خطبة الحرم المكي
– من أولى الأولويات تماسك المجتمعات
الفرقان
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 20 من ذي القعدة 1444هـ، الموافق 9 يونيو 2023م بعنوان: (من أولى الأولويات تماسك المجتمعات)، لإمام الحرم المكي الشيخ: د. عبدالرحمن السديس؛ حيث أكد في خطبته أهمية تماسُك المجتمعاتِ واستقرارها، وتلاحُم أفرادِها وأطيافِها، أمامَ الأزمات والتحديات، والتصدُّعات والانقسامات، وأن هذا التماسك هو مطلبُ أولي النُّهَى والطموحات.
ثم بين الشيخ السديس أنَّه لا تخلو أُمَّةٌ من الأمم من عدو حاسد، أو متربِّص حاقد، فذلك سَنَنٌ لاحبٌ، أزليٌّ ثاقبٌ، من أجلى شواهده عداوة إبليس لأبينا آدم -عليه السلام-، وما عاناه الأنبياءُ مع أقوامهم؛ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}(الْأَنْعَامِ: 112)، وهكذا إلى قيام الساعة؛ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصَّفِّ: 8).
استهداف الدِّين والأوطان
إنَّ استهداف الدِّين والأوطان والمجتمَعات سُنَّةٌ من سُنَن الله الكونية، فلم تَسلَم القرونُ السالفةُ من نزغات الشياطين والمفسِدِينَ والمضلِّينَ، حيث استهدَفت العقائدَ؛ إذ مدَّت ضروبُ الإشراكِ فسطاطَها، ونشرَتْ ضدَّ التوحيد والسُّنَّة رواقها؛ أخرج الإمام مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا»، فسبحان الله ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! فإنَّا رأينا من الأحداث ما يبعث الأسى، فمن هولها أكبادنا تتفطر، ضلال وإرجاف وطيش وفتنة، وزيغ وفهم كالح الوجه أغبر.
وهذه الدعوات المغرِضة التي تستهدِف المجتمعَاتِ الإسلاميةَ، ليس وراءها إلا هدمُها وتفكُّكُها وإخلالُ أمنها واستقرارها، والمصطلحات والمفاهيم الشرعيَّة التي يستخدمها بعضُ هؤلاء لجرِّ المجتمَعاتِ إلى الويلاتِ باتَتْ واضحةً مكشوفةَ الأهدافِ، لكلِّ ذي عينينِ، ولا تزال أفعالُهم الباطلةُ الرَّديئةُ، وأقوالُهم المنمَّقةُ الوبيئةُ، تَفضَح مكنونَ ضمائرِهم، وتكشِف مضمونَ سرائرهم؛ لأنَّ بعضَهم اتخذوا الدِّينَ لِرَخيصِ مآربِهم مطيةً وذريعةً، ومَسْلَكًا لأهوائهم الطَّامعة الشَّنيعة، والتضليل، والخديعة.
وهنا تكمُن خطورةُ استهدافِ الأوطانِ والمجتمعاتِ على الدِّين بصَرْفِه عن الاعتدال والوسطيَّة، وجميلِ القِيَم الإسلاميَّة السامية، وعظيم الأخلاق الشرعيَّة الراقيَة، الداعيَة إلى التراحم والتسامح، ليس بين أبناء الدين الإسلامي فحسبُ، بل بينَ جميع أفراد الإنسانيَّة، فالاستهدافُ تحدٍّ واستنزافٌ، وحسدٌ واستخفافٌ، وزيغٌ وانحرافٌ، وكيدٌ وإجحافٌ، وبلبلةٌ وإرجافٌ، وبُعدَ عن الوئام والإيلاف.
ولا تَقِفُ خطورةُ استهدافِ الأوطانِ والمجتمعاتِ على الانحراف في فَهْم التعاليم الشرعيَّة فحسبُ؛ بل تتعدَّاها إلى الفكر والتطبيق، وهنا يكمُن الخطرُ المحدِقُ بالمجتمع خاصةً أَمْنه وشبابه، فحينما تتعمَّق الأفكار المتطرفة أو المنحلَّة في نفوس هذه الفئام، تتحوَّل إلى جرائم تُهدِّد الأوطانَ، وتُنذِر بخراب الديار، وتجعلُ منهم وقودًا للانحلال أو الإرهاب، وقوةً غاشمةً للفساد والإرعاب، تَعمَلُ على زعزعة الأمن، وخلخلة النسيج الاجتماعيّ المتميِّز؛ ممَّا يُهدِّد وحدةَ الأمة، ويبثُّ فيها الفُرقةَ والانقسامَ إلى أحزاب ضالَّة، وجماعات منحرفة، وتنظيمات مشبوهة، تعمل على إثارة الفتنة، وإذكاء النَّعَرات والعصبيات والتحريش، والبلبلة والتشويش، والإثارة والتهويش، وذلك استهداف للمجتمعات في أعزِّ مقوماتها؛ وهي وحدتُها وتضامنُها، أخرج الإمام مسلم من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».
استهداف الدينِ والأنفسِ والعقولِ
ويشملُ الاستهدافُ استهدافَ الدينِ والأنفسِ والعقولِ والأعراضِ والأموالِ، ومنه ضروبُ الافتراء على البرآء؛ بقذفهم والنَّيْل من أعراضهم، ونَشْر خصوصياتهم، وتضخيم هَناتهم، وطَمْس حسناتهم، بإصرار وترصد ومكر كبار؛ بغية الوقيعة والإضرار، ومنه صُوَرُ الابتزازِ والاستغلالِ، والخيانة والعبث، والتخريب والعنف، ومنه الاحتيالاتُ الماليةُ عبر المنصَّات والرسائل الوهميَّة، بدعوى الثراء السريع، والتستُّر التجاري والمساهَمات الوهميَّة، واستهداف أموال الناس والاحتيال عليهم، بشتَّى الوسائل الاعتياديَّة والرَّقْميَّة، وكذا الاختراقات الإلكترونيَّة، والدعاوى الكيدية، وجرائم غسل الأموال، والاتجار بالبشر، وتمويل الجرائم والإرهاب، وأخطرُ أنواع الاستهدافِ، الاستهدافُ الاستراتيجيُّ المؤدلَجُ، عبر أجندات مُمنهَجة ضدَّ الرموز والقدوات، في محاولة إسقاط مكشوفة، وهزّ للثقة بهم مفضوحة.
ارفَعْ وَعْيَكَ وخُذْ حذَرَكَ
أمام كل هذه الاستهدافات ارفَعْ وَعْيَكَ، وخُذْ حذَرَكَ مِنْ خطرِ المستهدِف، وإن كنتَ أنتَ المستهدَف، تحم نفسك ووطنك ومجتمعكَ، وأبشِرْ فأصحاب الحق محفوظون منصورون، والأعداء الشانئون مبتورون مدحورون؛ {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(فَاطِرٍ: 43)، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الْأَنْفَالِ: 30)، وعلى شباب الأمة أن يدركوا أبعادَ هذه الاستهدافات الخَطِرة، وأن يحصِّنوا أفكارَهم ضدَّ المؤثِّرات العقديَّة والفكريَّة والسلوكيَّة.
القائمون على وسائل الإعلام
وللقائمين على وسائل الإعلام ومواقع التواصُل: اللهَ اللهَ في الوعي بخطورة الاستهداف لدينكم، وأوطانكم، وهنا يؤكد دور الأسرة والبيت والمدرسة والجامع والجامعة، لا تكونوا أبواقًا للمرجِفِين المخذِّلين المستهدِفين، ولتحرصوا على وأد الفتن في مهدها، واجتثاثِها من أصولها، وتجفيفِ منابِعها، لاسيما في أوقات الأزمات، وعدمِ التهويلِ والإثارةِ، والمبالَغةِ في التعليقات والأطروحات وتجنُّب بثّ الشائعات، وإيجادِ صيغة علمية، وآلية عمليَّة وأدبيَّة للحوار الحضاري، ونَشْر القِيَم القويمة، والفضيلة المؤتَلِقة.
وأمام تلك الصيحات الناعبات، فإن الواجب الوقوف صفًّا واحدًا في وجه كل من يحاول شق الصف وإحداث الفُرْقة والانقسام؛ فإنَّنا نرى العالم من حولنا إلى أن وصل به الحال؛ حيث تغمره أمواج الفتن، ويعاني إخواننا في بقاع شتَّى صنوفًا من الصراعات والأزمات، والنيل من المكتسَبات والمخدرات، والتعدي على الحدود والمقدسات، فَلَمْ يَعُدْ خافيًا على ذوي البصائر أنَّنا مستهدَفون في ديننا، وقيمنا، وأوطاننا، ومجتمعاتنا، وأمننا واستقرارنا.
ولكن مع خطورة الاستهدافات يجب أن تعيش المجتمعات التطوُّر والتنمية، والوعي والثقة، والصبر والإصرار، والشموخ والثبات والتلاحم، والتفاؤل، والبشائر والآمال، فلا ينال من العمالقة إلا الأقزام، ولا يطال من الرفعاء إلا الوضعاء، وكم على الأرض من خضراء باسقة ولا يُرجَّم إلا يانع الثمر، قال -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(آلِ عِمْرَانَ: 173-174).
لَمْ يَعُدْ خافيًا على ذوي البصائر أنَّنا مستهدَفون في ديننا، وقيمنا، وأوطاننا، ومجتمعاتنا، وأمننا واستقرارنا، ولكن مع خطورة الاستهدافات يجب أن تعيش المجتمعات التطوُّر والتنمية، والوعي والثقة، والصبر والإصرار، والشموخ والثبات والتلاحم.