سلوة اليوم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سُنّة: النفث في الكف وقراءة المعوذات قبل النوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          آيات قرآنية تبين لنا واقعنا الأليم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أخطاء بعض طلاب العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          العلاقات العاطفية وأثرها على الشباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          صلاة الضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          سنن الذهاب إلى المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حياةٌ مضاعفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أصحاب الأخدود وأصحاب غزة .. دروس وعبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          أخي المُعافى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          النَّفَّاثَات في الْعُقَد.. وحقيقةُ السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-06-2023, 03:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,497
الدولة : Egypt
افتراضي سلوة اليوم

سلوة اليوم
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم

الحمدُ للهِ شارحِ الصدورِ، ومُقدِّرِ الآجالِ ومُيسِّرِ الأمورِ، منَّ على أوليائه بفيضِ السرورِ. وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا نظيرَ. وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه إلى يومِ النشورِ.

أما بعدُ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]

أيها المؤمنون!
إنّ من أمضِّ الهمومِ التي كثيراً ما يُذيقُ بها الشيطانُ العبادَ مرارةَ الغمِّ والحَزَنِ همّيْ البلاءِ والرزقِ والتخويفَ بما غُيِّبَ من أمرهِما في المستقبلِ؛ لِيحملَهم من خلالِها على ارتكابِ القبائحِ التي بلغتْ في الشناعةِ مبْلغَ الفحشاءِ، كما قال اللهُ -تعالى-: ﴿الشَّيْطَانُ ‌يَعِدُكُمُ ‌الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ[ البقرة: 268].

والنجاةُ من ذلك الفخِّ الشيطانيِّ إنما يَكْمنُ في الاعتصامِ بالهدي الربانيِّ الذي ضَمِنَ اللهُ لمتَّبِعِه الهدى والأمانَ من المخاوفِ والهمومِ، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ‌فَلَا ‌خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38]. ألا وإنَّ من مفرداتِ ذلك الهدى المعصومِ الذي يكونُ به السلوُّ والاطمئنانُ وتجاوزُ البلاءِ بثباتٍ وفألٍ أنْ يعيشَ المؤمنُ همَّ البلاءِ والرزقِ يومَه وليلتَه؛ فلا يتجاوزَ ذلك الهمُّ حدودَ الأربعِ وعشرين ساعةً؛ فذاك -لَعَمْرُ اللهِ- سرٌ من أسرارِ السعادةِ والسلوانِ عجيبٌ! أدركَه ذوو الألبابِ من أهلِ العلمِ بنفاذِ البصيرةِ التي اختصَّ بها مَن عَقَلَ عن اللهِ شرعَه؛ فقد كانوا يقطِّعونَ همومَهم بحدِّ التفكيرِ اليوميِّ الذي لا يدخلُ فيه همُّ غدٍ فضلاً عن همِّ السنين؛ إذ لكلِّ يومٍ شأنٌ، كما قال أحدُهم: " تَرَجَّ مِنَ الدُّنْيَا ‌يَوْمًا ‌بِيَوْمٍ "، وحين سُئلَ أحدُهم عن حَاله وَعِيَاله، فَقَالَ: هُوَ ذَا ‌نقطِّعُ ‌الدُّنْيَا يَوْمًا بِيَوْم؛ فَيومٌ لَا يرزقُنا اللهُ، وَيَوْمٌ يرزقُنا اللهُ. وقال آخرُ: " ‌العارفُ ‌يدافعُ عيشَه يوماٍ بيومٍ، ويأخذُ عيشَه يوماً بيومٍ ".

وذاك ما أشارَ إليه خالقُ الخلقِ وراحمُهم والعالمُ بمصالحِهم والحكيمُ في أمرِه وقدَرِه؛ إذ يُخبرُ عن عظيمِ تقديرِه البالغِ في الغيبِ مبْلغَه بقولِه: ﴿‌يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ ‌يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿‌كُلَّ ‌يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍقَالَ: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ ‌يَغْفِرَ ‌ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ ‌كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَضَعَ آخَرِينَ " رواه ابنُ ماجه وحسَّنَه البوصيريُّ والألبانيُّ. وَقَالَ ‌قَتَادَةُ: " لَا يستغني عنه أهلُ السماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي حَيًّا، وَيُمِيتُ مَيِّتًا، وَيُرَبِّي صَغِيرًا، وَيَفُكُّ أَسِيرًا، وَهُوَ مُنْتَهَى حَاجَاتِ الصَّالِحِينَ وَصَرِيخُهُمْ، وَمُنْتَهَى شَكْوَاهُمْ ". وحين أرشدَ اللهُ أهلَ الطلاقِ الرجعيِّ بالمُكْثِ في المنزلِ وعدمِ الخروجِ منه علَّلَ ذلك بقولِه:﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ ‌يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1]،" وهيَ لمسةٌ موحيةٌ مؤثِّرةٌ؛ فمَن ذا الذي يعلمُ غيبَ اللهِ وقدَرَه المخْبُوءَ وراءَ أمرِه بالعِدَّةِ، وأمرِه ببقاءِ المطلَّقاتِ في بيوتِهن. إنه يَلُوحُ هناك أملٌ، ويُوَصْوِصُ هناك رجاءٌ، وقد يكونُ الخيرُ كلُّه، وقد تتغيرُ الأحوالُ وتتبدلُ إلى هناءةٍ ورضى؛ فقدَرُ اللهِ دائمُ الحركةِ، دائمُ التغييرِ، ودائمُ الأحداثِ. والتسليمُ لأمرِ اللهِ أولى، والرعايةُ له أوفقُ، وتقواه ومراقبتُه فيها الخيرُ يلوحُ هناك! والنفسُ البشريةُ قد تستغرقُها اللحظةُ الحاضرةُ، وما فيها من أوضاعٍ وملابساتٍ، وقد تُغْلِقُ عليها منافذَ المستقبلِ، فتعيشُ في سجنِ اللحظةِ الحاضرةِ، وتشعرُ أنها سَرْمَدٌ، وأنها باقيةٌ، وأنَّ ما فيها من أوضاعٍ وأحوالٍ سيرافقُها ويطاردُها. وهذا سجنٌ نفسيٌّ مغْلقٌ مُفْسِدٌ للأعصابِ في كثيرٍ من الأحيانِ. وليستْ هذه هي الحقيقةَ؛ فقدَرُ اللهِ دائماٍ يَعملُ، ودائماً يُغَيِّرُ، ودائماً يُبَدِّلُ، ودائماً يُنشئُ ما لا يَجولُ في حُسبانِ البَشرِ من الأحوالِ والأوضاعِ؛ فرجٌ بعد ضيقٍ، وعُسرٌ بعد يُسرٍ، وبَسْطٌ بعد قَبْضٍ، واللهُ كلَّ يومٍ هو في شأنٍ، يُبديه للخلقِ بعد أن كان عنهم في حجابٍ. ويريدُ اللهُ أنْ تستقرَّ هذه الحقيقةُ في نفوسِ البشرِ؛ لِيَظلَّ تطلعُهم إلى ما يُحدِثُه اللهُ من الأمرِ متجدِّداً ودائماً، ولِتظلَّ أبوابُ الأملِ في تغييرِ الأوضاعِ مفتوحةً دائمةً، ولِتظلَّ نفوسُهم متحركةً بالأملِ، نديةً بالرجاءِ، لا تُغْلُقُ المنافذُ، ولا تعيشُ في سجنِ الحاضرِ، واللحظةُ التاليةُ قد تحملُ ما ليس في الحسبانِ؛ ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ ‌يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا[الطلاق: 1]".

وحَصْرُ الهمِّ في حدودِ اليومِ والليلةِ من أسبابِ هناءِ العيشِ؛ إذ جعلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ظرْفَ حيازةِ القُوتِ الذي لا يفوتُ بإدراكِه نعيمُ الدنيا إنِ اقترنَ بالأمنِ والعافيةِ، كما قال: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، ‌عِنْدَهُ ‌قُوتُ ‌يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا " رواه الترمذيُّ وحسَّنَه الألبانيُّ. وقال الإمامُ مالكٌ: بلَغني أنَّ عيسى بنَ مريمَ -عليهما السلامُ- كان يقولُ: لا تحمِلوا هَمَّ سَنةٍ على يومٍ، حَسْبَ كلَّ يومٍ بما فيه، قيلَ له: وما تفسيرُ ذلك عندَكَ؟ قال: يقولُ: لا تهتمُّوا برزقِ السَّنةِ وطلبِه، ولكنْ ‌يوماً ‌بيومٍ. وقال عليٌّ -رضيَ اللهُ عنه-: " لا تجعلْ همَّ يومِك لغدِك؛ فإنَّ غدَك إنْ كان من أَجَلِك يأتي اللهُ برزقِك". وقال حكيمٌ: " إذا طالبَتْك نفسُك برزقِ غدٍ؛ فقل: هاتِ كفيلاً بالغدِ ".

وبذلك الهمِّ اليوميِّ كان العقلاءُ يُصابِرون بلاءَهم، ويرجون فرَجَهم، فقد حَبَسَ مَلِكِ فارسٍ أحدَ وزرائه الحكماءِ ظلماً زمناً طويلاً ولم يُرَ عليه أثرُ الحبسِ حين أُطْلِقَ، فسُئِلَ عن ذلك، فقال: إنّي صنعتُ ‌علاجاً من ستّة أخلاطٍ، آخُذُ منه كلَّ يومٍ شيئاً؛ فهو الذي أبقاني على ما تَرونَ، فقالوا: صِفْهُ لنا، قال: الخِلْطُ الأوّلُ: الثّقةُ باللهِ -تعالى-، الثاني: علمي بأنَّ كلَّ مقدورٍ كائنٌ، الثالثُ: الصّبْرُ خيرُ ما استعملَه المُمْتَحَنُ، الرّابعُ: إنْ لم أصبرْ فأيُّ شيءٍ أعملُ؟! الخامسُ: قد يُمكِنُ أنْ أكونَ في شرٍّ ممّا أنا فيه، السّادسُ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ فَرَجٌ! وأَمَرَ أحدُ الولاةِ بإحضارِ رجلٍ من السجنِ، فلما حضرَ أمرَ بضربِ عُنقِه، فقال: يا أيها الأميرُ، أخِّرني إلى غدٍ، قال: وأيُّ فَرَجٍ لك في تأخيرِ يومٍ واحدٍ؟! ثمَّ أمرَ بردِّه إلى السجنِ، فسمِعَه وهو يُذْهَبُ به إلى السجنِ يقولُ:
عسى فرَجٌ يأتي به اللهُ إنَّه
له كلَّ يومٍ في خليقتِه أمْرُ


فقال: واللهِ ما أخذَه إلا من كتابِ اللهِ! ﴿‌كُلَّ ‌يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وأَمَرَ بإطلاقِه ". وبتناقصِ الأيامِ والليالي يَتقلَّصُ أَمَدُ البلاءِ، وتدنو لحظاتُ الفرَجِ، ويزدادُ سُلُوُّ المكْلومِ. كتبَ أحدُهم إلى ظالمِه قائلاً: " إنَّ ‌كلَّ ‌يومٍ ‌يَمضي من بُؤسي يَمضي من نعمتِك بمثلِه، والموعدُ المحشرُ، والحَكَمُ الدَّيَّانُ! ". وقد أدركَ تلك الحقيقةَ مَن ذاقَ من نعيمِ الدنيا أطيبَه وأنعمَه؛ تجربةً مَخَّضَتَها الأحداثُ، بل تمنَّاها حين عاينَ حقيقةَ الدنيا ساعةَ الاحتضارِ، قال الخليفةُ المأمونُ: " مَن أرادَ أنْ يَطيبَ عيشُه؛ ‌فلْيدفعِ ‌الأيامَ ‌بالأيامِ".
مَن كَانَ يرغَبُ فِي لذَاذَة عَيِشه
فَليَدفَعِ ‌الأيَّامَ ‌بالأَيَّامِ


ولما نزلَ الموتُ بأحدِ الخلفاءِ جَعَلَ يَلُومُ نَفْسَهُ، وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ ويقول: " وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَكْسِبُ يَوْمًا بِيَوْمٍ مَا ‌يَقُوتُنِي، وَأَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ". وبلزومِ الهمِّ اليوميِّ كان يُضرَبُ المَثَلُ في هناءِ عيشِ الطيورِ؛ إذ لا يتجاوزُ همُّ رزقِها حدَّ يومِها، كما صيّرَها القائلُ عزاءً له ومَثَلاً:
إنّي لَأحيا على عُسري وتيسيري
يوماً بيومٍ كما تحيا العصافيرُ


عبادَ اللهِ!
إنما كان حَصْرُ الفكرِ اليوميِّ بَلْسَماً في معالجةِ همِّ الرزقِ والبلاءِ، وهناءً تطيبُ به الحياةُ؛ لأنَّ اليومَ هو الظرفُ الذي تتعلقُ به القدرةُ، ويقعُ عليه التكليفُ، كما قال أبو حازمٍ: " الْأَيَّامُ ثَلَاثَةٌ: فَأَمَّا أَمْسِ فَقَدِ انْقَضَى عَنِ ‌الْمُلُوكِ نِعْمَتُهُ، وَذَهَبَتْ عَنِّي شِدَّتُهُ، وَإِنِّي وَإِيَّاهُمْ مِنْ غَدٍ لَعَلَى وَجَلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ؛ فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ؟! "، وقال ابنُ حزْمٍ: " إِذا حقَّقَتَ مُدَّة الدُّنْيَا لم تجدْها إِلَّا الْآنَ الَّذِي هُوَ فصْلُ ‌الزَّمانينِ فَقَط، وأمّا ما مضى وما لم يَأْتِ فمعدومان، كَمَا لم يكن؛ فَمَنْ أضلُّ مِمَّن يَبِيعُ بَاقِياً خَالِداً بِمدَّةٍ هِيَ أقلُّ مِن كَرِّ الطَّرْفِ؟! ".
مَا مَضَى فَاتَ وَالمُؤَمَّلُ غَيْب
وَلَكَ ‌السَّاعَةُ ‌الَّتِي أَنْتَ فِيْهَا


والعيشُ بهمِّ اليومِ تعاملٌ واقعيٌّ راشدٌ مع فريضةِ اليومِ الواجبةِ وضَعْفِ حِيلةِ المخلوقِ وسُنَّةِ الكَبَدِ التي صُبِغَتْ بها الدنيا؛ إذ حَسْبَه من الهمِّ همُّ يومِه. قال شُميطُ بنُ عجلانَ:" إنَّ المؤمنَ يقولُ لنفسِه: إنما هيَ أيامٌ ثلاثةٌ؛ فقد مضى أمسِ بما فيه، وغداً أملٌ لعلَّك لا تدركُه، إنّك إنْ كنتَ مِن أهلِ غدٍ فإنَّ غداً يَجيءُ برزقٍ غدٍ، إنَّ دونَ غدٍ يوماً وليلةً تُخترمُ فيه أنفسٌ كثيرةٌ، لعلَّك المخترَمُ فيها. كفى كلَّ يومٍ همُّه. ثم قد حَمْلتَ على قلبِك الضعيفِ همَّ السنينَ والأزمنةِ، وهمَّ الغلاءِ والرُّخْصِ، وهمَّ الشتاءِ قبل أنْ يجيءَ الشتاءُ، وهمَّ الصيفِ قبل أنْ يجيءَ الصيفُ، فماذا أبقيتَ من قلبِك الضعيفِ لآخرتِه؟! ". وقال عليٌّ -رضيَ اللهُ عنه-: " اعملْ لكلِّ يومٍ بما فيه تُرْشَدْ ". وقال صِلَةُ بْنُ الْأَشْيَمِ: " ‌طَلَبْتُ ‌الرِّزْقَ ‌مِنْ ‌مَظَانِّهِ فَأَعْيَانِي إِلَّا رِزْقَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ؛ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خَيْرٌ لِي. وَإِنَّ امْرَئً جُعِلَ رِزْقُهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ لَعَاجِزُ الرَّأْيِ ".

الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ، فاعلموا أنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ...

أيها المؤمنون!
والعيشُ بالهمِّ اليوميِّ توحيدٌ للهِ؛ إذ هو إفرادٌ للهِ بحقيقةِ التدبيرِ والرزقِ، وتحقيقٌ عمليٌّ لحُسنِ الظنِّ به، وتوقُّعِ الخيرِ منه، واللهُ عند ظنِّ عبدِه به. قال ابنُ القيمِ: " مَن تركَ الاختيارَ والتدبيرَ في طلبِ زيادةِ دُنيا أو جاهٍ أو في خوفِ نقصانٍ أو في التخلُّصِ من عدوٍّ؛ توكُلًا على اللهِ، وثقةً بتدبيرِه له وحُسْنِ اختيارِه له، فألقى كنفَهُ بين يديه، وسلَّم الأمرَ إليه، ورضيَ بما يقضيه له؛ ‌استراحَ ‌من ‌الهمومِ والغُمومِ والأحزانِ. ومَن أبى إلَّا تدبيرَهُ لنفسِه؛ وقعَ في النَّكَدِ والنَّصَبِ وسُوءِ الحالِ والتعبِ؛ فلا عيشَ يصفو، ولا قلبَ يفرحُ، ولا عملَ يزكو، ولا أملَ يقومُ، ولا راحةَ تدومُ.

واللهُ -سبحانه- سهَّلَ لخلْقِه السبيلَ إليه، وحجبَهم عنه بالتدبيرِ؛ فمَن رضيَ بتدبيرِ اللهِ له، وسكنَ إلى اختيارِه، وسلَّمَ لحُكمِه؛ أزالَ ذلك الحجابَ، فأفضى القلبُ إلى ربِّه، واطمأنَّ إليه، وسَكَنَ ". فتبيَّنَ أنَّ العيشَ في حدودِ اليومِ يُعْقِبُ رُشْدَ العملِ، وراحةَ القلبِ وسَلْوتَه، واتزاناً في التعاملِ مع البلاءِ. قال ابنُ الجوزيِّ: " فمَن تلمَّحَ ‌بحرَ ‌الدنيا، وعَلِمَ كيف تُتلقَّى الأمواجُ، وكيف يُصْبَرُ على مدافعةِ الأيامِ، لم يستهونْ نزولَ بلاءٍ، ولم يفرحْ بعاجلِ رخاءٍ ".
أحسنِ الظَّن بِرَبٍّ عوَّدَك
حَسَناً أمسِ وَسوَّى أَوَدَك
إِن رَبًّا كَانَ يَكْفِيك الَّذِي
كَانَ بالْأَمْسِ سيكفيكَ غدَك


ومَن تنكَّبَ جادَّةَ الهمِّ اليوميِّ، وترَكَ ما يلزمُه فيها؛ باتَ في حالِ السُّخْطِ والحَزَنِ متردِّدَاً، وباءَ بالشقاءِ النفسيِّ؛ فـمن أسبابِ" شقاءِ الإنسانِ أنه دائماً يَزهَدُ في سعادةِ يومِه، ويلهو عنها بما يتطلعُ إليه من سعادةِ غدِه، فإذا جاء غدُه اعتقدَ أنَّ أمسَه كان خيراً من يومِه؛ فهو لا يَنْفَكُّ شقياً في حاضرِه وماضيه ". هذا، وليس من معارضةِ لزومِ همِّ اليومِ التخطيطُ للمستقبلِ، والاحتياطُ له، كلا؛ فإنَّ ذاك من الحزْمِ الذي يُمدح به العاقلُ؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْرِزُ نفقةَ أهلِه مدةَ عامٍ، ولكنَّ الشأنَ أنْ يكونَ هذا همَّاً مُلازِماً يُناكِدُ سعادةَ اليومِ، ويَمنعُ من أداءِ فرْضِه، وحُسْنِ استغلالِه في التزودِ الأخرويِّ الباقي. قال ابنُ القيمِ: " العبدُ مِن حينِ استقرَّت قدَمُه في هذه الدارِ فهو مسافرٌ إلى ربِّه، ومدَّةُ سفرِه هي عمرُه الذي كُتِبَ له. فالعمرُ هو مدَّةُ سفرِ الإنسانِ في هذه الدارِ إلى ربِّه -تعالى-.

ثُمَّ قد جُعلتِ الأيامُ والليالي مراحلَ لسفرِه، فكلُّ يومٍ وليلةٍ مرحلةٌ من المراحلِ، فلا يزالُ يَطْويها مرحلةً بعد مرحلةٍ حتَّى ينتهيَ السفرُ. فالكَيِّسُ ‌الفَطِنُ هو الذي يجعلُ كلَّ مرحلةٍ نَصْبَ عينيه، فيهتمُّ بقطْعِها سالمًا غانمًا، فإذا قطَعَها جعل الأخرى نَصْبَ عينيه. ولا يطولُ عليه الأمدُ، فيقسو قلبُه، ويمتدُّ أملُه، ويَحْضُرُه التسويفُ والوعدُ والتأخيرُ والمَطْلُ؛ بل يَعُدُّ عُمُرَه تلك المرحلةَ الواحدةَ، فيجتهدُ في قطْعِها بخيرِ ما بحضْرتِه.

فإنَّه إذا تيقَّنَ قِصَرَها وسرعةَ انقضائِها هانَ عليه العملُ، وطوَّعتْ له نفسُه الانقيادَ إلى التزوُّدِ؛ فإذا استقبلَ المرحلةَ الأخرى من عمرِه استقبلَها كذلك. فلا يزالُ هذا دَأَبَه حتَّى يطويَ مراحلَ عُمُرِه كلَّها، فيَحْمَدَ سعيَه، ويبتهجَ بما أعدَّه ليومِ فاقتِه وحاجتِه. فإذا طلعَ صُبْحُ الآخرةِ، وانقشعَ ظلامُ الدنيا، فحينئذٍ يَحْمَدُ سُرَاه، ويَنجلي عنه كَراه. فما أحسنَ ما يَستقبِلُ يومَه، وقد لاحَ صباحُه، واستبانَ فلاحُه! "
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 59.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 57.36 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]