
19-08-2021, 10:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة :
|
|
من فيض الواقع
من فيض الواقع
البندري بنت مطلق العتيبي
هي ليست إلا رواية شرقية، سَكَبَها مؤلِّفها مِن محبرة الواقع.
بداية القصة، من عقليَّة طالب جامعي مجدّ، يتبادَلُ العِشق يوميًّا مع كُتُبِه وكراسة محاضراته، كان يحس به زملاؤُه زميلاً يكبرهم، فيُكَبرونه بالمِثْل، تحيَّة واحترامًا، كان لأساتذته أكثر من تلميذٍ يَتَلَقَّن العِلم، ولا يأبه يومًا إلا بما يرجو أن يكونَ، كلُّ صباحٍ جديد يحمل على كفِّه حلمًا جديدًا، يصافِحه وجهًا لوجْه، ثم يمضي قُدمًا إلى جامعته.
يُحكَى يا سادة يا كرام، وليكن اسم صاحبنا من الآن (طاهرًا)؛ لأنه لم يكن إلا كذلك، عقلاً وروحًا، كان طاهر يحلم بأكثر من الحُلم، وفي أحيان كثيرة يحلم بأن يصافحَ السَّحاب كفًّا بكف، ويقبل هامته، ولم يرتضِ بأقل من ذلك، وإن كان على قدْر أهل العزْم تأتي العزائمُ، فعلى قدْر أهل الحلم تأتي الأحلام؛ لكنَّها اللحظات المقدرة لا تقتضي زمنًا ولا كيفيَّة، تأتي كما تأتي، من دون أن تخضعَ في ذلك لرغبة أحد.
وفي يوم ما كان طاهر ينصت لمحاضرة الكيمياء، وكانت القاعة تضج بطلابها، وحين كان الدكتور يقوم بشرح معادلة كيميائيَّة معقَّدة، حَدَثَ خلال تحليله لرموزها بعضُ الخَلَل الطفيف، مما أغفله الدكتور ولم يثر اهتمامه.
فنهض طاهر ووَضَّحَ للدكتور ذلك الخَلَل، وقام بالشَّرْح والتحليل، وكأنهما تبادلا الأدوار، فأصبح الدكتور تلْميذًا، والتلميذ دكتورًا، حَدَثَ ذلك وسط ذهول الطَّلَبة ودهشتهم، وهذا ما أحرج الدكتور أمام تلاميذه، فأضمر الدكتور ذلك في قرارة نفسه، وأخذ الحقد منه على طاهر كل مأخذ.
انقضى الاختبار بكلِّ تعبه وشقائه، واقتربَ موعدُ النتائج، إنه أقسى موعد لكلِّ تلميذ إلا طاهرًا.
لكن الحقيقة هذه المرة كانت مختلفة، حَصَل طاهر على تقدير عالٍ في جميع المواد، وأخفق في مادة الكيمياء، حزن طاهر لهذه النتيجة السيئة؛ لأنَّها لم تكنْ بسبب تقصيره؛ بل جاءتِ انتقامًا منه، سَلَّم طاهر بالأمر الواقع، وتوكَّل على الله، وقدم في السنة الثانية والثالثة والرابعة، والنتيجة كما هي لا تَتَغَيَّر، مضى من عُمره سنوات، وهو لا يزال يحلم بالنَّجاح في تلك المادة، ولأنه متأكد تمامًا من قدراته فقد طَلَبَ تشكيل لجنة خاصة لتصحيح ورقة امتحانه، ولكن لقد أسمعت لو ناديتَ حيًّا، فخرج من بوابة الجامعة، ومن بوابة الحلم، وعمل جاسوسًا إسرائيليًّا ضد بلده، وأصبح مطلوبًا من كلِّ الجهات الرسميَّة، لكن الأحلامَ تُرَاوده، فقَرَّرَ السفر إلى الخارج؛ لإتمام دراسته، وفي المطار قُبِضَ عليه، وأُحيل إلى التحقيق، وأدخل زنزانة السجون، وذاق صنوف العذاب، وغيرها.
خَرَج من السجن، ولكنه خرج مجنونًا؛ لأنه لا يفصل بين الجنون والعظمة سوى خط رفيع، صار يأكل منَ النفايات، وينام على الأرصفة، ملابسه رثَّة، وهيئته بالية ومخيفة.
بكلِّ أسى هذا هو طاهر، وهذه هي نهاية قصته، ترى لو صَفَّقَ له أستاذُه واحتفى به لعبقريته، لصار رمزًا مهمًّا من رموز الإبداع في بلاده، لو دفعه أستاذه للنجاح بدل الجنون، تراه ماذا كان سيكون؟!
ليستْ قصة هذا الطالب من نوادر الواقع؛ ولكنَّها مشهد مأساوي يَتَكَرَّر، بالتأكيد المدرسة هي النِّصف الآخر للبيت والمكمل لمهامه.
وعليه؛ فإن مهمَّة التربية مسؤولية ذاك الصَّرح التعليمي، فكم من مبدع خبت نار إبداعه، وتلاشى نجمُه في الأُفُق.
وصدق مَن قال: "كلُّ حاسد يهدأ، إلا حاسد النعمة؛ فإنه لا يهدأ حتى تزول من يد غيره".
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|