديبية وشكرانًا، ولهذا خصَّ بها وبغنائمها مَن شهد الحديبية. ثم قال: (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (الفتح:20)، فجمع لهم إلى النصرِ والظَّفَرِ والغنائم الهداية، فجعلهم مهديِّين منصُورين غانمين، ثم وعدهم مغانِمَ كثيرة وفُتوحًا أُخرى، لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها، فقيل: هي مكَّةُ، وقيل: هي فارِس والروم، وقيل: الفتوحُ التي بعد خيبر مِن مشارق الأرض ومغاربها. ثم أخبر -سبحانه- أن الكفار لو قاتلوا أولياءَه، لولَّى الكفارُ الأدبارَ غيرَ منصورين، وأن هذه سنته في عباده قبلَهم، ولا تبديلَ لسُنَّته، فإن قيل: فقد قاتلُوهم يوم "أُحُد" وانتصروا عليهم، ولم يولوا الأدبار؟ قيل: هذا وعد معلق بشرطٍ مذكور في غير هذا الموضع، وهو الصبر والتقوى، وفات هذا الشرط يومَ أُحُد بِفَشَلِهم المنافي للصبر وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى، فصرفهم عن عدوهم، ولم يحصُل الوعدُ؛ لانتفاء شرطه. ثم ذكر -سبحانه- أنه هو الذي كفَّ أيدي بعضِهم عن بعض مِن بعد أن أظفر المؤمنين بهم؛ لما له في ذلك مِن الحِكم البالغة التي منها: أنه كان فيهم رجالٌ ونساء قد آمنوا، وهم يكتُمون إيمانَهم، لم يعلمْ بهم المسلمون، فلو سلطكم عليهم، لأصبتم أُولئك بمعرَّة الجيش، وكان يُصيبكم منهم معرة العُدوان والإيقاع بمَن لا يستحق الإيقاع به، وذكر -سبحانه- حصول المعرة بهم مِن هؤلاء المستضعفين المستخفِّين بهم؛ لأنها موجبُ المعرة الواقعة منهم بهم، وأخبر -سبحانه- أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم، لعذَّب أعداءه عذابًا أليمًا في الدنيا؛ إما بالقتلِ والأسر، وإما بغيره، ولكن دفع عنهم هذا العذَابَ لوجود هؤلاء المؤمنين بيْن أظهرهم، كما كان يدفعُ عنهم عذابَ الاستئصال، ورسولُه بيْن أظهرهم. ثم أخبر -سبحانه- عما جعله الكفارُ في قلوبهم مِن حَمِية الجاهليةِ التي مصدرها الجهلُ والظُّلم، التي لأجلها صدُّوا رسولَه وعِبادَه عن بيته، ولم يُقِرُّوا بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، ولم يُقِرُّوا لمحمدٍ بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه، وتيقنِهم صحةَ رسالته بالبراهين التي شاهدوها، وسمعوا بها في مدة عشرين سنة، وأضاف هذا الجَعْلَ إليهم وإن كان بقضائه وقدره، كما يُضاف إليهم سائرُ أفعالهم التي هي بقُدرتهم وإرادتهم. ثم أخبر -سبحانه- أنه أنزل في قلبِ رسوله وأوليائه مِن السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه مِن حَمِيَّة الجاهلية، فكانت السكينةُ حظَّ رسوله وحِزبه، وحَميةُ الجاهلية حظَّ المشركين وجندهم، ثم ألزم عِبادَه المؤمنين كلمة التقوى، وهي جِنس يعم كل كلمةٍ يُتقى الله بها، وأعلى نوعِها كلمةُ الإخلاص، وقد فُسِّرَتْ بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وهي الكلمةُ التي أبت قريش أن تلتزِمها، فألزمها اللهُ أولياءَهُ وحزبه، وإنما حَرَمَهَا أعداءَهُ صيانة لها عن غير كفئها، وألزمها مَن هو أحقُّ بهَا وأهلها، فوضعها في موضعها، ولم يُضيعها بوضعها في غير أهلها، وهو العليم بمحالِّ تخصيصه ومواضعه. ثم أخبر -سبحانه- أنه صدَقَ رسُولَه رؤياه في دخولهم المسجدَ آمنين، وأنه سيكون ولا بد، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العامِ، والله -سبحانه- عَلِمَ مِن مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، فأنتم أحببتم استعجالَ ذلك، والربُّ -تعالى- يَعلم مِن مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلمُوه، فقدَّم بيْن يدي ذلك فتحًا قريبًا، توطئة له وتمهيدًا. ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحق لِيُظهره على الدِّين كُلِّه، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهلِ الأرض، ففي هذا تقوية لقلوبهم، وبِشارة لهم وتثبيتٌ، وأن يكونوا على ثقةٍ مِن هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه، فلا تطنوا أن ما وقع مِن الإغماض والقهرِ يومَ الحُديبية نُصرة لعدوه، ولا تخليًّا عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يُظهِرَه على كل دِينٍ سواه؟! ثم ذكر -سبحانه- رسولَه وحزبه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتِهم في التوراة والإنجيل؛ فكان في هذا أعظمُ البراهين على صدق مَن جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم: إنهم متغلِّبون، طالِبُو مُلكٍ ودنيا! ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هَدْيَهم وسيرتَهم، وعدلهم وعلمهم، ورحمَتهم وزهدَهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة، قالوا: "ما الذين صَحِبُوا المسيحَ بأفضلَ مِن هؤلاء"، وكان هؤلاء النصارى أعرفَ بالصحابة وفضلهم مِن الرافضة أعدائهم، والرافضةُ تَصِفُهُمْ بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) (الكهف:17)" (انتهى مِن زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم).
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |