سلسلة أثر الإيمان - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4518 - عددالزوار : 1311368 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4943 - عددالزوار : 2041946 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1174 - عددالزوار : 132134 )           »          3 مراحل لانفصام الشخصية وأهم أعراضها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          متلازمة الشاشات الإلكترونية: كل ما تود معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          ما هي أسباب التعرق الزائد؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          أضرار الوجبات السريعة على الأطفال: عواقب يُمكنك تجنبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الوقاية من القمل بالقرنفل: أهم الخطوات والنصائح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          علاج جفاف المهبل: حلول طبيّة وطبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          الوقاية من القمل في المدارس: دليل شامل للأهل والمعلم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 01-08-2024, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي سلسلة أثر الإيمان

سلسلة أثر الإيمان

أثر الإيمان في تحقيق الأمن النفسي

حسان أحمد العماري

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد، الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم عددًا، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينسَ منهم أحدًا، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا كثيرًا بلا عدد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه ربُّه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كِيان الوثنية، فصلوات ربي وسلامه عليه:
يا خيرَ من دُفِنت في التُّرْبِ أعْظُمُه
فطاب من طِيبِهن القاع والأكَمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العَفاف وفيه الجود والكرمُ
أنت الحبيب الذي تُرجى شفاعته
عند الصراط إذا ما زلَّتِ القدمُ


أما بعــــــــد عبـــــــــاد الله:
فما أكثر الهمومَ والهواجس والمخاوف والأحزان التي تعصف بالدول والمجتمعات وحتى الأفراد؛ همَّ الأمراض والكوارث والحروب، مخاوفَ وقلقًا وهمومًا بالليل والنهار تتعلق بالرزق وبالمستقبل المجهول، وخوفًا من الموت، وفزعًا من نزول الأمراض والأوبئة، وهناك هموم على مستوى الأفراد؛ همُّ الزوجة والأولاد، وهمُّ الوظيفة، وهمُّ المنصب، وأصبح كثير من الناس يعيش في حيرة وقلق واضطراب، فهل يعقل أن تصل حياة كثيرٍ من الناس والمجتمعات والدول إلى هذا الوضع، الذي يُنذر بالخطر الداهم على عقيدة الفرد وحياته وآخرته، وسلامة المجتمع وأمْنِهِ؟ فلماذا هذا الخوف والقلق النفسي الذي أصبح اليومَ طاعونَ الحياة؟

وهل يعقل أن يخلُقَ الله الخَلْقَ تم يتركهم ليعيشوا هكذا حياة؟ كلا، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، بل خلقهم ودلَّهم على ما فيه سعادتهم وراحتهم وأمنهم النفسي والاجتماعي؛ يقول عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]، فالإنسان مخلوقٌ كريم عند الله، سخر له ما في السماوات والأرض، وبيَّن لهم طريق الحياة الكريمة التي لا شقاء فيها ولا تعاسة، ولا قلق ولا حَيرة، حتى وإن وُجِدت تلك المصائب والمنغِّصات والكوارث، فإنها من قَدَرِ الله ليبتلي عباده، لكنه دلَّهم على طريق النجاة، ودلَّهم على العلاج الذي يضمن لهم الراحة والطمأنينة والأمن النفسيَّ، حتى في أحلك الظروف، وأصعب الأزمات.

قال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]، فجَعَلَ اتباعَ هُداه، والالتزام بمنهجه، واتباع رسله، والعمل على وَفْقِ سُنَنِهِ سبيلَ النجاة والسعادة، والحياة الآمنة.

عبـــــــــاد الله: سُئل حاتم الأصم: عَلَامَ بنيتَ أمرك؟ أي: كيف بنيت حياتك؟ وما سبب سعادتك واطمئنانك؟

قال: "على أربع خِصال: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت، فأنا أستحي منه"؛ إنه الإيمان بالله والثقة به، واليقين بوعده وموعوده؛ لأن العبد إذا آمن صار في أمان الله؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]، الإيمان يحقق الأمن النفسي، ويعالج القلق والاضطرابات؛ فهو يزرع في النفوس عقيدة راسخة، تعالج أهم القضايا التي يعاني منها الفرد؛ قضية الخوف من فوات الرزق، وقضية الخوف من المستقبل المجهول، وقضية الخوف من الموت، فجاء الإيمان ليعلم كل فرد أن الرزق بيد الله، وأنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقها، وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلُبَك شيئًا من رزقك، ولو كان شيئًا يسيرًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن نفسًا لن تموتَ حتى تستكمل رزقها؛ فاتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب))؛ [السلسلة الصحيحة (2866)]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرُب من الموت، لَأدْرَكَهُ رزقه كما يدركه الموت))؛ [حسنه الألباني (950)].

إن رزقك - يا عبدالله - كُتِبَ لك وأنت في بطن أمك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يُجمَع خَلْقُهُ في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكًا، ويُؤمَر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجَلَه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح))؛ [رواه البخاري ومسلم]، فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقَضِيضِها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها، وأرادوا أن يمنعوا رزقًا قدَّره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبه الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة، فكن مطمئنًّا، فرزقك عند الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، فأحْسِنِ الطلب، ولا تطلبه إلا من طرق الحلال؛ قال عز شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]، وابذل الأسباب، ثم توكل على الله، وثِقْ به.

دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى مسجده المبارك، فنظر إلى أحد أصحابه، وَجَدَهُ وحيدًا فريدًا، ونظر إلى وجه ذلك الصحابي، فرأى فيه علامات الهم والغم، رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاةٍ، فدنا منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه - وكان لأصحابه أبرَّ وأكرم من الأب لأبنائه - وقف عليه رسول الهدى، فقال: ((يا أبا أمامة، ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟ قال: يا رسول الله، همومٌ أصابتني، وديون غلبتني - أصابني الهم وغلبني الدَّين، الذي هو همُّ الليل وذلُّ النهار - فقال: ألَا أُعلمك كلماتٍ إذا قلتَهن، أذهب الله همَّك، وقضى دَينك؟ صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك بابَ خير إلا ودلَّنا عليه، ولا سبيل هدًى ورُشْدٍ إلا أرشدنا إليه، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمته، ألَا أدلك على كلماتٍ إذا قلتهن أذهب الله همَّك، وقضى دينك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قُلْ إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال، قال رضي الله عنه وأرضاه: فقلتُهن فأذهب الله همي وقضى ديني))؛ [رواه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستعاذة (4/412)].

عبـــــــــاد الله: وأما الخوف من المجهول ومن المستقبل الذي أرَّق الناس، وجلب لهم القلق والهم، فإن الإيمان عقيدة تنفُث في رُوع المسلم وخَلَدِهِ أن كل شيء في هذا الكون بيد الله، وأنه لن يحدث أمر من خير أو شر إلا بقدر الله، وأن ما قدره الله وقضاه واقع لا محالة؛ قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23]، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: يا غلام، إني أُعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعتِ الأقلام وجفَّت الصحف))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]، ومن آمن بقدر الله وقدرته ومشيئته، وأدرك عجزه، وحاجته إلى خالقه تعالى، فهو يصدُق في توكله على ربه، ويأخذ بالأسباب التي خلقها الله، ويطلب من ربه العون والسداد، والمؤمن يردد في يقين قولَه تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51].

وأما المــــــــوت - عباد الله - فلماذا الخوف منه، وهو سنة الله في خلقه، وهو قدر الله في أرضه وسمائه؟ قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]، والمؤمن بربه قد أراح نفسه من هذا الهم والقلق بيقينه أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها؛ قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34].

ثم إن الإيمان يوجِّه المؤمن إلى عمارة الدنيا وفق منهج الله، فيعيش في أمن وسعادة، وكذلك يذكِّره ويوجِّهه إلى الاهتمام بالدار الآخرة وهي الحياة الحقيقية، وبها السعادة والنعيم والخير المقيم، فعندما يعلم المؤمن بأن هناك ربًّا رحيمًا ينتظره، وخيرًا مقيمًا قد أُعِدَّ له، فإنه لا يبالى إن جاءه الموت في أي لحظة؛ لما حضر بلالًا رضي الله عنه سكراتُ الموت قالت زوجته: وا حزناه، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت، وقال: لا تقولي: وا حزناه، وقولي: وا فرحاه، ثم قال: "غدًا نلقى الأحِبَّة؛ محمدًا وصحبَه"، ولما حضرت أبا ذر الوفاةُ، بكت زوجته، فقال: ما يبكيكِ؟ قالت: وكيف لا أبكي، وأنت تموت بأرض فلاة، وليس معنا ثوب يَسَعُك كفنًا؟ فقال لها: لا تبكي، وأبشري؛ فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن رجلٌ منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين))، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا ومات في قرية وجماعة، وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذبت، فانظري الطريق، قالت: كيف وقد ذهب الحُجَّاج وتقطعت الطريق؟ فقال: انظري، فإذا أنا برجال، فألحت ثوبي، فأسرعوا إليَّ، فقالوا: ما لكِ يا أمةَ الله؟ وكان فيهم الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، قالت: امرؤ من المسلمين تَكْفُونه، فقالوا: من هو؟ قالت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحب رسول الله، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ودخلوا عليه، فبشَّرهم وذكر لهم الحديث، فلما مات وفاضت روحه، قال ابن مسعود: صدق رسول الله فيك يا أبا ذر؛ تعيش وحيدًا، وتموت وحيدًا، وتُبعَث وحيدًا، وصلى عليه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

إن الخوف من الموت الزائد عن حدِّه الفطري - فكل إنسان يحب الحياة، ويرغب في أن يطول عمره - يجلب على العبد الجُبنَ والذل والقلق، بل ويدفعه إلى بيع قيمه ومبادئه وأخلاقه، وكل ذلك على حساب راحته وسعادته، وفي النهاية سيأتي الموت؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154]، وقال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78]، فمن خاف الله واتَّقاه، أمِن في نفسه وماله وأولاده؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا [الجن: 13]، اللهم إنا نسألك إيمانًا خالصًا ويقينًا صادقًا، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطــــبة الثانـية
الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد أيها المسلمون:
فإن من وسائل تحقيق الأمن النفسي، وعلاج الهموم والقلق ما دلَّنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم أصْلِحْ لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ))؛ [رواه مسلم، رقم: (2720)].

وروى الطفيل بن أُبَيِّ بن كعب عن أبيه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثُلُثا الليل قام فقال: يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أُبَيٌّ: قلت: يا رسول الله، إني أُكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئتَ، قال: قُلتُ: الرُّبُع؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت: فالثُّلُثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبك))؛ [رواه الترمذي، وحسنه الألباني في المشكاة: (929)]، فأكْثِروا من العبادات والطاعات، وتوكلوا على رب الأرض والسماوات، واذكروا الله في الفَلَوات والخَلَوات، واعلموا أن هذه الدنيا زائلة، وأن الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في الآخرة، فأحْسِنوا العمل، وأحسنوا الظن بربكم، وقوموا بواجباتكم، تُفلِحوا في دنياكم وأُخراكم.

هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، واخذل أعداءك أعداء الدين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم ألِّف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتَهم، واهدِهم سواء السبيل، ورُدَّنا جميعًا إلى دينك ردًّا جميلًا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار.

عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 02-08-2024 الساعة 12:30 PM.
رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 150.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 148.49 كيلو بايت... تم توفير 1.75 كيلو بايت...بمعدل (1.17%)]