|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة) الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 34 - 45]. لقد كانت أهم عقبة تعترض دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي انعدام التوازن النفسي والنضج العقلي لدى المشركين المشككين في الحق، والمعارضين الرافضين لأهله؛ لما يتصفون به من الجهالة العمياء والتدين الوثني الموروث، وما جبلوا عليه في بيئتهم الصحراوية الجافة القاسية، من عنفوانية ومزاجية، ورفض لكل جديدٍ غير مستجيب لمشاعرهم وطباعهم وشهواتهم التي نُشِّئوا عليها، وألفوها سائبة غير منضبطة إلا بأوضاعهم الموروثة، وتقاليدهم الجاهلية، ومصالحهم الآنية، ومكاسبهم المرتقبة؛ لذلك تكفل الوحي الكريم بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبليغهم دعوة الإيمان بالحوار الهادئ اللين[1]، لا سيما وقد هيمنت عليهم بمجرد سماعهم أمر النبوة ودعوتها مشاعر العناد والتحفز للمبادأة بالعدوان، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يبث فيهم دعوة الإيمان ويتجنب أذاهم ومكرهم، ويستدرجهم للحق بأسلوب استقرائي استدلالي، لين هادئ، يطاولهم به ولا يصاولهم، يسالمهم ولا ينازعهم، ينتقل بهم من المحسوس إلى المعقول، ومن الدليل إلى المدلول، فيستخرج من اعترافاتهم ومخزون فطرتهم ما يُسفِّه به معتقداتهم الفاسدة، ويُوقِعهم في التناقض مع أنفسهم وعقولهم وعاداتهم وعباداتهم، وهو الأسلوب الذي سار عليه من قبل رسل الله وأنبياؤه جميعًا، من نوح عليه السلام إذ قَالَ لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، ثم قال: ﴿ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 71، 72]، إلى إبراهيم عليه السلام في حواره مع طاغية عصره في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]. ذلك كان الأسلوب الحجاجي الذي وجه إليه الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم للتدرُّج بالمشركين من الكفر إلى الإيمان، متجنِّبًا تقرير العقيدة عليهم إملاء أو فرضًا، فكان يثير انتباههم أولًا إلى المشكلة، ويحفز عقولهم للتفكير فيها، ويترك لهم فرصة استقراء تفاصيلها واستنباط حلولها، ومعرفة الحقيقة فيها، سألهم أولًا بأمر من الله؛ إذ قال له: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31]، فلما استيقظت فطرتهم وتذكروا أن ذلك من الله تعالى، بادههمتأكيدًا لحقيقة التوحيد وإبطالًا لعقائد الشرك بسؤال أمره الله أن يلقيه عليهم حول قدرة معبوداتهم من الجن والإنس والشياطين والمردة والأوثان أحجارًا وأشجارًا وأصنامًا وطواطم؛ إذ قال له تعالى: ﴿ قُلْ ﴾، يا محمد للمشركين: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾؛ أي: ما دمتم قد اعترفتم بأن الله تعالى هو الذي بيده كل شيء، موتًا وحياةً ورزقًا وتدبيرًا، عندما سئلتم بقوله تعالى: ﴿ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْر ﴾، فهل هذه القدرة الإلهية متوفرة لشركائكم الذين تعبدونهم وتخشونهم وترجون نفعهم؟ هل في شركائكم من يبدأ خلق الأشياء من غير أصل ولا سبق مثال، ثم يميتها ويفنيها، ثم يعيد إنشاءها كهيئتها الأولى؟ وهو سؤال استفهام عن شيء بدهي لا يقتضي جوابًا، وإنما يفيد تنديدًا ضمنيًّا بجهلهم وعجز معبوداتهم، وتقريرًا لحقيقة القدرة الإلهية المطلقة، واستفراد الله تعالى بالخلق والإنشاء أولًا وأخيرًا؛ لذلك رقَّى الحوارَ معهم تقريرًا لحقيقة التوحيد الذي أقروا به وتردَّدُوا في الاعتراف به فقال تعالى: ﴿ قُلِ ﴾، لهم يا محمد ﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ﴾ يخلقه من العدم، ينشئه ابتداء من لا شيء ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ يميته ويفنيه ويعيد خلقه ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي: إلى أي ضلال تُصرفون، وعن الحق تبعدون، والفعل ﴿ تُؤْفَكُونَ ﴾ من "أفك"، ويدل على قلب الشيء وصرفه أو إبعاده عما يتجه إليه، ومنه يطلق الإفك على الكذب؛ لأنه انصراف عن الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الجاثية: 7]؛ أي: كذاب أثيم، ويقال أفكته عن الشيء إذا صرفته عنه وأبعدته عنه، قال تعالى: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأحقاف: 22]. ثم تنبيهًا لعقول المشركين المنطمسة أمره تعالى بأن يسألهم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيضًا يا محمد ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ ﴾، هل في معبوداتكم من الجن والإنس والأصنام ﴿ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾، والفعل "هدى" يعني أرشد غيره، أو تقدمه لإرشاده، فعل متعدٍّ كما في قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، ويتعدى بحرفَي الجر "إلى" و"اللام"، كما في هذه الآية الكريمة نفسها: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾؛ أي: من يعرف الحق ويرشد إليه، أو يفتح العقول لمعرفته، ويشرح القلوب لمحبته وإيثاره واتِّباعه والعمل به، أو يضع في طريقه المنائر والمعالم، فلا يضل السالكون إليه، ولا يتيه المارون به؟ وهو سؤال يعرف المشركون أن لا جواب لهم عليه؛ ولذلك بادرهم سبحانه وتعالى بتقرير الحق فيه فقال: ﴿ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد: إن الله تعالى هو الذي يهدي جميع خلقه للحق، ولما ينبغي لهم العمل به أو له، ويعينهم على معرفته وتَبَيُّنِ معالمه وطرائق التعامل به أو معه، سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه أولًا ويتركهم هملًا؛ وإنما ربط خلقهم بهدايتهم إلى ما خلقوا له، وتزويدهم بأدوات العمل له، فجعل للناس في أبدانهم جوارحَ وحواسَّ للمعرفة والكسب والإنتاج، يميزون بها ما حولهم، وأمدَّهم بعقول يفكرون بها فيما يعرض لهم من شؤون الحياة، فيلاحظون ويقارنون ويستنبطون ويميزون السليم من العليل، والضارَّ من النافع، ويقررون ويختارون، ويجنون ثمار اختياراتهم تبعًا لصوابها أو خطئها، وأرسل إليهم الرسل عليهم السلام، في أيديهم كتبه وتعاليمه، يبينون لهم الحق، ويبلغونهم أحكامه، ويبشرونهم بثمار الطاعة وعاقبة المعصية ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13 – 16]، وآيات محكمات هن المنهج القويم للحياة، والمصير الآمن السليم بعد الممات، إن عملية الخلق والإنشاء ابتداء كانت عند الله لحكمة بالغة مقرونة بهداية بينة واضحة لذوي الألباب؛ ولذلك قال لرسوله صلى الله عليه وسلم معلمًا ومرشدًا: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 1 – 3]، وقال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 78]. ثم استثار الحق تعالى عقول مشركي مكة بسؤال استفزازي آخر، تحفيزًا لفطرتهم الكامنة وقدراتهم الخاملة بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾، وهو الله تعالى وقد نصب للحق معالمه، وأرسل للعباد رسله، وأنزل عليهم كتبه، ووعدهم بجنته، وحذرهم من عذابه ﴿ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ﴾، أحق بالعبادة إيمانًا به واتِّباعًا لأمره ونهيه ﴿ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ﴾، والفعل ﴿ يَهِدِّي ﴾ في هذه الآية الكريمة قَرَأَه حفص بفتح الياء وكسر الهاء ﴿ يَهِدِّي ﴾، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال "يَهْدِي"، على أنه مضارع هدى، وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسرهما "يِهِدِّي" بإتباع كسرة الياء لكسرة الهاء، والباقون بفتحهما ﴿ يَهَدِّي ﴾؛ أي: أم الأحق بالعبادة هو غير الله من عجزة معبوداتكم الذين لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه، ولا يستطيعون هداية غيرهم إليه إلا إذا حُمِلوا على ذلك حملًا، وأُخِذ بأيديهم إليه أخْذًا؛ ولذلك ختم الحق تعالى هذا الحوار معهم بإنكار تفاهة عقولهم تبكيتًا لها، وتسفيهًا لما تراه وتحكم به من الأباطيل والضلالات بقوله تعالى لهم: ﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ استفهام من مبتدأ وخبر، للإنكار عليهم والتعجب من غبائهم؛ أي: فماذا لديكم من أصناف العته والغباء، وكم أصابكم من الخلل ففقدتم القدرة على التمييز بين الحق والباطل ﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ استفهام تَعَجُّبي ثانٍ من ضلالهم؛ أي: كيف تحكمون بصواب الباطل وبطلان الحق فتعبدون الأباطيل، وتجعلون لله الأنداد. ثم بالتفات عنهم وإعراض عن سفاهة عقولهم وازدراءً لما يعتقدونه في آلهتهم التي لا تصَرُّف لها ولا تدبير ولا هداية، قال تعالى عنهم بصيغة الغائب واصفًا حالهم: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾، والظن في سياق هذه الآية هو الوهم والشك أو أدنى وأضعف درجات الإدراك، ضد اليقين؛ أي: لا يتبع أكثرهم من أمر الدين إلا ما يتوهمونه دينًا وهو في حقيقته عين الباطل، والتعبير باتباع أكثرهم الباطل يعني أكثرهم كما يعني كلهم؛ لأن الأكثرية عادة تطغى على الأقلية وتمحو أثرها في المجتمع، والمعتقدات الفاسدة والأفكار الضالة والإشاعات المضللة عادة سريعة النفوذ والانتشار في المجتمعات الجاهلة التي لا دعاة للحق فيها، وسرعان ما تتحول إلى معتقدات عامة مضللة أو عادات اجتماعية فاسدة راسخة يتعذر على العوام التخلي عنها؛ ولذلك قال تعالى مُنبِّهًا ومُحذِّرًا: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ ﴾ إن اتباع المعتقدات الضالة والتصورات الوهمية للألوهية والربوبية والعبادة ولجميع قضايا الدين الحاسمة التي تترتب عليها نتائجها اللازمة ﴿ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ لا يقوم مقام الحق اليقيني الثابت، ولا يغني عنه أو عن بعضه؛ لأن الحق لا يتبعَّض فيؤخذ منه ويترك منه، وتبعيض الحق إتلاف له أو تلاعب به، كما كان يفعل بنو إسرائيل بالتوراة، فقال فيهم تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 169]، الحق يؤخذ كله إن بلغ درجة اليقين، ويترك كله إن داخله الريب والشك أو الوهم، والعاقل لا يبني حواسم أموره على الظنون والأوهام؛ لأن البناء عليها مَظِنَّة فساد العقل والمعقول؛ لذلك عقب عز وجل يحث على الصدق وإخلاص الإيمان ويحذر من الشك والتردد والإعراض بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ يعلم سِرَّهم وعلانيتهم، وما يحتمل أن يصدر عنهم من أعمال أو أقوال أو تصَرُّفات، كما يعلم ما تتيه فيه العقول الأسيرة للأهواء من أوهام تصَرُّفهم عن الحق، وتأويلات تبعدهم عن الصواب، فتعمى أعينهم عن رؤية ما في الكون من حقائق آيات الله خلقًا وتدبيرًا، ويعجزون عن استيعاب ما تستنبطه العقول السويَّة وتعرض أفئدتهم قبل آذانهم عن سماع ما يُتلى عليهم من القرآن، وهو مصدر الحق المطلق الذي لا يـأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحجة الله عليهم يوم الحساب إذ يقال لهم: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [المؤمنون: 66 - 70]؛ ولذلك عاد الوحي الكريم إلى دحض مبررات إعراضهم عن القرآن وهو سبيلهم إلى الحق وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، والافتراء من فعل فرى يفري الشيءوأفراه إذا قطعه أو شقه لإفساده، ثم استعمل في الكذب فقالوا: فرى فلان الكذب وافتراه إذا اختلقه، ومعنى الآية الكريمة أن هذا القرآن ما كان افتراء على الله، وما ينبغي لما يوحي به الله أن يكون افتراء، أو يتعرض للافتراء أو التبديل أو التحريف كما فعل بنو إسرائيل بالتوراة، فقال فيهم تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79]، وكما فعل النصارى بالإنجيل وادَّعوا فيه لله الولد ضلالًا منهم وتضليلًا لغيرهم – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- فقال عز وجل عنهم: ﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾، ولكنه وحي من الله لا يأتيه الباطل مطلقًا، ولا يصيبه التحريف أو التغيير أبدًا، وقد تعَهَّد الله بحفظه، فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41، 42]، وقال عنه وعن نبيِّه وصفيِّه الذي يبلغه: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 40 – 47]. وبعد أن أكد الحق تعالى عصمة القرآن واستعصاءه عن التبديل والتغيير بيَّن حقيقته في ميزان الله، فقال سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ ﴾، ولكنه نزل ﴿ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ بالفتح مصدر فعل "صدَّق تصديقًا"، عطف على خبر كَانَ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى ﴾، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 40]، أو خبر فعل مقدر هو "كان"، واسمها ضمير مستتر هو القرآن، وقرأ الكسائي والفراء وعيسى بن عمر: "تَصْدِيقُ" بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: "ولكن هو تصديقُ"، والمعنى واحد، هو أن القرآن بتنزيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تصديقًا وتأكيدًا للكتب التي نزلت قبله وشاهدًا عليها ومعيارًا لها، بعد أن حرفها قومها الذين نزلت من أجلهم في قوله تعالى: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]، وأشار القرآن إلى بعض هذه الكتب بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18 – 19]، وقوله عز وجل: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 3 – 4]، وقوله سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]. ثم بيَّن تعالى مضمون القرآن وتميُّزه عن الكتب قبله، فقال تعالى: ﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾؛ أي: إن القرآن كتاب شاهد بصدق ما تقدمه من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السابقة قبل تحريفها أو رفعها أو نسيانها، وأنه تفصيل لأحكام ما كتب فيها وفرض على العالمين من واجب الإيمان والتوحيد والأمر والنهي، ومصدق لما أخبرت به عن البعث والنشور وأحكام الآخرة حسابًا وجزاءً ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾؛ أي: تفصيلًا محكمًا لا شك فيه؛ لأنه ﴿ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ سبحانه وتعالى، وهو الحق من عنده، وحرف الواو في قوله تعالى: ﴿ وَتَفْصِيلَ ﴾ للعطف، و﴿ تَفْصِيلَ ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ أو خبر ثانٍ للفعل "كان" المقدر، و﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ خبرٌ ثالثٌ أو حالٌ من الكتاب. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |