المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         طريقة عمل المهلبية بالمستكة.. تحلية خفيفة ومغذية ومثالية للأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          طرق مختلفة لاستخدام قشور البرتقال فى المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          من أحمر الشفاه للماسكارا.. طريقة إزالة بقع المكياج المختلفة من الملابس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح البشرة بخطوات بسيطة.. خلى وشك ينور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          3 وصفات بالبيض لسندوتشات المدرسة.. فطار صحى ومغذى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          6 خطوات ترجع طفلك لروتين المدرسة بسهولة.. عشان يصحى بنشاط وحيوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          4 تسريحات شعر عملية وجذابة ومناسبة للمدرسة.. مش هتاخد وقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          طريقة عمل طاجن الفراخ بالبصل والصوص الأحمر.. لذيذة وبتشبع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ما ينفعش تخزنيها لفترة طويلة.. 5 أطعمة اعرفى إزاى تحافظى عليها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح اليدين بخطوات بسيطة.. لو بتتعرضى للشمس كتير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 24-02-2024, 03:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,900
الدولة : Egypt
افتراضي المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور

المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

أمَّا الصَّبرُ، فقد أطلقَهُ عليه أعرَفُ الخَلْقِ به وأعظمُهم تنزيهًا له بصيغةِ المُبالغةِ، ففي الصَّحيحينِ مِن حديثِ الأعمشِ، عن سعيدِ بن جُبيرٍ، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن أبي موسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ عز وجل، يَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»[1].

وفي أسمائِهِ الحُسنى: الصَّبورُ، وهو من أمثلةِ المبالغَةِ، أبلغُ من الصابرِ والصَّبَّارِ، وصَبرُه تعالى يُفارقُ صَبرَ المخلوقِ، ولا يُماثِلُه مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ، منها أنه عن قُدرةٍ تامَّةٍ، ومنها أنه لا يَخافُ الفَوْتَ، والعبدُ إنما يَستَعجلُ لخوفِ الفوتِ، ومنها أَنَّه لا يَلحقُه بصبرِه ألمٌ ولا حُزنٌ ولا نقصٌ بوجهٍ ما، وظهورُ أثرِ هذا الاسمِ في العالَمِ مَشهودٌ بالعِيانِ كظهورِ اسمِه الحليمِ.

والفرق بين الصَّبرِ والحِلْمِ: أَنَّ الصَّبْرَ ثمرةُ الحِلْمِ ومُوجَبُهُ، فعلى قَدْرِ حِلْمِ العَبْدِ يكونُ صَبرُه، فالحِلمُ في صفاتِ الربِّ تعالى أوسعُ مِن الصَّبرِ، ولهذا جاء اسمُه الحليمُ في القرآنِ في غيرِ موضعٍ، ولسَعتِه يقرنُهُ سُبْحَانَهُ باسمِ العَليمِ، كقولِه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا[الأحزاب: 51]، و ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج: 59].

وفي أثرٍ أَنَّ حمَلةَ العرشِ أربعةٌ: اثنانِ يقولانِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، لك الحمدُ على حِلْمِك بعد عِلْمِكَ، واثنانِ يقولانِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، لك الحمدُ على عفوِك بعد قُدْرتِكَ.

فإِنَّ المخلوقَ يَحْلُمُ عن جَهلٍ، ويعفُو عن عَجْزٍ، والرَّبُّ تعالى يَحْلُمُ مع كمالِ عِلْمِهِ، ويَعْفُو مع تمامِ قُدْرتِه، وما أُضيفَ شيءٌ إلى شيءٍ أزينُ مِن حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، ومِن عفْوٍ إلى اقْتِدَارٍ، ولهذا كان في دُعاءِ الكَرْبِ وُصِفَ سُبْحَانَهُ بالحِلْمِ مع العظمَةِ، وكونُه حليمًا مِن لوازمِ ذاتِهِ سُبْحَانَهُ.

وأما صَبْرُه سُبْحَانَهُ، فمتعلِّقٌ بكُفْرِ العبادِ، وشرْكِهم، ومَسَبَّتهم له سُبْحَانَهُ، وأنواعِ مَعاصِيهم وفجورِهم، فلا يُزعِجُه ذلك كلُّه إلى تعجيلِ العقوبةِ، بل يَصبرُ على عبْدِه، ويُمْهِلُه، ويَستَصلِحُه، ويَرْفُقُ به، ويَحْلُمُ عنه، حتى إذا لم يَبْقَ فيه مَوضِعٌ للصّنَيعةِ، ولا يَصْلحُ على الإمهالِ والرِّفقِ والحِلمِ،ولا يُنِيبُ إلى ربِّه ويَدْخُل عليه لا مِن باب الإحسان والنعم، ولا مِن بابِ البلاءِ والنِّقمِ - أَخَذَهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتدرٍ، بعد غايةِ الإعذارِ إليه، وبذْلِ النصيحةِ له، ودُعائِه إليه مِن كلِّ بابٍ، وهذا كلُّه مِن مُوجِباتِ صِفَةِ حِلْمِه، وهي صفةٌ ذاتيةٌ لا تزولُ.

وأما الصَّبرُ، فإذا زالَ مُتَعَلَّقُه، كان كسائرِ الأفعالِ التي تُوجدُ بوجودِ الحِكْمةِ، وتزولُ بزوالِها، فتأمَّلْهُ، فإنَّه فرْقٌ لطيفٌ ما عَثَرتِ الحُذَّاقُ بعُشْرِهِ، وقلَّ مَنْ تَنَبَّهَ له ونبَّه عليه، وأشكلَ على كثيرٍ منهم هذا الاسمُ، وقالوا: لم يأتِ في القرآنِ، فأعرضوا عن الاشتغالِ به صفحًا، ثُمَّ اشتغلوا بالكلامِ في صَبْرِ العبْدِ وأقسامِه، ولو أنهم أَعطَوا هذا الاسمَ حقَّهُ، لَعَلِموا أنَّ الرَّبَّ تعالى أحقُّ به مِن جميعِ الخَلْقِ، كما هو أحقُّ باسمِ العليمِ، والرَّحيمِ، والقديرِ، والسَّميعِ، والبصيرِ، والحيِّ، وسائرِ أسمائِه الحُسنى - مِنَ المخلوقين - وأنَّ التفاوتَ الذي بين صَبْرِه سُبْحَانَهُ وصَبْرِهم، كالتفاوتِ الذي بين حياتِهم وحياتِه، وعِلمِهِ وعِلمِهم، وسمعِه وسمعِهم، وكذا سائرِ صفاتِه.

ولمَّا عَلِمَ ذلك أَعْرَفُ خَلْقِه به قال: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ»[2]، فعِلْمُ أربابِ البَصائرِ بصبرِه سُبْحَانَهُ كعِلْمِهم برحمتِهِ وعفوِه وسَتْرِهِ، مع أنَّه صَبْرٌ مع كمالِ عِلمٍ وقُدْرةٍ وعظَمةٍ وعِزَّةٍ، وهو صَبْرٌِ من أعظمِ مصبورٍ عليه؛ فإِنَّ مُقابلةَ أعظمِ العظماءِ، ومَلِكِ الملوكِ، بغاية القبح، وأعظم الفجور، وأفحشِ الفواحشِ، ونسبتَه إلى كلِّ ما لا يليقُ به، والقدحَ في كمالِه وأسمائِه وصفاتِه، والإلحادَ في آياتِه، وتكذيبَ رسُلِه عز وجل، ومقابلتَهُمْ بالسَّبِّ والشتمِ والأذى، وتحريقَ أوليائِه وقتلَهُم وإهانتَهُم - أمرٌ لا يَصبرُ عليه إلا الصَّبورُ، الذي لا أحدَ أصبرُ منه، ولا نِسبةَ لصبرِ جميعِ الخلْقِ مِن أوَّلِهم إلى آخرِهِم إلى صبرِه سُبْحَانَهُ.

وإذا أردتَ معرفةَ صَبْرِ الربِّ تعالى وحِلْمِهِ، والفرْقَ بينهما، فتأمَّلْ في قولِه تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41].

وقولِه: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 88 - 91].

وقولِه: ﴿ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46]، على قراءة مَنْ فتحَ اللَّامَ.

فأخبَر سُبْحَانَهُ أَنَّ حِلْمَه ومغفرتَهُ يَمنعانِ زوالَ السَّماواتِ والأرضِ، فالحِلْمُ وإمساكُهما أَنْ تزولا هو الصَّبْرُ، فبِحِلْمِه صَبَر عن معالجةِ أعدائِهِ.

وفي الآيةِ إشعارٌ بأنَّ السماواتِ والأرضَ تهُمُّ وتستأذِنُ بالزوالِ لِعظمِ ما يأتي به العِبادُ، فيُمسكُها بحِلْمِهِ ومغفرتِه، وذلك حَبْسُ عقوبتِه عنهم، وهو حقيقةُ صَبْرِه تعالى، فالذي عنه الإمساكُ هو صفةُ الحِلْمِ، والإمساكُ هو الصَّبْرُ، وهو حَبْسُ العقوبةِ، ففرقٌ بين حبْسِ العُقوبةِ وبين ما صَدَر عنه حبْسُها، فتأمَّلْهُ.

وفي مسندِ الإمامِ أحمدَ مرفوعًا: «ما مِن يومٍ إلا والبحرُ يستأذِنُ ربَّه أَنْ يُغرِقَ بَني آدمَ»[3]، وهذا مقتضى الطبيعةِ؛ لأنَّ كُرةَ الماءِ تعلو كُرةَ التُّرابِ بالطبعِ، ولكنَّ اللهَ يُمسِكُه بقُدْرتِه وحِلْمِه وصَبْرِه.

وكذلك خُرورُ الجبالِ، وتفطيرُ السَّماواتِ، الربُّ تعالى يحبِسُها عن ذلك بصَبْرِه وحِلمِه، فإنَّ ما يأتي به الكفارُ والمشركون والفُجَّارُ في مقابلةِ العظمةِ والجلالِ والإكرامِ يقتضي ذلك، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ في مقابلةِ هذه الأسبابِ أسبابًا يُحِبُّها ويرضاها ويفرحُ بها أكْمَلَ فرحٍ تُقابِلُ تلك الأسبابَ التي هي سببُ زوالِ العالمِ وخرابِهِ، فدفعَتْ تلك الأسبابَ وقاومتْها.

وكان هذا مِنْ آثارِ مُدافعةِ رحمَتِهِ لِغضبِه وغَلبتِها له وسبقِها إيَّاه، فغَلَبَ أثرُ الرَّحمةِ أثَرَ الغضبِ، كما غلبتِ الرَّحمةُ الغضبَ.

ولهذا استعاذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بصِفة الرِّضا مِن صِفةِ السُّخْطِ، وبفعْل المعافاةِ مِن فعلِ العقوبةِ، ثم جَمَعَ الأمْرين في الذَّاتِ، إِذْ هُما قائمانِ بها، فقال: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»[4]، فإنَّ ما يُستعاذُ به هو صادِرٌ عن مشيئتِه وخلْقِه بإذنِه وقضائِه، فهو الذي أَذِنَ في وقوعِ الأسبابِ التي يُستعاذُ منها خَلْقًا وكَونًا، فمنْه السببُ والمُسبَّبُ، وهو الذي حَرَّكَ الأنفُسَ والأبدانَ وأعطاها قُوى التأثيرِ، وهو الذي أوجَدَها وأعدَّها ومدَّها وبسَطَها على ما شاء، وهو الذي يُمسِكُها إذا شاءَ، ويَحُولُ بينها وبين قُواها وتأثيرِها.

فتأمَّلْ ما تحتَ قولِه: «أعوذُ بِكَ مِنْكَ» مِن محْضِ التَّوحيدِ، وقطْعِ الالتفاتِ إلى غيرِه، وتكميلِ التوكُّلِ عليه سبحانه وتعالى به وَحْدَهُ، وإفرادِه بالخوفِ والرَّجاءِ ودفْعِ الضُّرِّ وجلْبِ الخيرِ، وهو الذي يَمَسُّ بالضُّرِّ بمشيئَتِه، وهو الذي يَدْفعهُ بمشيئَتِه مِنْ مَشيئَتِهِ، وهو المُعِيذُ مِنْ فعلِه بفعلِه، وهو الذي سُبْحَانَهُ خلَقَ ما يصبرُ عليه وما يرضى به، فإذا أغضبَتْهُ معاصي الخلْقِ وكفْرُهم وشِرْكُهم وظلْمُهم، أرضاه تسبيحُ ملائِكَتِهِ وعبادِهِ المؤمنين له وحمدُهم إياه، وطاعتُهم له، فيُعيذُ رضاه مِن غضَبِهِ.

قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «ليس عند ربِّكم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماواتِ والأرضِ مِن نُورِ وجهِه، وإنَّ مقدارَ يومٍ مِن أيامِكم عنده اثنتا عَشْرَةَ ساعةً، فتُعرضُ عليه أعمالُكم بالأمس أولَ النهارِ اليومَ، فيَنظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فيطَّلعُ منها على ما يكرَهُ فيغضبُه ذلك، فأوَّل ما يعلمُ بغضبِه حملةُ العرشِ يجدونَهُ يَثْقُلُ عليهم، فتسبِّحُه حمَلةُ العرشِ وسرادقاتُ العرشِ والملائكةُ المقرَّبون وسائرُ الملائكةِ، حتى يَنفخَ جبريلُ في القرنِ فلا يَبقى شيءٌ إلا يَسمَعُ، فيُسَبِّحون الرحمَن ثلاثَ ساعاتٍ حتى يَمْتلئَ الرحمنُ رحمةً، فتلك ستُّ ساعاتٍ».

قال: «ثُمَّ يؤتَى بالأرحامِ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلك قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران: 6]، ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى: 49، 50].

فتلك تسعُ ساعاتٍ، ثم يُؤتى بالأرزاقِ فينظرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلك قوله: ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26]، وقوله: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]».

قال: هذا شأنُكم وشأنُ ربِّكم»، رواه أبو القاسم الطبراني في السُّنّةِ، وعثمان بن سعيد الدارمي، وشيخُ الإسلامِ الأنصاري، وابنُ مَنده، وابنُ خزيمةَ وغيرُهم.

ولمَّا ذكرَ سُبْحَانَهُ في سورةِ الأنعامِ أعداءَهُ وكفْرَهُمْ وشِرْكَهم وتكذيبَ رسلِه - ذكرَ في أثر ذلك شأنَ خليلِه إبراهيمَ، وأراهُ مِن ملكوتِ السَّماواتِ والأرضِ، وما حاجَّ به قومَهُ في إظهارِ دِينِ اللهِ وتوحيدِه... ثم ذكرَ الأنبياءَ من ذريِّتهِ، وأنَّه هداهُم وآتاهم الكِتابَ والحُكْمَ والنبوَّةَ - ثُمَّ قال: ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام: 89]، فأَخبرَ أنه سُبْحَانَهُ، كما جعَل في الأرضِ مَنْ يكفرُ به، ويجحدُ توحيدَه، ويكذِّبُ رُسلَهُ، كذلك جعلَ فيها مَنْ يؤمنُ بما كفرَ به أولئك، ويُصَدِّقُ بما كذَّبوا به، ويحفظُ مِنْ حُرماتِه ما أضاعوه.

وبهذا تماسك العالمُ العلويُّ والسُّفليُّ، وإِلَّا فلو تَبِعَ الحقُّ أهواءَ أعدائِهِ لفسدَتِ السماواتُ والأرضُ ومَنْ فيهن ولخَرِبَ العالمُ، ولهذا جعَلَ سُبْحَانَهُ مِن أسبابِ خَرابِ العالم رفْعَ الأسبابِ المُمسكةِ له مِنَ الأرضِ، وهي كلامُه وبيتُه ودِينُه والقائمون به، لا يَبقى لتلك الأسبابِ المقتضيةِ لخرابِ العالمِ أسبابٌ تُقاومُها وتمانِعُها.

ولمَّا كان اسمُ (الحليمِ) أَدْخَلَ في الأوصافِ، واسمُ (الصَّبورِ) في الأفعالِ، كان الحِلْمُ أصْلَ الصَّبرِ، فوقَع الاستغناءُ بذكْرِه في القرآنِ عن اسمِ (الصَّبورِ)... والله أعلم.

وأما تسميتُه سُبْحَانَهُ بالشكور، فهو في حديثِ أبي هُريرةَ.

وفي القرآنِ تسميتُه شاكرًا، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].

وتسميتُه أيضًا شكورٌ، قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 22]، فجَمعَ لهم سُبْحَانَهُ بين الأمْرين: أَنْ شَكَرَ سعيَهم، وأثابَهم عليه، واللهُ تعالى يَشكرُ عبدَه إذا أحسَنَ طاعتَهُ، ويَغفرُ له إذا تابَ عليه، فيجمعُ للعبدِ بَين شُكْرِه لإِحسانِه، ومغفرَتِه لإساءتِه، إِنَّه غفورٌ شكورٌ.

وقد تقدَّمَ ذكْرُ حقيقةِ شُكْرِ العبدِ وأسبابِه ووجوهِهِ.

وأما شكْرُ الرَّبِّ تعالى فله شأنٌ آخرُ كشأنِ صَبرِه، فهو أولى بصفةِ الشُّكرِ مِن كلِّ شكورٍ، بل هو الشَّكورُ على الحقيقةِ، فلا يَستقلُّه أن يشكرَهُ، ويشكرَ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها إلى أضعافٍ مضاعفةٍ.

ويشكرُ عبدَهُ بقولِهِ بأَنْ يُثنيَ عليه بين ملائكتِه وفي مَلَئِه الأعلى، ويُلقي له الشُّكرَ بين عبادِه، ويشكُره بفعلِه، فإذا تركَ له شيئًا أعطاه أفضلَ منه، وإذا بذَل له شيئًا ردَّهُ عليه أضعافًا مضاعفةً، وهو الذي وفَّقَهُ للتَّرْكِ والبذْلِ، وشكَرَهُ على هذا وذاك.

ولما عَقَرَ نبيُّهُ سليمانُ الخيلَ غضبًا له، إِذْ شغلتْهُ عن ذكْرِه، فأراد ألَّا تُشغِلَهُ مرّةً أخرى، أعاضَهُ عنها متْنَ الرِّيحِ.

ولما تَرَكَ الصَّحابةُ ديارَهم، وخرجوا منها في مرضاتِه، أعاضَهم عنها أن ملَّكَهم الدُّنيا وفتَحها عليهم.

ولما احتَمَلَ يوسفُ الصِّدِّيقُ ضيقَ السِّجْنِ، شَكَرَ له ذلك بأَنْ مكَّنَهُ في الأرضِ يتبوَّأُ منها حيثُ يَشاءُ.

ولما بذلَ الشُّهداءُ أبدانَهم له ومزَّقها أعداؤهُ، شَكَرَ لهم ذلك بأَنْ أعاضَهُمْ منها طَيرًا خُضْرًا أقرَّ أرواحَهُمْ فيها، تَرِدُ أنهارَ الجَنَّةِ، وتأكلُ مِنْ ثِمارِها إلى يومِ البَعْثِ، فيَرُدُّها عليهم أكْمَلَ ما تكُونُ وأجْمَلَهُ وأبْهَاهُ.

ولما بَذَلَ رسُلُهُ أعراضَهم فيه لأعدائِهم، فنالوا منهم وسَبُّوهُمْ، أعاضَهُم مِنْ ذلك بأَنْ صلَّى عليهم هو وملائكتُه، وجعلَ لهم أطيَبَ الثَّناءِ في سماواتِه وبَيْنَ خلقِهِ، فأَخْلَصهُمْ بخالصةٍ ذكرى الدَّارِ.

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أنَّه يُجازي عدوَّهُ بما يفعلُه مِنَ الخيرِ والمعروفِ في الدُّنيا، ويخفّفُ به عنه يومَ القيامةِ، فلا يُضيعُ عليه ما يفعلُه مِن الإِحسانِ، وهو مِنْ أبغضِ خلْقِهِ إليه.

ومِنْ شُكرِهِ: أَنَّه غَفَرَ للمرأةِ البغيِّ بسَقْيها كلبًا كان قد جَهَدَهُ العطشُ حتى أكلَ الثرى، وغفرَ لآخَرَ بتنْحِيَتِه غُصنَ شوكٍ عن طريقِ المسلمين.

فهو سُبْحَانَهُ يَشكرُ العَبْدَ على إحسانِه لنفسِه، والمخلوقُ إِنَّما يشكر مَنْ أحسنَ إليه، وأبلغُ مِنْ ذلك أَنَّه سُبْحَانَهُ هو الذي أعطى العبدَ ما يُحسِنُ به إلى نفسِهِ، وشَكَرَهُ على قليلهِ بالأضعافِ المضاعفةِ التي لا نِسْبَةَ لإحسانِ العبدِ إليها، فهو المحْسنُ بإعطاءِ الإحسانِ وإعطاءِ الشكرِ، فمَنْ أحقُّ باسمِ الشكورِ منه سُبْحَانَهُ؟

وتأملْ قولَهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا[النساء: 147]، كيف تجدُ في ضِمْنِ هذا الخطابِ أَنَّ شُكْرَهُ تعالى يأبَى تعذيبَ عبادِهِ بغيرِ جُرْمٍ، كما يأبَى إِضاعَةَ سعْيِهم باطلًا، فالشكورُ لا يُضيعُ أَجْرَ مُحسِنٍ، ولا يُعذِّبُ غيرَ مُسيءٍ.

وفي هذا ردٌّ لقولِ مَنْ زعمَ أَنَّه سُبْحَانَهُ يُكَلِّفُه ما لا يُطيقُه، ثُمَّ يُعذِّبُه على ما لا يَدْخُلُ تحتَ قُدرتِهِ، تعالى اللهُ عن هذا الظنِّ الكاذبِ والحُسبانِ الباطلِ عُلوًّا كبيرًا، فشُكْرُه سُبْحَانَهُ اقتضى أَنْ لا يُعذِّبَ المؤمنَ الشَّكورَ، ولا يُضيعُ عَملَهُ.

وذلك مِنْ لوازِمِ هذه الصِّفَةِ، فهو مُنزَّهٌ عن خلافِ ذلك، كما يُنزَّهُ عن سائرِ العُيوبِ والنقائصِ التي تُنافي كمالَهُ وغِناهُ وحمْدَهُ.

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أَنَّه يُخرِجُ العبدَ مِن النَّارِ بأدنى مِثقالِ ذَرَّةٍ مِن خيرٍ، ولا يُضيعُ عليه هذا القَدْرَ.

ومِنْ شُكْرِه سُبْحَانَهُ: أَنَّ العبدَ مِنْ عِبادِه يقُومُ له مقامًا يُرضيه بين النَّاسِ فيشكرُه له، وينوِّهُ بذكرِه، ويُخبر به ملائكَتَهُ وعبادَهُ المؤمنينَ... كما شَكَرَ لمؤمنِ آلِ فرعَونَ ذلك المقامَ، وأثنى بِه عليه، ونوَّه بذكرِه بَيْنَ عبادِهِ... وكذلك شُكْرُه لصاحبِ يَس مقامَهُ ودَعْوتَهُ إليه، فلا يَهْلِكُ عليه بين شُكرِه ومغفرتِه إلا هالِكٌ، فإِنَّه سُبْحَانَهُ غفورٌ شَكورٌ، يغفِرُ الكثيرَ مِن الزَّلَلِ، ويشكرُ القليلَ من العَملِ.

ولمّا كان سُبْحَانَهُ هو الشكورَ على الحقيقةِ، كان أَحبَّ خلْقِهِ إليه مَنِ اتَّصفَ بصفةِ الشّكرِ، كما أَنَّ أبغضَ خلْقِهِ إليه مَنْ عطَّلها واتَّصفَ بضِدِّها، وهذا شَأْنُ أسمائِهِ الحُسنى، أَحبُّ خلقِهِ إليه مَنِ اتَّصفَ بمُوجبِها، وأَبغضُهم إليه مَنِ اتَّصفَ بأضْدَادِها.

في انقسام الصَّبرِ إلى محمودٍ ومذمومٍ:
فالمذمومُ: الصبرُ عن اللهِ وإرادتِه ومحبَّتِه وسيرِ القلبِ، فإنَّ هذا الصبرَ يتضمَّنُ تعطيلَ كمالِ العبدِ بالكُلّيةِ وتفويتَ ما خُلِقَ له.

وهكذا كما أنه أقبحُ الصبرِ، فهو أعظمُه وأبلغُه، فإنه لا صَبْرَ أبلغُ مِن صبرٍ مَن يصبرُ عن محبوبِه الذي لا حياةَ له بدونه ألبتَّةَ، وكما لا زُهْدَ أبلغُ مِن زُهدِ الزاهدِ فيما أعدَّ اللهُ لأوليائِه مِن كرامتِه مما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، فالزُّهدُ في هذا أعظمُ أنواع الزهدِ.

وكما قال رجلٌ لبعضِ الزاهدين وقد تعجَّبَ لزهدهِ: وما رأيتُ أزهدَ منك، فقال: أنتَ أزهد مني؛ أنا زهدت في الدُّنيا وهي لا بقاءَ لها ولا وفاءَ، وأنتَ زَهِدْتَ في الآخرة، فمَنْ أزهدُ منا؟

قال يحيى بنُ معاذٍ الرازيُّ: «صبْرُ المحبِّين أعجبُ مِن صَبرِ الزاهدين، واعجبًا، كيف يصبرون؟!».

وفي هذا قيل:
الصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا
إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّه لَا يُحْمَدُ




ووقفَ رجلٌ على الشِّبلي، فقال: أَيُّ الصَّبْرِ أشدُّ صبرًا على الصابرين؟ فقال: الصبرُ في اللهِ، قال: لا، فقال: الصبرُ للهِ، فقال: لا، قال: فالصبر مع اللهِ، قال: لا، قال: فأي شيءٍ هو؟ قال: الصبرُ عن اللهِ، فصرخَ الشبليُّ صرخةً كادت رُوحهُ تزهقُ.

وقيل: «الصبرُ مع اللهِ وفاءٌ، والصبرُ عن اللهِ جفاءٌ».

وقد أجمع النَّاسُ على أَنَّ الصبرَ عن المحبوبِ غيرُ محمودٍ، فكيف إذا كان كمالُ العبدِ وفلاحُه في محبَّتِه.

ولم تزَلِ الأحبابُ تعيبُ المحبِّينَ بالصبرِ عنهم كما قيل:
والصَّبرُ عنكَ فمذمومٌ عواقِبُه
والصَّبرُ في سائرِ الأشياءِ محمودُ




وقال آخرُ في الصبر عن محبوبِه:
إذا لَعِبَ الرِّجالُ بكلِّ شيءٍ
رأيتُ الحُبَّ يلعبُ بِالرِّجالِ
وكيف الصبرُ عمَّن حلَّ مني
بمنزلةِ اليمينِ مع الشّمالِ


وشكا آخرُ إلى محبوبِه ما يُقاسي مِنْ حُبِّه فقال: لو كنتَ صادقًا لما صبرتَ عنّي:
ولمَّا شكوتُ الحبَّ قالت: كَذَبْتَني
تُرى الصَّبُّ عن محبوبِه كيف يصبِرُ؟





وأما الصَّبرُ المحمودُ فنوعانِ: صَبرٌ للهِ، وصبرٌ باللهِ.
قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127].
وقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].

وقد تنازعَ الناسُ أيُّ الصابرين أكْملُ؟
فقالت طائفةٌ: الصبرُ له أكْملُ، فإِنَّ ما كان لله أكْملَ مما كان باللهِ؛ فإنّ ما كان له غايةٌ، وما كان به فهو وسيلةٌ، والغايات أشرَف مِن الوسائلِ، ولذلك وجبَ الوفاءُ بالنَّذرِ إذا كان تبرُّرًا وتقرُّبًا إلى اللهِ لأنه نذْرٌ له، ولم يجبِ الوفاءُ به إذا خرجَ مخرجَ اليمينِ لأنه حَلَفَ به.

فما كان له سُبْحَانَهُ فهو متعلِّقٌ بألوهيَّته، وما كان به فهو متعلِّقٌ بربوبيته، وما تعلَّقَ بألوهيتِه أشرفُ مما تعلَّقَ بربوبيتِه.

ولذلك توحيدُ الألوهية هو المنجي مِن الشركِ دون توحيدِ الربوبيةِ بمجردِهِ، فإن عُبَّادَ الأصنامِ كانوا مُقرِّين بأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، ولكِنْ لمَّا لم يأتوا بتوحيدِ الألُوهيةِ، وهي عبادتُه وَحْدَهُ لا شريكَ له، لم ينفعْهُمْ توحيدُ ربوبيتِه.

وقالت طائفةٌ: الصبرُ باللهِ أكملُ، بل لا يمكنُ الصبرُ إلا بالصبرِ بِه، وكما قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ [النحل: 127]، فأَمَرَه بالصبرِ، والمأمورُ به هو الذي يُفعل لأجلِه، ثم قال: ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127]، فهذه الجملةُ جملةٌ خبريَّةٌ غيرُ الجملةِ الطلبيةِ التي تقدَّمتْها، أخبر فيها أنه لا يُمكنُه الصَّبْرُ إلا به، وذلك يتضمَّن أمْرين: الاستعانةَ باللهِ والمعيَّةَ الخاصَّةَ التي تدلُّ عليها باءُ المصاحبةِ، كقوله: فبي يسمعُ، وبي يُبصرُ، وبي يبطِشُ، وبي يمشي[5].

وليس المرادُ بهذه الباءِ الاستعانةَ، فإن هذا أمْرٌ مشترَكٌ بين المطيعِ والعاصي فإِنَّ ما لا يكونُ بالله لا يكونُ، بل هي باءُ المصاحبةِ والمعيَّةِ التي صرَّحَ بمضمونِها في قولِه تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]، [الأنفال: 46]، وهي المعيَّةُ الحاصِلةُ لعبدِه الذي تَقَرَّبَ إليه بالنوافلِ حتى صارَ محبوبًا له، فبِهِ يسمعُ ويُبصرُ، وكذلك به يصبرُ، فلا يتحرَّكُ، ولا يسكُنُ، ولا يُدرِكُ إلا بالله واللهُ معه، مَنْ كان كذلك، أمكنَهُ الصبرُ له، وتحمُّلُ الأثقالِ لأجلِه، وكما في الأثر الإلهي: وما يتحمَّلُ المتحمِّلون مِن أجلي.

فدلَّ قولُه: ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127] على أَنَّه مَنْ يكنِ اللهُ معه لم يمكنه الصبرُ، وكيف يصبرُ على الحكمِ الأمْري امتثالًا وتنفيذًا وتبليغًا، وعلى الحكمِ القَدَري احتمالًا له واضطلاعًا به، مَنْ لم يكنِ اللهُ معه؟

فلا يطمعُ في درجةِ الصَّبرِ المحمودِ عواقِبُه مَن لم يكُنْ صبرُه باللهِ، وكما لا يطمعُ في درجةِ التقرُّبِ المحبوبِ مَنْ لم يكُنْ سمعُه وبصرُه وبطشُه ومشيُهُ باللهِ، وهذا المرادُ مِن قولِه: كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ليس المرادُ إني كنتُ نفسَ هذه الأعضاء والقوى كما يظنه أعداءُ الله أهلُ الوحدةِ، وإِنَّ ذاتَ العبدِ هي ذاتُ الربِّ، تعالى اللهُ عن قولِ إخوانِ النصارى عُلوًّا كبيرًا.

ولو كان كما يَظنون لم يكُنِ الفرْقُ بين هذا العبدِ وغيرِه، ولا بين حالتي تقرُّبِه إلى ربِّه بالنوافلِ وتمقُّتِه إليه بالمعاصي، وبل لم يكن هناك مُتَقَرِّبٌ ومتقرَّبٌ إليه، ولا عبدٌ ولا معبودٌ، ولا محبٌّ ولا محبوبٌ، فالحديثُ كلُّه كذِبٌ لدعواهم الباطلةِ مِن نحوِ ثلاثين وجهًا تُعرفُ بالتأمُّلِ الظاهرِ.

وقد فسرَ المرادَ مِن قولِه: «كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَه وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ»[6] بقوله: «بي يسمعُ، وبي يُبصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي»، فعبَّر عن هذه المصاحبةِ التي حَصَلتْ بالتقرُّبِ إليه بمحابِّهِ بألطفِ عبارةٍ وأحسنِها تدلُّ على المصاحبةِ ولزومِها، وحتى صارَ منزلةَ سمعِه وبصرِه ويدِه ورِجْلِه.

ومثلُ هذا سائغُ الاستعمالِ أَنْ ينزِلَ إلى منزلَة ما يُصاحِبُه ويقارِنُه حتى يقولَ المحبُّ للمحبوبِ: وأنتَ روحي وسمعي وبصري، وذلك معنيان:
أحدُهما: أَنَّه صارَ منه منزلةَ روحِه وقلْبِه وسمْعِه وبصرِه.

والثاني: أَنَّ محبتَهُ وذكرَه لما استولى على قلبِه وروحِه صار معه وجليسَه.

وكما في الحديث، يقول الله تعالى: «أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»[7].

وفي الحديث: «فَإِذَا أَحْبَبْتُ عَبْدِي كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا»[8]، ولا يُعَبَّر عن هذا المعنى بأتمَّ مِن هذهِ العبارةِ ولا أحسنَ ولا ألطفَ منها، وإيضاحُ هذه العبارةِ مما يزيدُها جفاءً وخفاءً.

والمقصودُ إنما هو ذكرُ الصبرِ باللهِ، وأَنَّ العبدَ بحسبِ نصيبِه مِن معيَّةِ اللهِ له يكونُ صبرُه، وإذا كان اللهُ معه أمكن أن يأتيَ الصبرُ بما يأتي مِن غيرِه.

قال أبو علي: «فاز الصابرون بِعِزِّ الدَّارَين، لأنهم نالوا مِنَ اللهِ معيَّتَهُ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]، [الأنفال: 46]».

وهاهنا سِرٌّ بديعٌ، وهو أَنَّ تعلُّقَ مَنْ تعلَّقَ بصفةٍ مِن صفاتِ الربِّ تعالى أدخلَتْهُ تلك الصفةُ عليه وأوصلتهُ إليه، والربُّ تعالى هو الصبورُ، بل لا أحدَ أصبرُ منه على أذًى سَمِعَهُ منه.

وقد قيل إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أوحَى إلى داودَ: تَخلَّقْ بأخلاقي فإِنَّ مِن أخلاقي أني أنا الصَّبورُ.

والربُّ تعالى يُحبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، ويحبُّ مقتضى صفاتِه وظهورَ آثارِها في العبدِ، فإنه جميلٌ يحبُّ الجمالَ، عفوٌّ يحبُّ أهلَ العفوِ، كريمُ يحبُّ أهلَ الكرَمِ، عليمٌ يحبُّ أهلَ العلمِ، وِتْرُ يحبُّ أهلَ الوِتْرِ، قويٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ مِن المؤمنِ الضعيفِ، صبورٌ يحبُّ الصابرين، شكورٌ يحبُّ الشاكرين، وإذا كان سُبْحَانَهُ يحبُّ المتَّصِفين بآثار صفاتِه، فهو معهم بحسبِ نصيبِهم مِن هذا الاتصافِ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ عَبَّرَ عنها بقولِه: كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيِّدًا.

وزاد بعضُهم قسمًا ثالثًا مِن أقسامِ الصَّبرِ، وهو الصبرُّ مع اللهِ، وجعلوه أعلى أنواع الصَّبرِ، وقالوا: هو الوفاءُ.

لو سُئِلَ هذا عن حقيقة الصَّبرِ مع اللهِ لما أمْكَنَهُ أَنْ يُفسِّر بغير الأنواعِ الثلاثة التي ذكرتُ: وهي الصَّبرُ على أَقضِيتِه، والصبرُ على أوامرِه، والصبرُ على نواهيه، فإنَّه رغمَ أنَّ الصبرَ مع اللهِ هو الثباتُ معه على أحكامِه، يدُورُ معها حيثُ دارت، فيكُونُ دائمًا مع اللهِ لا مع نفسِه، فهو مع اللهِ بالمحبَّةِ والموافقةِ - فهذا المعنى حَقٌّ، ولكِنَّ مدارَهُ على الصبرِ على الأنواعِ المتقدِّمةِ، وإن زَعَم أَنَّ الصبرَ مع اللهِ هو الجامعُ لأنواعِ الصبرِ - فهذا حقٌّ، ولكِنْ جعْلُه قسمًا رابعًا مِن أقسامِ الصَّبرِ غيرُ مُستقيمٍ.

واعلمْ أَنَّ حقيقةَ الصَّبرِ مع اللهِ، وثباتَ القلبِ بالاستقامةِ معه، وهو لا يروغُ عنه روغانَ الثعالبِ هنا وهناك، فحقيقةُ هذا هو الاستقامةُ إليه، وعكوفُ القلبِ عليه.

وزاد بعضُهم قسمًا آخرَ مِن أقسامِه، وسمَّاه بالصبرَ فيه، وهذا أيضًا غيرُ خارجٍ عن أقسام الصبرِ المذكورةِ، ولا يُعقلُ مِن الصبرِ فيه معنًى غيرُ الصبرِ له، وكما يُقال فعلتُ هذا في الله وله، كما قال خُبيب:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ




وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]، وقال: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ [الحج: 78]، وفي حديثِ جابرٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لمَّا أَحْيَا أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ، قَالَ: «يَا رَبِّ تُرْجِعُنِي إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى أُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً ثَانِيَةً»[9]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ولقد أوذيتُ في اللهِ وما يُؤذى أحدٌ»[10].

وهذا يُفهم منه معنيان:
أحدهما: أَنَّ ذلك في مرْضاتِه وطاعتِه وسبيلِه، وهذا فيما يفعلُهُ الإِنسانُ باختيارِه، وكما في الحديثِ: «تعلمتُ فيك العِلْمَ»[11].

والثاني: أنه بسببِه وبجهتِه حصلَ على ذلك، وهذا فيما يُصيبُه بغير اختيارِه وغالبُ ما يأتي قولُهم: ذلك في اللهِ في هذا المعنى.

فتأمل قولَه صلى الله عليه وسلم: «ولقد أوذيتُ في اللهِ»، وقول خُبيب: وذلك في ذاتِ الإلهِ، وقولَ عبدِ الله بن حرامٍ[12]: حتى أُقتلَ فيك، وكذلك قولَه تعالى: ﴿ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت: 69]؛ فإنه يترتب عليه الأذى فيه سُبْحَانَهُ.

وليست (في) هنا للظرفية، ولا لمجردِ السَّببية، وإِنْ كانتْ السَّببيةُ هي أصلَها، فانظر إلى قولِه: «في نفسِ المؤمنِ مائةٌ من الإبلِ»[13]، وقوله: «دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ»[14]، كيف تجد فيه معنًى زائدًا على السَّببيةِ، وليس (في) للوعاءِ في جميعِ معانيها فقولك: فعلتُه في مرضاتِك فيه معنًى زِيدَ على قولِك: فعلتُ لمرضاتِك وأنتَ إذا قلتَ: أوذيتُ في اللهِ لا يقُومُ مقامَ هذا اللفظِ كقولِك: أوذيتُ لله، ولا: بسببِ اللهِ، وإذا فُهِمَ المعنى طُوِيَ حُكمُ العبارةِ.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 220.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 218.77 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.78%)]