خطبة: {وإنك لعلى خلق عظيم} - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 77 - عددالزوار : 45798 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 196 - عددالزوار : 64220 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 374 - عددالزوار : 155217 )           »          6 مميزات جديدة فى تطبيق الهاتف الخاص بنظام iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتف iPhone 12 و Google Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          برنامج الدردشة Gemini متاح الآن على Gmail لمستخدمى أندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          كيفية حذف صفحة Word فى 3 خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          خطوات.. كيفية إعادة ترتيب الأزرار وتغيير حجمها في مركز التحكم بـiOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          يوتيوب يقدم الآن رموز qr لمشاركة القنوات.. كيف تحصل عليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          تعملها إزاى؟.. كيفية إضافة صفحات متعددة إلى مركز التحكم بأيفون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-08-2022, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,558
الدولة : Egypt
افتراضي خطبة: {وإنك لعلى خلق عظيم}

خطبة: {وإنك لعلى خلق عظيم}
إبراهيم الدميجي

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] (1)


الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، وإنا إليه راجعون، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على خير رُوحٍ وأزكى نفْسٍ، خاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين، يكفيه أنه أحبُّ الناس إلى الله، وكفى بها فخرًا وعِزًّا وشرفًا.

ورضي الله عن أبي الوليد إذ قال:
وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْني
وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ
كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ


لَنَبِيُّنا- معاشر الموحِّدين- دُرَّةُ التاج الإنساني، وفَصُّ الخاتم البشري، صلى الله وسلم وبارك عليه وجزاه عنا خير ما جزى نبيًّا عن أُمَّتِه.

فلا حُبّ بعد الله كحُبِّ هذا الإنسان الكامل التام الجميل الجليل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

والذي نفسي بيده، لو سُطرت جلود المؤمنين صحائف، ورقمت بدمائهم تحبيرًا، ما وفوا معشار ما في قلوبهم من محبته، فقد بعثه الله بالنور الذي ملأ الخافقين ضياءً وسناءً وهدًى ورشادًا، وهو السبب في نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، وعتق رقابهم من نار الجبار وغضبه، أما بعد معشر الموحِّدين:
فاتقوا الله حق تقاته، واستمسكوا بالعروة الوثقى من الدين، وأخلصوا ولا تخلِّطوا، واتَّبِعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم.

عباد الله، يكفي نبيّنا صلى الله عليه وسلم مدح الله تعالى له وتزكيته بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فالأخلاق الجميلة بحذافيرها قد استوعبها وتـخلَّق بها بشكل عفوي وبدون تكلُّف، وحيثما تأملت في خلق نبيل وجدْتَ لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم فيه أعلى المنازل؛ لذلك أوصى الله تعالى عباده بالتأسي به: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما بُعِثْتُ لأُتمِّم صالح الأخلاق))، والكمال المحمدي ضربان:
الأول: خاص به ولن يكون لغيره من بعده؛ كاصطفائه بالنبوة والرسالة، وتلقِّي الوحي الإلهي.

الثاني: أُمِرَ الناسُ بالاقتداء به فيه؛ لأنه الأنموذج الكامل للاقتداء والتأسِّي.

لقد كان يحث على حسن الخلق، ويعد عليه أعظم الأجور ((إنَّ مِنْ أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكم أخْلاقًا)) وسُئل عن البرِّ فقال: ((حُسْن الخُلُق)) وقال: ((وخالِق الناسَ بخُلُقٍ حَسَن)) صلى الله عليه وسلم وبارك.

هذا ومن نماذج حسن خلقه وكريم سجاياه وحميد خصاله الكرم، فقد كان فيه مضرب الأمثال فكان لا يرُدُّ سائلًا، وقد سأله رَجُلٌ حُلَّةً كان يلبَسُها فأعطاه إياها مع حاجته إليها.

وقال عنه جابر رضي الله عنه: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وقد أعطى رجلًا غنمًا بين جبلين، فأتى الرجل قومه وقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يُعطي عطاءَ مَنْ لا يخاف الفاقة".

وحُملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، فقام فقَسَمَها كُلَّها وما أخذ منها لنفسه شيئًا.

وأعطى العباس من الذهب ما لم يُطِقْ حَمْلَه، وأعطى مُعَوِّذ بن عَفْراء ملء كفِّه ذهبًا وحُلِيًّا لما جاءه بهدية من رُطَبٍ وقِثَّاء، وكان إذا سُئل ولم يكن عنده شيءٌ يقول: ((مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ قَضَيْنَاهُ))؛ أي: اشْتَرِ ما تحتاج إليه على حسابي.

أما الصدق والأمانة فكانا ملتصقينِ باسمه وبحاله حتى قبل مبعثه؛ فقد كان يُلقَّب في مكة قبل أن يُوحَى إليه بالصادِق الأمين.

أما عن حلمه فهو السيِّد فيه بحق، فإنه لما شجَّ المشركون وَجْنَتَيْه وكسروا رُباعيَّته ودخلت حلقتا المغْفَر في رأسه يوم أُحُد قال: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لقومي فإنهم لا يعلمون)).

ولما جذبه الأعرابي بردائه الخشن جذبةً شديدةً حتى أثَّرَت على صفحة عنقه الشريف والأعرابي الجلف يقول بصَلَفٍ: احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك، فحلم عليه السيد الكريم صلى الله عليه وسلم ولم يزد على قوله: ((المالُ مالُ الله وأنا عبدُه، ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي)) فقال الأعرابي: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لم؟))، فقال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة، فضحك صلى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يُحمَل له على بعيرٍ شعيرٌ، وعلى آخر تَمْرٌ، ولم ينتصر لنفسه قط، ولا ضرب خادمًا ولا امرأةً ولا طفلًا قط، ولما جاءه زيد بن سَعْنَة- أحد أحبار يهود المدينة - وجذبه بثوبه وأخذ بمجامع ثيابه، وقال مغلظًا القول له- اختبارًا-: "إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ"، فانتهره عمر وشدَّد عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسَّم وقال: ((أنا وهو كُنَّا إلى غيرِ هذا أحوج منك يا عمر، تأمُرُني بحُسْن القضاء، وتأمُرُه بحُسْن التقاضي))، ثم قال: ((لقد بقي من أجله ثلاث))، ثم أمر عمر أن يقضيه، وأن يزيده عشرين صاعًا لما روَّعه، فأسلم الحبر لتحقُّق النبوءة التي عنده في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه يسبق حِلْمُه جَهْلَه، وأن شدة الجهل عليه لا تزيده إلا حِلْمًا.

أما عفوه فيكفيه أنه لم ينتقم لنفسه قَطُّ بل يعفو ويصفح مع كمال قدرته وسلطته، ولما أخذ غَوْرَثُ بن الحارث سيفه وسلَّه عليه، وقال: من يمنعك مني؟ قال: ((الله))، فسقط السيف من يد غَوْرَث، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((مَنْ يمنعُكَ؟))، فقال غَوْرَث: كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه.

ولما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح الأعظم وقف على باب الكعبة وتحته رجالات قريش وصناديد المشركين الذين أهانوه وأحزنوه وقتلوا أصحابه، وأخرجوه وهمُّوا بقتله مِرارًا، وهم ينتظرون حكمه النافذ بعد انتصاره عليهم واستسلامهم له، وقال لهم: ((يا معشر قريش، ما تظنُّون أنِّي فاعِلٌ بكم؟))، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء)).

وحينما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي عفا عنه ولم يعاقبه مع قدرته على قتله وصلبه واستحقاقه له.

وحينما تآمر عليه المنافقون في طريق عودته من تَبُوك إلى المدينة وأرادوا قتله بترديته من شاهِقٍ فأنجاه الله منهم عفا عنهم ولم يعاقبهم.

أما عن شجاعته فقد كانت في قلبه وصدره ولسانه وجسده، وقد شهد له بالشجاعة مشاهير الشجعان، قال علي رضي الله عنه- وكان مضرب المثل في الشجاعة -: "كنا إذا حمي البأس واحمرَّت الحَدَق نتَّقي برسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: نتقي الضرب والطعان به عند عظمة كروب الضرب والطعن والجلاد، وحينما انهزم أكثر أصحابه في أُحُدٍ وقف كالجبل الأشم حتى فاءوا إليه، ولاذوا به، والتفوا حوله، كذلك في حُنِين حين هرب الأبطال وتراجع البواسل، وقف شامخًا مُجسِّدًا كل معاني الجسارة وكمالات الشجاعة وهو يقاتل ويصاول ويقول:
أنا النبِيُّ لا كَذِب
أنا ابْنُ عَبْدِ المطَّلِب


وما زال في أتون المعركة يُنادي أصحابه مُثبِّتًا لهم، نافضًا عن قلوبهم دهشة الفزع، وهو يقول: ((إليَّ عبادَ الله، إليَّ عبادَ الله)) حتى عاد إليه أصحابُه، وعاودوا الكَرَّة على عدوِّهم حتى هزم اللهُ عدوَّهم، هذا مع كون أصحابه مضرب المثل بين الأمم بوفائهم له، وتضحيتهم بنفوسهم لدينه، واسترخاص أرواحهم بين يديه، ولكن اقتضت حكمة الله تعالى أن يظهر الله شجاعة نبيه صلوات الله وسلامه عليه في مواقف ينفرد فيها بالكمال دون غيره، حتى لا يسبقه أحد في الإقدام والاستبسال والشجاعة والجسارة.

وحين جاءه أُبيّ بن خلف راكضًا على فرسه وقد تدرَّع بدِرْع على جميع جسده، وهو يصيح: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فأراد بعض المسلمين أن يعترضه فقال صلى الله عليه وسلم: ((خلُّوا طريقه))، وتناول الحربة وانتفض انتفاضة فتطاير عنه أصحابه تطاير الوبر من ظهر البعير إذا انتفض، واستقبل عدوَّ الله بطعنة نجلاء في عنقه تَدَأْدَأ بها عن فرسه مرارًا وهو يصيح: قتلني محمدٌ، حتى هلك.

وفزع أهل المدينة فانطلق ناس قِبَلَ الصوت بعد أن اجتمعوا وتأهَّبوا، فتلقَّاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم وحده إلى الصوت وهو يقول مُطَمْئنًا لهم: ((لن تُراعُوا)).

وقال عنه عِمْران بن حصين رضي الله عنهما: "ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبةً إلا كان أول من يضرب".

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((بُعِثْتُ بالسيفِ بين يدي الساعة حتى يُعْبَد اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزْقي تحتَ ظِلِّ رُمْحي، وجُعِلَتِ الذِّلَّةُ والصَّغارُ على مَنْ خالَفَ أمْرِي، ومَنْ تَشَبَّه بقُومٍ فهو منهم)).

وكان يقول: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ))، وكان يقول: ((أنا نبيُّ الرَّحْمةِ، أنا نبيُّ الملحمةِ))، وقال ابن عباس رضي الله عنهما عنه: "اسمه في التوراة أحمد، الضحوك القتال، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجترئ بالكسرة، سيفه على عاتقه".

قال ابن القيم: "وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه الضحوك القتال، فالمراد منه أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه- إذا كان حدًّا لله وحقًّا له- أن يأخذ بذلك، ولا يمنعه عن ذلك تبسُّمه في موضعه، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال".

أما عن صبره وتجلُّده فيكفيه أنه كان وحده من البشر في كِفّة وأهل الأرض قاطبة في كِفّة أخرى لـمَّا بعثه الله تعالى فتجلَّد وصبر وصابر ورابط حتى نصر الله دعوته، وصبر على أذية قريش وهو بلا نصير من البشر في مكة، وقد ضربوه وأدموه ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا الأذى في بُرْمَتِهِ، وطرحوا السَّلا على ظهره، وشتموه وكادوه، وقتلوا أصحابه، وحاصروه ثلاث سنين مع بني هاشم في شِعْبهم، وحكموا عليه بالقتل وتمالؤوا على ذلك، وبعثوا رجالهم لاغتياله، وماتَتْ زوجتُه وأنْسُه خديجة، ثم مات العم الحنون المدافع عنه أبو طالب، فلم تفتّ هذه الرزايا في عضده، ولم تُوهِن عزيمته، ولم تقصر من همَّتِه، بل قابل ذلك بصبرٍ لم يُعرَف له في تاريخ الأبطال نظيرٌ أو مثيلٌ، وصَبَرَ وصابَرَ- بأبي هو وأُمِّي ونفسي وولدي- في كافة غزواته في بَدْر وأُحُد والخندق والفتح وحُنين والطائف وتَبُوك وغيرها، فلم يجبُن ولم ينهزم، ولم تضعُف عزيمته، ولم يكلَّ ولم يملَّ وهو ينتقل من غزوة إلى أخرى طيلة عشر سنوات، وصبر على تآمُر اليهود عليه بالمدينة وتحزيبهم الأحزاب لحربه ونقضهم لعهده، وصبر على الجوع الشديد حتى إنه مات ولم يشبع من خبز شعير مرتين في يوم، وكان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع بلا شكوى ولا تضجُّر بل بصبرٍ وسماحة وسموٍّ.

أما عدله فقد شهد له الأعداء والأولياء، ويكفيه قوله لما أمر بقطع يد المخزومية التي سرقت: ((واللهِ لو سرقَتْ فاطمةُ بنت محمدٍ لقطَعْتُ يدَها))، وكان تحته تسع نسوة، فكان يعدل بينهن، ويتحرَّى العدل التام، وكان لا يأخذ أحدًا بتهمة أحد، ولا يصدق أحدًا على أحد حتى يأتي بالبيِّنة، ويكفيه في عدله سموُّ شريعته، واشتمالها على تفاصيل العدل وحذافيره في المعاملات والبيوع والجنايات والعقود وغيرها، حتى صارت مضرب المثل عند من يدرُسُونها ويُطبِّقونها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
أمَّا عن زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، فقد كان أزهد الناس فيها بلا منازعٍ، وقد عرض عليه ربُّه أن يجعله ملكًا نبيًّا أو عبدًا رسولًا، فاختار العبودية والرسالة، ولو شاء أن يكون أغنى الناس لكان، ويقول: ((لو كان لي مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا لما سرَّني أن يبيتَ عندي ثلاثًا إلا قلتُ فيه هكذا وهكذا، إلا شيئًا أرْصُدُه لِدَيْنٍ)).

ولما رآه عمر ينام على فراش من أَدَمٍ حشوه ليف، وقد أثَّر السرير على جنبه من خشونته، فدمعت عيناه، وقال: يا رسول الله، كسرى وقيصر ينامان على كذا وكذا، وأنت رسول الله تنام على هذا! فقال: ((ما لي وللدنيا يا عمر، وإنما أنا فيها كراكب استظلَّ بظِلِّ شجرة ثم راحَ وتركَها))، هذا وربُّه قد عرض عليه أن يحول الأخشبَيْنِ ذهبًا وفضة فاختار الزهد فيهما.

وقالت عنه زوجُه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي"، وقد قُبِض صلوات الله وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير لأهله، ولما نزل عليه ضيف لم يجد في بيوت أزواجه إلا الماء.

أما عن حسن عشرته للناس صلوات الله وسلامه عليه، فقد وصفه علي رضي الله عنه بقوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسعَ الناسِ صدرًا، وأصدقَ الناسِ لهجةً، وألينَهم عريكةً، وأكرمَهم عشرةً"، وقال عنه أبو هالة رضي الله عنه: "كان دائمَ البِشْرِ، سَهْلَ الخُلُقِ، لَيِّنَ الجانبِ، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا صَخَّابٍ، ولا فَحَّاشٍ، ولا عَيَّابٍ، ولا مَدَّاحٍ، يتغافَلُ عمَّا لا يَشْتَهي، ولا يُؤَيِّسُ منه، وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ممن أهداه ولو كانت كراع شاة، ويُكافئ عليها".

وقال عنه أنس رضي الله عنه: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي أفّ قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته".

وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: ((لبيك))، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، ولم يُرَ مقدمًا ركبته بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، ويؤثر بالوسادة من دخل عليه، ويُكنِّي أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، لا يقطع حديث أحد، وكان إذا جلس إليه أحد وهو يصلي خفَّف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته"، وحسبنا في بيان أدبه وحسن عشرته قول ربه فيه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159].

أما حياؤه صلى الله عليه وسلم فقد وصفه أصحابه بقولهم: "كان أشدَّ حياءً من البِكْر في خِدْرِها، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه"، وكان إذا بلغه شيء عن أحد لم يُسمِّه بل يقول: ((ما بال أقوام يصنعون كذا، أو يقولون كذا))، وكان يُكنِّي مما يضطره الكلام إليه مما يُكره ولا يُصرِّح به، وقد ذكر الله تعالى حياءه في محكم التنزيل فقال: ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53].

أما عن خوفه من ربِّه تعالى وخشيته وحسن عبادته له، فقد كان أخشى الناس لله، وأعلم الناس بما يتقي، وقد كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل؛ من البكاء من خشية الله وتعظيمه وإجلاله، وكان يستغفر في اليوم أكثر من مئة مرة، ويُعد له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، وكان يطيل الصلاة حتى تورَّمت قدماه مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، ولما سُئل عن ذلك قال: ((أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))، وكان عمله ديمة، وإذا عمل عملًا أثبته، وقد جعلت قُرَّة عينه في الصلاة، وكان يذكر الله على كل أحواله، ولما قرأ ابن مسعود عنده آية سورة النساء: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: ((حسبك))، قال ابن مسعود: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان.

أما عن تواضعه فعلى قدر عظمة سيادته وشرفه، كانت عظمة تواضعه للخَلْق، فمع أنه كان سيد الخلق وأشرفهم وأكرمهم على الله إلا أنه كان أشدهم تواضعًا، فقد كان يركب الحمار والبغلة، ويُردِف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبيد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم بلا تمييز له بمجلس أو زي أو هيئة، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس حتى يحار القادم الغريب أيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان يُدعى إلى خبز الشعير والإهالةِ السَّنِخة فيجيب، وتأخذ بيده المرأة والعجوز والأَمَة وتُوقِفه طويلًا وهو واقف يسمع كلامها ويجيب سؤالها، وكان يقول: ((لا تُطْرُوني كما أطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عَبْدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه)).

وفي حجة الوداع أهدى مئة بَدَنة وهو على بعير فوقه رَحْل عليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقد كانت الدنيا في يده لا في قلبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولما فتح مكة ظافرًا منصورًا راكبًا ناقته كان مُطأطئ الرأس خاضعًا مستكينًا متواضعًا متطامنًا لعظمة ربه تعالى حتى إن لحيته لتكاد تمس قائم رحله، وهذا موقف لم ينقل لبشري سواه - فيما نعلم- وكان يقول: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]))، قال: ((ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي))، وكل هذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام.

وكان في بيته في مهنة أهله يَفْلِي ثوبَه، ويحلُب شاتَه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِف نَعْلَه، ويخدم نفسه، ويقمُّ البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناقته، ويأكل مع الخادم، ويعجن معه، ويحمل بضاعته من السوق، ولما دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة قال له: ((هوِّن عليكَ، فإنِّي لسْتُ مَلِكًا وإنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريشٍ تأكُلُ القَدِيدَ))، صلوات ربي وسلامه عليه.

هذا ومن تمام خلقه وعظيم هيبته أنه كان يمازح أصحابه ويُداعِبهم ويؤانسهم، ولا يقول إلا حقًّا، كما قال لمن طلب منه أن يحمله على بعير: ((إنا حاملوك على ولد الناقة))، فقال الرجل: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟! ظنَّ أنه يقصد صغيرها، فقال: ((وهل تَلِدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ)).

ويومًا ما رأى أحد أصحابه يبيع متاعًا له في السوق فاحتضنه من خلفه وهو يقول: ((من يشتري هذا العبد؟)) فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدُني كاسِدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكنك عندَ اللهِ لَسْتَ بكاسِدٍ))، وكان يقول لهذا الرجل واسمه زاهر: ((إنَّ زاهِرًا باديتُنا ونحن حاضره)).

وقال يومًا ما لامرأة طلبت منه أن يدعو الله أن يدخلها الجنة، فقال: ((يا أم فلان، إن الجنة لا يدخُلُها عجوزٌ))، فولَّت العجوز تبكي فقال: ((أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35 - 37]))؛ أي: إن الله يردُّها شابةً في الجنة بإنشائها إنشاءً آخر.

وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقولُ إلا حقًّا))؛ أي: لا يكذب في مزاحه ولا يؤذي؛ بل يؤانس ويتبسَّط ويتألَّف.

أما فصاحته فلم تلد النساء أفْتَقَ لغةً منه، فقد كان أفصحَ الناس لسانًا، وأبلغهم قولًا، وأوضحهم بيانًا، قد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، تنفجر ينابيع البلاغة والإيجاز من فيه، يقول الكلمة فتصبح حكمة منقولة، ومن أقواله التي صارت حكمًا يتناقلها الناس: ((الناسُ معادِن))، ((المستشار مؤتمن))، ((الناسُ كأسْنانِ المُشْطِ))، ((رحِمَ اللهُ عبدًا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم)) ((لا يُلْدَغ المؤمنُ من جُحْرٍ واحدٍ مرتَيْنِ)) ((الآنَ حمي الوطيسُ))، وغيرها كثير.

ولبيان مزيدٍ من خصاله الكاملة وسجاياه التامّة مقامٌ في قابل الأيام إن شاء الله تعالى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-08-2022, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,558
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطبة: {وإنك لعلى خلق عظيم}

خطبة: {وإنك لعلى خلق عظيم} (2)
إبراهيم الدميجي

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] (2)





اللهُمَّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لك الحمد كلّه، أوله وآخره، علانيتُه وسِرُّه، حق أنت أن تحمد، وأنت للحمد أهل، حق أنت أن تُعبد، لا إله إلا أنت، وأنت على كل شيء قدير، هَدَيْتنا للإسلام، ووفَّقْتنا للسنة، وأنزلت إلينا خيرَ كتُبِك، وأرسلت إلينا خيرَ رُسُلِكَ، وجعلتنا من خير أمة أُخْرِجت للناس، فلكَ الحمدُ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه وخليلُه وكليمُه ومصطفاه وخيرته من خلقه، صاحب الجبين الأنور، والوجه الأزهر، خيرُ من وطئ الثرى، وركب الذُّرى، وتسنَّم المراتب العُلى، خيرُ المرسلين، وسيدُ ولد آدم أجمعين، وقائدُ الغُرِّ المحجَّلين، كلُّ بني الإنسان تحت لواء حمده يوم القيامة، آدم ومن دونه، صاحبُ الحوضِ المورود، والمقامِ المحمود، والشفاعةِ العظمى التي يغبطه عليها الأنبياء، بلَّغ وبشَّر وأنذر، ووعد وأوعد من ربه وحذَّر، ترك أمته على الصراط المستقيم، الذي لا يضل عنه إلا المخذول، ولا يتنكب محجَّته سوى المحروم، ولا يُوفَّق لهدايته إلا المرحوم، جعلني الله ووالدينا والمسلمين من حزبه المفلحين، وأتباعه المسددين، وآمن فزعنا يوم الدين، وآتانا صُحُفنا غدًا باليمين، آمين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم، وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله ابتعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بدين كامل، وشريعة تامة، فكان أعلم الخلق، وأفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق، صلى الله عليه وسلم، ثم لم يقبضه إليه حتى رضي عن بلاغه الوافي، وبيانه الشافي، فكانت الأمة بعده على الصراط المستقيم، والمهيع القويم، لا تضل هداتها عن سنته، ولا تزيغ بصائرهم عن شرعته، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، أما رحمته صلى الله عليه وسلم فقد أودعها الله قلبه حتى فاضت على الناس والحيوان، فقد وسعهم قلبه الرحيم، ويكفيه وصف الله تعالى له: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فهي رحمة عامة بجميع الخلق، ثم وهبه الله رحمة أخرى خاصة بالمؤمنين ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فمن ذلك أن ملك الجبال لما استأذنه في إطباق جبلي مكة على أهلها الذين كذَّبوه وشتموه وآذوه فكانت رحمته بهم هي جزاؤه لهم، فقال للملك: ((لا، بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصْلابِهم مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وحْدَه ولا يُشْرِك به شيئًا)).

وقال لعائشة رضي الله عنها لما أتعبت جملها لتروِّضه: ((يا عائشةُ، عليكِ بالرِّفْق))، ورقَّ قلبه لطائر الحُمَّرة حين جاءت ترفرف على رأسه وعلى رؤوس أصحابه فقال بكل رحمة: ((أيُّكُم فَجَعَ هذه؟)) فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها، فقال: ((رُدَّه رحمة لها))، وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر الناقة التي نجت عليها من أسرها: ((بئس ما جزيتيها بعد أن نجَّاك الله بها)) ونهاها عن نحرها.

وقد علمت البهائم واستشعرت رحمته بها، فشكت إليه شدة أهلها عليها كما في البعير الذي شكى إليه فقال: ((إنه يشتكي إليَّ كثرة العمل، وقِلَّة العَلَف فأحْسِنُوا إليه))، ولما اشتكى له بعير آخر اشتراه وسيَّبه في الشجر حتى نبت له سنام، وأوصى بالرفق بالحيوان فقال: ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحةً واتركوها صالحةً)).

ولما هاج جمل لأحد الأنصار ودخل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل إليه الجمل وحنَّ وذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وذِفْريه، فسكن، ثم نادى صاحب الجمل وقال: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكَك اللهُ إيَّاها؟ فإنما شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدْئِبُه))، ولما تعجب الناس من خضوع البهائم له وشكواها إليه قال: ((إنه ليس شيءٌ بين السماء والأرض إلا يعلم أنِّي رسولُ الله، إلا عاصي الجِنِّ والإنْسِ)).

وكان يقول: ((دخلت امرأة النار في هِرَّةٍ حبستها حتى ماتَتْ، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خَشاشِ الأرْضِ)) وقال: ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))، وأخبر أن بغيًّا غفر الله لها بسبب رحمتها بكلب سقته كان يأكل الثرى من العطش، وحتى في ذبح الحيوان أوصى بالرفق فقال: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))، ونهر الذي يري الشاة السكين قبل ذبحها، وقال: ((أتريد أن تميتها موتات))، ونهى أن تذبح البهيمة وأختها تنظر إليها.

وقال له رجل: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ))، ونهى عن التحريش بين البهائم؛ بل حتى النبات كان ينهى عن إفساده وقطعه وتحريقه، ويؤكد على جيوشه بالامتناع عن ذلك.

كلُّ هذا قبل وجود جمعيات الرفق بالحيوان وحقوق الإنسان والمرأة والطفل واليتيم والأقليات ونحوها، فصلى الله وسلم وبارك على من امتلأ قلبُه بالرحمة والرأفة والمحبة، وكان ينهى عن قتل الشيوخ وكبار السن والنساء والأطفال والمنعزلين في الصوامع للعبادة، وإنما يقتل من قاتل أو حال بين دين الله وإبلاغه من خلفه من الناس، ولما رأى امرأة من أعدائه مقتولة بعد إحدى المعارك غضب وأنكر ذلك وقال: ((ألم أنهكم عن قتل النساء؟!)) ولما اغتال وحْشِيّ بن حرب عَمَّه حمزة بن عبد المطلب وتسبب في التمثيل به وقطع جثته وبَتْر بعض أعضائه، فما كان منه بعد إسلام وحْشِيّ إلا أن اكتفى بقوله: ((ويحك يا وحشي غيِّب عني وجهَك فلا أرينَّك بعد اليوم))، لقد كانت رحمته متميزة كمًّا وكيفًا، وكان يخشى على الكُفَّار عذاب الله ويرحمهم؛ لذا كان حريصًا على هدايتهم أقصى طاقته.

وقد أُثرت عنه كثيرٌ من الوصايا في الدعوة إلى الله باللين والإحسان والصبر على الأذى في ذلك، وكان يقول: ((والله لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمُر النعم))، وقد بكى ليلة حتى الصباح وهو يردد قول المسيح ابن مريم عليه السلام الذي ذكره الله في القرآن الكريم أنه سيقول يوم القيامة لرب العالمين: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فكان يبكي ويقول: ((اللهُمَّ أُمَّتي، اللهُمَّ أُمَّتي)).

ولما أعطاه الله تعالى دعوةً مستجابةً كسائر الأنبياء لم يستعجلها في الدنيا بل ادَّخَرها ليوم القيامة شفاعة لمن لم يشرك بالله من أمته، وقد وصفه الله تعالى بأرق وصف وأجمل نعت حين قال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وكان عظيم الرحمة والرأفة بالأطفال، ولما مات ابنه الصغير إبراهيم حمله وعيناه تدمعان وهو يقول: ((إنَّ القَلْبَ لَيَحْزَن، وإنَّ العَيْنَ لَتَدْمَع، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا على فِراقِك يا إبراهيم لمحزونون))، ولما احتضر ابن إحدى بناته حمله في حجره ونفسه تُقَعْقِع وتَتَحَشْرَج، فدمعت عينا نبي الله صلى الله عليه وسلم رحمةً بالصغير من سكرات الموت، ولما قعد على شفير قبر إحدى بناته وهي تُدفن كانت عيناه تدمعان.

ولما ماتت ابنته زينب، وكان لها بنت صغيرة - اسمها أمامة - رقَّ لها جِدًّا، وكان يحملها على عاتقه ويُلاطفها، بل كان يُصلِّي بالناس في المسجد وهو يحملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها على عاتقه، وكان يُخفِّف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي رحمةً به وبأمِّه، وكان يقول: ((ارْحَمُوا مَنْ في الأرضِ يَرْحَمْكم مَنْ في السماء))، ((مَنْ لا يَرْحَم لا يُرْحَم))، ((الراحمونَ يرحمُهم الرحمنُ))، ((لا تُنْزَع الرحمةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ))، وكان رحيمًا بالبشرية كلها، خائفًا عليها عذاب الله وعذابه يوم القيامة، فلم يترك وسيلةً إلا طرقها لهدايتهم وإنقاذهم من الهلكات، حتى شبَّه نفسَه معهم بمن يحجز الفَراشَ عن النار وهي تقتحم فيها وتعجزه.

أما وفاؤه فله المنتهى وهو بحق سيد الأوفياء، فكان يفي بالوعد، ولا ينسى حسن العهد، وقد وعد رجلًا في مكانٍ قبل أن يُبعث فوقف ينتظره ثلاثة أيام، فلما حضر لم يُعنِّفه إنما اكتفى بقوله: ((يا فتى، لقد شقَقْتَ عليَّ؛ أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظِرُكَ)).

وكان يُلقَّبُ بالصادق الأمين قبل البعثة، وكان الناس يُودِعُون عنده نفائس أموالهم وودائعهم ليقينهم بوفائه وأمانته، ولما ماتت زوجه خديجة رضي الله عنها كان يتعاهد صديقاتها بالهدايا وفاءً لحسن عهدها وطيب ذِكْراها، فكان إذا أُتي بهدية قال: ((اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تُحِبُّ خديجة))، وهذا مثال معدوم تقريبًا في واقع الناس، لكنه الوفاء العميق النبيل، وكانت عائشة تقول: ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليَّ أختها هالة فارتاح إليها وسألها عن حالها وحال أهلها، ويقول: ((كيف أنتم بعدنا؟))، وكان صوتها يشبه صوت أختها الراحلة، ودخلت عليه امرأة فهشَّ لها وبشَّ وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: ((إنها كانَتْ تأتِينا أيامَ خديجة، وإن حُسْن العَهْد من الإيمان))، وهذه رسالة عمليَّة منه إلى كل امرأة ظنَّت أن الإسلام يحتقر المرأة أو يهضم حقَّها، فهذا نبي الأمة بقوله وبفعله يُكرِّمها ويرفع قَدْرَها صلى الله عليه وسلم.

ولم ينس هذا النبي الوفي قدماء أصحابه، فحينما أغضب الناس أبا بكر رضي الله عنه زجرهم بقوله: ((هل أنتم تاركون لي صاحبي)) ولما سبَّ بعضهم صاحبه عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: ((لا تسبُّوا أصحابي)) فصلى الله وسلم وبارك على صاحب هذا القلب الكبير والروح النبيلة والوفاء العزيز.

أما صلته رَحِمِه وقرابته، فكان واصلًا لهم تمام الصلة حتى وإن قابلوا ذلك بالقطيعة والعداوة، ولا يمنع من ذلك كون قرابتهم بعيدة، كما قال في بعض أرحامه حال شركهم وعداوتهم وحربهم له: ((إنَّ آل أبي فلانٍ ليسوا بأوليائي غير أنَّ لهم رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا))؛ أي: سأصلها، ولما قدمت عليه أمه من الرضاعة هشَّ لها وأحسن استقبالها وبسط رداءه في الأرض لها، وكان يبعث إلى ثويبة مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل: ((مَنْ بقي من قرابتها؟)) حتى يصلهم بعدها، فقيل له: لا أحد؛ بل لم ينس أهل مصر حين أوصى المسلمين بهم خيرًا إذا فتحوها؛ لأن لهم رحمًا، وهي هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام حتى قال أهل مصر: والله ما وصل هذه الرحم البعيدة إلا نبي صلوات الله وسلامه عليه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
أما كمال خَلْقِ وجمال صورته وتناسق خلقته صلوات الله وسلامه عليه، فقد صوَّره الله تعالى في صورة الجمال والبهاء والجلال، قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا، ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير" وقال: "كان بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ"، ولما سئل: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: "لا، بل مثل القمر"، وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه فلقة قمر"، وقال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس والقدمين، لم أر مثله ولا بعده مثله، وكان بَسِطَ الكفين، ضخم اليدين" ومعنى بَسِطَ الكفين: ليّنهما، وقال جابر بن سَمُرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ"؛ أي: واسع الفم، طويل شق العين، قليل لحم العقب.

وقال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلا بِالْآدَمِ، وَلاَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبِطِ "؛ أي: ليس لون جلده شديد البياض الذي لا تـخالطه حمرة ولا بالأسمر، وليس شعره شديد الجعودة ولا شديد الانبساط، وقال أنس كذلك: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون (أي: أبيض مستنير، وهو أحسن الألوان)، كأن عرقه اللؤلؤ (أي: من الصفاء).

إذا مشى تكفَّأ (أي: يتمايل قليلًا إلى الأمام وليس في مشيته تبختر كمشية المتكبرين ولا بارتـخاء وتمطي كمشية الكسالى) وما مسست ديباجة ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شَممت مسكًا ولا عنبرًا أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقد وصفته أم معبد الخزاعية رضي الله عنها وصفًا مفصلًا كما قيل: أحسن من يصف الرجل هن النساء، فقالت: "إنه رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه (أي: أبيض واضح ما بين الحاجبين كأنه يضيء من صفائه)، حسن الخِلقة، لم تُزْرِ به صَعْلة (أي: لم يُعيّبه صغر في رأس، ولا نحول في بدن)، ولم تعبه ثُجْلة (والثُّجْلة هي ضخامة البطن)، وسيمًا قسيمًا (أي: واضح الملامح غير متداخل الأعضاء، ظاهر الجمال)، في عينيه دَعَج (أي: شديد سواد العين، وشديد بياضها)، وفي أشفاره عَطَف (أي: طويل أهداب العينين)، وفي عنقه سَطَع (أي: طويل العنق)، وفي صوته صَحَل (أي: بحَّة خفيفة، وهي من جمال الصوت)، وفي لحيته كثافة، أحور (أي: واسع العينين)، أزجّ (أي: متقوِّس الحواجب مع طول وامتداد)، أقرن (أي: متصل الحواجب)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فصل لا نَزْرَ ولا هَذَرَ (أي: تام البلاغة بلا إيجاز مخل ولا إطناب ممل) وكأن منطقه خرزات نظم تنحدر، رَبْعةٌ لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرًا...".

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبُّر سيرته من حين وُلِد إلى أن بُعِث، ومن حين بُعِث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم، الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، وجعل له ابنيه إسماعيل وإسحاق وذكرهما في التوراة، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشَّرَتْ به النبواتُ غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولًا منهم، ثم من قريش صفوة بني إسماعيل ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى، وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس لحجِّه، ولم يزل محجوجًا من عهد إبراهيم مذكورًا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.

وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تربيةً ونشأةً، لم يزل معروفًا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودًا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر به بعد النبوة، لا يُعرف له شيءٌ يُعابُ به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جُرِّب عليه كذب قط، ولا ظلم ولا فاحشة.

وكان خَلْقُه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أُمِّيًّا من قوم أُميِّين، لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدَّعِ نبوةً إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.

ثم اتَّبعه أتباع الأنبياء، وهم ضعفاء الناس، وكذَّبَه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من اتَّبعه بكل طريق، كما كان الكُفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة في الدنيا ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والمال والجاه مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم؛ لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.

وكانت مكة يحجُّها العرب من عهد إبراهيم، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم فيبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرًا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود، وقد سمعوا أخبارهم منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تـخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلًا من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حَسُن إسلام بعضهم، ثم أُذن له في الجهاد ثم أُمر به، ولم يزل قائمًا بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغِنى وفقر، وقلة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان، ومن أخبار الكُهَّان، ومن طاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادًا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.

وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهوره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلوات الله وسلامه عليه ولم يُخلِّف درهمًا ولا دينارًا، ولا شاةً ولا بعيرًا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكمَ بأنه لا يُورَث، ولا يأخذ ورثتُه شيئًا من ذلك".

اللهُمَّ صلِّ على محمد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 83.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 80.91 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.57%)]