بيع العينة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5036 - عددالزوار : 2189790 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4618 - عددالزوار : 1470278 )           »          ليس ترفا..! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 109 - عددالزوار : 64132 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 207 - عددالزوار : 125090 )           »          حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 229 - عددالزوار : 146936 )           »          السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 110 - عددالزوار : 25276 )           »          إعانة الفقيه بتيسير مسائل ابن قاسم وشروحه وحواشيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 69 - عددالزوار : 24522 )           »          (وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلَا النَّصارى) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          من أعظم ما يُفسد العلاقة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 12-10-2025, 11:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,496
الدولة : Egypt
افتراضي بيع العينة

بيع العِينة[1]

عبدالرحمن بن يوسف اللحيدان


المسألة الأولى: التعريف:
قال ابن فارس: (قال الخليل: العِينَة السَّلف، يقال: تعيَّنَ فلانٌ من فلانٍ عِيْنَةً وعيَّنَهُ تعْيِيْنًَا، قال الخليل: واشتُقَّت من عَيْنِ الميزان، وهي زيادَتُهُ، وهذا الذي ذَكَرَهُ الخليل صحيحٌ لأنَّ العينة لا بد أن تَجُرَّ زيادةً، ويقال من العينة: اعْتَانَ)[2].

وتنوَّعت عبارات الفقهاء في تعريف العينة وذلك راجعٌ إلى تصويرهم للعينة بأكثر من صورةٍ، فإنَّهم ذكروا للعينة عددًا من الصُّور، ولعل الذي حملهم على ذلك الأخذ بالمعنى اللُّغوي للعينة السَّابق ذكره، وقد قسَّم المالكيَّة العينة إلى ثلاثة أقسامٍ: جائزةٌ ومكروهةٌ ومحرَّمةٌ، وأوصلوا صورها إلى سبعةٍ وعشرين صورةً[3]، حاصلها على ما قرَّره ابن جزي[4]: أنها تعود إلى تسع صورٍ، وأنَّ الجائز منها سبع صورٍ، والممنوع صورتان[5]، وهما المرادتان عند الإطلاق وسيأتي بيانهما بإذن الله تعالى، والصُّور التي ذكرها المالكيَّة إنَّما أدخلوها في لفظ العينة توسُّعًا وأخذًا بالمعنى اللُّغوي، حتى أطلقوا وصف العينة على عددٍ من بيوع الآجال[6].

وذكر الحنفيَّة عددًا من الصُّور للعينة وأدخلوا فيها: بيع التَّورُّق حملًا لمعنى العينة على العدول من الدَّين إلى العين[7]، وذكروا أنَّ الممنوع حيث وجدت الحيلة على الرِّبا، ونصُّوا على صورتين سيأتي ذكرهما[8]، وجرى الحنابلة على ذلك فجعلوا الصَّور ثلاث صور[9].

وسأتكلَّم في هذه المسألة عن العينة التي تراد عند الإطلاق، ولم يختلف الفقهاء على عدِّها من صور العينة، وهي: (أن يبيع سلعةً بثمنٍ مؤجَّلٍ ثم يشتريها منه بأقلَّ من الثَّمن حالًّا)[10].

المسألة الثانية: صورة المسألة:
ضبط الفقهاء العينة بقيودٍ يتبيَّن فيها الصُّور الممنوعة وهي كالتالي:
1- أن يكون الثَّمن للسِّلعة الأولى مؤجّلًا أو لم يقبض.
2- أن يكون المشتري في البيع الثاني: البائع الأول أو وكيله، وكذا أبوه وابنه إن أُدْخلا حيلة[11].
3- أن يكون المبيع في البيع الثاني هو المبيع في البيع الأول.
4- ألَّا تتغيَّر صفة السِّلعة بما ينقصها.
5- أن يكون الثَّمن الثاني من جنس الثَّمن الأول[12].

ومثالها: أن يشتري زيدٌ سيَّارةً من عمروٍ بمئة ألف ريالٍ إلى سنةٍ، ثم يبيعها زيدٌ على عمروٍ بثمنٍ حالٍّ بثمانين ألف ريالٍ وهي على حالها لم يتغير في صفتها ما ينقص قيمتها.

وعكسها: أن يكون زيدٌ هو البائع فيبيعَ على عمروٍ سيَّارةً بثمنٍ حالٍّ بثمانين ألف ريالٍ، ثم يشتريها منه بثمنٍ مؤجَّلٍ إلى سنةٍ بمئة ألف ريالٍ.

فهاتان الصورتان ظاهرٌ انطباق القيود الماضية عليهما، غير أنَّ البائع في محل المشتري.

وذكروا العينة الثلاثية: وهي أن يدخلوا بينهما رجلًا ثالثًا فيبيع عمروٌ على زيدٍ السيَّارة بثمنٍ مؤجَّلٍ إلى سنةٍ بمئة ألف ريالٍ، ثم يبيعها زيدٌ على قاسمٍ بثمنٍ حالٍّ بثمانين ألف ريالٍ، ثم يبيعها قاسمٌ على عمروٍ بثمانين ألف ريالٍ، فيكون إدخال قاسمٍ لأجل الخروج عن الصُّورة المشهورة للعينة.

فيُضاف في هذه الصُّورة قيدٌ وهو أن يكون المشتري الوسيط بينهما متواطِئًا لأجل الحيلة على الرِّبا.

المسألة الثالثة: الحكم:
تحرير محل النزاع في المسألة:
1- أجمع أهل العلم على أنَّ البيع الثاني إن كان مشروطًا في البيع الأول فهو بيعٌ فاسدٌ[13].

2- أجمع الفقهاء على أنَّ السِّلعة إن عادت إلى البائع الأول بمثل الثَّمن فالبيع جائزٌ لانعدام الشبهة[14].

3- لا خلاف بين الفقهاء في جواز عَوْدِ السِّلعة إلى البائع الأول بأنقصَ من القيمة إن وُجِدَ في المبيع ما تَنقُص به القيمة[15].

4- لم أقف على خلاف في جواز البيع إن كان ثمن البيعة الثانية حالًَّا مخالفًا لجنس الثَّمن الأول[16].

واختلفوا في حكم العِينة على الصُّور المذكورة في على قولين:
القول الأول: أنَّ البيع بهذه الصور جائزٌ دون إشكالٍ، وبهذا قال الشافعيَّة[17]، وبه قال أبو يوسف من الحنفيَّة[18]، وابن حزمٍ من الظاهريَّة[19]، وروي عن الشعبيِّ والنخعيِّ[20].

وقد أطلق متأخِّرو الشافعيَّة على بيع العينة حكم الكراهة لأجل الخلاف فيه[21].

القول الثاني: أنَّ البيع الثاني محرَّمٌ فاسدٌ؛ لأنه حيلةٌ على الرِّبا، وبه قال ابن عباسٍ[22]، وروي عن أنس بن مالكٍ[23]، وعائشة[24]، وبهذا قال الحنفيَّة[25]، والمالكيَّة[26]، والحنابلة[27]، وهو قول طاووسٍ ومجاهدٍ[28]، وابن المسيب[29]، وحمَّاد بن أبي سليمان[30]، والحسن وابن سيرين وأبي الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوريِّ والحسن بن صالح والأوزاعيِّ ومعمر بن راشدٍ وإسحاق[31].

وأمَّا البيعة الأولى فإنَّها تصحُّ عند المذاهب الثلاثة[32]، فإن كان البيع الأول مقصودًا به البيع الثاني فيفسد عند الحنابلة كذلك[33].

دليل أصحاب القول الأول:
الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].

وجه الدلالة: أنَّ هذه الآية عامَّة، ودخل في جملتها الصُّورة محلُّ البحث، ولم يأتِ في الكتاب والسُّنة ما يدلُّ على تحريمها[34].

ونوقش: بأنَّه لا يسلَّم عدم الدليل على المنع، بل في المسألة نصوصٌ ظاهرةٌ ستأتي حكايتها في أدلَّة القول الثاني، وهي مخصِّصَةٌ لعموم هذه الآية[35].

الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمرٍ جنيبٍ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا؟»، فقال: لا والله يا رسولَ الله، إنَّا لنأخذ الصَّاع من هذا بالصَّاعين، بالثلاثة، فقال: «لا تَفْعَلْ، بِع الجمع بالدَّراهم، ثم ابْتَع بالدَّراهم جنيبًا»[36].

وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الطَّريق الشَّرعيِّ الذي يتخلَّص به من الرِّبا، وهو الذي يريده من يتبايع بالعينة، إذ (هو سببٌ يمنع من الرِّبا الحرام، وما مَنَعَ من الحرام كان ندبًا)[37] ، ولم يمنعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من البيع على الذي يريد الشِّراء منه، فعُلِمَ منه جواز ذلك.

ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: الفرق بين صورة المسألة محلِّ البحث والصُّورة الواردة في الحديث: وذلك أننَّا نقول ببطلان البيع إذا تواطأ البائع والمشتري على كون البيع صوريًَّا لا حقيقة له، وغاية الحديث محلّ الاستدلال أنَّه أمَرَهُ أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثَمَنِها تَمرًا آخر، ولا يستقيم لكم الاستدلال إلَّا بأن تقولوا بأنَّ البيع الذي أرشده إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيعٌ صحيحٌ مقصودٌ فيه العوضان، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يأذن بالعقد الباطل، وأن تقولوا بأنَّ قوله «بِع» عامٌّ، وهذا ليس بمسلَّمٍ؛ إذ أنَّ هذه اللَّفظة مطلقة لا عامَّةٌ، والأمر المطلق إنَّما يتناول البيع الصَّحيح، ولا يصحُّ الاستدلال بهذا المطلق على صورةٍ معيَّنةٍ، فإن قوله «بِع الجمع» لا دلالة فيها على جواز بيعها من البائع للتَّمر الجيِّد، (والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيءٍ من صورها؛ لأنَّ الحقيقة مشتركةٌ بين الأفراد، والقَدْرُ المشترك ليس هو ما يميَّز به كلُّ واحدٍ من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزمٌ له؛ فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميَّز بحالٍ)[38] ، يوضِّح الفرق: أنَّه إن باع الجمع بالدَّراهم فقد قصد الدَّراهم وأرادها عينًا، ليشتري بها، وهذا قصدُ ملكٍ للثَّمن، وهو غير موجودٍ في العينة، إذ أنَّ السَّلعة غير مقصودةٍ للمشتري وإنَّما يريد أن تكون ستارًا بينه وبين الرِّبا فيستبين الفرق بين الصُّورتين[39].

الوجه الثاني: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشُّحوم فجملوها فباعوها»[40]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل»[41].

ووجه الدلالة منه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر أنَّ اليهود دخلوا تحت اللَّعن، وبيَّن سببه، وهو أنَّ الله تبارك وتعالى حرَّم عليهم الشُّحوم فجملوها ثم باعوها احتيالًا على الحرام، فعُلِمَ أنَّ الحيلة التي يُستَحَلُّ بها الحرام لا تصيِّر الحرام حلالًا، بل تزيده حرمةً، وسيأتي ما يروى من حديث أنسٍ حينما سئل عن العينة فقال: قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يخدع هذا ممَّا حرَّم الله ورسوله»[42].

وصَدَقَ أيوب السَّختياني[43] حين قال: (يخادعون الله كأنَّما يخادعون آدميًَّا لو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليَّ)[44] ، ولا يستقيم لكم الاستدلال بالحديث إلَّا إنْ قلتم بصحَّة ما فَعَلَهُ اليهود حين فعلوا ما فعلوا استحلالًا لما حرَّم الله، فإن قلتم بينهما فرقٌ وإنَّما أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عقدٍ صحيحٍ، رجعتم إلى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر بحيلةٍ يُستَحَلُّ بها ما كان حرامًا، وهو الذي نقول به.

دليل أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: حديث العالية بنت أيْفَع قالت: كنت قاعدةً عند عائشة رضي الله عنها فأتتها أمُّ محبَّة فقالت لها: يا أمَّ المؤمنين أكنت تعرفين زيدَ بن أرقمٍ؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمئةٍ نسيئةً وإنَّه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمئةٍ نقدًا، فقالت لها: (بئسَ ما اشتريت وبئسَ ما اشترى أبْلِغي زيدًا أنَّه قد أبطل جهاده مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب)[45].

وجه الدلالة: أنَّ الصورة التي ذَكَرَتْها العالية هي صورة العينة، وقد غضبت عائشة رضي الله عنها عندما سمعت ما ذكرته، وأغلَظَت عليها وعلى زيدِ بن أرقم رضي الله عنه في الإنكار، فسمَّت البيع بيعَ سوءٍ والشراءَ شراء سوءٍ، وذكرت أمرًا لا يوقَفُ عليه بالرأي حيث ذكرت حُبُوطَ أجر الجهاد مع عِظم شأنه، وإحباطُ الأعمال لا يُوقَف عليه من طريق القياس، فعُلِمَ أنَّها لم تقله إلا من طريق النَّقل، إذ لولا أنَّ عندها علمًا بأنَّ الذي صنعه محرَّم لما قالت ما قالت، فعُلِم أنَّ ما حكته عائشة رضي الله عنها له حكم الرَّفع، وسيأتي ما يسند هذا في باقي الأدلة[46].

ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: الطَّعن في صحَّة الحديث، وذلك من جهات:
الجهة الأولى: أنَّ العالية بنت أيْفَع -امرأةُ أبي إسحاق السَّبِيعي- مجهولٌ حالها، لم يرو عنها غيرُ زوجها، وابنها يونس ضعيفٌ[47].

وأجيب عنه: بعدم التَّسليم بأن العالية مجهولة، (بل هي امرأةٌ جليلة القدر معروفةٌ ذكرها محمد بن سعد في كتاب الطبقات فقال: العالية بنت أيْفَع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السَّبِيعي دخلت على عائشة وسألتها وسمعت منها)[48] ، وما ذكرتُم في أنَّه قد روى عنها زوجها أبو إسحاق وابنُها يونس كافٍ في رفع جهالة العين عنها[49]، وقد وثَّقها جمعٌ من أهل العلم[50]، وأمَّا تدليس أبي إسحاق فلا تأثيرَ له في عدم رفع الجهالة، ويونُس ممَّن أخرج له مسلمٌ في صحيحه[51].

الجهة الثانية: أنَّ أبا إسحاق السَّبِيعي وهو الرَّاوي عنها مدلِّسٌ، (ولم يَذْكُر زوجُها ولا ابنُها في روايتهما أنَّها سمعت سؤالَ المرأة لأمِّ المؤمنين، وإنَّما في حديثها دَخَلْتُ على أمِّ المؤمنين أنا وأمُّ ولدٍ لزيد بن أرقم فسألتها أم ولد زيدٍ، ويمكن أن يكون ذلك السُّؤال في ذلك المجلس ويمكن أن يكون في غيره)[52].

ونوقش: بأنَّه جاء في رواية البيهقي والدارقطني المتقدِّمة أنَّ أبا إسحاق قال: عن العالية كنت قاعدةً عند عائشة رضي الله عنها فأتتها أمُّ محبَّة فقالت لها: يا أمَّ المؤمنين...الخ وهذا صريحٌ في سماعها وشهودِها السُّؤال وسماعِها الجواب، قال ابن القيم: (إنَّ هذا مما ضُبِطَت فيه القصَّة ومن دَخَلَ معها على عائشة، وقد صدَّقها زوجها وابنها وهُمَا من هُمَا، فالحديث محفوظٌ)[53].

الوجه الثاني من أوجه المناقشة: أنَّه قد جاء في هذا الحديث ما لا يصحُّ قوله، ولا يصحُّ أن يكون خَرَجَ من عائشة رضي الله عنها، وذلك أنَّها ذكرت حُبُوطَ عمل زيدٍ رضي الله عنه وحُبوطَ جهاده، وهو ممَّن شَهِدَ المغازي كلَّها عدا بدرًا وأحدًا، وبايع تحت الشَّجرة وقد قال الله تبارك وتعالى عمَّن بايع تحت الشَّجرة: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخُلُ النَّار أحد ممَّن بايع تحت الشَّجرة»[54]، فلا يُمكن أن يخرُجَ هذا الكلام من عائشة مع أنَّه إن كان جاهلًا فإنَّ له أجرًا واحدًا ولا يأثَم، وإن كان اجتهد فلْيَسَعْهُ ما وَسِعَ ابن عباسٍ وغيره من الصحابة الذين خالفوا في مسائل صريحةٍ من مسائل الرِّبا، (فكيف يُظَنُّ بأمِّ المؤمنين إبطال جهاد زيد بن أرقم في شيءٍ عَمِلَهُ مجتهدًا لا نصَّ في العالَمِ يوجد خلافه، لا صحيحٌ ولا من طريقٍ واهيةٍ)[55].

وأجيب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: (أنَّه لولا أنَّ عند أمَّ المؤمنين علمًا لا تستريب فيه أنَّ هذا محرَّمٌ، لم يُستَحْسَن أن تقول مثل هذا بالاجتهاد، لا سيَّما إن كانت قد قصدت أنَّ العمل يحبط بالرِّدة، وأن استحلال الرِّبا كفرٌ، وهذا منه، ولكنَّ زيدًا معذورٌ؛ لأنه لم يعلم أنَّ هذا محرَّم، ولهذا قالت (أبلغيه).

[الجواب الثاني:] يحتمل أن تكون قصدت أنَّ هذا من الكبائر التي يقاوِمُ إثمُها ثواب الجهاد، فيصير بمنزلة من عمل حَسَنَةً وسيِّئَةً بقدرها، فكأنَّه لم يعمل شيئًا.

[الجواب الثالث أنَّه]: وعلى التقديرين: فجزمُ أمِّ المؤمنين بهذا: دليلٌ على أنَّه لا يَسوغُ فيه الاجتهاد، ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنِّزاع بين الصَّحابة لم تُطلق عائشة على زِيدٍ ذلك؛ فإنَّ الحسنات لا تَبْطُل بمسائل الاجتهاد)[56].

الوجه الثالث ممَّا يناقش به هذا الحديث: أنَّه يُحتمل أن تكون عائشة إنَّما قصدت بإنكارها على زيدٍ أنَّه باع إلى العطاء، أو بيعه لِما لم يملك[57].

وأجيب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنَّه قد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان قِطْرِيَّان غَلِيْظَان، فكان إذا قَعَدَ فعَرِقَ، ثقُلا عليه، فقدِم بزٌّ من الشَّام لفلانٍ اليهودي، فقلت: لو بعثتَ إليه، فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة، فأرسل إليه، فقال: قد علمتُ ما يريد، إنَّما يريد أن يذهب بمالي أو بدراهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ، قد علِمَ أنِّي من أتقاهم لله، وآداهم للأمانة»[58].

ووجه الدلالة منه: أنَّها الرَّاوية لهذا الحديث الذي فيه جواز البيع إلى الميسرة، فلأَن يجوز عندها البيع الذي بُيِّنَ فيه الأجل بالعطاء ونحوه من باب أولى، وقد رُوِيَ عنها جواز البيع إلى العطاء، فقد روي عن أمَّهات المؤمنين أنهُنَّ كنَّ يشترين إلى العطاء[59].

الجواب الثاني: أنَّه لا يسلَّم أنَّ النَّهي لأجل البيع إلى العطاء لِمَا سبق في الوجه الأول، ولاستدلالها بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 275]، فهذا دليلٌ على أنَّها إنَّما منعت وزَجَرَت لأجل الرِّبا، والبيعُ إلى العطاء غايته أن يكون فيه جهالة، ولا يدخل ذلك في اسم الرِّبا بحالٍ[60].

الوجه الرابع مما يناقش به حديث عائشة: أنَّ غاية ما روي عن عائشة على تقدير صحَّته: إنَّما هو رأيٌ رأته، ولا حجَّة بقولها، وقد خالفها زيدٌ رضي الله عنه، وقول زيدٍ هو الذي يوافق القياس[61].

وأجيب عنه: أنَّه لا يسلَّم أنَّ هذا القول قولٌ لزيدٍ رضي الله عنه بحيث يعارَض به ما قالته عائشة رضي الله عنها؛ (لأنَّ زيدًا لم يقُلْ هذا حلالٌ، بل فَعَلَه، وفِعْلُ المجتهد لا يدلُّ على قوله على الصَّحيح؛ لاحتمال سهوٍ أو غفلةٍ أو تأويلٍ أو رجوعٍ ونحوه، وكثيرًا ما يفعل الرَّجل الشَّيءَ ولا يعلم مفسدته، فإذا نُبِّه لها انتبه، ولا سيَّما أمُّ ولده، فإنَّها دخلت على عائشة تَسْتَفْتِيها، وطلبَت الرُّجوع إلى رأس مالها، وهذا يدلُّ على الرُّجوع عن ذلك العقد، ولم يُنْقَل عن زيدٍ أنَّه أصرَّ على ذلك)[62] ، وقد وافق عائشة على ما ذهبت إليه جمعٌ من الصَّحابة، بل جاء ذلك مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم صريحًا كما سيأتي.

الوجه الخامس مما يناقش به حديث عائشة: قال ابن حزم: (من الضَّلال العظيم أن يُظَنَّ أنَّ عندها رضي الله عنها في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرًا تكتمه فلا ترويه لأحدٍ من خلق الله تعالى حاشا لها من ذلك)[63].

وأجيب عنه: بعدم التَّسليم بأنَّ في الحديث ما يدلُّ على أنَّ عائشة كتمت حديثًا، ونُطْقُهَا بالحكم مجرَّدًا عن الاستدلال ليس كتمانًا، فإن قيل بأنَّه لو كان عندها أثرٌ لنطقت به فيقال: بأنَّ أمَّ ولد زيدٍ سألتها عن مسألة فأفتتها فيها، وليس من لازم ذلك ألَّا يكون عندها فيه سُنَّة، بل قد تكون اكتفت بما اشتهر بين الصَّحابة رضوان الله عليهم من المرفوع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسيأتي.

الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّطَ الله عليكم ذُلًَّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»[64].

وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن سبب الوعيد الوارد في هذا الحديث، وأنَّها بسبب التبايع بالعينة[65]، وقد سبق بيان معنى العينة، وقد فسَّرها جمعٌ من الصَّحابة بما سبق بيانه عند الكلام على صورة المسألة، وستأتي الآثار قريبًا.

ونوقش: بأنَّه من رواية أبي عبد الرحمن الخُراساني واسمه إسحاق بن أَسيد، وهو مجهول الحال[66].

وأجيب: بأنَّ للحديث طُرقًا أخرى، فقد أخرجه أحمد في مسنده من طريق أبي بكر بن عيَّاش عن الأعمش عن عطاءٍ به ولفظه: «إذا ضنَّ النَّاس بالدِّينار والدِّرهم تبايعوا بالعين، واتَّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم»[67]، وأخرجه أبو يعلى في مسنده من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاءٍ به[68]، (فهذان إسنادان حسنان أحدهما يشدُّ الآخر ويقوِّيه)[69].

الدليل الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهُمَا أو الرِّبا»[70].

وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعةٍ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فله أوكَسُهُمَا أو الرِّبا» صريحٌ في أنَّ المقصود بيع العينة، ووجهه: أنَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن ما يَؤُول إليه الجمع بين بيعتين في بيعةٍ، وأنَّه إمَّا أن يصير إلى أن يأخُذَ أوكسَهُمَا - أيْ أنقصَهُما - أو الرِّبا، وهو مطابقٌ لمعنى العينة: فإن فيها بيعتين، وفيها ثمنين، أحدهما ربًا والثاني أنقص، فطابق الحالة الواردة في الحديث[71].

الدليل الرابع: أنَّه ثبت عن ابن عباسٍ وأنسٍ رضي الله عنهم النَّهي عن العينة، فعن أنسٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهم أنهما سُئلا عن العينة فقالا: (إنَّ الله لا يُخْدَع، هذا ممَّا حرَّم الله ورسوله)، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (اتَّقوا هذه العينة تكون دراهم بدراهم بينهما حريرةٌ)[72].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 133.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 131.98 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]