|
ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الحي والميت: مشاري وعتيق أ. منى مصطفى ملح الحياة (6) الحي والميت: (مشاري وعتيق) لظروفٍ ما أُجبرتُ على تدريس الصف الأول الابتدائيِّ مدةَ أسبوعين، ذهب أحدهما والحمد لله، وهذا من كوارث الزمن في نظري؛ إذ إنني أدرِّس المرحلة الثانوية لأكثرَ مِن خمسةَ عَشَرَ عامًا؛ فوجدت (مشاري) نائمًا بعمق، تعاطفتُ معه وقلت في نفسي: "لم ينضبط نومُه إلى الآن، معفوٌّ عنه"، وفي اليوم الثاني مرَّ من الحصة أربعون دقيقة، ولم ينطق مشاري بكلمة واحدة معي أو مع زملائه، وهذا يخالف طبيعة الطفل، فتجاهلتُ الأمر وقلتُ: هادئ! اليوم الثالث وجب عليَّ مراجعة أحرف الهجاء معهم. • انطق يا مشاري! • مستحيل يسمع أحدٌ صوتي. • تعال يا مشاري! • ما يهزُّك ريح! لم يتحرَّك... بحثتُ عن ركنٍ فارغ من الصف لأصلي استخارة سريعًا: أأذبحه أم أصبر؟! ثم تعوَّذتُ من إبليس وذهبتُ لمقعده، وأخذتُه للشاشة: • ما هذا الحرف يا مشاري؟ • م، • وهذا، • ش، • وذلك، • ر... • ممتاز مشاري، إلا أنه أصرَّ أن تكون إجابتُه بأذني لا يسمعها غيري، أجَّلْتُ أمر الاستخارة في ذبحه؛ إذ إنه يعرف الحروف كاملة! اليوم الرابع: اكتبوا أسماءكم! كتب الجميع ومررتُ عليهم لأتابع غير عابئة كثيرًا بالضعيف؛ لأنني لستُ معلمتهم الدائمة. وقعتْ عيني على ورقة مشاري لأجده صاحب أجمل ورقة، وأكثر خطٍّ متناسق، وكتب اسمه واسم أبيه بخط أفضل من خطِّي! بدأتُ أرقبه لأجده عظيم التأمُّل، صائب القرار، فلا يقوم من مكانه مثلًا للجلوس أمام الشاشة (السَّبُّورة الذكيَّة) عند تشغيلها كوسيلة تعليمية؛ بل يظل في مقعده ويتابع بدقة، بَشْرتُه برونزية، عيناه عسليتان صغيرتان، مسحوبتان بجمال باهٍ، وفيهما عمق وبريق لم ألْحظْهُ في طفل آخر...، قُدِّر لي أن أكون عليهم الحصة الأخيرة، وتابعته وهو يجمع أدواته فأذهلني صبره ونظامه في جمع الأشياء، حتى علبة الألوان الخشبية لم يجمعها ارتجالًا؛ بل رتَّب الأقلام حسبَ تدرج الألوان، جذب انتباهي أن كلَّ قلمٍ محفور عليه اسم مشاري، فعلمتُ أن الأسرة تهتم به، وتعامله على أنه كائن له شأن وكامل الحقوق، قلَّ ذهولي عندئذ، وعلمت أن للاهتمام ثمارًا لا تذبل ولا تتعفن! مشاري إن حظي برعاية جيدة مدى عمره؛ فسيكون عالمًا أو شاعرًا - إن شاء الله - فلديه نظرة عميقة للأشياء والأحداث! كم مشاري من أولادنا قررنا ذبحه دون أن نكتشفه! قفز إلى ذهني مباشرة صورة رجلٍ غبيٍّ ظل يضرب ابنته بعنف كأنها رجل مثله، وهي تماثل مشاري في العمر ضربًا مبرِّحًا؛ وكلُّ جريمتها أنها تعبت من السعي بين الصفا والمروة، ويجعلها تسعى بالإكراه رغم تعبها الواضح وضعفها وغضاضة جسدها، بل يرفض أن يُجلسها جدُّها على أحد كراسيِّ الحرم ويجرُّها رحمة بها، وظل يضربها ويشدُّها من كتفها وما بقي إلا أن يسحلها! متجاهلًا نصح أبيه، وفي هذا المكان المقدَّس، وبملابس الإحرام، أي إحرام لجسد قلبه لم يحرم؟! الأولاد أمانة ونعمة تستحق الرعاية فهم أهم مدخراتك! عتيق: اسم جميل يفوح طيبًا لكنه لطفلٍ مهزوز، الجاكيت أكبر من جسده، وكأنه سيرتديه لعامين قادمين، النظارة ضخمة تكاد تبتلع وجهه وكأنها كانت لكبير ثم وضعتْ عليها عدسات له، الأسنان بالية حد التعفن، الحركات فيها تردد كبير بين إقبال على طبيعته كطفل، وبين إحجامه عن ذلك، وكأنه يتذكر تحذيرات عنيفة تأكل قلبَه فيعود عن تجاوزه الذي هو من طبيعة عمره! عتيق يجلس بجوار مشاري مباشرة، بعد قليل من الوقت وقد آنس مني لطفًا، جاءني ليهمس في أذني: (أنا لا أحبُّ أمي ولا أبي)، تفاجأت بهذا الاعتراف من ابن الخامسة، ودون أن أسأله عن السبب حاولت إبعاد الفكرة من ذهنه بذكر مواقف حنوِّهم عليه كأيِّ كائن بشريٍّ له ولد، ولكني لم أفز بما أردته، فأقصى ما فعله هو الصمت ثم الانسحاب! انتبهت له وضاعفت الاهتمام به، وفي حصة تدريبية وبعد توزيع ورقة عمل لتلوين الأحرف عليهم أتاني ليريني إجابته، فسألته متلطفة بعد أن أثنيت عليه: • كيف حال ماما وبابا عتيق الجميل؟ قال في أسى وكأنه شيخ لا طفل: • (لا أحبهم، دومًا يهاوشونني[1]، هم لا يحبونني!). حبست دموعي، وبدأت عبثًا أسأله عن معنى اسمه، وأُبَيِّنُ له أنه مميز حتى في اسمه علَّني أمسح غلالة الحزن التي تكسو قلبه ومظهره، ذهب لمقعده راضيًا وانشغلتُ بغيره، فجاءني بعد دقائق ومعه ورقة عمل (تدريبات على بعض المهارات) مرسلة من أمه إليَّ، ولم أطلب منها ذلك ولم يحن موعدها حسب خطة المنهج، توقعت أنها أرادت أن توضح لي مستوى الطفل سريعًا قبل أن أكوِّن فكرة عنه، هذه الأم تعبت مع ابنها حتى أجابَ عن ورقة العمل بنظام وهو في الصف الأول الابتدائي، كما أنها أدخلت ابنها أفضل مدرسة بالمقاييس العالمية رغم تكلفتها الخيالية، ولكن للأسف وبكل بساطة فقدتْ حب ابنها لها، فهي تُحمِّله فوق طاقته، وربما تعاقبه على إنفاقها عليه الوقت والمال، وما علمتْ أنها تُرزق لأجله، ولو أنها لم ترزقه هو نفسه لأنفقتْ ضعفَ هذه المبالغ والأوقات على الطب والدواء؛ لتحظى بمثله غير مبالية بالألم والعمر والصحة. كم من نعمة لا ننظر إليها، بَلْهَ التفكير في شكر الله عليها! أنتم ترزقون لأجلهم، فلا تجلدوهم بسوط عطاياكم، أنت ملزم بالإنفاق عليه وأنت مبتسم راضٍ وليس عابثًا قانطًا، ما في جيبك لم يأتك إلا لأجلهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، قدمهم الرزاق أولًا فهو الرحمن الرحيم الوهاب الكريم، لا تمنَّ عليهم بما لم تملكه، فأنت موكل من ربك عليهم مرزوق بهم. وقتل الأرواح لا يقلُّ جُرمًا عن قتل الأبدان، فُوزوا بالقلوب أولًا قبل الشهادات والمباهاة بالمدارس الفخمة والدرجات العالية، فهذا والله لا يساوي شيئًا، بل ممقوت إن قورن بذكرى طيبة تغرسها في قلب صغيرك، فتأنس روحه بتذكرك وتذكر مواقفك معه. [1] الهواش: الاختلاط والافتتان، وفي اللهجة الخليجية (العراك).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |