|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أثر الإيمان أثر الإيمان في تحقيق الأمن النفسي حسان أحمد العماري الخطبة الأولى الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عددًا، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينسَ منهم أحدًا، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا كثيرًا بلا عدد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه ربُّه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كِيان الوثنية، فصلوات ربي وسلامه عليه: يا خيرَ من دُفِنت في التُّرْبِ أعْظُمُه ![]() فطاب من طِيبِهن القاع والأكَمُ ![]() نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ![]() فيه العَفاف وفيه الجود والكرمُ ![]() أنت الحبيب الذي تُرجى شفاعته ![]() عند الصراط إذا ما زلَّتِ القدمُ ![]() أما بعــــــــد عبـــــــــاد الله: فما أكثر الهمومَ والهواجس والمخاوف والأحزان التي تعصف بالدول والمجتمعات وحتى الأفراد؛ همَّ الأمراض والكوارث والحروب، مخاوفَ وقلقًا وهمومًا بالليل والنهار تتعلق بالرزق وبالمستقبل المجهول، وخوفًا من الموت، وفزعًا من نزول الأمراض والأوبئة، وهناك هموم على مستوى الأفراد؛ همُّ الزوجة والأولاد، وهمُّ الوظيفة، وهمُّ المنصب، وأصبح كثير من الناس يعيش في حيرة وقلق واضطراب، فهل يعقل أن تصل حياة كثيرٍ من الناس والمجتمعات والدول إلى هذا الوضع، الذي يُنذر بالخطر الداهم على عقيدة الفرد وحياته وآخرته، وسلامة المجتمع وأمْنِهِ؟ فلماذا هذا الخوف والقلق النفسي الذي أصبح اليومَ طاعونَ الحياة؟ وهل يعقل أن يخلُقَ الله الخَلْقَ تم يتركهم ليعيشوا هكذا حياة؟ كلا، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، بل خلقهم ودلَّهم على ما فيه سعادتهم وراحتهم وأمنهم النفسي والاجتماعي؛ يقول عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، فالإنسان مخلوقٌ كريم عند الله، سخر له ما في السماوات والأرض، وبيَّن لهم طريق الحياة الكريمة التي لا شقاء فيها ولا تعاسة، ولا قلق ولا حَيرة، حتى وإن وُجِدت تلك المصائب والمنغِّصات والكوارث، فإنها من قَدَرِ الله ليبتلي عباده، لكنه دلَّهم على طريق النجاة، ودلَّهم على العلاج الذي يضمن لهم الراحة والطمأنينة والأمن النفسيَّ، حتى في أحلك الظروف، وأصعب الأزمات. قال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، فجَعَلَ اتباعَ هُداه، والالتزام بمنهجه، واتباع رسله، والعمل على وَفْقِ سُنَنِهِ سبيلَ النجاة والسعادة، والحياة الآمنة. عبـــــــــاد الله: سُئل حاتم الأصم: عَلَامَ بنيتَ أمرك؟ أي: كيف بنيت حياتك؟ وما سبب سعادتك واطمئنانك؟ قال: "على أربع خِصال: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت، فأنا أستحي منه"؛ إنه الإيمان بالله والثقة به، واليقين بوعده وموعوده؛ لأن العبد إذا آمن صار في أمان الله؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 4]، الإيمان يحقق الأمن النفسي، ويعالج القلق والاضطرابات؛ فهو يزرع في النفوس عقيدة راسخة، تعالج أهم القضايا التي يعاني منها الفرد؛ قضية الخوف من فوات الرزق، وقضية الخوف من المستقبل المجهول، وقضية الخوف من الموت، فجاء الإيمان ليعلم كل فرد أن الرزق بيد الله، وأنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقها، وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلُبَك شيئًا من رزقك، ولو كان شيئًا يسيرًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن نفسًا لن تموتَ حتى تستكمل رزقها؛ فاتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب))؛ [السلسلة الصحيحة (2866)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرُب من الموت، لَأدْرَكَهُ رزقه كما يدركه الموت))؛ [حسنه الألباني (950)]. إن رزقك - يا عبدالله - كُتِبَ لك وأنت في بطن أمك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يُجمَع خَلْقُهُ في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكًا، ويُؤمَر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجَلَه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح))؛ [رواه البخاري ومسلم]، فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقَضِيضِها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها، وأرادوا أن يمنعوا رزقًا قدَّره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبه الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة، فكن مطمئنًّا، فرزقك عند الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، فأحْسِنِ الطلب، ولا تطلبه إلا من طرق الحلال؛ قال عز شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، وابذل الأسباب، ثم توكل على الله، وثِقْ به. دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى مسجده المبارك، فنظر إلى أحد أصحابه، وَجَدَهُ وحيدًا فريدًا، ونظر إلى وجه ذلك الصحابي، فرأى فيه علامات الهم والغم، رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاةٍ، فدنا منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه - وكان لأصحابه أبرَّ وأكرم من الأب لأبنائه - وقف عليه رسول الهدى، فقال: ((يا أبا أمامة، ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟ قال: يا رسول الله، همومٌ أصابتني، وديون غلبتني - أصابني الهم وغلبني الدَّين، الذي هو همُّ الليل وذلُّ النهار - فقال: ألَا أُعلمك كلماتٍ إذا قلتَهن، أذهب الله همَّك، وقضى دَينك؟ صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك بابَ خير إلا ودلَّنا عليه، ولا سبيل هدًى ورُشْدٍ إلا أرشدنا إليه، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمته، ألَا أدلك على كلماتٍ إذا قلتهن أذهب الله همَّك، وقضى دينك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قُلْ إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال، قال رضي الله عنه وأرضاه: فقلتُهن فأذهب الله همي وقضى ديني))؛ [رواه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستعاذة (4/412)]. عبـــــــــاد الله: وأما الخوف من المجهول ومن المستقبل الذي أرَّق الناس، وجلب لهم القلق والهم، فإن الإيمان عقيدة تنفُث في رُوع المسلم وخَلَدِهِ أن كل شيء في هذا الكون بيد الله، وأنه لن يحدث أمر من خير أو شر إلا بقدر الله، وأن ما قدره الله وقضاه واقع لا محالة؛ قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23]، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: يا غلام، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعتِ الأقلام وجفَّت الصحف))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]، ومن آمن بقدر الله وقدرته ومشيئته، وأدرك عجزه، وحاجته إلى خالقه تعالى، فهو يصدُق في توكله على ربه، ويأخذ بالأسباب التي خلقها الله، ويطلب من ربه العون والسداد، والمؤمن يردد في يقين قولَه تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]. وأما المــــــــوت - عباد الله - فلماذا الخوف منه، وهو سنة الله في خلقه، وهو قدر الله في أرضه وسمائه؟ قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، والمؤمن بربه قد أراح نفسه من هذا الهم والقلق بيقينه أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها؛ قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]. ثم إن الإيمان يوجِّه المؤمن إلى عمارة الدنيا وفق منهج الله، فيعيش في أمن وسعادة، وكذلك يذكِّره ويوجِّهه إلى الاهتمام بالدار الآخرة وهي الحياة الحقيقية، وبها السعادة والنعيم والخير المقيم، فعندما يعلم المؤمن بأن هناك ربًّا رحيمًا ينتظره، وخيرًا مقيمًا قد أُعِدَّ له، فإنه لا يبالى إن جاءه الموت في أي لحظة؛ لما حضر بلالًا رضي الله عنه سكراتُ الموت قالت زوجته: وا حزناه، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت، وقال: لا تقولي: وا حزناه، وقولي: وا فرحاه، ثم قال: "غدًا نلقى الأحِبَّة؛ محمدًا وصحبَه"، ولما حضرت أبا ذر الوفاةُ، بكت زوجته، فقال: ما يبكيكِ؟ قالت: وكيف لا أبكي، وأنت تموت بأرض فلاة، وليس معنا ثوب يَسَعُك كفنًا؟ فقال لها: لا تبكي، وأبشري؛ فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن رجلٌ منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين))، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا ومات في قرية وجماعة، وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذبت، فانظري الطريق، قالت: كيف وقد ذهب الحُجَّاج وتقطعت الطريق؟ فقال: انظري، فإذا أنا برجال، فألحت ثوبي، فأسرعوا إليَّ، فقالوا: ما لكِ يا أمةَ الله؟ وكان فيهم الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، قالت: امرؤ من المسلمين تَكْفُونه، فقالوا: من هو؟ قالت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحب رسول الله، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ودخلوا عليه، فبشَّرهم وذكر لهم الحديث، فلما مات وفاضت روحه، قال ابن مسعود: صدق رسول الله فيك يا أبا ذر؛ تعيش وحيدًا، وتموت وحيدًا، وتُبعَث وحيدًا، وصلى عليه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. إن الخوف من الموت الزائد عن حدِّه الفطري - فكل إنسان يحب الحياة، ويرغب في أن يطول عمره - يجلب على العبد الجُبنَ والذل والقلق، بل ويدفعه إلى بيع قيمه ومبادئه وأخلاقه، وكل ذلك على حساب راحته وسعادته، وفي النهاية سيأتي الموت؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، وقال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]، فمن خاف الله واتَّقاه، أمِن في نفسه وماله وأولاده؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴾ [الجن: 13]، اللهم إنا نسألك إيمانًا خالصًا ويقينًا صادقًا، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. الخطــــبة الثانـية الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد أيها المسلمون:فإن من وسائل تحقيق الأمن النفسي، وعلاج الهموم والقلق ما دلَّنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم أصْلِحْ لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ))؛ [رواه مسلم، رقم: (2720)]. وروى الطفيل بن أُبَيِّ بن كعب عن أبيه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثُلُثا الليل قام فقال: يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أُبَيٌّ: قلت: يا رسول الله، إني أُكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئتَ، قال: قُلتُ: الرُّبُع؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت: فالثُّلُثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبك))؛ [رواه الترمذي، وحسنه الألباني في المشكاة: (929)]، فأكْثِروا من العبادات والطاعات، وتوكلوا على رب الأرض والسماوات، واذكروا الله في الفَلَوات والخَلَوات، واعلموا أن هذه الدنيا زائلة، وأن الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في الآخرة، فأحْسِنوا العمل، وأحسنوا الظن بربكم، وقوموا بواجباتكم، تُفلِحوا في دنياكم وأُخراكم. هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، واخذل أعداءك أعداء الدين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم ألِّف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتَهم، واهدِهم سواء السبيل، ورُدَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار. عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 02-08-2024 الساعة 12:30 PM. |
#2
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أثر الإيمان أثر الإيمان في توجيه السلوك حسان أحمد العماري الخطبة الأولى الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدًى للمتقين، وعِبرةً للمُعتبرين، ورحمة وموعظة للمؤمنين، ونبراسًا للمهتدين، وشفاءً لِما في صدور العالمين، أحمَده تعالى على آلائه، وأشكره على نَعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوبَ، وزكَّى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكَّر به من الغفلة، وأمر فيه بالتقوى، فسبحان من يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى! وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن ترسَّم خُطاه، وسار على نهجه، ما تعاقب الجديدان، وتتابَعَ النَّيِّران، وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد أيها المسلمون: فكم من آيات يدعونا الله فيها إلى الإيمان! فما تكاد تجد سورة في القرآن إلا وفيها دعوة صريحة، أو إشارة إلى أهمية الإيمان وأثره في حياة الفرد والمجتمع والأُمة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، وكثيرة هي نداءات الرحمن في القرآن الكريم لعباده بأعظم صفة؛ وهي صفة الإيمان، التي جعلها الله شرطًا لقبول الأعمال والعبادات، ورتَّب عليها الجزاء في الأخلاق والسلوك والمعاملات؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ﴾ [طه: 75]. إنه الإيمان بقوة الله وقدرته، وعلمه وعظمته، وسعة ملكه وسلطانه، إنه الإيمان بحكمه وعدله، وعفوه ورحمته، ونصره وتأييده لعباده المؤمنين، فالإيمان هو الحياة الحقيقية بالنسبة للإنسان، وبغيره يكون كالميت: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، والإيمان قوة هادية؛ لأنه يحدِّد للإنسان وجهته، ويعرِّفه غايته ومِنهاجه، فيحيا على نور، ويمضي على بصيرة: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]، ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]، والإيمان يُنير الطريق، ويحقق الطمأنينة والراحة النفسية، ويباعد بين المؤمن والقلق والحيرة، والهم والحزن، والتمزق داخل النفس: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]، فلا إله إلا الله كلمة عظيمة من أجلها خُلِقَ الخَلْقُ، وبُعِث الرسل، وأُنزلت الكتب، وخُلِقت الجنة والنار، فكان الإيمان بها وبمقتضياتها من أعظم الواجبات؛ عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى عليه السلام: يا رب علِّمني شيئًا أذكرك به، وأدعوك به، قال: يا موسى، قُل: لا إله إلا الله، قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، إنما أريد شيئًا تخصَّني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كِفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله))؛ [رواه البخاري]. والإيمان المطلوب من كل عبدٍ أن يحققه في نفسه هو ذلك الإيمان الذي يُورِث الخشية والخوف من الله، والحب لله والرجاء فيه، وهو ذلك الإيمان الذي يهذِّب النفوس، ويقوِّم الأخلاق، وبه يستقيم السلوك، وينتشر الخير، وهذا الإيمان يزداد بالطاعات من صلاة وصيام، وحج وصدقة، وقراءة للقرآن، وتفكُّرٍ في مخلوقات الله، وغيرها من الطاعات، وينقص بالمعاصي والسيئات، حتى يمشي الرجل بين الناس وليس في قلبه مثقالُ ذرةٍ من إيمان. إن تنمية العقيدة والروح الإيمانية، أعظم ضمانات المجتمع الإسلامي، وأقوى أسباب تماسكه ووحدته؛ فهو يصهر الشعوب، والقبائل، والأعراق، واللغات، في رحاب المجتمع الواحد، الذي يعبد الإله الواحد، ويتَّبع النبيَّ الواحد، ويؤمن بالكتاب الواحد، بل ويضبط التصورات والأفعال والسلوك وفق قِيَمٍ واحدة، هدفها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. عبـــــــــاد الله: ولما كان للإيمان هذا الأثر العظيم في حياة المسلم، فقد رأينا أن نتحدث في هذه السلسلة بإذن الله حول الإيمان وأثره في واقع حياتنا، خاصة وقد ظهرت كثير من الأمراض الاجتماعية والنفسية، والسلوكية والأخلاقية؛ بسبب ضعف الإيمان والتعلق بالدنيا، ونسيان الآخرة، وبسبب هذه الحضارة المادية التي لا تعطي الروح أيَّ أهمية، بل كان اهتمامها فقط بالجسد، فرأينا المخترعات العملاقة، والمنتجات المتنوعة، والصناعات المختلفة التي تهتم بجسد هذا الإنسان، كيف يأكل ويشرب ويترفه وينام؟ فأين غذاء الأرواح الذي به تَسعَد النفوس، وتزدهر المجتمعات، وتُبنى الحضارات؟ أين القيم والمبادئ والأخلاق؟ أين حبُّ الإنسان لأخيه الإنسان؟ أين الإيمان الذي يصنع الفرد والأسرة والمجتمع صناعةً تضمن لهم جميعًا طمأنينة النفس، وراحة البال، وانشراح الصدر، وخيرية الدنيا، والنجاة يوم القيامة؟ إن آثار الإيمان كثيرة في حياتنا؛ فمن آثاره توجيه السلوك وتهذيبه، إن من ينظر إلى سلوكيات وتصرفات كثير من الناس اليوم يجد فيها البغيَ والظلم، والتقاطع والعقوق، والجفاء والتهرُّب من المسؤولية، والتنصُّل من الواجبات والعنف، والشدة ونكران المعروف وحب الذات، بل أصبحت كثير من التصرفات بعيدةً عن أوامر الدين، وتوجيهات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لا يتحكم بها الشرع، بل يتحكم بها الهوى والمنافع، والمصالح الشخصية. إن الإيمان كفيلٌ بعلاج هذه الانحرافات؛ فهو يغرس في كلِّ فرد قضيةَ مراقبةِ الله، والسعي لنَيل الأجر والثواب، والخوف من العقاب، فيحرص أن يكون سلوكه حسنًا مع الناس جميعًا، بل حتى مع الحيوان والبيئة التي من حوله، وهذه هي رسالة الإسلام، وثمرة من ثمار الإيمان. الإيمان الذي يوجِّه السلوك في البيت، ومع الجيران، وفي الوظيفة، وفي السوق، ويجعل من العادة عبادة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلْيَقُلْ خيرًا أو ليصمت))؛ [متفق عليه]، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة))؛ [الترمذي]، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقَى أخاك بوجه طلق))؛ [مسلم]. والإيمان يدعونا إلى نهج السلوك الحسن مع الخلق جميعًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))؛ [صحيح الجامع (5 /89)]. والإيمان يوجِّه سلوك المسلم في أي ميدان من ميادين الحياة إلى الخير، فللتاجر الصدوق منزلة رفيعة، يتسابق إلى بلوغ شرفِها المؤمنون؛ قد بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))؛ [رواه الحاكم والترمذي]. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى بجانب السوق يومًا، فرأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار، فاستجابوا، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجَّارًا، إلا من اتقى الله، وبرَّ، وصدق))؛ [رواه الترمذي]. وانظروا ماذا يصنع الإيمان؟ كيف يضبط السلوك، ويوجِّه التصرفات؟ في عام الرمادة وقد بلغ الفقر والجوع بالمسلمين مبلغًا عظيمًا، جاءت قافلة لعثمان بن عفان مؤلَّفة من ألف بعير، مُحمَّلة بالتمر والزبيب والزيت، وغيرها من ألوان الطعام، فجاءه تجار المدينة المنورة من أجل شرائها منه، وقالوا له: نعطيك ربحًا بدل الدرهم درهمين يا عثمان، قال عثمان: أُعطيتُ أكثر من هذا، قالوا: نزيدك الدرهم بخمسة، قال لهم: لقد زادني غيركم، الدرهم بعشرة، قالوا له: من الذي زادك، وليس في المدينة تجار غيرنا؟ قال عثمان: ألم تسمعوا قول الله تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]؟ أُشهِدكم أني قد بعتُها لله ورسوله، فأنفقها في سبيل الله. لو لم يكن هناك إيمان، لكان الجشع والطمع، واستغلال حاجات الناس وظروفهم، لكنه الإيمان. عبـــــــــاد الله: والإيمان يمنع الغش والتحايل والخيانة؛ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتجول ليلًا بالمدينة، ومعه خادمه، فأعياه التعب، فاتكأ إلى جدار بيت، وإذ امرأة تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فقالت الفتاة: يا أماه، أو ما سمعتِ منادي الخليفة ينادي: لا يُخلَط اللبن بالماء؟ فقالت: إن عمر لا يرانا، فقالت الفتاة: إن كان عمر لا يرانا، فإن ربَّ عمر يرانا، فلما سمع الخليفة كلامها، قال لخادمه: اعرف مكان البيت، ثم مضى عمر رضي الله عنه في جولاته، فلما أصبح قال للخادم: امضِ من المكان، فانظر مَنِ الفتاة؟ وهل لها زوج؟ قال الخادم: أتيت البيت فعلمت أن ليس لها زوج، فعُدت إلى الخليفة فأخبرته الخبر، فجمع أولاده وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى الزواج، فأزوِّجه؟ فزوَّجها لابنه عاصم. عرفت ربها، وعرفت معنى مراقبته، والسلوك الذي يجب أن تلتزم به، فخلَّد التاريخ قصتها، تُروى للأجيال لتكون مثلًا للاقتداء بها، فمتى ينتبه الموظف لسلوكه وتصرفاته في وظيفته؟ ومتى يدرك القاضي دوره ومسؤوليته؟ ومتى يشعر الجندي بواجبه في حماية الأعراض والدماء والأموال؟ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عينان لا تمسهما النار: عينٌ بَكَتْ في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى))؛ [حسن، رواه الترمذي]، ومتى يدرك الأبناء أهمية البر بالآباء؟ ومتى تقوم المرأة بواجبها في التربية وبناء الأسرة المسلمة؟ إن ذلك كله لن يكون واقعًا في الحياة حتى تمتلئ هذه القلوب بالإيمان بالله. إنه الإيمان الذي يضبط السلوك حتى في أحلك الظروف وأصعب الأزمات؛ هذه الخنساء رضي الله عنها عُرفت بالبكاء والنواح، وإنشاء المراثي الشهيرة في أخيها المتوفى إبان جاهليتها، وظلت ترثيه سنوات؛ تقول فيه: يذكرني طلوع الشمس صخرًا ![]() وأذكره بكل غروب شمسِ ![]() ولولا كثرةُ الباكين حولي ![]() على إخوانهم لقتلتُ نفسي ![]() وما يبكون مثل أخي ولكن ![]() أُعزِّي النفس عنه بالتأسي ![]() وما أن لامس الإيمان قلبها، وعرفت مقام الأمومة، ودور الأم في التضحية والجهاد في إعلاء البيت المسلم، ورفعة مقامه عند الله، وَعَظَت أبناءها الأربعة عندما حضرت معركة القادسية تقول لهم: "إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لابن أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحتُ أخوالكم"، فلما أصبحوا باشروا القتال واحدًا بعد واحد حتى قُتلوا، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"، لقد قصد الإسلام أن يكون الإنسان مثلًا صالحًا، محمودَ الخِصال، شريف الشمائل، حسن السلوك، إن تكلم صـدق، وإن وعد وفَّى بوعده، وإن اؤتمن في أمرٍ أدى الأمانة ولم يخُنْ، وإن رأى أمرًا منكرًا غيَّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وإن تكلم خفض صوته، وإن مشى لم يكن مختالًا وفخورًا في مشيته، وإن رأى كبيرًا وقَّره، أو صغيرًا عطف عليه، أو محتاجًا أعانه، اللهم زيِّن قلوبنا بالإيمان. الخطــــبة الثانـية الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد عبـــــــاد الله:فالإيمان يوجِّه سلوك الفرد المسلم تجاه أمته ومجتمعه التوجيهَ الأمثل؛ فالمسلم لا يعيش لنفسه وحسب، بل يعيش لمجتمعه وأمته؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى))؛ [مسلم]، فيفرح المسلم لفرح المسلمين، ويحزن لحزنهم، ويتألم لمصابهم، ويسعى لنصرتهم، ولا يوالي عدوهم، بل يشاركهم في همومهم وتطلعاتهم، وانظروا إلى سلوك المسلمين في غزوة تبوك، وقد دعاهم رسول الله للخروج للجهاد في سبيل الله في وقت شديد الحرارة، وقد بلغ فيهم الفقر والحاجة مبلغًا عظيمًا، فخرج من خرج، وتصدق من تصدق، وجاء الفقراء يريدون مشاركة المسلمين في شرف الجهاد، لكنهم لا يملكون زادًا، ولا راحلة، فتولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، بل دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنفاق، فذهب الفقراء والأغنياء إلى بيوتهم، كلٌّ يأتي بما يستطيع، وذهب معهم رجل من الصحابة فقير، لا يجد في بيته غير حبة تمر واحدة، فجاء بها إلى رسول الله ليضعها في الصدقات، فرآه المنافقون، وأخذوا يسخرون منه؛ فأنزل الله قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79]، إن وقوف المسلمين اليوم مع إخوانهم في فلسطين في محنتهم لَدلالة واضحة على هذا الإيمان الذي يملأ قلوب كثير من الناس، الذي يحتاج إلى رعاية وزيادة حتى يجنيَ العبد ثماره في الدنيا قبل الآخرة، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، واخذل أعداءك أعداء الدين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم ألِّف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتَهم، واهدِهم سواء السبيل، ورُدَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار. عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أثر الإيمان أثر الإيمان في الشوق إلى دار السلام حسان أحمد العماري الخطبة الأولى: الحمد لله الذي سهَّل لعباده إلى مرضاته سبيلًا، وأوضح لهم الهداية، وجعل الرسول عليها دليلًا، ورضي لهم نفسه ربًّا، والإسلام دينًا، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا، أحمده حمدَ مَنْ لا ربَّ له سواه، وأشكره على جزيل فضله وعطاياه، وأشهد أن الحلال ما أحلَّه، والحرام ما حرَّمَه، والدين ما شرعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك الحق المبين، الذي يأمر وينهى ويفعل ما يشاء، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ونبيه المرتضى الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أوضح السُّبُل، أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وتعاقب الليل والنهار، أمَّا بَعْد:أيها المؤمنون، رُويَ أنَّ رجلًا جاء إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب له عقدَ بيتٍ اشتراه، فنظر عليٌّ إلى الرجل، فوجد أن الدنيا متربعة على قلبه وقد فُتِن بها، وغَرَّتْه أموالُه، فأراد الإمام علي أن يوصل إليه رسالة توقظه من غفلته، فكتب: اشترى ميتٌ من ميتٍ بيتًا في دار المذنبين، له أربعة حدود: الحد الأول يؤدي إلى الموت، والحد الثاني يؤدي إلى القبر، والحد الثالث يؤدي إلى الحساب، والحد الرابع يؤدي إما للجنة وإما للنار! فقال الرجل لعلي: ما هذا يَا علي، ما جئتك لهذا، فقال له الإمام علي: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ![]() أن السلامة فيها ترك ما فيها ![]() لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ![]() إلا التي كان قبل الموت يبنيها ![]() فإن بناها بخير طاب مسكنه ![]() وإن بناها بشَرٍّ خاب بانيها ![]() أين الملوك التي كانت مسلطنة ![]() حتى سقاها بكأس الموت ساقيها ![]() أموالنا لذوي الميراث نجمعها ![]() ودُورُنا لخراب الدهر نبنيها ![]() كم من مدائن في الأفاق قد بنيت ![]() أمست خرابًا وأفنى الموت أهليها ![]() لا تركنن إلى الدنيا وما فيها ![]() فالموت لا شك يفنينا ويفنيها ![]() واعمل لدارٍ غدًا رضوان خازنُها ![]() والجار أحمد والرحمن ناشيها ![]() قصورُها ذهبٌ والمسكُ طينتُها ![]() والزعفران حشيش نابت فيها ![]() أنهارها لبنٌ محضٌ ومن عسل ![]() والخمر يجري رحيقًا في مجاريها ![]() والطير تجري على الأغصان عاكفة ![]() تسبح الله جهرًا في مغانيها ![]() من يشتري الدار في الفردوس يعمرها ![]() بركعة في ظلام الليل يُحييها ![]() فقال الرجل لعلي: أشهدك أني قد جعلتها لله ورسوله. عبـاد الله، إن المرء ليتساءل: ماذا بعد هذه الحياة وهذا التعب وهذا الكدح؟ أليس إلى الموت الذي يأتي على الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمسلم والكافر، والبر والفاجر؟! ثم إن الأمر لا يتوقف عند ذلك؛ بل هناك بعث وحياة أخرى، وجنة أو نار، فليس من العدل أن تكون هناك حياة يتساوى فيها المسلم والكافر، والمجرم والفاسق، والعابد والعاصي، والظالم والمظلوم، وتنتهي هذه الحياة بالموت، ثم لا يكون هناك مكافأة المحسن على إحسانه، ومحاسبة المسيء على إساءته، فإن من تمام عدل الله أن جعل هناك يومًا آخر بعد الموت هو يوم العدل والحق والجزاء والحساب، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، والمؤمن ما الذي يدفعه إلى الصبر والبذل والعطاء وتحَمُّل المشاقِّ، والالتزام بأوامر الدين، والبُعْد عن الحرام ومساوئ الأخلاق، والرضا بما جاء من عند الله من أقدار؟ أليس طمعًا وشوقًا في جنة الله ورضوانه في ذلك اليوم؟ والمؤمن هو أكثر الناس شوقًا إلى هذه الجنة بإيمانه ويقينه وتصديقه بوعد الله ووعيده، وبعلمه أن ثمرة صبره وعبادته وإخلاصه لله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم دخولُ الجنة والحياةُ الأبدية فيها، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 82]، وقال عز من قائل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، من هنا اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة حتى قدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون، هجروا لذيذ النوم والرُّقاد، وبكوا في الأسحار، وصاموا النهار، وجاهدوا الكفار، فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها من حسن أعمالهم، وطيب أخبارهم، ولذة مناجاتهم، فلا إله إلا الله، كم بكت عيون في الدنيا خوفًا من الحرمان من النظر إلى وجه الله الكريم، فهو سبحانه أعظم من سجدت الوجوه لعظمته، وبكت العيون حياءً من مراقبته، وتقطَّعت الأكباد شوقًا إلى لقائه ورؤيته، ودخول جنته، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: 58]. أيها المسلمون، إن الإيمان يجعل حياةَ المسلم سعيدةً، فيها السكون والطمأنينة والراحة، ويملأ نفسه بالشوق والحنين إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ عند ذلك تتصاغر في نفسه هذه الدنيا فلا تفتنه شهواتها، ولا تغره ملذَّاتها، فلا يبيع دينه ولا أخلاقه ولا قيمه ومبادئه، وفي سبيلها يقدم كل شيء، فالعمل من أجلها غايته، هذا حارثة بن سراقة غلام من الأنصار له حادثة عجيبة ذكرها أصحاب السير، وأصلها في صحيح البخاري، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى بَدْر، فخرج معهم، فلما أقبلت جموع المسلمين بعد المعركة كانت النساء وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى، وهي أم سراقة تنتظر مقدم ولدها، فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم، والنساء تسرع إلى أزواجها، والعجائز يسرعن إلى أولادهن، وأقبلت الجموع تتتابع، جاء الأول، ثم الثاني، والثالث، وحضر الناس ولم يحضر حارثة بن سراقة، وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرِّ الشمس، تترقَّب إقبال فلذة كبدها، وثمرةِ فؤادها، كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات، وتتلمس عنه الأخبار، تصبح وتمسي وذكره على لسانها، ثم جاءها الخبر أن ولدها قد قُتِل في المعركة، فتحركت الأم الثكلى تجُرُّ خطاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودموعها تجري، فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هَدَّها الهرم والكبر، وأضناها التعب، وقالت: يا رسول الله، حارثة في الجنة فأصبر وأحتسب؟ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلها وانكسارها، وفجيعتَها بولدها، التفت إليها وقال: ((ويحك يا أم حارثة، أهبلت؟! أوجنةٌ واحدة؟! إنها جنان، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى))، فلما سمعت العجوز هذا الجواب: جفَّ دمعها، وعاد صوابها، وقالت: في الجنة؟ قال: ((نعم))، فقالت: الله أكبر، ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها، رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات ليجمعها مع ولدها في الجنة، لم تطلب غنيمةً ولا مالًا، ولم تلتمس شهرةً ولا حالًا، وإنما رضيت بالجنة ما دام أنه في الجنة يأكل من ثمارها الطاهرة، تحت أشجارها الوافرة، مع قوم وجوههم ناضرة، وعيونهم إلى ربِّهم ناظرة، فهي راضية، ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك؟! قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]، المشتاقون إلى الجنة، هم بشرٌ يعيشون بيننا، وربما نراهم ونتعامل معهم يوميًّا في حياتنا، قد يذنبون ويخطئون، فكل بني آدم خطاء، لكنهم يسارعون إلى التوبة والاستغفار، ويغلبهم الخوف من العزيز الجبار، إذا ظلم أحدهم تاب وردَّ المظالم إلى أهلها، وإذا أخطأ في حق الآخرين طلب العفو والسماح منهم، وإذا قصر في عمله وواجبه سارع إلى الإتمام، وإذا نُصِح تقَبَّل النصيحة بروح طيبة، وإذا ذُكِّر بالله خضع واستسلم لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى على لسانهم: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10 - 12]. إن الشوق والحنين إلى الجنة جعل المشتاقين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي إذا قاموا بها وأخلصوا لله فيها دخلوا الجنة؛ هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه- كما جاء- روى الترمذي بسند حسن أن معاذًا سرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس في آخر الليل، فقال معاذ: "يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟"، وفي لفظ صحيح: "دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار"، ما أحسن السؤال! فيجيب صلى الله عليه وسلم على معاذ، فهل قال له: تدخل الجنة بالمؤهل، أو بالمنصب، أو بالشهادة أو بالمال والولد؟ لا والله كلها لا تساوي في ميزان الحق ذرة، ويوم يتخلى المال عن الإيمان يصبح تبعةً ولعنةً وغضبًا، ويوم يتخلى المنصب عن الإيمان يصبح طغيانًا، ويوم يتخلى الولد عن الإيمان يصبح عذابًا وشقوةً وندامةً، ويوم تتخلى الشهرة عن الإيمان تصبح ملعنةً ومسبةً على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ويوم يتخلى الشعر عن الإيمان يصبح مجاملة ونفاقًا وبضاعة بخيسة الثمن، ويوم تتخلى الأعمال عن الإيمان تصبح سمعةً ورياءً... فقال عليه الصلاة والسلام وهو يجيب معاذًا: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يَسَّره الله عليه، تعبد الله عز وجل ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا))، ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يواصل حديثه الشائق الرائق إلى القلوب الوالهة، يقول: ((ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟))؛ أي: على ما يجمع لك شتات هذا الموضوع، قال: "بلى يا رسول الله!" قال: ((كفَّ عليك هذا، وأخذ عليه الصلاة والسلام بلسان نفسه))، قال معاذ: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ((ثكلتك أُمُّك يا معاذ! وهل يكبُّ الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)). إن الشوق والحنين لدخول الجنة لدليلٌ على قوة الإيمان وصلاح الأعمال، وهذا الأمر هو دعوة الله لعباده، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25]، وقال عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قَرَّب إليها من قول أو عمل. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. الخطبة الثانية الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد: عباد الله، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الشوق إلى ربِّه، وإلى لقائه، وإلى جنته، كان يقول في دعائه في آخر صلاته قبل أن يسلم: ((اللهم وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة))؛ (رواه الحاكم/ صحيح الجامع 411/ 1). إن من مصادر القوة عند المؤمن إيمانه بالخلود في جنة عرضها السموات والأرض، والشوق والحنين إليها؛ فلذلك تهون في نظره كل التضحيات النبيلة والعظيمة من أجل دينه وأمته ومجتمعه، وهذا ما تمثله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم، وبهذه العزيمة وبهذه الهمة فتحوا الدنيا ونشروا الخير، وأسسوا العدل، لم ترهبهم قوة عدوٍّ، ولا مكر ماكر، ولا كيد فاجر، وكان هذا هو سبيل المؤمنين وطريقهم في كل زمان ومكان، ولكم أن تتخيلوا التضحيات التي قدمها الفلسطينيون خلال ما يقارب من ستين عامًا من الكفاح والدماء والأشلاء والمعاناة والحرمان والشتات، ما الذي يدفعهم إلى ذلك وقد عرضت عليهم الأموال والمناصب والحياة في الجُزُر والفنادق الفاخرة والتنقل المريح بين بلدان العالم؟! أليس إلا إيمانًا منهم بحقهم وعدالة قضيتهم وواجبهم تجاه دينهم ومقدساتهم وأرضهم ورغبتهم وشوقهم إلى جنة ربهم، والناس من حولهم قد أصابهم اليأس؛ لكنهم لم ييأسوا، والناس من حولهم قد أصابهم الملل؛ لكنهم لم يملوا، وكلما جاء جيلٌ كان أكثر قوةً وأكثر ثباتًا وأكثر إيمانًا، فالشوق والحنين إلى الجنان يصنع المعجزات، ويحفظ العبد من الزلَّات؛ بل ويدفعه إلى فعل الخيرات، وعمل الصالحات، فلا يمكن أن يبيع ما يفنى بما يبقى، والله عز وجل يقول: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]. عبـاد الله، فليكن شوقنا إلى جنات ربنا بعمل صالح، وتوبة صادقة، وخلق قويم، وإخوة لا تعكرها فرقة، وتسامح لا تخالطه بغضاء ولا شحناء. إن آخر الحياة الدنيا موت، والسعيد من دان نفسه قبل الموت، واستعد قبل الفوت، قال عمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل لوزيره رجاء بن حيوة: يا رجاء، إن لي نفسًا توَّاقة، وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبدالملك فتزوَّجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة فأرجو أن أكون من أهلها. ولما مرض عمر بن عبدالعزيز وجاءته سكرات الموت قال: يا رجاء، إذا أنا مِتُّ وصليتُمْ عليَّ ووضعتموني في لَحْدي فاكشف الغطاء عن وجهي، فإن رأيت خيرًا فاحمد الله عليه، وإن رأيت غير ذلك فلا يلومَنَّ عمرُ إلا نفسه، قال رجاء: فلما مات ووضعناه في اللحد كشفت الغطاء عن وجهه، فرأيت نورًا سطع، فحمدتُ الله عليه. اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الأتقياء، ومرافقة الأنبياء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولًا كريمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صَلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وانصر عبادك الموحِّدين، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبهم، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، واهدهم سواء السبيل، وردَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدينَا والمؤمنين عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ. عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أثر الإيمان: أثر الإيمان في حفظ الحقوق وأداء الأمانات حسان أحمد العماري الخطبة الأولى الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له: كُنْ فكان، أحسن كل شيء خَلْقه، وأبدع الإحسان والإتقان، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه.. أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مُفرِّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب. سهرت أعينٌ ونامت عيون ![]() في شئون تكون أو لا تكونُ ![]() فاطرح الهمَّ ما استطعت ![]() فحملانك الهموم جنونُ ![]() إن ربًّا كفاك ما كان بالأمس ![]() سيكفيك في غدٍ ما يكونُ ![]() وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كثير الخير، دائم السلطان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه حملة العلم والقرآن، وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بَعْــد: عبــــاد الله، ينقلنا صلى الله عليه وسلم إلى عصر من العصور الغابرة ليحدثنا عن قصة وقعت بين رجلين في ذلك الزمان، فقال: ((إن رجلًا فيمن قبلنا استدان من رجل ألف دينار، فقال له من عنده الدنانير: ائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: ائتني بشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيدًا، فأعطاه ألف دينار على أن يسددها بعد عام، وقدر ذلك الشهر وذلك اليوم الذي يكون فيه السداد.. لما مضى العام الكامل وجاء اليوم الذي هو موعد السداد خرج ذلك الرجل بألف دينار ليجد مركبًا لعله أن يوصله إلى صاحب الحق فيعطيه حقَّه في وقته، فما وجد سفينة يركبها، وما وجد مركبًا بحريًّا يسير عليه، فلما انقضى ذلك اليوم وهو يراقب عسى أن يجد مركبًا بحريًّا يوصله إلى مكان صاحب الحق، فأيس من ذلك، فأخذ خشبة ونجرها وجعل فيها الألف الدينار، وصحيفة العقد، وزجها وختمها وألقاها في البحر، وقال: اللهم إن فلانًا طلب مني كفيلًا فرضي بك كفيلًا، ورضي بك شهيدًا، وهذا حقه فأسألك أن توصله إليه... قال: وخرج ذلك الرجل (صاحب المال) في ذلك اليوم يرتقب الموعد الذي وعده صاحبه، فما وجد أحدًا جاء، وإنما رأى خشبة قد ألقيت على ساحل البحر، فأخذها من باب أنها حطب لأهله، فلما نشرها إذا الصحيفة والألف الدينار موجود فيها، فأخذ حقه ألف دينار، وأخذ صحيفته، وحمد الله، وأثنى على صاحب الحق أنه أوصل حقَّه في يومه... وبعد أيام وجد الذي عليه الدين مركبًا فسار عليه يريد صاحب المال يعطيه ماله، يظن أن المبلغ الذي وضعه في تلك الخشبة لم يصل إلى صاحبه، فلما وجده قال له: إني أعتذر فقد أخرت الوفاء، فوالله ما وجدت مركبًا أسير عليه، قال: ألم تبعث لي خشبة فيها ألف دينار وصحيفة، قال: يا أخي، والله ما وجدت مركبًا أسير عليه، قال: اعلم أن الله قد قضى عنك ما عليك، وأن تلك الخشبة التي ألقيتها في البحر ما زالت الريح بها حتى ألقتها على الساحل، فأخذتُها وأخذتُ نصيبي، فارجع راشدًا بما معك، فجزاك الله خيرًا))؛ أخرجه البخاري (2169)، من حديث أبي هريرة.. هــذا هو الإيمان إذا وقر في القلوب صدقه العمل، وقاد صاحبه إلى كل خير، وحفظه من طمع النفوس وجشعها، ومن غمط الحقوق وخيانة الأمانات وتضييعها. أيها المؤمنون عباد الله، المسلم تربطه علاقات بمن حوله من الناس وعليه حقوق وواجبات نحوهم، ومن أجل أن تكون هذه العلاقة نافعة ومثمرة وواضحة وحتى لا تضيع حقوق الآخرين أو يعتدى عليها، شرع الإسلام ضوابط وسَنَّ قوانين وأحكامًا، وأمر المسلم بصيانتها والحفاظ عليها، والقيام بها، من ذلك دعوة الإسلام أتباعه لأداء الحقوق وحفظ الأمانات، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 283]. وقد أعَدَّ الله على أداء الحقوق وحفظ الأمانات أعظمَ الثواب، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 8 - 11]. إن قيام المسلم بأداء الحقوق وحفظ الأمانات يعتبر ثمرة من ثمار الإيمان، وأثرًا من آثاره في حياتنا، فالمسلم يعتقد أنه محاسب بين يدي الله على كل عمل يقوم به من خير أو شر، فلا يجوز له الاعتداء على حقوق الآخرين، ولا ينبغي له أن يخون عهودهم ومواثيقهم معه، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))؛ [حديث صحيح، وإسناده جيد، رواه الإمام أحمد والبيهقي]. فالأمانة وأداء الحقوق من الأخلاق الفاضلة، وهي أصل من أصول الديانات، وهي ضرورة للمجتمع الإنساني، لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، وصانع وتاجر، وعامل وزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، ولا معلم وتلميذ، فهي شرف للجميع، ورأس مال الإنسان، وسِرُّ نجاحه، ومِفْتاح كل تقدُّم، وسبب لكل سعادة، والأمانة تشمل كل أمور الدين والدنيا، فالعبادات والمعاملات والبيع والشراء والحياة الزوجية وتربية الأولاد والتعلم وغيرها كثير من الأمانات العظيمة؛ ولكن حديثنا عن الحقوق المالية والعينية والعهود والمواثيق بين المسلم وأخيه المسلم، والتي ظهر بسبب التفريط فيها الكثير من المشاكل بين الناس، وضاعت الكثير من الحقوق، وحدث الكثير من ظلم الآخرين وغمط حقوقهم. وانظروا عبــاد الله ماذا حدث لهذه الأمة عندما ضعف الإيمان في القلوب وتعَلَّقت النفوس بالدنيا؟ لقد ظهر عند كثير من أفراد هذه الأمة الجشع والطمع والاعتداء على حقوق الآخرين وممتلكاتهم، وخان الشريك شريكه، وأكل الأخ مال أخيه، وحُرِمت المرأة من ميراثها، وحدث الظلم من صاحب العمل لعُمَّاله، ولم يؤدِّ المسئول والموظف واجبه، وتنكَّر الجار لجاره، وهذه المحاكم والقضايا والخصومات بين الناس شاهدة على ذلك، وكم سفكت من دماء، وقطعت من أرحام، بسبب ذلك، ولا خروج من هذا الوضع وعودة الحب والتراحم بين الناس إلا بإيقاظ الوازع الإيماني في النفوس، وتعلُّم أحكام الشرع، وتربية النفوس على ذلك؛ عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن شخصين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث دائرة بينهما، ليس لأحدهما بينة، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن فضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يحملها على عنقه يوم القيامة))، فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما إذا قلتما، فاذهبا واقتسما، وتوخيا الصواب واستهما، وليحلل كل منكما صاحبه))؛ [أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/320)]، يا الله ما أجمل الإيمان عندما يوقظ في القلوب وتذكر به النفوس فلا ترى إلا خضوعًا للحق واعترافًا به! وهذا شأن المؤمن، أما المنافق والعاصي والمسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، فكلما ذكرته بالله أخذته العزة بالإثم، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206]. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الأيمان الكاذبة لأخذ حقوق الناس والاعتداء عليها وما أكثرها في حياتنا اليوم! عن أبي أمامة- إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي رضي اللّه عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحَرَّم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول اللّه؟ قال: ((وإن قضيبًا من أراك))؛ رواه مسلم. عبـــــــــاد الله، وإن من أعظم الأمانات والحقوق الواجب أدائها الودائع التي أمَّنَك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ((القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كُلَّها إلا الأمانة))، قال: ((يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثَّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلَّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين))؛ [حسنه الألباني]. فإذا أمَّنَك أخوك على حق بينك وبينه لم يكن هناك كتابة ولا رهون ولا إشهاد، ولكنه أمَّنَك وأطمأنَّ لإيمانك وصدقك، فإياك أن تخونه، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283] اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. الخطــــبة الثانية الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:أيها المؤمنون، إن للمجتمع وأفراده ومؤسساته دورًا كبيرًا في إشاعة ثقافة احترام الحقوق، وحفظ الأمانات، وعدم التعدِّي على ممتلكات الآخرين وحقوقهم، فلا بُدَّ من القيام بالنصح والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، والبعد عن المداهنة والمجاملة والنفاق، فالتعيس من يبيع دينه وأمانته وأخلاقه بدنيا غيره، قال صلى الله عليه وسلم: ((أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى أخاه فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ [المائدة: 78 - 80]، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم))؛ (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن)...لقد أتت شريكًا القاضي امرأةٌ وهو في مجلس الحكم فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، قال: من ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات فأخذ حقي، فكتب القاضي رسالة طلب فيها من الأمير أن يحضر إلى مجلس القضاء، فأخذ الرسالةَ الحاجبُ ودخل بها على موسى فأعلمه، فبعث بصاحب الشرطة إليه، وقال: قل له: يا سبحان الله! امرأة ادَّعت دعوى لم تصحَّ، أعديتها عليَّ! فلما جاءه وبلغه ما قاله موسى قال شريك لمن حوله: خذوا بيده، وأمر بحبسه، وبلغ الخبر موسى، فوجه حاجبه، فلما جاءه ألحقه بصاحبه في الحبس، فبعث موسى بن عيسى الأمير إلى جماعة من وجهاء الكوفة وقال لهم: امضوا إليه، فقد استخفَّ بي، فمضوا إليه (وهؤلاء هم أعوان الظلمة ومن يزينون لهم المنكر)، وجاءوه وهو جالس في مجلس القضاء، فلما بَلَّغوه رسالة الأمير أمر بحبسهم، قالوا: ولمَ تحبسنا؟ قال: حتى لا تحملوا رسالة ظالم بعد اليوم. كم ضاعت في أيامنا بسبب الواسطة واستغلال المنصب من حقوق، وأُهدِرت من أموال، وضُيِّعَت من أمانات... فلما علم الأمير بالأمر غضب لذلك، وركب إلى الحبس بجيشه ليلًا فأخرجهم، فبلغ شريكًا ما فعل، فجهز متاعه وخرج قاصدًا بغداد ذاهبًا إلى الخليفة، فارتاع موسى لذلك، وركب في موكبه ليعيده، فلحقه بقنطرة الكوفة، فجعل يناشده الله، ويقول: ارجع! ولك ما تريد، فقال شريك القاضي: لست براجع حتى يردوا إلى الحبس جميعًا، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين جعفر المنصور فاستعفيتُه من أمر القضاء، فأمر موسى بردِّهم إلى الحبس، وجاء السجَّان فأخبر شريكًا بذلك، فأمر أعوانه أن يذهبوا بموسى إلى مجلس الحكم، وأن يخرجوا أتباعه من الحبس. ثم جلس له وللمرأة، وحكم عليه بردِّ حائطها، فلما استجاب لأمره قام فأجلسه إلى جنبه، وقال: ماذا تأمر أيها الأمير، قال: بعد هذا كله، قال: ذاك حق الله، وهذا حق السمع والطاعة، فحقوق الآخرين لا مداهنة فيها، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ الله أذلَّ الله له عظماء خلقه. أيها المؤمنون، إن خيرية هذه الأمة وصلاح أمرها يكمن في قوة إيمانها وخشيتها من الله، ومراقبته له سبحانه وتعالى، وإن تقوية الوازع الإيماني في نفوس أبنائها هو السياج القوي، والحصن المنيع من وساوس النفس والشيطان، وعلى الأمة أفرادًا ودولًا وشعوبًا ومجتمعات أن تقوم بواجباتها التي من أعظمها شأنًا قيامها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]. ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولًا كريمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وانصر عبادك الموحِّدين، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبهم، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، واهدهم سواء السبيل، وردَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدينَا والمؤمنين عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ. عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |