الفطرة الإنسانية في القرآن الكريم وأبعادها الفقهية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 599 - عددالزوار : 70594 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 16812 )           »          بين الوحي والعلم التجريبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          غزة في ذاكرة التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 9118 )           »          حين تتحول الحماسة إلى عبء بين الجاهل والعالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          نعمة الأمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 32312 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 2921 )           »          منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي الله داود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          واجبات الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 24-09-2025, 02:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,183
الدولة : Egypt
افتراضي الفطرة الإنسانية في القرآن الكريم وأبعادها الفقهية

الفطرة الإنسانية في القرآن الكريم وأبعادها الفقهية

محمد عبدالعاطي محمد عطية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الكريم، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين؛ أما بعد:
فالفِطرة بالكسر هي: الخِلقة، وقد فطره يفطُره بالضم فَطرًا؛ أي: خلقه، والفَطر أيضًا: الشق، يُقال: فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيءُ: تشقق[1].

وفطر الله الخلق، أي خلقهم، فهو فاطر السماوات والأرض، والفطرة التي طُبعت عليها الخليقة من الدين، فطرهم الله على معرفته بربوبيته، وانفطر الثوب وتفطر؛ أي: انشق، وتفطرت الجبال والأرض: انصدعت[2].

والفَطر: الابتداء والاختراع؛ قال ابن عباس: "كنت لا أدري ما فاطر السماوات، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنا ابتدأتها"[3].

وعلى هذا فلفظ (فطر) يدور معناه على الشق والابتداء والخَلق.

معنى الفطرة اصطلاحًا:
ورد لفظ الفطرة في كتاب الله، في آية واحدة؛ هي قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، كما ورد الفعل منه وهو فطر، ولفظ فاطر، وفطور، ومنفطر، في آيات كثيرة يدور معنى الفطر فيها على الخلق، والابتداء، والانشقاق.

وفي اللسان: والفطرة تعني: الابتداء والاختراع[4].

والفطرة في الاصطلاح: هي الخِلقة أو الدين[5].

وقيل: هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره، وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاءَ مستعدين لقبول الخير، والإخلاص لله، والتقرب إليه[6].

ثانيًا: المعني العام:
من المعلوم أن الفطرة هي ما جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة وكذا الباطنة، وتلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الإخلال بها أو مخالفتها خروجًا عن الإنسانية، إما خروجًا كليًّا أو خروجًا جزئيًّا.

والإسلام في كل الرسالات السماوية، كلها جاءت موافقةً للفطرة الإنسانية، ومؤيدةً لها، ومنطلقةً منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30].

كما أن الفطرة دليلٌ على وجود الله عز وجل، فالكون وما فيه من نظام، وإحكام، وجمال، وكمال، وتناسق، وإبداع، ليس هو وحده الشاهدَ الوحيد على وجود قيُّوم السماوات والأرض، وإنما هناك شاهد آخر، وهو الشعور المغروس في النفس الإنسانية بوجوده سبحانه وتعالى، وهو شعور فطري فطر الله الناس عليه، وهو المعبَّر عنه بالغريزة الدينية، وهو المميِّز للإنسان عن الحيوان، وقد يغفو هذا الشعور بسبب من الأسباب، فلا يستيقظ إلا بمثير يبعث على يقظته؛ من ألمٍ ينزل به، أو ضُرٍّ يحيط به؛ وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾ [يونس: 12].

إن فطرة الإنسان تشهد بوجود الله تعالى، مهما حاول الإنسان المنكِر إخفاء تلك الحقيقة، فكم ممن ينكر وجود الله تعالى، فإذا ضاقت به السبل في الأزمات لم يجد إلا أن يتوجه بقلبه إلى السماء، وربما يرفع يديه في خضوع وتذلل، يبحث عن القوة العليا؛ ليجد مخرجًا مما هو فيه من ضيق!

آيات الفطرة في القرآن الكريم ودلالتها:
1- آيات تدل صراحة على الفطرة الإنسانية:
قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].

قال ابن كثير رحمه الله: "فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"[7].

قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الإقرار والاعتراف بالخالق فطريٌّ ضروريٌّ في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يُفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظرٍ تحصل له به المعرفة"[8].

ويقول: "إن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وإنه أشد رسوخًا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تُعرض عنها أكثر الفِطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تُعرض عنه فطرة"[9].

2- آيات تشير إلى الفطرة الإنسانية:
1- ومن ذلك أن الله أشهد على بني آدم أنفسهم ألَّا يعبدوا إلا إياه قبل خلقهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك، وجبلهم عليه"[10].

فلقد استخرج الله بني آدم من بطون أمهاتهم مفطورين على معرفته سبحانه وتعالى.

2- وكذا الميثاق المذكور والموثق في كتاب الله تعالى؛ في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة: 7].

فعن مجاهد في قوله: ﴿ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ﴾ [المائدة: 7]، قال: "الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم"[11].

وفي هذه الآية إشارة إلى أن بني آدم وُجدوا وقد فُطروا على الطاعة والسمع لله عز وجل.

3- وكذا العهد المذكور في سورة يس في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].

والمراد بالعهد هنا الميثاق المأخوذ عليهم حين أُخرجوا من ظهر آدم[12].

قال ابن كثير: "هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: ﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [يس: 61]؛ أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به"[13].

وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20].

قال القفَّال: "هو ما ركَّب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات"[14].

قال أبو جعفر الطبري: "يقول تعالى ذكره: إنما يتعظ ويعتبر بآيات الله أولو الألباب، الذين يوفون بوصية الله التي أوصاهم بها، ﴿ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20]؛ ولا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه إلى خلافه، فيعملوا بغير ما أمرهم به، ويخالفوا إلى ما نهى عنه"[15].

وقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الحديد: 8].

قال ابن كثير: "ويعني بذلك: بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أُخذ عليهم في صلب آدم، وهو مذهب مجاهد، فالله أعلم"[16].

حجية الفطرة ودلالتها:

للفطرة الإنسانية حجية ودلالات ظاهرة في القرآن الكريم؛ فمن ذلك ما يلي:
1- تدل على وجود الله سبحانه وتعالى:
قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].

فالآية صريحة الدلالة على أن دعاء المضطر هو السبب في إجابة سؤاله، وكشف السوء عنه، وهذا من آيات الله العظيمة، الدالة على وحدانيته، وتفرده بالربوبية والألوهية؛ ولهذا أعقبه تعالى بقوله: ﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].

الإنسان من طبيعته إذا وقع في شدة وضُيِّق عليه، تحركت فطرته ومشاعره، واتجه إلى الله، ونسيَ ما كان يدعو من قبل، وهنا يُوقن أنه لا منقذ إلا الله، وتنكشف عنه الحُجب، كم من شارد فاسق وقع في مأزق تاب إلى الله، ورجع إلى طاعته! فالفطرة خير شاهد، وأقوى دليل، وأنصع برهان، وأوضح حجة؛ لأنها لا تحتاج إلى تركيب مقدمة، وإقامة أدلة جدلية واستنتاج، ودليلها لا يمكن مقاومته، ولا دفعه بالشبهات والوساوس.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان هذه في عدة آيات؛ منها:
1- قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾ [يونس: 12].

2- وقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الزمر: 8].

3- وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51].

4- وقال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53].

5- وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22].

6- وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 67].

7- وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [لقمان: 32][17].

فالإنسان من طبيعته إذا وقع في شدة أو همٍّ، أو ضيق أو نازلة، تحركت فطرته ومشاعره من تلقاء نفسه، واتجهت إلى الله الخالق المدبر، ونسيَ ما كان يدعو ويعبد من قبل، وهنا يُوقن أنه لا منقذ إلا الله عز وجل.

وجاء في شرح العقيدة الطحاوية: "يظهر لكل عاقل أن لهذا الوجود خالقًا، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها"[18].

2- دلالة الإسلام:
الصحابة رضوان الله عليهم فهموا أن المراد بالفطرة: الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو ينصِّرانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء))[19].

ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30].

ولذلك سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك عن أطفال المشركين؛ لوجود ما يغيِّر تلك الفطرة السليمة، وإلا لما سألوا عنهم، وأيضًا فإن أبا هريرة رضي الله عنه تلا قوله تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] عقب هذا الحديث، مما يدل أنه فهِم أن المراد من الفطرة: الإسلام.

ثانيًا: إن هذا الحديث يؤيده ظاهر القرآن؛ وهو قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، فقد عمَّ الله كل الناس بهذه الفطرة في قوله: (الناس)، وأضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذمٍّ؛ لأنها منصوبة على المصدرية، التي دل عليها الفعل (أقم)، فيكون المعنى: إن إقامة الوجه للدين حنيفًا هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتفسير الآية بهذا المعنى منقول عن عامة السلف[20].

ثالثًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم))[21]، والحنيفية: الإسلام.

3- تدل على أنها الميثاق الذي أخذه الله على عباده:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه"[22].

فالله تعالى خلق الإنسان وجعله مفطورًا على معرفة ربه وعبادته.

إن هذه الفطرة توصل الإنسان إلى المعرفة الإجمالية بخالقه، وتُشعره بصلته به وأنه إلهه وخالقه؛ لذا: فإنه لا بد لهذه الفطرة من تزكية وتنمية، وذلك لا يكون إلا بوحيٍ من الله تعالى بواسطة رسله؛ قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

ولهذه الفطرة في الإنسان حتى تقوم بدورها الطبيعي ركنان:
1- القلب السليم: وهو القلب المؤمن الذي لم يتأثر بالشياطين من الجن والإنس، بل ظل على فطرته وسلامته التي ينتج عنها الاعتقاد الصحيح، وكلما كان التأثر والانحراف أقل في هذا القلب، ازداد قبوله للحق وتعلقه به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].

2- العقل الصحيح: وهو العقل النقيُّ الصافي غير المنساق لمؤثرات الهوى والشهوة، المهيَّأ لاحترام الحقائق وقبول الحق، الرافض للوهم والخرافة؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 19 - 22].

فالعقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلًّا بذلك، إنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجز وحدها عن دركها[23].

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى[24]: "والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله، ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخِصال؛ فالفطرة الأولى تزكِّي الروح، وتطهِّر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن الخِتان".

[1] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ)، تحقيق: أحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الرابعة 1407هـ‍ - 1987م، عدد الأجزاء: 6، (2/ 781).

[2] العين لأبي عبدالرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، عدد الأجزاء: 8 (7/ 418).

[3] لسان العرب لابن منظور: (5/ 55)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد بن علي الفيومي، المكتبة العلمية - بيروت: (2/ 476، 477).

[4] لسان العرب لابن منظور (5/ 58)، مادة (فطر).

[5] مختار الصحاح للجوهري (ص212).

[6] بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، لأبي عبدالله، عبدالرحمن بن ناصر آل سعدي (المتوفى: 1376هـ)، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الرابعة، 1423هـ، (ص64).

[7] تفسير ابن كثير (3/ 433).

[8] مجموع الفتاوى لابن تيمية (16/ 328).

[9] المرجع السابق (2/ 16).

[10] تفسير ابن كثير (3/ 500).

[11] جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (10/ 93).

[12] فتح القدير، للشوكاني (4/ 377).

[13] تفسير ابن كثير (6/ 584).

[14] تفسير القرطبي (9/ 308).

[15] تفسير الطبري (16/ 419).

[16] تفسير ابن كثير (8/ 11).

[17] الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 369).

[18] شرح العقيدة الطحاوية (ص212).

[19] رواه البخاري كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلَّى عليه؟ (2/ 95)، رقم الحديث (1359).

[20] تفسير الطبري (20/ 97).

[21] مسند أحمد، مسند الشاميين، حديث عياض بن حمار المجاشعي، (29/ 32)، رقم الحديث (17484)، إسناده صحيح على شرط مسلم.

[22] تفسير ابن كثير (3/ 500).

[23] منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة لتامر محمد محمود متولي، دار ماجد عسيري (1/ 167).

[24] هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرْعي الدمشقي، أبو عبد الله، شمس الدين: من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته في دمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ما يصدر عنه، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، وسُجن معه في قلعة دمشق، وأُهين وعُذب بسببه، وطِيف به على جمل مضروبًا بالعصي، وأُطلق بعد موت ابن تيمية، وكان حسن الخلق محبوبًا عند الناس، أُغري بحب الكتب، فجمع منها عددًا عظيمًا، وكتب بخطه الحسن شيئًا كثيرًا، وألَّف تصانيف كثيرة؛ منها: إعلام الموقعين، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وتوفي (751 هـ)؛ [الأعلام للزركلي (6/ 56)].





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 95.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 93.83 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.80%)]