|
ملتقى القصة والعبرة قصص واقعية هادفة ومؤثرة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() هكذا أريدك وهكذا أريد كل أبناء المسلمين كوثر حبيب زحماني في آخر يومٍ في الأسبوع، وفي منتصف شهر أكتوبر، بعد ستَّ عشرةَ سنةً مِن القرن العشرين، الموافق للرابع عشر من الشهر الأول في السنة الهجرية، وفي ليلةِ اكتمال البدر - فُوجِئتُ بخبرٍ اقشعرَّ منه بدني، وتغيَّرت ملامح وجهي! لم أدرِ حينها هل أفرح أم أحزن! مع أن الفرح والحزن لا يلتقيانِ، لكنه موقف جمعهما معًا! وفي ضجيج الخوف ودَّعتُ أمي وأبي وزوجي باكيةً ودخلت غرفة العمليات، كان جسمي يرتجفُ، لكن سرعان ما استسلمتُ للبنج، أَفَقْتُ بعدَها على صوت الممرضة: "قولي الحمد لله، قولي الحمد لله، سلكتي". لم أتذكر شيئًا حينها، كل ما فعلته كانت صرخةً قوية نابعة من وجع لم أشعر به في حياتي، تسابَقَت الممرضات على حقنة مورفين هدَّأتني، ثم نُقِلت إلى غرفة بها الكثير من حالاتي، أمضيتُ فيها ليلة كاملة، استرجعت فيها ذاكرتي وذكرياتي. تذكَّرت أني قد أجريتُ عمليةً قيصرية لإنقاذ جنينٍ كان في بطني قد جف ماؤه ولم يتَّخِذ وضعية الخروج، رغم أنه قرب على إكمال شهره التاسع، وإني - ولله الحمد - قد أفقتُ سالِمةً ببطن فارغ، لم يُخبِرني أحد عن حال ابني، لكن كنتُ متفائلة، وذاك ما كان. تذكَّرتُ يومَ عرَفتُ أني حامل، كيف طِرتُ فرحًا مُبشِّرةً زوجي، وثُلُثَ الحمل الأول وكيف عانيتُ فيه، وثلث الحمل الثاني كيف مُنِعت من السفر لأجله، وثلث الحمل الثالث كيف مرَّ طويلًا كأنه سَنة، وكنت أكرر: الحمد لله، الحمد لله، مصحوبًا ببعض آهات الألم. حل صباح الأحد، فخرجت من تلك الغرفة على كرسيٍّ متحرك لأجد عائلتي في انتظاري، اغرَوْرَقت عيناي بالدموع وأنا أسمع التبريكات، وفي منتصف النهار دخَلَت أمي حاملةً صغيري، انفجرتُ بالبكاء لَمَّا حضَنتُه، آه! صغيري أنا التي كنتُ أُكلِّمك صباحَ مساءَ، أنا التي كنتُ أحمِلُك وأُغذِّيك من جسدي، أنا التي كنت أرعاك قبل أن أراك، أنا أمُّك يا حبيبي! وأُخِذ إلى البيت، وبقِيتُ ليلةً أخرى في المشفى، أتذكر فيها وجه صغيري، الحمد لله لقد أصبحت أمًّا، الحمد لله الذي أخرج الرُّوح مِن الروح، الحمد لله الذي رزقني "عمر الفاروق"، اللهم اجعله عمرَ زمانه، اللهم اجعَلْه اسمًا على مسمًّى، اللهم اجعَلْه صالحًا مُصلحًا، اللهم أنبِتْه نباتًا حسنًا. الآن أدركتُ لِم الأمُّ هي أحق الناس بحسنِ الصحبة، الآن أدركت لِم أمُّك ثلاثًا، وأبوك مرة. هنيئًا لنا بخليفة عمر الفاروق إن شاء الله، حفِظه الله ورَزَقَنا برَّه، وهنيئًا لعمر الفاروق بوالدينِ مثلِنا، حفظنا الله وأدام وُدَّنا، والحمد لله على ثمرةِ حبِّنا، والآن أدركتُ لِم ركَلني عمر الفاروق عندما كان في بطني؛ لأنه استعجل الخروجَ لهذه الحياة واستكمال مشوار أبوَيْه في نهضة الأمة، كيف لا وهو الذي رفض أن يُطأطِئ رأسه حتى وهو جنينٌ؟ عدتُ إلى البيت في اليوم الموالي، حملتُه بين يديَّ وأنا أُعلِّق عليه جميعَ آمالي، وخاطبته قائلة: أراك قمرًا مضيئًا في حلكة الظلام، أراك شمسًا ظهرَتْ بعد خسوف، أراك طريقًا تعبَّدَتْ لتسهيل الوصول، أراك جنَّتي رغم أن جنتك تحت قدميَّ، هكذا أراك، أو ربما هكذا أريدك. وما أنت سوى رضيعٍ غارق في النوم، قد أغمض عينَيْه، وأذبل جَفنَيْه، وبسط ذراعَيْه مستلقيًا لا يفكر بشيء، مستسلمًا للنُّعاس، لا يُوقِظه إلا فراغُ بطنه، لا يُؤرِّقه التفكير، لا يرهقه التدبير، حلمُه رضَّاعة وحفَّاظة، فإذا توفرت في الأولى الحليب وفي الثانية النظافة، فقد حاز كنوز الدنيا. تُعجِبني راحة بالك، ولكن أعلم علم اليقين أن أحلامَك ستتغيَّر من حليب إلى قطعة حلوى، إلى درَّاجة، إلى حمل همِّ الأمَّة، إلى تخليص العالم من الوحشية والظلم والاستبداد! أتمنَّى هذا حقًّا، وأدعو لك به، مع أني أعرِفُ أنه متعبٌ جدًّا؛ سيجعل نُعاسك يغادرك دون رجعةٍ، سيجعلك تتمنَّى عودتك إلى طفولتِك هذه، وليس لك أي ذنب سوى أن والدَيْك عاشا في بيئةٍ طامحَينِ نحو التغيير دون أي جدوى، فأنجباك ليُعلِّقا عليك آمالَهما بتغيير ملحوظ، وليس جذريًّا، لكن عليك أن تتحمَّل يا صغيري إذا أردت أن تكون حلمَ والدَيْك، عليك أن تتحمل دون كلل أو ملل. لا تسألني: لِم كل هذه المشاق، وأنت تستطيع أن تعيش كباقي البشر "حشيشة طالبة معيشة"؟ لأني لم أُسَمِّكَ عمر الفاروق من فراغ؛ لأني لا أريدك كائنًا حيًّا برِجْلينِ، لم أتعَبْ تسعةَ أشهر لتكون عبثًا في هذه الحياة. ببساطة: إنها ضريبة كونِك ابنًا لحالمة بالمثالية، هذا قدرُك، واحمد الله عليه، ولكن عليك أن تتحمَّل يا صغيري، هكذا أريدك، وهكذا أريد كل أبناء المسلمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |